مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد

نووي الجاوي

المقدمة

[الجزء الاول] بسم الله الرّحمن الرّحيم المقدمة الحمد لله رب العالمين، الذي أنزل كتابه المبين على رسوله محمد الأمين صلّى الله عليه وسلّم، فشرح به الصدور وأمّن به القلوب من الخوف إلا من غضبه عزّ وجلّ، ونوّر به بصائر الصالحين والعارفين وجعله هداية للعالمين. أما بعد، فالعلم نور والجهل ضلالة، وخير العلوم علم الدين والتفسير، فهو يبيّن ما اشتملت عليه الأحكام الإلهية من الأسرار والبدائع، لذا علينا إخواني أن نأتمر بما أمرنا الله به من تعلّم قراءة وتفسير وفهم كتاب الله المنزّل إلينا وتعليمه وتفهيمه، وهو القائل سبحانه وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) [الحديد: 16، 17] ، ففي هذه الآيات الكريمة تنبيه من الله عزّ وجلّ على أنه كما يحيي الأرض بعد موتها كذلك يليّن القلوب ويذهب قسوتها ويبعدها عن المعاصي والذنوب بالإيمان الحقّ، والله خير المرتجى أن يفعل بنا ما يريد إنه عزيز كريم. فقد عملت على ضبط نص هذا الكتاب «مراح لبيد» ، المؤلّف من جزءين، الذي أتمنّى أن أكون بعملي هذا قد وفّقت إلى ما أصبو إليه من إيضاح وضبط وتعميم للفائدة المرتجاة. راجيا من المولى عزّ وجلّ العفو والمغفرة عمّا به قد أكون قصّرت، ومنك عزيزي القارئ التّفهّم الكامل وجبر العثرات، إذ إن الكمال لله وحده، والعصمة للأنبياء. محمد أمين الضنّاوي

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلّف «1» هو محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا، مفسّر، متصوّف، من فقهاء الشافعية. هاجر إلى مكّة المكرّمة وتوفي بها سنة 1316 هـ، عرّفه «تيمور» ب «عالم الحجاز» ، له مصنّفات كثيرة منها: - «مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد» مجلدان، وهو تفسيره. - «مراقي العبودية» ، شرح لبداية الهداية للغزالي، فرغ من تأليفه سنة 1289 هـ. - «وقائع الطغيان على منظومة شعب الإيمان» . - «قطر الغيث في شرح مسائل أبي الليث» . - «عقود اللّجين في بيان حقوق الزوجين» . - «نهاية الزين بشرح قرّة العين» ، فقه. - «شرح فتح الرحمن» ، تجويد. - «نور الظلام» في شرح قصيدة «عقيدة العوام» لأحمد المرزوقي. - «مرقاة صعود التصديق» ، تصوّف، في شرح «سلّم التوفيق» لابن طاهر المتوفى سنة 1272 هـ. - «كاشفة السجا، في شرح سفينة النجا» ، في أصول الدين والفقه.

_ (1) الأعلام، خير الدين الزركلي/ ج 6 ص 318.

خطبة المؤلف

خطبة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته، وذلّ كل شيء لعزّته، واستسلم كل شيء لقدرته، وخضع كل شيء لملكه، فسبحان الله شارع الأحكام، المميز بين الحلال والحرام، أحمده على ما فتح من غوامض العلوم بإخراج الأفهام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أزال بيانه كل إبهام، وعلى آله وأصحابه أولي المناقب والأحلام صلاة وسلاما دائمين ما دامت الأيام. أما بعد، فيقول أحقر الورى محمد نووي: قد أمرني بعض الأعزة عندي أن أكتب تفسيرا للقرآن المجيد فترددت في ذلك زمانا طويلا خوفا من الدخول في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» . «1» وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» «2» . فأجبتهم إلى ذلك للاقتداء بالسلف في تدوين العلم إبقاء على الخلق وليس على فعلي مزيد ولكن لكل زمان تجديد، وليكون ذلك عونا لي وللقاصرين مثلي وأخذته من الفتوحات الإلهية ومن مفاتيح الغيب ومن السراج المنير، ومن تنوير المقباس، ومن تفسير أبي السعود. وسميته مع الموافقة لتاريخه «مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد» ، وعلى الكريم الفتّاح اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي. والآن أشرع بحسن توفيقه وهو المعين لكل من لجأ به.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب العلم، باب: الكلام في كتاب الله بغير علم، والترمذي في كتاب التفسير، باب: 1. وعند أبي داود بلفظ «كتاب الله عز وجل» بدل «القرآن» . (2) رواه الترمذي في كتاب التفسير، ترجمة، وأحمد في (م 1/ ص 233) .

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة مكية، سبع آيات، تسع وعشرون كلمة، مائة وثلاثة وأربعون حرفا بسم الله الرحمن الرحيم والسابعة: صِراطَ الَّذِينَ إلى آخرها إن كانت البسملة منها وإن لم تكن منها فالسابعة: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ إلى آخرها، وهي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم: أحدها: علم الأصول وقد جمعت الإلهيات في: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ والنبوات في: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والدار الآخرة في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وثانيها: علم الفروع وأعظمه العبادات، وهي مالية وبدنية وهما مفتقرتان إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات، ولا بدّ لها من الأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي. وثالثها: علم تحصيل الكمالات وهو علم الأخلاق ومنه الاستقامة في الطريقة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وقد جمعت الشريعة كلها في الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم الخالية وقد جمعت السعداء من الأنبياء وغيرهم في: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والأشقياء من الكفار في: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الباء: بهاء الله والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه، والميم: ملكه وهو على كل شيء قدير. والباء: ابتداء اسمه بارئ بصير. والسين: ابتداء اسمه سميع. والميم: ابتداء اسمه مجيد مليك. والألف: ابتداء اسمه الله. واللام: ابتداء اسمه لطيف. والهاء: ابتداء اسمه هادي. والراء: ابتداء اسمه رزاق. والحاء: ابتداء اسمه حليم. والنون: ابتداء اسمه نافع ونور. الْحَمْدُ لِلَّهِ والشكر لله بنعمه السوابغ على عباده الذين هداهم للإيمان. رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أي خالق الخلق ورازقهم ومحوّلهم من حال إلى حال. الرَّحْمنِ أي العاطف على البار والفاجر بالرزق ودفع الآفات عنهم. الرَّحِيمِ (3) أي الذي يستر عليهم الذنوب في الدنيا ويرحمهم في الآخرة فيدخلهم الجنة. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) بإثبات الألف عند عاصم والكسائي ويعقوب أي متصرف في الأمر كله يوم القيامة

كما قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] وعند الباقين بحذف الألف والمعنى أي المتصرف في أمر القيامة بالأمر والنهي. إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي لا نعبد أحدا سواك. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) أي بك نستعين على عبادتك فلا حول عن المعصية إلا بعصمتك ولا قوة على الطاعة إلا بتوفيقك. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) أي زدنا هداية إلى دين الإسلام، أو المعنى أدمنا مهديين إليه. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ أي دين الذين مننت عليهم بالدين من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ أي غير دين اليهود الذي غضبت عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) أي غير دين النصارى الذين ضلوا عن الإسلام ويقال: المغضوب عليهم هم الكفار، والضالون هم المنافقون لأن الله تعالى ذكر المؤمنين في أول البقرة في أربع آيات ثم ثنّى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلّث بذكر المنافقين في ثلاث عشرة آية. ويسنّ للقارئ بعد فراغه من الفاتحة أن يقول: آمين وهو اسم بمعنى فعل أمر، وهو استجب.

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية، مائتان وست وثمانون آية، ستة آلاف ومائة وأربع وأربعون كلمة، ستة وعشرون ألفا ومائتان وواحد وخمسون حرفا الم (1) قال الشعبي وجماعة: الم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، وهي سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونفوّض العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها، والله تعالى اختص بعلم لا تقدر عليه عقول الأنبياء، والأنبياء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العلماء، والعلماء اختصوا بعلم لا تقدر عليه عقول العامة. وقال أبو بكر رضي الله عنه: في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ أي هذا الكتاب الذي يقرؤه عليكم رسولي محمد لا شك في أنه من عندي، فإن آمنتم به هديتكم، وإن لم تؤمنوا به عذبتكم. هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) أي رحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أي يصدقون بما غاب عنهم من الجنة والنار، والصراط والميزان، والبعث والحساب وغير ذلك. وقيل: المراد بالغيب القلب. والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتمون الصلوات الخمس بالشروط والأركان والهيئات. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أي مما أعطيناهم من الأموال يتصدقون لطاعة الله تعالى وهو أبو بكر الصديق وأصحابه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من سائر الكتب السابقة على القرآن وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أي وهم يصدقون بما في الآخرة من البعث بعد الموت والحساب ونعيم الجنة وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة عَلى هُدىً أي كرامة نزل مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أي الناجون من السخط والعذاب وهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) أي الذين كفروا في علم الله متساو لديهم إنذارك إياهم بالقرآن وعدمه وهم لا يريدون أن يؤمنوا بما جئت به فلا تطمع يا أشرف الخلق في إيمانهم، ثم ذكر الله سبب تركهم الإيمان بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ أي طبع الله على قلوبهم فلا يدخلها إيمان وعلى سمعهم فلا ينتفعون بما يسمعونه

[سورة البقرة (2) : الآيات 11 إلى 20]

من الحق ووحّد السمع لوحدة المسموع وهو الصوت. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مبتدأ وخبر أي على أعينهم غطاء من عند الله تعالى فلا ينصرون الحق. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) أي شديد في الآخرة وهم رؤساء اليهود الذين وصفهم الله بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجدي بن أخطب، ويقال: هم مشركو أهل مكة عتبة وشيبة والوليد بن المغيرة وأبو جهل. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا في السر بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بالبعث بعد الموت الذي فيه جزاء الأعمال. وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) في السر يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يكذبونه في السر وَالَّذِينَ آمَنُوا أبا بكر وسائر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَما يَخْدَعُونَ أي يكذبون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وهذه الجملة حال من ضمير يخادعون أي يفعلون ذلك، والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن دائرة فعلهم مقصورة عليهم. وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة والكسائي «وما يخدعون» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الدال، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الخاء مع المد وكسر الدال، ولا خلاف في قوله: «يخادعون الله» فالجميع قرءوا بضم الياء وفتح الخاء وبالألف بعدها وكسر الدال، وأما الرسم فبغير ألف في الموضعين وَما يَشْعُرُونَ (9) أن الله يطلع نبيه على كذبهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وظلمة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مرضا أي شكا وظلمة بما أنزله من القرآن لأنه كلما أنزل آية كفروا بها فازدادوا شكا وخلافا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي وجيع في الآخرة يخلص وجعه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد، أي بتكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ الباقون بتخفيف الذال أي بكذبهم في قولهم: آمنا في السر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب ابن قشير. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء المنافقين: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتعويق الناس عن دين محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) وإنما قالوا ذلك لأنهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح لما في قلوبهم من المرض قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد أَلا أي بلى إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لها بالتعويق وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) أن الله تعالى يطلع نبيه على فسادهم. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن أي إن المؤمنين نصحوا المنافقون من وجهين: أحدهما: النهي عن الإفساد وهو التخلي عن الرذائل. وثانيهما: الأمر بالإيمان وهو التحلي بالفضائل كَما آمَنَ النَّاسُ أي الكاملون في الإنسانية، العاملون بقضية العقل كأصحاب النبي أو كعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. والمعنى آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم قالُوا فيما بينهم لا بحضرة المسلمين أَنُؤْمِنُ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أي الجهال

وإنما سفّهوا المؤمنين لتحقير شأنهم، لأن أكثرهم فقراء وبعضهم موال كصهيب وبلال أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسر الناس بعبد الله بن سلام وأصحابه قال الله تعالى ردا عليهم أبلغ رد أَلا أي بلى إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ أي الجهال الخرقى وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) أنهم سفهاء وَإِذا لَقُوا أي المنافقون الَّذِينَ آمَنُوا أبا بكر وأصحابه قالُوا آمَنَّا في السر كإيمانكم وَإِذا خَلَوْا أي عادوا إِلى شَياطِينِهِمْ أي أكابرهم الذين يقدرون على الإفساد في الأرض وهم خمسة نفر: كعب بن الأشرف من اليهود بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن الأسود بالشام. قالُوا لهم لئلا يتوهموا فيهم المباينة إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم في السر إِنَّما نَحْنُ في إظهار الإيمان عند المؤمنين مُسْتَهْزِؤُنَ (14) بهم من غير أن يخطر ببالنا الإيمان حقيقة اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي الله يعاملهم معاملة المستهزئ في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار فتح الله من الجنة بابا على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحا خرجوا من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم فإذا وصلوا إلى باب الجنة سدّ عليهم الباب، وذلك قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي يزيدهم في ضلالتهم يَعْمَهُونَ (15) أي يترددون في الكفر وتركه متحيّرين أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أي أولئك الموصوفون بالصفات السابقة من قوله: ومن النّاس اختاروا الكفر على الإيمان فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ أي فلم يربحوا في تجارتهم بل خسروا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) إلى طرق التجارة، فإن المقصود منها سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوهما. فرأس مالهم العقل الصرف، وربحه الهدى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً أي صفة المنافقين في حال نفاقهم كصفة الذي أوقد نارا في ظلمة لكي يأمن بها على نفسه وأهله وماله، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ أي فلما أضاءت النار المكان الذي حول المستوقد فأبصر وأمن مما يخافه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أطفأ الله النور المقصود بالإيقاد فبقي المستوقدون في ظلمة وخوف، وَتَرَكَهُمْ أي المستوقدين فِي ظُلُماتٍ ظلمة الليل، وظلمة تراكم الغمام فيه، وظلمة انطفاء النار لا يُبْصِرُونَ (17) ما حولهم، فكذلك هؤلاء المنافقون أمنوا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم بسبب إظهار كلمة الإيمان، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب وهم في القبر وما بعده صُمٌّ عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول بُكْمٌ عن الخير فلا يقولونه قولا مطابقا للواقع لما سبق أنهم مؤمنون ظاهرا عُمْيٌ عن طريق الهدى فلا يرونه رؤية نافعة فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) عن كفرهم وضلالتهم أَوْ كَصَيِّبٍ أو صفة المنافقين كصفة أصحاب مطر نازل مِنَ السَّماءِ أي السحاب ليلا وهم

[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 30]

في مفازة فِيهِ أي الصيب ظُلُماتٌ ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة إظلال الغمامة مع ظلمة الليل. وَرَعْدٌ وهو صوت يسمع من السحاب كأن أجرام السحاب تضطرب إذا أخذتها الريح فتصوت عند ذلك من الارتعاد وَبَرْقٌ وهو ما يلمع من السحاب. يَجْعَلُونَ أي أصحاب الصيب أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصيحة الشديدة من صوت الرعد يكون معها قطعة نار حَذَرَ الْمَوْتِ من سماعها فكذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن المشبّه بالمطر في أن كلا سبب الحياة، وفيه ذكر الكفر المشبّه بالظلمات وعدم الاهتداء، وذكر الوعيد على الكفر المشبه بالرعد في إزعاجه وإرهابه، وذكر الحجج البيّنة المشبّهة بالبرق في ظهوره. يسدون آذانهم من سماع القرآن حذر الميل إلى الإيمان الذي هو بمنزلة الموت عندهم، فإن ترك الدين موت وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) علما وقدرة فلا يفوتونه تعالى لأن المحاط لا يفوت المحيط يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ أي البرق لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ أي في ضوء البرق وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا أي بقوا في الظلمة، وهذا تمثيل لإزعاج ما في القرآن قلوبهم باختطاف البرق بأبصارهم ولتصديقهم لما يحبونه من تحصيل الغنيمة وعصمة الدماء والأموال بمشيهم في البرق، ولوقوفهم لما يكرهون من التكاليف الشاقة عليهم كالصلاة والصوم بوقوفهم في الظلمة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ بقصيف الرعد وَأَبْصارِهِمْ بوميض البرق، كذلك لو شاء الله لذهب بسمع المنافقين بزجر ما في القرآن ووعيد ما فيه وأبصارهم بالبيان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أي ممكن من ذهاب السمع والبصر قَدِيرٌ (20) . قال الفخر الرازي: وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم مسلكا أخذوه، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا فيه بطرح نوره ويقويه قراءة ابن أبي عبلة كلما ضاء. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة أو يا أيها اليهود اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أي وحّدوه بالعبادة. الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما من النطفة وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنشأهم ولم يكونوا شيئا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) أي لكي تتقوا السخط والعذاب بعبادته، ولعل للأطماع، لكن الكريم الرحيم إذا أطمع أجرى أطماعه مجرى وعده المحتوم، فلهذا السبب قيل: لعل في كلام الله تعالى بمعنى كي الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أي بساطا وَالسَّماءَ بِناءً أي سقفا مرفوعا وعبّر عنه بالبناء لأحكامه وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً وعن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع، فتجيء السحاب السود فتدخله، فتشربه، فيسوقها الله حيث شاء. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ أي أنبت الله بالمطر من ألوان الثمرات طعاما لكم ولسائر الخلق فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي شركاء في العبادة وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) أن الأنداد لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله أو يقال: وأنتم تعلمون أنه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد من القرآن في أنه من

عند نفسه فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي مما هو على صفة ما نزلنا في الفصاحة وحسن النظم والإخبار بالغيوب. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ادعوا أكابركم من غيره تعالى ممن يوافقكم في إنكار أمر محمد ليعينوكم على المعارضة وليحكموا لكم وعليكم فيما يمكن ويتعذر، وقد كان في العرب أكابر يشهدون على المتنازعين في الفصاحة بأن أحدهما أعلى درجة من الآخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) في مقالتكم أن محمدا يقول من تلقاء نفسه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي لم تأتوا بسورة من مثل المنزل وَلَنْ تَفْعَلُوا أي لن تقدروا أن تجيئوا بمثله فَاتَّقُوا النَّارَ والمعنى إذا ظهر عجزكم عن المعارضة صحّ عندكم صدق محمد عليه السلام، وإذا صح ذلك فاتركوا العناد، وإذا لزمتم العناد استوجبتم العقاب بالنار الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ أي حطبها الكفار وَالْحِجارَةُ المعبودة لهم. قال تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم. أُعِدَّتْ أي هيئت تلك النار لِلْكافِرِينَ (24) بما نزّلناه وجعلت عدة لعذابهم وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين ذات شجر ومساكن والمأمور بالبشارة إما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإما كل أحد يقدر على البشارة، وهذا أحسن كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «بشّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» «1» ولم يأمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك واحدا بعينه. وقرأ زيد بن علي «وبشّر» بلفظ المبني للمفعول عطفا على «أعدت» . تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت شجرها ومساكنها الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر واللبن والعسل والماء وعن مسروق أنهار الجنة تجري في غير أخدود كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً أي كل حين رزقوا مرزوقا من الجنات من نوع ثمرة قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي هذا مثل الذي أطعمنا في الجنة من قبل هذا الذي أحضر إلينا قال تعالى تصديقا في تلك الدعوى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة متشابها بعضه بعضا في اللون مختلفا في الطعم وَلَهُمْ فِيها أي الجنات أَزْواجٌ من الحور والآدميات مُطَهَّرَةٌ من الحيض وجميع الأقذار، ومن دنس الطبع وسوء الخلق وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) أي دائمون لا يموتون ولا يخرجون إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما أي إن الله لا يترك أن يبين للخلق مثلا أيّ مثل كان بَعُوضَةً فَما فَوْقَها في الذات كالذباب والعنكبوت أو في الغرض المقصود من التمثيل كجناح البعوضة، وكيف يستحي الله من ذكر شيء لو اجتمع الخلائق كلهم على تخليقه وما قدروا عليه. والمراد بالبعوضة هنا: «الناموس» وهو من عجيب خلق الله تعالى فإنه في غاية الصغر، وله ستة أرجل وأربعة أجنحة، وذنب وخرطوم مجوف، وهو مع صغره يغوص خرطومه في جلد الفيل والجاموس، والجمل فيبلغ منه الغاية، حتى إن الجمل يموت من قرصته. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي

_ (1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (2: 30) ، والطبراني في المعجم الكبير (12: 358) .

ضرب المثل الْحَقُّ أي الثابت مِنْ رَبِّهِمْ فلا يسوغ إنكاره لأنه ليس عبثا بل هو مشتمل على الأسرار والفوائد وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا من اليهود فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا تمييز نسبة من اسم الإشارة. أي أيّ فائدة في هذا المثل قال الله تعالى في جوابهم: يُضِلُّ بِهِ أي بهذا المثل عن الدين كَثِيراً من اليهود وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من المؤمنين وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) أي الخارجين عن حد الإيمان. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ هو الحجة القائمة على عباده الدالة على وجوب وجوده ووحدانيته وعلى وجوب صدق رسله مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي توكيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فالله أمرهم أن يصلوا حبلهم بحبل المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أُولئِكَ الموصوفون بنقض العهد وما بعده هُمُ الْخاسِرُونَ (27) أي المغبونون بذهاب حسناتهم التي عملوها، وبذهاب نعيم الجنة الذي لو أطاعوا الله لوجوده. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَالحال أنكم وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أجساما لا حياة لها، نطفا وعلقا، ومضغا فَأَحْياكُمْ بنفخ الأرواح فيكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالنشور ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) بعد الحشر فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. والمعنى ثم إليه تنشرون من قبوركم للحساب هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أي لأجل انتفاعكم في الدين والدنيا بالاستدلال على موجدكم، وإصلاح الأبدان ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى أي قصد إِلَى خلق السَّماءِ أي تعلقت إرادته تعلقا حادثا بترجيح وجود السماء على عدمها، فتعلقت القدرة بإيجادها، فَسَوَّاهُنَّ أي فجعل السماء سَبْعَ سَماواتٍ والحاصل أن الله تعالى خلق الأرض من غير بسط في يومين، ثم خلق السموات السبع مبسوطة في يومين، ثم خلق ما في الأرض مما ينتفع به في يومين. وعن ابن مسعود قال: إن الله تعالى كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الأحد والإثنين، فجعل الأرض على حوت، والحوت في الماء على صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على الصخرة، والصخرة على الريح فتحرك الحوت، فتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال، فقرت. فالجبال تفتخر على الأرض. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) فلا يمكن أن يكون خالقا للأرض وما فيها، وللسموات وما فيها من العجائب والغرائب إلا إذا كان عالما بها محيطا بجزئياتها وكلياتها. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فإذا نصب بإضمار اذكر. وقيل: زائدة. وقيل: بمعنى قد. ويجوز أن ينتصب بقالوا: أتجعل أي قالوا ذلك القول وقت قول الله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 3] . روى الضحاك عن ابن عباس: إنه تعالى إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا في

[سورة البقرة (2) : الآيات 31 إلى 40]

الأرض محاربين مع إبليس، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا بعث الله إبليس في جند من الملائكة فقتلهم إبليس بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر. وهؤلاء خزّان الجنان أنزلهم الله من السماء إلى الأرض لطرد الجن إلى الجزائر والجبال وسكنوا الأرض فخفّف الله عنهم العبادة وكان إبليس يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء، وتارة في الجنة فدخله العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه. فقال تعالى له ولجنده: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي بدلا منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة. والمراد به آدم عليه السلام قالُوا استكشافا عمّا خفي عليهم من الحكمة لا اعتراضا على الله تعالى ولا طعنا في بني آدم على طريق الغيبة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية وَيَسْفِكُ الدِّماءَ بالظلم بمقتضى القوة الغضبية- فغفلوا عن مقتضى القوة العقلية التي بها يحصل الكمال والفضل- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ أي ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين بِحَمْدِكَ على ما أنعمت به علينا من فنون النعم، التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة. فالتسبيح لإظهار صفات الجلال، والحمد لتذكير صفات الأنعام وَنُقَدِّسُ لَكَ أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزّة، وننزهك عما لا يليق بك. وقيل: المعنى نطهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، أي فنحن أحق بالاستخلاف قالَ تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) من مصلحة استخلاف آدم عليه السلام. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها أي أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي ذوات الأشياء عَلَى الْمَلائِكَةِ بأن صور الله الأشياء في قلوبهم فصارت كأنهم شاهدوها، أو خلق الله تعالى معاني الأسماء التي علّمها آدم حتى شاهدتها الملائكة فَقالَ تعالى لهم توبيخا: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) في زعمكم أنكم حق بالخلافة ممن استخلفته. قالُوا إقرارا بالعجز: سُبْحانَكَ أي تبنا إليك من ذلك القول لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا أي وإنما قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها، لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا: إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقلنا لك: أتجعل فيها من يفسد فيها، وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ أي الذي لا يخرج عن علمه شيء، الْحَكِيمُ (32) أي المحكم لصنعته قالَ تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أي أخبر الملائكة بِأَسْمائِهِمْ أي المسميات فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ مفصلة وبيّن لهم أحوال كل من المسميات وخواصه وأحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد قالَ الله تعالى لهم موبخا: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أعلم غيب ما يكون فيهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من قولكم: أتجعل فيها إلى آخره وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) أي من استبطانكم أنكم أحقاء بالخلافة.

وروى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود: أن المراد بقوله تعالى: ما تُبْدُونَ قولهم: «أتجعل فيها من يفسد فيها» وبقوله: وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر ومن أن لا يسجد. وقيل: لما خلق الله تعالى آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا، فقالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموه. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تعظيم لآدم من غير وضع الجهة على الأرض فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى عن أمر الله وَاسْتَكْبَرَ أي تعاظم عن السجود لآدم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) أي صار من الكافرين بإبائه عن أمر الله. ويقال: إن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا، وهذا السجود كان قبل دخول آدم الجنة. وروي أن بني آدم عشر: الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين بها، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية. وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم، زجل بالتسبيح والتقديس، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعلم عددهم إلا الله، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذي هم جنود جبريل عليه السلام وكلهم مشتغلون بعبادته تعالى لا يحصي أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها أكلا رَغَداً أي واسعا لذيذا حَيْثُ شِئْتُما أي في أيّ مكان أردتما منها، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ. روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشجرة فقال: «هي الشجرة المباركة السنبلة» . وعن مجاهد وقتادة: هي التين. وعن يزيد بن عبد الله: هي الأترج، وعن ابن عباس: هي شجرة العلم عليها من كل لون وفن. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما. ويقال: من الذين وضعوا أمر الله تعالى في غير موضعه فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ أي أزلقهما إبليس عَنْها أي الجنة. وقرأ حمزة بألف بعد الزاي، والباقون بغير ألف وتشديد اللام فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من الرغد. وَقُلْنَا لآدم وحواء وإبليس: اهْبِطُوا انزلوا إلى الأرض، فهبط آدم بسر نديب من أرض الهند على جبل يقال له: نود، وهبطت حواء بجدة، وإبليس بالأبلة من أعمال البصرة

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي منزل وَمَتاعٌ أي منفعة ومعاش إِلى حِينٍ (36) أي إلى وقت الموت فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي حفظ آدم من ربه كلمات لكي تكون سببا له ولأولاده إلى التوبة. وقرأ ابن كثير بنصب «آدم» ، ورفع «كلمات» أي جاءته عن الله تعالى كلمات. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «إنها لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا، وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم» . وقال مجاهد وقتادة هي: «ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين» . فَتابَ عَلَيْهِ أي رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ أي الرجاع على عباده بالمغفرة. الرَّحِيمُ (37) أي البالغ في الرحمة لمن مات على التوبة. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها أي الجنة جَمِيعاً إما في زمان واحد أو في أزمنة متفرقة. وفائدة تكرير الأمر بالهبوط أن آدم وحواء لما آتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر به، ووقع في قلبهما أن الأمر به لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة لا يبقى الأمر به، فأعاد الله الأمر به مرة ثانية ليعلما أن الأمر به باق بعد التوبة، لأن الأمر به كان تحقيقا للوعد المتقدم في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] وعلى هذا فالجمع لاثنين فقط آدم وحواء، ويحتمل كون الجمع لهما ولولديهما قابيل وإقليما بناء على القول بأنهما ولدا في الجنة، ولعل عدم ذكرهما كونهما تابعين لأبويهما. وكان قابيل قد غضبه أبواه لقتله هابيل فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يا ذرية آدم مِنِّي هُدىً دلالة كدليل العقل والنقل، و «إن» للشرطية أدغمت في «ما» الزائدة للتأكيد فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ بأن تأمل الأدلة بحقها واستنتج المعارف منها فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) على ما فاتهم من الدنيا. ويقال: فلا خوف عليهم إذا ذبح الموت ولا هم يحزنون إذا أطبقت النار، وزوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر وعند البعث وعند حضور الموقف، وعند تطاير الكتب، وعند نصب الميزان وعند الصراط وَالَّذِينَ كَفَرُوا برسلنا المرسلة إليهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزّلة عليهم سواء كانوا من الإنس أو من الجن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي أهل النار وملازموها بحيث لا يفارقونها. هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) أي دائمون لا يخرجون منها ولا يموتون فيها يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي يا أولاد يعقوب، وهذا خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من أولاد يعقوب عليه السلام في أيام سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي على آبائكم من الإنجاء من فرعون وفلق البحر، وتظليل الغمام في التيه،

[سورة البقرة (2) : الآيات 41 إلى 50]

وإنزال المنّ والسلوى فيه، وإعطاء الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا، وإعطاء عمود من النور ليضيء لهم بالليل وجعل رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى، وجعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط، وإنزال الكتب العظيمة التي ما أنزلها الله على أمة سواهم أي أقيموا بشكر تلك النعمة. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أي أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي ومن الوفاء بالأمر الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أي أرض عنكم وأدخلكم الجنة. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) فيما تأتون وتتركون. واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر، وبالعكس. روي أنه ينادي مناد يوم القيامة: «وعزتي وجلالي أني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة» . وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ من القرآن مُصَدِّقاً أي موافقا بالتوحيد وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبعض الشرائع لِما مَعَكُمْ من التوراة وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي بالقرآن من اليهود فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وفيها قريظة والنضير فكفروا به صلّى الله عليه وسلّم ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر. ويقال: ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان من الجهل لا مع المعرفة. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي بكتمان صفة محمد ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا. وذلك لأن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من سفلة اليهود الهدايا، وعلموا أنهم لو اتبعوا محمدا لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقّر، وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جدا، ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) أي فخافوني في شأن هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ والباء للاستعانة والمعنى ولا تخلطوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصا خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة، وذلك لأن التلبيس صار صارفا للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة، وداعيا لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة، ثم ذكر الله لزوم الشرائع عليهم بعد الإيمان. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلوات الخمس وَآتُوا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالكم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أي صلوا الصلوات الخمس مع المصلين محمد وأصحابه في جماعتهم، وخصّ الله الركوع بالذكر تحريضا لليهود على الإتيان بصلاة المسلمين فإن اليهود لا ركوع في صلاتهم فكأنه تعالى قال: صلوا الصلاة ذات الركوع في جماعة أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ.

روي عن ابن عباس أنه قال: إن أحبار المدينة إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هو صادق فيما يقول وأمره حقّ فاتبعوه، وهم كانوا لا يتبعونه لطمعهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم. ويقال: إن جماعة من اليهود كانوا مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يرغبونهم في اتباعه، فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله تعالى بذلك فقال: وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة الناطقة بنعوت محمد صلّى الله عليه وسلّم أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) أي أتتلونه فلا تعقلون ما فيه وَاسْتَعِينُوا أيها اليهود على ترك ما تحبون من الدنيا وعلى الدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد صلّى الله عليه وسلّم بِالصَّبْرِ أي بحبس النفس عن اللذات وَالصَّلاةِ فإنها جامعة لأنواع العبادات وَإِنَّها أي الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي لشاقة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (45) أي المائلين إلى الطاعة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان منتظرا للموت في كل لحظة، لا يفارق قلبه الخشوع، فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة. وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) في الآخرة فيجازيهم بأعمالهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) أي واذكروا أني فضلت آباءكم على الموجودين في زمانهم لا على من مضى ولا على من يوجد بعدهم، وأيضا معنى تفضيلهم على جميع العوالم أن الله تعالى بعث منهم رسلا كثيرة لم يبعثهم من أمة غيرهم ففضلوا لهذا النوع من التفضيل على سائر الأمم وَاتَّقُوا أيها اليهود إن لم تؤمنوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ بالتأنيث على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وبالتذكير على قراءة الباقين مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي فداء وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) أي يمنعون من عذاب الله تعالى ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئا ولا تحمل عنها شيئا مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه، ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجبا عليه . وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ وقرئ «أنجيناكم» و «نجيتكم» ف «إذا» في موضع نصب عطفا على نعمتي عطف تفصيل على مجمل، وكذلك الظروف الآتية في الكلام المتعلق ببني إسرائيل وينقضي عند قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ والخطاب للموجودين في زمن نبينا. تذكيرا لهم بما أنعم الله على آبائهم لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء» . والمعنى ويا بني إسرائيل اذكروا إذ نجينا آباءكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي أتباعه وأهل دينه وعمر فرعون أكثر من أربعمائة سنة- وهو الوليد بن مصعب بن ريان- يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يطلبون لكم أشد العذاب. ثم بيّن الله ذلك بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ صغارا. وقرئ «يذبحون» بالتخفيف. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يتركونهن أحياء صغارا. ويقال: يستخدمونهن كبارا، وذلك أن فرعون رأى في منامه نارا أقبلت من بيت المقدس حتى أحاطت

[سورة البقرة (2) : الآيات 51 إلى 60]

ببيوت مصر وأحرقت كل قبطي، وتركت بني إسرائيل، فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) والبلاء هاهنا هو المحنة إن أشير بلفظ ذلكم إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمل البلاء على النعمة أحسن، لأنها هي التي صدرت من الله تعالى، ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم، ثم إن كون استبقاء نسائهم على الحياة محنة مع أنه ترك للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وكان سببا لانقطاع النسل ولفساد أمر معيشتهن. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي واذكروا إذ فلقناه بسببكم أي لأجل أن يتيسر لكم سلوكه فَأَنْجَيْناكُمْ من الغرق بإخراجكم إلى الساحل وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وترون بعد ثلاثة أيام جثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل وفرعون معهم طافين. روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسري ببني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطا، كل سبط خمسون ألفا فلما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون. فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، ثم اجتمع إلى فرعون ألف ألف ومائتا ألف، كل واحد منهم على فرس فتبعوا موسى وقومه نهارا، وصادفوهم على شاطئ البحر، فضرب موسى بعصاه البحر فانشق البحر اثني عشر جبلا في كل واحد منها طريق فكان فيه وحل، فهبت الصبا فجف البحر حتى صار طريقا يابسا، فأخذ كل سبط منهم طريقا ودخلوا فيه فقالوا لموسى: إنّ بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ، وكوى فرأى بعضهم بعضا فلما وصل فرعون شاطئ البحر رأى إبليس واقفا فنهاه عن الدخول، فجاء جبريل على حجرة، فتقدم فرعون وهو على فحل، فتبعها فرس فرعون فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم من خلفهم وهو على فرس فقال: ألحقوا آخركم بأولكم. فلما دخلوا البحر ولم يبق واحد منهم التطم البحر عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ، وهو بحر القلزم طرف من بحر فارس. وقيل: كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكرا لله تعالى وَإِذْ واعَدْنا مُوسى. قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه. وقرأ الباقون بالألف في المواضع الثلاثة. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بإعطاء الكتاب ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي عبدتم العجل المسمى «بهموت» . مِنْ بَعْدِهِ أي بعد انطلاقه إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) أي ضارون لأنفسكم. قيل: وعد موسى عليه السلام بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب

من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يجيء إلى الطور ويصوم فيه ذا القعدة وعشر ذي الحجة، فذهب إليه واستخلف هارون على بني إسرائيل ومكث في الطور أربعين ليلة، وأنزلت عليه التوراة في ألواح من زبرجد، فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط لعمل عرس. قال لهم هارون: إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فاحرقوها، فجمعوا نارا وأحرقوها، وكان موسى السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدّم على فرعون في دخول البحر، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة، ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصوّر منه عجلا في ثلاثة أيام مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت ومشى. فقال للقوم: هذا إلهكم وإله موسى فتركه هاهنا وخرج يطلبه، وكانت بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد، فعدوا اليوم مع الليلة يومين، فلما مضى عشرون يوما ولم يرجع موسى عليه السلام وقعوا في الفتنة، فعبدوا كلهم العجل إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وكان موسى السامري رجلا صائغا من جماعة يقال لها: سامرة، وكان منافقا يظهر الإسلام، وكان من بني إسرائيل من قوم يعبدون البقر. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي محونا ذنوبكم حين تبتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد عبادتكم العجل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) أي لكي تشكروا نعمة عفوي وتستمروا بعد ذلك على طاعتي. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ أي واذكروا إذ أعطينا موسى التوراة وبيّنا فيها الحلال والحرام. والأمر والنهي وغير ذلك. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) لكي تهتدوا بتدبر الكتاب من الضلال وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي إنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ أي بعبادتكم العجل. فقالوا لموسى: فماذا تأمرنا؟ فقال لهم: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ أي إلى خالقكم ولو أظهرتم التوبة بالبدن دون القلب فأنتم ما تبتم إلى الله وإنما تبتم إلى الناس. قالوا: كيف نتوب؟ فقال لهم: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي سلموا أنفسكم للقتل وارضوا به، فأجابوا. فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين. فكل قبيلة على حدة، وأتاهم بالاثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف. فقال التائبون: إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا. فلعن الله رجلا قام من مجلسه أو مدّ طرفه إليهم، أو اتقاهم بيد أو رجل فيقولون: آمين. فجعلوا يقتلون من الصبح إلى المساء، وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله تعالى ويقولان: البقية البقية يا إلهنا، فأوحى الله إليهما: «إني قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي» وكان القتلى سبعين ألفا. ذلِكُمْ أي القتل في التوبة خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ لما فيه طهارة عن الشرك فَتابَ عَلَيْكُمْ أي قبل توبة من قتل منكم وغفر لمن لم يقتل من بقية المجرمين، وعفا عنم من غير قتل إِنَّهُ هُوَ

التَّوَّابُ أي المتجاوز لمن تاب الرَّحِيمُ (54) على من مات على التوبة. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وذلك لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه، فرأى ما هم عليه من عبادة العجل حرق العجل وألقاه في البحر، واختار من قومه سبعين رجلا من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى يسمعنا كلامه. فسأل موسى عليه السلام ذلك، فأجابه الله ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام، وتغشى الجبل كله، ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه، فقال للقوم: ادخلوا. وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له: «افعل كذا، ولا تفعل كذا» . فلما تمّ الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه. فقال القوم بعد ذلك: لا نصدق لك بأن ما نسمعه كلام الله حتى نرى الله معاينة، فأحرقتهم نار من السماء وماتوا جميعا، وقام موسى رافعا يديه إلى السماء يدعو ويقول: يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلا ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فأرجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون؟! فلم يزل موسى مشتغلا بالدعاء حتى ردّ الله أرواحهم وبطلت توبة بني إسرائيل من عبادة العجل. فقال: لا أقبل إلا أن يقتلوا أنفسهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) إلى النار الواقعة من السماء ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ أي ثم أحييناكم بعد حرقكم بالنار وبعد موتكم يوما وليلة وذلك لإظهار آثار القدرة، وليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بانقضاء آجالهم لم يحيوا إلى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) أي لكي تشكروا إحيائي وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أي جعلنا السحاب الرقيق يظلكم من حر الشمس أي وكان يسير بسيرهم وكانوا يسيرون ليلا ونهارا، وينزل عليهم بالليل عمود من نور يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى- وذلك في التيه- وهو واد بين الشام ومصر، وقدره تسعة فراسخ مكثوا فيه أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى الخروج منه، وسبب ذلك مخالفتهم أمر الله تعالى بقتال الجبارين الذين كانوا بالشام حيث امتنعوا من القتال. وَأَنْزَلْنا في التيه عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار، طعمه كالشهد. وكان يقع على أشجارهم من الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع. وَالسَّلْوى فكان كل واحد منهم يأخذ ما يكفيه يوما وليلة، وإذا كان يوم الجمعة يأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت، «والسلوى» وهو طائر ليس له ذنب ولا يطير إلا قليلا ويموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن «الخطاف» يقتله البرد فيلهمه الله أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض. وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية. كُلُوا أي وقلنا لهم: كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من مستلذات ما رزقناكموه ولا تدخروا لغد فادخروا فقطع الله ذلك عنهم ودوّد ما ادّخروه. وَما ظَلَمُونا أي وما نقصونا بما

ادخروا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) أي يضرون، لنقص أنفسهم حظها من النعيم. وَإِذْ قُلْنَا لهم بعد خروجهم من التيه على لسان موسى أو على لسان يوشع ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. روي أن موسى عليه السلام سار بعد انقضاء الأربعين سنة بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحا- بفتح الهمزة وكسر الراء- قرية الجبارين وهي بين القدس وحوران، وأقام فيها ما شاء الله، ثم قبض فيها، وقيل: إنه قبض في التيه ولما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي وأن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع وقتل الجبابرة، وصار الشام كله لبني إسرائيل فَكُلُوا مِنْها أي تلك القرية حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي موسعا عليكم وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية. أي من أيّ باب كان من أبوابها السبعة، أو من باب يسمى «باب الحطة» ، أو «باب القبة» التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام سُجَّداً أي منحنين متواضعين كالراكع. وَقُولُوا حِطَّةٌ أي إن القوم أمروا بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح، والاستغفار باللسان. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب. والمعنى حط عنا ذنوبنا حطة نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ. وقرأ نافع بالتذكير وابن عامر بالتأنيث على البناء للمجهول. والباقون بالنون المفتوحة وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) بالطاعة في حسناتهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي أمر لهم، أي فدخلوا الباب زاحفين على أدبارهم قائلين حنطة على شعيرة استخفافا بأمر الله تعالى. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي غيروا الأمر رِجْزاً أي طاعونا مقدرا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) أي بسبب فسقهم أي خروجهم عن الطاعة. روي أنه مات بالطاعون في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا. فهذا الوباء غير الذي حلّ بهم في التيه وَاذكروا إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ في التيه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ وكانت العصا من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى، ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا، حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها لموسى. وروي أن ذلك الحجر حجر طوري حمله معه وكان مربعا له أربعة جوانب، وكان ذراعا في ذراع، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط، وكانوا ستمائة ألف وسبعة. المعسكر اثنا عشرة ميلا. وقيل: كان حجرا أعطاه الله عليه اثني عشر ثديا كثدي المرأة يخرج من كل ثدي نهر إذا ضرب عصاه عليه. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً أي نهرا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم من نهرهم روي أنه كان لكل سبط عين من اثنتي عشرة عينا لا يشركه فيها غيره. وقلنا لهم: كُلُوا من المنّ والسلوى وَاشْرَبُوا من الأنهار

[سورة البقرة (2) : الآيات 61 إلى 70]

كلها مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أي كلوا واشربوا من رزق الله الذي يأتيكم بلا تعب وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) أي لا تتمادوا في الفساد في الأرض في حالة إفسادكم. ويقال: لا تمشوا في الأرض على خلاف أمر موسى. وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي على أكل طعام واحد وهو المن والسلوى فَادْعُ لَنا أي اسأل لأجلنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها أي من أطايبه التي تؤكل كالكرفس والكراث والنعناع وَقِثَّائِها وَفُومِها أي ثومها كما هو مروي عن ابن عباس ومجاهد وهو اختيار الكسائي، لأن الثوم بالثاء في حرف عبد الله بن مسعود وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أي موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أي أخس وهو الثوم والبصل بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي أشرف وهو المن والسلوى فإنه خير في اللذة والنفع وعدم الحاجة إلى السعي. اهْبِطُوا مِصْراً أي اخرجوا من هذا المكان إلى المكان الذي خرجتم منه فَإِنَّ لَكُمْ هناك ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت على فروع بني إسرائيل المذلة بالجزية. وَالْمَسْكَنَةُ أي زي الفقر وَباؤُ بِغَضَبٍ أي استحقوا الغضب أي استحقوا الغضب أي اللعنة مِنَ اللَّهِ ذلِكَ أي الذلة والمسكنة واللعنة. بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بسبب أنهم كانوا يجحدون على الاستمرار بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وآية الرجم التي في التوراة وبالإنجيل وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ظلما. روي أن اليهود قتلت سبعين نبيا في أول النهار، ولم يغتموا حتى قاموا في آخر النهار يتسوقون مصالحهم، وقتلوا زكريا ويحيى وشعيبا وغيرهم من الأنبياء. ذلِكَ الغضب بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) أي يتجاوزون الحد بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي، وهذا الذل الذي أصابهم هو بسبب قتلهم عيسى في زعمهم. وقوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة: 61] عدّه بعض العلماء من باب المعجزات، لأنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم وقد وقع الأمر كذلك فكان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا، وهذا الكلام إلى قوله: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] معترض في خلال القصص المتعلقة بحكاية أحوال بني إسرائيل الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، لأن قتل الأنبياء إنما كان من فروعهم وذريتهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا أي الذين تهودوا وَالنَّصارى أي الذين تنصروا وَالصَّابِئِينَ أي الخارجين من دين إلى دين، وهم قوم من النصارى يحلقون وسط رؤوسهم ويقرءون الزبور ويعبدون الملائكة. يقولون: صبأت قلوبنا أي رجعت قلوبنا إلى الله. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينهم وبين ربهم فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بأن يدخلهم الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تفويت الثواب. والمعنى: أن الذين آمنوا قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم في زمن الفترة بعيسى عليه السلام، مثل: قس بن ساعدة، وبحيرة الراهب، وحبيب النجار، وزيد بن عمرو بن نفيل،

وورقة بن نوفل، وسلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، ووفد النجاشي والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والنصارى والصابئين كل من آمن منهم ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم، أو المعنى إن الذين آمنوا باللسان دون القلب، وهم المنافقون واليهود والنصارى والصابئين كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله، وهذا قول سفيان الثوري وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي إقراركم بقبول التوراة وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل مقدار قامة كالظلة وكان فرسخا في فرسخ حتى أعطيتم الميثاق وقلنا: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي اعملوا بما أعطيناكموه من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب واحفظوا ما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) أي لكي تتقوا المعاصي ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي رفع الطور وإيتاء التوراة فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بتأخير العذاب وَرَحْمَتُهُ بإرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم إليكم لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) أي لصرتم من المغبونين بالعقوبة وبالانهماك في المعاصي وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ أي وبالله لقد عرفتم عقوبة الذين تجاوزوا الحد منكم يوم السبت في زمن داود عليه السلام، روي أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتركوا الصيد، وهؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام وكانوا يسكنون بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم أخذوا السمك وهم خائفون من العقوبة فلما طال الزمان استسنّ الأبناء بسنة الآباء فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم. فلم ينتهوا، وقالوا: نحن في هذا العمل منذ أزمان فما زادنا الله به إلا خيرا. فقيل لهم: لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب، فأصبح القوم قردة خاسئين فمكثوا كذلك ثلاثة أيام لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتوالدوا، ثم هلكوا وذلك قوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا أي صيروا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) أي ذليلين مبعدين عن الرحمة والشرف فَجَعَلْناها أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي عقوبة رادعة للأمم التي في زمانها وبعدها إلى يوم القيامة أو لما قرب من تلك القرية وما تباعد عنها أو عقوبة لأجل ما تقدّم على هذه الأمة من ذنوبهم وما تأخر منها. وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) أي لكل متق سمع تلك الواقعة فإنه يخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم. والمراد بقوله تعالى: كونوا سرعة التكوين، وأنهم صاروا كذلك كما أراد الله بهم. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكروا وقت قول موسى عليه السلام لأصولكم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.

[سورة البقرة (2) : الآيات 71 إلى 80]

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل قتل ابن أخيه أو أخاه أو ابن عمه لكي يرثه، ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله، فأوحى الله إليه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتعجبوا من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها فذبحوها، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله، وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي أتستهزئ بنا يا موسى فإن سؤالنا عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة وإخباره بقاتله. قالَ أي موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) أي المستهزئين بالمؤمنين، لأن الهزء في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل فما علموا أن الأمر بالذبح حق. قالُوا ادْعُ لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها أصغيرة أو كبيرة. قالَ إِنَّهُ أي الله تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ أي كبيرة في السن وَلا بِكْرٌ أي صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي وسط بين المسنة والفتية فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) به من ذبحها قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) إليها بسبب حسنها وتعجبهم من شدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أعاملة هي أم لا؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) إلى وصفها أو إلى القاتل قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي غير مذللة تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقبلها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي الزرع مُسَلَّمَةٌ من كل عيب لا شِيَةَ فِيها أي لا خلط في لونها. قال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي نطقت بالبيان المحقق ففتشوا عليها فوجدوها عند الفتى البار لأمه فاشتروها بملء جلدها بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) أي ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم. ويقال: وما كادوا أن يذبحوها لأجل غلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل. روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له ابن طفل وله عجلة، فأتى بها إلى الغيضة. وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر فكانت من أحسن البقر وأسمنها، فلما كبر الابن كان بارا لوالدته فكان يقسّم الليل أثلاثا يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فلما أصبح احتطب على ظهره فيبيع الحطب في السوق، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، ثم أمرته أمه أن يأخذ تلك العجلة من الغيضة. فلما أخذها قالت له أمه: إنك

فقير يشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فبع هذه البقرة. فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذ ذاك ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكا ليختبر الفتى كيف بره بوالدته، فقال: الملك له بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير بشرط رضى والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأذن أمك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذها إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن. فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأذنت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأذنها. فقال الملك: إني أعطيك اثني عشر دينارا على أن لا تستأذنها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك. فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له: اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا دنانير فأمسكتها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة للفتى على بره بوالدته فضلا من الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً اسمه عاميل وقيل: نكار فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي تخاصمتم في شأنها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ أي مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) من قتلها وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما فادارأتم وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ أي القتيل بِبَعْضِها أي بعضو من أعضاء البقرة قيل: بذنبها. وقيل: بلسانها، وقيل: بفخذها الأيمن ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فقتل قاتله فحرم الميراث. وفي الحديث: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة» . كَذلِكَ أي كما أحيا الله عاميل في الدنيا يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى في الآخرة من غير احتياج إلى آلة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي يجعلكم مبصرين دلائل قدرته وإحيائه للميت لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) أي لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة، فتصدقوا بالبعث بعد الموت ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أيها اليهود فلم تقبل الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء عاميل وإخباره بقاتله أو من بعد الأمور التي جرت على أجدادكم فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القساوة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ. قال الحكماء: إن الأنهار إنما تنشأ عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض حجريا اجتمعت تلك الأبخرة حتى تكثر كثرة عظيمة فتنشق الأرض وتسيل تلك المياه أنهارا وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي العيون الصغار التي هي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ أي يتدحرج من أعلى الجبل إلى أسفله مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي من انقياد أمر الله وقلوبكم أيها اليهود لا تتحرك من خوف الله، و «اللام» في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم إن وهو ما بمعنى الذي والضمير منه ويشقق

ويهبط يعود عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أي إن الله محافظ لأعمال القاسية قلوبهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) أي أفتطمعون أيها النبي والمؤمنون أن يؤمن هؤلاء اليهود بواسطتكم ويستجيبوا لكم، والحال أن طائفة منهم وهم أحبارهم يسمعون كلام الله في التوراة، ثم يغيرونه من بعد المعنى الذي فهموه بعقولهم وهم يعلمون أنهم مفترون، وذلك كنعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكانت صفته صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، أكحل العين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه فكتبوا بدلها طويلا، أزرق العين سبط الشعر. وقال ابن عباس: والمعنى أفترجو يا أشرف الخلق أن تؤمن بك اليهود. والحال أن أسلافهم وهم السبعون المختارون للميقات الذين كانوا مع موسى يسمعون كلام الله بلا واسطة، ثم يغيرونه من بعد ما علموه يقينا وهم يعلمون أنهم يغيرونه، وذلك أنهم قالوا: سمعنا الله يقول في آخر كلامه: «إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس» وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي إن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق، وأن قوله: حق ونجد نعته في كتابنا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ أي رجع الساكتون الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ آخر منهم وهو منافقوهم قالُوا أي الساكتون موبخين للمنافقين أَتُحَدِّثُونَهُمْ أي المؤمنين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما بيّن الله لكم في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي ليقيموا الحجة عليكم بما أنزل ربكم في كتابه في ترك اتباع محمد مع إقراركم بصدقه. وقوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ متعلق بالتحديث والمراد بهذا تشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك لأجل هذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل أي أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم بكتاب الله وحكمه، ويقال: عند الله كذا معناه في كتابه وحكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه. أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ أي اللائمون أو المنافقون أو كلاهما اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) أي إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم، وإظهار غيره فيرعووا عن ذلك. وَمِنْهُمْ أي اليهود أُمِّيُّونَ أي جهلة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أي لا يعرفونه بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد إِلَّا أَمانِيَّ أي إلّا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، ومما تحملهم أخبارهم على تمني قلوبهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، ومن أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وقال الأكثرون إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه أو لا يقرءون إلا قراءة عارية عن معرفة المعنى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) أي ما هم يعرفون إلا بأن يذكر لهم تأويله فظنوه فَوَيْلٌ أي عذاب أليم أو مسيل صديد أهل جهنم أو شدة الشر لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا في الكتاب الذي جاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 81 إلى 90]

لِيَشْتَرُوا بِهِ أي ليأخذوا لأنفسهم بمقابلة الكتاب المحرف ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا يسيرا من الدنيا- وهم اليهود- غيّروا صفة النبي في التوراة وآية الرجم وغيرها ... فغيروا آية الرجم بالجلد والتحميم أي تسويد الوجه فَوَيْلٌ لَهُمْ أي فشدة العذاب لهم مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ أي فيما غيرت أيديهم وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) أي يصيبون من الحرام والرشوة وَقالُوا أي اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً أي قليلة. قال مجاهد: إن اليهود كانت تقول: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان ألف سنة يوما فكانوا يقولون: الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وحكى الأصمعي عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون: الله تعالى يعذبنا سبعة أيام. وذلك كما أخرجه الطبراني وغيره بسند حسن عن ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير من طرق ضعيفة عنه أنها أربعون يوما قُلْ لهم يا أشرف الخلق أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً أي خبرا فإن خبره تعالى أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أي فإن الله تعالى منزّه عن الكذب في وعده ووعيده لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال أَمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) وقوعه أي أم لم تتخذوا من الله عهدا بل تتقوّلون عليه تعالى بَلى تمسكم النار أبدا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً أي كفرا وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي كبيرته بأن مات على الكفر فَأُولئِكَ أي أهل هذه الصفة أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها في الآخرة هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) أي لا يخرجون منها. أما أصحاب الكبائر غير الكافرين فإنا نقطع بأنه تعالى يعفو عن بعض العصاة وعن بعض المعاصي، ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا؟ ونقطع بأنه تعالى إذا عذّب أحدا منهم مدة فإنه لا يعذبه أبدا بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة. وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع، والمراد بالخطيات أنواع الكفر المتجددة في كل وقت وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) لا يموتون فيها ولا يخرجون منها وَإِذْ أَخَذْنا في التوراة مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين كانوا في زمن موسى لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي لا تشركون به شيئا. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة، وقرأ عبد الله وأبيّ «لا تعبدوا» بصريح النهي وهذه قراءة شاذة. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وهو متعلق بمحذوف أي وتحسنون أو أحسنوا بالبر بهما وإن كانا كافرين بأن لا يؤذيهما ألبتة، ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين، وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين وَذِي الْقُرْبى أي أحسنوا بالأقارب بصلة الرحم وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً.

وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين. وقرئ قراءة شاذة حسنا بضمتين وحسنى كبشرى، والقول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمراد بالصلاة والزكاة ما فرض عليهم في ملتهم. فقبلتم ذلك الميثاق المذكور ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ أي آباءكم وهو من أقام اليهودية على طريقها قبل النسخ ويقال: إلا قليلا منكم وهم من أسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) عن الطاعة كآبائكم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي واذكروا يا أيها اليهود المعاصرون لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقت أن أخذنا الميثاق على آبائكم في التوراة لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من منازلكم يا بني قريظة والنضير ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بوجوب المحافظة على الميثاق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) أي تعلمون ذلك ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي هؤلاء الحاضرون بعد ذلك تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي من منازلهم ذلك الفريق تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء. والباقون بالتشديد أي يعاون بعضكم بعضا بِالْإِثْمِ أي المعصية وَالْعُدْوانِ أي التجاوز في الظلم وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى أي أسارى أهل دينكم تُفادُوهُمْ بالمال أو غيره. أي وإن يقع ذلك الفريق الذي تخرجونه من دياره وقت الحرب حال كونه أسيرا في يد حلفائكم تفدوه. قرأ حمزة «أسرى» بفتح الهمزة وسكون السين مع الإمالة. وقرأ عاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وفتح الفاء. والباقون بفتح التاء وسكون الفاء. وَهُوَ أي الشأن مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ. قال السدي: إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه وأعتقوه. وكان قريظة والنضير أخوين كالأوس والخزرج، فافترقوا فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، ثم إذا أسر رجل من الفريقين فدوه كما لو أسر واحد من النضير ووقع في يد الأوس افتدته قريظة منهم بالمال، وهكذا يقال في عكس ذلك فعيّرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدوهم. فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحي أن تذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى بقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ أي تفعلون بعض الواجبات وهو المفاداة وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي فلم تتركوا المحرم وهو القتال والإخراج والمعاونة فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ أي ذمّ عظيم وتحقير بالغ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزي قريظة القتل والسبي وقد قتل صلّى الله عليه وسلّم منهم سبعمائة في يوم واحد، وخزي بني

النضير بالإجلاء إلى أذرعات وأريحا. وقيل: هو ضرب الجزية على النضير في الشام وعلى من بقي من قريظة الذين سكنوا خيبر. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أي عذاب جهنم لما أن معصيتهم أشد المعاصي وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) . قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب في «يعملون» وأما في «يردون» فالسبعة بالغيبة فقط وأما بتاء الخطاب فشاذة وهذه الجملة زجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا أي استبدلوها بِالْآخِرَةِ بأن اختاروا الكفر على الإيمان فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لا بالانقطاع ولا بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) فلا يدفع أحد هذا العذاب عنهم. وَلَقَدْ آتَيْنا أي أعطينا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي أتبعناهم إياه مترتبين وهم يوشع وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا وأرميا، وعزير، وحزقيل، والياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى وغيرهم وجميع الأنبياء بين موسى وعيسى على شريعة موسى. قيل: هم سبعون ألفا. وقيل: أربعة آلاف، ومدة ما بينهما ألف وتسعمائة سنة وخمسة وعشرون سنة وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه- سواء كان كمهه خلقيا أو طارئا- وإبراء الأبرص، وكالإخبار بالمغيبات، وكالإنجيل. ثم عيسى بالسريانية أيشوع ومعناه: المبارك. ومريم بالسريانية بمعنى الخادم. وفي كتاب لسان العرب: هي المرأة التي تكره مخالطة الرجال. وَأَيَّدْناهُ قرأه ابن كثير بمد الهمزة وتخفيف الياء أي قويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو جبريل وهو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حين صعد إلى السماء. أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أي بما لا يوافق قلوبكم من الحق اسْتَكْبَرْتُمْ أي تعظمتم عن الإيمان به والاتباع له فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) أي كذّبت طائفة محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وعيسى عليه السلام، وقتل فريق يحيى وزكريا وَقالُوا أي اليهود: قُلُوبُنا غُلْفٌ أي مغشاة بأغطية عن قولك يا محمد، أو قلوبنا أوعية لكل علم وهي لا تعي علمك وكلامك بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي ليس عدم قبولهم للحق لخلل في قلوبهم ولكن الله أبعدهم عن رحمته بسبب كفرهم فأبطل استعدادهم عن القبول فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (88) أي لا يؤمنون إلا بالقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله، إلا أنهم كانوا يكفرون بالرسل. وقال قتادة والأصم وأبو مسلم: أي لا يؤمن منهم إلا القليل وذلك نظير قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 155] وَلَمَّا جاءَهُمْ أي اليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي موافق لكتابهم التوراة بالتوحيد

[سورة البقرة (2) : الآيات 91 إلى 100]

وصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم كذبوه وَكانُوا أي اليهود مِنْ قَبْلُ أي من قبل مبعث محمد ونزول القرآن يَسْتَفْتِحُونَ أي يسألون الفتح أي النصرة عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي مشركي العرب أسد وغطفان ومزينة وجهينة وهم عدوهم يقولون: إذا دهمهم عدو: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم كَفَرُوا بِهِ حسدا وخوفا على الرياسة. وقال ابن عباس وقتادة والسدي: نزلت هذه الآية في شأن نبي قريظة والنضير، كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثه يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا نبي قد قرب زمانه ينصرنا عليكم فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) أي إبعاد الله من خيرات الآخرة عليهم بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بئس الشيء شيئا اشتروا به أنفسهم، كفرهم بالقرآن المصدق للتوراة، أي إن هؤلاء اليهود لما اعتقدوا أنهم بما فعلوه خلصوا أنفسهم من العقاب وأوصلوها إلى الثواب فقد اشتروا أنفسهم به في زعمهم. وقال الأكثرون: الاشتراء هاهنا بمعنى البيع لأن المذموم لا يكون إلا لما كان حاصلا لهم، لا لما كان زائلا عنهم، والمعنى باعوا أنفسهم بكفرهم، لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم هو الكفر فصاروا بائعين أنفسهم بذلك، لكن لما كان الغرض بالبيع والشراء إبدال ملك بملك، صلح أن يوصف كل واحد من المتبادلين بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما. بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي حسدا على أن ينزل الله النبوة بفضله على محمد وطلبا لما ليس لهم أي فإنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحسد، وقد أجاز العلماء أن يكون بغيا مفعولا له ناصبه «أن يكفروا» ، وأن ينزل الله مفعولا له وناصبه «بغيا» ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي فاستحقوا لعنة بعد لعنة لأمور صدرت عنهم وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) أي يهانون بالعذاب الشديد بخلاف عذاب العاصي فإنه طهرة لذنوبه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي وإذا قال المؤمنون لليهود الموجودين في زمن نبينا: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بكل ما أنزل الله من الكتب الإلهية جميعا قالُوا في جواب هذا القيل: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي بما أنزل على أنبيائنا من التوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يكفرون بما بعده وهو الإنجيل والقرآن وَهُوَ أي ما وراء ما أنزل على نبيهم من الإنجيل والقرآن الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ أي موافقا بالتوحيد لكتبهم قُلْ لهم يا أشرف الخلق إلزاما وبيانا لكفرهم بالتوراة التي ادعوا الإيمان بها فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) والمعنى إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما زعمتهم فلأي شيء كنتم تقتلون أنبياء الله من قبل لأن في التوراة تحريم القتل وذلك لأن التوراة دلّت على أن المعجزة تدل على الصدق، ودلّت على أن من كان صادقا في ادعاء النبوة فإن قتله كفر، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل

زكريا ويحيى وعيسى كفرا! فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟ والمعنى أنهم لو آمنوا بالتوراة لما قتلوا الأنبياء فآل أمرهم إلى كفرهم بجميع ما أنزل الله تعالى لا بالبعض كما ادعوا. فإن قيل قوله تعالى: آمِنُوا خطاب لهؤلاء الموجودين. وقوله: فلم تقتلون حكاية فعل أسلافهم. فكيف وجه الجمع بينهما؟ قلنا: معناه إنكم بهذا التكذيب للإنجيل والقرآن خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ أي بالآيات التسع وهي: العصا واليد، والسنون، ونقص الثمرات، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلق البحر ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي عبدتم العجل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد انطلاقه إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) أي كافرون بعبادته وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي إقراركم وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ أي رفعنا فوق رؤوسكم الجبل حين امتنعتم من قبول التوراة وقلنا: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي اعملوا بما أعطيناكم من الكتاب بجد وَاسْمَعُوا أي أطيعوا ما تؤمرون قالُوا سَمِعْنا قولك بآذاننا وَعَصَيْنا أمرك بقلوبنا وغيرها وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ أي وادخلوا في قلوبهم حب عبادة العجل بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قُلْ لهم يا أشرف الخلق بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بما أنزل عليكم من التوراة قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) بالتوراة كما زعمتم ف «إن» يجوز فيها الوجهان من كونها نافية وشرطية وجوابها محذوف تقديره فبئسما يأمركم. قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي نعيم الدار الآخرة عِنْدَ اللَّهِ وهو الجنة خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق بأن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ كأن تقولوا ليتنا نموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) في مقالتكم لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أي لن يسألوا الموت أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار، كالكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن، وكتحريف التوراة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) أي الكافرين فيجازيهم وَلَتَجِدَنَّهُمْ أي والله لتجدن اليهود يا محمد أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ أي بقاء في الدنيا وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي وأحرص من مشركي العرب المنكرين للبعث لعلمهم بأن مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له. يَوَدُّ أي يتمنى أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ والمراد بألف سنة التكثير لا خصوص هذا العدد، وليس المراد بها قول الأعاجم: عش ألف سنة. «لو» مصدرية، وهي مع صلتها في تأويل مصدر مفعول «يود» وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ فاعل لمزحزح أي وما أحدهم بمن يبعده من النار تعميره ألف سنة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) فيجازيهم به. قرأ السبعة بالياء التحتية ويعقوب من العشرة بالفوقية.

روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال: يا محمد، كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «تنام عيناي ولا ينام قلبي» قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: «أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة» . فقال: صدقت، فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله، ويشبه أخواله دون أعمامه. فقال: «أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له» . قال: صدقت، أخبرني أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه، فنذر الله نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان: الإبل وألبانها» . فقالوا: نعم، فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله. قال: «جبريل» «1» قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك، فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ لأنه ينزل القرآن على محمد فقد خلع ربقة الإنصاف فَإِنَّهُ أي جبريل نَزَّلَهُ أي القرآن عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره وخصّ القلب بالذكر لأنه خزانة الحفظ وبيت الرب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبل القرآن من الكتب الإلهية لأن الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بالأوقات ومنتهية في هذا الوقت فإن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وسائر الكتب اختلاف في الشرائع وَهُدىً أي بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وَبُشْرى أي بيان ثواب تلك الأعمال لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وخصّ الله جبريل بالذكر ردا على اليهود في دعوى عداوته وضمّ إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هو حياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هو حياة القلوب والأرواح، وقدّم جبريل لشرفه لأن العلم أشرف من الأغذية، وقدّم الملائكة على الرسل كما قدّم الله على الجميع، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب. «وجبريل» قرأ حمزة والكسائي بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء. والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم. «وميكائيل» قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همزة ولا ياء بين الألف واللام، وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة، والباقون بهمزة بعد الألف وياء.

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 273، 278) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 101 إلى 110]

قال ابن عباس: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم: ما جاءنا بشيء من البينات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أشرف الخلق آياتٍ بَيِّناتٍ أي آيات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (99) وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم. قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخذ الله عليهم من العهود في محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يؤمنوا به. قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا في محمد عهدا فأنزل الله هذه الآية: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهدا كقولهم قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وككونهم عاهدوا الله على أن لا يعينوا عليه صلّى الله عليه وسلّم أحدا من المشركين ثم أعانوا عليه قريشا يوم الخندق نبذه فريق منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) أي لا يصدقون بك أبدا لحسدهم، وقيل: لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بمقتضاه وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوه وتمسكوا به كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) أي أنه كتاب الله أي فكفروا عنادا والكتاب مفعول ثان ل «أوتوا» وكتاب الله مفعول «نبذ» . وقال السدي: لما جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصموه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة لموافقة القرآن لها وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهو معطوف على نبذ ما تَتْلُوا أي تكذيب الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ من السحر وكانت الشياطين دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر لذلك سليمان، فلما مات استخرجوه وقالوا للناس: إنما ملككم سليمان بهذا فتعلموه، وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله عليه براءة سليمان ومدة نزع ملكه أربعون يوما، وسبب ذلك أن إحدى زوجاته عبدت صنما أربعين يوما وهو لا يشعر بها فعاتبه الله تعالى بنزع ملكه أربعين يوما، وذلك أن ملكه كان في خاتمه وهو من الجنة، وكان إذا دخل الخلاء نزعه ووضعه عند زوجة له تسمى الأمينة ففعل ذلك يوما فجاء جني اسمه صخر، وتصوّر بصورة سليمان ودخل على الأمينة. وقال: أعطيني خاتمي فدفعته له فسخرت له الجن والإنس والطير والريح، وجلس على كرسي سليمان فجاء سليمان

للأمينة وطلب الخاتم فرأت صورته غير الصورة التي تعرفها منه. فقالت له: ما أنت سليمان وهو قد أخذ الخاتم. فلما تم الأربعون طار الجني من فوق الكرسي ومر على البحر وألقى الخاتم فيه فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان فأخذه من بطنها ولبسه، ورجع له الملك فأمر الجن بإحضار صخر فأتوا به فحبسه في صخرة وسد عليه بالرصاص والحديد ورماها في قعر البحر. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي ما كتب سليمان السحر وما عمل به لأن العمل بالسحر كفر في شريعته وأما في شرعنا فإن اعتقد فاعله حل استعماله كفر وإلا فلا. وأما تعلمه فإن كان ليعمل به فحرام أو ليتوقاه فمباح أو لا ولا فمكروه وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي كتبوا واستعملوا السحر. وقرأ «لكن» ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون مع الكسر ورفع الشياطين يُعَلِّمُونَ أي الشياطين النَّاسَ السِّحْرَ ويقصدون به إضلالهم وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر أي ويعلمونهم ما ألهماه من السحر. وقيل: عطف على ما «تتلو» واختار أبو مسلم أن «ما» في محل جر عطف على «ملك سليمان» . وذلك أن الملكين أنزلا لتعليم السحر امتحانا من الله للناس هل يتعلمونه أو لا كما امتحن قوم طالوت بالشرب من النهر. وقيل: إنما أنزلا لتعليمه للتمييز بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس لأن السحرة كثروا في ذلك الزمن واستنبطوا أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدّعون النبوة فبعث الله تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس بِبابِلَ وهو بلد في سواد العراق هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان للملكين لأنهما ملكان نزلا من السماء كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وقيل: «ما أنزل» نفي معطوف على قوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ كأنه تعالى قال: لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانوا يسندون السحر إلى سليمان وزعموا أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فكذبهم الله تعالى على ذلك. وقيل: إن الملكين هما جبريل وميكائيل أخرجه البخاري في تاريخه، وابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن عطية. وحينئذ يكون هاروت وماروت مرفوعين بدل من الشياطين بدل من البعض كما هو قراءة الزهري وعلى هذا كما قاله الحسن والضحّاك فهما علجان من بابل يعلمان السحر. وقرأ الحسن «على الملكين» بكسر اللام فهما داود وسليمان كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبزي. وقيل: كانا رجلين صالحين من الملوك. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ أي وما يعلم الملكان أحدا السحر حَتَّى يَقُولا أولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي امتحان من الله تعالى للناس فَلا تَكْفُرْ أي فلا تتعلم ولا تعمل به أي لا يصفان السحر لأحد إلا أن يقولا- يبذلا النصيحة له- فيقولان له: هذا الذي نصه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر والمعجزة

ولكنه يمكنك أن تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأغراض العاجلة فَيَتَعَلَّمُونَ أي الأحد. والمراد به السحرة مِنْهُما أي الملكين أو السحر والمنزل على الملكين أو الفتنة والكفر ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ إما بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافرا وإذا صار كافرا بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما، وإما بالتمويه والحيل فيبغض كل منهما في الآخر. وَما هُمْ أي السحرة أو اليهود أو الشياطين بِضارِّينَ بِهِ أي باستعمال السحر مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإيجاد الله وإرادته وعلمه وَيَتَعَلَّمُونَ أي الشياطين واليهود والسحرة بعضهم من بعض ما يَضُرُّهُمْ في الآخرة وَلا يَنْفَعُهُمْ في الدنيا ولا في الآخرة وهو السحر وَلَقَدْ عَلِمُوا أي اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلوا الشياطين ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ أي في الجنة مِنْ خَلاقٍ أي نصيب أو ما له في النار من خلاص أي أن اليهود لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي وبالله لبئس شيئا باعوا به حظ أنفسهم في الآخرة الكفر أو تعلم السحر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) قبحه على اليقين وَلَوْ أَنَّهُمْ أي اليهود آمَنُوا بمحمد المشار إليه في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [البقرة: 89] إلخ. وبما أنزل إليه من الآيات المذكورة بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ [البقرة: 99] أو بالتوراة التي أريدت بقوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة: 101] وَاتَّقَوْا بأن تابوا من اليهودية واستعمال السحر لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ أي لشيء من ثواب الله خير لهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم راعِنا وكان المسلمون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا تلا عليهم شيئا من العلم: راعنا يا رسول الله أي تأن بنا حتى نفهم كلامك واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها فيما بينهم فلما سمعوا المؤمنين يقولون: راعنا، خاطبوا به النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يعنون بها تلك المسبة ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ منهم وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنهي المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى لئلا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذلك قوله تعالى: وَقُولُوا انْظُرْنا أي انظر إلينا والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إتيانه للكلام على نعت الأفهام أقوى، وقيل: لا تعجل علينا قاله ابن زيد وَاسْمَعُوا أي أحسنوا سماع ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجون إلى الاستعادة وَلِلْكافِرِينَ أي اليهود الذين سبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَذابٌ أَلِيمٌ (104) هو النار ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود وَلَا الْمُشْرِكِينَ من العرب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ

مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي ما يحب اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه ومشركو العرب أبو جهل وأصحابه أن ينزل عليكم وحي من ربكم لأنهم يحسدونكم به وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ أي بوحيه مَنْ يَشاءُ أي من كان أهلا لذلك وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) بالوحي على محمد صلّى الله عليه وسلّم من غير علة ولما قال الكفار: إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه وما يقوله: إلا من تلقاء نفسه نزل قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. قرأ ابن عامر «ننسخ» بضم النون الأولى وكسر السين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ننسأ» بفتح النون الأولى والسين وبهمزة ساكنة بعد السين أي ما نبدل آية إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما معا، أو نتركها كما كانت فلا نبدلها، نأت بأنفع من المنسوخ وأخف في العمل بها، أو نأت بمثلها في الثواب والنفع والعمل أو يقال: ما نمحو من آية قد عمل بها، أو نؤخر نسخها فلا نرفع تلاوتها ولا نزيل حكمها، نأت بما هو أنفع للعباد في السهولة كنسخ وجوب مصابرة الواحد لعشرة من الأعداء بوجوب مصابرته لاثنين أو في كثرة الأجر كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم أو نأت بمثلها في التكليف والثواب كنسخ وجوب استقبال صخرة بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة فهما متساويان في الأجر أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) وهذا تنبيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وإنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهذا هو التنبيه على أنه تعالى إنما حسن منه التكليف لمحض كونه مالكا للخلق مستوليا عليهم لا لثواب يحصل ولا لعقاب يندفع. وَما لَكُمْ يا معشر اليهود مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ (107) يمنع عنكم عذابه. وفرق بين الوليد والنصير بأن الولي قد يعجز عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا عن المنصور ولما قالت اليهود: يا محمد ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة نزل قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أي أتريدون أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أي الرسول الذي جاءكم كَما سُئِلَ مُوسى أي سأله بنو إسرائيل رؤية الرب وغير ذلك مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الرسول وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) أي ومن يختر الكفر على الإيمان أي بأن يأخذ الكفر بدل الإيمان فقد أخطأ الطريق المستوي أي الحق وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي من أحبار اليهود كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا عمار ويا حذيفة ويا معاذ بن جبل مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بمحمد والقرآن كُفَّاراً أي تمنى كثير من اليهود أن يصيّروكم من بعد إيمانكم مرتدين.

[سورة البقرة (2) : الآيات 111 إلى 120]

روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة وعمّار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم! فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا، فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: أمر شديد. قال: فإني قد عاهدت الله تعالى أني لا أكفر بمحمد ما عشت، فقالت اليهود: أما هذا فقد صبا. وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبراه بذلك فقال: «أصبتما خيرا وأفلحتما» . فنزلت هذه الآية: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ في كتابهم أن محمدا هو الحق. وقالت صفية بنت حيي للنبي صلّى الله عليه وسلّم: جاء أبي وعمي من عندك، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول إنه النبي الذي بشّر به موسى عليه السلام. قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد. فَاعْفُوا أي اتركوهم فلا تؤاخذوهم وَاصْفَحُوا أي أعرضوا عنهم فلا تلوموهم حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فيهم أي بقتل بني قريظة وسبيهم، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم أو بإذنه في القتال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) فهو يقدر على الانتقام منهم من القتل والإجلاء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والواجبتين عليكم ولما أمر الله المؤمنين بالعفو والصفح عن اليهود أمرهم بما فيه صلاح أنفسهم فقال: أقيموا الصلاة. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي عمل صالح أي أيّ شيء من التطوعات تقدموه لمصلحة أنفسكم تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه مدخرا عند الله إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) فلا يضيع عنده عمل وَقالُوا عطف على ود لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت يهود المدينة: لن يدخل الجنة إلا اليهود ولا دين إلا دين اليهودية. وقالت نصارى نجران: لن يدخل الجنة إلا النصارى ولا دين إلا دين النصرانية. وقرأ أبيّ ابن كعب إلا من كان يهوديا أو نصرانيا أي قالوا ذلك لما تناظروا بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم تِلْكَ أي الأماني الباطلة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يروا المؤمنين كفارا وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أَمانِيُّهُمْ أي متمنياتهم على الله ما ليس في كتابهم قُلْ يا أشرف الخلق هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا حجتكم من كتابكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) في مقالتكم بَلى يدخل الجنة غيرهم مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي من أخلص نفسه لِلَّهِ لا يشرك به شيئا وَهُوَ مُحْسِنٌ في جميع أعماله فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعد له على عمله عِنْدَ رَبِّهِ أي في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدارين من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) من فوات مطلوب ولما قدم نصارى نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود فتخاصموا في الدين حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدين. وقالت النصارى لليهود: ما أنتم على شيء من الدين. أنزل الله تعالى هذه الآية وَقالَتِ الْيَهُودُ أي يهود المدينة لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ أي أمر يعتد به

من الدين. قاله رافع بن حرملة فكفر بعيسى والإنجيل وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ قاله رجل من أهل نجران فكفر بموسى والتوراة كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وَهُمْ أي الفريقان يَتْلُونَ الْكِتابَ المنزّل عليهم ويقولون ما ليس فيه وكان حق كل منهم أن يقر بحقيقة دين خصمه بحسب ما ينطق به كتابه فإن في كتاب اليهود تصديق عيسى وفي كتاب النصارى تصديق موسى كَذلِكَ أي مثل ذلك الذي سمعت به قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كتاب الله. قال السدي: هم العرب. وقال عطاء: هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى كما أخرجهما ابن جرير مِثْلَ قَوْلِهِمْ بدل من كذلك بيان للكاف أي لأهل كل دين أنهم ليسوا على شيء يصح فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ من الدين يَخْتَلِفُونَ (113) فيقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وقال الحسن: أي فالله يكذبهم جميعا ويدخلهم النار وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بالصلاة والتسبيح وَسَعى أي عمل فِي خَرابِها بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر أُولئِكَ المانعون الساعون في خرابها ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا بخشية وخضوع، وقيل: معنى هذه الجملة النهي عن تمكين الكفار من الدخول في المسجد. واختلف الأئمة في ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا، ومنعه مالك مطلقا، وفرّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم قريش كما قيل: إن هذه الآية نزلت في شأن مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدعاء إلى الله بمكة وألجأوه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام. وقد كان الصديق رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر، ومن طريق الغنوي عن ابن عباس أنهم النصارى كما نقل عن ابن عباس أن طيطيوس بن اسبيانوس الرومي- ملك النصارى- وأصحابه غزوا بني إسرائيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم، وأحرقوا التوراة، وخربوا بيت المقدس، وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير، ولم يزل بيت المقدس خرابا حتى بناه المسلمون في زمن عمر رضي الله عنه. ومعنى هذه الآية حينئذ ولا أحد أظلم في كفره ممن خرب بيت المقدس لكيلا يذكر فيه اسمه بالتوحيد والأذان وعمل في خرابه من إلقاء الجيف فيه. أولئك- أي أهل الروم- ما كان لهم أمن في دخوله إلا مستخفين من المؤمنين مخافة القتل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي هوان بالقتل والسبي وضرب الجزية عليهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وهو عذاب النار وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي له تعالى كل الأرض فإن منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو المسجد الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فَأَيْنَما تُوَلُّوا وجوهكم في الصلاة بأمره فَثَمَّ أي هناك وَجْهُ اللَّهِ أي قبلته كما قاله مجاهد. وقرئ بفتح التاء واللام

أي فأينما توجهوا إلى القبلة فثم مرضاة الله إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ برحمته يريد التوسعة على عباده عَلِيمٌ (115) بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها أي إن الله تعالى أراد تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب وجميع الجهات مملوكة له تعالى، فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل إن الله تعالى جعلها قبلة، فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده وكيف يريد. وقال ابن عباس: لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت هذه الآية ردا عليهم. وقال أبو مسلم: إن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى إنما استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام ولد هناك فرد الله عليهم بهذه الآية: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ أي صنع وَلَداً. وقرأ ابن عامر «قالوا» بغير واو قبل القاف أي قالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. وقال مشركوا العرب: الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى ردا عليهم: سُبْحانَهُ وهي كلمة تنزيه ينزه الله تعالى بها نفسه عما قالوه بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والملكية تنافي الوالدية أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) أي كل ما في السموات والأرض مطيعون له لا يستعصي شيء منهم على تكوينه ومشيئته فالطاعة هنا طاعة الإرادة لا طاعة العبادة بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي موجودهما بلا مثال وَإِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد إيجاد شيء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) أي أحدث فيحدث. وقوله «كن» تمثيل لسهولة حصول المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها من غير توقف كطاعة المأمور المطيع للآمر القوي المطاع، ولا يكون من المأمور الآباء. وقرأ ابن عامر «كن فيكون» بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران في قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [آل عمران: 3] . وفي الأنعام في قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ [الأنعام: 73] فإنه رفعها. وقرأ الكسائي بالنصب في النحل ويس، وبالرفع في سائر القرآن. والباقون بالرفع في كل القرآن. أما النصب فعلى جواب الأمر، وأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فهو يكون أو معطوف على «يقول» أو معطوف على «كن» من حيث المعنى كما هو قول الفارسي. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود منهم رافع بن حرملة كما أخرجه جرير عن ابن عباس أو النصارى كما قاله مجاهد ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي، أو هم كفار العرب كما أخرج عن قتادة لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا الله مشافهة من غير واسطة بالأمر والنهي كما يكلم الملائكة أو موسى وهو ينص على نبوتك وهذا منهم استكبار أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي فإن كان الله تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة تأتينا- وهذا منهم إنكار في كون القرآن آية

[سورة البقرة (2) : الآيات 121 إلى 130]

ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا ذلك- ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم مِثْلَ قَوْلِهِمْ في التشديد وطلب الآيات فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] وقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] وقالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: 138] وقالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة: 112] . تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي توافقت قلوبهم مع آبائهم واستوت كلمتهم في الكفر والعناد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي نزلناها بينة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) أي يطلبون اليقين. وحاصل هذا الجواب من الله تعالى أنا قد أيدنا قول محمد صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً أي إنا أرسلناك ملتبسا بالقرآن والدين لتكون مبشرا لمن اتبعك واهتدى بدينك، ومنذرا لمن كفر بك وضل عن دينك، أو المعنى إنا أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدّقك بالثواب، ونذيرا لمن كذّبك بالعذاب وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) . قرأ الجمهور برفع التاء واللام على الخبر أي ولست بمسؤول عنهم ما لهم لم يؤمنوا بما أنزل عليك بعد ما بلغت ما أرسلت به. وقرأ نافع بالجزم وفتح التاء على النهي أي لا تسأل عن حال كفار أهل الكتاب التي تكون لهم في القيامة ولا يمكنك في هذه الدار الاطلاع عليها وذلك إعلام بكمال شدة عقوبة الكفار فلا يستطيع السامع أن يسمع خبرها وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ أي لن ترضى عنك يهود المدينة ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع دينهم وقبلتهم، ولن ترضى عنك نصارى نجران ولو تركتهم ودينهم حتى تتبع ملتهم وقبلتهم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى أي قل لهم يا أشرف الخلق ردا لقولهم لك لن ترضى عنك حتى تتبع ديننا إن دين الله هو الإسلام، وإن قبلة الله هي الكعبة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ على سبيل التقدير أو المراد من هذا الخطاب أمته صلّى الله عليه وسلّم أَهْواءَهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء النفس وهي المعبر عنها أولا بقوله تعالى: مِلَّتَهُمْ إذ هم الذين ينتسبون إليها. أما الشريعة الحقيقية من الله فقد غيروها تغييرا، أي والله لئن اتبعت ملتهم وقبلتهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته في أن دين الله هو الإسلام وقبلة الله هي الكعبة ما لَكَ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعك وَلا نَصِيرٍ (120) يمنعك منه. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ عبد الله بن سلام وأصحابه وبحيرا الراهب، وأصحابه والنجاشي وأصحابه يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما أنزل لا يغيرونه ولا يبدلون ما فيه من نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتدبرون في معانيه ويخضعون عند تلاوته ويبينون أمره ونهيه لمن سألهم أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بكتابهم، وبمتشابهه ويتوقفون فيما أشكل عليهم منه ويفوضونه

إلى الله تعالى ويعملون بمحكمه وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالكتاب المؤتى بأن يغيره فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) حيث اشتروا الكفر بالإيمان. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ومن جملة النعمة: التوراة وذكر النعمة إنما يكون بشكرها، وشكرها الإيمان بجميع ما فيها، ومن لازم الإيمان بها الإيمان بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نعت النبي من جملة ما فيها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ بالإسلام عَلَى الْعالَمِينَ (122) أي الموجودين في زمانكم وَاتَّقُوا يَوْماً أي اخشوا عذاب يوم لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من عذاب الله وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ أي فداء وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) أي يمنعون مما يريد الله بهم، ثم ذكر الله تعالى قصة إبراهيم توبيخا لأهل الملل المخالفين، وذلك لأن إبراهيم يعترف بفضله جميع الطوائف قديما وحديثا، فالمشركون كانوا متشرفين بأنهم من أولاده. ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أمورا توجب على المشركين واليهود والنصارى قبول قول محمد صلّى الله عليه وسلّم والانقياد لشرعه، لأن ما أوجبه الله تعالى على إبراهيم جاء به محمد كأفعال الحج واستقبال الكعبة وفي ذلك حجة عليهم فقال تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بأوامر ونواه. قيل: قال ابن عباس وقتادة: هي مناسك الحج كالإحرام والطواف والسعي والرمي. وقال ابن عباس: هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه، وهي سنة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الرأس أي فرق شعره إلى الجانب الأيمن والجانب الأيسر، وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء. وقرأ ابن عباس وأبو حيوة إبراهيم ربه برفع إبراهيم ونصب ربه، والمعنى أن إبراهيم دعا ربه بكلمات من الدعاء كفعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا؟ فَأَتَمَّهُنَّ أي قام بها حق القيام وأداها أحسن التأدية من غير تفريط قالَ تعالى له إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي قدوة في الدين إلى يوم القيامة. والذي يكون كذلك لا بدّ وأن يكون رسولا من عند الله مستقلا بالشرع وأن يكون نبيا إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأمورا باتباعه في الجملة. قالَ أي إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من بعض أولادي أئمة يقتدى بهم في الدين. قالَ الله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) أي لا يصيب عهدي بالإمامة والنبوة الكافرين. وكل عاص فإنه ظالم لنفسه. وقرأ قتادة والأعمش وأبو رجاء «الظالمون» رفعا بالفاعلية و «عهدي» مفعول به وفي هذا دليل على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر مطلقا وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي جميع الحرم مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مرجعا لهم فإنهم يثوبون إليه كل عام بأعيانهم أو بأمثالهم كما قاله الحسن. أو

المراد لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه كما قاله ابن عباس ومجاهد. أو المعنى جعلنا الكعبة موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره وَأَمْناً أي موضع أمن لمن يسكنه ويلجأ إليه من الأعداء والخسف والمسخ أو آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله وحمل بعضهم هذه الكلمة على الأمر على سبيل التأويل. والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمنا من الغارة والقتل فكان البيت محترما بحكم الله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان: ربنا نقبل منا إنك أنت السميع العليم فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي و «اتخذوا» بكسر الخاء على صيغة الأمر. قال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده وعلى هذا فهذه الجملة كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام فكأنه تعالى قال: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا- أنتم يا أمة محمد- من مقام إبراهيم مصلى. والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمنا فاتخذوه قبلة لأنفسكم. وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على صيغة الماضي فهو إخبار عن ولد إبراهيم إنهم اتخذوا من مقامه مصلى. وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن أسساه على التقوى. وقيل: معناه عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا فيه لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) جمع راكع وساجد. فالمراد بالطائفين: من يقصد البيت حاجا أو معتمرا فيطوف به. وبالعاكفين: من يقيم هناك ويجاور. وبالركع السجود: من يصلي هناك. قال عطاء: فإذا كان الشخص طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود ثم إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة. روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الحرم بَلَداً آمِناً أي كثيرا لخصب فإن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمنا وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وأيضا إن الخصب مما يدعو الإنسان إلى تلك البلدة فهو سبب اتصاله في الطاعة وَارْزُقْ أَهْلَهُ أي الحرم مِنَ الثَّمَراتِ وقد حصل في مكة الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. روي أن الطائف كانت من مدائن الشام في أردن فلما دعا إبراهيم بهذا الدعاء أمر الله تعالى

جبريل عليه السلام حتى قطعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا، ثم وضعها موضعها الآن فمنها أكثر ثمرات مكة مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أهله بدل البعض خصهم سيدنا إبراهيم بالدعاء مراعاة لحسن الأدب وفي ذلك ترغيب لقومه في الإيمان. قالَ تعالى: وَمَنْ كَفَرَ أي أرزقه فَأُمَتِّعُهُ بالرزق قَلِيلًا أي مدة عمره. وقرأ ابن عباس بسكون الميم. ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي ألجئه في الآخرة إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) هي النار وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ أي وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل الجدران التي هي من البيت أي التي هي بعضه المستتر من الأرض. قيل: بنى إبراهيم البيت من خمسة أجبل: طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان والجودي، وأسسه من حراء. وجاء جبريل عليه السلام بالحجر الأسود من السماء وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا بناءنا بيتك إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ (127) بنياتنا في جميع أعمالنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ أي مخلصين لَكَ بالتوحيد والعبادة لا نعبد إلا إياك وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ أي واجعل بعض أولادنا جماعة مخلصة لك وَأَرِنا مَناسِكَنا أي علمنا سنن حجنا وَتُبْ عَلَيْنا أي تجاوز عن تقصيرنا والعبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ أي المتجاوز لمن تاب الرَّحِيمُ (128) به رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي في ذريتنا رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ولذلك قال: «أنا دعوة أبي إبراهيم» «1» . أخرجه أحمد من حديث العرباض بن سارية وغيره. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يذكرهم بالآيات ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه وَالْحِكْمَةَ قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قول قتادة. وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من شركهم إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي القادر الذي لا يغلب الْحَكِيمُ (129) أي العالم الذي لا يجهل شيئا. هاهنا سؤال: ما الحكمة في ذكر إبراهيم مع محمد في باب الصلاة حيث يقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؟ فجوابه: أن إبراهيم دعا لمحمد بهذه الدعوة فأجرى الله ذكر إبراهيم على ألسنة أمة محمد إلى يوم القيامة أداء عن حق واجب على محمد لإبراهيم. والجواب الثاني: أن إبراهيم سأل ربه بقوله: «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» أي أبق لي ثناء حسنا في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأجابه الله تعالى فقرن بين ذكرهما إبقاء للثناء الحسن على إبراهيم في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (1: 39) ، والقرطبي في التفسير (2: 131) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 131 إلى 140]

والجواب الثالث: أن إبراهيم كان أبا الملة، ومحمدا كان أبا الرحمة. وفي قراءة ابن مسعود النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا لكم مثل الوالد» «1» . أي في الرأفة والرحمة. فلما وجب لكل واحد منهما حق الأبوة من وجه قرن بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة. والجواب الرابع: أن إبراهيم كان منادي الشريعة في الحج ومحمدا كان منادي الإيمان، فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي لا يكره أحد ملة إبراهيم إلا من جهل نفسه وخسر نفسه كما قاله الحسن أي فلم يفكر في نفسه فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله وعلى حكمته ثم يستدل بذلك على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا أي اخترناه في الدنيا للرسالة من دون سائر الخليقة عرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) أي مع آبائه المرسلين في الجنة إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ عند استدلاله بالكواكب والقمر والشمس واطلاعه أمارات الحدوث فيها وذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك حين خرج من السرب أَسْلِمْ أي فزد في مقالتك وقل لا إله إلا الله. قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) ويقال: قال له ربه حين دعا قومه إلى التوحيد أسلم أي أخلص دينك وعملك لله قال: أسلمت، أي أخلصت ديني وعملي لله رب العالمين. ويقال: قال له ربه حين ألقي في النار أسلم نفسك إليّ، قال: أسلمت نفسي لله رب العالمين، أي فوضت أمري إليه وقد حقق ذلك حيث لم يستغن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار وَوَصَّى. وقرأ نافع وابن عامر «وأوصى» بهمزة مفتوحة قبل واو ساكنة بِها أي باتباع الملة إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وكانوا ثمانية إسماعيل وهو أول أولاده وأمه هاجر القبطية وإسحاق وأمه سارة، والبقية وهم: مدن، ومدين، ويقشان، وزمران، وأشبق، وشوح أمهم قنطوراء الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة. وَيَعْقُوبُ والأشهر أنه معطوف على إبراهيم، ويجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر والمعنى أن يعقوب وصى كوصية إبراهيم. وقرئ بالنصب عطفا على نبيه، والمعنى وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب يا بَنِيَّ هو على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لأنه في معنى القول إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى أي اختار لَكُمُ الدِّينَ أي

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، والدارمي في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالأحجار، وابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة، وأحمد في (م 2/ ص 247) .

دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أي فاثبتوا على الإسلام حتى تموتوا مسلمين مخلصين له تعالى بالتوحيد والعبادة. روي أن اليهود قالوا لرسول صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات فنزلت هذه الآية: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي أكنتم يا معشر اليهود حضراء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ بماذا أوصى بنيه باليهودية أو الإسلام أي حضره أسباب الموت إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أيّ شيء تعبدونه بعد موتي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) أي مقرون بالعبادة والتوحيد تِلْكَ أي إبراهيم ويعقوب وبنوهما أُمَّةٌ أي جماعة قَدْ خَلَتْ أي مضت بالموت لَها أي لتلك الأمة ما كَسَبَتْ من الخير أي جزاؤه وَلَكُمْ أي يا معشر اليهود ما كَسَبْتُمْ أي جزاء ما كسبتموه من العمل وَلا تُسْئَلُونَ يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) كما لا يسألون عن عملكم. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا صفية عمة محمد، يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئا» «1» . وقال: «ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه» «2» . وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي قالت يهود المدينة للمؤمنين: كونوا هودا أي اتبعوا اليهودية، وقالت: نصارى نجران للمؤمنين: كونوا نصارى أي اتبعوا النصرانية تَهْتَدُوا من الضلالة قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي قل يا أشرف الخلق بل اتبعوا ملة إبراهيم أي بل نكون أهل ملة إبراهيم حَنِيفاً أي مستقيما مخالفا لليهود والنصارى منحرفا عنهما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) أي ما كان إبراهيم على دينهم وهذا أعلاه ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم: عزير بن الله والمسيح بن الله قُولُوا أيها المؤمنون لهؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لكم ذلك آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وهو القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ من الصحف العشرة وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم بنو يعقوب وكانوا اثني عشر رجلا، وهم يوسف وبنيامين، وروبيل ويهوذا، وشمعون ولاوى ودان، ونفتالى وجادور بالون، ويشجر. ودان والصحف إنما أنزلت على إبراهيم لكن لما كانوا متعبدين بتلك الصحف كانوا داخلين تحت أحكامها فكانت منزلة إليهم أيضا كما أن القرآن منزل إلينا وَما أُوتِيَ مُوسى من التوراة

_ (1) رواه أبو عوانة في المسند (1: 95) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9: 138) ، والطبراني في المعجم الكبير (19: 7) . (2) رواه أبو داود في كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي في كتاب القرآن، باب: 10، وابن ماجة في المقدّمة، باب: الحث على طلب العلم، والدارمي في المقدّمة، باب: في فضل العلم والعالم، وأحمد في (م 2/ ص 252) .

وَعِيسى من الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ من كتبهم والمعجزات لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بجميعهم وَنَحْنُ لَهُ أي لله مُسْلِمُونَ (136) أي مخلصون فَإِنْ آمَنُوا أي اليهود والنصارى بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا أي فإن آمنوا بالتوراة من غير تصحيف وتحريف كما أنكم آمنتم بالقرآن من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتوصلون بذلك إلى معرفة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أو المعنى فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا من الضلالة بدين محمد وإبراهيم وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان بالنبيين وكتبهم فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي فإنما هم مستقرون في خلاف عظيم بعيد من الحق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي سيكفيك الله شقاقهم وقد أنجز الله تعالى وعده بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير وضرب الجزية عليهم وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) فيدرك ما يقولون وما يضمرون وقادر على عقوبتهم صِبْغَةَ اللَّهِ أي اطلبوا صبغة الله وهي دين الإسلام عبّر بها عن الدين لكونه تطهير للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثارهم الجميلة ومتداخلا في قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى أي ثوب كذلك كما قيل: إنما سمي دين الله بصبغة الله لأن اليهود تصبغ أولادها يهودا، والنصارى تصبغ أولادها نصارى. بمعنى إنهم يلقنونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم. فقال تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ أي اتبعوا دين الله. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى لأنه تعالى يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر وَنَحْنُ لَهُ أي لله الذي أعطانا تلك النعمة الجليلة عابِدُونَ (138) شكرا لها ولسائر نعمه قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي في شأن الله أن اصطفى رسوله من العرب لا منكم وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فإنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا يرجع إلينا من أفعالكم ضرر وإنما مرادنا نصحكم وإرشادكم وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) في العبودية ولستم كذلك فنحن أولى بالاصطفاء أَمْ تَقُولُونَ. قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة ف «أم» يحتمل أن تكون متصلة معادلة للهمزة والتقدير بأيّ الحجتين تتعلقون في أمرنا بالتوحيد أم باتباع دين الأنبياء، وأن تكون منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام. وقرأه الباقون بالياء على صيغة الغيبة ف «أم» منقطعة غير داخلة تحت الأمر واردة من الله تعالى توبيخا لهم لا من جهة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نهج الالتفات. إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ أي أولاد يعقوب كانُوا قبل نزول التوراة والإنجيل هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ يا أشرف الخلق لهم: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم أَمِ

[سورة البقرة (2) : الآيات 141 إلى 150]

اللَّهُ فإن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم أنهم كانوا مسلمين مبرئين من اليهودية والنصرانية وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة عِنْدَهُ كائنة مِنَ اللَّهِ وهو شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بدين الإسلام والبراءة من اليهودية والنصرانية وهم اليهود وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) أي تكتمون من الشهادة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) هذا تكرير ليكون وعظا لليهود وزجرا لهم حتى لا يتكلموا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الجهال الذي خفت أحلامهم مِنَ النَّاسِ وهم اليهود كما قاله ابن عباس ومجاهد لإنكار النسخ وكراهة التوجه إلى الكعبة. والقائل منهم رفاعة بن قيس وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن حرملة والحجاج بن عمرو والربيع بن أبي الحقيق. وقيل: هم المنافقون كما قاله السدي لمجرد الاستهزاء والطعن. وقيل: هم مشركو العرب كما قاله ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم للطعن في الدين ما وَلَّاهُمْ أي أيّ شيء صرف المؤمنين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها وهي بيت المقدس قُلْ لهم يا أشرف الخلق لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الجهات كلها ملكا والخلق عبيده لا يختص به مكان وإنما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) أي موصل إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة تارة أخرى وَكَذلِكَ أي كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا عدولا ممدوحين بالعلم والعمل لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي يشهد بعدالتكم. روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم. فيقولون: أمة محمد يشهدون لنا فيؤتى بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون فتقول الأمم الماضية: من أين عرفتم وأنتم بعدنا؟ فيقولون: علمنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وقيل: معنى قوله تعالى: ويكون الرسول عليكم شهيدا أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا ادعى على أمته أنه بلغهم تقبل منه هذه الدعوى ولا يطالب بشهيد يشهد له فسميت دعواه شهادة من حيث قبولها وعدم توقفها على شيء آخر وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي وما صيرنا لك القبلة الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي الكعبة إلا لنعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ من يتبع الرسول في التوجه إلى ما أمر به ممن يرتد عن دين الإسلام. وكان صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى الكعبة فلما هاجر أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود فصلى إليها سبعة عشر شهرا

ثم حوّل إلى الكعبة وارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا: رجع محمد إلى دين آبائه وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة أي وإنها كانَتْ أي التولية إلى الكعبة لَكَبِيرَةً أي شاقة على الناس إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ منهم وهم الثابتون على الإيمان وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي ثباتكم على الإيمان بل أعد لكم الثواب العظيم. وقيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها، أي فإن الله لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ أي بالمؤمنين لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) فلا يدع صلاتهم إلى بيت المقدس. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ف «قد» للتكثير أي كثيرا نرى تصرف نظرك في جهة السماء انتظارا للوحي وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يترجى من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم أبيه وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرة لهم، ولمخالفة اليهود فكان ينتظر نزول جبريل بالوحي بالتحويل فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أي فلنحولنك في الصلاة إلى القبلة تحبها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها في قلبك فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي فاصرف جملة بدنك تلقاء الكعبة أي استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيدا عنها والمراد بالمسجد الحرام هنا الكعبة كما هو في أكثر الروايات. وقال آخرون: المراد بالمسجد الحرام جميع المسجد الحرام. وقال آخرون: والمراد به الحرم كله. روي عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ أي في أيّ موضع كنتم يا أمة محمد منه برّ أو بحر، مشرق أو مغرب فاصرفوا وجوهكم تلقاء المسجد الحرام الذي هو بمعنى الكعبة وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هم أحبار اليهود وعلماء النصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التولي إلى الكعبة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لمعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، ولكن يكتمونه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) . قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء إما خطاب للمسلمين أي وما الله بساه عما تعملون أيها المسلمون من امتثال أمر القبلة، وإما خطاب لأهل الكتاب. أي وما الله بغافل عما تكتمون يا أهل الكتاب خبر الرسول وخبر القبلة. وقرأ الباقون بالياء على أنه راجع لهؤلاء وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أي والله لئن جئت الذين أعطوا الكتاب اليهود والنصارى بكل حجة قطعية دالة على صدقك في أن تحولك بأمر من الله ما صلوا إلى قبلتك وما دخلوا في دينك وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي اليهود والنصارى وهذا بيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة وحسم أطماع أهل الكتاب. وقرئ بتابع قبلتهم بالإضافة وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الأمور التي

يحبونها منك مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الوحي في أمر القبلة بأنك لا تعود إلى قبلتهم إِنَّكَ إِذاً أي إنك لو فعلت ذلك على سبيل تقدير المستحيل وقوعه لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) لأنفسهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم علم التوراة يَعْرِفُونَهُ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معرفة جلية يميّزون بينه وبين غيره كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا تشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعبد الله بن سلام رضي الله عنه: كيف هذه المعرفة المذكورة في هذه الآية فقال عبد الله: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بابني. فقال عمر: فكيف ذلك؟ فقال: أشهد أنه رسول الله حقا وقد نعته الله تعالى في كتابنا ولا أدري ما تصنع النساء، فقبّل عمر رأسه وقال: وفقك الله يا أبا سلام فقد صدقت وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) أن صفة محمد مكتوبة في التوراة والإنجيل وأن كتمان الحق معصية الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ وخبر أي الحق الذي أنت عليه يا رسول الله كائن من ربك ويحتمل أن الحق خبر مبتدأ محذوف أي ما كتموه هو الحق، وقرأ علي رضي الله عنه الحق من ربك بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) أي الشاكين في أن علماء أهل الكتاب علموا صحة نبوّتك وشريعتك لِكُلٍّ وِجْهَةٌ. قال بعضهم: أي لكل قوم من المسلمين جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية، أو شرقية أو غربية. وقال آخرون: ولكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك حتى عيسى عليه السلام بيت المقدس، وقبلتك الكعبة وهي قبلة إبراهيم هوَ أي الله موَلِّيها أي أمر بأن يستقبلها، في قراءة عبد الله بن عامر النخعي هو مولاها وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي الباقر. والمعنى هو أي كل قوم مولى لتلك الجهة، وقرئ ولكل وجهة بالإضافة فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي فبادروا يا أمة محمد إلى الطاعات وقبول أوامرها أيْنَ ما تَكُونُوا أي في أيّ موضع تكونوا من بر أو بحر يأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي يجمعكم الله يوم القيامة فيجزيكم على الخيرات إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) من جمعكم وغيره وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أي من أيّ مكان خرجت إليه للسفر فَوَلِّ وَجْهَكَ عند صلاتك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ أي هذا الأمر لَلْحَقُّ أي الثابت الموافق للحكمة مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) قرأه أبو عمرو بالياء على الغيبة وهو راجع للكفار أي من إنكار أمر القبلة والباقون بالتاء على الخطاب وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة فَوَلِّ وَجْهَكَ في الصلاة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي تلقاءه وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين في بر أو بحر فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في الصلاة من محالكم شَطْرَهُ أي المسجد

[سورة البقرة (2) : الآيات 151 إلى 160]

الحرام وكرر الله تعالى أمر التولي لشطر المسجد الحرام ثلاث مرات لتأكيد أمر القبلة، لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة مع أنه تعالى علّق بكل آية فائدة أما في الآية الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل، وأما في الآية الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقا مغايرا لعلم أهل الكتاب بكونه حقا، وأما في الآية الثالثة فبين أنه تعالى قطع حجة اليهود والمشركين، وذلك قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ أي اليهود والمشركين عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ أي مجادلة في التولي. والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بأن محمدا يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وذلك مدفوع بأن المنعوت في التوراة قبلته صلّى الله عليه وسلّم الكعبة وتدفع احتجاج المشركين بأنه صلّى الله عليه وسلّم يدّعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي إلا المعاندين منهم فإنهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا مطاعنتهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم وَاخْشَوْنِي أي احذروا عقابي فلا تخالفوا أمري وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بالقبلة كما أتممت عليكم بالدين وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) إلى الحق كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ أي من نسبكم وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا إما متعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول. وإما متعلق بما بعده أي كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا أي يقرأ عليكم القرآن بالأمر والنهي وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الذنوب بالتوحيد والصدقة وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ أي معاني القرآن وَالْحِكْمَةَ أي السنة وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) أي يعلمكم أخبار الأمم الماضية وقصص الأنبياء وأخبار الحوادث المستقبلة فَاذْكُرُونِي باللسان والقلب والجوارح فالصلاة مشتملة على الثلاثة. فالأول: كالتسبيح والتكبير. والثاني: كالخشوع وتدبر القراءة. والثالث: كالركوع والسجود. أَذْكُرْكُمْ بالإحسان والرحمة والنعمة في الدنيا والآخرة وَاشْكُرُوا لِي نعمتي بالطاعة وَلا تَكْفُرُونِ (152) أي لا تتركوا شكرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على تمحيص الذنوب بِالصَّبْرِ على أداء فرائض الله وترك المعاصي وعلى المرازي وَالصَّلاةِ أي بكثرة صلاة التطوع في الليل والنهار إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) بالنصر وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ كسائر الأموات بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم كإحياء أهل الجنة في الجنة يرزقون من التحف وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) بحياتهم وحالهم. قال ابن عباس: نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. فالمهاجرون: عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب وعمرو بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله. والأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن

[سورة البقرة (2) : الآيات 161 إلى 170]

المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء. وكان الناس يقولون: مات فلان ومات فلان، فنهى الله تعالى أن يقال فيهم إنهم ماتوا. وقال آخرون: إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلبا لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت تلك الآية وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي والله لنصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أم لا؟ بِشَيْءٍ أي بقليل مِنَ الْخَوْفِ من العدو وَالْجُوعِ في قحط السنين وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالهلاك وَالْأَنْفُسِ بالقتل والموت وَالثَّمَراتِ بالجوانح. قال الشافعي رضي الله عنه: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكاة والصدقات، والنقص من الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه البشارة. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا باللسان والقلب معا إِنَّا لِلَّهِ أي نحن عبيد الله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) بعد الموت. قال أبو بكر الوراق: «إنا لله» إقرار منا بالملك له تعالى وإنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلاك أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ أي مغفرة مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ أي لطف وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) للاسترجاع حيث سلموا لقضاء الله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من علامات مواضع العبادات لله بالحج والعمرة. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي فلا إثم عليه في أن يسعى بينهما سبعا. قال ابن عباس: كان على الصفا صنم اسمه أساف، وعلى المروة صنم آخر اسمه نائلة. وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأذن الله تعالى فيه وأخبر أنه من شعائر الله لا من شعائر الجاهلية وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة عَلِيمٌ (158) أي يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ هي كل ما أنزله الله على الأنبياء وَالْهُدى أي ما يهدى في وجوب اتباعه صلّى الله عليه وسلّم والإيمان به من الدلائل العقلية والنقلية مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي لبني إسرائيل فِي الْكِتابِ أي التوراة أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم من رحمته وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهم العنهم، وهؤلاء دواب الأرض. كذا قال مجاهد أخرجه سعيد بن منصور وغيره. وقال قتادة والربيع هم الملائكة والمؤمنون أخرجه ابن جرير. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي ندموا على ما فعلوا وَأَصْلَحُوا بالعزم على عدم العود وَبَيَّنُوا ما كتموه فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أي أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ أي القابل لتوبة من تاب الرَّحِيمُ (160) أي المبالغ في نشر الرحمة لمن مات على التوبة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالكتمان وغيره وَماتُوا وَهُمْ

كُفَّارٌ بالله ورسوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) حتى أهل دينهم فإنهم يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا خالِدِينَ فِيها أي اللعنة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ طرفة عين وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) أي يؤجلون من العذاب فإذا استمهلوا لا يمهلون، وإذا استغاثوا لا يغاثون وَإِلهُكُمْ أي المستحق منكم العبادة إِلهٌ واحِدٌ أي فرد في الإلهية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود لنا موجود إلّا الإله الواحد الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) خبران آخران للمبتدأ، فالرحمن المبالغ في النعمة والرحيم كثير النعمة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) اعلم أنه تعالى لما حكم بالوحدانية ذكر ثمانية أنواع من الدلائل التي يمكن أن يستدل بها على وجوده تعالى وعلى براءته من الأنداد. النوع الأول: السموات والأرض والآيات في السماء هي: سمكها وارتفاعها بغير عمد ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآيات في الأرض مدّها وبسطها على الماء، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار، والثمار. النوع الثاني: الليل والنهار والآيات فيهما تعاقبهما بالمجيء والذهاب، واختلافهما في الطول والقصر، والزيادة والنقصان. والنور والظلمة وانتظام أحوال العباد في معاشهم بالراحة في الليل والسعي في الكسب في النهار. النوع الثالث: السفن والآيات فيها جريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرحال فلا ترسب، وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة وتسخير البحر لحمل السفن مع قوة سلطان الماء، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلا الله تعالى. النوع الرابع: ركوب السفن والحمل عليها في التجارة والآيات في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلوب من يركب هذه السفن لما تمّ الغرض في تجاراتهم ومنافعهم، وأيضا فإن الله تعالى خصّ كل قطر من أقطار العالم بشيء معين فصار ذلك سببا يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وجوف البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه. النوع الخامس: نزول المطر من السماء والآيات في ذلك أن الله جعل الماء سببا لحياة جميع الموجودات من حيوان ونبات، وأنه ينزله عند الحاجة إليه بمقدار المنفعة وعند الاستسقاء وينزله بمكان دون مكان.

النوع السادس: انتشار كل دابة في الأرض والآيات في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم مع ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك، ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان. النوع السابع: الريح والآيات فيه أنه جسم لطيف لا يمسك ولا يرى، وهو مع ذلك في غاية القوة بحيث يقلع الشجر والصخر ويخرب البنيان وهو مع ذلك حياة الوجود فلو أمسك طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن على ما وجه الأرض. النوع الثامن: السحاب والآيات في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأودية العظيمة يبقى معلقا بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه ولا دعامة تسنده. قال القاضي زكريا: إن السحاب من شجرة مثمرة في الجنة والمطر من بحر تحت العرش وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أي ومن الكفار من يعبد من غير الله أوثانا يُحِبُّونَهُمْ حبا كائنا كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبهم لله تعالى أي يسوّون بينه تعالى وبين الأصنام في الطاعة والتعظيم أو يحبون عبادتهم أصنامهم كحب المؤمنين إلى الله تعالى بالعبادة وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من الكفار لأصنامهم فإن المؤمنين لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة وعند زوال الحاجة يرجعون إلى الأصنام. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) . قرأ الجمهور ولو يرى بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من أن عند القراء السبع. والمعنى لو لم يعلم الذين أشركوا بالله شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أندادا، وعلى قراءة بعض القراء غير السبع بكسر الهمزة من إن كان التقدير ولو يعلم الذين ظلموا بعبادة الأصنام عجزها حال مشاهدتها عذاب الله لقالوا: إن القوة لله. وقرأ نافع وابن عامر «ترى» بالتاء المنقوطة من فوق مع فتح الهمزة على الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والمعنى ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، ترى أن القوة لله جميعا ولو كسرت الهمزة كان المعنى ولو ترى الذين أشركوا إذ يرون العذاب لقلت: إن القوة لله جميعا. وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا أي القادة وهم الرؤساء من مشركي الإنس مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي السفلة وَرَأَوُا الْعَذابَ أي وقد رأى القادة والسفلة العذاب في الآخرة وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) أي تقطعت عنهم المواصلات والأرحام والأعمال والعهود والألفة بينهم أي أنكر القادة إضلال السفلة يوم القيامة حين يجمعهم الله وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي السفلة لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي القادة هناك كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ أي كما أراهم

[سورة البقرة (2) : الآيات 171 إلى 180]

الله شدة عذابه يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي ندامات شديدة عَلَيْهِمْ أي على تفريطهم وَما هُمْ أي القادة والسفلة بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) بعد دخولها يا أَيُّهَا النَّاسُ. قال ابن عباس: نزلت الآية في الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر وهم قوم من ثقيف، وبني عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبني مدلج كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ أي من الحرث والأنعام حَلالًا طَيِّباً أي مباحا بأن لا يكون متعلقا به حق الغير وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تقتدوا طرق وساوس الشيطان في تحريم الحرث والأنعام إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) أي ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ أي القبيح من الذنوب التي لا حد فيها وَالْفَحْشاءِ أي المعاصي التي فيها حد وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) أي وبأن تفتروا على الله ما لا تعلمون أن الله تعالى حرم هذا وذاك وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمشركي العرب اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من التوحيد وتحليل الطيبات قالُوا لا نتبعه بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما وجدناهم عليه من عبادة الأصنام وتحريم الطيبات ونحو ذلك قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ أي أيتبعونهم وإن كان آباؤهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ (170) إلى الحق وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً أي وصفة الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم كصفة الراعي الذي يصوت على ما لا يسمع من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعي من غير فهم لكلامه أصلا، فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة فكذا التقليد. ويقال: مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم للأوثان كمثل الراعي الذي يتكلم مع البهائم فكما يحكم على الراعي بقلة العقل فكذا هؤلاء صُمٌّ لأنهم لم يسمعوا الحق بُكْمٌ لأنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه عُمْيٌ لأنهم أعرضوا عن الدلائل فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) أي لا يفقهون أمر الله ودعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم كما لا تفهم البهائم كلام الراعي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي كلوا من حلالات ما أعطيناكم من الحرث والأنعام وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على ما رزقكم من الطيبات إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه تعالى هو المنعم لا غير فإن الشكر رأس العبادات إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها والانتفاع بها وهي التي ماتت على غير ذكاة أما السمك والجراد فهما خارجان عنهما باستثناء الشرع كخروج الطحال من الدم وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أي جميع أجزائه وإنما خصّ اللحم لأنه المقصود بالأكل وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فما موصول وبه نائب الفاعل والباء بمعنى في مع حذف مضاف. والمعنى وما صيح في ذبحه لغير الله والكفار يرفعون الصوت لآلهتهم عند الذبح. وقال الربيع بن أنس وابن زيد: والمعنى وما ذكر عليه غير اسم الله وعلى هذا فغير الله نائب

الفاعل واللام صلة. قال العلماء: لو أن مسلما ذبح ذبيحة وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتدا وذبيحته ذبيحة مرتد فَمَنِ اضْطُرَّ أي أحوج إلى أكل ما ذكر بأنه أصابه جوع شديد ولم يجد حلالا يسدّ به الرمق أو أكره على تناول ذلك غَيْرَ باغٍ أي غير طالب للذة وَلا عادٍ أي متجاوز سد الجوعة كما نقل عن الحسن وقتادة والربيع، ومجاهد وابن زيد. وقيل: غير باغ على الوالي ولا عاد على المسلمين بقطع الطريق وعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في أكل ما ذكر. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أكل في حال الاضطرار رَحِيمٌ (173) حيث أباح في تناول قدر الحاجة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على الأحكام من المحللات والمحرمات وعلى نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي بالكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي إلا الحرام الذي هو سبب النار يوم القيامة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بكلام طيب يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) يخلص ألمه إلى قلوبهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أي أولئك الكاتمون اختاروا ما تجب به النار على ما تجب به الجنة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) أي فما أجرأهم على النار ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ذلك الوعيد معلوم لهم بسبب أن الله نزل الكتاب بالصدق أو ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب ببيان الحق وهم قد حرفوا تأويله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) أي لفي خلاف بعيد عن الهدى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في الصلاة قِبَلَ الْمَشْرِقِ أي جهة الكعبة وَالْمَغْرِبِ أي جهة بيت المقدس. وقرأ حفص وحمزة بنصب «البر» على أنه خبر مقدم وَلكِنَّ الْبِرَّ ولكن الشخص البر مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ أي مع حب المال وهو أن يؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ذَوِي الْقُرْبى أي القرابة وَالْيَتامى أي المحاويج منهم وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ أي مار الطريق وَالسَّائِلِينَ أي الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال وَفِي الرِّقابِ أي في المكاتبين. وقيل: في اشتراء الرقاب لإعتاقها وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة منها وَآتَى الزَّكاةَ أي المفروضة وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ عطف على من آمن إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الناس وَالصَّابِرِينَ مفعول لفعل محذوف كاذكر فِي الْبَأْساءِ أي الخوف والبلايا والشدائد وَالضَّرَّاءِ أي الأمراض والأوجاع والجوع وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت شدة القتال في سبيل الله أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الدين وطلب البر وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) عن الكفر.

تنبيه: قوله «ليس البر» هو اسم جامع لكل طاعة، ثم قوله: ولكن البر هو اسم فاعل والأصل برر بكسر الراء الأولى فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الراء إلى الباء بعد سلب حركتها أو مصدر بمعنى اسم الفاعل الذي هو البار كما هو القراءة الشاذة، واختلف في المخاطب بهذه الآية. فقال بعضهم: المراد مخاطبة اليهود لما شددوا في الثبات على التوجه جهة بيت المقدس. فقال تعالى: ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله. وقال بعضهم: بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام. وقال بعضهم: بل هو خطاب للكل. وقال الله تعالى: إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور. أحدها: الإيمان بالله فأهل الكتاب أخلّوا بذلك فإن اليهود قالوا بالتجسيم ووصفوا الله تعالى بالبخل، وقالوا عزير ابن الله. وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله. وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، فاليهود أخلّوا بهذا الإيمان حيث قالوا: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة والنصارى أنكروا المعاد الجسماني. وثالثها: الإيمان بالملائكة، فاليهود أخلّوا بذلك حيث أظهروا عداوة جبريل عليه السلام. ورابعها: الإيمان بكتب الله، فاليهود والنصارى قد أخلّوا بذلك حيث لم يقبلوا القرآن. وخامسها: الإيمان بالنبيين، واليهود أخلّوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء وطعنوا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسادسها: بذل الأموال على وفق أمر الله تعالى، واليهود أخلّوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل. وسابعها: إقامة الصلوات والزكوات، فاليهود كانوا يمنعون الناس منهما. وثامنها: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوا العهد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي فرض عليكم المماثلة وصفا وفعلا فِي الْقَتْلى أي بسبب قتل القتلى عند مطالبة الولي بالقصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ أي الحر يقتل بقتل الحر لا بقتل العبد وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وبالحر من باب أولى وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وبيّنت الأحاديث أنه يقتل أحد النوعين الذكر والأنثى بالآخر ويعتبر أن لا يفضل القاتل القتيل بالدين والأصلية والحرية. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فمن سهل له من أولياء الدم من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فعلى ولي الدم مطالبة ذلك المال من ذلك القاتل من غير تشديد بالمطالبة، وعلى القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير

[سورة البقرة (2) : الآيات 181 إلى 190]

مماطلة وبخس بل على بشر وطلاقة، وقول جميل ومعنى هذه الآية إن الله تعالى حثّ الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفو عن القود. ذلِكَ أي الحكم من جواز القصاص والعفو عنه على الدية تَخْفِيفٌ في حقكم مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ للقاتل من القتل لأن العفو وأخذ الدية محرمان على اليهود بل فرض عليهم القصاص وحده والقصاص والدية محرمان على النصارى بل فرض عليهم العفو على الإطلاق وفي ذلك تضييق على كل من الوارث والقاتل، وهذه الأمة مخيّرة بين الثلاث: القصاص، والدية، والعفو تيسيرا عليهم فَمَنِ اعْتَدى أي جاوز الحد بَعْدَ ذلِكَ أي بعد بيان كيفية القصاص والدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) أي شديد الألم في الآخرة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أي ولكم في مشروعية القصاص حياة لأن من أراد قتل الشخص إذا علم القصاص ارتدع عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأن الجماعة يقتلون بالواحد فتنتشر الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم يا أُولِي الْأَلْبابِ أي ذوي العقول الخالية من الهوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) أي لكي تتقوا المساهمة في أمره وترك المحافظة عليه. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأولاد كما قاله عبد الرحمن بن زيد أو الرحم غير الوالدين، كما قاله ابن عباس ومجاهد بالعدل بحسب استحقاقهم فلا يفضل الغني ولا يتجاوز الثلث إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت كالمرض المخوف إن ترك مالا. قال الأصم: إنهم كانوا يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصية لهؤلاء منعا للقوم عمّا كانوا اعتادوه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) أي حق ذلك حقا على الموحدين فَمَنْ بَدَّلَهُ أي الوصية من وصي وشاهد إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي بعد علم الوصية فَإِنَّما إِثْمُهُ أي التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي الوصية لا على الميت لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصية الميت عَلِيمٌ (181) بالمبدل فيجازي الميت بالخير والمبدل بالشر فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ قرأه شعبة وحمزة والكسائي بفتح الواو وتشديد الصاد أي من علم من ميت جَنَفاً أي ميلا عن الحق بالخطإ في الوصية أَوْ إِثْماً أي عمدا في الميل في الوصية فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي فعل ما فيه الصلاح بين الوصي والموصى لهم برده إلى الثلث والعدل فَلا إِثْمَ أي على من علم ذلك في هذا الصلح وإن كان فيه تبديل لأنه تبديل باطل بحق بخلاف الأول عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للميت إن جار وأخطأ للوصي رَحِيمٌ (182) للوصي حيث رخص عليه الرد إلى الثلث والعدل. ومعنى الآية بأن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا فلا إثم على من علم ذلك أن يغيّره ويرده إلى الصلاح بعد موته وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه السلام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أي تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فالرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في غيرهما والاتقاء عنهما أشق فإذا سهل عليكم اتقاء الله بتركهما كان اتقاء الله بترك غيرهما أسهل وأخف أو المعنى لعلكم تتقون ترك المحافظة على الصوم بسبب عظم درجاته أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي في أيام مقدرات بعدد معلوم ثلاثين يوما وهي رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا يضره الصوم ولو في أثناء اليوم أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرا على سفر قصر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه إن أفطر صوم عدة أيام المرض والسفر أي بقدر ما أفطر من رمضان ولو مفرقا. وعن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: إن الله تعالى لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه إن شئت فواتر وإن شئت ففرّق. وروي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم علي أيام من رمضان أفيجزيني أن أقضيها متفرقة؟ فقال له: «أرأيت لو كان عليك دين فقضيته الدرهم والدرهمين أما كان يجزيك؟» قال: نعم. قال: «فالله أحق أن يعفو ويصفح» «1» . وعن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صم إن شئت وأفطر إن شئت» «2» . وروى الشافعي أن عطاء قال لابن عباس أقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى مر الظهران؟ فقال: لا، لكن اقصر إلى جدة وعسفان والطائف. قال مالك: بين مكة وجدة وعسفان أربعة برد. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ أي قدر ما يأكله في يوم وهو مد من غالب قوت بلده. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فدية وجمع مساكين. قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما: إن هذه الآية منسوخة وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيّرين بين الصيام والفدية، وإنما خيّرهم الله تعالى بينهما لأنهم كانوا لم يتعودوا الصيام فاشتد عليهم فرخص الله لهم في الإفطار. وقيل: إن هذه الآية نزلت في حق الشيخ

_ (1) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب: من مات وعليه صوم، «بما معناه» ، ومسلم في كتاب الصيام، باب: 154. (2) رواه البخاري في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر والإفطار، ومسلم في كتاب الصيام، باب: 103، والدارمي في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر، وأبو داود في كتاب الصوم، باب: الصوم في السفر، والنسائي في كتاب الصيام، باب: ذكر الاختلاف على سليمان بن يسار، وابن ماجة في كتاب الصيام، باب: ما جاء في الصوم في السفر، والموطأ في كتاب السفر، باب: ما جاء في الصيام في السفر، وأحمد في (م 6/ ص 46، 193) .

الهرم. والمعنى وعلى الذين يقدرون على الصوم مع المشقة فدية. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً كأن زاد في الفدية على القدر الواجب أو صام مع إخراج الفدية فَهُوَ أي التطوع خَيْرٌ لَهُ بالثواب وَأَنْ تَصُومُوا أيها المرخصون لكم في الإفطار من المرضى والمسافرين والذين يقدرون على الصوم مع المشقة خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ما في الصوم من الفضيلة ومن المعاني المورثة للتقوى وبراءة الذمة فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثوابا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي إن جبريل نزل بالقرآن جملة واحدة في ليلة القدر وكانت ليلة أربع وعشرين من رمضان من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فأملاه جبريل على السفر فكتبوه في صحف وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يسمى بيت العزة، ثم نزل جبريل بالقرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة مدة النبوة بحسب الحاجة يوما بيوم آية وآيتين وثلاثا وسورة. هُدىً لِلنَّاسِ أي بيانا للناس من الضلالة وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي واضحات من أمر الدين فالهدى الأول محمود على أصول الدين، والهدى الثاني على فروع الدين وَالْفُرْقانِ أي من الفرق بين الحق والباطل وبين الحلال والحرام. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي من شهد منكم أول الشهر في الحضر فليصم كل الشهر. وشهود الشهر إما بالرؤية، وإما بالسماع فإذا رأى إنسان هلال رمضان وقد انفرد بتلك الرؤية ورد الإمام شهادته لزمه أن يصوم لأنه قد حصل شهود الشهر في حقه فوجب عليه الصوم، وإذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعا، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به أما إذا شهد على هلال رمضان فيحكم به احتياطا لأمر الصوم، أي يقبل قول الواحد في إثبات العبادة ولا يقبل في الخروج منها إلا قول الاثنين لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا وَمَنْ كانَ مَرِيضاً في شهر رمضان وإن كان مقيما أَوْ عَلى سَفَرٍ أي متلبسا بالسفر وقت طلوع الفجر وإن كان صحيحا فَعِدَّةٌ أي فعليه عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فليصم منها بقدر ما أفطر يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ أي رخصة الإفطار في السفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي لم يرد أن يوجد لكم العسر في الصوم في السفر. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أي لكي تصوموا في الحضر عدة ما أفطرتم في السفر. وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الكاف وتشديد الميم وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عند انقضاء الصوم عَلى ما هَداكُمْ إلى هذه الطاعة. قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعي: وأحب إظهار التكبير في العيدين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الله على رخصته. قال الفراء: قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ علة للأمر بمراعاة العدة. وقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة ما علمكم الله من كيفية القضاء. وقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة التسهيل وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي أي عن قربي وبعدي

فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم يا أشرف الخلق: إني قريب منهم بالعلم والإجابة أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. قيل: المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة، وإجابة الدعاء: هو قبول التوبة، وقيل: المراد من الدعاء العبادة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء هو العبادة» . «1» ومما يدل على ذلك قوله تعالى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 60] . وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع «الداعي إذا دعاني» بإثبات الياء فيهما في الوصل. والباقون بحذفها على الوصل في الأولى وعلى التخفيف في الثانية فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فلينقادوا لي وليستسلموا لي وَلْيُؤْمِنُوا بِي وهذا الترتيب يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي وسبب نزول هذه الآية قيل: إن أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فندعوه سرا أم بعيد فندعوه جهرا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي عن قتادة وغيره: أن الصحابة قالوا: كيف تدعو ربنا يا نبي الله أي أبالمناجاة أو بالمناداة؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء وغيره: إنهم سألوا في أي ساعة ندعو الله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن: سأل أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أين ربنا؟. وقال ابن عباس: إن يهود أهل المدينة قالوا: يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا؟ فنزلت هذه الآية. أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ أي المجامعة مع نسائكم. قال المفسرون: كان في أول شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا أفطر الصائم حلّ له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام، ولا يصلي العشاء الأخيرة. فإذا فعل أحدهما بأن نام أو صلى العشاء حرّم عليه هذه الأشياء إلى الليلة القابلة. فواقع عمر بن الخطاب أهله بعد صلاة العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بالجماع بعد العشاء فنزلت هذه الآية ناسخة لتلك الشريعة: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ هذا مبين لسبب إحلال الوقاع وهو صعوبة اجتنابهن وستر أحدهما الآخر عن الفجور. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تظلمونها لأنكم تسرون بالمعصية في الجماع بعد صلاة العتمة والأكل بعد النوم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي قبل توبتكم وَعَفا عَنْكُمْ أي محا ذنوبكم ولم يعاقبكم في الخيانة فَالْآنَ أي حين أحل لكم بَاشِرُوهُنَّ أي جامعوهن وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما وضع الله لكم بالنكاح من التناسل وقصد العفة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها وقيل: هذا نهي عن العزل.

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 2، وابن ماجة في كتاب الدعاء، باب: فضل الدعاء، وأحمد في (م 4/ ص 267) .

قال الشافعي: لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها، ولا بأس أن يعزل عن الأمة، وقيل: معنى ذلك ابتغوا هذه المباشرة من الزوجة والمملوكة فإن ذلك هو الذي كتب الله لكم أي قسم الله لكم وَكُلُوا وَاشْرَبُوا من حين يدخل الليل حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ أي حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل حال كون الخيط الأبيض بعضا مِنَ الْفَجْرِ الصادق وسمى الصبح الصادق فجرا لأنه يتفجر منه النور ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي إلى دخوله بغروب الشمس نزلت هذه الآية في شأن صرمة بن مالك بن عدي وذلك أنه كان يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، وأخذت تصنع له طعاما فأخذه النوم من التعب فأيقظته فكره أن يأكل خوفا من الله فأصبح صائما مجهودا في عمله فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما وقع فأنزل الله هذه الآية. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي لا تجامعوهن ليلا ونهارا وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ أي ماكثون فِي الْمَساجِدِ بنية الاعتكاف للتقرب إلى الله تعالى تِلْكَ أي المباشرة حُدُودُ اللَّهِ أي معصية الله فَلا تَقْرَبُوها أي فلا تقربوا المعصية واتركوا مباشرة النساء ليلا ونهارا حتى تفرغوا من الاعتكاف كَذلِكَ أي هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أي أمره ونهيه لِلنَّاسِ أو المعنى كما بيّن الله ما أمركم به ونهاكم عنه كذلك يبين سائر أدلته على دينه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أي لكي يتقوا معصية الله نزلت هذه الآية في حق نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر وغيرهما، فكانوا معتكفين في المسجد فيأتون إلى أهاليهم إذا احتاجوا، ويجامعون نساءهم، ويغتسلون فيرجعون إلى المسجد فنهاهم الله عن ذلك وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي لا يأخذ بعضكم مال بعض بالطريق الحرام شرعا وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي ولا تدخلوا بالأموال إلى الحكام لتأخذوا جملة من أموال الناس متلبسين بالإثم أي بالحلف الكاذب وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) أنكم مبطلون. فالإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق. روي أن عبدان بن الأسوع الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض ولم يكن له بيّنة، فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يحلف امرؤ القيس، فهمّ بالحلف. فقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: 77] الآية. فارتدع عن اليمين وأقر بالحق وسلّم الأرض إلى عبدان فنزلت هذه الآية. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: اختصم رجلان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عالم بالخصومة وجاهل بها، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعالم. فقال من قضي عليه: يا رسول الله والذي لا إله إلا هو إني محق، فقال: «إن شئت أعاوده» فعاوده، فقضى للعالم. فقال المقضي عليه مثل ما قال أولا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 191 إلى 200]

ثم عاوده ثالثا ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بخصومته فإنما اقتطع قطعة من النار» . فقال العالم المقضي له: يا رسول الله إن الحق حقه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتطع بخصومته وجد له حق غيره فليتبوأ مقعده من النار» «1» . ومعنى «اقتطع» أي أخذ وسأل معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ نورا، ثم لا يزل ينقص حتى يعود دقيقا كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ أي عن فائدة اختلاف الأهلة بالزيادة والنقصان لماذا قُلْ يا أشرف الخلق هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أي هي علامات لأغراض الناس الدينية والدنيوية وللحج كعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وصيامهم وإفطارهم وقضاء دينهم وأوقات زرعهم ومتاجرهم، ودخول وقت الحج وخروجه، ثم نزل في شأن نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كنانة وخزاعة كانوا يدخلون بيوتهم في الإحرام من خلفها أو من سطحها كما فعلوا في الجاهلية قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها في الإحرام وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى محارمه تعالى كالصيد وتوكل على الله تعالى في جميع أموره وَأْتُوا الْبُيُوتَ أي ادخلوها مِنْ أَبْوابِها في الإحرام كغيره وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير الأحكام أو في جميع أموركم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) لكي تفوزوا بالخير في الدين والدنيا أو لكي تنجوا من السخط والعذاب وَقاتِلُوا أي جاهدوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وطلب رضوانه في الحل والحرم. الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يبدءونكم بالقتال من الكفار وَلا تَعْتَدُوا عليهم بابتداء القتال في الحرم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) أي لا يريد الخير للمتجاوزين الحد. وَاقْتُلُوهُمْ إن بدءوكم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في الحل والحرم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي والمحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها، وقيل: وشركهم بالله وعبادة الأوثان في الحرم وصدّهم لكم عنه أشر من قتلكم إياهم فيه وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لا تبدأوهم بالقتل في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ أي الحرم بالابتداء فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه بالابتداء فَاقْتُلُوهُمْ فيه ولا تبالوا بقتالهم فيه لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا أشد العذاب. قرأ حمزة والكسائي «ولا تقتلوهم» ، «حتى يقتلوكم» ، «فإن قتلوكم» كله بغير ألف. كَذلِكَ أي مثل هذا الجزاء الواقع منكم بالقتل والإخراج جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) يفعل بهم مثل ما

_ (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: 218، والنسائي في كتاب القضاة، باب: القضاء في قليل المال وكثيره، والدارمي في كتاب البيوع، باب: فيمن اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه، «بما معناه» .

فعلوا فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهم ما قد سلف رَحِيمٌ (192) بهم وَقاتِلُوهُمْ بالابتداء منهم في الحل والحرم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي كي لا توجد فتنة عن دينكم، أي وقد كانت فتنتهم أنهم كانوا يؤذون أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة ذلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفارا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى قاتلوهم حتى تعلوا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وَيَكُونَ الدِّينُ أي وكي يوجد الإسلام والعبادة لِلَّهِ وحده لا يعبدون في الحرم سواه فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم في الحرم فَلا عُدْوانَ أي فلا سبيل لكم بالقتل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) أي المبتدئين بالقتل، أو المعنى فإن انتهوا عن الأمر الذي يوجب قتالهم وهو إما كفرهم أو قتالهم فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون أنفسهم الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي دخلت يا محمد فيه لقضاء العمرة وهو ذو القعدة من السنة السابعة مقابل بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي صدوك عن دخول مكة وهو ذو القعدة من السنة السادسة. أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه. وَالْحُرُماتُ أي الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام قِصاصٌ أي يجري فيها بدل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي فجازوه بمثل ما اعتدى عليكم به وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اخشوه بالابتداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) بالنصرة والحفظ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله لقضاء العمرة وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي ولا تلقوا أنفسكم إلى الهلاك بمنع النفقة في سبيل الله أو بالإسراف في النفقة أو بتضييع وجه المعاش وَأَحْسِنُوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته بأن يكون ذلك الإنفاق وسطا فلا تسرفوا ولا تقتروا. ويقال: وأحسنوا الظن في الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) أي يريد بهم الخير ويثيبهم نزلت الآيات من قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 190] إلى هاهنا في حق المحرمين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لقضاء العمرة بعد عام الحديبية لأنهم خافوا أن يقاتلهم الكفار في الحرم والإحرام أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك لأن القتال في ذلك الوقت كان محرما في تلك الأحوال الثلاثة. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي افعلوا الحج والعمرة على نعت التمام بأركانهما وشروطهما لله بأن تخلصوهما للعبادة ولا تخلطوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي منعتم عن إتمامهما بعدو فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم إذا أردتم التحلل ما تيسّر من الهدي من بدنة أو بقرة، أو شاة لترك الحرم، واذبحوها حيث أحصرتم في حل أو حرم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي وقت مجيء ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعي لكن يندب إرساله إلى الحرم خروجا من خلاف أبي حنيفة، فإذا ذبحتم فاحلقوا. ويجب نية التحلل عند الذبح والحلق وبهما يحصل الخروج من النسك.

قال الشافعي: كل ما وجب على المحرم في ماله لا يجزئ إلا في الحرم لمساكين أهله إلا في نوعين: أحدهما: من ساق هديا فعطب في طريقه فيذبحه ويخلي بينه وبين المساكين. وثانيهما: دم المحصر بالعدو فإنه يذبح حيث حبس لأن هذا الدم إنما وجب لإزالة الخوف، وزوال الخوف إنما يحصل إذا قدر عليه حيث أحصر فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً في بدنه محتاجا إلى المداواة واستعمال الطيب واللباس أَوْ كان بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي ألم في رأسه بسبب القمل والصيبان أو بسبب الصداع، أو كان عنده خوف من حدوث مرض أو ألم واحتاج إلى الحلق أبيح له ذلك، بشرط بذل الفدية كما قال تعالى: فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية مِنْ صِيامٍ في ثلاثة أيام أَوْ صَدَقَةٍ بثلاثة آصع من غالب قوت مكة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ أي ذبح شاة فَإِذا أَمِنْتُمْ من العدو فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ أي فمن تلذذ بمحظورات الإحرام كالطيب واللباس والنساء بسبب إتيانه بالعمرة إلى الإحرام بالحج فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليه ما تيسر من الدم للجبران بخمسة شروط: الأول: أن يقدم العمرة على الحج. الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث: أن يحج في هذه السنة. الرابع: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام. الخامس: أن يحرم بالحج من جوف مكة بعد الفراغ من العمرة ووقت وجوب هذا الدم بعد ما أحرم بالحج، ويستحب أن يذبح يوم النحر ويجوز تقديم الذبح على الإحرام بالحج بعد الفراغ من العمرة، لأن دم التمتع عندنا دم جبران كسائر دماء الجبرانات. وعند أبي حنيفة هو دم نسك كدم الأضحية فيختص بيوم النحر فلا يجوز عنده الذبح قبله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فمن لم يجد الهدي لفقده أو فقد ثمنه فعليه صيام ثلاثة أيام في حال اشتغاله بإحرام الحج في أيام الاشتغال بأعمال الحج بعد الإحرام وقبل التحلل وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهليكم ووطنكم مكة أو غيرها. وقرأ ابن أبي عبلة سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في البدل عن الهدي قائمة مقامه. ذلِكَ أي لزوم الهدي وبدله على التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما

فرض عليكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) لمن تهاون بحدوده الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أي أشهر الحج معروفات بين الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع فجر يوم النحر عند الشافعي. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي فمن أوجب الحج على نفسه بالإحرام فيهن فلا جماع ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات ولا خصام مع الخدم والرفقة وغيرهما في أيام الحج. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا فسوق» بالرفع والتنوين، ولا جدال بالنصب. والباقون قرءوا الكل بالنصب. والمعنى على هذا لا يكونن رفث ولا فسوق، ولا خلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا بعرفات كسائر العرب، واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه» «1» . فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يذكر الجدال وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ كصدقة وكترك المنهي يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يقبله أو يجزي به خير جزاء وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي تزودوا من التقوى لمعادكم فإنها خير زاد وهي فعل الواجبات وترك المحظورات. ويقال: وتزودوا ما تعيشون به لسفركم في الدنيا فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) أي ذوي العقول. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي ليس عليكم حرج في أن تطلبوا رزقا من ربكم بالتجارة في الحج فَإِذا أَفَضْتُمْ أي رجعتم مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتسبيح والتحميد والتهليل عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو جبل يقف عليه الإمام وسمي «قزح» وهو آخر حد المزدلفة. وقال بعضهم: المشعر الحرام هو المزدلفة، لأن الذكر المأمور به عنده يحصل عقب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالمبيت بالمزدلفة وَاذْكُرُوهُ أي الله كَما هَداكُمْ أي لأجل هدايته إياكم لمعالم دينه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) أي وإنكم كنتم من قبل الهدي لمن الجاهلين بالإيمان والطاعة ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي ثم ارجعوا من المزدلفة إلى منى قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، كما رجع منها إبراهيم وإسماعيل في ذلك الوقت على ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان العرب الذين وقفوا بالمزدلفة يرجعون إلى منى بعد

_ (1) رواه البخاري في كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم في كتاب الحج، باب: 438، والترمذي في كتاب الحج، باب: 4، وابن ماجة في كتاب المناسك، باب: فضل الحج والعمرة، والدارمي في كتاب المناسك، باب: في فضل الحج والعمرة، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب: فضل الحج، وأحمد في (م 2/ ص 229) . [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 201 إلى 210]

طلوع الشمس وهذا كما اختاره الضحّاك. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ باللسان مع التوبة بالقلب وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ويقصد بذلك تحصيل مرضاة الله تعالى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المستغفر رَحِيمٌ (199) أي منعم عليه فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وكان العرب بعد الفراغ من الحج يقفون بمنى بين المسجد والجبل، فيبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم، فقال الله تعالى هذه الآية. فالمعنى فإذا فرغتم من عبادتكم المتعلقة بالحج كأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى فابذلوا جهدكم في الثناء على الله وذكر نعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم في الجاهلية. أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أي بل أكثر ذكرا من ذكر آبائكم لأن صفات الكمال لله تعالى غير متناهية فَمِنَ النَّاسِ أي المشركين أو المؤمنين مَنْ يَقُولُ في الموقف رَبَّنا آتِنا أي أعطنا فِي الدُّنْيا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا، أو إماء ومالا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) أي من نصيب في الجنة بحجه. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي علما وعبادة وعصمة من الذنوب وشهادة وغنيمة وصحة، وكفافا وتوفيقا للخير وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أي جنة ونعيمها وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أي ادفع عنا العذاب أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة لَهُمْ نَصِيبٌ أي حظ وافر في الجنة مِمَّا كَسَبُوا أي من حجهم وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم وعالم بجملة سؤالات السائلين. وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي بالتكبير والتهليل والتمجيد فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ أي في أيام التشريق الثلاثة فَمَنْ تَعَجَّلَ برجوعه إلى أهله فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النحر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتعجيله وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث حتى رمى فيه قبل الزوال أو بعده فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخره فهم مخيّرون في ذلك لِمَنِ اتَّقى أي ونفي الإثم لمن اتقى الله في حجه لأنه المتشفع بحجه دون من سواه وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا الإخلال بما ذكر من الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) أي للجزاء على أعمالكم بعد البعث. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ومن الناس يعظم في قلبك كلامه عند ما يتكلم لطلب مصالح الدنيا وهو الأخنس بن شريق الثقفي واسمه أبيّ كان منافقا حسن العلانية خبيث الباطن. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ فإن الأخنس هذا أقبل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأظهر الإسلام وحلف بالله أنه يحبه ويتابعه في السر، ويحتمل أنه يقول فالله يشهد بأن الأمر كما قلت فهذا استشهاد بالله وليس بيمين. وقرأ ابن محيص يشهد الله بفتح الياء والهاء. والمعنى يعلم الله من قلبه خلاف ما أظهره وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) . قال قتادة شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم اللسان جاهل العمل. وقال السدي: أعوج الخصام. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها أي وإذا انصرف من عندك اجتهد في إيقاع القتال بأن يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أنه يتبرأ بعضهم

من بعض فيقطع الأرحام ويسفك الدماء وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ أي الزرع بالإحراق وَالنَّسْلَ أي الحيوان بالقتل، فإن الأخنس لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا، فأحرق زرعهم وأهلك مواشيهم. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) أي لا يرضى به وَإِذا قِيلَ لَهُ أي لذلك الإنسان اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي لزمه التكبر الحاصل بالإثم الذي في قلبه. فإن التكبر إنما حصل بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي كافيه جهنم جزاء له وعذابا وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) أي لبئس المستقر هي. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي أي يشتري نَفْسَهُ بماله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان، وفي عمار بن ياسر، وفي سمية أمه وفي ياسر أبيه، وفي بلال مولى أبي بكر، وفي خباب بن الإرث، وفي أبي ذر، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم. فأما صهيب فقال لأهل مكة: إني شيخ كبير ولي مال ومتاع وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني. فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله فانصرف إلى المدينة فنزلت هذه الآية. وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ربح بيعك يا أبا يحيى. فقال: وما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك قرآنا، وقرأ عليه هذه الآية. وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرّا وأتيا المدينة، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) الذين قتلوا في مكة أبي عمار وأمه وغيرهما لأنه تعالى أرشدهم لما فيه رضاه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت هذه الآية في شأن طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة فنحن نتركها احتياطا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادا له وعملا به لأنها صارت منسوخة. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا طرق تزيين الشيطان بتفريق الأحكام بالعمل ببعضها الموافق لشريعة موسى وعدم العمل بالبعض الآخر المخالف لها إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) أي ظاهر العداوة فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلائل العقلية والنقلية كالمعجزة الدالة على الصدق وكالبيان الحاصل بالقرآن والسنة فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي قوي بالنقمة لمن لا يتابع رسوله فلا يمنعه مانع عنكم ولا يفوته ما يريده منكم حَكِيمٌ (209) أي عالم بعواقب الأمور هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ أي ما ينظر أهل مكة إلا أن يأتيهم الله بلا كيف يوم القيامة والملائكة في ظل من الغمام فقوله: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ مقدم ومؤخر،

[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 220]

فنزول الغمام علامة لظهور أشد الأهوال في القيامة. قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ فصل القضاء بين الخلائق وأخذ الحقوق لأربابها وإنزال كل أحد من المكلفين منزلته في الجنة والنار وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) أي إنّ الله تعالى ملك عباده في الدنيا كثيرا من أمور خلقه فإذا صاروا إلى الآخرة فلا مالك للحكم في العباد سواه. كما قال تعالى: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم «ترجع» بالبناء للمجهول على معنى ترد. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ترجع» بالبناء للفاعل أي تصير كقوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] . قال فخر الدين محمد الرازي: والأوضح عندي أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208] إنما نزلت في حق اليهود والمعنى يا أيّها الذين آمنوا بالكتاب المتقدم أكملوا طاعتكم في الإيمان بأن تؤمنوا بجميع أنبياء الله وكتبه فادخلوها بإيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه في الإسلام عن التمام، ولا تتبعوا الشهوات التي تتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة وعلى هذا التقدير. فقوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209] يكون خطابا مع اليهود وحينئذ يكون قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210] حكاية عن اليهود والمعنى أنهم لا يقبلون دينك إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة، ألا ترى أنهم فعلوا مع موسى مثل ذلك فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وإذا كان هذا حكاية عن حال اليهود لم يمنع إجراء الآية على ظاهرها، وذلك لأن اليهود كانوا على مذهب التشبيه وكانوا يجوّزون على الله المجيء والذهاب، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلّى لموسى عليه السلام على الطور في ظلل من الغمام وطلبوا مثل ذلك في زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى هذا التقدير يكون هذا الكلام حكاية عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه فلا يحتاج إلى التأويل ولا إلى حمل اللفظ على المجاز وذكر الله تعالى بعد ذلك ما يجري مجرى التهديد بقوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210] . سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ قل يا أشرف الخلق لأولاد يعقوب الحاضرين منهم توبيخا: كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي معجزات موسى عليه السلام، كفلق البحر وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب، وإنزال التوراة عليهم فبدلوا مقتضاها وهو الإيمان بها بالكفر فاستوجبوا العقاب من الله تعالى فإنكم لو زللتم عن آيات الله تعالى لوقعتم في العذاب كما وقع أسلافكم. أو المعنى سل يا أشرف الخلق هؤلاء الحاضرين من بني إسرائيل تنبيها لهم على ضلالتهم كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم يعلم بها صدقه وصحة شريعته وكفروا بها. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي ومن يغيّر آيات الله الباهرة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالكفر من بعد ما عرفها. أو المعنى ومن يغير دين الله وكتابه بالكفر من بعد ما جاء

محمد به فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) لمن كفر به. زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي حسن ما في الحياة الدنيا من سعة المعيشة لكفار مكة أبي جهل ورؤساء قريش وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي يسخرون على فقراء المؤمنين كعبد الله بن مسعود، وعمّار، وخباب، وسالم مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجراح، وسلمان، وبلال، وصهيب بضيق المعيشة وَالَّذِينَ اتَّقَوْا عن الدنيا الشاغلة عن الله تعالى فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن المؤمنين في عليين والكافرين في سجّين ولأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض المذلة، ولأن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ في الدنيا من كافر ومؤمن بِغَيْرِ حِسابٍ (212) أي بغير تكلف من المرزوق ومن حيث لا يحتسب وقد أغنى الله المؤمنين بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً قائمة على الحق ثم اختلفوا بسبب الحسد والتنازع في طلب الدنيا فإن الناس وهم آدم وأولاده من الذكور والإناث كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنة لمن آمن بالله وَمُنْذِرِينَ بالنار لمن لم يؤمن بالله وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي ليحكم الكتاب في الحق الذي اختلف الناس في ذلك الحق. فالكتاب حاكم والمختلف فيه وهو الحق محكوم عليه. وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي الحق إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي أعطوا الكتاب مع أن المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم أي أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية، أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فبعد ذلك لم يبق في العدول عن الحق علة فلو حصل العدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والحرص على طلب الدنيا فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي فهدى الله الذين آمنوا- للحق الذي اختلف فيه- من اختلف بعلمه وبإرادته وبكرامته. قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة، فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة. واختلفوا في الصيام، فهدانا الله لشهر رمضان. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا. فقلنا: إنه كان حنيفا مسلما. واختلفوا في عيسى فاليهود فرطوا حيث أنكروا نبوته ورسالته، والنصارى أفرطوا حيث جعلوه إلها. وقلنا قولا عدلا وهو إنه عبد الله ورسوله. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أي طريق حق لا يضل سالكه. ويقال: والله يثبّت من يشاء على دين قائم يرضيه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ.

قال ابن عباس: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة اشتد الضرر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم في أيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تطييبا لقلوبهم. وقال قتادة والسدي: نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والحزن. وقيل: نزلت في حرب أحد، لما قال عبد الله بن أبيّ لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى متى تقتلون أنفسكم وترجون الباطل ولو كان محمد نبيا لما سلط الله عليكم الأسر والقتل ومعنى الآية أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي دون أن تعبدوا الله بكل ما كلفكم به وابتلاكم بالصبر عليه ودون أن ينالكم أذى الكفار، والفقر، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين. وهو المراد من قوله تعالى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي والحال لم يأتكم شبه محنة المؤمنين الذين مضوا من قبلكم ثم بيّن الله ذلك الشبه مستهم البأساء والضراء. فالبأساء: تضييق جهات الخير والمنفعة. والضراء: انفتاح جهات الشر والآفات والألم. ومعنى زلزلوا أي حركوا بأنواع البلايا والرزايا، ومعنى حتى يقول الرسول لأن الرسل عليهم السلام يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلاء، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة العظيمة قيل لهم: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) إجابة لهم من الله أو من قوم منهم والأحسن أن يقال: فالذين آمنوا قالوا: متى نصر الله؟ ثم رسولهم قال: ألا إن نصر الله قريب. وروى الكلبي عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمرو بن الجموح- وكان شيخا كبيرا هرما- وهو الذي قتل يوم أحد وعنده مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي أيّ شيء مصرف المال قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى أي المحتاجين منهم وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فالإنفاق على الوالدين واجب عند عجزهما عن الكسب والملك، والإنفاق على الأقربين- وهم الأولاد وأولاد الأولاد- قد يلزم عند فقد الملك، فحينئذ الواجب فيما ذكر قدر الكفاية وقد يكون على صلة الرحم. والإنفاق على اليتامى والمساكين والمارين في السبيل إما من جهة الزكاة أو من جهة صدقة التطوع. فالمراد بهذه الآية: من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى في صدقة التطوع. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي من سائر وجوه البر والطاعة فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) أي فيجازيكم عليه ويوفى ثوابه. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي فرض عليكم قتال الكفرة في أوقات النفير العام مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أي والحال أن القتال مكروه لكم طبعا للمشقة على النفس وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالجهاد في سبيل الله وَهُوَ

خَيْرٌ لَكُمْ لما تصيبون الشهادة والغنيمة والأجر وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً كالجلوس عن الجهاد وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لأنكم لا تصيبون الشهادة ولا الغنيمة ولا الأجر وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم فلذلك يأمركم به وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ذلك ولذلك تكرهونه. أو المعنى والله يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيكم وامتثلوا أمره تعالى نزلت تلك الآية في حق سعد بن أبي وقاص، والمقداد بن الأسود وأصحابهما يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. روى أكثر المفسرين عن ابن عباس أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين وبعد سبعة عشر شهرا من مجيئه المدينة في ثمانية رهط وكتب له كتابا وعهدا ودفعه إليه وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ويقرأه على أصحابه ويعمل بما فيه فإذا فيه: أما بعد، فسر على بركة الله تعالى بمن اتّبعك حتى تنزل بطن نخل فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير. فقال عبد الله: سمعا وطاعة لأمره، فقال لأصحابه: من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره. ومن أحب التخلف فليتخلف. فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف فمر عليهم عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فلما رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا اثنين، وساقوا العير بما فيه من تجارة الطائف حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضجت قريش، وقالوا: قد استحل محمد الشهر الحرام شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء والمسلمون أيضا قد تعجبوا من ذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» . وقال عبد الله بن جحش: يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى، فوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فنزلت هذه الآية فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغنيمة وعلى هذا التقدير، فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين قُلْ في جوابهم سَبِيلِ اللَّهِ أي الشهر الحرام وهو رجب كَبِيرٌ أي عظيم وزرا وقد تم الكلام هاهنا والوقف هنا تام وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أي ولكن منع الناس عن دين الله وطاعته وكفر بالله ومنع الناس عن مكة وإخراج أهله وهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون من مكة أعظم وزرا عند الله من قتل عمرو بن الحضرمي في رجب خطأ مع أنه يجوز أن يكون ذلك القتل واقعا في جمادى الآخرة وَالْفِتْنَةُ أي ما فعلوا الفتنة عن دين المسلمين تارة بإلقاء الشبهة في قلوبهم وتارة بالتعذيب كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي أفظع من قتل عمرو بن الحضرمي. روي أنه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكة إذا عيركم المشركون

بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم بالكفر وإخراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام وَلا يَزالُونَ أي أهل مكة الكفرة يُقاتِلُونَكُمْ أيها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أي كي يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل إِنِ اسْتَطاعُوا وهذا استبعاد لاستطاعتهم وإشارة إلى ثبات المسلمين في دينهم وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ المصرون على لارتداد إلى حين الموت حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فحبوط الأعمال في الدنيا هو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين نصرا ولا ثناء حسنا وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من كل أحد. وحبوط أعمالهم في الآخرة أن الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة أما لو رجع المرتد إلى الإسلام عادت أعماله الصالحة مجردة عن الثواب فلا يكلف بإعادتها وهذا هو المعتمد في مذهب الشافعي وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) أي مقيمون لا يخرجون ولا يموتون. وروي أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نطمع منه أجرا وثوابا؟ فنزلت هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم من مكة إلى المدينة وَجاهَدُوا أي بذلوا جهدهم في قتل العدو كقتل عمرو بن الحضرمي الكافر فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دين الله أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يطمعون في ثواب الله أو ينالون جنة الله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) فيحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي عن تناولهما قُلْ فِيهِما أي في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ أي عظيم بعد التحريم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش وإتلاف للأموال ولأن الخمر مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا. وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء المثلثة وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قبل التحريم بالتجارة فيها وباللذة والفرح وتصفية اللون وحمل البخيل على الكرم وزوال الهمّ وهضم الطعام، وتقوية الباءة وتشجيع الجبان في شرب الخمر، وإصابة المال بلا كد في القمار، أي المغالبة بأخذ المال في أنواع اللعب وَإِثْمُهُما بعد التحريم أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قبل التحريم. وقرئ أقرب من نفعهما. قال المفسرون: نزلت في الخمر أربع آيات نزل بمكة قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة منهم سيدنا حمزة بن عبد المطلب وبعض الأنصار قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيهما قوله تعالى: قُلْ

[سورة البقرة (2) : الآيات 221 إلى 230]

فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي إماما فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف لا، فنزلت: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقلّ من شربها، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90] . فقال عمر: انتهينا يا رب. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي أيّ قدر ينفقونه نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الجموح سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا نتصدق من أموالنا؟ وقيل: السائل معاذ بن جبل وثعلبة. وقال الرازي: كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه سألوا عن مقدار ما كلفوا به هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله تعالى أن العفو أي الفاضل عن الكفاية مقبول قُلِ الْعَفْوَ أي ما سهل مما يكون فاضلا عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤونتهم كَذلِكَ أي كما بيّن الله لكم قدر المنفق وحكم الخمر والميسر بأن فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام الشرعية لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا أنها فانية وَالْآخِرَةِ أنها باقية، فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بدّ من ترجيح الآخرة على الدنيا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كان أهل الجاهلية قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعا في مالها ثم إن الله تعالى أنزل قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وقوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى والمقاربة من أموالهم والقيام بأمورهم فاختلّت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم فثقل ذلك على الناس فقال عبد الله ابن رواحة، وقيل: ثابت بن رفاعة الأنصاري: يا رسول الله ما لكلنا منازل تسكنها الأيتام، ولا كلنا يجد طعاما وشرابا يردهما لليتيم فهل يجوز مخالطة اليتامى بالطعام والشراب والمسكن أم لا؟ فنزلت هذه الآية: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي قل يا أشرف الخلق إصلاح أموالهم من غير أخذ أجرة خير لكم من ترك مخالطتهم وأعظم أجرا لكم وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز لأنهم إخوانكم في الدين وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي يعرف المفسد لأموالهم بالمخالطة من المصلح لها وقيل: يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في أموالهم بالنكاح ممن أراد الإصلاح وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لكلفكم ما يشتد عليكم أو لضيق الأمر عليكم في مخالطتهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب على أمره قوي بالنقمة لمفسد مال اليتيم حَكِيمٌ (220) يحكم بما تقتضيه الحكمة الداعية إلى بناء التكليف على أساس طاقة البشر وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ أي

ولا تتزوجوا المشركات بالله إلى أن يؤمن بالله بأن يقررن بالشهادة ويلتزمن أحكام الإسلام هذا مقصور على غير الكتابيات لما روي عن جابر بن عبيد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا» «1» . وروى عبد الرحمن بن عوف أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في حق المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم» «2» . وسبب نزول هذه الآية ما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا، فعند قدومه جاءته امرأة مشركة اسمها عناق فالتمست الخلوة فقال: ويحك إن الإسلام حال بيني وبينك! فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: نعم، ثم وعدها أن يأذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلما انصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرفه ما جرى في أمر عناق وسأله هل يحل له التزوج بها فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أي لنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح مشركة ولو أعجبتكم تلك المشركة بحسنها أو بمالها أو بحريتها أو بنسبها. قال السدي: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن رواحة، كان له أمة فأعتقها وتزوج بها فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا: أتنكح أمة!؟ وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله تعالى تلك الآية. وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي ولا تزوجوا الكفار ولو كانوا أهل كتاب المؤمنات حتى يؤمنوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ أي تزويجكم لعبد مؤمن خير من تزويجكم لمشرك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ذلك المشرك لماله وجماله وقوته وحريته أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إلى النار فإن الزوجية مظنة المحبة وذلك يوجب الموافقة في الأغراض وربما يؤدي ذلك إلى انتقال الدين بسبب موافقة المحبوب وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بتبيان هذه الأحكام من الإباحة والتحريم فإن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ أي بتيسيره تعالى وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة. وقرأ الحسن «والمغفرة بإذنه» بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسير الله تعالى. وَيُبَيِّنُ آياتِهِ أي أمره ونهيه في التزويج والتزويج لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) قبح المنهي عنه وحسن المدعو إليه. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أي الحيض والسائل عن ذلك ثابت الدحداح الأنصاري، وقيل: عباد بن بشر وأسيد بن الحضير، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس. وأما

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (2: 261) . (2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (19: 437) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9: 189) ، والساعاتي في بدائع المنن (3: 229) .

النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض. قُلْ يا أشرف الخلق: هُوَ أي الحيض أَذىً أي قذر الرائحة المنكرة التي فيه واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «دم الحيض هو الأسود المحتدم» «1» أي المحترق من شدة حرارته فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي في موضع الحيض وَلا تَقْرَبُوهُنَّ أي لا تجامعوهن حَتَّى يَطْهُرْنَ وهذا تأكيد لحكم الاعتزال. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، ويعقوب الحضرمي «حتى يطهرن» بسكون الطاء وضم الهاء بمعنى: حتى يزول عنهن الدم. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء بمعنى يغتسلن فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن أو تيممن عند تعذر استعمال الماء فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي فجامعوهن في موضع أمركم الله به وهو القبل. وقال الأصم والزجاج: أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات بالنسك، وفهم من هذا الشرط أنه يشترط بعد انقطاع الحيض الاغتسال لأنه قد صار المجموع غاية وذلك بمنزلة قولك: لا تكلم فلانا حتى يدخل الدار فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلمه فإنه يجب أن يتعلق إباحة كلامك بالأمرين جميعا، واتفق مالك والأوزاعي والثوري والشافعي: أنه إذا انقطع حيض المرأة لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض، والمشهور عن أبي حنيفة: أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ بالندم على ما مضى من الذنب والترك في الحاضر والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) أي المتنزهين عن المعاصي من إتيان النساء في زمان الحيض والإتيان في الأدبار. وقيل: يحب المستنجين بالماء نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي فروج نسائكم مزرعة لأولادكم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي مزرعتكم أَنَّى شِئْتُمْ أي من أيّ جهة شئتم، أي فالمراد من هذه الآية أن الرجل مخيّر بين أن يأتي زوجته من قبلها في قبلها وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها لأن سبب نزول هذه الآية ما روي أن اليهود قالوا: من جامع امرأته في قبلها من دبرها كان ولدها أحول مخبلا، وزعموا أن ذلك في التوراة فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «كذبت اليهود» «2» . وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من الأعمال الصالحة كالتسمية عند الجماع وطلب الولد. روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال بسم الله عند الجماع فأتاه ولد فله حسنات بعدد أنفاس ذلك الولد وعدد عقبه إلى

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب: إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، ورد دون لفظة «المحتدم» . (2) رواه أبو داود في كتاب النكاح، باب: ما جاء في العزل، وأحمد في (م 3/ ص 33) .

يوم القيامة» «1» . أي قدّموا ما يدخر لكم من الثواب ولا تكونوا في قيد قضاء الشهوة وَاتَّقُوا اللَّهَ في أدبار النساء ومجامعتهن في الحيض وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ أي الله بالبعث فتزودوا ما تنتفعون به فإنه تعالى يجزيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) خاصة بالثواب والكرامة وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أي ولا تجعلوا ذكر الله مانعا بسبب إيمانكم من أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس. قال ابن عباس: ارجعوا إلى ما هو خير لكم وكفّروا يمينكم. نزلت هذه الآية في شأن عبد الله ابن رواحة فإنه حلف بالله أن لا يحسن إلى أخته وختنه- أي زوج أخته بشير بن النعمان- ولا يكلمهما ولا يصلح بينهما فكان إذا قيل له في الصلح يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي أن لا أبرّ في يميني. وَاللَّهُ سَمِيعٌ بيمينكم بترك الإحسان عَلِيمٌ (224) بنياتكم وبكفارة اليمين لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قال الشافعي رضي الله عنه: إن اللغو قول العرب لا والله، وبلى والله في الشراء والبيع وغير ذلك مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحد منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك، ولعله قال: لا والله ألف مرة. وقال أبو حنيفة: إن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن، فالشافعي لا يوجب الكفارة في المسألة الأولى ويوجبها في الثانية. وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدته من الإيمان بجد وربطت به فحنثتم فإذا حلف على شيء بالجد في أنه كان حاصلا ثم ظهر أنه لم يحصل فقد قصد بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك فلم يكن ذلك لغوا بل كان حاصلا بكسب القلب وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم الاحتياط حَلِيمٌ (225) حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أي للذين يحلفون أن لا يجامعوهن مطلقا أو مدة تزيد على أربعة أشهر انتظارا أربعة أشهر فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا عن اليمين بالحنث بأن جامعوا قبل أربعة أشهر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ليمينهم إن تابوا بفعل الكفارة رَحِيمٌ (226) حيث بين كفارتهم وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي إن حققوا الطلاق وبروا يمينهم فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ليمينهم عَلِيمٌ (227) بعزمهم فليس لهم بعد التربص إلا الفيئة أو الطلاق. فإن بر المولى يمينه وترك مجامعة امرأته حتى تجاوز أربعة أشهر بانت منه امرأته بتطليقة واحدة، وإن جامعها قبل ذلك فعليه كفارة اليمين كما قاله ابن عباس وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول

_ (1) رواه الدارمي في كتاب النكاح، باب: القول عند الجماع، «بما معناه» .

بهن يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ في العدة ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فلا تتوقف العدة على ضرب قاض وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الحبل والحيض معا وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزوج وأحبت التزوج بزوج آخر، أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني، فلهذه الأغراض تكتم الحبل. وإذا كتمت الحيض فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يجترئن على ذلك الكتمان وهذا الشرط للتغليظ حتى لو لم يكن مؤمنات كان عليهن العدة أيضا وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ أي أزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص إِنْ أَرادُوا أي البعولة بالرجعة أَصْلَحا والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يراجعون المطلقات، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة فنهوا عن ذلك. وَلَهُنَّ عليهم من الحقوق مِثْلُ الَّذِي لهم عَلَيْهِنَّ من الحقوق بِالْمَعْرُوفِ شرعا في حسن المعاشرة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة في الحق لأن حقوقهم عليهن في أنفسهن وحقوقهن عليهم في المهر والنفقة وَاللَّهُ عَزِيزٌ يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه حَكِيمٌ (228) فيما حكم بين الزوجين الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج هو أن يوجد مرتان فالواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أي رجعة بحسن عشرة ولطف معاملة لا على قصد إضرار، أو تسريح أي إرسال بترك المراجعة حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة بإحسان أي بغير ذكر سوء بعد المفارقة وبأداء جميع حقوقها المالية، وهذه الآية متناولة لجميع الأحوال لأن الزوج بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو المراد بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ. أو يتركها حتى تبين بانقضاء العدة وهو المراد بقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. أو يطلقها ثالثة وهو المراد بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام ولو جعلنا التسريح طلقة ثالثة لكان قوله تعالى: فإن طلقها طلقة رابعة، فإنه غير جائز وسبب نزول هذه الآية: أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها بأن زوجها يطلقها ويراجعها كثيرا وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أي ومن جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئا من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها لأنه استمتع بها في مقابلة ما أعطاها إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أن لا يراعيا مواجب أحكام الزوجة. وقرأ حمزة «يخافا» بضم الياء فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي فلا حرج على الزوج في أخذ ما افتدت الزوجة به نفسها من المال ليطلقها، ولا عليها في إعطائه إياه بطيبة نفسها. نزلت هذه الآية في شأن ثابت بن قيس بن شماس، وفي شأن جميلة بنت عبد الله ابن

أبي اشترت نفسها من زوجها بمهرها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت: «خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها» «1» . ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام. وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية. تنبيه: يجوز أن يكون أول الآية وهو قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا خطابا للأزواج وآخرها. وهو قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في القرآن. ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون، ثم الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف وهو الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن حمله على الظن كما قرئ قراءة شاذة «إلا أن يظنوا» . والخوف إما أن يكون من قبل المرأة فقط أو من قبل الزوج فقط أو من قبلهما معا، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما فإن كان الخوف من قبل المرأة بأن تكون ناشزة مبغضة للزوج فيحل له أخذ المال منها، وإن كان من قبل الزوج فقط بأن يضربها ويؤذيها حتى تلتزم الفداء فهذا المال حرام كما كان الخوف حاصلا من قبلهما معا فذلك المال حرام أيضا وإن لم يحصل الخوف من قبل واحد منهما. فقال أكثر المجتهدين: إن هذا الخلع جائز والمال المأخوذ حلال. وقال قوم: إنه حرام تِلْكَ أي ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع حُدُودَ اللَّهِ أي أحكام الله بين المرأة والزوج فَلا تَعْتَدُوها أي فلا تتجاوزوا عنها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي ومن يتجاوز أحكام الله إلى ما نهى الله عنه له فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) أي الضارون لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه فَإِنْ طَلَّقَها بعد الطلقتين فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد التطليقة الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي المطلق مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط تعتد منه وتعقد للثاني ويطؤها ثم يطلقها ثم تعتد منه. وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: تحل بمجرد العقد. روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي- بفتح الزاي وكسر الباء- فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقالت: كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثوب، وإنه أراد أن يطلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة!؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» «2» . و «العسيلة» مجاز عن قليل

_ (1) رواه الدارمي في كتاب الطلاق، باب: في الخلع. (2) رواه البخاري في كتاب الطلاق، باب: إذا طلّقها ثلاثا ثم تزوجت امرأة بعد العدة زوجا-

[سورة البقرة (2) : الآيات 231 إلى 240]

الجماع، إذ يكفي قليل انتشار. وفي قصة عبد الرحمن بن الزبير نزل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ والحكمة في التحليل الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعودة إلى المطلقة ثلاثا فَإِنْ طَلَّقَها أي طلق الزوج الثاني المطلقة ثلاثا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي المرأة والزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد ومهر إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أحكام الله فيما بين المرأة والزوج وَتِلْكَ أي الأحكام حُدُودَ اللَّهِ أي فرائض الله يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) أنه من الله ويصدقون بذلك وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهن ولم تنقض فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي فراجعوهن بغير ضرار بل بحسن الصحبة والمعاشرة أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي أو خلوهن حتى ينقضي أجلهن بغير تطويل وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً أي لا تراجعوهن بسوء العشرة وتضييق النفقة لِتَعْتَدُوا أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء ولتطيلوا عليهن العدة. نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار- يدعى ثابت بن يسار- طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الإمساك المؤدي إلى الظلم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي أضر بنفسه بتعريضها إلى عذاب الله وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ أي أمر الله ونهيه هُزُواً بأن تعرضوا عنها وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية، أي فاشكروها واحفظوها. وَما أَنْزَلَ الله عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ أي السنة يَعِظُكُمْ بِهِ أي يأمركم وينهاكم بما أنزل عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره كلها ولا تخالفوه في نواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وتذرون وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ والخطاب إما للأزواج والمعنى حينئذ: وإذا طلقتم النساء فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن من يريدون أن يتزوجوهن فإن الأزواج قد يعضلون مطلقاتهم أن يتزوجن ظلما، وإما للأولياء فنسبة الطلاق إليهم باعتبار تسببهم فيه كما يقع كثيرا أن الولي يطلب من الزوج طلاقها. والمعنى حينئذ وإذا خلصتم النساء من أزواجهن بتطليقهن فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن من أن ينكحن الرجال الذين كانوا أزواجا لهن. روي أن معقل بن يسار زوج أخته جميلة عبد الله بن عاصم فطلقها وتركها حتى انقضت

_ غيره فلم يمسها، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: الطلاق للتي تنكح زوجا ثم لا يدخل بها، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب: الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتزوج فيطلقها قبل أن يدخل بها إلخ، والموطأ في كتاب النكاح، باب: نكاح المحلل وما أشبه، وأحمد في (م 1/ ص 214) .

عدتها، ثم ندم، فجاء يخطبها لنفسه ورضيت المرأة بذلك، فقال لها معقل: إنه طلقك ثم تريدين مراجعته! وجهي من وجهك حرام إن راجعتيه. فأنزل الله تعالى هذه الآية فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معقلا وتلا عليه هذه الآية فقال معقل: رغم أنفي لأمر ربي اللهم رضيت وسلمت لأمرك، ثم أنكح أخته زوجها الأول عبد الله بن عاصم إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ أي بأن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه بِالْمَعْرُوفِ أي بالجميل عند الشرع المستحسن عند الناس ذلِكَ أي تفصيل الأحكام يُوعَظُ بِهِ أي يأمر به مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنه المتعظ ذلِكُمْ أي العمل بالوعظ أَزْكى لَكُمْ أي أصلح وأنفع لكم وَأَطْهَرُ للقلوب من العداوة والتهمة بسبب المحبة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه صلاح أموركم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) ذلك فدعوا رأيكم. وَالْوالِداتُ ولو مطلقات يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ من الأبوين وليس فيما دون ذلك حد وإنما هو على مقدار إصلاح المولود وما يعيش به وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي على الأب رِزْقُهُنَّ أي نفقتهن وَكِسْوَتُهُنَّ لأجل الإرضاع إذا كن مطلقات من الأب طلاقا بائنا لعدم بقاء علقة النكاح الموجبة لذلك فلو لم ترضعهم الوالدات لم يجب فإن كن زوجات أو رجعيات فالرزق والكسوة لحق الزوجية ولهن أجرة الرضاع إن امتنعن منه وطلبن ما ذكر بِالْمَعْرُوفِ أي بغير إسراف وتقتير لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ بالنفقة على الرضاع إِلَّا وُسْعَها أي إلا بقدر ما أعطاها الله من المال لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها أي بأخذ ولدها منها بعد ما رضيت بما أعطى غيرها على الرضاع مع شدة محبتها له وَلا مَوْلُودٌ لَهُ أي لا يضار أب بِوَلَدِهِ بطرح الولد عليه بعد ما عرف أمه، ولا يقبل ثدي غيرها مع أن الأب لا يمتنع عليها من الرزق والكسوة وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ أي على الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى مثل ما على الأب من النفقة والكسوة، فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على الرضاعة ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الولدان وهو قول مالك والشافعي. وقيل: المراد من الوارث الباقي من الأبوين أخذا من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا واجعلهما الوارث منا» «1» فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطام الصبي عن اللبن قبل تمام الحولين عَنْ تَراضٍ أي باتفاق مِنْهُما لا من أحدهما فقط وَتَشاوُرٍ أي تدقيق النظر فيما يصلح الولد فَلا جُناحَ عَلَيْهِما

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 523) ، والبخاري في الأدب المفرد (650) ، والطبراني في المعجم الكبير (2: 108) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (559) ، وعبد الرزاق في المصنف (19660) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (10: 178) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3621) ، والسيوطي في جمع الجوامع (9821) ، وأبي نعيم في حلية الأولياء (2: 182) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (93) .

في ذلك وكما يجوز عن النقص عن الحولين عند اتفاق الأبوين عليه كذلك تجوز الزيادة عليهما فاتفاقهما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أي إن أردتم أن تطلبوا مراضع لأولادكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في الاسترضاع إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ما آتيتموهن إياه، أي ما أردتم إيتاءه لهن من الأجرة. وقرأ ابن كثير وحده ما أتيتم مقصورة الألف أي «ما أتيتم» به أي ما أردتم إتيانه بِالْمَعْرُوفِ أي بالموافقة وليس تسليم الأجرة شرطا لصحة الإجارة بل لتكون المرضعة طيبة النفس راضية فيصير ذلك سببا لصلاح حال الصبي وللاحتياط في مصالحه وَاتَّقُوا اللَّهَ في الضرار والمخالفة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) فيجازيكم على ذلك وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً أي والذين تقبض أرواحهم من رجالكم ويتركون أزواجا ينتظرن بعدهم بأنفسهن في العدة أربعة أشهر وعشرة أيام. وهذه العدة سببها الوفاة عند الأكثرين لا العلم بالوفاة كما قال به بعضهم، فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغ المرأة خبر وفاة زوجها وجب أن تعتد بما انقضى والدليل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها انقضاء هذه المدة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت في تركهن فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين وغيره من كل ما حرم عليهن في زمن العدة لأجل وجوب الإحداد عليهن بِالْمَعْرُوفِ أي بما يحسن عقلا وشرعا. وقيل: المخاطب بهذا الخطاب جميع المسلمين، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر خَبِيرٌ (234) فيجازيكم عليه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي ولا حرج عليكم فيما طلبتم النكاح من النساء المعتدات للوفاة وللطلاق الثلاث بطريق التعريض، وهو ذكر كلام محتمل مؤكد بدلالة الحال على المقصود كأن يقول: إن جمع الله بيننا بالحلال يعجبني ذلك أو فيما أضمرتم في قلوبكم من قصد نكاحهن عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً أي إنما أباح لكم التعريض لعلمه بأنكم لا تصبرون على السكوت عنهن لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهى من العزم والتمني، وبأنه لا بدّ من كونكم ستذكرونهن بالخطبة فاذكروهن ولكن لا تواعدون بذكر الجماع وهو كما قال ابن عباس بأن لا يصف الخاطب نفسه لها بكثرة الجماع كأن يقول لها: آتيك الأربعة والخمسة إلا أن تساررونهن بالقول غير المنكر شرعا كأن يعدها الخاطب في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكدا لذلك التعريض وَلا تَعْزِمُوا أي لا تحققوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها وصارت منقضية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي

أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما نهيتم عنه فَاحْذَرُوهُ بالاجتناب عن العزم على ذلك وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى حَلِيمٌ (235) لا يعاجلكم بالعقوبة عن ذنوبكم لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً. وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء وبالألف بعد الميم، أي لا ثقل عليكم بلزوم المهر إن طلقتم النساء ما لم تجامعوهن أو ما لم تبينوا لهن مهرا فلا تعطوهن المهر. وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) أي أعطوهن متعة الطلاق جبرا لا يحاش الطلاق على الغني قدر ماله وإمكانه وعلى ضيق الرزق قدر ماله وطاقته تمتيعا بالوجه الذي تستحسنه الشريعة والمروءة واجبا على المؤمنين الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى طاعة الله تعالى، لأن المتعة بدل المهر. نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمتعها» . قال: لم يكن عندي شيء، قال: «متعها بقلنسوتك» «1» . وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ أي تجامعوهن وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أي وقد بينتم مهورهن فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فنصف ما بينتم ساقط إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ إلا أن تسهل الزوجات بإبراء حقها فيسقط كل المهر أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي أو يسهل الزوج ببعث كل الصداق فيثبت الكل إليها. وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي عفو بعضكم أيها الرجال والنساء أقرب للألفة وطيب النفس من عدم العفو الذي فيه التنصيف. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي ولا تتركوا أن يتفضل بعضهم على بعض بأن يسلم الزوج المهر إليها بالكلية، أو تترك المرأة المهر بالكلية إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ من الفضل والإحسان بَصِيرٌ (237) لا يضيع فضلكم وإحسانكم بل يجازيكم عليه. حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ الخمس بأدائها في أوقاتها كاملة الأركان والشروط. وهذه المحافظة تكون بين العبد والرب كأنه قيل له: احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وتكون بين المصلي والصلاة فكأنه قيل: احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي الفضلى. قيل: هي صلاة الصبح، وهو قول علي وعمر، وابن عباس وجابر، وأبي أمامة والباهلي- وهم من الصحابة- وطاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد- وهم من التابعين- وهو مذهب الشافعي. فإن أولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار. ولأنها منفردة في وقت واحد لا تجمع مع غيرها، ولأنها مشهودة لأنها تؤدي بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار وقيل: هي صلاة العصر وهو مروي عن علي وابن مسعود، وابن عباس وأبي هريرة فإنها متوسطة بين صلاة شفع وصلاة وتر، ولأن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل، فلما كانت معرفته أشق كانت الفضيلة فيها أكثر.

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (27923) ، وفيه «ولو بصاع»

وقال بعض الفقهاء: العصر وسط ولكن ليس هي المذكورة في القرآن، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر، أحدهما ثبتت بالقرآن والأخرى بالسنة، كما أن الحرم حرمان حرم مكة بالقرآن، وحرم المدينة بالسنة. واختار جمع من العلماء أنها إحدى الصلوات الخمس لا بعينها فأبهمها الله تعالى تحريضا للعباد في المحافظة على أداء جميعها، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وأخفى ساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء ليحافظوا على جميعها، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفا من الموت في كل الأوقات فيكون آتيا بالتوبة في كل الأوقات. وَقُومُوا لِلَّهِ في الصلاة قانِتِينَ (238) أي ذاكرين داعين مواظبين على خدمة الله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً أي فإن خفتم من عدو وغيره فصلوا مشاة على أرجلكم بالإيماء في الركوع والسجود، أو راكبين على الدواب حيثما توجهتم. والخوف الذي يفيد هذه الرخصة، إما أن يكون في القتال أو في غير القتال. فالخوف في القتال: إما أن يكون في قتال واجب أو مباح فالقتال الواجب هو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ويلتحق به قتال أهل البغي. وكما إذا قصد الكافر نفسه فإنه يجب الدفع عنه لئلا يكون إخلالا بحق الإسلام. وقد جوّز الشافعي أداء الصلاة حال المسايفة. والقتال المباح: هو أن يدفع الإنسان عن نفسه وعن كل حيوان محترم فيجوز في ذلك هذه الصلاة، أما إذا قصده إنسان بأخذ المال فالأصح أنه تجوز هذه الصلاة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» «1» فالدفع عن المال كالدفع عن النفس. وقيل: لا تجوز لأن حرمة الروح أعظم، والخوف الحاصل في غير القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع، والمطالب بالدين إذا كان معسرا خائفا من الحبس عاجزا عن بينة الإعسار فلهم أن يصلوا هذه الصلاة. فَإِذا أَمِنْتُمْ بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فافعلوا الصلاة كَما عَلَّمَكُمْ بقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه. والصلاة تسمى ذكرا كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم ف «ما» مفعول لعلمكم إن جعلت «ما» الأولى مصدرية، أما إن جعلت موصولة فما هذه بدل من الأولى أو من العائد المحذوف وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الديات، باب: 21، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 226، والبخاري في كتاب المظالم، باب: من قاتل دون ماله، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في قتال اللصوص، والنسائي في كتاب التحريم، باب: من قتل دون ماله، وابن ماجة في كتاب الحدود، باب: من قتل دون ماله فهو شهيد، وأحمد في (م 1/ ص 79) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 241 إلى 250]

أي والذين يقربون من الوفاة من رجالكم ويتركون أزواجا، عليهم أن يوصوا وصية لزوجاتهم في أموالهم بثلاثة أشياء: النفقة، والكسوة، والسكنى، إلى تمام الحول من موتهم غير مخرجات من مسكنهن. من التزين ومن الإقدام على النكاح. أو المعنى لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج، لأن مقامها حولا في بيت زوجها ليس بواجب عليها في الذي فعلن في أنفسهن من معروف من تزين وتشوف للتزويج وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره يعاقب من خالفه حَكِيمٌ (240) يراعي في أحكامه مصالح عباده واختيار جمهور من المفسرين أن هذه الآية منسوخة، قالوا: كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة، ولكنها كانت مخيرة بين أن تعتد في بيت الزوج وأن تخرج منه قبل الحول، لكن متى خرجت نفقتها فهذه الوصية صارت مفسرة بالنفقة والكسوة والسكنى إلى الحول، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين: النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والاعتداد سنة، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنّة توجب المنع من التزويج بزوج آخر في هذه السنة، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين وقد دل القرآن على ثبوت الميراث لها بتعيين الرابع أو الثمن، ودلت السنّة على أنه «لا وصية لوارث» فصار مجموع القرآن والسنّة ناسخا للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول، ووجوب العدة في الحول منسوخ بقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] . وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ أي متعة بِالْمَعْرُوفِ أي بقدر حال الزوجين وما يليق بهما حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) قال الشافعي رحمه الله: لكل مطلقة متعة، إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس. روي أنه لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ إلى قوله تعالى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل من المسلمين: إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل. فقال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي على كل من كان متقيا عن الكفر كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ هذا وعد من الله تعالى بأنه سيبين لعباده من الأحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أي لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها ثم ذكر خبر غزاة بني إسرائيل فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ

مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ أي لم يصل علمك إلى الذين خرجوا من منازلهم لقتال عدوهم وهم ثمانية آلاف أو أربعون ألفا- كل ذلك عن ابن عباس على اختلاف الرواة- فجبنوا عن القتال مخافة القتل فأماتهم الله مكانهم ثم أحياهم بعد ثمانية أيام. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال وقالوا لملكهم: إن الأرض التي تذهب إليها فيها الوباء فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء، فأماتهم الله تعالى بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم، فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم حظائر، فأحياهم الله بعد الثمانية، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي على أولئك القوم بسبب أنه أحياهم ومكّنهم من التوبة وعلى العرب الذين أنكروا المعاد الذين تمسكوا بقول اليهود في كثير من الأمور فيرجعون من الإنكار إلى الإقرار بالبعث بسبب إخبار اليهود لهم بهذه الواقعة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) فضله تعالى كما ينبغي أما الكفار فلم يشكروا وأما المؤمنون فلم يبلغوا غاية شكره. وهذه القصة تدل على أن الحذر من الموت لا يفيد، فهذه القصة تشجع الإنسان على الإقدام على طاعة الله تعالى كيف كان وتزيل عن قلبه الخوف من الموت، فكان ذكر هذه القصة فضلا وإحسانا من الله تعالى على عبيده لأن ذكر هذه القصة سبب لبعد العبد عن المعصية وقربه من الطاعة. ثم قال الله لهم بعد ما أحياهم: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله مع عدوكم وسميت العبادات سبيلا إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها، ومعلوم أن الجهاد تقوية للدين فكان طاعة فلا شك أن المجاهد مقاتل في سبيل الله. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكلامكم في ترغيب الغير في الجهاد وفي تنفير الغير عنه عَلِيمٌ (244) بما في صدوركم من البواعث والأغراض وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لغرض الدنيا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً. قرأ أبو عمرو ونافع وحمزة والكسائي «فيضاعفه» بالألف والرفع. وقرأ عاصم «فيضاعفه» بالألف والنصب. وقرأ ابن كثير «فيضعفه» بالتشديد والرفع بلا ألف. وقرأ ابن عامر «فيضعفه» بالتشديد والنصب. والمعنى من ذا الذي يعامل الله بإنفاق ماله في طاعته سواء كان الإنفاق واجبا أو متطوعا به معاملة جامعة للحلال الذي لا يختلط بالحرام للخالص من المن والأذى، ولنية التقرب إلى الله تعالى لا لرياء وسمعة فيضاعف الله جزاءه له في الدنيا والآخرة أضعافا كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة» . ويروى أنه لما نزلت هذه الآية قالت اليهود: إن الله فقير ونحن أغنياء فهو يطلب منا القرض وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقبض الرزق عمن يشاء ولو أمسكه عن الإنفاق ويبسطه على من يشاء ولو أنفق منه كثيرا، أو المعنى والله يفيض بعض القلوب حتى لا تقدم على هذه الطاعة

ويبسط بعضها حتى يقدم على هذه الطاعة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) فلا مدبر ولا حاكم سواه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن أبي الدحداح- رجل من الأنصار- قال: يا رسول الله إن لي حديقتين، فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال: «نعم» وأم الدحداح معي؟ قال: «نعم» . قال والصبية معي؟ قال: «نعم» . فتصدق بأفضل حديقتيه وكانت تسمى الجنينية فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته أم الدحداح: بارك الله لك في ما اشتريت. فخرجوا منها وسلموها فكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كم من نخلة رداح تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح» «1» . أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي ألم تخبر يا أشرف الخلق عن قصة الرؤساء من بني إسرائيل من بعد وفاة موسى حين قالوا لنبيهم شمويل كما قاله وهب بن منبه أو سمعون، أو يوشع بن نون كما قاله قتادة، أو حزقيل كما حكاه الكرماني أو أسماويل بن حلفا- واسم أمه حسنة- كما قاله مجاهد. وسبب سؤال بني إسرائيل نبيهم ذلك أنه لما مات موسى وعظمت الخطايا، سلط الله عليهم قوم جالوت، وكانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيرا من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم حينئذ نبي يدبر أمرهم، وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى فحبسوها في بيت، فولدت غلاما فلما كبر كفله شيخ من علمائهم في بيت المقدس، فلما بلغ الغلام أتاه جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة فإن كنت صادقا فبيّن لنا ملك الجيش نُقاتِلْ بأمره عدونا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإنما كان صلاح أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وبطاعة الملوك أنبياءهم فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي هو الذي يقيم أمره ويشير عليه برشده. قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي قال نبيهم: هل قاربتم أن لا تقاتلوا عدوكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا أي أيّ شيء ثبت لنا في ترك القتال الذي في طاعة الله، والحال أنه قد أبعد بعضنا من المنازل والأولاد والقائلون لنبيهم بما ذكر كانوا في ديارهم فسأل الله تعالى ذلك النبي فأوجب عليهم القتال وعين لهم ملكا ليقاتل بهم فَلَمَّا كُتِبَ أي أوجب عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قتال عدوهم لما شاهدوا كثرة العدو وشوكته إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة وثلاثة

_ (1) رواه أحمد في (م 5/ ص 95) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (9: 324) ، والطبراني في المعجم الكبير (2: 242) .

عشر على عدد أهل بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) أي هو عالم بمن ظلم نفسه حين خالف ربه ولم يف بما قبل من ربه وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ أي لأجل سؤالكم طالُوتَ مَلِكاً أي لما سأل الله تعالى أن يبين لهم ملكا أرسل الله له عصا وقرنا فيه دهن القدس وقيل له: إن صاحبك الذي يكون ملكا هو من يكون طوله طول هذه العصا، وانظر إلى القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فانتشر الدهن في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه بالدهن وملّكه عليهم واسمه طالوت. فدخل عليه رجل فانتشر الدهن في القرن فقام شمويل فقاسه بالعصا فكان على طولها وقال له: قرّب رأسك، فقربه فدهنه النبي بدهن القدس وقال له: «أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم» . فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى من سبط ملوك بني إسرائيل؟ قال: بلى. فقال شمويل الله يؤتي ملكه من يشاء كما قال الله تعالى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ أي قالوا: من أين يكون له الملك علينا والحال نحن أولى بالملك منه، وليس له سعة المال لينفق على الجيش؟. وإنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة. فكان سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون عليهما السلام. وسبط المملكة سبط يهوذا بن يعقوب ومنه داود وسليمان عليهما السلام. ولم يكن طالوت من أحدهما وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، فلما قال لهم نبيهم ذلك أنكروا وقالوا: هو دبّاغ، أو راع، أو سقّاء يستقي الماء على حمار له وإنما نزع الملك والنبوة منهم لأنهم عملوا ذنبا عظيما كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق جهارا فغضب الله عليهم بنزع ذلك منهم وكانوا يسمون سبط الإثم. قالَ أي نبيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ أي اختاره بالملك عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً أي سعة فِي الْعِلْمِ أي علم الحرب وعلم الديانات حتى قيل: إنه نبي أوحي إليه وَالْجِسْمِ بالقوة على مبارزة العدو، وبالجمال وبطول القامة فإنه أطول من غيره برأسه ومنكبيه فكان أعلم بني إسرائيل يومئذ وأجملهم وأتمهم خلقا وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ في الدنيا وَاللَّهُ واسِعٌ بالعطية عَلِيمٌ (247) بمن يليق بالملك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما قالوا: ليس ملكه من الله بل أنت ملّكته علينا: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أي إن علامة صحة ملكه من الله أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي الصندوق الذي أخذ منكم وهو صندوق التوراة وكانوا يعرفونه، وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاة موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل لما عصوا وفسدوا، فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال نبي ذلك القوم: إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء إلى الأرض والملائكة يحفظونه فأتاهم والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي كان في التابوت بشارات من كتب الله تعالى المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله ينصر طالوت وجنوده ويزيل عنهم الخوف من العدو

وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ وهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه ونعلاه وشيء من التوراة ورداء هارون وعمامته تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي تسوقه الملائكة إليكم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في رد التابوت إليكم لَآيَةً لَكُمْ أي علامة لكم دالة على أن ملكه من الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) أي مصدقين بتمليكه عليكم. أو المعنى أن في هذه الآية من نقل القصة معجزة باهرة دالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبر بهذه التفاصيل من غير سماع من البشر إن كنتم ممن يؤمن بدلالة المعجزة على صدق مدعي النبوة والرسالة. فلما رد عليهم التابوت قبلوا وخرجوا معه وهم ثمانون ألفا من الشبان الفارغين من جميع الأشغال فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ أي خرج من بيت المقدس بِالْجُنُودِ أي بالجيش التي اختارها وكان الوقت قيظا وسلك بهم في أرض قفرة فأصابهم حر وعطش شديد فطلبوا منه الماء قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ أي مختبركم بنهر جار ليظهر منكم المطيع والعاصي- وهو بين الأردن وفلسطين- أي والمقصود من هذا الابتلاء أن يميز الصدّيق عن الزنديق والموافق عن المخالف فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي من ماء النهر فَلَيْسَ مِنِّي أي من أتباعي المؤمنين فلا يكون مأذونا في هذا القتال وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي من لم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فإنه مني ويكون أهلا لهذا القتال. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «غرفة» بفتح الغين، وكذلك يعقوب وخلف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالضم. فالغرفة بالضم: الشيء القليل الذي يحصل في الكف. والغرفة بالفتح: الفعل وهو الاغتراف مرة واحدة. فكانت تكفيهم هذه الغرفة لشربهم ودوابهم وحملهم. فَشَرِبُوا مِنْهُ أي فلما وصلوا إلى النهر وقفوا فيه وشربوا منه بالكرع بالفهم كيف شاءوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلم يشربوا إلا قليلا وهو الغرفة. روي أن من اغترف غرفة كما أمر الله قوي قلبه، وصحّ إيمانه، وعبر النهر سالما، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه وخدمه وحمله مع نفسه، إما لأنه كان مأذونا أي في أخذ ذلك المقدار، وإما لأن الله تعالى يجعل البركة في ذلك الماء حتى يكفي لكل هؤلاء وذلك معجزة لنبي الزمان. وأما الذين شربوا منه وخالفوا أمر الله تعالى فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو. فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وهم أولئك القليل قالُوا أي بعض من معه من المؤمنين لبعض لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي بمحاربتهم وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ أي كم من جماعة قليلة من المؤمنين غلبت جماعة كثيرة من الكافرين بنصر الله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) أي معين الصابرين في الحرب بالنصرة يحتمل أن

[سورة البقرة (2) : الآيات 251 إلى 260]

يقال: المؤمنين الذين عبروا النهر كانوا فريقين بعضهم ممن يحب الحياة ويكره الموت فيخاف ويجزع، ومنهم من كان شجاعا قوي القلب لا يبالي بالموت في طاعة الله تعالى. فالأول: هم الذين قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ. والثاني: هم الذين أجابوا بقولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ويحتمل أن يقال القسم الأول من المؤمنين لما شاهدوا قلة عسكرهم قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فلا بد أن نوطن على القتل لأنه لا سبيل إلى القرار من أمر الله. والقسم الثاني قالوا: لا نوطن أنفسنا بل نرجو من الله الفتح والظفر، فكان غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة، وغرض الفريق الثاني الترغيب في طلب الفتح والنصرة وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصافوا لِجالُوتَ اسم ملك من ملوك الكنعانيين بالشام وَجُنُودِهِ قالُوا جميعا متضرعين إلى الله تعالى مستعينين به تعالى رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً على مشاهدة المخاوف والأمور الهائلة وَثَبِّتْ أَقْدامَنا في مداحض القتال بكمال القوة عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) بقهرهم وهزمهم فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أي كسروهم بنصرة الله إجابة لدعائهم وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن داود عليه السلام كان راعيا وله سبعة أخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود إليهم ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف، وبادر جالوت الجبار وهو من قوم عاد إلى البراز فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا بني إسرائيل لو كنتم على حق لبارزني بعضكم، فقال داود لأخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا. فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها أخوته، فمرّ به طالوت وهو يحرض الناس، فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي وأعطيه نصف ملكي. فقال داود: فأنا خارج إليه. وكان عادته أن يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى. وكان طالوت عارفا بجلادته. فلما همّ داود بأن يخرج إلى جالوت مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت. فلما خرج إلى جالوت الكافر رماه فأصابه في صدره، ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ثلاثين رجلا، فهزم الله تعالى جنود جالوت، وخرّ جالوت قتيلا، فأخذه داود يجره حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرح بنو إسرائيل وانصرفوا إلى البلاد سالمين غانمين. فجاء داود إلى طالوت وقال: أنجزني ما وعدتني، فزوجه ابنته وأعطاه نصف الملك كما وعده. فمكث معه كذلك أربعين سنة، فمات طالوت وأتى بنو إسرائيل بداود وأعطوه خزائن طالوت واستقل داود بالملك سبع سنين، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى كما قال تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي الكامل سبع سنين بعد موت طالوت، أي ملك بني إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها وَالْحِكْمَةَ أي النبوة بعد موت شمويل. وكان موته قبل

موت طالوت، ولم يجتمع في بني إسرائيل الملك والنبوة لأحد قبله الإله، بل كان الملك في سبط، والنبوة في سبط آخر. ومع ذلك جمع الله تعالى له ولابنه سليمان بين الملك والنبوة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعه الدروع من الحديد- وكان يلين في يده وينسجه- وفهم كلام الطير والنمل وكيفية القضاء وما يتعلق بمصالح الدنيا ومعرفة الألحان الطيبة. ولم يعط الله تعالى أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها وتظله الطير ويركد الماء الجاري ويسكن الريح. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بأهلها. قال ابن عباس: ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخربوا المساجد والبلاد. وقيل المعنى: ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض بما فيها، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر. روى أحمد بن حنبل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه والبلاء» . ثم قرأ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) كافة بسبب ذلك الدفع. تِلْكَ أي القصص بأخبار الأمم الماضية آياتُ اللَّهِ المنزّلة من عنده تعالى نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل بِالْحَقِّ أي ملتبسة باليقين الذي لا يشك فيه أحد من أهل الكتاب لما يجدونها موافقة لما في كتبهم وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) إلى الجن والإنس كافة بشهادة إخبارك عن الأمم الماضية من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع على أحد يخبرك بذلك. تِلْكَ الرُّسُلُ أي جماعة الرسل فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في مراتب الكمال بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ بلا واسطة- وهو موسى- حيث كلمه ليلة الحيرة وهي تحيره في معرفة طريقه من مسيره من مدين إلى مصر، وفي الطور. ومحمد حيث كلمه ليلة المعراج وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي فضائل وهو إبراهيم لأنه تعالى اتخذه خليلا ولم يؤت أحدا مثله هذه الفضيلة. وإدريس فإنه تعالى رفعه مكانا عاليا، وداود فإنه تعالى جمع له الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره، وسليمان فإنه تعالى سخّر له الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلا لأبيه داود عليه السلام. ومحمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه تعالى خصّه بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي العجائب من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ أي أعنّاه بجبريل في أول أمره وفي وسطه وفي آخره- وهو نفخ جبريل في عيسى وتعليمه العلوم وحفظه من الأعداء، وإعانته، ورفعه إلى السماء حين أرادت اليهود قتله- وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الذين جاءوا

من بعد الرسل من الأمم المختلفة بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق وَلكِنِ اخْتَلَفُوا في الدين. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاءت به أولئك الرسل من كل كتاب وعملوا به. وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بذلك فإن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وهذا التكرير ليس للتأكيد بل للتنبيه، على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم، بل الله تعالى مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ أي تصدقوا بشيء مما أعطيناكم من الأموال في طاعة الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ أي فداء فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أي مودة وَلا شَفاعَةٌ للكافرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح في «بيع» «خلة» و «شفاعة» . والباقون جميعا بالرفع وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم حاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله تعالى. وقيل: المعنى: والتاركون للزكاة هم الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب. اللَّهُ لا إِلهَ أي لا معبود بحق موجود إِلَّا هُوَ الْحَيُّ أي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء الْقَيُّومُ أي دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه في الإيجاد والأرزاق لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ أي نعاس وَلا نَوْمٌ ثقيل فيشغله عن تدبيره وأمره أي لا يأخذه نعاس فضلا عن أن يأخذه نوم. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذا رد على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء وللأصنام التي في الأرض، أي فلا تصلح أن تكون معبودة لأنها مملوكة لله مخلوقة له. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي لا يشفع عنده أحد من أهل السموات والأرض يوم القيامة إلا بأمره. وهذا رد على المشركين حيث زعموا أن الأصنام تشفع لهم فإنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما قبلهم وما بعدهم أو ما فعلوه من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي بقليل من معلوماته إِلَّا بِما شاءَ أن يعلموه أي أن أحدا لا يحيط بمعلومات الله تعالى إلا ما شاء هو أن يعلمهم. أو المعنى أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فالكرسي جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة. وهو أوسع من السموات والأرض. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أي لا يثقل عليه تعالى حفظ السموات والأرض بغير الملائكة. وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي بذاته عن الأشباه والأنظار. الْعَظِيمُ (255) أي الذي يستحقر كل ما سواه بالنسبة إليه. فهو تعالى أعلى وأعظم من كل شيء. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين

يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة» . وعن علي أنه قال: سمعت نبيكم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» أي فإذا مات دخل الجنة. ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد. ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ أي لا إكراه على الدخول في دين الله قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي قد تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الدلائل. وروي أنه كان لأبي الحصين الأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان قد تنصّرا قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما. فأبيا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فخلى سبيلهما، ثم نزل في شأن منذر بن ساوى التميمي قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي بالشيطان وبكل ما عبد من دون الله وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أي فقد تمسك بالعقدة المحكمة لا انقطاع لها، أي فقد أخذ بالثقة لا انقطاع لصاحبها عن نعيم الجنة، ولا زوال عن الجنة ولا هلاك بالبقاء في النار وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر. عَلِيمٌ (256) بما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث، أو يقال: والله سميع عليم لدعائك يا محمد بحرصك على إسلام أهل الكتاب، وذلك لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة. وكان يسأل الله تعالى ذلك سرا وعلانية. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي الله ناصر الذين آمنوا، كعبد الله بن سلام وأصحابه يُخْرِجُهُمْ بلطفه وتوفيقه مِنَ الظُّلُماتِ أي الكفر إِلَى النُّورِ أي الإيمان وَالَّذِينَ كَفَرُوا ككعب بن الأشرف وأصحابه أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال مِنَ النُّورِ الفطري أي الذي جبل عليه الناس كافة أو من نور البينات التي يشاهدونها من جهة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والانهماك في الضلال. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أي ماكثون أبدا أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر إِلَى هذا الطاغوت كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات. الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي إلى قصة الذي خاصم إبراهيم في دين رب إبراهيم وهو نمروذ بن كنعان أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي فطغى وادعى الربوبية فحاج لأن أعطاه الله الملك. إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يخلق الحياة والموت في الأجساد. وقرأ حمزة «ربي» بسكون الياء. وهذه المحاجة مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالما، وذلك أن الناس قحطوا على عهد نمروذ، وكان الناس يمتارون من عنده، فكان إذا أتاه الرجل في طلب الطعام سأله من ربك؟ فإن قال: أنت باع منه الطعام فأتاه إبراهيم فقال له: من

ربك؟ فقال له ذلك. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ له ائتني ببيان ذلك فدعا نمروذ برجلين من السجن، فقتل واحدا وترك واحدا قال: هذا بيان ذلك. قال إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ في كل يوم فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ولو يوما واحدا إن كنت صادقا فيما تدّعيه من الربوبية فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي سكت بغير حجة أي فيبقى مغلوبا لا يجد للحجة مقالا ولا للمسألة جوابا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) بالكفر إلى طريق الحجة أَوْ كَالَّذِي أي أرأيت مثل الذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هي بيت المقدس. كما أخرجه ابن جرير عن وهب عن قتادة، والضحاك وعكرمة والربيع. أو القرية التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم- وهم ألوف حذر الموت- كما نقل عن ابن زيد أي قد رأيت الذي مر على قرية كيف هداه الله وأخرجه من ظلمة الاشتباه إلى نور العيان، والمار هو عزير بن سروحا. كما روي عن علي بن أبي طالب، وعن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت السقوف أولا ثم الأبنية. قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها أي كيف يحيي الله أهل هذه القرية بعد موتهم تعجبا من قدرة الله تعالى على إحيائها فَأَماتَهُ اللَّهُ مكانه فكان ميتا مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه في آخر النهار. قالَ تعالى له: كَمْ لَبِثْتَ أي مكثت هنا يا عزير بعد الموت؟ - والقائل هو الله تعالى، أو ملك مأمور بذلك القول من قبله تعالى- قالَ لَبِثْتُ يَوْماً ثم نظر إلى الشمس وقد بقي منها شيء فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ أي الله له أو الملك بَلْ لَبِثْتَ ميتا مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ أي التعين والعنب وَشَرابِكَ أي العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير ولم ينصب في هذه المدة المتطاولة فكان التين، والعنب كأنه قد قطف من ساعته، والعصير كأنه قد عصر من ساعته، واللبن قد حلب من ساعته وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تقطعت أوصاله، وكيف تلوح عظامه بيضاء. فعلنا ذلك الإحياء لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي لكي نجعلك علامة للناس في إحياء الموتى أنهم يحيون على ما يموتون لأنه مات شابا، وبعث شابا وعبرة للناس لأنه كان ابن أربعين سنة وابنه ابن مائة وعشرين سنة وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار كَيْفَ نُنْشِزُها. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر بالراء أي كيف نحييها ونخلقها. وقرأ حمزة والكسائي «ننشزها» بالزاي المنقوطة أي كيف نرفع بعضها على بعض ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي ننبت عليها العصب والعروق، واللحم والجلد والشعر ونجعل فيه الروح بعد ذلك فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وقوع ما كان يستبعد وقوعه قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحياة والموت قَدِيرٌ (259) . روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في سبب نزول هذه الآية قال: إن بختنصر البابلي غزا بني إسرائيل وهو في ستمائة ألف راية، فسبى من بني إسرائيل الكثير ومنهم عزير- وكان من

علمائهم- فجاء بهم إلى بابل، فدخل عزير تلك القرية التي انهدمت حيطانها، ونزل تحت شجرة وهو على حمار، فربط حماره وطاف في القرية، فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها- وذلك على سبيل الاستبعاد بحسب العادة لا على سبيل الشك في قدرة الله- وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة والتين والعنب وشرب من عصير العنب، وجعل فضل الفاكهة في سلة، وفضل العصير في زق، ونام. فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير، ثم أحياه الله تعالى بعد مائة ونودي من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت؟ فقال: يوما، فأبصر من الشمس بقية، فقال: أو بعض يوم. فقال الله تعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ من التين والعنب وَشَرابِكَ من العصير لم يتغير طعمها فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما، ثم قال تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله، وسمع صوتا: «أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا» ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه، ثم انبسط الجلد عليه، ثم خرجت الشعور من الجلد، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق، فخرّ عزير ساجدا وقال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ثم إنه دخل بيت المقدس، لما روي أنه لما مضى من وقت موته سبعون سنة سلط الله ملكا من ملوك فارس فسار بجنوده حتى أتى بيت المقدس فعمروه وصار أحسن مما كان، ورد الله تعالى من بقي من بني إسرائيل إلى بيت المقدس ونواحيه، فعمروها ثلاثين سنة، وكثروا كأحسن ما كانوا، وأعمى الله العيون عن العزير هذه المدة فلم يره أحد، فلما مضت المائة أحيا الله تعالى منه عينيه وسائر جسده ميت، ثم أحيا الله تعالى جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره- كما سبق- فلما دخل بيت المقدس قال القوم: حدثنا آباؤنا أن عزير بن سروحا أو ابن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قتل في بيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت عورضت بما أملاه، فما اختلفا في حرف. فعند ذلك قالوا عزير ابن الله وَأ لم تر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ هذا دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. قال الحسن والضحّاك وقتادة وعطاء وابن جريح: إنه رأى جيفة مطروحة في شط النهر فإذا مدّ البحر أكل منها دواب البحر، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت. فقال إبراهيم: رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطوع السباع والطيور ودواب البحر قالَ تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أتسأل ولم توقن بقدرتي عن الإحياء قالَ بَلى أنا موقن بذلك وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي ولكن سألت ما سألت لتسكن حرارة قلبي،

[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 270]

وأعلم بأني خليلك مستجاب الدعوة، والمطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضروريا قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ أشتاتا: وزا، وديكا، وطاوسا، ورألا (وهو فرخ النعام) - كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق الضحاك- أو طاوسا وديكا وحمامة وغرنوقا (وهو الكركي) - كما أخرجه عنه من طريق حنش- فَصُرْهُنَّ. قرأه حمزة بكسر الصاد. والباقون بضمها وتخفيف الراء أي قطعن وأملهن إِلَيْكَ فقطع إبراهيم أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي ثم ضع على كل جبل من أربعة أجبل منهن جزءهن أي على حسب الطيور الأربعة، وعلى حسب الجهات الأربعة أيضا، ثُمَّ ادْعُهُنَّ بأسمائهن أي قل لهن: تعالين يا وز، ويا ديك ويا طاوس، ويا رأل بإذن الله تعالى يَأْتِينَكَ سَعْياً أي مشيا سريعا ولم تأت طائرة ليتحقق أن أرجلها سليمة في هذه الحالة وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ (260) أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بذبحها ونتف ريشها، وتقطيعها جزءا جزءا، وخلط دمائها ولحومها. وأن يمسك رؤوسها بيده، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال، على كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن الله تعالى، ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث، ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها سعيا على أرجلها، وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي صفة صدقات الذين ينفقون أموالهم في دين الله كصفة حبة أخرجت سبع سنابل. أو المعنى مثل الذين ينفقون أموالهم في وجوه الخيرات من الواجب والنفل كمثل زارع حبة أخرجت ساقا تشعب منه سبع شعب، في كل واحدة منها سنبلة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن بل فيهما أكثر من ذلك وَاللَّهُ يُضاعِفُ فوق ذلك لِمَنْ يَشاءُ على حسب المنفق من إخلاصه وتعبه. ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب. وَاللَّهُ واسِعٌ أي لا يضيق عليه ما يتفضل به من التضعيف عَلِيمٌ (261) بنية المنفق وبمن يستحق المضاعفة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً والمن: هو الاعتداد بالنعمة واستعظامها على المنفق عليه. والأذى: بأن يؤذى المنفق عليه بالقول أو العبوس في وجهه أو الدعاء عليه. وقيل: المراد هو المن على الله وهو العجب، والأذى لصاحب النفقة. لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي ثواب إنفاقهم عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فلا يخافون فقد أجورهم ولا يخافون العذاب ألبتة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) على ما خلفوا من خلفهم نزلت هذه الآية في حق عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف

دينار، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه يقول: «يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه» «1» . وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار وقال: كان عندي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأخرجت أربعة آلاف لربي عز وجل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» «2» . والمعنى الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم في حوائجهم ومؤنتهم ولم يخطر ببالهم شيء من المن والأذى قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل من غير إعطاء شيء وَمَغْفِرَةٌ من المسؤول عن بذاءة لسان الفقير خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً لكونها مشوبة بضرر التعيير له بالسؤال وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقة العبادة، فإنما أمركم بالصدقة لينبئكم عليها. حَلِيمٌ (263) إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ أي أجر صدقاتكم بِالْمَنِّ وَالْأَذى. قال ابن عباس: أي بالمن على الله معناه العجب بسبب صدقتكم، وبالأذى للسائل. وقال الباقون: بالمن على الفقير وبالأذى للفقير كَالَّذِي أي كإبطال أجر نفقة الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ أي سمعة الناس ولطلب المدحة والشهرة وَكالذي وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو المنافق. فإن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى، ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضا. إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما منّ على الفقير ولا آذاه. فالمقصود من الإبطال، الإتيان بالإنفاق باطلا، لأن المقصود الإتيان به صحيحا، ثم إحباطه بسبب المن والأذى والأوجه كما قال بعضهم: إذا فعل ذلك فله أجر الصدقة ولكن ذهبت مضاعفته وعليه الوزر بالمن فَمَثَلُهُ أي فحالة المرائي في الإنفاق كَمَثَلِ صَفْوانٍ. وقيل: الضمير عائد على المنافق، فيكون المعنى إن الله تعالى شبّه المانّ والمؤذي بالمنافق، ثم شبه المنافق بالحجر الكبير الأملس عَلَيْهِ تُرابٌ أي شي من التراب فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد فَتَرَكَهُ صَلْداً أي فجعل المطر ذلك الحجر أملس نقيا من التراب لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يقدرون على ثواب شيء في الآخرة مما أنفقوا في الدنيا رثاء، أو المعنى لا يجد المان والمؤذي ثواب صدقته، كما لا يوجد على الصفوان التراب بعد ما أصابه المطر الشديد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) إلى الخير والرشاد. وفي هذه الآية تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى- على الإنفاق- من خصائص الكفار فلا بدّ للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ أي مثل أموال الذين ينفقون أموالهم طلب رضاء الله تعالى ويقينا

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (3: 306) . (2) رواه ابن حجر في فتح الباري (8: 332) . [.....]

من قلوبهم بالثواب من الله تعالى، وتصديقا بوعده يعلمون أن ما أنفقوا خير لهم مما تركوا كمثل بستان في مكان مرتفع مستو أصابه مطر شديد كثير فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ أي فأخرجت ثمرها مضاعفا مثلي ما يثمر غيرها- بسبب الوابل- فتحمل من الريع في سنة ما يحمل غيرها في سنتين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي رش مثل الرذاذ يكفيها لجودتها ولطافة هوائها. والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عملا ظاهرا أو قلبيا بَصِيرٌ (265) لا يخفى عليه شيء منه أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب حبا شديدا أو يتمنى أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أي بستان مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تطرد الْأَنْهارُ من تحت شجر تلك الجنة ومساكنها. لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي لذلك الأحد- حال كونه في الجنة- رزق من كل الثمرات وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ أي وقد أصابه كبر السن فلا يقدر على الكسب. والحال أن له أولادا صغارا لا يقدرون على الكسب فَأَصابَها أي الجنة إِعْصارٌ أي ريح ترتفع إلى السماء كأنها عمود فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ أي تلك الجنة. والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله، فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة. إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أمورا تخرجها عن كونها موجبة للثواب. فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته. كَذلِكَ أي مثل هذا البيان في أمر النفقة المقبولة وغيرها يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي الدلائل في سائر أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) أي لكي تتفكروا في أمثال القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي زكوا من جياد ما جمعتم من الذهب والفضة وعروض التجارة والمواشي وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من الحبوب والثمار والمعادن. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي ولا تقصدوا الرديء من أموالكم مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ فقوله «منه» استفهام على سبيل الإنكار، وهو متعلق بالفعل بعده. والمعنى أمن الخبيث تنفقون في الزكاة والحال أنكم لستم قابلي الخبيث إذا كان لكم حق على صاحبكم؟ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي إلا بأن تساهلوا في الخبيث وتتركوا بعض حقكم كذلك لا يقبل الله الرديء منكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم، وإنما يأمركم به لمنفعتكم. حَمِيدٌ (267) أي مستحق للحمد على نعمه العظام. وقيل: حامد بقبول الجيد وبالإثابة عليه. الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي إبليس يخوفكم بالفقر عند الصدقة ويقول لكم: أمسكوا أموالكم فإنكم إذا تصدقتم صرتم فقراء. أو المعنى النفس الأمارة بالسوء توسوس لكم بالفقر. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي بالبخل ومنع الزكاة والصدقة وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ يسبب الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ عز وجل وَفَضْلًا أي خلفا في الدنيا وثوابا في الآخرة وَاللَّهُ واسِعٌ بالمغفرة للذنوب وبإغنائكم وإخلاف ما تنفقونه عَلِيمٌ (268) بنياتكم وصدقاتكم

[سورة البقرة (2) : الآيات 271 إلى 280]

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فالحكمة هي العلم النافع وفعل الصواب. فقيل في حد الحكمة: هي التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تخلّقوا بأخلاق الله تعالى» . وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ أي إصابة القول والفعل والرأي فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أي أعطي خير الدارين وَما يَذَّكَّرُ أي ما يتفكر في الحكمة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269) أي إلا أصحاب العقول السليمة من الركون إلى متابعة الهوى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أي أيّ نفقة كانت في حق أو باطل، في سر أو علانية قليلة أو كثيرة. أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أي أيّ نذر كان في طاعة أو معصية، بشرط أو بغير شرط، متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ أي ما أنفقتموه فيجاز بكم عليه وَما لِلظَّالِمِينَ بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الزكاة وعدم الوفاء بالنذور، أو بالإنفاق بالخبيث أو بالرياء والمن والأذى مِنْ أَنْصارٍ (270) أي أعوان ينصرونهم من عقاب الله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إظهارها بعد أن لم يكن رياء وسمعة وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي أفضل من إيذائها وإيتائها الأغنياء. روي أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا. وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «نكفر» بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم أي و «نكفر» عنكم شيئا من ذنوبكم بقدر صدقاتكم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «يكفر» بالياء والرفع. والمعنى يكفر الله أو يكفر الإخفاء. وقرئ قراءة شاذة «تكفر» بالتاء وبالرفع والجزم والفاعل راجع للصدقات. وقرأ الحسن بالتاء والنصب بإضمار أن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الصدقة في السر والعلانية خَبِيرٌ (271) لا يخفى عليه شيء منه لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي ليس عليك هدي من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إلى الدخول في الإسلام. روي أن نبيلة أم أسماء بنت أبي بكر وجدتها وهما مشركتان جاءتا أسماء تسألانها شيئا. فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنكما لستما على ديني. فسألته عن الصدقة على الكفار فقالت: هل يجوز لنا يا رسول الله أن نتصدق على ذوي قرابتنا من غير أهل ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية. فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتصدق عليهما، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير ولو على كافر فإنما هو يحصل لأنفسكم ثوابه فلا يضركم كفرهم وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي ولستم في صدقتكم على أقاربكم من

المشركين تقصدون إلا وجه الله. فقد علم الله هذا من قلوبكم فأنفقوا عليهم إذا كنتم تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال على الفقراء يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوفي إليكم ثواب ذلك في الآخرة وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء الذين حبسوا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، لأن الجهاد كان واجبا في ذلك الزمان. نزلت هذه الآية في حق فقراء المهاجرين من قريش، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة. لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ولا يستطيعون سفرا في الأرض، ثم عدم الاستطاعة للسير إما لاشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد فذلك يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لخوفهم من الأعداء كما قاله قتادة وابن زيد لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم فذلك يمنعهم من السفر، وإما لمرضهم بالجروح كما قاله سعيد بن المسيب ولعجزهم لفقرهم كما قاله ابن عباس وذلك يمنعهم من السفر فحث الله عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي يظنهم من لم يختبر أمرهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة تَعْرِفُهُمْ أيها المخاطب بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم من الهيبة ووقع في قلوب الخلق وآثار الخشوع في الصلاة فكل من رآهم تواضع لهم. روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا سؤال لهم أصلا فلا يقع منهم إلحاف أي كثرة التلطف وملازمة المسؤول أي إنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق. والمراد بقوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافا. عن ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذي السآل الملحف الذي إن أعطي كثيرا أفرط في المدح، وإن أعطي قليلا أفرط في الذم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ أي من مال فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) فيجازيكم على ذلك أحسن جزاء وهذا يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علمي شاهدا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعا مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في الصدقة بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بالدوام وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) إذا حزن غيرهم.

قيل: لما نزل قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله بعث عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلا فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس: إن عليا رضي الله عنه ما يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما حملك على هذا؟» فقال: أن أستوجب ما وعدني ربي. فقال: «لك ذلك» . فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقيل: نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة في السر، وعشرة في العلانية. وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان. وقال الأوزاعي نزلت في الذين يربطون الخيل للجهاد وينفقون عليها الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه استحلالا لا يَقُومُونَ من قبورهم إذا بعثوا إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أي إلا قياما كقيام الذي يتخبله الشيطان من إصابة الشيطان بالجنون في الدنيا، أي أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فيعرفه أهل الموقف بتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بالجنون. ذلِكَ أي كون التخبل علامة آكل الربا في الآخرة بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي إنما الزيادة في البيع كالزيادة في الربا، أي ذلك العذاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح، فاستحلوه استحلاله وقالوا: يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين، بل جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما وفي الثاني منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة بالبيع والشراء وحرم الربا الذي هو زيادة في المال لأجل تأخير الأجل فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي زجر وتخويف عن الربا مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى أي امتنع عن أخذه فَلَهُ ما سَلَفَ. قال السدي: أي له ما أكل من الربا وليس عليه ردما سلف فأما ما لم يقض بعد النهي فلا يجوز له أخذه وإنما رأس ماله فقط وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ أي يجازيه على انتهائه عن أخذه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية وَمَنْ عادَ إلى تحليل الربا بعد التحريم فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) أي ماكثون أبدا يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يهلك المال الذي دخل فيه في الدنيا والآخرة. قال ابن عباس: إن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم. وَيُرْبِي

[سورة البقرة (2) : الآيات 281 إلى 286]

الصَّدَقاتِ أي يبارك في المال الذي أخرجت منه في الدنيا والآخرة وفي الحديث: «إن الملك ينادي كل يوم اللهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا» «1» . وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أي جاحد بتحريم الربا أَثِيمٍ (276) أي فاجر بأخذه مع اعتقاد التحريم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسله وكتبه وبتحريم الربا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي فيما بينهم وبين ربهم وتركوا الربا وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلوات الخمس بما يجب فيها وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه آت وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) على محبوب فات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي اتركوا طلب ما بقي مما زاد على رؤوس أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) أي مصدقين بقلوبكم في تحريم الربا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به بأن لم تتركوا الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فاستعدوا للعذاب من الله في الآخرة بالنار، وللعذاب من رسوله في الدنيا بالسيف وَإِنْ تُبْتُمْ من معاملة الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أي أصولها دون الزيادة لا تَظْلِمُونَ الغريم بطلب الزيادة على رأس المال وَلا تُظْلَمُونَ (279) أي بنقصان رأس المال وبالمطل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أي وإن وقع غريم من غرمائكم ذو حالة يتعسر فيها وجود المال فيجب عليكم إمهاله إلى وقت يسار وسعة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي تصدقكم على المعسر برءوس أموالكم خير لكم من الأخذ والتأخير لأنه حصل لكم الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) فضل التصدق على الأنظار والقبض وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أي إلى حسابه لأعمالكم وهو يوم القيامة ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي توفى فيه كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) بنقص حسنة أو زيادة سيئة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله والرسول إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ أي إذا داين بعضكم بعضا، وعامله نسيئة معطيا أو آخذا إلى وقت معلوم بالأيام، أو الأشهر ونحوهما مما يرفع الجهالة لا بالحصاد ونحوه مما لا يرفعها، فاكتبوا الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع للنزاع. والأكثرون على أن هذه الكتابة أمر استحباب، فإن ترك فلا بأس وهو أمر تعليم ترجع فائدته إلى منافع الخلق في دنياهم، فلا يثاب عليه المكلف إلا إن قصد الامتثال. قال المفسرون: المراد بالمداينة السلم، فالله تعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية، مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء: «لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضع الله تعالى لتحصيل مثل

_ (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب: قول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إلخ، وأحمد في (م 2/ ص 306) .

تلك اللذة طريقا حلالا وسبيلا مشروعا» . والقرض غير الدين، لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير، أو حبا أو تمرا أو ما أشبه ذلك، ويسترد مثله ولا يجوز فيه الأجل. والدين يجوز فيه ذلك فذكر الأجل في القرض إن كان لغرض المقرض أفسده وإلا فلا يفسده ولا يجب الوفاء به لكنه يستحب. قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في السلف لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» «1» . وقال أكثر المفسرين: إن البياعات على أربعة أوجه: أحدها: بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة ألبتة. والثاني: بيع الدين بالدين. وهو باطل فلا يكون داخلا تحت هذه الآية. وبيع العين بالدين: وهو إذا باع شيئا بثمن مؤجل. وبيع الدين بالعين: وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية. وَلْيَكْتُبْ كتاب الدين بَيْنَكُمْ أي بين الدائن والمديون كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي بحيث لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص في ذلك وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ أي ولا يمتنع أحد من أن يكتب كتاب الدين بين الدائن والمديون على طريقة ما علمه الله كتابة الوثائق فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أي وليبين المديون للكاتب ما عليه من الدين لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً أي وليخش المديون ربه بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص مما عليه من الدين شيئا في إلقاء الألفاظ على الكاتب فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي فإن كان المديون ناقص العقل مبذرا أو عاجزا عن سماع الألفاظ للكاتب لصغر أو كبر مضعف للعقل، أو لا يحسن الإسماع بنفسه على الكاتب- لخرس أو جهل باللغة أو بما عليه- فليقر على

_ (1) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب: 128، والبخاري في كتاب السلم، باب: السلم إلى أجل معلوم، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في السلف، والترمذي في كتاب البيوع، باب: 68، والنّسائي في كتاب البيوع، باب: السلف في الثمار، وابن ماجة في كتاب التجارة، باب: السلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في السلف، وأحمد في (م 1/ ص 217) .

الكاتب ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة. والمراد بالولي هو الولي لغة وهو من له ولاية عليه بأي طريق كان كوصي وقيّم ومترجم بِالْعَدْلِ أي بالصدق من غير زيادة ونقص. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أي وأشهدوا على الدين شاهدين من الرجال البالغين الأحرار المسلمين. وعند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبيد. وأجاز أبو حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فإن لم يكن الشاهدان رجلين بأن لم يقصد إشهادهما فرجل وامرأتان كائنون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ لدينه وعدالته مِنَ الشُّهَداءِ يشهدون. وهذا تفسير للخير. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى. قرأ حمزة «أن تضل» بكسر «إن» ، «وتذكر» بالرفع والتشديد. وقرأ نافع وعاصم والكسائي «فتذكر» بالتشديد والنصب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب. أما سائر القراء فقرأوا بنصب «أن» على حذف لام التعليل، أي وإنما اشترط التعدد في النساء لأجل أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة لنقص عقلهن، فتذكر إحداهما الذاكرة للشهادة المرأة الأخرى الناسية لها وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا أي ولا يمتنع الشهداء إذا دعوا إلى تحمل الشهادة وأدائها عند الحكام، فيحرم الامتناع عليهم، لأن تحمل الشهادة وفرض كفاية مطلقا، والأداء كذلك إن زاد المتحملون على من يثبت بهم الحق وإلا ففرض عين. وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أي ولا تملوا أن تكتبوا الدين لكثرة وقوع المداينة على أي حال كان الدين قليلا أو كبيرا، وعلى أي حال كان الكتاب مختصرا، أو مشبعا حال كون الدين مستقرا في ذمة المديون إلى وقت حوله الذي أقر به المديون. أي فاكتبوا الدين بصفة أجله ولا تهملوا الأجل في الكتابة وقوله تعالى: وَلا تَسْئَمُوا معطوف على قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ. ذلِكُمْ أي الكتابة للدين أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل في حكم الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أبين للشاهد بالشهادة إذا نسي وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي وأقرب إلى انتفاء شككم في قدر الدين وأجله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ. قرأ عاصم «تجارة» بالنصب على أنه خبر «تكون» . والباقون بالرفع على أنه اسم «تكون» والخبر «تديرونها» ، و «إلا» إما استثناء متصل راجع إلى قوله تعالى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريبا وهو المراد من التجارة الحاضرة، وإما استثناء منقطع. فالتقدير: لكنه إذا كانت تجارتكم ومداينتكم تجارة حالة تتعاطونها يدا بيد، أو التقدير لكن إذا كانت تجارة حاضرة مقبوضة بينكم ولا أجل فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي ليس عليكم مضرة في ترك الكتابة في المداينة الحاضرة كأن باع ثوابا بدرهم في الذمة بشرط أن يؤدى الدرهم في هذه الساعة، أي لا بأس بعدم الكتابة في ذلك

لبعده عن التنازع والنسيان. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ بالأجل وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ بالكتابة وَلا شَهِيدٌ بالشهادة. وهذا إما مبني للفاعل فيكون نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق، وهو قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة، ويدل على ذلك قراءة عمر رضي الله عنه ولا يضارر بالإظهار والكسر، واختار الزجاج هذا القول لقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: 282] وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن الشهادة: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283]- والآثم والفاسق متقاربان- وإما مبني للمفعول فيكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد، كأنه يكلفهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة ولا يعطي الكاتب جعله ولا الشهيد مؤنة مجيئه حيث كان فإن لهما الجعل، ولا يكلفان الكتابة والشهادة مجانا، وهو قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس «ولا يضارر» بالإظهار والفتح، وهذا لو كان نهيا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه فسوق بكما، ولأن دلالة الكلام من أول الآيات إنما هو في المكتوب له والمشهود له. وإذا كان هذا النهي متوجها للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرير فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أي فإن فعلكم ذلك معصية منكم وخروج عن طاعة الله وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حذر منه وهو هنا المضارة. أو المعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما يكون إرشادا واحتياطا في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشادا في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من مصالح الدنيا والآخرة عَلِيمٌ (282) فلا يخفى عليه حالكم وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فرهن» بضم الراء والهاء أو سكونه. والباقون «فرهان» بكسر الراء وفتح الهاء مع المد و «على» بمعنى في أو بمعنى إلى. أي وإن كنتم مسافرين أو متوجهين إلى السفر، ولم تجدوا كاتبا أو آلة الكتابة في المدينة فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين، أو يقال في الوثيقة رهان مقبوضة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ أي الدائن بَعْضاً أي المديون بالدين بلا رهن لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ بالدين أَمانَتَهُ أي حق صاحبه وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي وليخش المديون ربه في أداء الدين عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا إنكار بل يعامل الدائن معاملة حسنة كما أحسن ظنه فيه وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ عند الحكام بإنكار العلم بتلك الواقعة أو بالامتناع من أداء الشهادة عند الحاجة إلى إقامتها. وَمَنْ يَكْتُمْها أي الشهادة فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ أي فاجر قلبه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها ومن الخيانة في الأمانة وعدمها عَلِيمٌ (283) فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا من الخلق والعجائب يأمر عباده بما يشاء وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على السوء بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل أَوْ تُخْفُوهُ بأن تكتموه منهم وَلا يَأْبَ كاتِبٌ يوم القيامة. فالخواطر

الحاصلة في القلب على قسمين: ما يوطّن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، وما لا يكون كذلك بل تكون أمورا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس. فالقسم الأول يكون مؤاخذا به، والثاني لا يكون مؤاخذا به فَيَغْفِرُ بفضله لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَيُعَذِّبُ بعدله مَنْ يَشاءُ تعذيبه وقد يغفر لمن يشاء الذنب العظيم، وقد يعذب من يشاء على الذنب الحقير. لا يسأل عما يفعل. قرأ عاصم وابن عامر «فيغفر» ، «ويعذب» بالرفع. والباقون بالجزم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المغفرة والعذاب قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ أي صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي من القرآن. قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصوم والحج، وذكر الطلاق والإيلاء والحيض والجهاد، وقصص الأنبياء، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بجميع ذلك، انتهى. وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ أي كل واحد منهم آمَنَ بِاللَّهِ أي بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه وَمَلائِكَتِهِ أي بوجودها وبأنهم معصومون مطهرون يخافون ربهم من فوقهم وأنهم وسائط بين الله وبين البشر. وأن كتب الله المنزّلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة وَكُتُبِهِ. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف وفتح التاء مع المد بأن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسله، وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وبأن يعلم أن الوحي بهذه الكتب، فالله تعالى لم يمكن أحدا من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر. وبأن يعلم أن هذا القرآن لم يغيّر ولم يحرّف، فمن قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وهو قول فاسد. وبأن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه وَرُسُلِهِ بأن يعلم كونهم معصومين من الذنوب. وبأن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأن الرسل أفضل من الملائكة. وأن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي يقول المؤمنون لا نكفر بأحد من رسله بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم وَقالُوا أيضا سَمِعْنا قول ربنا وَأَطَعْنا أمر ربنا غُفْرانَكَ أي نسألك غفرانك من ذنوبنا رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) أي المرجع بعد الموت لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً من الطاعة إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها لَها ما كَسَبَتْ أي ثوابه من الخير وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي وزره من الشرفان. قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم إنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع، وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا! فإذا كان هو تعالى بحكم

الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا: سمعنا وأطعنا، ثم قالوا بعده: غفرانك ربنا، دل ذلك على أن قولهم: غفرانك، طلب للمغفرة مما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد، فلما كان قولهم غفرانك طلبا للمغفرة من ذلك التقصير فلا شك في أن الله تعالى خفف عنهم ذلك وقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ولم تتعمدوا التقصير، فلو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. وبالجملة فهذا إجابة لهم من الله في دعائهم بقولهم غفرانك ربنا، اه. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا أي يا ربنا لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا طاعتك أَوْ أَخْطَأْنا في أمرك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي تكليفا بالأمور الشاقة. كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من بني إسرائيل أي لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود. قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة. ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها. وكانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة في الدنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ أي قوة لَنا بِهِ من البلاء والعقوبة. أي ولا تحمل علينا أيضا ما لا راحة لنا فيه من الاستكراه. وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار ذنوبنا وَاغْفِرْ لَنا أي استر عيوبنا ولا تفضحنا بين عبادك. وَارْحَمْنا أي تعطّف بنا وتفضّل علينا. أَنْتَ مَوْلانا أي أنت سيدنا وناصرنا ونحن عبيدك ويقال: واعف عنا من المسخ كما مسخت قوم عيسى واغفر لنا من الخسف كما خسفت بقارون، وارحمنا من القذف كما قذفت قوم لوط. فلما دعوا بهذا الدعاء رفع الله عنهم ذنوب حديث النفس والنسيان والخطأ والاستكراه وعفا عنهم من الخسف والمسخ والقذف. فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم. ولما مدح الله تعالى المتقين في أول السورة بيّن في آخر السورة أنهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله تعالى هناك: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ثم قال هاهنا: وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هو المراد بقوله تعالى هناك: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ثم قال هاهنا: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله تعالى هناك: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ثم حكى الله تعالى عنهم هاهنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا إلى آخر السورة وهو المراد بقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها.

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية، مائتان آية، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاث كلمات، أربعة عشر ألفا وتسعمائة وسبعة وثمانون حرفا الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ أي الذي لا يموت ولا يزول الْقَيُّومُ (2) أي القائم بذاته والقائم بتدبير خلقه. قال الكلبي والربيع بن أنس، ومحمد بن إسحاق: نزلت هذه الآيات في شأن وفد نصارى نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودخلوا المسجد حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات، وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم: أحدهم: أميرهم واسمه عبد المسيح. والثاني: مشيرهم وذو رأيهم واسمه الأيهم. والثالث: حبرهم يقال له: أبو حارثة بن علقمة. فكلم الأيهم وعبد المسيح فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسلما» قالا قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاثة أشياء: إثباتكما لله ولدا، وعبادتكم للصليب، وأكلكما الخنزير» . قالوا: إن لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه! وخاصموه صلّى الله عليه وسلّم في عيسى. فقال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟» . قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟» . قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟» . قالوا: بلى. قال: «فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟» . قالوا: لا. قال: «ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟» . قالوا: بلى. قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علمه الله؟» . قالوا: لا. قال: «فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف يشاء فهل تعلمون ذلك؟» قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟» . قالوا: بلى، قال: «ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة، ثم غذي

كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟» قالوا: بلى. قال: «وكيف يكون هذا كما زعمتم؟!» » . فسكتوا، فأنزل الله تعالى من ابتداء السورة إلى آية المباهلة تثبيتا لما احتج به النبي عليهم نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن. وقرئ قراءة شاذة بتخفيف نزل ورفع الكتاب بِالْحَقِّ أي بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره وفي وعده ووعيده، أو بالحجج المحققة أنه من عند الله تعالى، أو بالقول الفصل وليس بالهزل ولا بالمعاني الفاسدة المتناقضة. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه من الكتب السالفة في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله تعالى عما لا يليق بشأنه تعالى وفي الأمر بالعدل والإحسان، وفي أنباء الأنبياء والأمم الخالية وفي بعض الشرائع. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ جملة على موسى بن عمران، وَالْإِنْجِيلَ (3) جملة على عيسى ابن مريم مِنْ قَبْلُ أي من قبل تنزيل القرآن هُدىً لِلنَّاسِ أي حال كونهما هاديين من الضلالة، أو أنزل هذه الكتب الثلاثة لهداية الناس وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ قيل: المراد الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الداعية إلى الخير، الزاجرة عن الشر، الفارقة بين الحق والباطل، ثم المختار عند الفخر الرازي أن المراد من الفرقان هو المعجزات التي قرنها تعالى بإنزال هذه الكتب الثلاثة لأنه لما أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق دعوى الرسل حصلت المفارقة بين دعوى الصادق ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي القرآن وغيره كوفد بني نجران ونحوهم بأن كذبوا بالآيات الناطقة بالتوحيد والتنزيه المبشّرة بنزول القرآن ومبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم بها وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغلب ذُو انْتِقامٍ (4) أي عقوبة عظيمة. فالعزيز إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب. فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ قصيرا أو طويلا، حسنا أو قبيحا، ذكرا أو أنثى، سعيدا أو شقيا. وهذه الآية واردة في الرد على النصارى. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين: بالعلم والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب فيقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، وصنعت في دارك كذا. وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى وفي التثليث بقوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فالإله يجب أن يكون حيا قيوما، وعيسى لم يكن كذلك. فيلزم القطع بأنه لم يكن إلها. ولما قالوا: إن عيسى أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلها، فرد الله عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. والمعنى لا يلزم من كونه عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (2: 3) .

لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى له ذلك. ولما قالوا: إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلها، فرد الله عليهم بقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. والمعنى إن حصول الإحياء على وفق قوله عليه السلام في بعض الصور لا يدل على كونه إلها لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له. ولما قالوا: يا أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر فوجب أن يكون ابنا لله، فأجاب الله تعالى عن ذلك أيضا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فإن هذا التصوير لما كان من الله تعالى فإن شاء صوّر من نطفة الأب، وإن شاء صوّره ابتداء من غير أب. ولما قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم: ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فهذا يدل على أنه ابن الله! فأجاب الله عن ذلك بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله ولا ابن الإله. وأما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم. وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه. لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه- وعلى زعم النصارى- فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلها، وهو جواب أيضا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون ابنا لله، فكأنه تعالى يقول كيف يكون عيسى ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أبا للمصوّر. وأما قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى آخر الآيات فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجرا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهذا تثبيت لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها. فإن الإله لا بدّ وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أي محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال، قطعية الدلالة على المعنى المراد. هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل في الكتاب وعمدة ترد إليها آيات متشابهات. ومثال المتشابه قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ [الإسراء: 16] . فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا والمحكم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] ردا على الكفار فيما حكى عنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والآية المتشابهة قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] . والآية المحكمة قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. [مريم: 64] وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي وآيات أخر محتملات لمعان متشابهة لا يتضح

مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي فيتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي طلب الفتنة في الدين- وهي الضلال عنه- فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفا لبعض، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان، والمنصف يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة: أحدها: ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذلك هو المحكم حقا. وثانيها: الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره. وثالثها: الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه، ويكون ذلك متشابها، بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر، إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي وما يعلم تأويل المتشابه حقيقة إلا الله وحده. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يمكن لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أي بالكتاب كُلٌّ أي كل واحد من المحكم والمتشابه مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والراسخ في العلم: هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية، وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية، وعرف أنه تعالى لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا رأى شيئا متشابها ودل الدليل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعا أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره، ثم فوض تعيين ذلك المراد إلى علمه تعالى وقطع بأن ذلك المعنى على أي شيء كان فهو الحق والصواب، لأنه علم أن ذلك المتشابه لا بدّ وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا أي وما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائفة- وهذا مدح للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر- وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول ويوافق اللغة والإعراب، ومن تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحرا في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله تعالى. ولما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا أي لا تمل قلوبنا عن دينك بعد إذ هديتنا لدينك أو يقال: يا ربنا لا تجعل

[سورة آل عمران (3) : الآيات 11 إلى 20]

قلوبنا مائلة إلى الباطل بعد أن تجعلها مائلة إلى الحق وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، ونور الطاعة والعبودية والخدمة في الأعضاء، وسهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية في الدنيا، وسهولة سكرات الموت عند الموت، وسهولة السؤال والظلمة في القبر وغفران السيئات وترجيح الحسنات في القيامة. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) لكل مطلوب فإن هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إليّ لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» «1» . رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي يا ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك في وقوعه فجازنا فيه أحسن الجزاء إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) أي الوعد وهذا من بقية كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من ربهم أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية وأنواع الرحمة فكأنهم قالوا: ليس غرضنا من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقرضة وإنما غرضنا الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك بالجزاء والحساب، والميزان والصراط والجنة والنار لا يكون خلفا، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد، ومن أعطيته الهداية والرحمة بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي إن الذين كفروا ككعب بن الأشرف وأصحابه وأبي جهل وأصحابه لن تنفعهم كثرة أموالهم وكثرة أولادهم. مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله أو عند الله شَيْئاً. وقيل: إن المراد بهؤلاء وفد نجران. وذلك لأن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه كرز: إني لأعلم أن محمدا رسول الله حقا وهو النبي الذي كنا ننتظره، ولكنني إن أظهرت إيماني بمحمد أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال الكثير والجاه، فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عذاب الله في الدنيا والآخرة. نعم إن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ وَأُولئِكَ المتصفون بالكفر هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) أي حطب النار الذي تسعر به كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي شأن هؤلاء في تكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من مكذبي الرسل كقوم هود وقوم صالح كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي المعجزات. ومتى كذبوا بها فقد كذبوا بالأنبياء بلا شك فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي عاقبهم الله بتكذيبهم المعجزات الدالة على صدق الرسل. وإنما استعمل الأخذ في العقاب لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأسور المأخوذ لا يقدر على التخلص وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) وعن سعيد بن جبير وعكرمة

_ (1) رواه الترمذي في كتاب القدر، باب: 7، وابن ماجة في المقدّمة، باب: فيما أنكرت الجهمية، وأحمد في (م 2/ ص 4) .

عن ابن عباس رضي الله عنهم: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما غزا قريشا في بدر ورجع إلى المدينة جمع يهود بني قينقاع في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا يوم بدر فقد عرفتم أني نبيّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم» «1» . فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك إن قتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال لو قاتلتنا لعرفت فأنزل الله تعالى قوله هذا : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هم يهود بني قينقاع سَتُغْلَبُونَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده بقتل بني قريظة، فقد قتل منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع، وأمر السياف بضرب أعناقهم، وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها. وبإجلاء بني النضير، وفتح خبير، وضرب الجزية على أهلها. وبالأسر على بعض كل. وَتُحْشَرُونَ في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ دلت الآية على حصول البعث في يوم القيامة والنشر والحشر وعلى أن مرد الكافرين النار وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) أي الفراش جهنم. وقرأ حمزة والكسائي بالغيبة في الفعلين أي بلغهم أنهم سيغلبون ويحشرون. والباقون بالخطاب أي قل لهم في خطابك إياهم ستغلبون وتحشرون. والفرق بينهما أنه على الخطاب يكون الإخبار بمعنى كلام الله تعالى، وعلى الغيبة تكون بلفظه. قَدْ كانَ لَكُمْ أيها اليهود آيَةٌ أي علامة لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فِي فِئَتَيْنِ أي فرقتين الْتَقَتا بالقتال يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وهم محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، بين كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة ومن السيوف ثمانية، ومن الخيل فرسان للمقداد بن عمر ولمرثد بن أبي مرثد. وَأُخْرى كافِرَةٌ أي وجماعة أخرى كافرة بالله والرسول وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، وقادوا مائة فرس، وكانت معهم من الإبل سبعمائة، وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وكان في الرجال دروع سوى ذلك يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ أي يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا، وعشرين رأيا ظاهرا عيانا بالعين. في ذلك أنه تعالى كثّر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم. قال ابن عباس: يرون أنفسهم مثلي أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ نافع وأبان عن عاصم من السبعة، ويعقوب ترونهم بالخطاب. والمعنى ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة ومع ذلك غلبهم المؤمنون مع قلتهم جدا. فيكون هذا أبلغ في إكرام المؤمنين وعناية الله بهم وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ولو بدون الأسباب العادلة إِنَّ فِي ذلِكَ أي في

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الخراج والفيء، باب: كيف كان إخراج اليهود من المدينة.

نصرة الله لمحمد يوم بدر. ويقال: - أي في رؤية القليل كثيرا- من غلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح لَعِبْرَةً أي لعظة عظيمة لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) أي لذوي العقول ووجه نظم هذه الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: سَتُغْلَبُونَ نزلت في شأن اليهود وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا: لسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال كل من ينازعنا. فالله تعالى قال لهم: إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدد والعدة فإنكم ستغلبون. ثم ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك القول فقال: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا. ثم قيل: روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في قوله، إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه. وأيضا روينا أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح، فبيّن الله تعالى أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة وأن الآخرة خير وأبقى فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي الأشياء المشتهيات مِنَ النِّساءِ وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم وَالْبَنِينَ ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى، خصّه الله تعالى بالذكر، ووجه التمتع بهم من حيث السرور بهم وغير ذلك. وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والقنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. والقنطار واحد والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة. ومعنى القناطير المقنطرة أي الأموال المجموعة والأموال المضروبة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ أي المطهمة الحسان بأن تكون غرا محجلة وَالْأَنْعامِ وهي الإبل والبقر والغنم وَالْحَرْثِ أي المزروع ذلِكَ أي جميع ما سبق مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي منفعة للناس في الدنيا ثم تفنى. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) أي المرجع في الآخرة، وهو الجنة. قُلْ يا أشرف الخلق للكفار أو للناس عامة- وهو أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتفصيل ما أجمل أولا- في قوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي زينة الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي تبتلوا إلى الله تعالى وأعرضوا عما سواه فلا تشغلهم الزينة عن طاعة الله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي عند ربهم بساتين تطرد من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والعسل واللبن والماء. خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها. وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي مهذبة من الحيض والنفاس والبصاق، والمني وتشويه الخلقة، وسوء العشرة والأخلاق الذميمة. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ ورضا ربهم أكبر مما هم فيه من النعيم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) أي بأحوال الذين اتقوا ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ يَقُولُونَ في الدنيا رَبَّنا إِنَّنا

آمَنَّا بك وبرسولك فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي استرها وتجاوز عنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) أي ادفع عنا ذلك الصَّابِرِينَ على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي وَالصَّادِقِينَ في أيمانهم وأقوالهم ونياتهم. وَالْقانِتِينَ أي المواظبين على العبادات. وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل الله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) أي في أواخر الليل بأيّ صيغة كانت. وقيل: أي المصلين التطوع فيها، وأعظم الطاعات قدرا أمران: أحدهما: الخدمة بالمال وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الشفقة على خلق الله» والإشارة بقوله تعالى هنا: وَالْمُنْفِقِينَ. وثانيهما: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «التعظيم لأمر الله» . والإشارة بقوله تعالى هنا: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ. شَهِدَ اللَّهُ أي بيّن لخلقه بالدلائل السمعية والآيات العقلية أَنَّهُ لا إِلهَ أي لا مستحقا للعبودية موجود إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ وهم الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» «1» وهذا يدل على أن الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول. فشهادة الله تعالى على توحيده. هو أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم هي إقرارهم بتوحيده تعالى. قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل في جميع أموره، وهذا بيان لكماله تعالى في أفعاله بعد بيان كماله في ذاته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) فالعزة في الملك تلائم الوحدانية. والحكمة في الصنع تلائم القيام بالقسط. قال الكلبي قدم حبران من أحبار الشام على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالا له: أنت محمد؟ قال: «نعم» . قالا له: وأنت أحمد؟ قال: «أنا محمد وأحمد» . قالا: فإنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك. فقال لهما: «سلا» «2» . قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأسلم الرجلان . وفي المدارك: من قرأها عند منامه وقال بعدها: أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي عنده وديعة، يقول الله يوم القيامة: إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فلا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة التي عليها

_ (1) رواه الزيلعي في نصب الراية (4: 82) ، والعجلوني في كشف الخفاء (2: 93) . (2) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (5777) ، والبخاري في التاريخ الصغير (1: 15) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (32167) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1: 65) .

الرسل عليهم السلام. نزلت هذه الآية لما ادّعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية فرد الله عليهم ذلك وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وقرأ الكسائي بفتح همزة «أن» وهو إما بدل من أنه بدل كان من كل إن فسر الإسلام بالتوحيد نفسه أي بالإيمان بكونه تعالى واحدا. وبدل كل من بعض إن فسر الإسلام بالشريعة، فإنها تشتمل على التوحيد والعدل ونحوهما. أو معطوف على أنه بحذف حرف العطف، أو مبني على أن شهد واقع على أن الدين إما بإجراء أنه على التعليل، والتقدير شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو: إِنَّ الدِّينَ الآية. أو بإجرائه على قراءة ابن عباس وهو بكسره على جعل جملة «أنه» اعتراضا وعلى أن الدين من باب تقديم وتأخير، والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، وشهد بذلك الملائكة والنبيون والمؤمنون، أو بإجراء «شهد» مجرى قال، مع جعل «إن الدين» معمولا للحكيم، بإسقاط الجار، أي الحكيم بإن الدين. أما جعله بدل اشتمال من أنه فممتنع بذلك التفسير لأنه صار البدل أشمل من المبدل منه، ولأن شرط بدل الاشتمال أن يكون المخاطب منتظرا للبدل عند سماع المبدل منه وهنا ليس كذلك. ولا سيما أن هنا فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أعطوا التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى في دين الإسلام وأنكروا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش- لأنهم أميون- ونحن أهل الكتاب. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي لأجل الحسد الكائن بينهم وطلب الرياسة لا لشبهة وخفاء في الأمر وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بأن الدين عند الله هو الإسلام بأن لم يعمل بمقتضاها فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) أي فإن الله يجازيه على كفره عن قريب، فإنه يأتي حسابه عن قريب. فَإِنْ حَاجُّوكَ أي خاصمك اليهود والنصارى في أن الدين عند الله الإسلام بعد قيام الحجة عليهم فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي أخلصت نفسي أو عملي لِلَّهِ لا أشرك به في ذلك غيره وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب: أَأَسْلَمْتُمْ أي فهل أسلمتم بعد أن أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام أم أنتم على الكفر؟ روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟» . فقالوا: معاذ الله. وقال صلّى الله عليه وسلّم للنصارى: «أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله؟» . فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبدا . فَإِنْ أَسْلَمُوا كما أسلمتم فَقَدِ اهْتَدَوْا للفوز والنجاة في الآخرة وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام والاتباع لدينك لم يضروك شيئا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلّغت ما جاءك

[سورة آل عمران (3) : الآيات 21 إلى 30]

عن الله فقد أديت ما عليك وليس عليك قبولهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) أي عالم بمن يؤمن وبمن لا يؤمن فيجازي كلا منهم بعمله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا جرم وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أي فأعلمهم بعذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم. روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: قلت يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر» ثم قرأ هذه الآية ثم قال: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم» «1» . قال الحسن: هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء. وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» «2» أُولئِكَ المتصفون بالصفات القبيحة الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت محاسن أعمالهم في الدارين أما بطلانها في الدنيا فبإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن وبما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ المال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم. وأما بطلانها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) من عذاب الله في إحدى الدارين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أي حظا من علم التوراة- وهم العلماء- منهم النعمان بن عمرو والحرث بن زيد. كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ أي التوراة لِيَحْكُمَ أي كتاب الله بَيْنَهُمْ. وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي يعرض طائفة منهم بنو قريظة والنضير من أهل خيبر عن الحكم وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أي مكذبون بذلك. روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة من اليهود زنيا في خيبر وكانا ذوي شرف، وكان في

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 407) . (2) رواه أبو داود في كتاب الملاحم، باب: الأمر والنهي، والترمذي في كتاب الفتن، باب: 13، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحمد في (م 5/ ص 347) .

كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم، فرجعوا في أمرهما إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم، فحكم عليهما بالرجم. فقال له النعمان ابن أوفى وعدي بن عمرو: جرت علينا يا محمد ليس عليهما الرجم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم بالتوراة؟» قالوا: عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فقال له: «اقرأ» فلما أتى على آية الرجم وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال ابن سلام: قد جاوز موضعها يا رسول الله. فرفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله وعلى اليهود أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت حبلى تتربص حتى تضع ما في بطنها فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهوديين فرجما، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا وانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذلِكَ أي التولي والإعراض بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ أي لن تصيبنا في الآخرة إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي سبعة أيام وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ أي في ثيابهم على دينهم اليهودية ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) من قولهم ذلك وما أشبهه فَكَيْفَ صنعهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم لا شك في مجيئه وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ برة وفاجرة ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من ثواب أو عقاب وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) فلا ينقص أحد من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ. روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم. فقال المنافقون- منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول- واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم أولم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم فنزلت هذه الآية. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خط الخندق في عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليخبره، فذهب إليه، فجاء رسول الله وأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها- أي المدينة- كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر، وكبّر المسلمون، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أضاء لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية فقال: «أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم» ، ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا» «1» . فقال المنافقون: ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الخوف فنزلت هذه الآية.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 186) .

وروي أنها نزلت في شأن قريش لقولهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كسرى ينام على فرش الديباج فإن كنت نبيا فأين ملكك؟ تُؤْتِي الْمُلْكَ أي تعطي الملك في الدنيا مَنْ تَشاءُ من خلقك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ منهم إما بالموت أو إزالة العقل، أو إزالة القوى والحواس، أو بورود التلف على الأموال أو بسلب الملك وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بالإيمان والحق وبالأموال الكثيرة من الناطق والصامت، وبإلقاء الهيبة في قلوب الخلق. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بالكفر والباطل بِيَدِكَ الْخَيْرُ أي بقدرتك العز والذل والغنيمة والنصرة إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من ذلك قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ أي تدخل بعض الليل فِي النَّهارِ فيكون النهار أطول من الليل وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي تدخل بعض النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي تخرج النسمة من النطفة، والدجاجة من البيضة، والسنبلة من الحبة، والطيّب من الخبيث كالتوبة من الذنب، والمؤمن من الكافر كسيدنا عكرمة من أبي جهل. فالمسلم حي الفؤاد والكافر ميت الفؤاد وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي تخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطير، والحب اليابس من النبات الحي، والخبيث من الطيب كالعجب من العبادة، والكافر من المؤمن ككنعان من سيدنا نوح عليه السلام وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) أي بلا تكلف ولا ضيق. قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى التعب: قال تعالى: وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. وبمعنى العدد: قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] . وبمعنى المطالبة: قال تعالى: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ [ص: 39] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالا ولا اشتراكا مع المؤمنين وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضا فقط. واعلم أن كون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون راضيا بكفره ويتولاه لأجله. وهذا ممنوع لأن الرضا بالكفر كفر. وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر. وذلك غير ممنوع. وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه، لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فهذا هو الذي هدد الله فيه بقوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الموالاة مع الكافرين بالاستقلال أو بالاشتراك مع المؤمنين فَلَيْسَ أي الموالي مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ليس من ولاية الله في شيء يطلق عليه اسم الولاية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً أي لا تتخذوا الكافرين أولياء ظاهرا، أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم

[سورة آل عمران (3) : الآيات 31 إلى 40]

من جهتهم اتقاء. والمعنى أن الله نهى المؤمنين عن مداهنة الكفار إلا أن يكون الكفار غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه مطمئنا قلبه بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يستحل دما حراما أو مالا حراما، أو غير ذلك من المحرمات ومن غير أن يظهر الكفار على عورة المسلمين. والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع صحة النية. روي عن الحسن أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان. قال الحسن: أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، نعم، نعم. فقال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه. ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه» . وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي ذاته المقدسة في التقية عن دم الحرام، وفرج الحرام، ومال الحرام، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والشرك بالله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) أي المرجع فاحذروه ولا تتعرضوا لسخطه بمخالفة أحكامه. والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي ما في قلوبكم من البغض والعداوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه بالشتم له والطعن والحرب يَعْلَمْهُ اللَّهُ أي يحفظه الله عليكم فيجازيكم به وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخير والشر والسر والعلانية وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم قَدِيرٌ (29) نزلت هذه الآية في حق المنافقين واليهود يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي مكتوبا في ديوانها وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ أي من قبيح تجده مكتوبا في ديوانها تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً أي والذي عملته نفس من سوء تتمنى تباعدا ما بين النفس وبين السوء مكانا بعيدا- كما بين المشرق والمغرب- لو أن بينها وبينه أجلا طويلا من مطلع الشمس إلى مغربها لفرحت بذلك. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ عند المعصية ذكر الله تعالى هذا أولا: للمنع من موالاة الكافرين. وثانيا: للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) أي المؤمنين، أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي أي فاتبعوا ديني فإنكم إذا اتبعتم ديني فقد أطعتم الله فالله تعالى يحب كل من أطاعه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي إن اتبعتم شريعتي يرض الله عنكم ويكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما سلف من ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) لمن يتحبب إليه بطاعته. نزلت هذه الآية في حق اليهود لقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال الضحاك عن ابن عباس: وقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد

نصبوا أصنامهم، وعلقوا عليها بيض النعام، وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل» . فقالت قريش: إنما نعبدها حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى، فنزلت هذه الآية. وقيل: إن نصارى نجران قالوا: إنما نعظم المسيح حبا لله، فنزلت هذه الآية. ولما نزلت قال عبد الله بن أبيّ لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى المسيح. وقالت اليهود: يريد محمد أن نتخذه ربا حنّانا كما اتخذت النصارى عيسى حنّانا فأنزل الله بسبب قولهم قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أي في جميع الأوامر والنواهي. أي إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعتهما فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) أي اليهود والمنافقين الذين ألقوا شبهة في الدين. فلما نزلت هذه الآية قالت اليهود: نحن على دين آدم مسلمين فأنزل الله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ إسماعيل وإسحاق، والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَآلَ عِمْرانَ موسى وهارون. وقيل: عيسى وأمه. حكاه الكرماني ورجحه ابن عساكر والسهيلي. عَلَى الْعالَمِينَ (33) أي على أهل رمان كل واحد منهم بالإسلام وبالخصال الحميدة ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض في النسب. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ (34) بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويقال: والله سميع لمقالة اليهود نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه وعلى دينه. ولمقالة النصارى المسيح ابن الله عليم بعقوبتهم. واذكر يا محمد إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ حنة بنت فاقوذا أم مريم حين شاخت وكانت يوما في ظل شجرة فرأت طائرا يطعم فرخا، فتحركت نفسها للولد، فدعت ربها أن يهب لها ولدا، فحملت بمريم ومات عمران، فلما عرفت بالحمل قالت يا رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ أن أجعل لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً أي عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله ومخلصا للعبادة وخادما لمن يدرس الكتاب ويعلم في مسجد بيت المقدس فَتَقَبَّلْ مِنِّي أي خذ مني ما نذرته على وجه الرضا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لتضرعي ودعائي وندائي. الْعَلِيمُ (35) بما في ضميري وقلبي ونيتي. فَلَمَّا وَضَعَتْها أي ولدت المنذورة التي في بطنها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أي ما في بطني أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ. قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «وضعت» بضم التاء على حكاية كلامها، وإنما قالت ذلك للاعتذار ولإزالة الشبهة التي في قولها: «إني وضعتها أنثى» ، فإنها خافت أن يظن بذلك القول أنها تخبر الله تعالى. وقرأ الباقون بسكون التاء أي إنه تعالى قال: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ تعظيما لولدها وتجهيلا لها بقدر ذلك الولد. والمعنى والله أعلم بأن الذي ولدته وإن كان أنثى أحسن وأفضل من الذكر، وهي غافلة عن ذلك، فلذلك تحسرت. وقرأ ابن عباس: «والله أعلم بما

وضعت» على خطاب الله لها، أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات، ثم قال تعالى حكاية عن قولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى أي وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله. وهذا الكلام يدل على أن حنة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله، عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه. ويحتمل أن هذه الجملة محض كلامه تعالى. والمعنى ليس الذي طلبته كالأنثى التي ولدتها بل هي خير منه وإن لم تصلح للسدانة فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر. وَإِنِّي سَمَّيْتُها أي هذه البنت مَرْيَمَ أرادت حنة بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا فإن مريم في لغتهم العابدة في لغة العرب. وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) أي وأني ألجئ مريم وذريتها إلى رحمتك وعصمتك، وألصق نفسها وأولادها بفضلك ورحمتك من الشيطان اللعين فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ بأن اختص الله تعالى مريم بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل أنثى قبلها أو بأن أخذها الله من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وقالت: خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم الأعظم في العلم والصلاح، فقال زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فقالت الأحبار: لا تقل ذلك فإنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها ولكنا نقترع عليها، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين إلى نهر حار في حلب يقال له: قرمق فألقوا فيها أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح، وعلى كل قلم اسم صاحبه، ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي رباها الله بما يصلحها في جميع أحوالها وغذاها بالسنين والشهور والأيام غذاء حسنا وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أي جعله الله مربيا لها وضامنا لمصالحها، وقائما بتدبير أمورها ولما أخذها بنى لها غرفة في المسجد، وجعل بابها في وسطه لا يرقى إليه إلا بالسلم ولا يصعد إليها غيره، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا وهو من ذرية سليمان بن داود الْمِحْرابَ أي الغرفة وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي فاكهة الشتاء في الصيف مثل القصب، وفاكهة الصيف في الشتاء مثل العنب ولم ترضع ثديا قط بل يأتيها رزقها من الجنة. قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق الآتي في غير حينه الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة عليك قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أتاني به جبريل من الجنة فتكلمت وهي صغيرة في المهد، كما تكلم ولدها عيسى عليه السلام وهو صغير في المهد. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) أي بغير تقدير لكثرة الرزق من غير مسألة في حينه وفي غير حينه هُنالِكَ أي في ذلك المكان الذي كان قاعدا فيه عند مريم وشاهد تلك الكرامات، أو في ذلك الوقت الذي رأى

[سورة آل عمران (3) : الآيات 41 إلى 50]

فيه خوارق العادات عندها دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ في مناجاته في جوف الليل رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي رب أعطني من محض قدرتك من غير وسط معتاد ولدا مباركا تقيا صالحا كهبتك لحنة- العجوز العاقر- مريم إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) أي مجيب الدعاء فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي جبريل كما أخرجه ابن جرير عن السدي وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي في الموضع العالي الشريف في المسجد أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بولد يسمى بِيَحْيى. قرأ ابن عامر وحمزة «إن» بكسر الهمزة. والباقون بالفتح مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعيسى ابن مريم. ومعنى كونه كلمة من الله كونه مخلوقا بلا أب. قال ابن عباس: إن يحيى كان أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكان يحيى أول من آمن وصدّق بأنه كلمة الله، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة وَسَيِّداً أي رئيسا للمؤمنين في العلم والحلم والعبادة والورع. قال ابن عباس: أي حليما عن الجهل. وقال مجاهد: أي كريما على الله وَحَصُوراً أي مانعا من النساء للعفة والزهد لا للعجز وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) أي من المرسلين قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أي قال زكريا لجبريل: يا سيدي من أين يكون لي ولد وقد أدركني كبر السن وَامْرَأَتِي عاقِرٌ أي عقيم لا تلد؟. قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشّر بالولد ابن مائة وعشرين سنة وكانت امرأته إيشاع بنت فاقوذ بنت تسعين وثمان قالَ أي جبريل: كَذلِكَ أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منكما وأنتما على حالكما من الكبر اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) من الأفاعيل الخارقة للعادة قالَ أي زكريا: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة في حبل امرأتي. قالَ أي الله تعالى: آيَتُكَ أي علامتك في حبل امرأتك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير خرس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ متوالية بلياليها إِلَّا رَمْزاً أي إلا تحريكا بالشفتين والحاجبين والعينين واليدين وَاذْكُرْ رَبَّكَ باللسان والقلب في مدة الحبسة عن كلام الدنيا مع الخلق شكر الله تعالى على هذه النعمة كَثِيراً أي ذكرا كثيرا على كل حال وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) أي صل عشيا وغدو كما كنت تصلي وَاذكر إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل لمريم مشافهة: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ بتفرغك لعبادته وتخصيصك بأنواع اللطف والهداية، والعصمة والكفاية في أمر المعيشة وسماع كلام جبريل شفاها وَطَهَّرَكِ من المعصية ومسيس الرجال ومن الأفعال الذميمة ومن مقالة اليهود وتهمتهم. ويقال: أنجاك من القتل وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) بولادة عيسى من غير أب ونطقه حال انفصاله من مريم حتى شهد ببراءتها عن التهمة. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة،

وفاطمة عليهن السلام» «1» . يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي دومي على طاعته بأنواع الطاعات شكرا لذلك. ويقال: أطيلي القيام في الصلاة شكرا لربك وَاسْجُدِي أي صلي منفردة وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أي صلي مع أهل الصلاة في بيت المقدس- فإن اقتداء النساء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء- قال المفسرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات على مريم شفاها قامت مريم في الصلاة ورمت قدماها وسال الدم والقيح من فمها. ذلِكَ الذي مضى ذكره من حديث حنة ومريم وزكريا مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار الغائب عنك يا محمد نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي نرسل جبريل بإلقاء الغائب إليك وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند الذين تنازعوا في تربية مريم إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ التي كانوا يكتبون بها الكتب في جري الماء ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أي أيّ أحدهم يربي مريم. وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) أي وما كنت هناك إذ يتقارعون تربية مريم وإذ يختصمون بسببها إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ أي بولد يكون مخلوقا بكلمة من الله أي من غير واسطة الأسباب العادية فإن عيسى من كل علوق وإن وجد بكلمة كن لكنه بواسطة أب اسْمُهُ أي الولد الْمَسِيحُ سمي بالمسيح لأنه يسيح في البلدان ولأنه ما مسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه. عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وإنما نسبه الله تعالى إلى الأم إعلاما لها بأنه محدث بغير الأب، فكان ذلك سببا لزيادة فضله وعلو درجته. وَجِيهاً أي ذا جاه وشرف فِي الدُّنْيا بالنبوة وبإحياء الموتى وبإبراء الأكمه والأبرص بسبب دعائه وَالْآخِرَةِ بجعله شفيع أمته وبقبول شفاعته فيهم، وبعلو درجته عند الله تعالى وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) إلى الله في جنة عدن وهذا الوصف كالتنبيه على أن عيسى سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حجر أمه وهو ابن أربعين يوما بقوله: إني عبد الله وَكَهْلًا أي بعد ثلاثين سنة أي أن عيسى يكلم الناس مرة واحدة في حجر أمه لإظهار طهارة أمه من الفاحشة، ثم عند الكهولة يتكلم بالنبوة وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) أي من المرسلين. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ أي قالت مريم لجبريل: يا سيدي من أين يكون لي ولد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ بالحلال ولا بالحرام- لأن المحررة لا تتزوج أبدا كالذكر المحرر- قالَ أي جبريل: كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لك من خلق ولد منك بلا أب اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً أي إذا أراد خلق شيء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ لا غير فَيَكُونُ (47) من غير ريث فنفخ جبريل في جيب درعها فوصل نفسه إلى فرجها فدخل رحمها فحملت منه وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ. قرأ نافع وعاصم «يعلمه» بالياء معطوف على الحال وهي قوله: «وجيها» - فكأن جبريل

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 135) .

قال: وجيها ومعلما- أو على يبشرك. والباقون و «نعلمه» بالنون معمول لقول محذوف من كلام الملك تقديره «وجيها» ، ومقولا فيه نعلمه أو أن الله يبشرك بعيسى ويقول نعلمه كتب الأنبياء والكتابة أي الخط. وَالْحِكْمَةَ أي العلم المقترن بالعمل وتهذيب الأخلاق وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وخصا بالذكر لفضلهما وَنبعثه رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي أي كلهم. وقيل: هو معطوف على الأحوال السابقة كأنه قيل: حال كونه وجيها ورسولا. وقرئ ورسول بالجر عطفا على كلمة والمعتمد عند الجمهور أن عيسى إنما نبىء على رأس الأربعين وأنه عاش في الأرض قبل رفعه مائة وعشرين سنة وهو آخر أنبياء بني إسرائيل كما أن أولهم يوسف بن يعقوب أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بفتح الهمزة مجرور بالياء المقدرة التي للملابسة المتعلقة بمحذوف حال من رسول المقدر لما فيه من معنى النطق والتقدير، فلما جاءهم قال لهم: إني رسول الله فيكم ملتبسا بأني قد جئتكم بِآيَةٍ أي بعلامة على صدقي في الرسالة مِنْ رَبِّكُمْ قالوا: وما هي؟ قال: هي أَنِّي أَخْلُقُ أي أصوّر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي شيئا مثل صورة الطير فَأَنْفُخُ فِيهِ أي في فم ذلك المماثل لهيئة الطير فَيَكُونُ أي فيصير طَيْراً حيا يطير بين السماء والأرض بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره تعالى. فطلبوه بخلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين ساعة بعد المغرب وساعة بعد طلوع الفجر، والأنثى منه لها ثدي وتحيض وتطهر وتلد، فلما صور لهم خفاشا قالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ بالدعاء أي وأصحح الذي ولد أعمى أو الممسوح العينين وَالْأَبْرَصَ وهو الذي في جلده بياض شديد فلما فعل ذلك قالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ أي بالاسم الأعظم وهو «يا حي يا قيوم» فأحيا أربعة أنفس: أحيا عازرا بعد موته بثلاثة أيام حتى عاش وولد له. وأحيا ابن العجوز وهو ميت محمول على السرير فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله وعاش وولد له. وأحيا بنت العاشر- أي الذي يأخذ العشور من الناس- بعد يوم من موتها فعاشت وولد لها، فقالوا: لعيسى: إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا حقيقة بل أصابهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح وهو قد مضى من موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقام على قبره فدعا الله باسمه الأعظم فقام من قبره وقال للقوم: صدقوه فإنه نبي الله ومات في الحال فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فهل عندك غيره؟ قال: نعم وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ غدوة وعشية وَما تَدَّخِرُونَ أي ترفعون من غداء لعشاء ومن عشاء لغداء فِي بُيُوتِكُمْ مما لم أعاينه إِنَّ فِي ذلِكَ أي في ما قلت لكم من هذه الخمسة لَآيَةً أي لمعجزة قوية دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) أي مصدقين انتفعتم بها وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ أي لما قبلي مِنَ التَّوْراةِ وبين موسى وعيسى

[سورة آل عمران (3) : الآيات 51 إلى 60]

ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. «ومصدقا» معطوف على «رسولا» وَجئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في شريعة موسى عليه السلام من الشحوم والثروب للبقر والغنم، ولحوم الإبل ومما لا صيصية له من السمك والطير، ومن العمل في يوم السبت وهذا لا يقدح في كونه مصدقا للتوراة لأن النسخ تخصيص في الأزمان وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهدة على صحة رسالتي. وقرئ بآيات فَاتَّقُوا اللَّهَ في عدم قبولها وَأَطِيعُونِ (50) فيما آمركم به وأنهاكم عنه عن الله تعالى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ وإنما أظهر سيدنا عيسى الخضوع، وأقر بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولوا: إنه إله وابن إله لأن إقراره بالعبودية لله يمنع مما تدعيه جهال النصارى عليه فَاعْبُدُوهُ أي لازموا طاعته التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، أي لما كان الله تعالى رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالتوحيد. وقوله: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى أن استكمال القوة العملية بالطاعة هذا أي الجمع بين التوحيد والعبادة صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) أي دين قائم يرضاه الله تعالى- وهو الإسلام- ونظير قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قل آمنت بالله ثم استقم» «1» لرجل قال: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي فلما سمع عيسى بأذنه من بني إسرائيل تكرار الكفر وطلبوا قتله لأنهم كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشّر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم. قالَ لأصفياء أصحابه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي من أنصاري حال التجائي إلى الله؟ ويقال: من أعواني؟ - مع الله على أعدائه- قالَ الْحَوارِيُّونَ أي القصارون أي الذين يبيضون الثياب نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي نحن أعوانك مع الله على أعدائه. قيل: كانوا تسعة وعشرين. سمي منهم قطرس ويعقوب ولحيس وإيدارانيس، وقيلس وابن تلما، ومتنا وبوقاس ويعقوب بن حليفا، وبداوسيس، وقياسا، وبودس وكدمابوطا، وسرجس وهو الذي ألقى عليه شبهه. أخرج ذلك ابن جرير عن ابن إسحاق. وقيل: كان الحواريون اثني عشر رجلا آمنوا بعيسى عليه السلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا: جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان. وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون. فقالوا: من أفضل منا؟ قال عليه السلام: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة، فسموا حواريين، أي إن اليهود لما طلبوا عيسى عليه السلام للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثني عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم: آمَنَّا بِاللَّهِ فهذا استئناف يجري مجرى العلة لما قبله.

_ (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: 62، وأحمد في (م 3/ ص 413) .

والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أننا آمنا بالله فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أولياء الله والمحاربة مع أعدائه وَاشْهَدْ يا سيدنا عيسى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) أي مقرون بالعبادة والتوحيد لله. وذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم وإشهاد لله أيضا على أنفسهم بذلك. فلما أشهدوا عيسى على إيمانهم وإسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى وقالوا: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الكتاب أي الإنجيل وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي دين رسول الله عيسى فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق. وقال ابن عباس: فاكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه أو فاكتبنا مع محمد وأمته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة وَمَكَرُوا أي أراد اليهود قتل عيسى وَمَكَرَ اللَّهُ أي أراد الله قتل صاحبهم تطيانوس. وقيل: مكرهم بعيسى همهم بقتله، ومكر الله تعالى بهم رفع عيسى إلى السماء. وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام، وكان جبريل لا يفارقه ساعة، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة، فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقي شبهه على غيره فأخذ وصلب. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) أي أقوى المريدين ويقال: أفضل الصانعين. روي عن ابن عباس أن ملك بني إسرائيل اسمه يهوذا لما قصد قتل عيسى أمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم يقال له تطيانوس: ادخل عليه فاقتله. فدخل البيت فلم ير عيسى فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه، فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت، فقتلوه وصلبوه ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! فوقع بينهم قتال عظيم إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي مستوفي أجلك المسمى وعاصمك من أن يقتلك الكفار وَرافِعُكَ إِلَيَّ من الأرض إلى محل كرامتي وإلى محل ثوابك وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك أي منجيك منهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ أي الذين آمنوا بأنك عبد الله ورسوله والذين صدقوا بنبوتك وادعوا محبتك كالنصارى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وهم اليهود بالحجة والسيف، والقهر والسلطان، والاستعلاء والنصرة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فإن ملك اليهود قد ذهب فلم تبق لهم قلعة ولا سلطان، ولا شوكة في جميع الأرض بل يكونون مقهورين أين ما كانوا بالذلة والمسكنة، وملك النصارى باق قائم إلى قريب من قيام الساعة فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود. وذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء فشمسوهم وعذبوهم فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته. ثم

بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيّبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم، وكان اسم هذا الملك طباريس وهو قد صار نصرانيا إلا أنه لم يظهر ذلك ثم جاء بعده ملك آخر يقال له ملطيس، وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بمقدار أربعين سنة ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وقصد قتله. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ بالموت والخطاب لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) أي تخاصمون في الدين فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والجزية والذلة وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) أي مانعين من عذاب الله في الدنيا والآخرة وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله والكتاب وبنبوة عيسى وبنبوة محمد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي فيوفرهم أجورهم وأعمالهم في الجنة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) أي لا يريد إيصال الخير إلى المشركين. وقرأ حفص عن عاصم «فيوفيهم» بالياء والفاعل راجع إلى الله. والباقون بالنون ذلِكَ أي خبر عيسى نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي ننزل عليك جبريل به مِنَ الْآياتِ أي من آيات القرآن أو من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) أي الذي ينطق بالحكمة أو المحكم فإن القرآن ممنوع من تطرق الخلل إليه. وروي أنه حضر وفد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا وتسبه فقال: «من هو؟» قالوا: عيسى. قال: «وما أقول» قالوا: تقول إنه عبد، قال: «أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول» . فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب ومن لا أب له فهو ابن الله ثم خرجوا من عنده صلّى الله عليه وسلّم فجاء جبريل فقال: قل لهم إذا أتوك إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ أي إن صفة تخلق عيسى في تقدير الله وحكمه بلا أب كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفة قالب آدم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ بلا أب وأم ثُمَّ قالَ لَهُ أي لآدم كُنْ فَيَكُونُ (59) أي نفخ فيه الروح. وكذلك عيسى قال له: كن من غير أب فكان ولدا بلا أب، فإذا كان آدم كذلك ولم يكن ابنا لله فكذلك عيسى فمن لم يقر بأن الله خلق عيسى من غير أب مع إقراره بخلق آدم بغير أب وأم فهو خارج عن طور العقلاء. وأيضا إذا جاز أن يخلق الله آدم من التراب فجواز خلق الله تعالى عيسى من دم مريم من باب أولى فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب إلى العقل من تولده من التراب اليابس. الْحَقُّ أي الذي أنزل عليك من خبر عيسى أنه لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه هو مِنْ رَبِّكَ والباطل من النصارى واليهود فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت

[سورة آل عمران (3) : الآيات 61 إلى 70]

إلها رموا مريم بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) أي من الشاكين فيما بينت لك من تخليق عيسى بلا أب، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم تحريكا له لزيادة ثباته على اليقين ولكل سامع لينزع عما يورث الامتراء، ثم ذكر الله تعالى خصومة وفد نجران مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما بين لهم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فقالوا: ليس كما تقول: إن عيسى لم يكن الله ولا ولده ولا شريكه فقال الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ أي خاصمك من نصارى نجران فِيهِ أي في شأن عيسى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدلائل الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا أي نخرج بأنفسنا وَأَنْفُسَكُمْ أي اخرجوا بأنفسكم ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نجتهد في الدعاء ونخلصه أو نلاعن بيننا وبينكم فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ فيما بيننا عَلَى الْكاذِبِينَ (61) على الله في حق عيسى وهم من يقولون: إن عيسى ابن الله أو أنه إله. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم» فقالوا يا أبا القاسم: حتى نرجع فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غدا فلما رجعوا إلى قومهم قالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم-: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى إن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا الإقامة عفى دينكم والإصرار على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد خرج من بيته إلى المسجد، وعليه مرط من شعر أسود، محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول لهؤلاء الأربعة: «إذا دعوت فأمنوا» . فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها ولو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا، ثم قالوا يا أبا القاسم: رأينا أنا لا نباهلك وأن نثبت على ديننا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين» . فأبوا، فقال: «إني أناجزكم القتال» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة. ألفا في صفر وألفا في رجب. وثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح فصالحهم رسول الله على ذلك . إِنَّ هذا الذي ذكرت من الدلائل التي دلت على أن عيسى لم يكن الله ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ دون أكاذيب النصارى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ بلا شريك ولا ولد ولا زوجة وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمنع القادر على جميع المقدورات الْحَكِيمُ (62) أي العالم بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العزيز الحكيم هاهنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى القدرة على الإحياء ونحوه

وأخبار الغيوب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) أي فإن أبوا عن قبول الحق وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عالما قادرا على جميع المقدورات عالما بالنهايات، محيطا بالمعلومات مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك ومع قولهم: إن اليهود قتلوه فاعلم أن آباءهم وأعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوّض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين، مطّلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس: وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر على نصارى نجران أنواع الدلائل أولا، ثم دعاهم إلى المباهلة ثانيا، فخافوا وقبلوا الصغار بأداء الجزية، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمانهم فعدل إلى رعاية الإنصاف وترك المجادلة. فكأنه تعالى قال: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم إنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر النصارى تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا البعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه. وقيل: نزلت في حق يهود المدينة. وقيل: نزلت في شأن الفريقين وذلك لما قدم وفد نجران المدينة والتقوا مع اليهود، واختصموا في دين إبراهيم فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وأنهم على دينه، وأولى الناس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا ونحن على دينه وأولى الناس به. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه. بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» «1» فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي يا معشر اليهود والنصارى: هلموا إلى قصة عادلة مستقيمة بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب فإذا آمنا نحن وأنتم بها كنا على السواء والاستقامة، ثم فسر الكلمة بقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أي أن نوحده بالعبادة ونمحضه بها وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً أي ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نعتقده أهلا لأن يعبد وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع أحد منا أحدا من الرؤساء في معصية الله تعالى وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عزير بن الله ولا المسيح بن الله لأنهما بشران مثلنا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أبوا إلا الإصرار على الشرك فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) أي فأظهر أنت والمؤمنون بأنكم على هذا الدين وقولوا: اعترفوا بأنا مقرون بالتوحيد والعبادة لله تعالى دونكم فقد لزمتكم الحجة فوجب

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (4: 127) .

عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام. يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي لم تخاصمون في دين إبراهيم ولم تدّعون أن إبراهيم عليه السلام كان منكم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى وَالْإِنْجِيلُ على عيسى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إبراهيم بزمن طويل، إذ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة. وبين موسى وعيسى ألفا سنة. وبعد نزول التوراة حدثت اليهودية، وبعد نزول الإنجيل حدثت النصرانية أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) أي أتدعون أن إبراهيم منكم فلا تعقلون بطلان ادعائكم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ أي ها أنتم يا هؤلاء اليهود والنصارى خاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في كتابكم أن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وأن محمدا نبي مرسل وهو موجود في كتابكم بنعته فأنكرتم ذلك فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ في كتابكم لأنه ليس لدين إبراهيم ذكر في كتابكم أصلا، ولم تدّعون أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) كيفية تلك الأحوال ثم بيّن الله تعالى ذلك مفصلا وكذبهم فيما ادعوه من موافقة إبراهيم لهما فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا أي ليس إبراهيم على دين اليهود ولا على دين النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة كلها مُسْلِماً أي على ملة التوحيد لا على ملة الإسلام الحادثة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) وهذا تعريض بكون اليهود والنصارى مشركين بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله، ورد على المشركين في ادعائهم أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أي إن أقرب الناس إلى دين إبراهيم وأخصهم به لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في زمانه وَهذَا النَّبِيُّ محمد وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد فهم الذين يليق أن يقولوا نحن على دينه لأن غالب شرع محمد موافق لشرع إبراهيم أي إن أحق الناس بدين إبراهيم فريقان: أحدهما: من اتبعه من أمته. وثانيهما: النبي وسائر المؤمنين من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) أي ناصرهم وحافظهم ومكرمهم، ثم ذكر دعوة كعب بن الأشرف وأصحابه لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ وحذيفة وعمار بعد يوم أحد إلى دينهم اليهودية عن دين الإسلام فقال: وَدَّتْ طائِفَةٌ أي تمنت مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ أي أن يضلوكم عن دينكم الإسلام وَما يُضِلُّونَ عن دين الله إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين وهم صاروا خائبين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوّروه وَما يَشْعُرُونَ (69) إن هذا نصرهم لأن العذاب يضاعف لهم بسبب ضلالهم وتمنى إضلال المسلمين. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وهي الواردة في التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإخبار بأن الدين هو الإسلام وبأن إبراهيم كان حنيفا مسلما وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) صحتها إذا خلا بعضهم من بعض، وتنكرون اشتمال التوراة والإنجيل

[سورة آل عمران (3) : الآيات 71 إلى 80]

على الآيات الدالة على نبوة محمد عند حضور عوامكم وعند حضور المسلمين. أو المعنى لم تكفرون بالقرآن فإنكم تنكرون عند العوام كونه معجزا وأنتم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزا يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي لم تخلطون المنزل من التوراة بالمحرف من عندكم كما نقل عن الحسن وابن زين أو لم تشككون الناس بإظهار الإسلام بالتواضع أول النهار، ثم بالرجوع عنه في آخر النهار كما نقل عن ابن عباس وقتادة. وقرئ «تلبسون» بتشديد الباء. وقرأ يحيى بن وثاب «يلبسون» بفتح الياء أي تكتسون الحق مع الباطل وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) أنكم إنما تفعلون ذلك عنادا وحسدا وتعلمون أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم أي أنتم أرباب العلم والمعرفة. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم اثنا عشر حبرا من أحبار يهود خيبر لسفلتهم منهم عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحرث وكعب وأصحابه من الرؤساء آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد أي آمنوا ببعض القرآن أي بالقبلة التي صلى إليها محمد وأصحابه وَجْهَ النَّهارِ أي أوله. وهو صلاة الفجر. وَاكْفُرُوا بالقبلة الأخرى التي وصلوا إليها آخِرَهُ صلاة الظهر فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة، ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم. فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة عند صلاة الظهر شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف لأصحابهما: آمنوا بالذي أنزل على محمد في شأن القبلة وصلوا إليها أول النهار، ثم ارجعوا إلى قبلتكم وصلوا إلى الصخرة آخر النهار لَعَلَّهُمْ أي أصحابه العوام يَرْجِعُونَ (72) عن دينه وقبلته وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أي ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه على متابعته أي غرضهم بالإتيان بذلك التلبيس إبقاء أتباعهم على دينهم. أو المعنى لا تصدقوا بالنبوة إلا من وافق دينكم اليهودية وقبلتكم بيت المقدس فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي إن الدين دين الله وهو الإسلام، والقبلة قبلة الله وهي الكعبة. أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وهذا من جملة كلام الله تعالى فلا تنكروا يا معشر اليهود أن يعطى أحد سواكم من الدين والقبلة مثل ما أعطيتموه أو أن يحاجج المسلمون إياكم بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم. وقرأ ابن كثير أن «يؤتى» بهمزتين مع قصر الأولى، وتسهيل الثانية على الاستفهام الذي للإنكار والتوبيخ. والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه. وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر، وغاية ما في هذا الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار مادة الإنكار لأن عليه دليلا وهو قوله تعالى: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان الأمر كذلك لزم ترك

الإنكار قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بالرسالة والنبوة والإسلام وقبلة إبراهيم بِيَدِ اللَّهِ فإنه مالك له يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي يعطيه محمدا وأصحابه والله تعالى حكى عن اليهود أمرين: أحدهما: أنهم آمنوا وجه النهار وكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام، فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر. وثانيهما: أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة فأجاب الله عن ذلك بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أي كامل القدرة فيقدر أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء عَلِيمٌ (73) أي كامل العلم فلا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ التي بلغت في الشرف وعلو المرتبة إلى أن تكون أعلى وأجل من أن تقاس من النبوة والرسالة والدين مَنْ يَشاءُ محمدا وأصحابه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) فلا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بغير تعب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بل يستحله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أي مطالبا مخاصما ككعب بن الأشرف وأصحابه. قال ابن عباس: أودع رجل قرشي عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه. وأودع قرشي آخر فنحاص بن عازوراء فخانه، فنزلت هذه الآية. تنبيه: معنى الباء إلصاق الأمانة كما، أن معنى على في قولك أمنته على كذا، استعلاء الأمانة، فمن ائتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به، وصار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ذلك الاستحلال والخيانة مستحق بسبب أنهم يقولون: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل. أي قدرة على المطالبة والإلزام فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا. أو المعنى ليس علينا في أخذ أموال العرب سبيل أي إثم فإنهم قالوا: أموال العرب حلال لنا لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) أي إنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش بَلى على اليهود في العرب سبيل وهذا رد على اليهود ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ فيما بينه وبين الله أو بينه وبين الناس وَاتَّقى عن نقض العهد بالخيانة وترك الأمانة فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) . وهذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن

الطاعات محصورة في أمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معا لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله وذلك أمر الله. فالوفاء بالعهد تعظيم لأمر الوفاء كما يكون في حق الغير يكون في حق النفس، فالوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي من جميع ما أمر الله به ومما يلزم الشخص نفسه وَأَيْمانِهِمْ وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات ثَمَناً قَلِيلًا من الدنيا أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفات القبيحة لا خَلاقَ أي لا نصيب لَهُمْ فِي خير الْآخِرَةِ ونعيمها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي يشتد غضب الله عليهم وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ بالإحسان والرحمة يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) أي وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم. نزلت هذه الآية في حق عبدان بن الأشوع، وامرئ القيس اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أرض فتوجهت اليمين على امرئ القيس فقال: أنظرني إلى الغد. ثم جاء في الغد وأقر له بالأرض. وقيل: نزلت في شأن الأشعث بن قيس كان بينه وبين رجل خصومة في أرض وبئر اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال للرجل: «أقم بيّنتك» . فقال: ليس لي بيّنة، فقال للأشعث: «فعليك باليمين» «1» . فهمّ الأشعث باليمين. فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم، واعترف بالحق وهذا قول ابن جريج . وقيل: نزلت في شأن كعب بن الأشرف ويحيى بن أخطب، وأبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق بدلوا نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة وأخذوا الرشوة على ذلك وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا- كما قاله عكرمة- أو كتبوا بأيديهم كتابا في ادعائهم أنه ليس علينا في الأميين سبيل وحلفوا أنه من عند الله- كما قاله الحسن- وهذه الآية دلت على أنها نزلت في أقوام حلفوا بالأيمان الكاذبة فتحمل على جميع الروايات. وَإِنَّ مِنْهُمْ أي من اليهود لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي طائفة يحرّفون اللفظة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة- حركات الإعراب- تحريفا يتغير به المعنى. وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وشعبة بن عمير لِتَحْسَبُوهُ. وقرئ شاذة بالياء مِنَ الْكِتابِ أي لكي يظن السفلة أو المسلمون أن المحرف من التوراة وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ أي والحال أن المحرف ليس من التوراة في نفس الأمر وفي اعتقادهم وَيَقُولُونَ هُوَ أي المحرف مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي موجود في كتب سائر الأنبياء مثل شعياء وأرخياء وحيفوف وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فالأغمار الجاهلون بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة، والأذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى

_ (1) رواه الطبري في التفسير (3: 230) . [.....]

عليهم السلام. وعلم من هذا التفسير المغايرة بين اللفظين فإنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة، وتارة بالإجماع، وتارة بالقياس والكل من عند الله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) أي يتعمدون ذلك الكذب مع العلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيّروا التوراة، وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم. ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي ما أمكن وما صح لأحد من الأنبياء كعيسى ومحمد أن يعطيه الله الكتاب أي التوراة أو القرآن والفهم لذلك الكتاب والنبوة، ثم يقول ذلك البشر المشرف بالصفات الثلاثة للناس كونوا عبادا كائنين لي متجاوزين الله إشراكا أو إفرادا. قال مقاتل والضحاك: نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران حيث يقولون: إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخذه ربا. وقال ابن عباس: لما قالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله نزلت هذه الآية. وقال أيضا- في مقالتهم-: نحن على دين إبراهيم وأمرنا هو بهذا الدين. وقال ابن عباس وعطاء: إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتريد أن نعبدك ونتّخذك ربا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني» «1» . فنزلت هذه الآية. وقيل: قال رجل يا رسول الله: نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله» . فنزلت هذه الآية وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي ولكن يقول ذلك البشر الذي رفعه الله إلى أعلا المراتب كونوا علماء عاملين بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ. قرأ عبد الله ابن كثير وأبو عمرو ونافع بفتح التاء وسكون العين. والباقون بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة. أي تعلمون الناس من الكتاب وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) أي وبسبب كونكم تقرؤون من الكتاب وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً. قرأ عاصم وحمزة وابن عامر «يأمركم» بفتح الراء، والفاعل ضمير يعود على البشر و «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي، أي ما كان لبشر أن يجعله الله نبيا، ثم يأمر الناس بعبادة نفسه أو باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا. وقرأ الباقون برفع الراء على سبيل الاستئناف، كما يدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: «ولن يأمركم» والفاعل حينئذ ضمير يعود على «الله» - كما قاله

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7: 193) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 90]

الزجاج- أو إلى محمد- كما قاله ابن جريج- أو إلى عيسى، أو إلى كل نبي من الأنبياء كما قيل بكل أي ولا يأمركم يا معشر قريش واليهود والنصارى بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا كما اتخذت الصابئة وقريش: الملائكة، واليهود: عزيرا والنصارى: المسيح أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ أي كيف أمركم ذلك البشر والله تعالى بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وهذا استفهام إنكاري وهو خطاب للمؤمنين على طريق التعجيب من حال غيرهم. ويقال: بعد إذ أمركم بالإسلام وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ أي أعطيناكم. قرأ نافع «آتيناكم» بالنون على التفخيم ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام. وقرأ حمزة بكسر اللام. وقرأ سعيد ابن جبير «لما» مشددة. أما القراءة بالفتح ف «لما» وجهان «ما» هو اسم موصول مرفوع بالابتداء وخبره قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وإما هو متضمن لمعنى الشرط ف «اللام» في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي المتلقية للقسم أما اللام في «لما» هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى وهذا اختيار سيبويه والمازني والزجاج. وقال أبو السعود واللام في «لما» موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستخلاف، و «ما» تحتمل الشرطية. و «لتؤمنن» ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية، وأما القراءة بكسر اللام فلأنها للتعليل، وإما مصدرية أو موصول. وأما قراءة «لما» بالتشديد فإما هي بمعنى حين أو لمن أجل ما، على أن أصله لمن ما، وأما معنى «وإذ أخذ الله» فقال ابن جرير الطبري: واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين. وقال الزجاج: واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيين. والمقصود بهذه الآية أن الله تعالى أخذ الميثاق من النبيين خاصة قبل أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده أن يصدق بعضهم بعضا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه أن يأمر قومه بنصرته إن أدركوه فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس. وقيل: إنما أخذ الله الميثاق من النبيين في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن يبين بعضهم لبعض صفة محمد وفضله، وهو قول علي وابن عباس وقتادة والسدي. وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيا- آدم فمن بعده- إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأخذ هو العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه. وقيل: إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق على أممهم بأنه إذا بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم يؤمنون به وينصرونه- وهذا قول كثير من المفسرين- والمراد من قوله: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمراد بكونه مصدقا لما معهم هو أن كيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان

مذكورا في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. قالَ الله تعالى لهم: أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان به والنصرة له وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي قبلتم على ما قلت عهدي قالُوا أي النبيون: أَقْرَرْنا بذلك. قالَ الله تعالى: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا من الشاهدين فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أي من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول بنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الخارجين عن الإيمان أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) والوجه في هذه الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في النبوة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد، فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر، فأعلمهم الله أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين دينا غير دين الله، ومعبودا سوى الله تعالى، ثم بيّن أن الإعراض عن حكم الله تعالى مما لا يليق بالعقلاء فقال: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لجلال الله تعالى لا لغيره انقاد في طرفي وجوده وعدمه، لأن كل ما سوى الله ممكن لذاته وكل ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه سواء كان عقلا أو نفسا، أو روحا أو جسما أو جوهرا، أو عرضا، أو فاعلا أو فعلا. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من الفقر والمرض والموت وما أشبه ذلك. أما الكافرون فهم منقادون لله تعالى كرها على كل حال لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين ويخضعون له تعالى في غير ذلك كرها لأنه لا يمكنهم دفع قضائه تعالى وقدره. وأيضا كل الخلق منقادون لإلهيته تعالى طوعا بدليل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه تعالى وإيجاده للآلام كرها، ثم الهمزة للاستفهام التوبيخي وموضعها لفظة يبغون، والتقدير: أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال الحوادث. وقرأ حفص عن عاصم «يبغون» و «يرجعون» بالياء على الغيبة فيهما. أي إنما ذكر الله تعالى حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فلما أصروا على كفرهم قال تعالى على جهة الاستنكار: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ. وقرأ أبو عمرو «تبغون» بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكفار، و «يرجعون» بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب فيهما لأن ما قبلهما خطاب كقوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر: أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له تعالى من في السموات والأرض وأن مرجعكم إليه. وهو كقوله تعالى: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ

تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران: 101] ولما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدقا لما معهم بين الله تعالى من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم كونه مصدقا لما معهم فقال: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو القرآن وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ من الصحف. والمراد بالأسباط أحفاد يعقوب وأبناؤه الاثنا عشر وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ من الكتب والمعجزات لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي نقرّ بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله ولا نكفر بأحد منهم كما فعل اليهود والنصارى وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة لا لسمعة ورياء وطلب مال وتلك صفة المؤمنين بالله والكافرون يوصفون بالمحاربة لله، ولما قال تعالى: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ بين أن الدين ليس إلا الإسلام فقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) بحرمان الثواب وحصول العقاب ولحوق التأسف على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وعلى ما تحمله من التعب في الدنيا في تقرير الدين الباطل. ولفظ «دينا» إما مفعول و «غير الإسلام» حال منه مقدم عليه أو تمييز أو بدل من غير كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا أي كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر بَعْدَ إِيمانِهِمْ بالقلب وَشَهِدُوا أي والحال هم قد أقروا باللسان أَنَّ الرَّسُولَ محمدا صلّى الله عليه وسلّم حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة على صدق النبي وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أي الكافرين الأصليين والمرتدين. وهذه الآية نزلت في شأن الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وهم اثنا عشر رجلا، منهم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت، ووضوح بن الأسلت، وطعيمة بن بيرق. كما أخرجه عكرمة وابن عساكر. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) فإن لعنة الله هي الإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة، واللعنة من الملائكة والناس هي بالقول وكل ذلك مستحق لهم بسبب كفرهم، فصلح أن يكون جزاء لذلك وجميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في ذلك أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وهو في علم الله كافر فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك. خالِدِينَ فِيها أي اللعنة فلا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لا عن من هؤلاء لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) أي لا يؤخر عذابهم من وقت إلى وقت إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكفر مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الارتداد وَأَصْلَحُوا باطنهم وظاهرهم بالعمل الصالح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لقبائحهم في الدنيا بالستر رَحِيمٌ (89) في الآخرة بالعفو. نزلت هذه الآية في شأن الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار فإنه لما لحق مكة مرتدا ندم على ردته فأرسل إلى قومه بالمدينة أن يسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل

[سورة آل عمران (3) : الآيات 91 إلى 100]

لي من توبة؟ ففعلوا فأنزل الله هذه الآية فبعث إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه فأقبل إلى المدينة، وتاب على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبل الرسول توبته وحسن إسلامه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله بَعْدَ إِيمانِهِمْ بالله ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي ثم أصروا على الكفر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ما أقاموا على ذلك. قال القاضي والقفال وابن الأنباري: لما قدم الله تعالى ذكر من كفر بعد الإيمان وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب. ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإنها تصير غير مقبولة، وكأنها لم تكن. والتقدير إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) على سبيل الكمال عن الهدى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله والرسول وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ بالله والرسول فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ أي مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ. وجاهكم في معاونة الناس وبدنكم في طاعة الله ومهجتكم في سبيله وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ تريدون به وجه الله أو مدحة الناس فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) هذا تعليل للجواب المحذوف أي فيجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عالم بكل شيء تنفقونه من ذاته وصفاته علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء كُلُّ الطَّعامِ أي كل طعام حلال على محمد وأمته كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أي كان حلالا أكله على أولاد يعقوب إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أي يعقوب عَلى نَفْسِهِ بالنذر مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ على موسى وذلك بعد إبراهيم بألف سنة. روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن يعقوب مرض مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها» «1» . قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس وطلبا لمرضاة الله تعالى- كما يفعله كثير من الزهاد- فعبّر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وروي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تدّعي أنك على ملة إبراهيم فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 273) .

ذلك حرام في دين إبراهيم؟ فأجاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن قال: «إن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام إلا أن يعقوب حرّمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده» . أي فالحرمة عليهم ناشئة من نذره أيضا. فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وباستخراج آية منها تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام، فعجزوا عن ذلك، فظهر أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) في دعواكم بأن التحريم قديم. قال تعالى: فَمَنِ افْتَرى أي اختلق عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعاء أنه تعالى حرم ذلك قبل نزول التوراة على بني إسرائيل وعلى من قبلهم من الأمم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب لا على عهد إبراهيم فَأُولئِكَ المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال هُمُ الظَّالِمُونَ (94) المستحقون لعذاب الله قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء على قبائح أفعالهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي ملة الإسلام التي هي الأصل ملة إبراهيم لأنها ملة محمد صلّى الله عليه وسلّم حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائغة كلها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) في أمر من أمور دينه فإنه لم يدع مع الله إلها آخر ولم يعبد سواه كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهود في ادعاء أن عزيرا ابن الله. وكما فعله النصارى في ادعاء أن المسيح ابن الله. ولما حوّل صلّى الله عليه وسلّم القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا: إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال، لأنه وضع قبل الكعبة وتحويل القبلة منه إلى الكعبة باطل. فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ أي إن أول بيت بني لعبادات الناس للبيت الذي هو ببكة، سميت مكة بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، أي يزدحمون في الطواف. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أول بيت وضع للناس فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» وسئل كم بينهما فقال: «أربعون سنة» «1» . أي أن آدم بنى الكعبة ثم بنى الأقصى وبين بنائهما أربعون سنة. مُبارَكاً أي ذا بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) أي قبلة لكل نبي ورسول، وصدّيق ومؤمن يهتدون بذلك البيت إلى جهة صلاتهم وذلك لأن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مريم: 58] . فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بدّ لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس

_ (1) رواه أحمد في (م 5/ ص 167) .

ونوح عليهم السلام موضعا آخر سوى الكعبة لبطل قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ فوجب أن يقال: إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة ومكرمة فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ أي علامات واضحة كانحراف الطيور عن موازاة البيت فلا تعلو فوقه بل إذا قابل هواه وهو في الجو انحرف عنه يمينا أو شمالا، ولا يستطيع أن يقطع هواه إلا إذا حصل له مرض فيدخل هواه للتداوي ومخالطة ضواري السباع الصيود في الحرم من غير تعرض لها وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه مَقامُ إِبْراهِيمَ وفيه دلالة على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم لأن تأثير قدميه في الصخرة الصمّاء وعوضهما فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخرة دون بعض وإبقاءه ألوف السنين معجزة عظيمة وَمَنْ دَخَلَهُ أي الحرم كانَ آمِناً أي إن من دخله للنسك تقربا إلى الله تعالى كان آمنا من النار يوم القيامة وأن الله أودع في قلوب الخلق الشفقة على كل من التجأ إليه وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي قصده للزيارة على وجه مخصوص مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ أي حج البيت سَبِيلًا أي بلاغا بوجود الزاد والراحلة والنفقة للعيال إلى الرجوع وَمَنْ كَفَرَ أي جحد فرض الحج فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) أي عن إيمانهم وحجهم. قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم، وقال: «إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا» «1» . فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ أي ومن ترك اعتقاد وجوب الحج فإن الله غني عنه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) أي لم تكفرون بآيات الله دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها، وهذه الحال توجب أن لا تجترئوا على الكفر بآياته. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ أي لم تصرفون عن دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو ملة الإسلام. من آمن بالله وبمحمد وبالقرآن بإضلالكم لصفة المسلمين تَبْغُونَها عِوَجاً أي تطلبون للسبيل زيفا لأنكم قلتم النسخ يدل على البدء. وقولكم: ورد في التوراة إن شريعة موسى باقية إلى الأبد وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أن في التوراة أن دين الله هو الإسلام لا يقبل غيره وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) فإنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 371) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (3: 204) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (29: 590) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 101 إلى 110]

ذلك بوجوه الحيل. نزلت هذه الآية في الذين دعوا عمارا وأصحابه إلى دينهم اليهودية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هم شاس بن قيس وعمرو بن شاس، وأوس بن قبطي وجبار بن صحر يَرُدُّوكُمْ أي يصيروكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ أي كيف يوجد منكم الكفر والحال أن القرآن الذي فيه بيان الحق من الباطل يتلى عليكم على لسان نبيكم غض طري، ومعكم رسول الله الذي يبين الحق ويدفع الشبه. روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد، فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار الأوس والخزرج وهم في مجلس يتحدثون وقد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام، فشق ذلك على اليهود، فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك في بعاث وهو موضع في المدينة، وكان يوم بعاث يوما اقتتل فيها الأوس والخزرج قبل مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بمائة وعشرين سنة وكان الظفر فيه للأوس. وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار، فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا: السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فوصل الخبر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال: «أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألّف بين قلوبكم» . فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم. قال الإمام الواحدي: اصطفوا للقتال. فنزلت الآية إلى قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي من يستمسك بكتاب الله وهو القرآن فَقَدْ هُدِيَ أي فقد حصل له الهدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) أي إلى طريق موصل إلى المطلوب. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق معاذ وأصحابه، ثم نزل في أوس وخزرج لخصومة كانت بينهم في الإسلام افتخر فيهم ثعلبة بن غنم وأسعد بن زرارة بالقتل والغارة في الجاهلية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أي كما يجب أن يتقى وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم كما في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. ويقال: أطيعوا الله كما ينبغي. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) لفظ النهي واقع على الموت. والمقصود الأمر بالإقامة على الإسلام أي ودوموا على الإسلام إلى الموت وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في

وسعهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وهو دين الإسلام أو بكتابه وهو القرآن جَمِيعاً أي مجتمعين في الاعتصام لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق ومن عمل به رشد، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم» «1» . وَلا تَفَرَّقُوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم لأن الحق لا يكون إلا واحدا وما عداه يكون ضلالا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نعمة دنيوية وأخروية إِذْ كُنْتُمْ في الجاهلية أَعْداءً يبغض بعضكم بعضا ويحارب بعضكم بعضا فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ أي قذف الله فيها المحبة بتوفيقكم للإسلام فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ أي فصرتم بدينه الإسلام إِخْواناً في الدين وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي على طرفها، أي وكنتم قريبين من الوقوع في نار جهنم لكفركم إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم فيها. فليس بين الحياة والموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء الذي هو مثل الحياة، وبين ذلك الشيء الذي هو مثل الموت فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي فأنجاكم من تلك الحفرة بأن هداكم للإسلام كَذلِكَ أي مثل البيان المذكور يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) أي لكي تهتدوا من الضلالة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتوجد منكم جماعة يقتدي بها فرق الناس يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ فأفضل الدعوة هي دعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والآمر بالمعروف تابع للمأمور به إن كان واجبا فواجب، وإن كان مندوبا فمندوب وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فالنهي عن الحرام واجب كله لأن تركه واجب وهذه الأمور من فروض الكفايات- لأنها لا تليق إلا من العالم بالحال- وسياسة الناس حتى لا يوقع المأمور أو المنهي في زيادة الفجور فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر، ونهى عن المعروف وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) أي المختصون بكمال الفلاح. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه «2» . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا أي تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين، أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد، ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق، وأن صاحبه على الباطل. قال الفخر الرازي: إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة. فنسأل الله العفو والرحمة

_ (1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن، باب: 14، والدارمي في كتاب فضائل القرآن، باب: فضل من قرأ القرآن. (2) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (5564) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2104) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 111 إلى 120]

مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة وَأُولئِكَ الذين تفرقوا لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) في الآخرة بسبب تفرقهم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ أي يوم تظهر بهجة السرور على قوم وسموا ببياض الوجه والصحيفة، وإشراق البشرة. وسعى النور أمامهم ويمينهم. ويوم تظهر كآبة الخوف والحزن على قوم وسموا بسواد اللون والصحيفة، وإحاطة الظلمة بهم من كل جانب. وقرئ «تبياض» و «تسواد» فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيلقون في النار وتقول لهم الزبانية. أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة. وقال عكرمة والأصم والزجاج: أي أكفرتم يا أهل الكتاب بعد بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد إيمانكم به قبل مبعثه فَذُوقُوا الْعَذابَ والأمر بذوق العذاب على طريقة الإهانة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) أي بسبب كفركم وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي في جنة الله وعبّر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى. وقرئ «ابياضّت» ، كما قرئ «اسوادّت» هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) أي لا يظعنون عنها ولا يموتون تِلْكَ أي الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار آياتُ اللَّهِ أي دلائل الله نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي بالمعنى الحق أو متلبسة بالعدل من أجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) أي ما يريد الله فردا من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يفعله. وأما ظلم بعضهم بعضا فواقع كثيرا، وكل واقع فهو بإرادته تعالى وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) فيجازي كلا منهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميّزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك ومخالفة الرسول وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء. وقال قتادة: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة للناس وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى إيمانا كاملا كإيمانكم لَكانَ أي ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ فإنهم آثروا دينهم على دين الإسلام حبا للرياسة واستتباع العوام ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الزيادة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيرا لهم مما قنعوا به. مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشي ورهطة من النصارى. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) في أديانهم فيكونون مردودين عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونهم لكفرهم، والكفار لا يقبلونهم لكونهم فاسقين فيما بينهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي لن يضركم

اليهود ضررا ألبتة إلا ضررا يسيرا- وهو أذى- أي ليس على المسلمين من اليهود ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان، إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما السلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم: عزير ابن الله، وإما بتحريف نصوص التوراة، وإما بإلقاء الشبه في الأسماع، وإما بتخويف الضعفة من المسلمين وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أي ينهزموا من غير أن يضروكم بقتل أو أسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) أي ثم أخبركم أنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة ولا يجدون النصر قط بل يبقون في الذلة أبدا كما قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي جعلت عليهم الذلة أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي صودفوا فلا يقدرون أن يقوموا مع المؤمنين إِلَّا أن يعتصموا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ أي المؤمنين فالأمان الحاصل للذمي قسمان: أحدهما: الذي نص الله عليه وهو أخذ الجزية. وثانيهما: الذي فوض الله إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد. فالأول: هو المسمى بحبل الله. والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي داموا في غضب الله أو استوجبوا لعنة الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ أي جعل عليهم زي الفقر. واليهود في غالب الأحوال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى ذلِكَ أي لزوم الذلة والمسكنة والمكث في اللعنة بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى يحرفونها بسائر الآيات القرآنية وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا جرم. فإن الذين قتلوا الأنبياء أسلافهم، وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب إليهم كما أن التحريف من أفعال أحبارهم ينسب إلى كل من يتبعهم ذلِكَ أي الكفر والقتل بِما عَصَوْا في السبت وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) أي يتجاوزون حدود الله باستحلال المحارم. قال أرباب المعاملات مع الله: من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر لَيْسُوا أي جميع أهل الكتاب سَواءً أي فليس من آمن منهم كمن لم يؤمن مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي جماعة عدل مهتدية بتوحيد الله وهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ومن أسلم معهم من اليهود كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: هم عبد الله بن سلام وأخوه ثعلبة بن سلام وسعية وميس وأسيد وأسدهما ابنا كعب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم. فأنزل الله تعالى هذه الآية: يَتْلُونَ

آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ أي يقرءون القرآن ساعات الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) أي يصلون التهجد في الليل. وهذا كلام مستقل والصلاة تسمى سجودا. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وَأُولئِكَ الموصوفون بالصفات السبعة مِنَ الصَّالِحِينَ (114) أي من جملة الذين صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناءه. وقال ابن عباس: أي من صالحي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ويقال: مع صالحي أمة محمد في الجنة مع أبي بكر وأصحابه. واعلم أن اليهود كانوا أيضا يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة. فلما مدح الله المؤمنين منهم بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فالإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله وكتبه، والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي. فإيمان اليهود بالله مع قولهم عزير ابن الله، وكفرهم ببعض الكتب والرسل، ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته، عدم الاحتراز عن معاصي الله وإضلال الناس وصدّهم عن سبيل الله ومبادرتهم إلى الشرور. واعلم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل. وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله. وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد. فقوله تعالى: يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم. وقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم، فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية، وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي هي آخر درجات الإنسانية، وأول درجات الملكية. واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاما وفوق التمام فكون الإنسان تاما ليس إلا في كمال قوته العملية وقوته النظرية، وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي أو بمنعهم عما لا ينبغي، ثم الوصف بالصلاح غاية المدح ويدل عليه القرآن والعقل. فإن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي فهو فساد سواء كان في العقائد أو في الأعمال، فإذا حصل كل ما ينبغي فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالا على أكمل الدرجات. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالياء في الفعلين. لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، فإن جهّال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان. قال تعالى: وَما يَفْعَلُوا أي عبد الله بن سلام وأصحابه من خير مما ذكر ويقال: من إحسان إلى محمد وأصحابه. فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن ينسى ثوابه بل يثابوا. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب لجميع المؤمنين الذين من جملتهم هؤلاء أي وما

تفعلوا معاشر المؤمنين من خير فلن تمنعوا ثوابه وجزاءه بل تجاوزوا عليه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) وهذا بشارة لهم بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده تعالى إلا أهل التقوى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تدفع عنهم أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذابه شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) إنما خصّ الله تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال، وأنفع الحيوانات هو الولد. ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة، وذلك يدل على عدم انتفاعه بسائر الأشياء بطريق الأولى. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا أي الكفار في هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أي برد مهلك أو حر محرق أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي فأَهْلَكَتْهُ. والمعنى مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للزرع، أو مثل الكافر الذي أنفق أمواله في الخيرات- نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل- وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيرا كثيرا، فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلا لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعا وتوقّع منه نفعا كثيرا فأصابته ريح، فأحرقته، فلا يبقى إلا الحزن والأسف، هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات. أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه من الخيرات وهو من المعاصي- مثل إنفاق الأموال في إيذاء رسول الله، وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم- فهو أشد تأثيرا في إبطال آثار أعمال البر وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ حيث لم يقبل نفقاتهم ولكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) حيث أتوا بالنفقات مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في شأن رجال من المؤمنين يشاورون اليهود في أمورهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظنا منهم أنهم ينصحون لهم في أسباب المعاش، فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه- كما قاله ابن عباس- أو في رجال من المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال فالله تعالى منعهم عن ذلك- كما قاله مجاهد- وقال الله تعالى: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي خاصة تباطنون في الأمور مِنْ دُونِكُمْ أي من غير أهل ملتكم من الكفار والمنافقين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفسادكم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر أي فإن الكفار لا يقصرون لكم في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه أحبوا بقلوبهم إلقاءكم في أشد أنواع الضرر. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم بالطعن وغيره مما يدل على نفاقهم وبأنهم يظهرون تكذيب نبيكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من الحقد أَكْبَرُ مما يظهر على ألسنتهم. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي علامة الحسد والعداوة إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) الفرق بين ما يستحقه العدو والولي ها أَنْتُمْ أُولاءِ أي أنبهكم أنتم يا معشر المؤمنين المخطئين في موالاتهم تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة، وبسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان

[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 إلى 130]

وأنهم يظهرون لكم محبة رسول الله وَلا يُحِبُّونَكُمْ بسبب المخالفة في الدين وبسبب أن الكفر مستقر في باطنهم ولأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وهم لا يؤمنون به وهم مع إيمانكم بكتبهم يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وَإِذا لَقُوكُمْ أي منافقو اليهود قالُوا نفاقا: آمَنَّا بمحمد فإن نعته في كتابنا وَإِذا خَلَوْا أي رجع بعضهم إلى بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ أي عضوا لأجل غمهم منكم أطراف الأصابع من شدة الغضب أي فإذا رجعوا إلى بعضهم أظهروا شدة العداوة على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل- كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه- ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان: إنه يعض يده غيظا وإن لم يكن هناك عض. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وهذا دعاء عليهم بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام ودعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون، وليس أمرا بالإقامة على الغيظ فإن الغيظ كفر والأمر بالكفر غير جائز، ويجوز أن يكون معنى قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنه تعالى أمر رسوله بطيب النفس وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به- كأنه قيل: حدّث نفسك بذلك- إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) أي إنه تعالى عالم بكل ما يحصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أي إن تصبكم منفعة الدنيا تحزنهم وذلك كصحة البدن، وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة بين الأحباب. وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي مضرة كمرض وفقر وانهزام من عدو، وقتل ونهب وغارة وحصول التفرقة بين الأقارب يَفْرَحُوا أي اليهود والمنافقون بِها فإنهم متناهون في عداوتكم فاجتنبوهم وَإِنْ تَصْبِرُوا على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم وَتَتَّقُوا كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ أي حيلتهم التي دبروها لأجلكم شَيْئاً من الضرر لأن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره حيل المحتالين. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «لا يضركم» بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء. والباقون «لا يضركم» بضم الضاد والراء المشددة على الجزم بسكون مقدر للاتباع. وروى المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء للتخفيف. إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) بالياء باتفاق القراء العشرة. أي إنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه. وفي قراءة شاذة بالتاء. والمعنى أنه تعالى عالم بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم مستحقون له وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ أي واذكر يا أشرف الخلق لأصحابك وقت خروجك من عند أهلك أي من حجرة عائشة إلى أحد ليتذكر، وإما وقع في ذلك الوقت من الأحوال الناشئة من عدم الصبر فيعلموا أنهم لو لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة.

روي أنه صلّى الله عليه وسلّم ذهب من منزل عائشة في المدينة فمشى على رجليه إلى أحد بعد صلاة الجمعة في نصف شوال، وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت، وجعل يصف أصحابه للقتال، وكانوا ألفا وأقل، وكان الكفار ثلاثة آلاف. وجعل صلّى الله عليه وسلّم ظهره وظهر عسكره إلى أحد، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال: «ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا» وقال لأصحابه: «اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام» . فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بن أبي مع ثلاثمائة من المنافقين فبقي من عسكر المسلمين سبعمائة، ثم قوّاهم الله حتى هزموا المشركين، ثم طلبوا المدبرين وتركوا ذلك المقام واشتغلوا بطلب الغنائم، وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكرّ عليهم المشركون وتفرّق المسلمون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشجّ وجه الرسول، وكسرت رباعيته، وشلّت يد طلحة ولم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قد قتل وكان رجل يكنى أبا سفيان- من الأنصار- نادى الأنصار وقال: هذا رسول الله فرجع إليه المهاجرون والأنصار وكان قد قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح . وكل ذلك يؤكد قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً والظفر إنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله وإلا لم يقوموا مع عدوهم تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أي تنزل المؤمنين بأحد أمكنة لقتال عدوهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ (121) بضمائركم ونياتكم فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شاور أصحابه في ذلك الحرب، فمنهم من قال له: أقم بالمدينة وهو عبد الله بن أبيّ، وأكثر الأنصار. ومنهم من قال له: اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج وهما جناحا العسكر أَنْ تَفْشَلا أي بأن تجبنا عن قتال العدو يوم أحد وترجعا. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج مع تسعمائة وخمسين، ووعدهم النصر إن صبروا، فلما بلغوا عند جبل أحد انعزل ابن أبي المنافق مع ثلاثمائة من أصحابه المنافقين وقال: يا قوم لأي شيء نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري وأبو جابر السلمي وقالا: أسألكم بالله في حفظ نبيكم وأنفسكم أي فإنكم لو رجعتم فاتتكم نصرة نبيكم، وفاتتكم وقاية أنفسكم من العذاب لتخلفكم عن نبيكم فقال عبد الله بن أبي: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الطائفتان باتباع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي عاصمهما عن اتباع تلك الخطوة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) في جميع أمورهم فإنه حسبهم، ولما حكى الله عن الطائفتين أنهما همّتا بالجبن والضعف أيّد ذلك بقصة بدر، فإن المسلمين كانوا في غاية الفقر والضعف والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا أعداءهم وفازوا

بمطلوبهم. وقال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وما كان فيهم إلا فرس واحد. والكفار كانوا فريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة. فَاتَّقُوا اللَّهَ في أمر الحرب ولا تخالفوا الأمير الذي معكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) لكي تشكروا نعمته تعالى ونصرته إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ف «إذ» إما منصوب بنصركم ويكون هذا الوعد حصل يوم بدر، وهذه الجملة من تمام قصة بدر وهو قول أكثر المفسرين، وإما بدل من قوله: إِذْ هَمَّتْ أو بدل ثان من قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ ويكون هذا الوعد حصل يوم أحد وهذه الجملة من تمام قصة أحد فيكون قوله: ولقد نصركم الله معترضا بين الكلامين وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ مع عدوكم أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ أي ينصركم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) من السماء. قرأ ابن عامر «منزلين» مشدد الزاي مفتوحة. والباقون بفتح الزاي مخففة. وقرئ قراءة شاذة باسم الفاعل من الصيغتين أي منزلين النصر بَلى يكفيكم إِنْ تَصْبِرُوا مع نبيكم في الحرب وَتَتَّقُوا معصية الله ومخالفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَيَأْتُوكُمْ أي يأتيكم المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي من ساعتهم هذه من جهة مكة يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ أي ينصركم على عدوكم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو أي معلمين أنفسهم أو خيلهم. والباقون بفتح الواو أي معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها أو مجذوذة أذنابهم أو مرسلين وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي بالمدد. وفي ذكر الإمداد مطلوبان: إدخال السرور في قلوبكم وحصول الطمأنينة على أن إعانة الله معهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لا من العدة والعدد ولا من عند الملائكة لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا واللام متعلق بقوله: وما النصر. والمعنى والمقصود من نصركم إن يهلك الله طائفة من كفار مكة بقتل وأسر أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يهزمهم ويخزيهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) أي يرجعوا منقطعي الآمال غير فائزين بمطلوبهم بشيء لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. وهذه الآية نزلت في قصة أحد لمنعه صلّى الله عليه وسلّم من الدعاء عليهم لما روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته- وهي السن التي بين الثنية والناب- ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية، ولما روى سالم بن عبد الله بن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعن أقواما فقال: «اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية» «1» . فنزل قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم. ولما حصل له صلّى الله عليه وسلّم من الهم بأنه رأى

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 3.

حمزة بن عبد المطلب ورأى ما فعلوا به من المثلة وقال: «لأمثلهن منهم بثلاثين» فنزلت هذه الآية ومات في ذلك اليوم من المسلمين سبعون، وأسر عشرون ومات من الكفار ستة عشر. وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا يوم أحد فمنعه الله من ذلك، وإنما نصّ الله تعالى على المنع تقوية لعصمته أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ وهذان إما معطوفان على الأمر. والمعنى ليس لك يا أشرف الخلق من شأن هذه الحادثة شيء ومن التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء، لأنه ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وليس لك من سؤال إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح، فربما تاب الله عليهم أو معطوفان على «شيء» أي ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. وقيل: المراد بالأمر ضد النهي. والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء، أو من توبتهم أو من تعذيبهم شيء إلا إذا كان على وفق أمري. والمقصود من الآية منعه صلّى الله عليه وسلّم من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) أي بالمعاصي وهذه جملة مستقلة لكن المقصود من ذكرها تعليل لحسن التعذيب. والمعنى أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فإنه تعالى إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة. فعلم ذلك مفوّض إلى الله وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه وتقديم المغفرة على التعذيب للإعلام بأن رحمته تعالى سبقت غضبه وبأن الرحمة من مقتضيات الذات دون الغضب فإنه من مقتضيات سيئات العصاة وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) والمغفرة والرحمة على سبيل الإحسان، أما التعذيب فعلى سبيل العدل لأن الطاعة لا توجب الثواب، والمعصية لا توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلهيته وقهره وإرادته. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً على الدرهم مُضاعَفَةً في الأجل وكان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال، قال: زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين، ثم إذا حلّ الأجل الثاني فعل مثل ذلك، ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله: أَضْعافاً مُضاعَفَةً. وقرأ ابن كثير وابن عامر بتشديد العين بلا ألف قبلها. وقال القفال: يحتمل أن تكون هذه الآية متصلة بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا. فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال، وينفقوه على العسكر فيتمكنوا من الانتقام منهم فحقا نهاهم الله عن ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه من أخذ الربا وغيره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) أي لكي تنجوا من

[سورة آل عمران (3) : الآيات 131 إلى 140]

العذاب والسخط وَاتَّقُوا النَّارَ بأن تجتنبوا ما يوجبها وهو استحلال ما حرم من الربا وغيره الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وكان أبو حنيفة يقول: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه، وفي الآية تنبيه على أن النار بالذات للكفار وبالعرض للعصاة. وَأَطِيعُوا اللَّهَ فيما يأمركم به وينهاكم عنه من أخذ الربا وغيره وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) الذي يبلغكم أوامر الله ونواهيه فإن طاعة الرسول طاعة لله وَسارِعُوا. قرأ نافع وابن عامر بغير واو أي بادروا واقبلوا. وقرئ شاذة وسابقوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي إلى الإسلام- كما قاله ابن عباس- وإلى أداء الفرائض- كما قاله علي بن أبي طالب- والصلوات الخمس وإلى الإخلاص- كما قاله عثمان بن عفان- وإلى الجهاد- كما قاله الضحاك ومحمد بن إسحاق- وإلى التكبيرة الأولى- كما قاله سعيد بن جبير- وإلى جميع الطاعات- كما قاله عكرمة- وإلى التوبة من الربا والذنوب- كما قاله الأصم وابن عباس- وَجَنَّةٍ أي فكما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة. فمعنى الغفران إزالة العقاب، ومعنى الجنة إيصال الثواب فلا بد للمكلف من تحصيل الأمرين عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها مثل عرض السموات والأرض لو جعلت السموات والأرض طبقا طبقا، بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله تعالى أُعِدَّتْ أي هيئت الجنة لِلْمُتَّقِينَ (133) ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أموالهم في سبيل الله تعالى فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في حال الغنى والفقر أو في سرور وحزن، أو على وفق طبعهم وعلى خلافه كما يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة. وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الكافين غيظهم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء» «2» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» «3» .

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: من كظم غيظا، والترمذي في كتاب البرّ، باب: 74، وأحمد في (م 3/ ص 438) . (2) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: من كظم غيظا، والترمذي في كتاب البرّ، باب: 74، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: الحلم، وأحمد في (م 3/ ص 438) . (3) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الكرم قلب المؤمن» ، ومسلم في كتاب البرّ، باب: 106، والموطأ في كتاب حسن الخلق، باب: ما جاء في الغضب،

وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ومحبة الله للعبد أعظم درجات الثواب. روي عن عيسى ابن مريم أنه قال: «ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك» . واعلم أن الإنسان إلى الغير إما أن يكون بإيصال النفع إليه أو بدفع الضرر عنه، أما إيصال النفع إليه فيدخل فيه إنفاق العلم بأن يشتغل بتعليم الجاهلين، وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات، وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة تلك الإساءة بإساءة أخرى فهذا داخل في كظم الغيظ، وأما في الآخرة بأن يبرئ ذمة الغير عن المطالبات فهذا داخل في العفو عن الناس. فهذه الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي معصية أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أتوا أيّ ذنب كان ذَكَرُوا اللَّهَ أي خافوا الله. قال بعضهم: لما وصف الله تعالى الجنة بأنها معدة للمتقين بيّن أن المتقين قسمان: أحدهما: الذين أقبلوا على الطاعات وهم الذين وصفهم الله بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس. وثانيهما: الذين أذنبوا ثم تابوا. وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على الموصول قبله. وقيل: لما ندب الله تعالى في الآية الأولى إلى الإحسان إلى الغير ندب في هذه الآية إلى الإحسان إلى النفس وعلى هذا فالاسم الموصول معطوف على المحسنين. روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين- أنصاري وثقفي- والرسول صلّى الله عليه وسلّم كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما، فخرج الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله يتعاهدهم فكان يفعل ذلك، ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها، فندم الرجل، فلما وافى الثقفي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم سكت حتى نزلت هذه الآية. وقال عطاء: نزلت في شأن أبي سعيد نبهان التمار فإنه أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا بالشراء، فقال لها: هذا التمر ليس بجيد، وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك ثم أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ذلك فنزلت هذه الآية: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي أتوا بالتوبة على الوجه الصحيح لأجل ذنوبهم، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار انقطاعه إلى الله

_ وأحمد في (م 1/ ص 382) .

تعالى. وقوله: «فاستغفروا» معطوف على جواب «إذا» . وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي لا يغفر ذنوب التائب أحد إلا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من الذنوب بأن أقلعوا عنها في الحال وهذا معطوف على قوله: «فاستغفروا» وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أن الذي فعلوه معصية الله، وهذه الجملة حال من فاعل «يصروا» أُولئِكَ الذين خافوا الله وتابوا من ذنوبهم جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ لذنوبهم وَجَنَّاتٌ أي بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها أي دائمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) أي نعم ثواب التائبين المغفرة والجنات. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي قد مضت من قبل زمانكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة المكذبة للرسل بإهلاكهم إن لم يتوبوا، وبالمغفرة إن تابوا، فرغب الله تعالى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا أي تعرفوا أيها المؤمنون أحوال الأمم السالفة بسير أو غيره، ثم تفكروا فيها للتسلي والاتعاظ. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل الذين لم يتوبوا من تكذيبهم هذا القرآن بَيانٌ بالحلال والحرام لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) . فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان: أحدهما: الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدي. والثاني: الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة، وإنما خصص الله المتقين بالهدي والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا عن الجهاد مع عدوكم وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الغنائم يوم أحد، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحة وكان قد قتل يومئذ سبعون رجلا خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وشماس بن عثمان وسعد مولى عتبة وباقيهم من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي والحال أنكم في آخر الأمر الغالبون بالنصرة لكم دون عدوكم فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسب ما شاهدتم من أحوال أسلافهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وهذا إما منصب بالنهي أو بوعد النصر والغلبة، أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وقلة المبالاة بالأعداء، أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضي العلو بلا شك إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أي إن أصابكم جرح يوم أحد فقد أصاب أهل مكة يوم بدر جرح مثل ما أصابكم يوم أحد ثم لم يضعف ذلك قلوبكم فأنتم أحق بأن

[سورة آل عمران (3) : الآيات 141 إلى 150]

لا تضعفوا. وقيل: إن المعنى إن نالكم يوم أحد قرح وانهزام فقد نال الكفار في ذلك اليوم مثل ذلك، فإن المسلمين نالوا من الكفار قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا- منهم صاحب لوائهم- وجرحوا عددا كثيرا، وعقروا عامة خيلهم بالنبل وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أي أيام الدنيا نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ لا يدوم مسارها ولا مضارها فيوم يحصل فيه السرور للمؤمنين، والغم للأعداء ويوم آخر بالعكس، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين، والأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفارة وأخرى على المؤمنين ولو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. وأيضا إن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيشدد الله المحنة عليه في الدنيا تأديبا له وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه غضب من الله عليه. وأيضا إن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وإنما السعادات المستمرة في دار الآخرة. وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد، ثم قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر! فقال أبو سفيان: يوم بيوم، والأيام دول، والحرب سجال. فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال: إن كان الأمر كما تزعمون فقد خبنا إذا وخسرنا. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا واللام متعلقة بفعل مضمر. والتقدير وفعلنا هذه المداولة لكي يرى الله الذين أخلصوا في إيمانهم متميزين من المنافقين إذا أصابتهم المشقة كما وقع في أحد وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي يكرم الله من يشاء منكم بالشهادة وهم شهداء أحد وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) أي المشركين وإنما يظفرهم في بعض الأحيان استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليطهرهم من ذنوبهم بما يصيبهم في الجهاد إن كانت الغلبة للكافرين على المؤمنين وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أي يهلكهم في الحرب إن كانت الغلبة للمؤمنين على الكافرين أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) والخطاب للذين انهزموا يوم أحد. أي أظننتم أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر- أي الجمع بينهما- أي لا تحسبوا ذلك والحال أن الله تعالى لم ير المجاهدين منكم في سبيل الله يوم أحد والصابرين على قتال عدوهم مع نبيهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ بالشهادة في الحرب مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ أي الموت يوم أحد حيث قلتم: ليت لنا يوما كيوم بدر لننال ما نال شهداؤه من الكرامة وكانوا قد ألحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد في الخروج، ثم ظهر منهم خلاف ذلك فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي إن كنتم صادقين في تمنيكم الحرب فقد رأيتم الموت بمشاهدة أسبابه يوم أحد وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)

إلى سيوف الكفار حين قتل أمامكم من قتل من إخوانكم، فلم انهزمتم منهم ولم تثبتوا مع نبيكم؟ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي قد مضت من قبل محمد أمثاله من رسل الله تعالى. قال ابن عباس ومجاهد والضحّاك: لما نزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ثم قتل على طلحة صاحب لواء الكفار، وشد الزبير والمقداد على المشركين فانهزم الكفار، ثم بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم، وفرق جمعهم، ورمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر رباعيته وشجّ وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر وأحد فقتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ففشا في الناس خبر قتله فهناك قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال قوم من المنافقين: لو كان محمدا نبيا لما قتل وإن كان قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر- عم أنس بن مالك-: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حيّ لا يموت وما تصنعون في الحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟! قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء المسلمون وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المنافقين، ثم سلّ سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ويقول: «إليّ عباد الله» «1» فأول من عرفه صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك وقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأشار إلي أن أمسك، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فأنزل الله تعالى هذه الآية: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي أصرتم كفارا بعد إيمانكم إن مات محمد أو قتل كغيره من الرسل فتخالفوا سنن أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد موتهم. أي لا ينبغي منكم الارتداد حينئذ لأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مبلّغ لا معبود وقد بلّغكم والمعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق لو مات من بلغكم إياه. وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً أي ومن يرجع إلى دينه الأول- وهو الشرك- فلن ينقص الله رجوعه شيئا وإنما يهلك نفسه بإقباله على

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (32) ، وابن كثير في التفسير (2: 118) ، والطبري في التفسير (4) ، وابن الجوزي في زاد المسير (1: 477) ، وابن كثير في البداية والنهاية (4: 23) .

العذاب. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي الثابتين على دين الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف كأنس بن النضر وأمثاله وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادة الله وقضائه كِتاباً مُؤَجَّلًا أي كتب الله الموت كتابا مؤقتا كتابة أجله ورزقه سواء لا يسبق أحدهما الآخر. وهذا إعلام بأن الحذر لا يدفع القدر وأن أحدا لا يموت قبل الأجل، وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء فلا فائدة في الجبن والخوف وَمَنْ يُرِدْ بعمله ثَوابَ الدُّنْيا أي منفعة الدنيا نُؤْتِهِ مِنْها أي نعطه من الدنيا ما يريد مما نشاء أن نعطيه إياه وما له في الآخرة من نصيب وَمَنْ يُرِدْ بعمله ثَوابَ الْآخِرَةِ أي منفعة الآخرة نُؤْتِهِ مِنْها أي نعطه من الآخرة ما يريد مما نشاء من الأضعاف حسب ما جرى به الوعد الكريم وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) أي نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القوى إلى ما خلق لأجله من طاعة الله. فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين: منهم من يريد الدنيا كالذين كانوا المركز طلبا للغنيمة والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا. ومنهم من يريد الآخرة كالذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا والذين حضروا للدين لا بد وأن لا ينهزموا. واعلم أن هذه الآية وإن وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب الدواعي. والمقصود لا ظواهر الأعمال كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» «1» . فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قرأ ابن كثير «كائن» بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة. والباقون بهمزة بعد الكاف بعدها ياء مشدودة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وقتل مبنيا للمفعول. وقتادة كذلك إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة «قاتل» وضمير الفعل يعود على المبتدأ والجملة خبر المبتدأ. وجملة «معه ربيون» من المبتدأ والخبر في محل نصب على الحال من ضمير الفعل، و «كثير» صفة ل «ربيون» . والمعنى على القراءة الأولى وكثير من الأنبياء قتلوا وبعدهم الذين بقوا من جماعتهم فما وهنوا أي ضعفوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم، فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة

_ (1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 155، وأبو داود في كتاب الطلاق، باب: فيما عني به الطلاق والنيّات، والترمذي في كتاب فضائل الجهاد، باب: 16، والنسائي في كتاب الطهارة، باب: النية في الوضوء، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: النية، وأحمد في (م 1/ ص 25) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 151 إلى 160]

محمد هكذا. قال سعيد بن جبير: ما سمعنا بنبي قتل في القتال. وقال الحسن البصري وجماعة من العظماء: لم يقتل نبي في حرب قط، والمعنى على القراءة المشهورة وكثير من نبي قاتل لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه كائنا معه في القتال جماعات كثيرة من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا أي جبنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في طاعة الله وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد وَما ضَعُفُوا أي عجزوا عن قتال عدوهم وَمَا اسْتَكانُوا أي ذلوا لعدوهم كما فعلتم حين قيل: قتل نبيكم وأردتم أن تعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) على تحمل الشدائد في طريق الله أي يكرمهم ويعظمهم وَما كانَ قَوْلَهُمْ بعد ما قتل نبيهم إِلَّا أَنْ قالُوا هذا الدعاء. وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الصغائر والكبائر وَإِسْرافَنا أي إفراطنا فِي أَمْرِنا بإتيان الذنوب العظيمة الكبيرة وَثَبِّتْ أَقْدامَنا بإزالة الخوف عن القلوب وإزالة الخواطر الفاسدة عن الصدور وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا بالنصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والشبهات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي حكم الله لهم بحصول الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم في الآخرة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) أي المعترفين بكونهم مسيئين، فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم: إذا اعترفتم بإساءتكم وعجزكم فأنا أصفكم بالإحسان وأجعلكم أحباء لنفسي حتى تعلموا أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى حضرة الله إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي المنافقين في قولهم للمؤمنين المنهزمين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم ولو كان محمد نبيا لما قتل يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى دينكم الأول. قال علي: والمراد بالذين كفروا: المنافقون، كما تقدم. وقال السدي وغيره: المراد بهم أبو سفيان بن حرب لأنه شجرة الفتن وكبير القوم في ذلك اليوم. ومعنى الآية حينئذ إن تخضعوا لأبي سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل: المراد عبد الله بن أبي وأتباعه من المنافقين لأنهم قالوا: لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة فارجعوا إلى دينكم الذي كنتم فيه. وقال ابن عباس: والمراد بهم اليهود كعب وأصحابه. والمراد بالذين آمنوا حذيفة وعمار فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) أي فترجعوا مغبونين في الدارين بالانقياد للعدو والتذلل له وبالحرمان عن الثواب المؤبد، والوقوع في العقاب المخلد بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ أي ناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) أي أقواهم بالنصرة. فلا ينبغي أن تطيعوا الكفار لينصروكم لأنهم عاجزون سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي سنقذف

في قلوب كفار مكة المخافة منكم حتى انهزموا وذلك أن الكفار لما هزموا المسلمين في أحد أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب. حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال: أين ابن أبي كبشة؟ وأين ابن أبي قحافة؟ وأين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر ودارت كلمات بينهما وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بعبادته سُلْطاناً أي كتابا ولا رسولا وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي مسكنهم في الآخرة النار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) أي وبئس مقر الكافرين النار وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يوم أحد. نزلت هذه الآية لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم قتلا كثيرا في أول الحرب بِإِذْنِهِ أي بعلمه ونصرته حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي إلى أن ضعفتم في الرأي أو إلى حين الغنيمة وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي اختلفتم في أمر الحرب أو في امتثال أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة، وجعل أميرهم عبد الله بن جبير، فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون، ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلا خيلهن فقالوا: الغنيمة الغنيمة، فقال عبد الله: عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وَعَصَيْتُمْ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة في أصل الجبل وتركتم المركز لأجل تحصيل الغنيمة مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أي بعد ما أراكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم النصرة والغنيمة مِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا بجهاده، وهم الذين تركوا المركز لأجل الغنيمة وَمِنْكُمْ أي من الرماة مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ بجهاده وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى قتلوا وهم عبد الله بن جبير وأصحابه ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ثم رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لما علم من ندمكم على المخالفة وتفضلا منه تعالى وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) حيث لم يستأصل الرماة إِذْ تُصْعِدُونَ أي تذهبون في الأرض وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي ولا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي وهو واقف في آخركم وكان يقول: «إلىّ عباد الله، إليّ عباد الله أنا رسول الله من يقرّ فله الجنة» «1» فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أي جازاكم الله عما حصل لكم بسبب الانهزام، وقتل

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (32) ، وابن كثير في [.....]

الأحباب، وفوت الغنائم بغم حصل للرسول بسبب عصيانكم أمره لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجراحة. قال أبو السعود: أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) أي عالم بأعمالكم ومقاصدكم قادر على مجازاتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً من العدو نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ أي يأخذ النعاس المهاجرين وعامة الأنصار وَطائِفَةٌ وهم المنافقون عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي أوقعهم في الهموم لأن أسباب الخوف وهي قصد العدو كانت حاصلة لهم والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ورسوله غير معتبر عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلذلك عظم الخوف في قلوبهم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه، فإن النبوة خلعة من الله تعالى يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن الله تعالى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الإلهية يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي هل لنا من النصر الذي وعدنا به محمد نصيب قط. وهذا الكلام إن كان قائله من المنافقين كعبد الله بن أبي فإنما قاله طعنا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي الإسلام وإن كان من المؤمنين المحققين كان غرضه منه إظهار الشفقة أنه متى يكون الفرج ومن أين يكون تحصل النصرة. قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ أي التدبير كُلَّهُ لِلَّهِ فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب مخافة القتل يَقُولُونَ أي معتب بن قشير وعبد الله بن أبي: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان لنا من التدبير والرأي شيء ما قتل من قتل منا في هذه المعركة وما غلبنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي قل يا أشرف الخلق لهم لو جلستم في بيوتكم في المدينة لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مصارعهم أي أماكنهم التي ماتوا فيها عند أحد حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد فإن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا لأن الله تعالى لما أخبر يقتل فلو لم يقتل لا نقلب علمه جهلا وذلك محال وَفرض الله عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليعاملكم من يختبر ما في قلوبكم من الإخلاص والنفاق

_ التفسير (2: 118) ، والطبري في التفسير (4) ، وابن الجوزي في زاد المسير (1: 477) ، وابن كثير في البداية والنهاية (4: 23) .

وليظهر ما فيها من السرائر وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلصها من الوساوس وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) أي بما في القلوب من الخير والشر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أي انهزموا يوم أحد وهم عثمان بن عفان، ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع محمد صلّى الله عليه وسلّم وجمع أبي سفيان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي أزالهم الشيطان بوسوسته أن محمدا قتل بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي بشؤم بعض ما كسبوا من الذنوب بترك المركز وبالحرص على الغنيمة أو على الحياة وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم واعتذارهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن تاب حَلِيمٌ (155) أي لا يعجل لهم بالعقوبة وأما الذين ثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين: أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام. وسبعة من الأنصار: الخباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي في نفس الأمر وهم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم في النسب أو في الكفر والنفاق إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي ساروا فيها للتجارة أو غيرها فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا أي مقيمين في المدينة ما ماتُوا في سفرهم وَما قُتِلُوا في غزواتهم لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي ظنهم أن إخوانهم لو لم يسافروا ولم يحضروا القتال لعاشوا حَسْرَةً أي حزنا فِي قُلُوبِهِمْ واللام لام العاقبة أي أنهم قالوا ذلك لإعماء قلوب المسلمين ليضيق صدرهم وليتخلفوا عن القتال فلما كان المؤمنون لم يلتفتوا إلى قولهم فيضيع سعيهم، ويبطل كيدهم فتحصل الندامة في قلوبهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الخوف، ويميت القاعد عن القتال والمقيم مع حيازتهما لأسباب السلامة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) فيجازيهم على قولهم واعتقادهم ويجازيكم أن تماثلوهم في ذلك وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ في سفركم للغزو مع الكفار أو في بيوتكم وكنتم مخلصين من النفاق لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ منه لكم خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا من الأموال التي تعد خيرات. وقرأ حفص عن عاصم بالغيبة أي خير مما يجمعه هؤلاء الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم. قال الفخر الرازي: والأصوب عندي أن اللام في «ولئن» للتأكيد فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا أو تقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة والرحمة فلماذا تحترزون عن الموت والقتل بل ذلك مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون لأن الموت الذي يستحق الثواب العظيم كان خيرا من الموت من غير فائدة وَلَئِنْ مُتُّمْ في حضر أو سفر أَوْ

قُتِلْتُمْ في الجهاد أو غيره لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فجميع العالمين يوفقون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والله تعالى يحكم بين عبيده بالعدل. واعلم أن الله تعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالمغفرة والرحمة وفي هذه الآية بالحشر إلى الله زيادة في إعلاء الدرجات. يروى «أن عيسى ابن مريم مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله، فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة، فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ورأى آثار العبودية عليهم أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقّون» . فقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه. وقوله: وَرَحْمَةٌ إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه. وقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية وهذا أعلا المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، فهؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعة الله ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته فَبِما رَحْمَةٍ فما استفهام للتعجب تقديره فبأي رحمة مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وذلك لأنه لما كانت جنايتهم عظيمة ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يظهر تغليظا في القول ألبتة علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا باللسان غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسية لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك ولو يسكنوا إليك ولو انفضوا من حولك فات المقصود من الرسالة فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فإن المشاورة تقتضي شدة محبتهم له صلّى الله عليه وسلّم لأنها تدل على رفعة درجتهم فترك المشاورة معهم إهانة لهم قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم» . فَإِذا عَزَمْتَ عقب المشاورة على شيء فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في إمضاء أمرك على ما هو أصلح وليس التوكل إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول بقلبه على عصمة الله وإعانته إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي يترك الله نصرتكم كيوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي فلا أحد ينصركم على عدوكم من بعد

[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 إلى 170]

خذلانه تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) بالنصرة وغيرها وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بفتح الياء وضم الغين، أي وما جاز لنبي أن يخون أمته في الغنائم. قال الكلبي ومقاتل: نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟» . فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ظننتم أنا نغفل فلا نقسم لكم» . فنزلت هذه الآية . وقرأ الباقون من السبعة «يغل» بضم الياء وفتح الغين أي وما جاز لنبي أن يخان لأن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا ولأن الخيانة في حقه صلّى الله عليه وسلّم أفحش لأنه أفضل البشر، ولأن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر، كما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وقعت في يده يوم حنين غنائم هوازن غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ أي يأت بالذي غله بعينه يحمله على عنقه يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي تعطى وافيا ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من الغلول وغيره وَهُمْ أي كل نفس لا يُظْلَمُونَ (161) بزيادة عقاب أو بنقص ثواب لأنه تعالى عادل في حكمه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي أمن اتقى فاتبع رضوان الله بالإيمان به والعمل بطاعته كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ أي كمن استحق سخطا من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته وَمَأْواهُ أي الغال أو من استوجب سخط الله جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) جهنم هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي الفريقان مختلفون في درجات الثواب والعقاب في حكم الله وعلمه باختلاف مراتب الطاعات والمعاصي وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) أي بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم بحسبها لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي لقد أحسن إليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي بعث آدميا ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله من أول العمر إلى آخره أنه ملازم الصدق والأمانة وهو صار شرفا للعرب وفخرا لهم، وذلك لأن الافتخار بإبراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه اليهود والنصارى والعرب، ثم إن اليهود يفتخرون بموسى والتوراة والنصارى يفتخرون بعيسى والإنجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. فهذا وجه الفائدة في قوله تعالى من أنفسهم: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي القرآن. أي يبلغ الوحي من عند الله إلى الخلق بالأمر والنهي وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم بالتوحيد من الشرك وبأخذ الزكاة من الذنوب ويكمل نظرهم بحصول المعارف الإلهية وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي ظواهر الشريعة أو يعرفهم التأويل وَالْحِكْمَةَ أي محاسن الشريعة وأسرارها وعللها وَإِنْ

كانُوا مِنْ قَبْلُ أي والحال أنهم كانوا من قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أو المعنى وما كانوا من قبل مجيء محمد والقرآن إلا في ضلال بيّن وذلك لأن دين العرب قبل ذلك كان أرذل الأديان- وهو عبادة الأوثان- وأخلاقهم أرذل الأخلاق- وهو الغارة والنهب، والقتل وأكل الأطعمة الرديئة- ثم لما بعث الله سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم إليهم انتقلوا ببركته من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أحسنها، وصاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطيباتها ولا شك أن هذا أعظم المنة. أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا أي أقلتم متعجبين من أين أصابنا هذا ونحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله فكيف صاروا منصورين علينا وقد تقدم الوعد بالنصر حين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل. وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين. والأسير في حكم المقتول لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. قُلْ هُوَ أي حصول هذا الأمر مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي بشؤم معصيتكم بترككم المركز وحرصكم على الغنيمة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) فإنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما هو قادر على التخلية بينكم وبين عدوكم إذا خالفتم وعصيتم وَما أَصابَكُمْ في أحد من القتل والجراحة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع محمد وجمع أبي سفيان فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فهو بقضائه وإرادته وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ أي وليظهر الله للناس الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق والامتناع من الجهاد مع وجود الطلب. وهم عبد الله بن أبي وأصحابه حيث رجعوا يوم أحد إلى المدينة قال لهم عبد الله بن جبير أو عبد الله بن عمرو بن حرام- والد جابر بن عبد الله الأنصاري -: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو تَعالَوْا إلى أحد قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا أي كونوا إما من رجال الدين وإما من رجال الدنيا فإن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا لهما في طاعة الله، وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم وبلدكم. قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا أي لو نحسن قتالا ونقدر عليه لَاتَّبَعْناكُمْ إلى أحد هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان، فإنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم، فلما رجعوا عن عسكر المسلمين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين وأيضا قولهم ذلك يدل على كفرهم لأنه إما على السخرية بالمسلمين، وإما على عدم الوثوق بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكل واحد منهما كفر. يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فإنهم أظهروا أمرين ليس في قلوبهم واحد منهما. أحدهما: عدم العلم بالقتال. والآخر: الاتباع على تقدير العلم به. وقد كذبوا فيهما فإنهم عالمون بالقتال غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين على الانخزال عازمين على الارتداد. وَاللَّهُ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 171 إلى 180]

أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) أي يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره الَّذِينَ قالُوا أي الذين نافقوا، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو أقاربهم وَقد قَعَدُوا عن القتال بالانخذال: لَوْ أَطاعُونا أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك ما قُتِلُوا كما لا نقتل قُلْ للمنافقين فَادْرَؤُا أي ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) في أن القعود ينجي منه. وروي أنه أنزل الله بهم الموت، فمات منهم يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً نزلت هذه الآية في حق قتلى أحد وكانوا سبعين رجلا: أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير، وشماس بن عثمان، وعبد الله بن جحش، وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأما شهداء بدر فنزلت فيهم آية البقرة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله الآية بَلْ هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) التحف من الجنة. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في صفة الشهداء إن أرواحهم في أجواف طير خضر وأنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله» . ثم قال: «ما تريد يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟» فقال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو شرف الشهادة والقرب من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) أي أن الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله، فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا. أي يفرحون بحسن حال إخوانهم الذين تركوهم في الدنيا بدوام انتفاء الخوف والحزن وبلحوقهم بهم لأن الله بشرهم بذلك يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بثواب أعمالهم من الله وَفَضْلٍ أي زيادة عظيمة من الكرامة وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) من الشهداء وغيرهم الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ في أحد. منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والزبير وسعد وطلحة وابن عوف وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح وجابر بن عبد الله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ في طاعة الرسول في ذلك الوقت وَاتَّقَوْا في التخلف عن الرسول أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) . روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم! بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم. فهموا

بالرجوع، فبلغ ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة. فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال: «لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال بالأمس» فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه قيل: كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق لمن أراد ذا الحليفة، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، فألقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت هذه الآية: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ وهو أعرابي من خزاعة أو جماعة راكبون من عبد القيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي إِنَّ النَّاسَ أي أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ في اللطيمة وهي سوق في قرب مكة فَاخْشَوْهُمْ بالخروج إليهم. روي أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر إن شئت. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى» . فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من بني عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين، وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب وقد بدا لي أن أرجع، ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبا سفيان بموسم بدر أن نقتتل فيها، فقال لهم: ما هذا بالرأي! أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم فكره الخروج. فلما عرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ذلك قال: «والذي نفس محمد بيده لأخرجن إليهم ولو لم يخرج معي أحد» . فخرج في سبعين راكبا، وباقي الجماعة يمشون وفيهم ابن مسعود فذهبوا وكلهم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل. إلى أن وصلوا إلى بدر وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان ثمان ليال ولم يلق أحدا من المشركين، ووافقوا السوق وباعوا ما كان معهم من التجارات واشتروا أدما وزبيبا بحوافي الدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين كما قال تعالى : فَزادَهُمْ إِيماناً أي زادهم هذا الكلام المخوف جراءة بالخروج إليهم وعزما متأكدا على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله وثقتنا به وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) أي الكفيل بالنصرة والكافي فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فخرجوا إلى بدر فرجعوا من بدر ملتبسين بسلامة وثواب من الله وَفَضْلٍ أي ربح في التجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ أي لم يصبهم في الذهاب والمجيء سُوءٌ أي قتل ولا جراح وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) يدفع العدو عنهم ويعطيهم ثواب الغزو ويرضى عنهم إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ.

قرأ ابن عباس وابن مسعود «يخوفكم أولياءه» . وقرأ أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه» ، أي ذلكم المثبط الشيطان يحوفكم أيها المؤمنون المشركين أبا سفيان وأصحابه. وقال الحسن والسدي: معنى هذه الآية الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويختارون أمره- وهم المنافقون- ليقعدوا عن قتال المشركين. فأما أولياءه الله فإنهم لا يخافون الكفار إذا خوّفهم الشيطان ولا ينقادون لأمره فَلا تَخافُوهُمْ أي أولياء الشيطان بالخروج إليهم وَخافُونِ في مخالفة أمري بالجلوس إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) فإن الإيمان يقتضي تقديم خوف الله على خوف الناس ويستلزم عدم الخوف من شر الشيطان وأوليائه وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. قرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي في جميع ما في القرآن إلا قوله تعالى لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الآية: 103] في سورة الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي كباقي القراء في جميع ما في القرآن إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً. اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية فقيل: إنها نزلت في شأن كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم. والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بنصرته بأن يقصد جمع العساكر بمحاربتك وإبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة. وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك فإنهم لن يضروا الله شيئا بهذا الصنيع وإنما يضرون أنفسهم. وقيل: نزلت في شأن المنافقين إنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصر والظفر. وقيل: نزلت في شأن رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لمتاع الدنيا يُرِيدُ اللَّهُ بذلك أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا من الثواب فِي الْآخِرَةِ أي الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) في النار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) قال ابن عباس: هم المنافقون اختاروا الكفر على الإيمان فإنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شيطانهم كفروا وتركوا الإيمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. ويمكن حمل هذه الآية على اليهود، ومعنى اشتراء الكفر بالإيمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويؤمنون به قبل مبعثه، ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما كانوا عليه فكأنهم أعطوا الإيمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ أي نمهل لهم بتطويل الأعمار خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً أي ذنبا في الدنيا ودركات في الآخرة وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) يهانون به يوما فيوما وساعة بعد ساعة. قال الفخر الرازي: بيّن الله تعالى في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين عن القتال ليس

خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا في أحد لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة. وقتل أولئك الذين قتلوا في أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل. قرأ ابن كثير وأبو عمرو في الأربعة: «ولا تحسبن الذين كفروا» ، ولا تحسبن الذين يبخلون، لا تحسبن الذين يفرحون ف «لا تحسبنهم» بالتاء وضم الباء في قوله تعالى: «تحسبنهم» . وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله: «فلا تحسبنهم» فإنه بالتاء. وقراءة حمزة كلها بالتاء. وقيل: نزلت الآية من قوله: وَلا يَحْزُنْكَ إلى هاهنا في حق مشركي أهل مكة يوم أحد. ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليترك المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها الناس من اختلاط المنافقين بالمخلصين وإظهارهم أنهم من أهل الإيمان حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ أي المنافق مِنَ الطَّيِّبِ أي المؤمن بإلقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة، فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وتصديق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره أو بالقرائن فإن المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بذلك وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي إن عادة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات من التكاليف الشاقة كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فخصّهم بإعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق، أو المعنى فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان. أو المعنى وما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة، ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي لما طعن المنافقون في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بوقوع الحوادث المكروهة في أحد بين الله تعالى أنه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب، ولم يبق بعد جواب هذه الشبهة إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وَإِنْ تُؤْمِنُوا حق الإيمان وَتَتَّقُوا أي الكفر والنفاق فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) أي ثواب وافر في الجنة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أي لا يتوهمن هؤلاء البخلاء ببذل المال في الجهاد أن بخلهم هو خير لهم بل هو شرّ لهم لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي سيجعل ذلك المال طوقا من النار في عنقهم. وقيل: إن المراد البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكان ذلك الكتمان بخلا فحينئذ كان معنى سيطوقون أن

[سورة آل عمران (3) : الآيات 181 إلى 190]

الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة» «1» . والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من البخل والسخاء خَبِيرٌ (180) فيجازيكم عليه أو فيجازيهم عليه. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا أي فنحاص بن عازوراء- كما قاله ابن عباس والسدي- أو حيي بن أخطب- كما قاله قتادة- أو كعب بن الأشرف كما نقله ابن عساكر. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص اليهودي: إن الله فقير حتى سألنا القرض. فلطمه أبو بكر في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنكر ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله عنه والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ محتاج يطلب منا القرض وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ولا نحتاج إلى قرضه سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي من العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة ليقرأوا ذلك يوم القيامة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله، أو المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة جهلهم وطعنهم في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بكل ما قدروا عليه وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ في اعتقادهم كما في نفس الأمر أي نكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء بغير جرم. أو المعنى سنحفظ عن الفريقين معا أقوالهم وأفعالهم وَنَقُولُ عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب أو عند الإلقاء في النار ويحتمل أن يكون هذا القول كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول. وقرأ حمزة «سيكتب» بالياء وضمها على لفظ ما لم يسم فاعله وقتلهم برفع اللام ويقول بالياء. والباقون بالنون ونصب اللام من قتلهم. وقرأ الحسن والأعرج «سيكتب» بالياء وبالبناء للفاعل ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) أي المحرق ذلِكَ أي العذاب المحرق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ما اقترفتموه من التفوه بتلك العظيمة وغيره من المعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. الَّذِينَ قالُوا نصب على الذم أو جر نعتا ل «الّذين» الأول. أي لقد سمع الله قول الذين قالوا.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب العلم، باب: كراهية منع العلم، والترمذي في كتاب العلم، باب: 3، وابن ماجة في المقدّمة، باب: من سئل عن علم فكتمه، وأحمد في (م 2/ ص 263) .

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا، وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أخطب وغيرهم، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابا وقد عهد الله إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا في الكتاب أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ أي لا نصدق أحدا بالرسالة حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ما كان عليه أمر أنبياء بني إسرائيل حيث كان يقرب بالقربان من النعم أو من الصدقات- غير الحيوان- فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء أي لا دخان لها ولها دوي، فتأكل القربان أي تحرقه وهذا من أباطيلهم فإن أكل النار القربان لم يجب الإيمان إلا لكونه معجزة، فهو وسائر المعجزات سواء. وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وطلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد ولذلك رد الله عليهم بقوله: قُلْ يا أشرف الخلق قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ وهو القربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) في مقالتكم إنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام قد جاءوكم بما قلتم في معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم فَإِنْ كَذَّبُوكَ في أصل النبوة والشريعة فتسل فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات وَالزُّبُرِ أي الصحف كصحف إبراهيم وموسى وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) أي الواضح وهو التوراة والإنجيل والزبور. وقرأ ابن عامر «بالزبر» بإعادة الباء كقراءة ابن عباس دلالة على المغايرة. وقرأ هشام «وبالكتاب» بإعادة الباء. والباقون بغير الباء فيهما كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل حيوان حاضر في دار التكليف يذوق الموت. وروي عن الحسن أنه قرأ «ذائقة الموت» بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الأعمش بطرح التنوين مع نصب «الموت» . وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي وإنما تعطون أجزية أعمالكم على التمام يوم قيامكم من القبور. وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» «1» فَمَنْ زُحْزِحَ أي أبعد عَنِ النَّارِ بالتوحيد والعمل الصالح وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ أي نال غاية مقصوده. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أحبّ أن يزحزح عن النار

_ (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة، باب: 26.

ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «1» . وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) أي ليس ما في الدنيا من النعيم إلا كمتاع البيت في بقائه مثل الخزف والزجاجة وغير ذلك أي إن العيش في هذه الدنيا يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب فوصفت بأنها متاع الغرور لأنها تغر ببذل المحبوب، وتخيل للإنسان أنه يدوم وليس بدائم. قال بعضهم: الدنيا ظاهرها مطيّة السرور وباطنها مطية الشرور. قال سعيد بن جبير: إن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي والله لتختبرن في ذهاب أموالكم بالمهلكات كالغرق والحرق وبالتكاليف كالزكاة والجهاد، وفي ما يصيب أنفسكم من البلايا كالأمراض والأوجاع والقتل والضرب ومن التكاليف كالصلاة والجهاد والصبر فيهما. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً أي ولتسمعن من اليهود والنصارى ومشركي العرب: أنواع الإيذاء من الطعن في الدين الحنيف، والقدح في أحكام الشرع الشريف، وصدّ من أراد أن يؤمن، وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرابه من هجاء المؤمنين وتشبيب نسائهم، وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحو ذلك مما لا خير فيه. وَإِنْ تَصْبِرُوا على تلك البلوى وأذى الكفار وتستعملوا احتمال المكروه ومداراة الكفار في كثير من الأحوال وَتَتَّقُوا أي تحترزوا عما لا ينبغي وعن المداهنة مع الكفار وعن السكوت عن إظهار الإنكار فَإِنَّ ذلِكَ أي الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) أي من حزم أمور المؤمنين وخيرها ومن صواب التدبير. أو المعنى فإن ذلك ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ومما يجب أن يعزم عليه كل أحد لأنه حميد العاقبة. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ أي واذكر وقت أخذه تعالى العهد على علماء اليهود والنصارى لتذكرن الآيات الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والإنجيل وللناس، ولا تلقوا فيها التأويلات الفاسدة والباطلة. قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بالغيبة في الفعلين. والباقون بالخطاب فيهما. فَنَبَذُوهُ أي طرحوا الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ أي فلم يعملوا به وَاشْتَرَوْا بِهِ أي الكتاب ثَمَناً قَلِيلًا أي شيئا تافها من الدنيا أي أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فكل من لم يبين الذي للناس وكتم

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن، باب: ما يكون من الفتن، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 46، والنّسائي في كتاب البيعة، باب: ذكر ما على من بايع الإمام وأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، وأحمد في (م 2/ ص 161) .

شيئا منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب قلوبهم أو لجر منفعة أو لخوف، أو لبخل للعلم دخل تحت هذا الوعيد. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار» «1» . وعن محمد بن كعب قال: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وكان قتادة يقول: طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خبرا فوعاه. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما فعلوا من تحريف نصوص التوراة وتفسيرها بتفسيرات باطلة وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أي يحبون أن يوصفوا بالدين والفضل والعفاف والصدق. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ أي بمباعدة مِنَ الْعَذابِ. وقيل: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث إنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقعون من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحمدهم على الإيمان الذي لم يكن موجودا في قلوبهم. ولا شك أن هذه الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله بالصبر على أذاهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود. والأولى إجراء الموصول على العموم فيشتمل على كل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من سداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي «تحسبن» و «تحسبنهم» بالتاء الفوقية وكلاهما بفتح الباء، والتقدير: لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع أو كلاهما بضم الباء، والخطاب للمؤمنين والمفعول الأول: «الذين يفرحون» ، والثاني: «بمفازة» . وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد والفاء مقحمة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء التحتية، وكلاهما بفتح الباء، والفاعل للرسول وبضمها والفاعل من يتأتى منه الحسبان أو بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو، والفاعل هو الموصول والمفعول الأول محذوف، والتقدير ولا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب. ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما. أي لا يحسبن هؤلاء أنفسهم فائزين أو على أن الفعل الأول مسند للرسول أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني محذوف مفعول الفعل الثاني عليه، والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول، والفاء للعطف لظهور تفرع عدم

_ (1) رواه أبو داود في كتاب العلم، باب: كراهية منع العلم، والترمذي في كتاب العلم، باب: 3، وابن ماجة في المقدّمة، باب: من سئل عن علم فكتمه، وأحمد في (م 2/ ص 263) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 191 إلى 200]

حسبانهم على عدم حسبانه صلّى الله عليه وسلّم ومفعولاه ما بعده وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) أي وجيع في الآخرة وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، تعذيبا وإثابة، وهو تعالى يملك ما فيهما من خزائن المطر والنبات والرزق وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) فلا يشذ من ملكوته شيء من الأشياء وكل ما سواه تعالى مقدور له تعالى. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في إنشائهما على ما هما عليه في ذواتهما وصفاتهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في تعاقبهما في وجه الأرض وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها. الناشئين من حركات السموات وسكون الأرض أو في تفاوتهما بازدياد وانتقاص باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما بحسب الأمكنة لَآياتٍ كثيرة عظيمة دالة على وحدانيته تعالى وقدرته تعالى لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) أي لذوي العقول. المتفكرين في بدائع صنائع الملك الخلاق. المتدبرين في حكمه المودعة في الأنفس والآفاق. وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل مستلق على فراشه، إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال: أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» «1» . وقال: «لا عبادة كالتفكر» «2» . وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبد في تلك المدة فتى من فتيانهم فما أظلته سحابة، فقالت له أمه: لعل فرطة صدرت منك في مدتك. فقال: ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر! قال: نعم، قالت: فما أتيت إلا من ذلك. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي الذين لا يغفلون عن الله تعالى في جميع أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره تعالى، واستغراق سرائرهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال في أنفسهم ولا في الآفاق إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شؤونه تعالى. فالمراد ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللساني أولا. وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعتادة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا. والمراد تعميم الذكر للأوقات. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «3»

_ (1) رواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن (105) ، والقرطبي في التفسير (4: 314) . (2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (10: 283) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (4: 221) . (3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (10: 302) ، وابن عبد البر فيه التمهيد (6: 58) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5: 6) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (1887) ، والعراقي في

وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلى وفق هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» «1» أي لأن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، وإنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة. فإذا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف نفسه عرف ربه» «2» . معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالإمكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء. فكان التفكر في الخالق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فإذا لا تتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا في الجهة. ولا شك أن حقيقة المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله فلهذا السبب نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات. فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآية بذكره ولم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالتفكر في مخلوقاته. قال بعض العلماء: «الفكرة تذهب الغفلة وتجلب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع» . وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تفضلوني على يونس بن متّى فإنه كان يرفع كل يوم مثل عمل أهل الأرض» «3» . أي وذلك لأن عمله هو التفكر في معرفة الله لأنه لا يقدر أحد أن يعمل بجوارحه مثل ما عمل أهل الأرض، وإنما هو عمل القلب. واعلم أن دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس. ولا شك أن دلائل الآفاق أعظم وأعجب فلو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحدا ممتدا في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسرارا عجيبة، ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة الورقة

_ المغني عن حمل الأسفار (1: 296) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 205) ، والقرطبي في التفسير (15: 288) . (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1: 162) ، والسيوطي في الدر المنثور (2: 110) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (5706) . (2) رواه السيوطي في الحاوي للفتاوي (2: 412) ، والعجلوني في كشف الخفاء (2: 362) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة (351) . (3) رواه القاضي عياض في الشفا (1: 265) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2: 105) .

لعجز. فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة، فإذا قاس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن، والنبات والحيوان عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض. وإذا عرف بهذا البرهان قصور عقله لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجلّ من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم أن في كل ما خلقه الله تعالى حكما بالغة وأسرار عظيمة ولا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا أي المخلوق العجيب باطِلًا أي بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك ومدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد سُبْحانَكَ وهذا إقرار بعجز العقول عن الإحاطة بآثار حكمة الله تعالى في خلق السموات والأرض أي إن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر. وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) أي ادفع عنا عذاب النار لأنه جزاء من عصى ولم يطع. اعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعة يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار لأنه يجوز على الله تعذيبهم لأنه لا يقبح من الله شيء أصلا رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أهنته وَما لِلظَّالِمِينَ أي الكافرين مِنْ أَنْصارٍ (192) يمنعونهم من عذاب الله تعالى رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي سمعنا نداء مناد وهو كما قال محمد بن كعب القرآن المجيد يدعو الناس إلى الإيمان أي آمنوا بمتولي أموركم. فَآمَنَّا أي فامتثلنا أمره وأجبنا نداءه رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي صغائرنا. وقيل: المراد بالأول ما يزول بالتوبة، وبالثاني ما تكفره الطاعة العظيمة. وقيل: المراد بالأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية، وبالثاني ما أتى به الإنسان مع جهله بذلك وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) أي على مثل أعمالهم لنكون في درجاتهم يوم القيامة. أو المعنى توفنا على الإيمان، واجمعنا مع أرواح النبيين والصالحين رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ والجار والمجرور متعلق بوعدتنا أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك. وقيل: والمعنى وفقنا للأعمال التي نصير بها أهلا لوعدك من الثواب، واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وَلا تُخْزِنا أي لا تفضحنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع

الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال: ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد واستدلّ بهذه الآية. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فيما سألوه من غفران الذنوب وإعطاء الثواب . أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ وقرأ الجمهور بفتح الهمزة. وقرأ أبي بأني بالباء التي للسببية. وقرأ عيسى بن عمر بكسر الهمزة. والمعنى أني لا أبطل ثواب عمل عامل منكم. والمراد حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فلا تفاوت في الإجابة وفي الثواب بين الذكر والأنثى إذا كانا في التمسك بالطاعة على السوية بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي بعضكم كبعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي ألجأهم الكفار إلى الخروج من منازلهم التي ولدوا فيها وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي بسبب طاعتي ومن أجل ديني وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو «وقاتلوا» بالألف، «وقتلوا» مخففة. والمعنى قاتلوا العدو معه صلّى الله عليه وسلّم حتى قتلوا في الجهاد. وقرأ ابن كثير وابن عامر «وقاتلوا» بالألف، «وقتلوا» مشددة لتكرر القتل فيهم. وقيل: معناه قطعوا. وقرأ حمزة والكسائي «وقتلوا» بغير ألف أولا، «وقاتلوا» بالألف ثانيا، أي وقد قاتلوا. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) أي إن الله تعالى وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة: أولها: محو السيئات وغفران الذنوب. وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. وثانيها: إعطاء الثواب العظيم وهو دخول الجنان وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك. وثالثها: كون الثواب مقرونا بالتعظيم وهو المشار إليه بقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو الذي طلبوه بقولهم: ولا تخزنا يوم القيامة. وقوله تعالى: ثَواباً مصدر مؤكد لمعنى ما قبله لأن معنى مجموع قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ لأثيبنهم. فكأنه قيل: لأثيبنهم إثابة من عند الله. وقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ تأكيد لكون الثواب في غاية الشرف. روي أن أم سلمة قالت يا رسول الله: إني لم أسمع ذكر النساء في الهجرة فنزل قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ إلى هنا ولما قال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير ونحن في الجهد نزل قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط في المكاسب والمتاجر

والمزارع مَتاعٌ قَلِيلٌ أي الذي ترى من الخير منفعة يسيرة في الدنيا لا قدر لها في مقابلة ما أعد الله للمؤمنين من الثواب قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» «1» رواه مسلم . ثُمَّ مَأْواهُمْ أي مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ من الشرك والمعاصي وإن أخذوا في التجارة لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها فلا يضرهم ذلك لكسب نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي حال كون الجنات عطاء وإكراما من الله لهم كما تعد الضيافة للضيف إكراما وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب الدائم خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) أي للموحدين مما يتقلب فيه الفجار في الدنيا من المتاع القليل السريع الزوال وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ أي التوراة والإنجيل. قال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت هذه الآية في شأن أضحمة النجاشي حين مات وأخبر جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم بموته فقال النبيّ لأصحابه: «اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» «2» فخرج إلى البقيع وكشف الله له إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي فصلى عليه، واستغفر له. فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في حق عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال عطاء: نزلت في حق أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فأسلموا. وقال مجاهد: نزلت في حق مؤمني أهل الكتاب كلهم خاشِعِينَ لِلَّهِ أي متواضعين لله في الطاعة لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي لا يكتمون أمر الرسول ونعته كما يفعله غيرهم من أهل الكتاب لغرض المأكلة والرياسة أُولئِكَ أي المتصفون بصفات حميدة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الجنة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) أي سريع لإيصال الأجر الموعود إليهم من غير حاجة إلى تأمل لكونه عالما بجميع الأشياء فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على مشقة الاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات نحو الفلاسفة وعلى مشقة أداء الواجبات والمندوبات وعلى مشقة الاحتراز عن المنهيات وعلى شدائد الدنيا من المرض والفقر والخوف. وَصابِرُوا على تحمل المكاره الواقعة بينكم وبين غيركم

_ (1) رواه مسلم في كتاب الجنّة، باب: 55، والترمذي في كتاب الزهد، باب: 15، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، وأحمد في (م 4/ ص 395) . (2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3: 38) ، والسيوطي في الدر المنثور (2: 113) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (3: 1171) . [.....]

فيدخل فيه تحمل الأخلاق الرديئة من أهل البيت والأقارب والجيران، وترك الانتقام ممن أساء والعفو عمن ظلم والإيثار على الغير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والمصابرة مع المبطلين وحل شبههم وَرابِطُوا أي جاهدوا القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة من الشهوة والغضب والحرص. أو المعنى انتظروا الصلاة بعد الصلاة وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره وبتقوى الله يحصل دفع القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) أي كي تنتظموا في زمرة الفائزين بكل مطلوب الناجين من كل كروب فظهر أن هذه الآية مشتملة على علوم الأصول والفروع وعلى الحكم والأسرار.

سورة النساء

سورة النساء مدنية، مائة وست وسبعون آية، ثلاثة آلاف وسبعمائة واثنتان وستون كلمة، ستة عشر ألف وثلاثمائة وثمانية وعشرون حرفا يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ بالتناسل مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أبيكم آدم وَخَلَقَ مِنْها أي من نفس آدم زَوْجَها أمكم حواء. روي أنه تعالى لما خلق آدم وأسكنه الجنة ألقى عليه النوم، فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» «1» . وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر من تلك النفس وزوجها بطريق التوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً كثيرة. روى ابن جرير عن ابن إسحاق إن بني آدم لصلبه أربعون في عشرين بطنا فمما حفظ من ذكورهم قابيل وهابيل، وأباذ وشبوبه، وهند ومرانيس وفحور وسند، وبارق وشيث. ومن نسائهم أقليمة وأشوف وجزروه وعزورا. قال ابن عساكر: وقد روي أن من بني آدم لصلبه عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث وودا، وسواعا ويغوث ويعقوب، ونسرا وجميع أنساب بني آدم ترجع إلى شيث وسائر أولاده انقرضت أنسابهم من الطوفان وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تساءلون» بالتخفيف. والباقون بالتشديد. وقرأ حمزة وحده «والأرحام» بجر الميم. والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام. لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم. وربما أفرد ذلك فقال

_ (1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء، باب: خلق آدم- صلوات الله عليه- وذرّيّته، ومسلم في كتاب الرضاع، باب: 61، والدارمي في كتاب النكاح، باب: مداراة الرجل أهله، أحمد في (م 5/ ص 8) ، والترمذي في كتاب الطلاق، باب: 12.

أسألك بالرحم وأما قراءة الأرحام بالنصب فمعناه واتقوا الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه واتقوا الأرحام بوصلها وعدم قطعها فيما يتصل بالبر والإحسان والإعطاء. أو يقال: والزموا الأرحام وصلوها. وقد دلت الآية على جواز المسألة فيما بيننا بالله كقوله: بالله أسألك. روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سألكم بالله فأعطوه» «1» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) أي حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم على ذلك وَآتُوا الْيَتامى الذين بلغوا أَمْوالَهُمْ التي عندكم. وقال أبو السعود: أي لا تتعرضوا لأموال اليتامى بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة سواء أريد باليتامى الصغار أو ما يعم الصغار والكبار. وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تستبدلوا الحرام الذي هو مال اليتامى بالحلال الذي هو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب بأن لا تتركوا أموالكم وتأكلوا أموالهم وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم حتى لا تفرقوا بين أموالهم وأموالكم في حل الانتفاع بها فلا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم. إِنَّهُ أي أكل مال اليتيم كانَ حُوباً كَبِيراً (2) أي ذنبا عظيما عند الله. نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت هذه الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله إليه. وَإِنْ خِفْتُمْ يا أولياء اليتامى أَلَّا تُقْسِطُوا أي أن لا تعدلوا فِي الْيَتامى إذا نكحتموهن فَانْكِحُوا غيرهن من الغرائب. روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى. قالت: يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها. فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق وأمروا أن ينكحوا ما سواهن. وقال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لأجل مالها، وهي لا تعجبه وإنما تزوجها كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، ثم يسيء صحبتها ويتربص بها إلى أن تموت فيرثها فعاب الله عليهم ذلك وأنزل هذه الآية. وروي عن عكرمة أنه قال: كان الرجل عنده نسوة وأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقيل لهم: لا تزيدوا على أربع

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في الرجل يستعيذ بالرجل، والنّسائي في كتاب الزكاة، باب: من سأل بالله عزّ وجل، وأحمد في (م 2/ ص 68) .

فإنهم كانوا يتزوجون من النساء ما شاؤوا تسعا أو عشرا، وكان تحت قيس بن الحرث ثمان نسوة فحرم الله عليهم ما فوق الأربع. أي وإن خفتم ألا تعدلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق فأنكحوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أي فتزوجوا من استطابتها نفوسكم ومالت إليها قلوبكم من الأجنبيات مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ولا تزيدوا على أربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد في القسمة والنفقة كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الأعداد وكما لم تعدلوا في حق اليتامى فَواحِدَةً أي فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع. وقرئ «فواحدة» بالرفع أي فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من السراري فإنه لا قسمة لهن عليكم ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) أي اختيار الحرة الواحدة أو التسري أقرب إلى أن لا تميلوا ميلا محظورا بالنسبة إلى ما عداهما والأمر يدور مع عدم الجور لا مع تحقق العدل. وَآتُوا النِّساءَ اللاتي أمرتم بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن نِحْلَةً أي فريضة من الله تعالى كما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد، وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب فقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي أعطوهن مهورهن لأنها شريعة ودين ومذهب وما هو كذلك فهو فريضة وانتصاب نحلة على أنها مفعول له أو حال من الصدقات. فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً أي فإن وهبن لكم شيئا من الصداق بطيبة نفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن فَكُلُوهُ أي فخذوا ذلك الشيء وتصرفوا فيه هَنِيئاً أي حلالا بلا إثم مَرِيئاً (4) أي بلا ملامة وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أي ويا أيها الأولياء لا تؤتوا المبذرين من اليتامى الذين يكونون تحت ولايتكم أموالهم التي في أيديكم التي جعل الله الأموال معاشكم أي لا يحصل معاشكم إلا بهذا المال مخافة أن يضيعوها وأضاف الله المال إلى الأولياء من حيث إنهم ملكوا التصرف فيه لا لأنهم ملكوا المال، ويكفي حسن الإضافة أدنى سبب وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أنفقوا عليهم وَاكْسُوهُمْ وإنما قال الله فيها ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم بأن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول المال وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) أي جميلا وهو كل ما سكنت إليه النفس من قول لحسنه شرعا أو عقلا كأن يقول الولي للصبي: مالك عندي وأنا خازن له فإذا رشدت سلمت إليك أموالك وَابْتَلُوا الْيَتامى أي واختبروا من لا يتبين منهم السفه قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم بما يليق بحالهم بأن تجربوا ولد التاجر بالبيع والشراء، والمماسكة فيهما، وولد الزراع بالزراعة والنفقة على القوام بها، والأنثى فيما يتعلق بالغزل والقطن وصون الأطعمة عن الهرة ونحوها. وحفظ متاع البيت وولد الأمير ونحوه بالإنفاق مدة في خبز وماء ولحم ونحوها.

قال أبو حنيفة رضي الله عنه: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم. وقال الشافعي ولا يصح عقد الصبي المميز بل يمتحن في المماسكة، فإذا أراد العقد عقد الولي لأنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر فثبت عدم جواز تصرفه حال الصغر حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي إذا بلغوا مبلغ الرجل الذي يلزمه الحدود. وذلك بأن يحتلموا وإنما سمي الاحتلام ببلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع فَإِنْ آنَسْتُمْ أي عرفتم مِنْهُمْ رُشْداً أي اهتداء إلى وجوه التصرفات من غير تبذير وعجز عن خديعة الغير فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي عندكم من غير تأخر عن حد البلوغ. وقرئ «رشدا» بفتحتين و «رشدا» بضمتين. وعند الشافعي الصلاح يعتبر مع مصلح للمال في الدين بأن لا يرتكب كبيرة ولا يصر على صغيرة وعند أبي حنيفة هو غير معتبر وفائدة هذا الخلاف أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه وَلا تَأْكُلُوها أي أموال اليتامى أيها الأولياء إِسْرافاً وَبِداراً أي مسرفين بغير حق ومبادرين إلى إنفاقها أَنْ يَكْبَرُوا أي مخافة كبرهم فيمنعوكم عن ذلك وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء غَنِيًّا عن مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي فليتنزه عن أكلها وليقنع بما آتاه الله تعالى من الرزق إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً محتاجا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أي بقدر أجرة خدمته لليتيم وعمله في مال اليتيم. ويقال: فليأكل بالمعروف أي بالقرض ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وهذا القرض في أصول الأموال أما نحو ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح لنحو الوصي إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أي اليتامى أَمْوالَهُمْ بعد البلوغ والرشد فَأَشْهِدُوا ندبا عَلَيْهِمْ عند الدفع فإن الإشهاد أبعد من الخصومة ولو ادّعى الوصي بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه. أو قال: أنفقت عليه في صغره فقال مالك والشافعي: لا يصدق. وقال أبو حنيفة: يصدق مع اليمين. وقال الشافعي: القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤمن من جهة الشرع وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) أي شهيدا. روي أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وقال ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى هنا. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي للأولاد والأقرباء الذكور صغارا أو كبارا حظ. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المتوارثون منهم وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي المتوفون مِمَّا قَلَّ

مِنْهُ أي مما تركوه أَوْ كَثُرَ وأتى بهذه الجملة لتحقيق أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق ولدفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة، كالخيل وآلات الحرب للرجال. نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) أي أعني نصيبا مقدرا مقطوعا بتسليمه إليهم فالوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض. وهذا إبطال لحكم الجاهلية فإنهم لا يورثون النساء والأطفال، ويقولون: إنما يرث من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة وذكر الله في هذه الآية أن الإرث أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء ثم ذكر التفصيل في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى أي قرابة الميت الذي ليس بوارث وَالْيَتامى أي يتامى المؤمنين وَالْمَساكِينُ أي مساكين المؤمنين من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم من المال المقسوم شيئا قبل القسمة وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) وهذا الإعطاء مندوب إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس على الولي إلا القول المعروف كأن يقول: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون وإن يكبروا فسيعرفون حقكم أو يقول: سأوصيهم ليعطوك شيئا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ أي وليخف الذين يحضرون المريض على أولاد المريض إن تركوا بعد موتهم أولادا صغارا خافوا عليهم الضياع. وهذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا. وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضى لأخيك المسلم عن أنس قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «1» فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر اليتامى وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) أي عدلا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل بأن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة والتأديب ويخاطبون لهم بقولهم: يا ولدي يا بني. وبأن يقولوا للمريض: إذا أردت الوصية فلا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك، ويذكروه التوبة وكلمة الشهادة وبأن يلطف الورثة القول للحاضرين الذين لا يرثون حال قسمة الميراث إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي وجه الغضب إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي حراما يؤدي إلى النار. أو يقال: يجعل الله في بطونهم

_ (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: 71، والبخاري في كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والترمذي في كتاب القيامة، باب: 59، والنسائي في كتاب الإيمان، باب: علامة الإيمان، وابن ماجة في المقدّمة، باب: في الإيمان، والدارمي في كتاب الاستئذان، باب: في حق المسلم على المسلم، وأحمد في (م 1/ ص 89) .

[سورة النساء (4) : الآيات 11 إلى 20]

نارا يوم القيامة بأن يخلق الله نارا يأكلونها في بطونهم وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) أي سيدخلون نارا وقودا لا يعرف غاية شدتها إلّا الله تعالى. قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وسيصلون بضم الياء. والباقون بالفتح. وقرئ شاذة بضم الياء وتشديد اللام. نزلت هذه الآية في شأن حنظلة بن شمردل. وقيل في شأن رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد: ولي مال يتيم- وكان اليتيم ابن أخيه- فأكله. يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يبين الله لكم في ميراث أولادكم بعد موتكم. روى عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين، وامرأة وأخا. فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعدا قتل وإن عمهما أخذ مالهما فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي فلعل الله سيقضي فيه» ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمهما وقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» «1» فهذا أول ميراث قسم في الإسلام لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي فإذا خلف الميت ذكرا واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وإذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم، وإذا كان مع الأولاد أبوان وأحد الزوجين فالباقي بعد سهام الأبوين وأحد الزوجين بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي فإن كانت بنات الصلب نساء خلصا بنتين أو أكثر فلتلك النساء ثلثا ما ترك المتوفى وَإِنْ كانَتْ أي الوارثة بنتا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. وقرأ نافع واحدة بالرفع فكان تامة وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ أي الميت إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى، أي فإن كان مع الأبوين ولد ذكر فأكثر أو بنتان فأكثر فلكل واحد من الأب والأم السدس وإن كان معها بنت فلها النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية. والسدس الباقي للأب أيضا بحكم التعصيب فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي الميت وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ. وذلك فرض لها والباقي للأب فيأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب، وإذا انفرد أخذ كل المال كما هو شأن العصبة. وإذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فللأم ثلث ما يبقى بعد فرضه، والباقي للأب خلافا لابن عباس فإن للأم ثلث الكل عنده، ووافقه ابن سيرين في الزوجة وخالفه في الزوج لأن الثلث فيه يفضي إلى كون نصيب الأنثى مثل نصيب الذكرين فَإِنْ كانَ لَهُ أي الميت إِخْوَةٌ اثنان فصاعدا من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما ذكور أو إناث وارثون أو محجوبون بالأب فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. والباقي للأب ولا شيء للأخوة، وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند

_ (1) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (3058) .

وجوده ولهم عند عدمه مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق فأما إذا لم يكن دين أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت من ثلث ما فضل، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى. قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «يوصى» بفتح الصاد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل إليها طباعكم فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض ذلك فريضة وهذا إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً (11) في كل ما قضى وقدر. قال ابن عباس: إن الله ليشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله تعالى من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده بمسألته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه ولذا قال تعالى: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحد المتوالدين لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم والباقي لورثتهن فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ وارث واحد أو متعدد فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال والباقي لباقي الورثة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن وصية يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ أي أو من بعد قضاء دين عليهن وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن، والباقي لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلا. فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال والباقي للباقين مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ أي أو من بعد قضاء دين عليكم من المال وَإِنْ كانَ رَجُلٌ أي ميت يُورَثُ كَلالَةً أي لا ولد له ولا والد أَوِ امْرَأَةٌ أي أو كانت امرأة تورث كلالة وَلَهُ أي الميت أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من أمه فقط فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أي الأخ والأخت السُّدُسُ من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فَإِنْ كانُوا أي من يرث من الأخوة من الأم أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي من الواحد فَهُمْ أي الزائد على الواحد كيفما كانوا شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فالذكر والأنثى فيه سواء، والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ للورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث أو يقرّ بكل ماله أو ببعضه لأجنبي، أو يقر على نفسه

بدين لا حقيقة له أو يقر بأن الدين الذي له على الغير قد وصل إليه أو يبيع شيئا بثمن بخس أو يشتري شيئا بثمن غال، أو يوصي بالثلث لغرض تنقيص حقوق الورثة وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ أي فريضة من الله عليكم في قسمة المواريث. وقيل: المعنى وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الإسراف في الوصية، وينصر هذا الوجه قراءة الحسن «غير مضار وصية» بالإضافة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ (12) على الجائر لا يعاجله بالعقوبة فلا يغتر بالإمهال تِلْكَ أي شؤون الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث حُدُودُ اللَّهِ أي أحكام الله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في جميع الأوامر والنواهي يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ نصب على الظرفية عند الجمهور وعلى المفعولية عند الأخفش تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال من الهاء في يدخله وهي عائدة على «من» وهو مفرد في اللفظ جمع في المعنى، فلهذا صح الوجهان. وَذلِكَ أي دخول الجنات على وجه الخلود الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) الذي لا فوز وراءه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولو في بعض الأوامر والنواهي وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي يتجاوز أحكامه بالجور. وقال الكلبي: أي ومن يكفر بقسمة الله المواريث ويتعد حدوده استحلالا. وقال عكرمة عن ابن عباس: من لم يرض بقسم الله تعالى ويتعد ما قال الله تعالى يُدْخِلْهُ ناراً أي عظيمة هائلة خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) أي وله مع عذاب الحريق الجسماني عذاب شديد روحاني. وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بنون العظمة في الموضعين. والباقون بالياء. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي اللاتي يفعلن الزنا كائنات من أزواجكم المحصنات فاطلبوا أن يشهد عليهن بفعله أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم. وقرئ بالفاحشة فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بذلك كما ينبغي فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي فخلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي أن يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) أي أو إلى أن يشرع لهن حكما خاصا بهن ثم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى» «1» . وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي البكران اللذان يأتيان الفاحشة من أحراركم فَآذُوهُما بالتهديد والتعيير كأن يقال: بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه، وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة. ويخوفا بالرفع إلى الإمام وبالحد.

_ (1) رواه مسلم في كتاب الحدود، باب: 14.

وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون. فَإِنْ تابا عما فعلا من الفاحشة بعد زواجر الأذية وَأَصْلَحا أعمالهما فيما بينهما وبين الله فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اتركوا إيذاءهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً أي كثير القبول للتوبة ممن تاب رَحِيماً (16) أي واسع الرحمة. وقد نسخ الإيذاء باللسان للفتى والفتاة بجلد مائة. وقال أبو مسلم الأصفهاني والمراد بقوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ السحاقات حدّهن الحبس إلى الموت أو إلى أن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح. والمراد بقوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أهل اللواط وحدّهما الأذى بالقول والفعل. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي إنما التوبة التي يجب على الله قبولها وجوب الكرم والفضل لا وجوب الاستحقاق للذين يعملون المعصية مع عدم علمه بأنها معصية لكن يمكنه تحصيل العلم بأنها معصية. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي من زمان قريب وهو ما قبل معاينة سبب الموت وأهواله فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي يتجاوز الله عنهم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والجهالة عليه. حَكِيماً (17) بأن العبد لما كان من صفته ذلك، ثم تاب قبل سوق الروح فإنه يجب في الكرم والإحسان قبول توبته وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي وليس التوبة للذين يعملون الذنوب إلى حضور موتهم أي علامات قربه وقولهم حينئذ: إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. ولذلك لم ينفع إيمان فرعون حين أدركه الغرق. روى أبو أيوب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » «1» أي ما لم تتردد الروح في حلقه. وقال عطاء: ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزّتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده فقال الله: «وعزّتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر» وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أي وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب أُولئِكَ أي الكفار أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) بيان لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والإذلال نزلت هذه الآية في حق طعمة وأصحابه الذين ارتدوا. قاله ابن عباس. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ أي عين النساء كَرْهاً أي لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث وهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه. نزلت هذه الآية في حق أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال:

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 98، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة، وأحمد في (م 2/ ص 132) .

[سورة النساء (4) : الآيات 21 إلى 30]

ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها فإن شاء تزوّجها بغير صداق وإن شاء زوجها من إنسان آخر، وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قرأ حمزة والكسائي «كرها» بضم الكاف هنا. وكذا في التوبة وفي الأحقاف. وقرأ عاصم وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم. والباقون بالفتح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك. قال الفراء: الكره بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي وكذلك لا يحل لكم بعد التزويج بهن الحبس والتضييق لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بفتح الباء. والباقون بالكسر أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم. والمعنى لا يحل لكم أن تضيقوا الأمر عليهن لعلة من العلل إلا لإتيانهن بالنشوز فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) أي فإن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف ولا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فقد قربت كراهتكم شيئا أي معهن مع كون الله جعل في صحبتهن خيرا كثيرا، كحصول ولد فتنقلب الكراهة محبة. وكاستحقاق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا للإنفاق عليهن والإحسان إليهن على خلاف الطبع وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ أي وإن أردتم تزوج امرأة ترغبون فيها بدل امرأة تنفرون عنها بأن أردتم أن تطلقوها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أي وقد أعطيتم إحدى الزوجات التي تريدون أن تطلقوها مالا كثيرا من الصداق فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من ذلك القنطار شَيْئاً أي يسيرا. أي إن كان سوء العشرة من قبل الزوج كره له أن يأخذ شيئا من مهرها، ثم إن وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع، وإن كان من قبل المرأة فيحل أخذ بدل الخلع أَتَأْخُذُونَهُ أي المهر بُهْتاناً أي ظلما وَإِثْماً مُبِيناً (20) أي حراما بينا أي إن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر. روي أن الرجل إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي ولأي وجه تأخذون المهر وقد اجتمعتم في لحاف واحد فإنها قد بذلت نفسها لك، وجعلت ذاتها لذّتك وتمتعك. وحصلت الألفة التامة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن

يسترد منها شيئا؟ فهذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم! وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) . قال ابن عباس ومجاهد: وهو كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «1» . وهذا الإسناد مجاز عقلي من الإسناد للسبب لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله لكن بولغ فيه حتى جعل كأنهن الآخذات له أي وقد أخذ الله عليكم العهد بسببهن وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم من النساء فإنه موجب للعقاب إلا ما قد مضى قبل نزول آية التحريم فإنه معفو عنه ويقال: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي شهود وكانت موقتة، وعلى سبيل القهر. وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية. وقيل: المعنى لا تزوجوا امرأة وطئها آباؤكم بالزنا إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بامرأة فإنه يجوز للابن تزوجها كما نقل هذا المعنى عن ابن زيد، وكما قال أبو حنيفة: يحرّم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه لهذه الآية. وقال الشافعي: لا يحرم إِنَّهُ أي نكاح نساء الآباء كانَ فاحِشَةً أي قبيحا لأن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش وَمَقْتاً أي ممقوتا عند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى. وَساءَ سَبِيلًا (22) أي بئس مسلكا. نزلت هذه الآية في حق محصن بن قيس الأنصاري. واعلم أن مراتب القبح ثلاثة: القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات. فقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً إشارة إلى القبح العقلي. وقوله تعالى: وَمَقْتاً إشارة إلى القبح الشرعي. وقوله: وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي. ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ من النسب وَبَناتُكُمْ من النسب وَأَخَواتُكُمْ من النسب من أي وجه يكن وَعَمَّاتُكُمْ أي أخوات آبائكم وَخالاتُكُمْ أي أخوات أمهاتكم وَبَناتُ الْأَخِ من النسب من أي وجه يكن وَبَناتُ الْأُخْتِ من النسب من أي وجه يكن وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ في الحولين خمس رضعات متفرقات عند الشافعي وابن حنبل. وقال أبو حنيفة ومالك: يحصل التحريم بمصة واحدة وفاقا للأوزاعي ولسفيان الثوري،

_ (1) رواه مسلم في كتاب الحج، باب: 147، وأبو داود في كتاب المناسك، باب: صفة حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وابن ماجة في كتاب المناسك، باب: حجة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والدارمي في كتاب المناسك، باب: في سنة الحاج، وأحمد في (م 5/ ص 73) .

وعبد الله بن المبارك كقول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وهي من أرضعتها أمك أو ارتضعت بلبن أبيك أو ولدتها مرضعتك أو ولدها الفحل وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ من نسب أو رضاع سواء دخل بزوجته أم لا؟ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي بنات نسائكم اللاتي ربيتم في بيوتكم مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي جامعتموهن سواء كان ذلك بعقد صحيح أو فاسد فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح الربائب بعد طلاق أمها أو موتها وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي ونساء أبنائكم الذين من أولاد فراشكم دون نساء الأولاد الأدعياء. قال الشافعي: لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه لأنها حليلته. وقال أبو حنيفة: يجوز واتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد، كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بذلك وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بالنكاح وبالوطء في ملك اليمين لا في نفس ملك اليمين. قال الشافعي: نكاح الأخت في عدة البائن جائز لأنه لم يوجد الجمع. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي قد مضى في الجاهلية فإنه مغفور لكم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيما كان منكم في الجاهلية رَحِيماً (23) أي فيما يكون منكم في الإسلام إذا تبتم. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي وحرّم عليكم نكاح ذوات الأزواج كائنات من جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا فإنهن حلال لكم بعد ما استبرأتم أرحامهن بحيضة، وإن كان أزواجهن في دار الحرب واختلف القراء في كلمة المحصنات سواء كانت معرّفة بال أم نكرة. فقرأ الجمهور بفتح الصاد، والكسائي بكسرها في جميع القرآن إلّا التي في هذه الآية فإنهم أجمعوا فيها على الفتح. والمعنى أحصنهن الأزواج بالتزوج، أي أعفوهن عن الوقوع في الحرام والأولياء أعفوهن عن الفساد بالتزويج وهن يحصن أزواجهن عن الزنا ويحصن فروجهن عن غير أزواجهن بعفافهن كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله. أو المعنى الزموا كتاب الله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «وأحل لكم» بالبناء للمفعول عطفا على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ والباقون «وأحل» بالبناء للفاعل عطفا على «كتاب الله» أي كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها. ومحل أن تبتغوا رفع على البدل من ما على القراءة الأولى، ونصب على القراءة الثانية. وقوله: مُحْصِنِينَ حال. وقيل: خبر كان الناقصة. والمعنى وأحل لكم ما سوى المحرمات المعدودة أن تطلبوا النساء بصرف أموالكم المهور أو الأثمان على طريق النكاح إلى الأربع أو التسري للإماء حال كونكم متعففين عن الزنا وغير زانين وهذا تكرير للتأكيد.

وقيل: المعنى كونوا مع النساء متزوجين أو متسرين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي فأي فعل استنفعتم به من جهة المنكوحات مكن جماع أو عقد فأعطوهن مهورهن لأجله. بالتمام إن استنفعتم بالدخول ولو مرة، وبالنصف إن استنفعتم بعقد النكاح. فَرِيضَةً أي حال كون أجورهن مفروضة من الله عليكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ أي لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة المطلقة قبل الدخول تمام المهر أو فيما تراضيا به من نفقة ونحوها مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي من بعد ذكر المقدار المعين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً (24) فلا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أيها الأحرار طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي من إمائكم المؤمنات فقوله تعالى: أَنْ يَنْكِحَ إما مفعول لطولا، وإما بدل منه، وإما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له، لأنه بمعناه إذ الاستطاعة هي الطول- أي الفضل- والزيادة في المال أو تمييز. أي ومن لم يستطع منكم زيادة في المال يبلغ بها نكاح الحرائر فلينكح الإماء. أو المعنى ومن لم يستطع منكم استطاعة نكاحهن. أو المعنى من لم يستطع منكم من جهة سعة المال لا من جهة الطبيعة نكاح الحرة فلينكح الأمة لأنها في العادة تخف مهورها ونفقتها لاشتغالها بخدمة السيد، بخلاف الحرة الفقيرة. ويقال للمرأة الحديثة السن: فتاة. وللغلام: فتى. والأمة: تسمى فتاة، سواء كانت عجوزا أم شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير. وقال مجاهد وسعيد والحسن ومالك والشافعي: لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حرا أو عبدا. وقال أبو حنيفة: يجوز. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أي إنه تعالى أعلم منكم بمراتبكم في الإيمان فربّ أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر. فاعلموا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم الفضائل فإذا حصل الاشتراك في ذلك كان التفاوت فيما وراءه غير معتبر. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب. والفخر بالأحساب. والاستسقاء بالأنواء» «1» . فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي سيدهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي أعطوهن مهورهن على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل مُحْصَناتٍ أي عفائف عن الزنا وهي حال مفعول فأنكحوهن غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي غير مؤجرة

_ (1) رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب: 29، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: التفاخر بالأحساب، وأحمد في (م 5/ ص 342) .

نفسها مع أي رجل أرادها وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أي غير متخذات أخلاء معينين يزنون بهن سرا فَإِذا أُحْصِنَّ أي زوجهن. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر بالبناء للفاعل أي «أسلمن» ، كما قال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي فإن فعلن زنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أي فثابت عليهن شرعا نصف ما على الحرائر الأبكار مِنَ الْعَذابِ أي الحد فيجلدن خمسين ويغرين نصف سنة كما هو كذلك قبل الإحصان. وهذه الآية بيان عدم تفاوت حدّهن بالإحصان كتفاوت حد الحرائر. فتخفيف الحد للرق ذلِكَ أي نكاح الإماء حلال لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي الضرر الشديد في العزوبة بالشبق الشديد فإنه قد يحمل على الزنا، وقد يؤدي بالإنسان إلى الأمراض الشديدة وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء خَيْرٌ لَكُمْ لما في نكاحهن من تعريض الولد للرق وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) بإباحته لكم في نكاح الإماء وإن كان يؤدي إلى إرقاق الولد مع أن هذا يقتضي المنع منه لاحتياجكم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يرشدكم طرائق الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم فكل ما بين الله تحريمه وتحليله لنا من النساء كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير في مراعاة الشرائع وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (26) في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي أن يتجاوز عنكم حين حرّم عليكم الزنا ونكاح الأخوات من الأب وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ في نكاح الأخوات من الأب، وهم: اليهود. وفي الزنا، وهم: الفجرة. أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) بموافقتهم على استحلال المحرمات في قول اليهود: إن نكاح الأخوات من الأب حلال في كتابنا وعلى اتباع الشهوات. فإن الزاني يحب أن يشركه في الزنا غيره ليفرق اللوم عليه وعلى غيره. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في جميع أحكام الشرع كإباحة نكاح الأمة عند الضرورة وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) أي عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه حيث لا يصبر عن النساء وعن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات ولذلك خفف الله تكليفه. وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير لله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ أي بما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا، وشهادة الزور، والحلف الكاذب، وجحد الحق إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي «تجارة» بالنصب أي لا يأكل بعضكم أموالا بغير طريق شرعي بل كلوا بأن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم. والباقون بالرفع أي لكن بأن توجد

[سورة النساء (4) : الآيات 31 إلى 40]

تجارة عن طيب نفس وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) حيث نهاكم عن كل ما تستوجبون به مشقة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ما نهى عنه من قتل النفس وغيره من المحرمات عُدْواناً أي إفراطا في مجاوزة حد الحلال وَظُلْماً أي إتيانا بما لا يستحقه فَسَوْفَ نُصْلِيهِ أي ندخله ناراً هائلة شديدة العذاب وَكانَ ذلِكَ أي إصلاؤه النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) أي هينا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ في هذه السورة نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي صغائركم من جماعة إلى جماعة ومن جمعة إلى جمعة ومن شهر رمضان إلى شهر رمضان وَنُدْخِلْكُمْ في الآخرة مُدْخَلًا كَرِيماً (31) . قرأ نافع بفتح الميم والباقون بالضم أي موضعا حسنا وهو الجنة وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. قال ابن عباس: لا يتمنى الرجل مال غيره ودابته وامرأته ولا شيئا من الذي ثبت له كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس، وذلك هو الحسد المذموم لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها، واسألوا الله من فضله وقولوا: اللهم ارزقنا مثله أو خيرا منه مع التفويض. ويقال: نزلت هذه الآية في حق أم سلمة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقولها للنبيّ: ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال فنهى الله عن ذلك وقال: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم- أي الرجال- على بعض- أي النساء- من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم بيّن الله تعالى ثواب الرجال والنساء باكتسابهم فقال لِلرِّجالِ نَصِيبٌ أي ثواب مِمَّا اكْتَسَبُوا أي الخير كالجهاد والنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ أي ثواب مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الخير في بيوتهن كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والإرضاع وَسْئَلُوا اللَّهَ. قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز مِنْ فَضْلِهِ أي واسألوا الله ما احتجتم إليه يعطكم من خزائنه التي لا تنفد. قال الفخر الرازي: قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ تنبيه على أن الإنسان لا يجوز له أن يعين شيئا في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الإطلاق اه. وقد جاء في الحديث: «لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» «1» إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) ولذلك

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 115.

جعل الناس على طبقات فرفع بعضهم على بعض درجات. أي فإنه تعالى هو العالم بما يكون صلاحا للسائلين فليقصر السائل على المجمل وليحترز في دعائه عن التعيين. فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل تركة جعلنا ورثة متفاوتة في الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم ومما ترك بيان لكل وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أي ومما ترك الزوج والزوجة فالنكاح يسمى عقدا. وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويصح أن تكون جملة «جعلنا موالي» صفة «لكل» ، والضمير الراجع إليه محذوف، والكلام مبتدأ أو خبر. والمعنى حينئذ ولكل قوم جعلناهم وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك المورثون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الميراث. قيل: إن هذه الآية نزلت في شأن أبي بكر الصديق لأنه حلف أن لا ينفق على ابنه عبد الرحمن ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمر الله أبا بكر أن يؤتيه نصيبه. وقيل: المراد من قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الحلفاء. وبقوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة، وحينئذ فقوله: وَالَّذِينَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره قوله: فَآتُوهُمْ وعلى هذه الوجوه فهذه الآية غير منسوخة بخلاف ما لو حمل قوله: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على الحلفاء في الجاهلية. وقوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ على الميراث- وهو السدس- فهذه الآية حينئذ منسوخة بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وبقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ. وكذا لو حمل قوله: الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على الأبناء الأدعياء أو على من واخاه النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل آخر فإنه وأخي بين كل رجلين من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم شَهِيداً (33) أي مطلعا الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي الرجال مسلطون على أدب النساء بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات. ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية، وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك وبسبب إنفاقهم من أموالهم للمهر والنفقة فَالصَّالِحاتُ أي المحسنات إلى أزواجهن قانِتاتٌ أي مطيعات لأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة أزواجهن من الفروج والأموال بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بالذي حفظه الله لهن أي فإن حفظ حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن. أو المعنى بحفظ الله إياهن بالأمر بحفظ الغيب والتوفيق له. وقرئ بما حفظ الله بالنصب على حذف المضاف أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره

وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي والنساء اللاتي تظنون عصيانهن لكم فَعِظُوهُنَّ أي فانصحوهن بالترغيب والترهيب وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي حولوا عنهن وجوهكم في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحاف إن علمتم النشوز ولم تنفعهن النصيحة وَاضْرِبُوهُنَّ إن لم ينجع الهجران ضربا غير مبرح ولا شائن، والأولى ترك الضرب، فإن ضرب فالواجب أن يكون الضرب بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك بأن يكون مفرقا على البدن بأن لا يكون في موضع واحد وأن لا يوالي به وأن يتقي الوجه وأن يكون بمنديل ملفوف فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي فلا تطلبوا عليهن طريقا في الحب ولا في الأذية، واكتفوا بظاهر حال المرأة ولا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) أي إن الله تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم ما لا تطيقون فكذلك لا تكلفوهن ما لا طاقة لهن من المحبة. وإنه تعالى مع ذلك يتجاوز عن سيئاتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أي وإن علمتم أيها المؤمنون مخالفة بين الرجل والمرأة ولم تدروا من أيهما فابعثوا إلى الزوجين لإصلاح الحال بينهما حكما، أي رجلا وسطا صالحا للإصلاح من أهله- أي الزوج- وحكما آخر على صفة الأول من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلبا للإصلاح. فإن كانا أجنبيين جاز فيستكشف كل واحد منهما حقيقة حال الزوجين، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من جمعهما أو إيقاع طلاق أو خلع. إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما. فالضمير الأول: إما عائد على الحكمين أو الزوجين. والضمير الثاني: كذلك فالوجوه أربعة. والمعنى إن كانت نية الحكمين قطعا للخصومة أوقع الله الموافقة بين الزوجين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بموافقة الحكمين ومخالفتهما خَبِيراً (35) بفعل المرأة والرجل. قال ابن عباس: نزلت الآية من قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: 34] إلى هاهنا في شأن بنت محمد بن سلمة بلطمة لطمها زوجها سعد بن الربيع لعصيانها في المضاجع فطلبت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قصاصها من زوجها فنهاها الله عن ذلك. وَاعْبُدُوا اللَّهَ أي بقلوبكم وجوارحكم وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي شركا جليا أو خفيا وهذا أمر بالإخلاص في العبادة وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا بهما إحسانا بالقيام بخدمتهما وبالسعي في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما وبعدم رفع الصوت عليهما وعدم تخشين الكلام معهما، وعدم شهر السلاح عليهما، وعدم قتلهما ولو كانا كافرين لأنه صلّى الله عليه وسلّم نهى حنظلة عن قتل أبيه- أبي عامر الراهب- وكان مشركا. وعن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليمن استأذنه في الجهاد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك أحد باليمن» ؟ فقال: أبواي. فقال: «أبواك أذنا لك» ؟ فقال: لا. فقال: «فارجع فاستأذنهما فإن أذنا

لك فجاهد وإلا فبرهما» «1» . وَبِذِي الْقُرْبى أي صلوا بصاحب القرابة من أخ، أو عم، أو خال أو نحو ذلك. وَالْيَتامى أي أحسنوا إليهم بالرفق بهم وبمسح رأسهم وبتربيتهم وحفظ أموالهم وَالْمَساكِينِ أي أحسنوا إليهم بالصدقة أو بالرد الجميل وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره أو الذي له مع الجوار اتصال بالنسب. وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحقه، لأن له ثلاثة حقوق: حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام. كما قرئ والصلاة الوسطى نصبا على الاختصاص وَالْجارِ الْجُنُبِ أي الذي بعد جواره أو الذي لا قرابة له فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو إما رفيق في سفر أو جار ملاصق أو شريك في تعلم أو حرفة، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس. وقيل: هي المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ أي المسافر المنقطع عن بلده بالسفر أو الضيف أي أحسنوا له بالإكرام وله ثلاثة أيام حق وما فوق ذلك صدقة وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي أحسنوا إلى الخدم من العبيد والإماء إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي متكبرا عن أقاربه بالفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه ولا يحسن عشرتهم فَخُوراً (36) على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم وغيره الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من العلم بما في كتابهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأظهر أن الموصول منصوب على الذم، أو مرفوع على الذم أي هم الذين. ويجوز أن يكون بدلا من قوله: مَنْ كانَ مُخْتالًا وأن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره أحقاء بكل ملامة أو كافرون، نزلت هذه الآية في حق كدوم بن زيد وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع، ومحرى بن عمرو وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد ابن التابوت حين أمروا رجالا من الأنصار بترك النفقة على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خوف الفقر عليهم. أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي لليهود عَذاباً مُهِيناً (37) أي فمن كان شأنه كذلك فهو كافر بنعمة الله، ومن كان كافرا بنعمته فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. وفي الحديث الذي رواه أحمد أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يظهر أثرها عليه» «2» . وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والموصول إما معطوف على الموصول الأول، وإما معطوف على قوله تعالى: لِلْكافِرِينَ.

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الجهاد، باب: 2، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب: في الرجل يغزو وأبواه كارهان، والنّسائي في كتاب الجهاد، باب: الرخصة في التخلف لمن له والدان، وأحمد في (م 2/ ص 188) . (2) رواه أحمد في (م 3/ ص 474) .

قال الواحدي: نزلت هذه الآية في شأن المنافقين، وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً أي ومن يكن الشيطان معينا له في هذه الأفعال في الدنيا فَساءَ قَرِيناً (38) أي فبئس الصاحب له في النار هو فإن الله تعالى يقرن مع كل كافر شيطانا في سلسلة في النار، ثم بيّن الله تعالى سوء اختيارهم في ترك الإيمان فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي وأيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق ابتغاء وجه الله وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ وبأحوالهم المخفية عَلِيماً (39) فالله تعالى عالم ببواطن الأمور فإن القصد إلى الرياء إنما يكون باطنا غير ظاهر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي إن الله لا يظلم أحدا وزن نملة حمراء صغيرة أي لا يظلم قليلا ولا كثيرا وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. قرأ نافع وابن كثير حسنة بالرفع والمعنى وإن حدثت حسنة. والباقون بالنصب. والمعنى وإن تكن زنة الذرة حسنة. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعفها بالتشديد من غير ألف فيكون التضعيف للثواب إلى مقدار لا يعلمه إلّا الله تعالى. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعّفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته. وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدّر الله أن ذهبت إلى مكة حاجا أو معتمرا فلقيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: لم أقل ذلك ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف وتلا قوله تعالى: وَيُؤْتِ أي يعط الله صاحب الحسنة مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده تعالى أَجْراً عَظِيماً (40) فلا يقدر أحد قدره. روي أن عمر كان جالسا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت ثناياه، فقال عمر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك؟ قال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي الله عز وجل فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من هذا. فقال الله تعالى: رد على أخيك مظلمته. فقال: يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء. فقال الله تعالى للطالب: كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء فقال: يا رب فليحمل عني من أوزاري ثم فاضت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبكاء فقال: إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم. قال: فيقول الله تبارك

[سورة النساء (4) : الآيات 41 إلى 50]

وتعالى للمتظلم: ارفع بصرك فانظر في الجنان. فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق، أو لأي شهيد هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: بماذا يا رب؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب، قد عفوت عنه. فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة» «1» . فَكَيْفَ يصنع الكفار يوم القيامة إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ أي قوم بِشَهِيدٍ أي بنبي يشهد على قبح أعمالهم وَجِئْنا بِكَ يا أشرف الخلق عَلى هؤُلاءِ الشهداء وهم الرسل شَهِيداً (41) فتشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم. ويقال: وجئنا بك لأمتك مزكيا معدلا لأن أمته صلّى الله عليه وسلّم يشهدون للأنبياء على قومهم إذا جحدوا بالبلاغ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) أي يوم مجيء ذلك يتمنى الذين كفروا بالله وعصوا أمر الرسول أن يدفنوا فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى. ويقال: يتمنون أن يصيروا ترابا مع البهائم لعظم هول ذلك اليوم ولا يقدرون أن يكتموا من الله حديثا بأن يقولوا: والله ربنا ما كنا مشركين أي إنهم يريدون الكتمان أولا لما علموا أن الله لم يغفر شركا فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين رجاء غفران الله لهم. لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي لا تقيموا الصلاة حال كونكم سكارى من الشراب إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه ولا تقيموها حال كونكم جنبا إلا حال كونكم مسافرين. وقيل: إن «إلا» بمعنى غير، وهو صفة ل «جنبا» . والمعنى لا تقيموها حال كونكم جنبا غير مسافرين وسيأتي حكم المسافرين حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. والمعنى وإن كنتم مرضى مرضا يمنع من استعمال الماء أو مسافرين طال السفر أو قصر، أو أحدثتم بخروج الخارج من أحد السبيلين أو تلاقت بشرتكم مع بشرة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به للصلاة بعد الطلب فاقصدوا أرضا لا سبخة فيها فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إلى المرفقين بضربتين إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) وهذا كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته أنه يعفو عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى. أَلَمْ تَرَ أي تنظر إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (4: 576) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (3: 309) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4: 507) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6: 267) ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن (116) .

أي حظا يسيرا مِنَ الْكِتابِ أي من علم التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ أي يؤثرون تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة. كما قاله الزجاج وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) أي ويتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الإسلام وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ أي هو سبحانه وتعالى أعلم بكنه ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي متصرفا في جميع أموركم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) في كل موطن فثقوا به. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في شأن اليسع ورافع بن حرملة- حبرين من اليهود- دعوا رئيس المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه إلى دينهما. ثم نزل في مالك بن الصيف وأصحابه قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي من اليهود قوم يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها كتحريفهم في نعت النبي (أسمر ربعة) فوضعوا مكانه (آدم طوال) . وتحريفهم في (الرجم) فوضعوا بدله (الجلد) . ويقولون في الظاهر إذا أمرهم النبيّ عليه السلام: سمعنا قولك، وفي أنفسهم وعصينا أمرك. ويقولون في أثناء مخاطبة النبيّ عليه السلام كلاما ذا وجهين وهو محتمل للخير والشر، مظهرين المدح ويضمرون الشتم وهو: واسمع منا غير مسمع مكروها. والمراد واسمع منا حال كونك غير مسمع كلاما أصلا لصمم أو موت وهو دعاء منهم على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذهاب السمع أو غير مسمع جوابا يوافقك، فكأنك ما أسمعت شيئا. يقولون للنبي: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، فقوله غير مسمع، معناه غير سامع. ويقولون في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم: راعنا وهي كلمة ذات وجهين محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وللشر إذا حملت على السب بالرعونة أو على أنهم يريدون إنك يا محمد كنت ترعى أغناما لنا فإنهم يفتلون الحق فيجعلونه باطلا لأن راعنا من المراعاة فيجعلونه من الرعونة. وكانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم وعلى ما في قلوبهم من العداوة والبغضاء أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه وللقدح في دين الإسلام بالاستهزاء والسخرية وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا بدل ذلك لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عند الله وَأَقْوَمَ أي أصوب وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي أبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك فَلا يُؤْمِنُونَ بعد ذلك إِلَّا قَلِيلًا (46) أي إلا إيمانا قليلا غير نافع وهو الإيمان بالله والتوراة وموسى، وكفروا بسائر الأنبياء أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فلا ينفعهم الإيمان وبعضهم جعل قليلا مستثنى من الهاء في لعنهم أي إلا نفرا قليلا فلا يلعنهم الله لأنهم لم يفعلوا ذلك بل كانوا مؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا أي بالقرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي موافقا للتوراة في القصص

والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي والفواحش مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أقفائها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فهم ملعونون بكل لسان. وضمير الغائب راجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات فلما لعنهم الله ذكرهم بعبارة الغيبة وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ بإيقاع شيء ما مَفْعُولًا (47) أي نافذا. وهذا إخبار عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه تعالى مهما أخبرهم بإنزال العذاب على الكفار فعل ذلك لا محالة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ أي لا يغفر الكفر لمن اتصف بِهِ بلا توبة وإيمان وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي الشرك في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة من غير توبة عنها لِمَنْ يَشاءُ. روي عن ابن عباس أنه قال: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالإعتاق إن هو فعل ذلك، ثم إنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذنبهم وأنه لا يمنعهم عن الدخول إلى الإسلام إلا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68] . فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في هذه الآية. فنزل قوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 70] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى. فنزل: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] فدخلوا عند ذلك في الإسلام وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أي فقد فعل ذنبا غير مغفور أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي يمدحونها. قال قتادة والضحاك والسدي: هم اليهود. أخرجه ابن جرير، وذلك لما هدد الله تعالى اليهود بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا: لسنا من المشركين بل نحن من خواص الله تعالى. وهذا استفهام تعجيب وهو أمر المخاطب على التعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم. وفي هذه الآية تحذير من إعجاب المرء بنفسه وعمله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ عطف على مقدر. أي هم لا يزكون أنفسهم في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستحقها من المؤمنين وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) أي إن الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم. أي فلا يظلمون في ذلك العقاب قدر فتيل وهو الخيط الذي في شق النواة طولا. والنقير النقطة التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة والقمطير والقشرة الرقيقة على النواة. انْظُرْ يا أشرف الخلق متعجبا كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لقولهم ما نعمل بالنهار من الذنوب يغفره الله لنا بالليل، وما نعمل بالليل يغفره بالنهار ف «الكذب» مفعول به أو مفعول مطلق لأنه يلاقي العامل

[سورة النساء (4) : الآيات 51 إلى 60]

في المعنى. لأن الافتراء والكذب متقاربان معنى، أو معناهما واحد وَكَفى بِهِ أي افترائهم هذا إِثْماً مُبِيناً (50) في استحقاقهم لأشد العقوبات أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فكل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت، وكل من دعا إلى المعاصي الكبار فهو طاغوت. روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود بعد قتال أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منهم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك. فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟. فقال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن عبادة الأصنام. قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني. فقال: أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في حق كفار مكة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أي كفار مكة أبو سفيان وأصحابه أصوب دينا من محمد وأصحابه وذكرهم بلفظ الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح أُولئِكَ الَّذِينَ أي القائلون: إن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أي ومن يطرده الله عن رحمته فلن تجد أيها المخاطب من يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) وأم منقطعة عما قبلها. وهذا الاستفهام استفهام إنكاري إبطال على اليهود في قولهم نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ وتكذيب لهم في زعمهم إن الملك يعود إليهم في آخر الزمان فيخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم، ويدعو إلى دينهم. و «إذن» حرف جواب وجزاء لشرط مقدر ورفع الفعل بعدها وإن كان مرجوحا في النحو لأن القراءة سنة متبعة. وقرئ شاذا على الأرجح بحذف النون. والمعنى ليس لهم من الملك شيء ألبتة ولو كان لليهود نصيب منه فيتسبب عن ذلك أنهم لا يعطون واحدا من الناس قدر ما يملأ النقير. وهو النقرة التي على ظهر النواة التي تنبت منها النخلة وهذا بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسبب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس من أقل قليل ومن حق من أوتي الملك أن يؤثر الغير بشيء منه أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي بل يحسدون محمدا ومن معه على ما أعطاهم الله من النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما، وكثرة النساء له صلّى الله عليه وسلّم وكانت له يومئذ تسع نسوة. فقالت اليهود: لو كان محمد نبيا لشغله أمر النبوة

عن الاهتمام بأمر النساء فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي النبوة أو المراد بالكتاب ظواهر الشريعة وبالحكمة أسرار الحقيقة وَآتَيْناهُمْ أي أعطينا بعضهم كداود وسليمان ويوسف مُلْكاً عَظِيماً (54) لا يقادر قدره فكان لداود مائة امرأة مهرية، ولسليمان سبعمائة سرية، وثلاثمائة امرأة مهرية. وهؤلاء الثلاثة كانوا في بني إسرائيل ولم يشغلهم أمر النبوة عن أمر الملك والنساء فكيف يستبعدون نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ويحسدونه على إيتائها فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما أوتي آل إبراهيم، ومنهم من أعرض عن الإيمان به فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم؟ فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله لرسوله ليكون أشد صبرا على ما يناله من قبلهم وَكَفى بِجَهَنَّمَ في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً (55) أي نارا وقودا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي الدالة على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل سَوْفَ نُصْلِيهِمْ أي ندخلهم ناراً أي عظيمة هائلة كُلَّما نَضِجَتْ أي احترقت جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن يجعل النضيج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي لكي يجدوا ألم العذاب على الدوام من غير انقطاع بهذه الحالة الجديدة. وروي أن هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ: أعدها فأعادها- وكان عنده معاذ بن جبل- فقال معاذ: عندي تفسيرها، تبدل الجلود في ساعة مائة مرة. فقال عمر رضي الله عنه هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي قادرا غالبا لا يمتنع عليه ما يريده. حَكِيماً (56) أي لا يفعل إلا الصواب فيعاقب من يعاقبه على وفق حكمته وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فإن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) أي عظيما في الراحة واللذاذة بخلاف المواضع في الدنيا فإنها إذا لم يصل نور الشمس فيها إليها في الدوام يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها لما حكى الله عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات، وإن ورد الأمر على سبب خاص في شأن عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية

والسدانة. فنزلت هذه الآية، فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا. وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا ثم إن عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم وَإن الله يأمركم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وعن أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت: صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت» «1» . إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي إن الله نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل بَصِيراً (58) لكل المبصرات يبصركم إذا أديتم الأمانة فيجازيكم على ما يصدر منكم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهذه الآية مشتملة على أصول الشريعة الأربع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فالكتاب: يدل على أمر الله، ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة: تدل على أمر الرسول، ثم نعلم منه أمر الله لا محالة. فثبت أن قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة. والمراد بأولي الأمر جميع العلماء من أهل العقد والحل، وأمراء الحق وولاة العدل. وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق وجوب الطاعة لهم. قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أميرا على سرية. وعن ابن عباس أنها نزلت في شأن خالد بن الوليد بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية، وأمر بطاعة أولي الأمر فحينئذ فالمراد بهم أمراء السرايا قال بعضهم: طاعة الله ورسوله واجبة قطعا، وطاعة أهل الإجماع واجبة قطعا، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فالأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلّا بالظلم، وقد تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فحينئذ يحمل أولوا الأمر على الإجماع وأيضا إن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فهؤلاء أولوا الأمر فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فإن اختلفتم أيها المجتهدون في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والإجماع فردوه إلى واقعة تشبهه في الصورة والصفة. وهذا المعنى يؤكد بالخبر والأثر. أما الخبر فهو أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قبلة الصائم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو تمضمضت» «2» . والمعنى أخبرني هل تبطل المضمضة الصوم أم لا؟ أي فكما أن

_ (1) رواه ابن حجر في المطالب العالية (4168) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (43383) . (2) رواه أبو داود في كتاب الصيام، باب: القبلة للصائم، والدارمي في كتاب الصوم، باب: [.....]

المضمضة مقدمة للأكل فكذا القبلة مقدمة للجماع فإذا كانت المضمضة لم تفسد الصيام فكذلك القبلة ولما سألته صلّى الله عليه وسلّم الخثعمية عن الحج عن أبيها فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزئ» فقالت: نعم، قال صلّى الله عليه وسلّم: «فدين الله أحق بالقضاء» «1» . وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك. فدل مجموع ما ذكر على أن قوله تعالى: فَرُدُّوهُ أمر برد الشيء إلى شبيهه وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله تعالى: قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء: قياس الطرد إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهذا محمول على التهديد فإن الإيمان بهما يوجب ذلك ذلِكَ أي الذي أمرتكم به في هذه الآيات خَيْرٌ لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أي عاقبة لكم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أي يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهو القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وهو التوراة يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ أي كثير الطغيان وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي والحال أنهم قد أمروا في القرآن أن يتبرءوا من الطاغوت وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ بالتحاكم إليه أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً (60) عن الحق والهدى. قال كثير من المفسرين: خاصم رجل من المنافقين- يقال له: بشر- رجلا من اليهود. فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم. وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقضي بالحق ولا يلتفت إلى الرشوة، واليهودي كان محقا وأن كعبا شديد الرغبة في الرشوة، والمنافق كان مبطلا. وأصرّ اليهودي على قوله بذلك. فذهبا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم لليهودي على المنافق فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر فأتياه فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال: بيني وبينك عمر. فذهبا إليه فأخبره اليهودي بأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما، فقال للمنافق: أهكذا؟ فقال: نعم، قال: اصبر إن لي حاجة أدخل بيتي فأقضيها وأخرج إليكما فدخل وأخذ سيفه ثم خرج إليهما فضرب به عنق المنافق حتى برد أي مات وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأل صلّى الله عليه وسلّم عمر عن قصته فقال: إنه رد حكمك يا رسول الله. فجاء جبريل عليه السلام في الحال ونزلت هذه الآية، وقال جبريل: إن عمر هو الفاروق فرق بين الحق والباطل. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «أنت

_ الرخصة في القبلة للصائم، وأحمد في (م 1/ ص 21) . (1) رواه البخاري في كتاب الأيمان، باب: من مات وعليه نذر، «بما معناه» ، والنّسائي في كتاب الحج، باب: تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، والدارمي في كتاب المناسك، باب: الحج عن الميت، وأحمد في (م 1/ ص 212) .

[سورة النساء (4) : الآيات 61 إلى 70]

الفاروق» «1» ، وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف سمي بذلك لشبهه بالشيطان في فرط طغيانه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أقبلوا إلى القرآن الذي فيه الحكم وَإِلَى الرَّسُولِ الذي تجب طاعته ليحكم بينكم رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) أي أبصرت المنافقين يعرضون عنك إلى غيرك إعراضا بالكلية فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي كيف يكون حالهم وقت إصابة المصيبة إياهم بقتل عمر صاحبهم بظهور نفاقهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أي ثم جاءك أهل المنافق مطالبين عمر بدمه وقد أهدره الله ويحلفون بالله كذبا للاعتذار، فقالوا: ما أراد صاحبنا المقتول التحاكم إلى عمر إلّا أن يصلح ويجعل الاتفاق بينه وبين خصمه ويأمر كل واحد من الخصمين بتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة، وأنت يا رسول الله لا تحكم إلا بالحق المر ولا يقدر أحد على رفع الصوت عندك أُولئِكَ أي المنافقون الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والغيظ والعداوة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تقبل منهم ذلك العذر ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فإن من هتك ستر عدوه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة فيزداد الشر، وإذا تركه على حاله بقي في وجل فيقل الشر. وَعِظْهُمْ أي ازجرهم عن النفاق والكيد والحسد والكذب وخوفهم بعذاب الآخرة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي خاليا بهم ليس معهم غيرهم لأن النصيحة على الملأ تقريع في السر محض المنفعة قَوْلًا بَلِيغاً (63) أي مؤثرا وهو التخويف بعقاب الدنيا بأن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار، وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الإيمان فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر لكل الناس بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته بتوفيقنا وإعانتنا فطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله تعالى وهذه الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها ودالة على أن الأنبياء معصومون عن المعاصي والذنوب، ودالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بترك طاعتك جاؤُكَ وبالغوا في التضرع إليك لينصبوك شفيعا لهم فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي أظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بأن يسأل الله أن يغفر الذنوب لهم عند توبتهم لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً أي

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (5: 264) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (45) .

يقبل توبتهم رَحِيماً (64) أي يرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم، والفائدة في العدول في قوله تعالى: وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة إجلال شأن رسول الله فإن شأنه أن يستغفر لمن عظم ذنبه وإنهم إذا جاءوه فقد جاءوا من خصه الله تعالى برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه وذلك مثل قول الأمير: حكم الأمير بكذا بدل قوله: حكمت بكذا فَلا وَرَبِّكَ لا مزيد لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لئلا يعلم لتأكيد وجوب العلم أو مفيدة لنفي أمر سبق. والتقدير ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك فوربك لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي حتى يجعلوك حاكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلف بينهم من الأمور فتقضي بينهم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي صدورهم حَرَجاً أي ضيقا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) أي وينقادوا لك انقيادا تاما بظواهرهم. قال عطاء ومجاهد والشعبي: إن هذه الآية في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: نزلت في الزبير ابن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للزبير وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ أي ولو أوجبنا عليهم قتل أنفسهم أو الخروج عن أوطانهم في توبتهم كتوبة بني إسرائيل ما فعلوا أحد الأمرين بطيبة النفس إلّا قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين. والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس لما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم بل اكتفينا منهم في توبتهم بالتسليم لحكمك فليقبلوه بالإخلاص حتى ينالوا خير الدارين. روي أن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ناظر يهوديا، فقال اليهودي: إن موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال: يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك. وروي أن ابن مسعود وعمار بن ياسر فالأمثل ذلك فنزلت هذه الآية وعن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك قال صلّى الله عليه وسلّم وأشار إلى عبد الله بن رواحة: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا في أولئك القليل» «1» . أخرجه ابن أبي حاتم. وَلَوْ أَنَّهُمْ أي المنافقين فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يكلفون به لَكانَ أي فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ أي لحصل لهم خير الدنيا والآخرة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) لهم على الإيمان وسميت أوامر الله مواعظ لاقترانها بالوعد والترغيب وَإِذاً لو فعلوا ما أمروا به لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أي

_ (1) رواه ابن كثير في التفسير (2: 309) .

لأعطيناهم من عندنا أَجْراً عَظِيماً (67) أي ثوابا وافرا في الجنة وكيف لا يكون عظيما وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» «1» . وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) أي طريقا من عرصة القيامة إلى الجنة وحمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى، لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الأجر والدين الحق مقدم على الأجر، والطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بأن يعرف أنه إله ويقر بجلاله وعزته واستغنائه عمن سواه وَالرَّسُولَ أي بأن ينقاد انقيادا تاما لجميع الأوامر والنواهي فَأُولئِكَ أي المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي فإنهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيادة والتلاقي قدروا على الوصول إليهم بسهولة مِنَ النَّبِيِّينَ محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره وَالصِّدِّيقِينَ أي السابقين إلى تصديق الرسل فصاروا في ذلك قدوة لسائر الناس وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَالشُّهَداءِ أي الذين يشهدون بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط، وأما كون الإنسان مقتول الكافر فليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق، ومن لا منزلة له عند الله والمؤمنون قد يقولون: اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل فإنه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر وَالصَّالِحِينَ في الاعتقاد والعمل فإن الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل وهم الصارفون أعمارهم في طاعة الله وأموالهم في مرضاته وكل من كان اعتقاده صوابا وعمله غير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل، وأخرى بالسيف، وقد يكون الصالح غير موصوف بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا، ولا عكس فالشهيد أشرف أنواع الصالح، ثم الشهيد قد يكون صديقا وقد لا. ومعنى الصديق هو الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا ولا عكس فثبت أن أفضل الخلق الأنبياء وبعدهم الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) أي ما أحسن أولئك المذكورين صاحبا في الجنة وحسن لها حكم نعم والمخصوص بالمدح محذوف

_ (1) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم في كتاب الجنّة، باب: 2، وابن ماجة في كتاب الزهد، باب: صفة الجنّة، وأحمد في (م 5/ ص 334) .

[سورة النساء (4) : الآيات 71 إلى 80]

تقديره «وحسن أولئك» من جهة الرفيق الممدوحون ذلِكَ أي مرافقة هؤلاء المنعم عليهم هو الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وما سواه ليس بشيء وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله. روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحب لرسول الله قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حاله. فقال: يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجات العبيد فلا أراك، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا، فنزلت هذه الآية. وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فقال: «ما يبكيك يا فلان؟» فقال: يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي، وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتي وأنك ترفع مع النبيين وإني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي خذوا سلاحكم واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي انهضوا إلى قتال عدوكم واخرجوا للحرب جماعات متفرقة سرية بعد سرية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) أي مجتمعين كوكبة واحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي وإن من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمن يتثاقلن وليتخلفن عن القتال وهم ضعفة المؤمنين والمنافقون فَإِنْ أَصابَتْكُمْ يا معشر المجاهدين مُصِيبَةٌ كقتل وهزيمة وجهد من العيش. قالَ أي من يبطئ فرحا شديدا بتخلفه وحامدا لرأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) أي حاضرا في المعركة فيصيبني ما أصابهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ كفتح وغنيمة مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ أي من يبطئ ندامة على قعوده كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ وهذه الجملة اعتراض بين الفعل ومفعوله. والمراد التعجب كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبين المنافق صلة في الدين ومعرفة في الصحبة ولا مخالطة أصلا يا لَيْتَنِي كُنْتُ غازيا مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) أي فأصيب غنائم كثيرة وآخذ حظا وافرا. وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أي ليقولن مشبها بمن لا معرفة بينكم وبينه. وقيل: هي داخلة في المقول أي ليقولن المثبط للمثبطين من المنافقين، وضعفه المؤمنين: كأن لم تكن بينكم وبين محمد معرفة في الصحة حيث لم يستصحبكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز محمد يا ليتني كنت معهم وغرض المثبط إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لإعلاء دين الله الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وهم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد فأمروا أن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله فلم تدخل الباء إلا على المتروك، لأن المنافقين تاركون للآخرة آخذون للدنيا أي فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة. وعلى هذا فلا بد من حذف تقديره آمنوا ثم قاتلوا. أو المراد ب «الذين» يشرون هم المؤمنون الذين تخلفوا عن الجهاد. وعلى هذا فيشرون بمعنى يبيعون أي فليقاتل في طاعة الله الذين يبيعون الدنيا بالآخرة أي يختارون الآخرة على الدنيا وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله فَيُقْتَلْ أي يمت شهيدا أَوْ يَغْلِبْ أي يظفر على العدو فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أي نعطيه في كلا الوجهين أَجْراً عَظِيماً (74) وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم وإذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ أي أيّ شيء لكم يا معشر المؤمنين غير مقاتلين مع أهل مكة أي لا عذر لكم في ترك المقاتلة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لأجل طاعة الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي ولأجل المستضعفين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي الصبيان. وقيل: المراد بالولدان العبيد والإماء أي وهم قوم من المسلمين الذين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا. قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان الَّذِينَ يَقُولُونَ في مكة رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وهي مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم لأنهم كانوا مشركين وكانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) أي ولّ علينا واليا من المؤمنين يقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا، وانصرنا على أعدائنا برجل يمنعنا من الظالمين. فأجاب الله دعاءهم واستنقذهم من أيدي الكفار لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم. وكان الولي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والنصير عتاب بن أسيد، وكان ابن ثماني عشرة سنة فكان ينصر المظلومين على الظالمين، وينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في سبيل غير رضا الله فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي جند الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ أي إن صنع الشيطان في فساد الحال على جهة الحيلة كانَ ضَعِيفاً (76) لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه. أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر، وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر! وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم؟! أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ نزلت هذه الآية في جماعة من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص

الزهري، وقدامة بن مظعون الجمحي، ومقداد بن الأسود الكندي، وطلحة بن عبيد الله التيمي كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة يلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله: «كفوا أيديكم عن القتل والضرب فإني لم أومر بقتالهم واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلوات الخمس وزكاة أموالكم» «1» . فلما هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم لا شكا في الدين بل نفورا عن الأخطار بالأرواح، وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ أي فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ أي الجهاد في سبيل الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ كطلحة بن عبيد الله التيمي يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي أهل مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخوفهم من الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً أي بل أكثر خوفا لما كان من طبع البشر من الجبن لا للاعتقاد. ثم باتوا وأهل الإيمان يتفاضلون فيه وَقالُوا خوفا من الموت لا لكراهتهم أمر الله بالقتال وهذا عطف على جواب «لما» وهو «إذا» فإنها فجائية مكانية رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ في هذا الوقت لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا عافيتنا من بلاء القتال إلى موتنا بآجالنا. وهذا القول استزادة في مدة الكف ويجوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا قُلْ جوابا لهذا السؤال عن حكمة فرض القتال عليهم من غير توبيخ لأنه لا للاعتراض لحكمه تعالى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي منفعة الدنيا قَلِيلٌ لأنه سريع التقضي وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك لأجل وَالْآخِرَةُ أي ثواب الآخرة لا سيما المنوط بالقتال خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى الكفر والفواحش. لأن نعم الآخرة كثيرة ومؤبدة وصافية عن كدورات القلوب ويقينية بخلاف نعم الدنيا فإنها مشكوكة عاقبتها في اليوم الثاني ومشوبة بالمكاره وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالغيبة. والباقون بالخطاب أي لا تنقصون من أجور أعمالكم قدر خيط في شق النواة. أو المعنى لا ينقصون من ثواب حسناتهم أدنى شيء أَيْنَما تَكُونُوا في الحضر أو السفر في البر أو البحر يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ الذي تكرهون القتال لأجله زعما منكم أنه من محاله وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي حصون مرتفعة قوية بالجص وَإِنْ تُصِبْهُمْ أي اليهود والمنافقين حَسَنَةٌ أي خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان أمسك الله عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم. فعند هذا قالوا: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا ومزارعنا

_ (1) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب: وجوب الجهاد.

وغلت أسعارنا منذ قدم. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدوبة وشدة وغلاء سعر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي هذه من شؤم محمد وأصحابه. أي وإن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى. وإن تصبهم بلية أضافوها إليك كما حكى الله عن قوم موسى بقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] وعن قوم صالح بقوله تعالى: قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل: 47] . قُلْ لهم ردا لزعمهم الباطل وإرشادا لهم إلى الحق كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى وخلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) أي وحيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء المنافقين واليهود حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثا من الأحاديث أصلا فقالوا ما قالوه. إذ لو فهموا شيئا من ذلك لفهموا أن الكل من عند الله تعالى. فالنعمة منه تعالى بطريق التفضل، والبلية منه تعالى بطريق العقوبة على ذنوب العباد عدلا منه تعالى. ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي منه تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ أي أيّ شيء أصابك من بلية من البلايا فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها. وعن عائشة رضي الله عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ. وهذه الآية تدل على أنه لا طاعة إلّا لله ألبتة لأن طاعة الرسول لا تكون إلا طاعة لله. وقال الشافعي رضي الله عنه: وهذه الآية تدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة، والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله. قال مقاتل: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» «1» . فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو ينهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)

_ (1) رواه البخاري في كتاب الجهاد، باب: يقاتل من وراء الإمام ويتقى به، ومسلم في كتاب الإمارة، باب: 32، والنسائي في كتاب البيعة، باب: الترغيب في طاعة الإمام، وابن ماجة في المقدمة، باب: اتباع سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحمد في (م 2/ ص 93) .

[سورة النساء (4) : الآيات 81 إلى 90]

وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له. أي ومن أعرض بقلبه عن حكمك يا محمد فأعرض عنه. أو المعنى ومن أعرض عن طاعة الله بظاهرهم فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك الإعراض وأن تحزن، فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي. أو المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك التولي. ثم نسخ هذا بآية الجهاد فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم. وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي يقول المنافقون- عبد الله ابن أبي وأصحابه- إذا أمرتهم بشيء: شأننا طاعة أو منا طاعة أو أمرك يا محمد طاعة مر بما شئت نفعله. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من مجلسك بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي تفكر ليلا فريق من المنافقين وهم رؤساؤهم غير الذي تأمر وتكلموا فيما بينهم بعصيانك وتوافقوا عليه وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ينزل إليك ما يتدبرونه ليلا في جملة ما يوحي إليك فيطلعك على أسرارهم أو يثبت ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تهتك سترهم ولا تفضحهم إلى أن يستقيم أمر الإسلام وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإن الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) أي مفوضا إليه لمن توكل عليه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الناطق بنفاقهم وَلَوْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ أي القرآن اخْتِلافاً كَثِيراً (82) بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم بالأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره تعالى، وحيث كانت كلها مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ أي وإذا جاء المنافقين خبر بأمر من الأمور سواء كان من باب الأمن أو من باب الخوف أفشوه وكان ذلك سبب الضرر، لأن هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير، ولأن العداوة الشديدة صارت قائمة بين المسلمين والكفار وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السرايا، فإذا غلبوا أو بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ثم يتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيضعفون به قلوب المؤمنين فأنزل الله هذه الآية. وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي ولو ردوا الخبر الذي تحدثوا به إلى الرسول وإلى ذوي العقل والرأي من المؤمنين وهم كبار الصحابة- كأبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي- بأن لم يحدّثوا به حتى يكون هؤلاء هم الذين يظهرونه لعلم ذلك الخبر من يستخرجونه من جهة هؤلاء. أي ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه هؤلاء المنافقون المذيعون من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ببعثه محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وكفرتم بالله إِلَّا قَلِيلًا (83) منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهم فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله.

قيل: وهذا متصل بقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 75] . وقيل: هذا معطوف على قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النساء: 76] . لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي إلا فعل نفسك فلا يضرك مخالفتهم فتقدم أنت إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه على ثقة من النصر والظفر. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي على الخروج معك بذلا للنصيحة فإنهم آثمون بالتخلف لأن القتال كان مفروضا عليهم إذ ذاك، فإن فرضه في السنة الثانية وهذه القضية في الرابعة، كما روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم. فنزلت هذه الآية عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أن يمنع صولة كفار مكة، وعسى وعد من الله تعالى واجب الإنجاز وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي قوة من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) أي تعذيبا مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي من ثوابها ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله تعالى وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي نصيب من وزرها مساو لها في المقدار. والغرض من هذه الآية بيان أنه صلّى الله عليه وسلّم لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما. ولو لم يقبلوا أمره صلّى الله عليه وسلّم لم يرجع إليه من عصيانهم شيء من الوزر، وذلك لأنه صلّى الله عليه وسلّم بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة ولم يرغبهم في المعصية ألبتة فحقا يرجع إليه من طاعتهم أجر ولا يرجع إليه من معصيتهم وزر وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) أي قادرا على إيصال الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه وحافظا للأشياء شاهدا عليها فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل فيجازي كلا بما علم منه وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أي إذا سلم عليكم فردوا على المسلم ردا أحسن من ابتدائه أو أجيبوا التحية بمثلها ومنتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد فالأحسن هو أن المسلم إذا قال: السلام عليك زيد في جوابه الرحمة، وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة، وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعيدت في الجواب، ورد الجواب واجب على الفور وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للإكرام ومبالغة فيه وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام. وإذا استقبلك واحد فقل: سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فإنك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله. وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» «1» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تبدأ

_ (1) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب: كيف يردّ على أهل الذمّة بالسلام، ومسلم في

اليهودي بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك» «1» . وعن أبي حنيفة أنه قال: لا يبدأ اليهود بالسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف قال: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم، وإذا دخلت عليهم فقل: السلام على من اتّبع الهدى. ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء: ينبغي أن يقال: وعليك. ثم هاهنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم: وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة؟ فقال الحسن: يجوز أن يقال للكافر: وعليكم السلام، لكن لا يقال: ورحمة الله لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك، فقال: أليس في رحمة الله يعيش. وقيل: التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا. والمقصود من هذه الآية: الوعيد، فإن الواحد من جنس الكفار قد يسلم على الرجل المسلم، ثم إن ذلك المسلم يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا منه في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فإياكم أن تتعرضوا له بالقتل إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) أي محاسبا على كل أعمالكم وكافيا في إيصال جزاء أعمالكم إليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف. وهذا يدل على شدة الاعتناء بحفظ الدماء اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر. قال بعضهم: كأنه تعالى يقول من سلم عليكم فاقبلوا سلامه وأكرموه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلّا هو وإنما ينكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي والله ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي يوم القيامة وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) وهذا استفهام على سبيل الإنكار. والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا، وأن الكذب والخلف في قوله تعالى محال فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ أي ما لكم يا معشر المؤمنين صرتم في أمر المنافقين فرقتين وهو استفهام على سبيل الإنكار. أي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية. فليس لكم أن تختلفوا في كفرهم بل يجب أن تقطعوا به. نزلت هذه الآية في عشرة نفر قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا: يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه، فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم. فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما

_ كتاب السلام، باب: 9، والدارمي في كتاب الاستئذان، باب: في رد السلام على أهل الكتاب، وأحمد في (م 2/ ص 9) . (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في السلام على أهل الذمة، ومسلم في كتاب السلام، باب: 14، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب: 12، وابن ماجة في كتاب الأدب، باب: السلام على أهل الذمة، وأحمد في (م 2/ ص 263) .

صبرنا. وقال قوم: هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم. فبيّن الله تعالى نفاقهم في هذه الآية وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والسبي والقتل بِما كَسَبُوا من إظهار الكفر بعد ما كانوا على النفاق. وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله فإذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ عن الإيمان وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) إلى إدخاله في الإيمان وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا أي تمنوا كفركم بمحمد والقرآن كفرا مثل كفركم فَتَكُونُونَ أنتم وهم سَواءً في الكفر فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي إذا كان حالهم ودادة كفركم فلا توالوهم حتى ينتقلوا من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين لأجل أمر الله تعالى. اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين. قال صلّى الله عليه وسلّم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . وقال المحققون: الهجرة في سبيل الله عبارة عن ترك منهيات الله وفعل مأموراته وذلك يشمل مهاجرة دار الكفر، ومهاجرة شعار الكفر وإنما قيد الله تعالى الهجرة بكونها في سبيل الله لإخراج الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا. فإنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان والهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فَخُذُوهُمْ أي فأسروهم إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا يتولى شيئا من مهماتكم وَلا نَصِيراً (89) ينصركم على أعدائكم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أي ينتهون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إلا من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حق هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي وبني خزيمة بن عامر بن عبد مناف. وفي هذه الآية بشارة عظيمة لأهل الإيمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. أَوْ إلا الذين جاؤُكُمْ حَصِرَتْ أي ضاقت صُدُورُهُمْ عن المقاتلة فلا يريدون أَنْ يُقاتِلُوكُمْ لأنكم مسلمون وللعهد أَوْ لا يريدون أن يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ لأنهم أقاربهم فهم لا عليكم ولا لكم. أي لما أمر الله بأخذ الكفار وقتلهم استثنى من المأمور فريقين أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ ببسط صدورهم

[سورة النساء (4) : الآيات 91 إلى 100]

وتقوية قلوبهم وإزالة الرعب عنها. والمعنى أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو بقذف الله الرعب في قلوبهم ولو قوّى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى منّ على المسلمين بكف بأس المعاهدين فَلَقاتَلُوكُمْ وهذا في الحقيقة جواب «لو» وما قبله توطئة له، وأعيدت اللام توكيدا فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي تركوكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد للصلح والأمان فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) أي طريقا بالأسر أو بالقتل سَتَجِدُونَ عن قريب آخَرِينَ أي قوما من المنافقين غير من سبق وهم قوم من أسد وغطفان كانوا مقيمين حول المدينة فإذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا. وقالوا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا على دينكم- ليأمنوا من قتال المسلمين- وإذا رجعوا إلى قومهم كفروا أو نكثوا عهودهم- ليأمنوا من قومهم- حتى كان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ أي يأمنوا من قتالكم بإظهار الإسلام عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ أي من بأسهم بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي كلما دعوا إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي قلبوا في الفتنة أقبح قلب وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير. أي كلما دعاهم قومهم إلى الكفر وقتال المسلمين رجعوا إليه وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي فإن لم يتركوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفروا أيديهم عن قتالكم فخذوهم أي وأسروهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم في الحل والحرم وَأُولئِكُمْ أي أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) أي جعلنا لكم على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو جعلنا لكم عليهم تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أي ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فإنه ظن أنه كافر مع أنه غير كافر. روي أن عياش بن أبي ربيعة أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليها، وتحصن في أطم من آطامها خوفا من قومه، فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل بن هشام، والحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه، فقال أبو جهل: أليس إن محمدا يأمرك ببر الأم؟ فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك. فرجع إلى مكة فلما دنوا من مكة قيدا يديه ورجليه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة، فلما دخل على أمه حلفت لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول فتركوه موثوقا مطروحا في الشمس ما شاء

الله، ففعل بلسانه فأتاه الحرث ابن زيد فقال: يا عياش إن كان دينك الأول هدى فقد تركته، وإن كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال: والله لا ألقاك خاليا أبدا إلا قتلتك ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث بعد ذلك، وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيه عياش في ظهر قباء خاليا ولم يشعر بإسلامه فقتله، فلما أخبره الناس بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت هذه الآية وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً بأن يقصد رمي المشرك فأصاب مسلما، أو يظن الشخص مشركا فقتله فبان مسلما أو يضرب المسلم بضربة لا تقتل غالبا فيموت منها. فالأول: خطأ في الفعل. والثاني: خطأ في القصد. والثالث: خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب ولذلك سمي شبه العمد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي فعليه إعتاق نسمة محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ودية مؤداة إلى ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي إلا أن يعفو أهل المقتول عن الدية ويتركوها وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله. وفي الحديث «كل معروف صدقة» «1» . فَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي من سكان دار الحرب وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة، وأما الدية فلا تجب إذ لا وراثة بين المقتول وبين أهله لأنهم محاربون كالحرث بن زيد فإنه من قوم محاربين لرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات وَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ كفرة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد مؤقت أو مؤبد فَدِيَةٌ أي فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي المقتول. وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانيا أو يهوديا تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسيا أو كتابيا لا تحل مناكحته وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ على القاتل فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فمن كان فقيرا فعليه ذلك الصيام بدلا عن الرقبة. وقال مسروق: بدلا عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ

_ (1) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: كل معروف صدقة، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: 52، وأبو داود في كتاب الأدب، باب: في المعونة لمسلم، والترمذي في كتاب البرّ، باب: 45، وأحمد في (م 3/ ص 344) .

أي شرع ذلك تجاوزا من الله على تقصيره في ترك الاحتياط لأنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأن القاتل لم يتعمد حَكِيماً (92) في أنه تعالى ما يؤاخذه بذلك الخطأ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. روي أن مقيس بن ضبابة الكناني كان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد مقيس أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر له القصة فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه زبير ابن عياض- الفهري وكان من أصحاب بدر- إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه. فقالوا: سمعا وطاعة، فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق تغفل مقيس الكناني رسول سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الفهري فرماه بصخرة فشدخه، ثم ركب بعيرا من الإبل واستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا، فنزلت هذه الآية وهو الذي استثناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح ممن أمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة خالِداً فِيها حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام. كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أي انتقم منه عطف على مقدر كأنه قيل بطريق الاستئناف: حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه وَلَعَنَهُ أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر وَأَعَدَّ لَهُ في جهنم عَذاباً عَظِيماً (93) لا يقدر قدره. وقال ابن عباس: ومن يقتل مؤمنا رسول سيدنا رسول الله متعمدا بقتله- أي بأن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن- فجزاؤه جهنم بقتله عامدا عالما بكونه مؤمنا خالدا فيها بشركه وارتداده وغضب الله عليه بأخذه الدية، ولعنه بقتله غير قاتل أخيه، وأعدّ له عذابا عظيما أي شديدا بجراءته على الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الغزو فَتَبَيَّنُوا أي تحققوا حتى يتبين لكم المؤمن من الكافر. قرأ حمزة والكسائي هنا في الموضعين. وفي الحجرات: فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا التثبت. والمراد في الآية فتأنوا واتركوا العجلة واحتاطوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلام أو لمن ألقى إليكم الانقياد بقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله لَسْتَ مُؤْمِناً فتقتلونه تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي حال كونكم طالبين لماله الذي هو سريع النفاد فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي ثواب كثير كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في أول إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن قيل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم فَتَبَيَّنُوا أي إذا كان الأمر كذلك أي فقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير

وقوف على تواطئ الظاهر والباطن إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والخفية خَبِيراً (94) فيجازيكم بحسبها إن خير فخير وإن شرا فشر. فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه. نزلت هذه الآية في شأن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك وكان قد أسلم هو ولم يسلم غيره من قومه فذهبت سرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قومه مع أميرهم غالب بن فضالة فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، فلما تلاحقوا وكبروا، كبر ونزل وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم. فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه. فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد وجدا شديدا وقال: «قتلتموه إرادة ما معه» فقال: أسامة إنه قال بلسانه دون قلبه. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هلا شققت عن قلبه» ثم قرأ هذه الآية على أسامة فقال: يا رسول الله استغفر لي. فقال: «فكيف وقد تلا لا إله إلا الله؟» قال أسامة: فما زال صلّى الله عليه وسلّم يعيدها حتى وددت إن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي ثلاث مرات وقال: «أعتق رقبة» «1» . لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم الذين هم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ من مرض أو عاهة، من عمي أو عرج أو زمانة أو نحوها. وفي معناه العجز عن الأهبة. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم بالرفع بدل من «القاعدون» ، ونافع وابن عامر والكسائي. والباقون بالنصب على الحال من «القاعدون» . والأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. قال ابن عباس: أي لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها. فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ أولي الضرر دَرَجَةً أي فضيلة في الآخرة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد، فنزلوا عن المجاهدين درجة وَكُلًّا من المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي الجنة بإيمانهم وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ في سبيل الله عَلَى الْقاعِدِينَ الذين لا عذر لهم ولا ضرر أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ أي من الله تعالى وَمَغْفِرَةً للذنوب وَرَحْمَةً من العذاب وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن خرج إلى الجهاد رَحِيماً (96) لمن مات على التوبة. وقيل: هذا التفضيل بين المجاهدين والقاعدين غير أولي الضرر فقط. وذلك إما لتنزيل الاختلاف بين التفضيلين منزلة الاختلاف الذاتي، كأنه قيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وإما

_ (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب: 158، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب: على ما يقاتل المشركون، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، وأحمد في (م 4/ ص 439) .

للاختلاف بالذات بين التفضيلين على أن المراد بالتفضيل الأول ما أعطاهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر، والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية كأنه قيل: وفضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى. أما أولو الضرر فهم مساوون للمجاهدين ويدل على المساواة النقل والعقل. أما النقل: فقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: 5، 6] وذكر بعض المفسرين في تفسير ذلك أن من صار هرما كتب الله له أجر ما كان يعمله قبل هرمه، غير منقوص من ذلك شيئا. وأما العقل: فالمقصود من جميع الطاعات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر خطأ من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابا. وقال بعضهم: والمراد بقوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ لدفع التكرار هو من كان مجاهدا في كل الأمور بالظاهر والقلب. وهو أشرف أنواع المجاهدة، وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى جعل فضيلته درجات. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي ملك الموت وأعوانه وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين. وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإن هذه الآية نزلت في ناس من مكة قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة، فقتلوا يوم بدر مع الكفار منهم: علي بن أمية بن خلف، والحرث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج، وأبو قيس بن الفاكه قالُوا أي الملائكة لهم حين القبض: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أيّ شيء كنتم من أمر دينكم أي أكننتم في أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أم كنتم مشركين أو فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه. قالُوا معتذرين اعتذارا غير صحيح: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي كنا مقهورين في أرض مكة في أيدي الكفار قالُوا أي الملائكة لهم توبيخا مع ضرب وجوههم وأدبارهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي إنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار. وقال ابن عباس: أي ألم تكن المدينة آمنة فتهاجروا إليها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة ف «مأواهم» مبتدأ، و «جهنم» خبره، والجملة خبر ل «أولئك» . وهذه الجملة خبران وقوله تعالى: «قالوا فيم كنتم» حال من «الملائكة» أو هو الخبر والعائد منه محذوف أي قالوا لهم: وَساءَتْ مَصِيراً (97) أي بئس مصيرهم جهنم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ أي الصبيان أو المماليك لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي لا

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 110]

يقدرون على حيلة الخروج ولا نفقة أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) أي لا يعرفون طريقا ولا يجدون من يدلهم على الطريق. كعياش بن أبي ربيعة بن هشام، وسيدنا عبد الله بن عباس وأمه- اسمها لبابة- كما قال: كنت أنا وأمي ممن عفا الله عنه بهذه الآية فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وذكر العفو بكلمة «عسى» لا بالكلمة الدالة على القطع، لأن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزا عنها، مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فكانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا لما كان منهم غَفُوراً (99) لمن تاب منهم وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً في المعيشة أي ومن يهاجر في طاعة الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية، وذلك لأن من ذهب إلى بلدة أجنبية فإذا استقام أمره في تلك البلدة ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إلى موضع أمر الله ورسوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل أن يصل لي المقصد وإن كان خارج بابه فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي فقد وجب أجر هجرته عند الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإلهية وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما كان منه من القعود إلى وقت الخروج رَحِيماً (100) بإكمال أجر الهجرة، فكذلك كل من قصد فعل طاعة ولم يقدر على إتمامها كتب الله له ثوابها كاملا. رسولك فمات، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: توفى بالمدينة لكان أتم أجرا، وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك ما طلب فأنزل الله تعالى قوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية. قالوا: كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله تعالى وإلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي إذا سافرتم- أيّ مسافرة كانت- فليس عليكم مأثم في أن تردوا الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين إذا كان السفر طويلا لغير معصية. وهو عند الشافعي ومالك أربعة برد وهي مرحلتان، وعند أبي حنيفة ثلاثة أيام بلياليهن. وروي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام وبه قال الزهريّ والأوزاعي وقال أنس بن مالك:

المعتبر خمس فراسخ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره. وقال ابن عباس: أي إن علمتم أن يقتلوكم في الصلاة. وهذا الشرط بيان للواقع إذ ذاك، وهو أن غالب أسفار نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم تخل من خوف العدو لكثرة المشركين، وأهل الحرب إذ ذاك فحينئذ لا يشترط الخوف بل للمسافر القصر مع الأمن لما في الصحيحين أنه صلّى الله عليه وسلّم سافر بين مكة والمدينة، لا يخاف إلا الله عزّ وجلّ فكان يصلي ركعتين. قال يعلى بن أمية: قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ وقد أمن الناس. قال عمر: قد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» «1» رواه مسلم . إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) أي إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين، وازدادت عداوتهم بسبب شدة العداوة وقصدوا إتلافكم إن قدروا، فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي إذا كنت يا أشرف الخلق مع المؤمنين في خوفهم فأردت أن تقيم بهم الصلاة فاجعلهم طائفتين، فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة الذين يصلون معك أَسْلِحَتَهُمْ من التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم فَإِذا سَجَدُوا أي القائمون معك وأتموا صلاتهم بعد نية المفارقة فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي فلينصرفوا من ورائكم إلى مصاف أصحابهم بإزاء العدو للحراسة، ثم يبقى الإمام قائما في الركعة الثانية وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الركعة الثانية ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن يصلوا ركعة ثانية، ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي. وَلْيَأْخُذُوا أي هذه الطائفة حِذْرَهُمْ من العدو وَأَسْلِحَتَهُمْ معهم وإنما ذكر الحذر هنا لأن العدو لم يتنبه للمسلمين في أول الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة فإذ قاموا في الركعة الثانية ظهر للكفار كونهم في الصلاة فحينئذ ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم. فخص الله تعالى هذا الوضع بزيادة الحذر من الكفار وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً أي تمنوا نسيانكم عن الأسلحة وما تستمتع بها في الحرب إذا قمتم إلى الصلاة فينالوا منكم غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم واحدة في الصلاة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ أي لا وزر عليكم في وضع الأسلحة إن تعذر حملها إما لثقلها بسبب مطر أو مرض أو لإيذاء من في الجنب. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا من العدو ما استطعتم لئلا يهجموا

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: صلاة المسافر، ومسلم في كتاب الصلاة، باب: 1.

عليكم. وهذه الآية تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبا والله أعلم. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) في الدنيا بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه تعالى بأيديكم بالقتل والأسر والنهب فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف فداوموا على ذكر الله في جميع الأحوال حتى في حال المسايفة والقتال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، فإذا سكنت قلوبكم من الخوف فأدوا الصلاة التي دخل وقتها حينئذ على الحالة التي كنتم تعرفونها ولا تغيروا شيئا من أحوالها وهيئاتها. وقيل: معنى الآية فإذا أردتم الصلاة فصلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالمراماة، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا زال الخوف عنكم بانقضاء الحرب فأفضوا ما صليتم في تلك الأحوال. وهذا ظاهر على مذهب الشافعي من إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء. وقال ابن عباس: أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف فصلوا لله قياما للصحيح وقعودا للمريض وعلى الجنوب للجريح والمريض فإذا ذهب منكم الخوف ورجعتم إلى منازلكم فأتموا الصلاة أربعا إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) أي فرضا موقتا وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تعجزوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال. نزلت هذه الآية في شأن بدر الصغرى وذلك لما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه فشكوا الجراحات حين رجعوا من أحد إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي إن كنتم تتوجعون بالجراح فإنهم يتوجعون بالجراح. فحصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم، فلم يصر خوف الألم مانعا عن قتالكم فكيف صار مانعا لكم عن قتالهم وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ أي وأنتم ترجون من الله ثوابه وتخافون عذبه لأنكم تعبدون الله تعالى، والمشركون يعبدون الأصنام فلا يصح منهم أن يرجوا منها ثوابا أو يخافوا منها عقابا فيجب أن تكونوا أرغب منهم في الحرب وأصبر عليها. وقرأ الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أي لأن تكونوا. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) أي لا يكلفكم شيئا إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ أي بين طعمة وزيد بن سمين بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك الله في القرآن. وسمي العلم الذي بمعنى الاعتقاد بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن الريب يكون جاريا

مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحدكم: قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه، والرأي منا يكون ظنا لا علما. نزلت هذه الآية في شأن رجل من الأنصار يقال له: طعمة ابن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان وهي في جراب دقيق، فصار الدقيق يتناثر من خرق فيه، فخبأها عند زيد بن سمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة، فلم توجد، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال: دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نشهد إن اليهودي هو السارق لئلا نفتضح بل عزموا على الحلف فذهبوا وشهدوا زورا، ولم يظهر له صلّى الله عليه وسلّم قادح فيهم فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضرب اليهودي أو بقطع يده لثبوت المال عنده. فأعلمه الله الحال بالوحي فهمّ أن يقضي على طعمة فهرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا ليسرق متاع أهله فوقع عليه فقتله ومات مرتدا في مكة. وَلا تَكُنْ يا أشرف الخلق لِلْخائِنِينَ أي لأجل المنافقين وللذب عنهم وهم طعمة وقومه بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر. كما أخرجه الترمذي من حديث قتادة بن النعمان خَصِيماً (105) أي مخاصما لمن كان بريئا عن الذنب وهو اليهودي وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من همك بضرب اليهودي زيد بن سمين تعويلا على شهادتهم لأنهم كانوا في الظاهر مسلمين. فاستغفاره صلّى الله عليه وسلّم بسبب ذلك الهمّ بالحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذورا عند الله فيه فأمر صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار لهذا القدر فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) أي مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يستغفره. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ طعمة ومن عاونه من قومه من علم كونه سارقا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) فإن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة، وطلب من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي. وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطاله ذلك وإظهار كذبه فهو كافر. وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وروي عن عمر أنه أمر بقطع يد السارق فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضرر وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي ولا يستحيون منه تعالى ولا يخافون من عذابه تعالى وَهُوَ مَعَهُمْ بعلمه ورؤيته وقدرته إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يقدرون في أذهانهم ما لا يَرْضى أي الله مِنَ الْقَوْلِ وهو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي. وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) لا يعزب عنه تعالى شيء ولا يفوت ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا قوم طعمة جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله في الدنيا.

[سورة النساء (4) : الآيات 111 إلى 120]

وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب عنه بالإفراد فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عند تعذيبهم أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) أي أم من الذي يكون حافظا لهم من عذاب الله وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أي قبيحا ويحزن به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع لقتادة ومن رمي اليهودي بالسرقة. أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ كالحلف الكاذب ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ بالتوبة الصادقة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً لذنوبه رَحِيماً (110) حيث قبل توبته وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً أي ذنبا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ فلا يتعدى ضرره إلى غيره فليحترز عن إقبال نفسه للعقاب عاجلا وآجلا والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الله تعالى بذلك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبة حَكِيماً (111) تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب وأن لا يحمل نفسا وازرة وزر نفس أخرى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أي صغيرة أو قاصرة على الفاعل، أو ما لا ينبغي فعله بالعمد أو بالخطإ أَوْ إِثْماً أي كبيرة أو ما يتعدى إلى الغير كالظلم والقتل أو ما يحصل بالعمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ أي يقذف بذلك الذنب بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) أي فقد أوجب على نفسه عقوبة بهتان عظيم وعقوبة ذنب بيّن. فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكم وهو بريء منه فصاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب، فقوله تعالى: بُهْتاناً إشارة إلى الذم العظيم في الدنيا. وقوله تعالى: إِثْماً مُبِيناً إشارة إلى العقاب العظيم في الآخرة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ بإعلامك ما همّ عليه بالوحي وَرَحْمَتُهُ بتنبيهك على الحق أو المعنى لولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوة، وبالرحمة وهي العصمة لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ أي لأرادت طائفة من قوم طعمة أن يلقوك في الحكم الباطل وذلك لأن قوم طعمة قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ أي إنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت فيه لأنه تعالى عاصمك ولأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن وَالْحِكْمَةَ أي علم الشرائع وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من أمور الدين وأسرار الكتاب والحكمة وأخبار الأولين وحيل المنافقين وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف المناقب والفضائل مع أن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا في نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو مندوبة أَوْ مَعْرُوفٍ وهو أصناف أعمال البر كالقرض وإغاثة الملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ عند وقوع المعاداة بينهم من غير مجاوزة حدود الشرع في ذلك وذلك كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف

أو نهي عن منكر أو ذكر الله» «1» . وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي هذا المذكور من الصدقة وفنون الجميل والإصلاح، أو ذلك الأمر بهذه الأقسام الثلاثة كأنه قيل: ومن يأمر بذلك ويجوز أن يراد بالفعل الأمر، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر فعل من الأفعال أي ومن يأمر بذلك ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضوان الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) أما إذا أتى بذلك للرياء والسمعة صار من أعظم المفاسد. وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية وتصفية القلب عن داعية الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله. وقرأ أبو عمرو وحمزة «يؤتيه» بالياء مناسبة للغيب في قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ. والباقون بنون العظمة مناسبة لقوله تعالى الآتي نوله ونصله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) . روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة، فتهدم الجدار عليه ومات، فنزلت هذه الآية، ومعناها: ومن يخالف الرسول في الحكم من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام ويتبع دينا غير دين الموحدين نتركه إلى ما اختار لنفسه، ونخله إلى ما اعتمد عليه في الدنيا وندخله جهنم في الآخرة وبئس مصيره جهنم. وذلك أن طعمة قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره- من أنه سارق- ما دله ذلك على صحة نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فعادى الرسول وأظهر الشقاق وترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأصنام إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إذا مات على الشرك وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي الشرك لِمَنْ يَشاءُ سواء حصلت التوبة أو لم تحصل. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على الله تعالى، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا وأني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله تعالى؟ فنزلت هذه الآية. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (116) عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة أما من لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيدا فلا يصير محروما عن الرحمة، ثم بيّن الله تعالى كون الشرك ضلالا بعيدا فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبد المشركون من أهل مكة إلا أوثانا يسمونها باسم الإناث كقولهم: اللات، والعزى، ومناة. واللات: تأنيث العزيز. ومناة: تأنيث المنان. أو لأنهم كانوا يزينونها على هيآت النسوان.

_ (1) رواه ابن ماجة في المقدمة، باب: كف اللسان في الفتنة. [.....]

وقرأت عائشة رضي الله عنها «إلّا أوثانا» . وابن عباس «إلّا إثنا» . جمع وثن مثل أسد وأسد، والهمزة بدل من الواو المضمومة. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ أي وما يعبدون إلّا شيطانا شديد البعد عن الطاعة طرده الله من كل خير لأن إبليس هو الذي أمرهم بعبادة الأوثان فكانت طاعته في ذلك عبادة له. وَقالَ أي الشيطان عند ذلك لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) أي لأجعلن لي من عبادك حظا مقدرا معينا وهم الذين يتبعون خطوات إبليس ويقبلون وساوسه. وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس» . وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الهدى وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي ألقين في قلوبهم الأماني وهي تورث شيئين: الحرص، والأمل. وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، ويلازمان للإنسان. قال صلّى الله عليه وسلّم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنان: الحرص والأمل» «1» . اه. فالحرص يستلزم ركوب الأهوال فإذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلّا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك أي شق آذان الناقة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ فإن العرب كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتغيير فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ صورة أو صفة كإخصاء العبيد وفقء العيون وقطع الآذان والوشم والوشر، ووصل الشعر. فإن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها. ويدخل في هذه الآية التخنث والسحاقات لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا، لكن الفقهاء رخصوا في البهائم للحاجة فيجوز في المأكول الصغير وبحرم في غيره. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) أي بتضييع أصل ماله وهو الدين الفطري كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة- أي دين الإسلام- ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» «2» . وذلك لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة وطاعة الشيطان تفيد

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 115) . (2) رواه البخاري في كتاب القدر، باب: الله أعلم بما كانوا عاملين، ومسلم في كتاب القدر، باب: 22، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في ذراري المشركين، والترمذي في كتاب القدر، باب: 5، والموطأ في كتاب الجنائز، باب: جامع الجنائز، وأحمد في (م 2/ ص 233) .

[سورة النساء (4) : الآيات 121 إلى 130]

المنافع القليلة المنقطعة ويعقبها العذاب الأليم يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ بأن يلقي الشيطان في قلوبهم أنه ستطول أعمارهم وينالون من الدينا آمالهم ومقاصدهم ويقع في قلوبهم أن الدنيا دول فربما تيسرت لهم كما تيسرت لغيرهم، وأيضا أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (120) وهو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع الدنيا كذلك أُولئِكَ أي أولياء الشيطان وهم الكفار مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها أي جهنم مَحِيصاً (121) أي معدلا ومهربا وَالَّذِينَ آمَنُوا أي أقروا بالإيمان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات تصديقا لإقرارهم سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي ماكثين في الجنة مكثا طويلا لا يخرجون منها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم بذلك الإدخال وعدا لا خلف فيه وحق ذلك حقا. فالأول: مؤكد لنفسه. والثاني: مؤكد لغيره. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) أي لا أحد أصدق من الله وعدا وهذا توكيد ثالث، وفائدة هذه التوكيدات لمواعيد الشيطان الكاذبة وترغيب للعباد في تحصيل ما وعده الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ أي ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ بِأَمانِيِّكُمْ يا معشر المؤمنين أن يغفر لكم وإن ارتكبتم الكبائر أي فإنكم تمنيتم أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان ولا أماني اليهود والنصارى فإنهم قالوا: لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا، وقالوا: لن تمسنا النار إلّا أياما معدودة وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو أو الرحمة من يشاء أي ليس يستحق ذلك الثواب بالأماني، وأنّى يستحق بالإيمان والعمل الصالح. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فالمؤمن يجزى عند عدم التوبة إما في الدنيا بالمصيبة، أو بعد الموت قبل دخول الجنة أو بإحباط ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، والكافر يجزى في الدنيا بالمحن والبلاء وفي الآخرة دائما. روي أنه لما نزلت هذه الآية؟ قال أبو بكر الصديق: كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم: «غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض! أليس يصيبك الأذى- أي البلاء- والحزن؟!» قال: بلى، يا رسول الله. قال: «فهو ما تجزون» «1» . وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ كلامه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبة في

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 11) .

جسده وما يؤذيه» «1» . وعن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة، حتى الشوكة التي تقع في قدمه» «2» . وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا عن حفظ الله ونصرته وَلِيًّا أي حافظا يحفظه وَلا نَصِيراً (123) ينصره فشفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان الأمر كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلّا الله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي من يعمل بعض الصالحات كائنا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) أي ولا ينقصون قدر منبت النواة من ثواب أعمالهم فإذا لم ينقص الله الثواب فجدير أن لا يزيد في العقاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم يدخلون الجنة بالبناء للمفعول وكذلك في سورة «مريم» وفي «حم المؤمن» . قال مسروق: لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. وقال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء. فنزلت هذه الآية وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي لا أحد أحسن دينا ممن عرف ربه بقلبه، وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه وَهُوَ مُحْسِنٌ أي والحال أنه آت بالحسنات تارك للسيئات وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً حال للمتبوع أو للتابع وإنما دعا سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الخلق إلى دين إبراهيم لأنه اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم ما كان يدعو إلّا إلى الله تعالى وشرعه مقبول عند الكل، لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم. وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) . روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، يضيف من مر به من الناس. فأصحاب الناس أزمة فاجتمعوا في بابه فحشروا إلى بابه يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر، فقال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكن يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة، فرجع غلمانه فمروا ببطحاء أي بأرض ذات حصى فملأوا منها الغرائر حياء من الناس حيث كانت إبلهم فارغة وجاءوا بها إلى منزل إبراهيم وألقوها فيه وتفرقوا وأخبره أحدهم بالقصة، فاغتم لذلك غما شديدا، فغلبته عيناه، وعمدت سارة إلى الغرائر ففتحتها فإذا فيها أجود حوّارى بضم الحاء المهملة وتشديد الواو وفتح الراء،

_ (1) رواه أحمد في (م 6/ ص 66) . (2) رواه الحميدي في المسند (1148) .

وهو الدقيق الذي نخل مرة بعد أخرى. فأمرت الخبازين فخبروا فأطعمت الناس فاستيقظ إبراهيم فوجد رائحة الخبز، فقال: من أين هذا لكم؟ فقالت سارة: من خليلك المصري. فقال بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلا. وقال شهر بن حوشب: هبط مالك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام: اذكره مرة أخرى، فقال لا أذكره مجانا، فقال: لك مالي كله فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك، فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فحقا اتخذه الله خليلا وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يختار منهما ما يشاء لمن يشاء وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من أهل السموات والأرض مُحِيطاً (126) بالقدرة والعلم وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألك يا أشرف الخلق جماعة من الصحابة عن أحوال كثيرة مما يتعلق بحق النساء فالذي بين الله حكمه فيما سبق في أول هذه السورة أحال بيان الحكم في ذلك، والذي لم يبين حكمه بين هنا وذلك قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي قل يا أشرف الخلق لهم الله تعالى قد بيّن لكم أحوال النساء والمتلو فِي الْكِتابِ في أول هذه السورة قد بيّن لكم فِي يَتامَى النِّساءِ أي في شأنهن ف «ما» معطوف على المبتدأ وهذا متعلق ب «يتلى» وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي اللاتي لا تعطونهن ما وجب لهن من الميراث أو الصداق وذلك لأنهم يورثون الرجال دون النساء والكبار دون الصغار وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وهذا يحتمل الرغبة والنفرة فإن حمل على الرغبة كان المعنى، وترغبون عن أن تنكحوهن لما لهن وجمالهن بأقل من صداقهن، وإن حمل على النفرة كان المعنى: وترغبون في أن تنكحوهن لدمامتهن وتمسكوهن رغبة في مالهن. وهذه الجملة معطوف على الصلة عطف المثبتة على المنفية ويجوز أن تكون حالا من فاعل تؤتونهن والتأويل وأنتم ترغبون وهذا إذا أريد بقوله تعالى: ما كُتِبَ لَهُنَّ صداقهن. روى مسلم عن عائشة قالت: هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن ينكحها وينقص صداقها عن عادة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلّا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن. قالت عائشة: فاستفتى الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبين الله لهم أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بعادتها في إكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها، قال الله تعالى: فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يعطوها حقها إلّا وفي من الصداق ويقسطوا لها وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ معطوف على يتامى النساء وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء الذين تلي في حقهم قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم.

وروي أن عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبرنا بأنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويجوز الغنيمة فقال صلّى الله عليه وسلّم: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على المستضعفين وتقدير الآية: وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين في أن تقوموا لليتامى والذي تلي في حقهم قوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) أي يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أي إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما أَوْ إِعْراضاً أي سكوتا عن الخير والشر فَلا جُناحَ عَلَيْهِما حينئذ في أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً بأن بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها. وهذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهمّ بطلاقها فقالت: لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة. فقال الزوج: إن كان الأمر كذلك فهو أصلح لي فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية. قرأ عاصم وحمزة والكسائي «يصلحا» بضم الياء وسكون الصاد، والباقون «يصالحا» بفتح الياء والصاد المشددة الممدودة قالوا: معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي والصلح بين الزوجين خير من سوء العشرة أو من الفرقة أو من الخصومة أو هو خير من الخيور وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أي جعل الشح حاضرا للأنفس لا يغيب عنها ولا ينفك عنها أبدا فالمرأة تبخل ببذل حقها لزوجها وطمعها يجرها إلى أن ترضى، والرجل يبخل بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمعاشرتها وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهن بأن تسووا بين الشابة والعجوز في القسمة والنفقة وَتَتَّقُوا ما يؤدي إلى الأذى والخصومة فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً (128) وهو يثيبكم عليه. وروي أن هذه الآية نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكت إليه ذلك وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا مكلفين به وَلَوْ حَرَصْتُمْ أي جهدتم على إقامة العدل في الحب فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحبونها في القسم والنفقة أي إنكم لستم منهيين عن حصول

[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 140]

التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي فتبقى الأخرى لا أيم ولا ذات بعل. كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) فيغفر ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض ويتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ أي وإن رغبا في المفارقة بأن لم يتفقا بصلح أو غيره يغن الله كل واحد منهما عن صاحبه بزوج خير من زوجه الأول يعيش أهنأ من عيشه الأول من غناه تعالى وقدرته وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي في العلم والقدرة والرحمة والفضل والجود حَكِيماً (130) أي متقنا في أفعاله وأحكامه وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الموجودات من الخلائق والخزائن فيهما وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي ولقد أمرنا اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم وأمرناكم يا أمة محمد في كتابكم بطاعة الله وهي وصية الله في الأولين والآخرين فهي شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) أي وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فاعملوا أن لله ما في سماواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده وكان مع ذلك غنيا عن خلقهم وعن عباداتهم ومستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم فهو تعالى في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم، كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم، وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته، فهو منزه عن طاعات المطيعين، وعن ذنوب المذنبين فلا يزداد جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه في الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين. فحقه أن يطاع ولا يعصى، ويتقى عقابه ويرجى ثوابه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي إن يشأ إفناءكم بالكلية وإيجاد قوم آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه، يفنكم بالمرة ويوجد مكانكم قوما خيرا منكم وأطوع لله. وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إهلاككم وتخليف غيركم قَدِيراً (133) أي إن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق إرادته باستئصالكم لا لعجزه تعالى عن ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي من كان يريد بعمله منفعة الدنيا فلا يقتصر عليه وليطلب الثوابين فعند الله ثواب الدارين. وقال الفخر الرازي: تقرير الكلام، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط. وقال ابن عباس: من كان يريد منفعة الدنيا بعمله الذي

افترضه الله عليه فليعمل لله فإن ثواب الدنيا والآخرة بيد الله، أي فإن العاقل يطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) أي عالما بجميع المسموعات والمبصرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ أي كونوا مبالغين في اختيار العدل وفي الاحتراز عن الجور تقيمون شهادتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي ولو كانت وبالا على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي إن يكن المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغني أو للترحم على الفقير أولى بأمورهما ومصالحهما وفي قراءة أبي فالله أولى بهم. وهو إما راجع إلى قوله «أو الوالدين والأقربين» ، أو راجع إلى جنس الغني وجنس الفقير. وقرأ عبد الله «إن يكن غني أو فقير» على كان التامة فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أي لأجل أن تعدلوا. والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل وَإِنْ تَلْوُوا بواوين على قراءة الجمهور أي وإن تحرفوا ألسنتكم عن شهادة الحق. وقرأ ابن عامر وحمزة «وإن تلوا» بضم اللام وحذف الواو الأولى أي إن تتموا الشهادة وتقبلوا عليها أَوْ تُعْرِضُوا عن أداء الشهادة أصلا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) فيجازي المحسن المقبل والمسيء المعرض. نزلت هذه الآية في مقيس بن حبابة كانت عنده شهادة على أبيه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الماضي والحاضر آمَنُوا في المستقبل بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وهو القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أي قبل القرآن. أو المعنى يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال، أو يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجملية آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية وهذا خطاب لكافة المسلمين. وقيل: هو خطاب لمؤمني أهل الكتاب لما أن عبد الله بن سلام وابن أخته سلامة، وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا بني كعب وثعلبة بن قيس، ويامين بن يامين، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنّا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» «1» فقالوا: لا نفعل فنزلت هذه الآية فآمنوا كلهم وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ومن يكفر بواحد من ذلك المذكور فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) بحيث يعسر العود من الضلال إلى سواء الطريق إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي إن

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (2: 234) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (50) .

[سورة النساء (4) : الآيات 141 إلى 150]

الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات، ثم ماتوا على الكفر. أو المعنى إن الذين أظهروا الإسلام ثم كفروا بكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، ثم آمنوا بألسنتهم فكلما لقوا جمعا من المسلمين قالوا: إنا مؤمنون وإنما أظهروا الإيمان لتجري عليهم أحكام المؤمنين، ثم كفروا فإذا دخلوا على شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون. ثم ازدادوا كفرا باجتهادهم في استخراج أنواع المكر في حق المسلمين وبموتهم على الكفر لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) فإن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه عظم فلا يتوب عن الكفر حتى يموت عليه بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي أنذرهم بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي فإن المنافقين يوالون اليهود ويقول بعض المنافقين: لبعض لا يتم أمر محمد فتولوا اليهود فيقولون: إن العزة لهم أَيَبْتَغُونَ أي أيطلب المنافقون عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي عند اليهود القوة فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) أي إن القدرة الكاملة لله وكل من سواه فبإقداره صار قادرا وبإعزازه صار عزيزا. فالعزة الحاصلة للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين لم تحصل إلا من عند الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المنافقين فِي الْكِتابِ أي القرآن في سورة الأنعام قبل هذا بمكة أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها أي أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورا بها ومستهزأ بها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي الكفر والاستهزاء. وذلك قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: 68] الآية وهذا نزل بمكة لأن المشركين كانوا يخوضون في القرآن ويستهزئون في مجالسهم، ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام المنافقون فقال تعالى مخاطبا للمنافقين: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها أي إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي إنكم أيها المنافقون مثل أولئك الأحبار في الكفر، قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله، وإن لم يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشرة أما إذا كان ساخطا لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك. فالمنافقون الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في الرسول والقرآن هم كافرون مثل أولئك اليهود. أما المسلمون الذين كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان فهم كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ أي منافقي أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه وَالْكافِرِينَ أي كفار أهل مكة أبي جهل وأصحابه وكفار أهل المدينة كعب وأصحابه فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) أي كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ

أي المنافقين ينتظرون أمرهم وما يحدث لكم من خير أو شر فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ أي ظهور على اليهود قالُوا أي المنافقون للمؤمنين: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي مظاهرين لكم فأعطونا قسما من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ أي اليهود نَصِيبٌ أي ظفر على المسلمين قالُوا أي المنافقون لليهود: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا لنا نصيبا مما أصبتم. وقيل: إن أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام والمنافقون حذروهم عن ذلك وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم، فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون للكفار: ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم: سيضعف أمر محمد ويقوى أمركم. فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي بين المؤمنين والمنافقين يَوْمَ الْقِيامَةِ أي فإن الله تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين إلّا أنه أخر عقابهم إلى يوم القيامة وأجرى عليهم حكم الإسلام في الدنيا وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) أي بالشرع. فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة ويتفرع على ذلك مسائل من أحكام الفقه. منها: أن الكافر لا يرث من المسلم. ومنها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه في دار الحرب لم يملكه. ومنها: أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها: أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية. وقيل: المعنى ليس لأحد من الكافرين أن يغلب المسلمين بالحجة وأن يمحو دولة المؤمنين بالكلية. وقال ابن عباس: ولن يجعل الله لليهود على المؤمنين دولة دائما إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه تعالى الدنيوية. والله فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا، وأعدّ لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار. قال جرير: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي، وأبي عامر بن النعمان. وقال الزجاج: أي يخادعون رسول الله فيبطنون له الكفر ويظهرون له الإيمان والله مجازيهم بالعقاب على خداعهم. وقال ابن عباس: إنه تعالى خادعهم في الآخرة عند الصراط وذلك أنه تعالى يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في الظلمة ويبقى نور المؤمنين، فينادون المؤمنين: أنظرونا نقتبس من نوركم. ويقول المؤمنون: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ودليل ذلك قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] وَإِذا قامُوا إِلَى

الصَّلاةِ أي أتوا إلى الصلاة مع المؤمنين قامُوا كُسالى أي متثاقلين متباطئين لأنهم لا يرجعون بها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا يُراؤُنَ النَّاسَ ليحسبوهم مؤمنين فإنهم لا يقومون إليها إلّا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) أي لا يصلون إلا بمرأى من الناس، وإذا لم يكن معهم أحد لم يصلوا ولا يذكرون الله إلا باللسان فقط مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي ليسوا مع المؤمنين في السر فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وليسوا مع اليهود في العلانية فيجب عليهم ما يجب على اليهود وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) موصلا إلى الصواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالسر والعلانية لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أي المجاهرين بالكفر أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين أَتُرِيدُونَ يا معشر المؤمنين الخلص أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لأهل دين الله- وهم الرسول وأمته- حجة بينة على كونكم منافقين؟ فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق. وقيل: المعنى يا أيها الذين آمنوا بالعلانية- عبد الله بن أبي وأصحابه- لا تتخذوا اليهود أولياء في التعذر من دون المخلصين أتريدون يا معشر المنافقين أن تجعلوا لرسول الله عليكم عذرا بينا بالقتل؟ أو المعنى أتريدون أن تجعلوا الله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم لليهود إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وهو الطبقة التي في قعر جهنم لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم، ولأنهم لما أظهروا الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين، ثم يخبرون الكفار بذلك، فكانت المحنة تتضاعف من هؤلاء المنافقين لهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار الخلص وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أي المنافقين نَصِيراً (145) يخلصهم من عذاب الله، ثم استثنى الله من الضمير المجرور أو من الضمير المستكن في خبر إن بقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق والقبيح وَأَصْلَحُوا أي أقدموا على الحسن وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بأن يكون غرضهم من التوبة وإصلاح الأعمال طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بأن يكون ذلك الغرض خالصا لا يمتزج به غرض آخر فَأُولئِكَ المتصفون بهذه الشروط الأربعة من المنافقين مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المخلصين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا أي معهم في الدرجات العالية من الجنة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أي يعطي الله الخلص أَجْراً عَظِيماً (146) أي ثوابا وافرا في الجنة ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ف «ما» استفهامية مفيدة للنفي. أي أيعذبكم الله لأجل التشفي من الغيظ أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كما هو شأن الملوك؟ وكل ذلك محال في حقه تعالى: وإنما التعذيب أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب وتقديم الشكر على الإيمان لأن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكرا مجملا، ثم إذا تمم النظر في معرفة

المنعم آمن به، ثم شكر شكرا مفصلا فكان ذلك الشكر المجمل مقدما على الإيمان وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً (147) أي بجميع الجزئيات فلا يقع الغلط له تعالى ألبتة فيوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء كائنا من القول إلّا جهر من ظلم فهو غير مسخوط عنده تعالى وذلك بأن يقول: سرق فلان مالي أو غصبني، أو سبني، أو قذفني ويدعو عليه دعاء جائزا بأن يكون بقدر ظلمه فلا يدعو عليه بخراب دياره لأجل أخذ ماله منه ولا يسب والده وإن كان هو فعل كذلك ولا يدعو عليه لأجل ذلك بالهلاك بل يقول: اللهم خلّص حقي منه أو اللهم جازه أو كافئه ولا يجوز أن يدعو عليه بسوء الخاتمة أو الفتنة في الدين فالدعاء بغير قدر ما ظلم به حرام كالدعاء بمستحيل عادة أو عقلا ومثل المظلوم ما إذا أريد اجتماع على شخص فيجب على من علم عيوبه به بذل النصيحة له، وإن لم يستشره لأن الدين النصيحة فيذكر له ما يندفع به فإن زاد حرم الزائد فالله تعالى لا يحب إظهار القبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاسد بما فيه كي تحذره الناس» . وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إلّا من ظلم بالبناء للفاعل. والمعنى لكن من ظلم فاتركوه. وقال الفراء والزجاج: لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ويفعل ما لا يحبه الله تعالى هذا إن جعل الاستثناء كلاما منقطعا عما قبله أما إن جعل متصلا فيكون التقدير إلّا من ظلم فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لقول الظالم أو المظلوم ولفعلهما عَلِيماً (148) لفعل الظالم والمظلوم ولقولهما فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف بسوء لمستور فإنه يصير عاصيا لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ في إيصال النفع إلى الخلق أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ كأن تدفعوا الضرر عنهم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا عن المذنبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى كما قاله الحسن قَدِيراً (149) أي فهو أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو ذنوب من ظلمك كما قاله الكلبي. وقيل: المعنى إن الله كان عفوا لمن عفا وهو المظلوم قديرا على إيصال الثواب إليه وعقوبة الظالم. وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ الآية تعليل لجواب الشرط المقدر والتقدير فذلك أولى لكم من تركه لأن الله إلخ. اعلم أن مواضع الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق، فالذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم وهو المشار إليه بقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ. ودفع ضرر عنهم وهو المشار إليه بقوله تعالى: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فدخل في هذين القسمين جميع أنواع الخير وأعمال البر إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كاليهود فإنهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير، وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن. وكالنصارى فإنهم آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن وَيُرِيدُونَ أَنْ

[سورة النساء (4) : الآيات 151 إلى 160]

يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض وَيُرِيدُونَ بقولهم ذلك أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي بين الإيمان بالكل أو الكفر بالكل سَبِيلًا (150) أي دينا وسطا وهو الإيمان بالبعض دون البعض أُولئِكَ الموصوفون بالصفات القبيحة هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرا كاملا ثابتا يقينا لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ اليهود وغيرهم عَذاباً مُهِيناً (151) أي شديدا يهانون به وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإيمان به أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. وقرأ عاصم في رواية حفص بالياء، والضمير راجع إلى اسم الله. والباقون بالنون وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً (152) أي مبالغا في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم يَسْئَلُكَ يا أشرف الخلق أَهْلُ الْكِتابِ أي أحبار اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. روي أن كعبا وأصحابه وفنحاص قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت رسولا من عند الله فإننا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح أي فلا تبال يا أشرف الخلق بسؤالهم فإنه عادتهم فَقَدْ سَأَلُوا أي اليهود مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أي أعظم مما سألوك فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي أرناه نره معاينة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي فأحرقتهم النار التي جاءت من السماء بِظُلْمِهِمْ وهو سؤالهم لما يستحيل وقوعه في ذلك الوقت ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي الصاعقة وإحياؤهم بعد موتهم ومعجزات موسى التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي تركنا عبدة العجل ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) أي قهرا ظاهرا عليهم فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل فبادروا إلى الامتثال فقتل منهم سبعون ألفا في يوم واحد وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم على أن لا يرجعوا عن الدين ليخالفوا فلا ينقضوه فإنهم هموا بنقضه وَقُلْنا على لسان موسى أو على لسان يوشع لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب بيت المقدس أو أريحا سُجَّداً أي مطأطئين الرؤوس وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داود لا تَعْدُوا أي لا تظلموا باصطياد الحيتان فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ على الامتثال بما كلفوه مِيثاقاً غَلِيظاً (154) أي مؤكدا. وقال ابن عباس: وهو ميثاق وثيق في محمد صلّى الله عليه وسلّم فَبِما نَقْضِهِمْ ف «ما» مقحمة والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي فعلناهم بسبب نقضهم مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي بالمعجزات فمن أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أي بلا

جرم فإنهم معصومون من كل نقيصة لا يتوجه عليهم حق وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا فكذبوا الأنبياء بهذا القول. أو المعنى قلوبنا في أغطية جبلية فهي لا تفقه ما تقولون بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أي بل أحدث الله عليها صورة مانعة عن وصول الحق إليها. أو بل ختم الله على قلوبهم بكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ أي اليهود إِلَّا قَلِيلًا (155) أي إلّا فريقا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو فلا يؤمنون. أي المطبوع على قلوبهم إلّا إيمانا قليلا، وهو الإيمان بموسى والتوراة بحسب زعمهم فإن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل ألبتة وَبِكُفْرِهِمْ لإنكارهم قدرة الله تعالى عن خلق الولد من دون الأب وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) أي نسبتهم مريم إلى الزنا بعد ما ظهر منها من الكرامات الدالة على براءتها من كل عيب، فإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات وعيسى تكلم حال كونه طفلا منفصلا عن أمه وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وصلبناه رَسُولَ اللَّهِ أي في زعم عيسى نفسه فإن وصفهم له بوصف الرسالة استهزاء به أوان الله وضع الذكر الحسن بقوله رسول الله مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم فإنهم قالوا: هو ساحر ابن ساحرة. أو إن رسول الله وصف له من عند الله تعالى مدحا له وتنزيها له عن مقالتهم التي لا تليق به. قال الله تعالى إبطالا لافتخارهم بقتل النبي والاستهزاء به: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ. قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم لما أنهم اجتمعوا على قتله، لأن الله مسخ من سبوه وسبوا أمه قردة وخنازير بدعائه عليهم فأخذوا إنسانا يقال له: ططيانوس اليهودي وقتلوه وصلبوه، ولبسوا على الناس أنه المسيح والناس ما كانوا يعرفونه إلّا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس، ثم إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب. وقال الضحاك: لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلا فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود فركب أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين: «أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟» . فقال رجل يقال له سرجس: أنا يا نبي الله. فألقى إليه مدرعته من صوف وعمامته من صوف وناوله عكازه، وألقى الله عليه شبه عيسى فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما المسيح فكساه الله تعالى الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فصار مع الملائكة. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في شأن عيسى لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من قتله ما لَهُمْ بِهِ أي بقتله مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي لكنهم يتبعون الظن فإن فسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس فالاستثناء متصل، أي لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود: إنه كان كاذبا فقتلناه حقا. وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا فليس هذا المقتول بعيسى.

[سورة النساء (4) : الآيات 161 إلى 170]

وقال آخرون: بل هو هو. وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟! وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) أي قتلا يقينا كما قالوا: إنا قتلنا المسيح بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله تعالى ولا يصل إليه حكم آدمي وذلك الموضع هو السماء الثالثة وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي كامل القدرة حَكِيماً (158) أي كامل العلم فرفع عيسى من الأرض إلى السماء لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي وما من اليهود والنصارى أحد إلّا ليؤمنن بعيسى قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله ورسوله فلا ينفعه إيمان لانقطاع وقت التكليف. كما نقل عن محمد بن علي بن أبي طالب من الحنيفة أن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره. وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت بأنه عبد الله ورسوله. ويقال للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول: آمنت أنه عبد الله وابنه فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن لا ينفعهم ذلك الإيمان وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب شَهِيداً (159) فيشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكل نبي شاهد على أمته فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلم عظيم من الذين تابوا من عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فإن اليهود كانوا كلما فعلوا معصية من المعاصي يحرم الله عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة لهم. وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) أي وبمنعهم عن دين الله ناسا كثيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرّم علينا وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي بطريق الرشوة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي هيأنا للمصرّين على الكفر من اليهود عَذاباً أَلِيماً (161) سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ أي لكن المتمكنون في علم التوراة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وَالْمُؤْمِنُونَ منهم ومن المهاجرين والأنصار يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وهو القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ على سائر الأنبياء من الكتب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي وأعني المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة. ف «المقيمين» نصب على المدح لبيان فضل الصلاة. وجاء في مصحف عبد الله بن مسعود و «المقيمون الصلاة» بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري، وعيسى الثقفي، وابن جبير، وعاصم عن الأعمش وعمرو بن عبيد وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قال أبو السعود: والمراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب أُولئِكَ أي المتصفون بتلك الصفات الجميلة من أهل الكتاب سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) وجملة هذه خبر اسم الإشارة والجملة من المبتدأ والخبر خبر قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد إِنَّا

أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد نوح وَكما أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ابني إبراهيم وَيَعْقُوبَ ابن إسحاق وَالْأَسْباطِ أي أولاد يعقوب الاثني عشر فمنهم يوسف نبي رسول باتفاق وفي البقية خلاف وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا أي وكما أعطيناه أباه داوُدَ زَبُوراً (163) وكان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتسبيح وتقديس، وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى. وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطيور على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها، فلما قارف الخطيئة زال عنه ذلك وَكما أرسلنا رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ أي سميناهم لك في القرآن وعرفناك أخبارهم وما حصل لهم من قومهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة أو هذه الآية أو قبل هذا اليوم وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم. والمعنى إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده. وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود زبورا وأرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا آخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم السلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) أي كلمه على التدريج شيئا فشيئا بحسب المصالح بغير واسطة ملك أي أزال الله تعالى عنه الحجاب حتى سمع المعنى القائم بذاته تعالى، لا أنه تعالى أحدث ذلك لأنه تعالى يتكلم أبدا. والمعنى أنه تعالى بعث هؤلاء الأنبياء والرسل، وخصّ موسى عليه السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى بهذا التشريف الطعن في نبوة سائر الأنبياء عليهم السلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب متفرقا وقد فضل الله تعالى نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بإعطائه مثل ما أعطي كل واحد منهم. وقرأ إبراهيم ويحيى بن وثاب وكلم الله بالنصب رُسُلًا منصوب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال الموطئة لما بعدها أو على البدلية من رسلا الأول مُبَشِّرِينَ لأهل الطاعة بالجنة وَمُنْذِرِينَ للعصاة بالنار لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب. والمعنى لئلا يحتج الناس يوم القيامة على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا: لم لم ترسل إلينا رسولا ولم لم تنزل علينا كتابا؟ فإن الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل وإن قبول المعذرة عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده وهي بمنزلة الحجة التي لا مرد لها، وله تعالى أن يفعل ما يشاء كيف يشاء وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب في أمر من أموره حَكِيماً (165) في أفعاله فاختلاف الكتب في كيفية النزول وتغايرها في

بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي عليها يدور فلك التكليف فكلفهما الله بما يليق بشأنهم لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ بتخفيف النون ورفع الجلالة وبالبناء للفاعل أي لكن الله يشهد لك بحقية ما أنزل إليك من القرآن الناطق بنبوتك. روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال اليهود: نحن لا نشهد لك بذلك، فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. والمعنى أن اليهود وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليك يا محمد من السماء لكن الله يشهد بأنه أنزل عليك، وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان ذلك معجزا وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي بالرسالة صادقا، ولما كانت شهادته تعالى عرفت بواسطة إنزال القرآن فقال: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل والعلم إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره أنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله. أي إنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب، فيدل ذلك القول على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا هاهنا وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بصدقة وإنما تعرف شهادة الملائكة له صلّى الله عليه وسلّم بذلك لأن ظهور المعجز على يده صلّى الله عليه وسلّم يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة بذلك بلا شك، لأنه ثبت في القرآن إنهم لا يسبقونه تعالى بالقول. والمعنى يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع والعرش والكرسي يصدقونك في ذلك ومن صدقه الله والملائكة أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) على صحة نبوتك وإن لم يشهد غيره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل الله وشهد به وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام من أراد سلوكه وهم اليهود حيث قالوا: ما نعرف صفة محمد في كتابنا وقالوا: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء. وقالوا: إن الله ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تنسخ إلى يوم القيامة، وقالوا: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً (167) عن الحق والصواب لأن أشد الناس ضلالا من كان ضالا ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم يبذل غاية ما في طاقته في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا محمدا بكتمان ذكر بعثته وعوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم وماتوا على الشرك لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إلى الجنة يوم القيامة إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ أي جعلهم خالدين في جهنم عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) أي لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئا بعد شيء إلى غير النهاية يسيرا عليه وإن كان متعذرا على غيره يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ

[سورة النساء (4) : الآيات 171 إلى 176]

بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ أي يا أهل مكة قد جاءكم الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن أو متكلما بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره من عند ربكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي فآمنوا بالرسول يكن ذلك الإيمان خيرا لكم بما أنتم فيه أي يكن أحمد عاقبة من الكفر وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وإن تكفروا بالرسول فإن الله غني عن إيمانكم، لا يتضرر بكفركم، ولا ينتفع بإيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما، ومن كان كذلك كان قادرا على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم أو فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه، أو فمن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء حَكِيماً (170) لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمحسن والمسيء يا أَهْلَ الْكِتابِ أي الإنجيل من النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تبالغوا في تعظيم عيسى فإنه ليس بحق كما أن اليهود بالغوا في طعنه حيث قالوا: إنه ابن زانية وكلا طرفي قصدهم ذميم وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه تعالى به من الاتحاد والحلول في بدن الإنسان أو روحه، واتخاذ الزوجة والولد بل نزهوه عن هذه الأحوال فإن نصارى أهل نجران أربعة أنواع: ملكانية: وهم الذين قالوا: عيسى والرب شريكان. ومرقوسية: وهم الذين قالوا: ثالث ثلاثة. وماريعقوبية: وهم الذين قالوا: عيسى هو الله. ونسطورية: وهم الذين قالوا: عيسى ابن الله، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ ف «المسيح» مبتدأ و «عيسى» بدل منه أو عطف بيان له و «ابن مريم» صفة له ورسول الله خبر المبتدأ وَكَلِمَتُهُ أي مكون بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوصل الكلمة إليها بنفخ جبريل وَرُوحٌ مِنْهُ أي وروح صادر من أمر الله فصار ولدا بلا أب وقد جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل وصف بأنه روح وقوله تعالى: مِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة ل «روح» . أي كائنة من عند الله وجعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل لكون النفخ بأمره تعالى، و «من» ابتدائية لا كما زعمت النصارى من أنها تبعيضية. حكي أن طبيبا حاذقا نصرانيا جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابهم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية. فقرأ المروزي وَسَخَّرَ لَكُمْ

ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] فقال إذا يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزاء منه تعالى فانقطع النصراني فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا، وأعطى للمروزي عطاء عظيما فَآمِنُوا بِاللَّهِ واعتقدوا ألوهيته وحده وَرُسُلِهِ أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تصفوا واحدا منهم بالألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم. ولا تقولوا: إن الله واحد بالجوهر ثلاثة بالأقانيم انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أي انتهوا عن مقالتكم بالتثليث يكن ذلك الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي منفرد في ألوهيته سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد أو سبحوه تسبيحا من ذلك. وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع الفعل أي سبحانه ما يكون له ولد لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فمن كان مالكا لهما وما فيهما كان مالكا لعيسى ومريم وإذا كانا مملوكين له فكيف يتوهم كونهما له ولدا وزوجة وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) أي ربا للخلق فإنه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى إثبات إله آخرنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ أي لن يترفع عن أن يكون عبدا له تعالى. أي مقرا بالعبودية لله مستمرا على عبادته وطاعته. روي أن وفد نجران قالوا: يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول: إنه عبدا لله فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بعار على عيسى أن يكون عبدا لله» قالوا: بلى، فنزلت: ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيدا لله بصيغة التصغير لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أي ولا يستنكف الملائكة المقربون كحملة العرش أن يقروا بالعبودية لله. أي لن يستنكف المسيح عن عبادة الله تعالى بسبب أنه قادر على الإتيان بخوارق العادات من الإحياء والإبراء وعالم بالمغيبات مخبر عنها وممتاز عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالرفع إلى السماء فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة، لأن أربعة منهم حملوا العرش على عظمته، وأنهم مخلوقون من غير أب وأم ومقارهم السموات العلى، ولا خلاف لأحد في علو درجتهم من هذه الحالات وإنما الخلاف في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) أي ومن يترفع عن طاعته تعالى ويعد نفسه كبيرا، أي يعتقدها كذلك فإن الله يجمع المترفعين والمعتقدين أنفسهم كبيرة ومقابليهم- وهم غيرهم- إليه تعالى يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا

فيجازيهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ من غير أن ينقص منها شيئا أصلا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتضعيفها أضعافا كثيرة وبإعطاء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أي على وجه التفصيل وإنما يخطر نعيم الجنان على قلوبنا، ونسمعه من ألسنة على وجه الإجمال. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادته تعالى وَاسْتَكْبَرُوا أي عدوا أنفسهم كبيرة فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً بما وجدوا من لذاذة الترفع والتكبر وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يلي مصالحهم وَلا نَصِيراً (173) ينجيهم من عذاب الله يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ أي رسول مِنْ رَبِّكُمْ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما سماه برهانا لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) أي نيرا بنفسه منورا لغيره وهو القرآن وذلك بواسطة إنزاله على الرسول وسماه نورا لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب أي فمنهم من آمن ومنهم من كفر فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي الجنة ومنفعتها وَفَضْلٍ أي إحسان زائد كالنظر إلى وجهه الكريم والتعظيم وغير ذلك من مواهب الجنة وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وهو الإسلام والطاعة والسعادة الروحانية. والجار والمجرور في محل نصب حال من «صراطا» ، والضمير المجرور عائد على «الله» بتقدير مضاف أي إلى ثوابه يَسْتَفْتُونَكَ أي يسألونك عن محمد عن الكلالة. روى الشيخان عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ، فتوضأ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم صبّ علي من وضوئه فأفقت، فإذا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت آية الميراث يَسْتَفْتُونَكَ الآيات. وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآيات قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وهو اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد من الوالدين ولا أحد من الأولاد إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي إن مات امرؤ غير ذي ولد ووالد وله أخت شقيقة أو من الأب فللأخت نصف ما ترك بالفرض والباقي للعصبة أولها بالرد إن لم يكن له عصبة وَهُوَ أي المرء الكلالة يَرِثُها أي يرث أخته جميع ما تركت إن فرض موتها مع بقائه إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكر أو أنثى فإن كان لها أو له ولد ذكر فلا شيء له أو لها أو ولد أنثى فله أو لها الباقي من نصيبها فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي فإن كان من يرث بالأخوة أختين شقيقتين، أو من أب فصاعدا فلهما لأكثر الثلثان مما

ترك الميت من المال وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي وإن كان من يرث بطريق الأخوة أخوة مختلطة رجالا أشقاء، أو من أب ونساء شقيقات، أو لأب فللذكر منهم مثل نصيب الأنثيين يقتسمون التركة على طريقة التعصيب يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ قسمة الميراث أَنْ تَضِلُّوا أي لكيلا تخطئوا في قسمة الميراث. وقيل: المعنى يبين الله ضلالكم لتعلموا أن غير هذا البيان ضلال فتجتنبوه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء المتعلقة بمحياكم ومماتكم عَلِيمٌ (176) أي مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية، مائة وعشرون آية، ألفان وثمانمائة وسبع وثلاثون كلمة، اثنا عشر ألفا ومائتان وستة أحرف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وهي جميع ما ألزمه الله تعالى عباده من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن دينا أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم أحل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المعدودة في سورة الأنعام. وقيل: المعنى أحلت لكم ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، وذلك كالظباء وبقر الوحش ونحوهما من صيد البرية كحمر الوحش فأضيفت البهيمة إلى الأنعام لحصول المشابهة أي أحلت لكم البهيمة الشبيهة بالأنعام. وقيل: المعنى أحلت لكم أجنة الأنعام. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس، وهذا الثالث مروي أيضا عن ابن عمر وهذا الوجه يدل على صحة مذهب الشافعي في أن الجنين مذكى بذكاة الأم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في هذه السورة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي إلا إن كانت الأنعام ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله فهي محرمة وإلا أن تحلوا الصيد في حال إحرامكم أو في حال كونكم في الحرم فإنه لا يحل لكم ذلك إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه فموجب التكليف والحكم هو إرادته لا مراعاة المصالح يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي يا أيها الذين آمنوا أقروا بالإيمان لا تحلوا معالم دين الله. أي لا تهاونوا شيئا من فرائضه تعالى ولا تحلوا الشهر الحرام: ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم ورجب بالقتال فيه والغارة. قال أبو السعود: والمراد بالشهر الحرام شهر الحج. وقال عكرمة: هو ذو القعدة. واختار ابن جرير أنه رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة. ولا تحلوا الهدي بالعصب أو بالمنع عن بلوغ محله، وهو ما أهدي إلى بيت الله من إبل أو بقر أو شاة. ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدي

وهي: البدن. ولا تحلوا قوما قاصدين زيادة المسجد الحرام بصدهم عن ذلك بأي وجه كان. وقرأ عبد الله «ولا آميّ البيت الحرام» بالإضافة حال كونهم مبتغين فضلا من ربهم بالتجارة المباحة، أو المعنى طالبين ثوابا من ربهم ورضوانا. وقرأ حميد بن قيس الأعرج «تبتغون» بالتاء على خطاب المؤمنين. فالجملة حينئذ حال من الضمير في «لا تحلوا» وإضافة الرب إلى ضمير «الآمين» للإشارة إلى اقتصار التشريف عليهم وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا والأمر للإباحة أي وإذا خرجتم من الإحرام والحرم فلا جناح عليكم في اصطياد حيوان البرية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي ولا يحملنكم بغضكم لقوم من أهل مكة بمنعهم، إياكم عن المسجد الحرام أي عن العمرة عام الحديبية على ظلمكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي من البغض. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه «لا يجرمنكم» . والمعنى إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية وهي سنة ست، على أن نزول هذه الآية عام الفتح وهو سنة ثمان غير مجمع عليه وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى أي على متابعة الأمر ومجانبة الهوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ أي المعصية للتشفي وَالْعُدْوانِ أي التعدي في حدود الله للانتقام. وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع الأمور ولا تستحلوا شيئا من محارمه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) لمن لا يتقيه فلا يطيق أحد عقابه حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي حرم عليكم أكل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي وكان أهل الجاهلية يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. واعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة، وَالدَّمُ أي السائل منه. فخرج الكبد والطحال وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ. قال أهل العلم الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات وأورثهم عدم الغيرة. فإن الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي هي له ولا يتعرض له لعدم الغيرة. وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي وما رفع

الصوت لغير الله عند ذبحه وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وَالْمُنْخَنِقَةُ أي التي ماتت بانعصار الحلق فالمنخنقة على وجوه: منها: إن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. ومنها: ما يخنق بحبل الصائد. ومنها: ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت وَالْمَوْقُوذَةُ أي المضروبة إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات، وهي معنى الميتة وفي معنى المنخنقة، لأنها ماتت ولم يسل دمها. وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي الساقطة من علو إلى سفل فماتت ويدخل فيها ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فتسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم ولو رمى صيدا في الهواء بسهم فأصابه فإن سقط على الأرض ومات حل لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية، إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأن الذبح قد حصل قبل التردية وَالنَّطِيحَةُ أي ماتت بنطح شاة أخرى، وإنما دخلت «الهاء» في «النطيحة» لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة كما تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف المقتول أرجل هو أم امرأة، بخلاف ما إذا ذكر الموصوف فإنه تحذف الهاء حينئذ كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين وعين كحيل، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يمشي على الأغلب ويكون المراد الكل. وَما أَكَلَ السَّبُعُ منه فمات وهي، فريسة السبع. قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتم ذكاته وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء الخمسة. وذلك بحيث يتحرك بالاختيار وإلا فلا يحل بتذكية لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق وأكل السبع وغيرهما وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي على اعتقاد تعظيم النصب. وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء، ويضعون اللحوم عليها، ويعدون ذلك الذبح قربة فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم ينكره فأنزل الله تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الحج: 37] وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرا أو غزوا أو تجارة، أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربي. وعلى الثاني: نهاني ربي. والثالث: خال عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام فِسْقٌ أي خروج عن الطاعة لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام.

وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله تعالى. وقال قوم آخرون: إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام يعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا أي شركا وجهالة، وهذا القول أولى وأقرب كما قاله الفخر. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي هذا الزمان انقطع رجاء كفار مكة من إبطال أمر دينكم فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة، وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم وَاخْشَوْنِ أي ومحضوا الخشية لي وحدي في ترك أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ودينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها والحكم ببقائه إلى يوم القيامة وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بفتح مكة ودخولها آمنين وبانفراد المسلمين بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه، حتى حج المسلمون لا يخالطهم المشركون وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة يخاف معها الموت غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير معتمد لإثم بأن يأكلها فوق الشبع تلذذا كما قاله أهل العراق أو بأن يكون عاصيا بسفره كما قاله أهل الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أكل المحرم عند ما اضطر إلى أكله رَحِيمٌ (3) بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الصيد. والسائلون عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة، وعويمر بن ساعدة كذا قال عكرمة كما أخرجه ابن جرير. وقال ابن عباس: والسائل بذلك زيد بن مهلهل الطائي وعدي بن حاتم الطائي وكانا صيادين، وكذا قال سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو كل ما يشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه مما لم يرد نص بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس مجتهد وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي وأحل لكم صيد ما علمتموه من الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والباز مُكَلِّبِينَ أي معلمين الجوارح الصيد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية من ضمير علمتم. والمقصود من التكرار المبالغة في اشتراط التعليم وأن تكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه موصوفا بالتأديب مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من طرق التعليم ومن الحيل في الاصطياد فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي كلوا بعض ما أمسكنه لكم وهو الذي لم يأكلن منه. روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم

يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه» «1» . وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي سموا على ما علمتم من الجوارح عند إرساله على الصيد كما قال صلّى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل» «2» أو سموا على ما أمسكن عند ذبحه. وقيل: المعنى سموا على أكل الصيد. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن أبي سلمة: «سمّ الله وكل مما يليك» «3» . وَاتَّقُوا اللَّهَ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل وتحريم ما حرمه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) فإنه تعالى يؤاخذكم سريعا في كل ما جل ودق الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي المستلذات المشتهيات لأهل المروءة والأخلاق الجميلة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيحل لنا أكل ذبائح من تمسكوا بالتوراة والإنجيل إذا حلت المناكحة بيننا وبينهم فحل الذبيحة تابع لحل المناكحة ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته بخلاف من تمسكوا بغير التوراة والإنجيل، كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم واتفق العلماء على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس، وقال أبو ثور: إن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فيحل لكم أن تطعموهم من طعامكم وتبيعوه منهم وَالْمُحْصَناتُ أي الحرائر العفائف مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي حل لكم وذكرهن للحمل ما هو الأولى لا لنفي ما عداهن فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة خلافا للشافعي وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي هن حل لكم أيضا وإن كنّ حربيات.

_ (1) رواه النسائي في كتاب الصيد، باب: الأمر بالتسمية عند الصيد، وأحمد في (م 4/ ص 195) . (2) رواه البخاري في كتاب الذبائح، باب: إذا أكل الكلب، ومسلم في كتاب الصيد، باب: 1، والترمذي في كتاب الصيد، باب: 1، والنسائي في كتاب الصيد، باب: إذا قتل الكلب، وابن ماجة في كتاب الصيد، باب: صيد الكلب، وأحمد في (م 1/ ص 231) . (3) رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب: الأكل وما يليه، ومسلم في كتاب الأشربة، باب: 108، والترمذي في كتاب الأطعمة، باب: 47، وابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب: الأكل باليمين، والدارمي في كتاب الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والموطأ في كتاب صفة النبي، باب: ما جاء في الطعام والشراب.

قال الكثير من الفقهاء: إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن فمن دان بذلك الكتاب بعد نزول القرآن خرج عن حكم الكتاب، وهذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وأما أهل المذاهب الثلاثة فلم يقولوا بهذا التفصيل بل أطلقوا القول بحل أكل ذبائح أهل الكتاب وحل التزويج من نسائهم ولو دخلوا في دين أهل الكتاب بعد نسخه إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وتقييد التحليل بإعطاء المهور يدل على تأكد وجوبها وعلى أن الأكمل بيانها لا هو شرط لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه ومن تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات مُحْصِنِينَ أي متزوجين غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير معلنين بالزنا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي ولا مسرين بالزنا بمن لها حليل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد بطل ثواب عمله الصالح سواء عاد إلى الإسلام أولا وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) إذا لم يعد إلى الإيمان بما نزل في القرآن حتى يموت على الكفر. أما إذا عاد إلى الإيمان بذلك قبل الموت فإن عمله لا يبطل فلا يجب إعادة صلاة وحج قد أتاهما قبل الردة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم الاشتغال بإقامة الصلاة وأنتم على غير وضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فلا يجوز لأنه تعالى جعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية، كذا قال بعضهم. وقال جمهور الفقهاء: إن ذلك لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركا للسنة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قيل: الباء فارقة بين حمل المسح بالكل والبعض كما في قولك: مسحت المنديل ومسحت يدي بالمنديل. فقولك: مسحت المنديل لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية. وقولك: مسحت بالمنديل يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل وتحقيق هذه الباء أنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب أما القراءة بالجر فهي معطوفة على الرؤوس فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك في الأرجل، وإنما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها موضع صب الماء كثيرا. والمراد غسلها أو مجرورة بحرف جر محذوف متعلق بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلا، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنه منصوب في المعنى عطف على المغسول لأنه

معدود في اللحن الذي قد يحمل لأجل الضرورة في الشعر ويجب تنزيه كلام الله عنه ولأنه يرجع إليه عند حصول الأمن من الالتباس كما في قول الشاعر: كبير أناس في بجاد مزمل وفي هذه الآية لا يحصل الأمن من الالتباس، ولأنه إنما يكون بدون حرف العطف. وأما القراءة بالنصب فهي إما معطوفة على الرؤوس لأنه في محل نصب والعطف على الظاهر وعلى المحل جائز كما هو مذهب مشهور للنحاة وإما معطوفة على وجوهكم فظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله تعالى: وَامْسَحُوا وقوله تعالى: فَاغْسِلُوا فإذا اجتمع العاملان على معمول واحد كان الأولى إعمال الأقرب حتى إن بعضهم لا يجوز أن يكون العامل فاغسلوا لما يلزم عليه من الفصل بين المتعاطفين بجملة مبينة حكما جديدا ليس فيها تأكيد للأول وليست هي اعتراضية فوجب أن يكون عامل النصب في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله: وَامْسَحُوا فتدل هذه الآية على وجوب مسح الأرجل، لكن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل وهو مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب الرجوع إليه ويجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها، وأيضا إن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح وهذا جواب لقولهم ولا يجوز دفع وجوب مسح الرجل بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي فاغتسلوا ولحصول الجنابة سببان: نزول المني، والتقاء الختانين. فختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وشفر المرأة محيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد. وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، وموضع ختانها وهو فوق ثقبة البول. وهناك جلدة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا يضره الماء كجراحة أو جدري أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي الموضع الذي يقضي فيه حاجة الإنسان التي لا بد منها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بذكر أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا يا معشر المسافرين والمحدثين حدثا أصغر أو أكبر ماءً بعد طلبه فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي فاقصدوا ترابا نظيفا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ بالضربة الأولى وَأَيْدِيَكُمْ بالضربة الثانية مِنْهُ أي التراب ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بما فرض عليكم من الطهارة للصلاة وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية فأزال هذا الانقياد عن

[سورة المائدة (5) : الآيات 11 إلى 20]

قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ببيان كيفية الطهارة وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح أو بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) نعمته وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي تأملوا في جنس نعم الله عليكم وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل، والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فمتى كانت النعمة على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو المواثيق التي جرت بين رسول الله والمسلمين في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة ومبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما. وقال السدي: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) فلا تعزموا بقلوبكم على نقض تلك العهود فإنه إن خطر ببالكم فالله يعلم ذلك وكفى بالله مجازيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بأن تقوموا لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ فلا تشهدوا بأمر مخالف للواقع بل اشهدوا بما في نفس الأمر والتكاليف محصورة في نوعين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله، وقوله تعالى: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوزوا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم. والمعنى إن الله تعالى أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل الإنصاف وترك الاعتساف اعْدِلُوا في عدوكم ووليكم هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى أو إلى الاتقاء من عذاب الله وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم فيجازيكم على ذلك وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بالعدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي إسقاط السيئات وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وهو إيصال الثواب وجملة قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد لا محل لها فكأنه قيل: وأي شيء وعده؟ فقال المجيب: لهم مغفرة وأجر عظيم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) أي ملازموها وهذه الجملة مستأنفة أتى بها جمعا بين الترغيب والترهيب إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ

عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ أي كونوا مواظبين على طاعة الله ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وسبب نزول هذه الآية وجهان: الأول: أنها نزلت في واقعة عامة وذلك أن المشركين في أول الأمر- وهو في ضعف المسلمين- يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين. الثاني: أنها نزلت في واقعة خاصة. وفي هذا ثلاثة أوجه: الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة أو بني النضير، وذلك أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا دخلوا عليهم وقد كانوا عاهدوا النبي على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فطلب منهم مالا قرضا لدية رجلين مسلمين أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همّوا بالفتك برسول الله وبأصحابه فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه صلّى الله عليه وسلّم بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك فقام في الحال مع أصحابه وخرجوا إلى المدينة. والثاني: عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب وهم بنو ثعلبة وبنو محارب أرادوا الفتك به صلّى الله عليه وسلّم وهو في غزوته فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق أصحابه عنه يستظلون في شجر العضاه وعلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه بشجرة، فجاء أعرابي وسلّ سيف رسول الله ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله» قالها ثلاثا فأسقطه جبريل من يده فأخذه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يمنعك مني؟» «1» فقال: لا أحد ثم صاح رسول الله بأصحابه فأخبرهم ولم يعاقبه. وفي رواية أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وعلى هذين القولين، فالمراد من قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن. والثالث: أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلما صلوا ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم وقالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم. فقيل لهم: إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم. فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 365) .

الخوف وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي إقرارهم أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وهو المسند إليه أمور القوم وتدبير مصالحهم. روي أن بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء أرض الشام وقد سكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم: «إني كتبتها لكم دارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم» . وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فاختار الله تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم والنقباء الاثنا عشر كما قال ابن إسحاق هم شموع وشوقط، وكالب، وبعورك، ويوشع، ويعلى، وكرابيل، وكدي، وعمابيل، وستور، ويحيى، وآل. ثم إن هؤلاء النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام، فلما ذهبوا إليهم رأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوهم ورجعوا، فحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب ويوشع وهما اللذان قال الله تعالى في حقهما: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ [المائدة: 23] الآية وَقالَ اللَّهُ لهؤلاء النقباء إِنِّي مَعَكُمْ بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ أي التي فرضت عليكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ أي زكاة أموالكم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا من قلوبكم. والمراد بهذا الإقراض: الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهذا إشارة إلى إزالة العقاب وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا إشارة إلى إيصال الثواب فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد أخذ الميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمان صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لعناهم أخرجناهم من رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي منصرفة عن الانقياد للدلائل. وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء أي رديئة يابسة بلا نور يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وحكم الرجم بعد بيانه أي في التوراة وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا بعضا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزالُ يا أشرف الخلق تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي تظهر على خيانة صادرة من بني قريظة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه أو الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه فَاعْفُ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم وَاصْفَحْ أي أعرض عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) إلى الناس.

قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في الإنجيل باتباع محمد وبيان صفته وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، كما أخذنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي اتركوا نصيبا عظيما مما أمروا به في الإنجيل من الإيمان ونقضوا الميثاق فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ألصقنا بين نصارى أهل نجران العداوة بالقتل والبغضاء في القلب بعد أن جعلناهم فرقا أربعة: نسطورية، والملكانية، واليعقوبية، والمرقوسية، فإن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ أي يخبرهم في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) من المخالفة والخيانة والكتمان فيجازيهم عليه يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد أفضل الخلق يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي تكتمون من التوراة والإنجيل كنعت محمد وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أي رسول وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) وهو القرآن لما فيه من إبانة ما خفي على الناس من الحق يَهْدِي بِهِ أي بذلك الكتاب اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ وهو من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى سُبُلَ السَّلامِ أي إلى طرق السلامة من العذاب وهو دين الإسلام، وهذا منصوب بنزع الخافض لأن «يهدي» يتعدى إلى الثاني ب «إلى» أو ب «اللام» . وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات فنون الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق باتبع ولا يجوز أن تتعلق بيهدي ولا بيخرج إذ لا معنى لها حينئذ، فدلت الآية على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) أي يثبتهم على ذلك الدين بعد إجابة دعوة الرسول لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا وهم نصارى نجران إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذه المقالة لليعقوبية فإنهم قالوا: إن الله قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح به أحد منهم ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة أي بأنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. قُلْ لهم يا أكرم الخلق: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي إن عيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض، وتارة أخرى يخلق من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن أصل من جنسه إما من ذكر وحده كخلق

حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام، أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضا فيجب أن ينسب كله إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ أي إن يهود أهل المدينة وَالنَّصارى أي نصارى أهل نجران نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أي إن اليهود لما زعموا أن عزيزا ابن الله. والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا: نحن أبناء الله كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك. فالمراد بأبناء الله خاصته وقال ابن عباس: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: تخوّفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه. والذي قال تلك الكلمة من اليهود: نعمان ويحرى وشاس. قُلْ أي لهم يا أكرم الخلق إلزاما وتبكيتا: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة أياما بعدد أيام عبادتكم العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع، فأنتم كاذبون لأن الأدب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي لستم كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله وتابوا من اليهودية والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه منهم. وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله وماتوا على اليهودية والنصرانية وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فمن كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه تعالى حقا واجبا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) في الآخرة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا أهل التوراة والإنجيل قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ أي مبينا لكم الشرائع عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي على حين انقطاع من الأنبياء. فروي عن سلمان أنه قال: فترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. أخرجه البخاري. وكان بينهما أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس: 14] وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وقال في حقه نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «نبي ضيعه قومه» «1» أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أي إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت فترة من

_ (1) رواه الألباني في السلسلة الضعيفة (279) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1: 42) ، وابن الجوزي في زاد المسير (2: 320) ، وابن كثير في البداية والنهاية (2: 271) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 21 إلى 30]

إرسال الرسل كراهة أن تقولوا إذا سئلتم عن أعمالكم يوم القيامة: ما جاءنا بشير بالجنة ولا نذير بالنار، وقد انقمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت أخبارها فلا تعتذروا بذلك فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ كامل البشارة وَنَذِيرٌ كامل النذارة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) فكان قادرا على الإرسال تترى كما أرسل الرسل بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل ومنهم أولاد يعقوب فإنهم كانوا على قول الأكثرين أنبياء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً فقد تكاثر فيهم الملوك، ثم إن أقارب الملوك يقولون عند المفاخرة نحن الملوك. قال السدي: أي وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم. وقيل: كل من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة فمن كان كذلك كان ملكا. وعن أبي سعيد الخدري عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا» . وقال قتادة: سموا ملوكا لأنهم كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: من كان له امرأة يأوي إليها ومسكن يسكنه فهو غني، ثم إن كان له خادم بعد ذلك فهو من الملوك. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) من فلق البحر وإغراق العدو وإيراث أموالهم وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر وتظليل الغمام فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أي المباركة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي وهبها الله لكم ميراثا من أبيكم إبراهيم عليه السلام. روي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك. وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام الموعد. قال ابن عباس: والأرض هي الطور وما حوله وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا إلى خلفكم أي إلى مصر خوف العدو فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) في الدين والدنيا لأنهم صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة: فإن موسى قد أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم فكان ذلك وعدا بأن الله تعالى ينصرهم على العدو، ولأن الله تعالى منعهم عن المن والسلوى ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة، ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع وكالب فإنهما سهلا

الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم وقلوب القوم الذين فيها ضعيفة، وإن كانت أجسامهم عظيمة، وأما العشرة من النقباء فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم ورفعوا أصواتهم بالبكاء. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها أي في الطور، أو أريحا أو دمشق وفلسطين كما روى كل واحد من هذه الثلاثة عن ابن عباس قَوْماً جَبَّارِينَ أي طوالا عظماء أقوياء فلا تصل أيدي قوم موسى إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها من غير صنع منافاته لا طاقة لنا بإخراجهم منها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها بسبب ليس منا فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالوا هذا على سبيل الاستبعاد قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله تعالى في مخالفة أمره ونهيه أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالهداية والثقة بعون الله والاعتماد على نصرة الله وهما يوشع بن نون وهو الذي نبىء بعد موسى وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوقنا، ختن موسى وهو بفتح اللام وكسرها. وقيل: هما رجلان من الجبابرة أسلما واجتمعا مع موسى والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف. والتقدير: قال رجلان من الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا ويشهد لهذا الوجه قراءة من قرأ «يخافون» على صيغة المبني للمفعول. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلدهم. أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي باب بلدهم فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة إلى القتال فإنا شاهدنا أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة وإنما جزم هذان الرجلان بالغلبة لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى، فلما أخبرهم موسى بأن الله تعالى أمرهم بالدخول في تلك الأرض قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جهتهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا في حصول هذا النصر لكم بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) بصحة نبوة موسى ومقرين بوجود الإله القادر مصدقين لوعده قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي أرض الجبارين أَبَداً ما دامُوا فِيها أي أرضهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إنما قالوا هذه المقالة على وجه التمرد عن الطاعة أي على وجه مخالفة أمر الله فهم فسقة فَقاتِلا هم إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) عن القتال. قالَ عليه السلام لما رأى منهم عنادا على طريق الحزن والشكوى إلى الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون أي لا أملك التصرف. ولا ينفذ أمري إلا في نفسي وأخي. وإنما قال ذلك تقليلا لمن يوافقه ويجوز أن يكون المعنى إلا نفسي ومن يواخيني في الدين فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) أي احكم لنا بما نستحقه واحكم على القوم الخارجين عن طاعتك بما يستحقونه وهو في معنى الدعاء عليهم. قالَ الله: يا موسى فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي ممنوع عليهم الدخول فيها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتحيرون في البرية. وكان طول البرية تسعين فرسخا وقد تاهوا في تسعة فراسخ عرضا في ثلاثين

فرسخا طولا، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: «بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبديّ يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا سنة» - أي كانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين- يوما «ولألقين جيفهم في هذه القفار» - أي مات أولئك العصاة فيها- «وأهلك النقباء العشرة فيها بعقوبات غليظة وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلون تلك الأرض المقدسة» اه. قال ابن عباس: وكلهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم من الشمس وكان عمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون ولا تطول شعورهم. وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون لما أن عقابهم كان بطريق التأديب. وروي أن موسى وهارون كانا معهم ولكن كان ذلك لهما راحة وسلامة كالنار لإبراهيم ولملائكة العذاب عليهم السلام وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم ومشاهدتهم لهما حال العقوبة أبلغ فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) . قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذلك فقالوا له: لم دعوت علينا؟ وندم موسى على ما عمل فأوحى الله إليه لا تأس على القوم الفاسقين فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ أي اذكر يا أكرم الخلق لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم قابيل وهابيل ملتبسا بالصدق ليعتبروا به وهذه القصة دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله سيدنا محمد أعظم النعم كان أهل الكتاب استخرجوا أنواع المكر في حقه صلّى الله عليه وسلّم حسدا منهم، فكان ذكر هذه القصة تسلية من الله تعالى لرسوله. قال محمد بن إسحاق: إن آدم كان يغشي حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولم تر دما وقت الولادة فلما هبطا إلى الأرض تغشاها، فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والصب والطلق والدم. وقال بعضهم: غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وأقليما في بطن، ثم هابيل ولبودا في بطن. فإن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية إلا شيئا فإنها وضعته مفردا عوضا عن هابيل، وجملة أولاد آدم تسعة وثلاثون في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث، ويتزوج كل من الذكور غير توأمته. وأمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل- وهي أحسن من لبودا-

فذكر ذلك آدم فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها ونحن من أولاد الجنة وهما من أولاد الأرض، فقال له آدم: إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال: إن الله لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك. فقال لهما آدم: قربا لله قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بإقليما، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها، وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع فخرجا من عند آدم ليقربا القربان، وكان قابيل قرب صبرة من قمح رديء وهابيل قرب كبشا أحسن وقصد بذلك رضا الله تعالى، فوضعا قربانهما على جبل، ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل. وقيل: رفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به إسماعيل عليه السلام إِذْ قَرَّبا أي كل منهما قُرْباناً وهو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل فأضمر لأخيه الحسد إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب فأتى قابيل لهابيل وهو في غنمه قالَ لهابيل: لَأَقْتُلَنَّكَ فقال هابيل: ولم تقتلني؟ قال قابيل: لأن الله تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي ف قالَ هابيل: وما ذنبي؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) أي إن حصول التقوى شرط في قبول القربان لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي والله لئن باشرت قتلي حسب ما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) في قتلك كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمحمد بن مسلمة: «ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» «1» . إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي أن تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. كما قاله ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي فتصير من أهل النار وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) . وروي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم فَطَوَّعَتْ لَهُ أي سهلت له نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ. قال ابن جريج: لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلم منه القتل فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر. روي عن عمرو بن خير الشعياني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير متران فأراني لمعة حمراء سائلة في الجبل فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين

_ (1) رواه أحمد في (م 5/ ص 110) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 31 إلى 40]

فَأَصْبَحَ أي صار مِنَ الْخاسِرِينَ (30) بقتله دينا ودنيا لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة، ولأن له عقابا عظيما في الآخرة، ولما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما وقيل: سنة فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يحفر الحفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه، ثم ألقاه فيها وأثار التراب عليه فتعلم قابيل ذلك من الغراب لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ واللام إما متعلقة ببعث حتما والضمير المستكن عائد إلى الله تعالى أو متعلقة ب «يبحث» أو ب «بعث» ، والضمير راجع للغراب. و «كيف» حال من ضمير «يوارى» العائد إلى قابيل كالضميرين البارزين وهو معمول ليواري، وجملته معلقة للرؤية البصرية أو العرفانية المتعدية لمفعول قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين، وحينئذ فكيف في محل المفعول الثاني سادة مسده، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. قالَ أي قابيل: يا وَيْلَتى أي يا هلاكي تعال. وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره. أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أي فأغطي جسد أخي بالتراب أي لما قتل قابيل أخاه تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن غرابا ميتا رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر أخفاه تحت الأرض أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) على حمله لهابيل على ظهره سنة لأنه لم يعلم الدفن إلا من الغراب وعلى قتله لأنه لم ينتفع بقتله ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء. فلما رأى أن الغراب دفن غرابا ميتا ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي لحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة. فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا ينفعه ذلك الندم. قيل: لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار. وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا. قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهي حصول خسارة الدين والدنيا، وحصول الندم والحسرة والحزن في القلب. والجار والمجرور متعلق ب «كتبنا» وهو ابتداء كلام فلا يوقف على اسم الإشارة فالوقف على قوله تعالى: مِنَ النَّادِمِينَ تام هذا عند جمهور المفسرين وأصحاب المعاني ويروى عن نافع أنه كان يقف على اسم الإشارة ويجعله من تمام

الكلام الأول فحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله، واسم الإشارة عائد على القتل أي من أجل أن قابيل قتل هابيل ولم يواره بالتراب. كَتَبْنا أي أوجبنا في التوراة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من بني آدم بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي أو بغير فساد يوجب إهدار الدم من كفر أو زنا أو قطع طريق. وقرأ الحسن بنصب فساد بإضمار فعل أي أو عمل فسادا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً في تعظيم أمر القتل العمد العدوان كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد. فالمقصود مشاركة الأمرين في الاستعظام وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: 93] وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ أي ومن خلص نفسا واحدة من المهلكات كالحرق والغرق، والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين. قال ابن عباس أي وجبت له الجنة بعفو عن نفس كما لو عفا عن الناس جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لَمُسْرِفُونَ (32) في القتل لا يبالون بعظمته فإنهم كانوا أشد الناس جراءة على القتل حتى كانوا يقتلون الأنبياء إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو إنما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يعملون في الأرض مفسدين بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا واحدا بعد واحد إن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياء ثم يزج بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم نصاب السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا السبل. قال أبو حنيفة: النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة. قالوا: والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها ولا يرى أحدا من أحبابه فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. وقال الشافعي: هذا النفي محمول على وجهين: الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد،

وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جميع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فإن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم هلال بن عويمر لأنهم قتلوا قوما من بني كنانة أرادوا الهجرة إلى رسول الله ليسلموا فقتلوهم وأخذوا ما كان معهم من السلب. وقيل: نزلت في قوم من عرينة وكانوا ثمانية نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما شربوا وصحوا قتلوا الراعي مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه يسار النوبي وساقوا الإبل وكانت خمسة عشر، فبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عشرين فارسا أميرهم كرز بن جابر الفهري في طلبهم فجيء بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمّرت أعينهم بأن أحمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب ضوءها، وتركوا في الحرة حتى ماتوا ذلِكَ أي الحد لَهُمْ خِزْيٌ أي هوان وفضيحة فِي الدُّنْيا إذا لم تحصل التوبة. أما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) أي أشد مما يكون في الدنيا لمن لم يتب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) أي إن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين لا يسقط. فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول وجوب القصاص بسبب هذه التوبة لا جوازه قصاصا، وإن أخذوا مالا وجب عليهم رده ولم يكن عليهم قطع اليد والرجل، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال فيسقط وجوب القتل ويجوز استيفاؤه ويجب ضمان المال. وعن علي رضي الله عنه: إن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته، ودرأ عنه العقوبة، أما إذا تاب القاطع بعد القدرة فالتوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه. وقال الشافعي رحمه الله: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته فلما تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هلا تركتموه» «1» وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى وهذا التفصيل إنما يكون للمسلم أما إن كان القاطع كافرا سقطت عنه الحدود مطلقا لأن توبته تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب: الرجم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بترك المنهيات وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بفعل المأمورات وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) نبيل مرضاته وبالفوز بكراماته. اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين: أحدهما: ترك المنهيات وهو المشار إليه بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ. وثانيهما: فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. والمراد بطلب الوسيلة إليه تعالى هو تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي وكان الانقياد لذلك من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة أردف ذلك التكليف بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة، ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ومنهم من يعبده للثواب مثلا وهو المشار إليه بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالمحبوب وتخلصون عن المكروه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لو ثبت أن لكل واحد منهم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي من أصناف أموالها وسائر منافعها قاطبة وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليجعلوا كلا منهما فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي من العذاب الواقع يومئذ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) تصريح بعدم قبول الفداء وتصوير للزوم العذاب فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه. وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت» «1» يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بتحويل حال إلى حال. وقيل: يتمنون الخروج إذا رفعهم لهب النار إلى فوق ويقصدونه. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوة النار ودفعها لهم. وقيل: يريدون الخروج بقلوبهم كما قرأ بعضهم «أن يخرجوا» بالبناء للمفعول وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ أي الكافرين خاصة دون عصاة المؤمنين عَذابٌ مُقِيمٌ (37) أي دائم لا ينقطع تارة بالبر وتارة بالحر وتارة بغيرهما. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي أيمانهما من الكوع. كما يدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» لأنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. جَزاءً بِما كَسَبا أي لجزاء فعلهما نَكالًا أي للإهانة والذم مِنَ اللَّهِ فجزاء مفعول من أجله وعامله فاقطعوا نكالا مفعول من أجله وعامله جزاء على طريقة الأحوال المتداخلة كما تقول: ضربت ابني تأديبا له، إحسانا إليه، فالتأديب علة للضرب والإحسان علة للتأديب وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 291) . [.....]

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 50]

حَكِيمٌ (38) في شرائعه وتكاليفه فَمَنْ تابَ إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ بأن يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي يقبل توبته تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) فلا يعذبه في الآخرة ولا يسقط عنه القطع بالتوبة بل يقطع على سبيل الامتحان عند الجمهور. وقيل: يسقط بها الحد. وقال الشافعي: إن عفا المستحق عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) فيقدر على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما بحسب ما تقتضيه مشيئته تعالى ونحن نعتقد أن المغفرة تابعة للمشيئة في حق غير التائب يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي لا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه المكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم. وقرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. وقرئ «يسرعون» من أسرع والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي إن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب في دين الله وفي طعن محمد صلّى الله عليه وسلّم من أحبارهم ونقله إلى عوامهم وسماع الحق منك، ونقله لأحبارهم ليحرفوه. أي فيكونوا وسائط بينك وبين قوم آخرين، والوسائط هم يهود بني قريظة كعب وأصحابه. والقوم الآخرون هم يهود خيبر فهم لا يقربون مجلسه صلّى الله عليه وسلّم لبغضهم إياه وتكبرهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يضع هؤلاء الأحبار الجلد مكان الرجم، والطعن في محمد مكان المدح في التوراة يَقُولُونَ أي المحرفون وهم القوم الآخرون للسماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل: إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة محمد هذا المحرف من جلد المحصن فَخُذُوهُ أي فاقبلوا منه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ولا تقبلوا منه. قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وهما محصنان وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوهما مع قوم منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حكمه في الزنيين. وقالوا: إن أمركم بالجلد وتسويد الوجه فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا رسول الله عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول: «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟» . قالوا: نعم. فقال: «هو أيّ

رجل فيكم؟» فقالوا: هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة. فقال: «فأرسلوا إليه» فأتاهم، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم. قال: «وأنت أعلم اليهود؟» . قال: كذلك يزعمون، فقال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون به حكما؟» قالوا: نعم. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور وأنجاكم، وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟» . قال ابن صوريا: نعم. فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فأجابه عنها، فقال ابن صوريا: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون، ثم أمر رسول الله بالزانيين فرجما عند باب مسجده وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته كفره فَلَنْ تَمْلِكَ أي تستطيع لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً على دفعها أُولئِكَ أي اليهود والمنافقون الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي ذل بالفضيحة للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين وخوفهم من قتل المسلمين إياهم والجزية والافتضاح لليهود بظهور كذبهم في كتمان التوراة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) وهو الخلود في النار سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذين كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام الذي يصل إليهم من الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسيب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية. روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم ذلالهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يخيّر في ذلك. وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدهما، وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمهما ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعا. وكذا الذمي مع المعاهدين وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي فإنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلّى الله عليه وسلّم إلا لطلب الأخف، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فلا تضره عداوتهم له فإن الله يعصمه من الناس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) أي يثيب العادلين في الحكم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ استفهام تعجيب من الله لنبيه من تحكيمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذين يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما

قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم ثم يعرضون عن حكمه صلّى الله عليه وسلّم الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، والرضا بحكمه صلّى الله عليه وسلّم فقوله تعالى: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ. وقوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة. وقوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على يُحَكِّمُونَكَ. وَما أُولئِكَ أي البعداء من الله بِالْمُؤْمِنِينَ (43) بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها ولا بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وإن طلبوا الحكم منك وذلك دليل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي بيان الأحكام والشرائع والتكاليف وَنُورٌ أي بيان للتوحيد والنبوة والمعاد يَحْكُمُ بِهَا أي انقادوا لحكم التوراة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها. وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، ولأنه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. وقال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى. فردّ الله عليهم بذلك. أي فإن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين أي منقادين لتكاليف الله تعالى. وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكمون بها فيما بين اليهود وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي ويحكم بها العلماء المجتهدون الذين انسلخوا عن الدنيا وسائر العلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب الذي استحفظوا من جهة النبيين مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو التوراة. فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل وذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها وَكانُوا عَلَيْهِ أي ذلك الكتاب شُهَداءَ أي كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وأنه من عند الله، فحقا كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ أيها اليهود وَاخْشَوْنِ أي إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين

من الناس بل كانوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة عرضا قليلا من الدنيا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) . قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بيّن الله في التوراة من نعت محمد وآية الرجم فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي ومن لم يحكم بما أنزل الله منكرا له بقلبه وجاحدا له بلسانه فقد كفر، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنه حكم بضده فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي فرضنا على نبي إسرائيل في التوراة أَنَّ النَّفْسَ مقتولة بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة كالشفتين، والذكر والأنثيين، والقدمين واليدين. فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف ففيه أرش وحكومة. قرأ الكسائي «العين والأنف والأذن والسن والجروح» كلها بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بنصب الكل غير «الجروح» فإنه بالرفع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة بنصب الكل وخبر الجميع قصاص فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص من المستحقين فَهُوَ أي التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمتصدق. يكفر الله تعالى بها ذنوبه أي إذا عفا المجروح أو ولي المقتول كان ذلك العفو كفارة للعافي كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس» «1» . وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» . وقيل: إن المجني عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني وسقط عنه ما لزمه فلا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المجني عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى، ثم القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ندما على ما فعل خوفا من الله تعالى وتوبة نصوحا، سقط حق الله تعالى بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه

_ (1) رواه البغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق (1: 27) ، والألباني في إرواء الغليل (8: 32) .

يوم القيامة عن عبده التائب، ويصلح بينه وبينه ولو سلم القاتل نفسه اختيارا من غير ندم وتوبة أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرها فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى، لأنه لا يسقطه إلا التوبة ويبقى حق المقتول أيضا ويطالبه به في الآخرة، لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبا ولم يصل منه للمقتول شيء وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) بالتقصير في حق النفس لإبقاء النفس في العقاب الشديد والتدين بترك حكم الله نهاية الظلم وهو الكفر لإنكار نعمة الله تعالى وجحدها وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي أتبعنا على آثار النبيين الذين يحكمون بالتوراة بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبل عيسى مما أتى به موسى مِنَ التَّوْراةِ ومعنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى وأقر بأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد وعلى النبوة وعلى المعاد وَنُورٌ لأنه بيان للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي قبل الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ وهذا المنصوب معطوف على محل فيه هدى وهو النصب على الحال، أي موافقا لما في التوراة من أصول الدين ومن بعض الشرائع ومن كون الإنجيل مبشرا بمبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُدىً لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو سبب لاهتداء الناس إلى النبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهذه المسألة أشد المسائل احتياجا إلى البيان فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) لاشتماله على النصائح والزواجر وإنما خص الموعظة بالمتقين لأنهم الذين ينتفعون بها وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الأحكام التي لم تنسخ بالقرآن فإن الحكم بالأحكام المنسوخة ليس حكما بما أنزل الله فيه بل هو تعطيل له إذ هو شاهد بنسخها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها. وقرأ حمزة «وليحكم» بكسر اللام ونصب الفعل بأن مضمرة بعد لام كي وهو متعلق بمقدر. أي وآتيناه الإنجيل ليحكموا به. وقرأ الباقون «وليحكم» بسكون اللام وجزم الفعل بلام الأمر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) أي الخارجون عن الإيمان إن كان مستهينا به وعن طاعة الله إن كان لاتباع الشهوات وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالصدق والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أو من فاعل أنزلنا أو من الكاف في إليك مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لم تقدمه مِنَ الْكِتابِ أي من كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي شاهدا على الكتب كلها، لأن القرآن هو الذي لا ينسخ ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على سائر الكتب بالصدق باقية.

وقرأ ابن محيصن ومجاهد «مهيمنا» بفتح الميم الثانية، فإن القرآن يصان عن التحريف والتبديل والحافظ هو الله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فإن ما أنزل الله إليك وهو القرآن مشتمل على جميع الأحكام الشرعية وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ و «عن» متعلقة «بلا تتبع» على تضمين معنى تتزحزح ونحوه أي لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل واحد من الأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى، وأمة محمد جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وهي العبادة التي أمر الله بها عباده، ومنهاجا أي طريقا واضحا يؤدي إلى الشريعة، فالتوراة شريعة للأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى. والإنجيل شريعة من مبعث عيسى إلى مبعث سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقرآن شريعة للموجودين من سائر المخلوقات في زمنه صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ليس إلا والدين واحد وهو التوحيد وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل. أو المعنى لجعلكم ذوي أمة واحدة أي دين واحد وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ولكن لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة بل شاء أن يختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة. هل تعملون بها منقادين لله معتقدين أن اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا يا أمة محمد إلى ما هو خير لكم في الدارين وابتدروه انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) في الدنيا من أمر الدين أي فيخبركم بما لا تشكون فيه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والموفى والمقصر في العمل فإن الأمر سوف يرجع إلى ما يحصل معه اليقين، وذلك عنده مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وهذه الجملة معطوفة على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم وذكر إنزال الحكم لتأكيد وجوب امتثال الأمر، أو على قوله بالحق أي أنزلنا إليك الكتاب بالحق وبالحكم وذكر إنزال الأمر بالحكم بعد الأمر الصريح به تأكيد للأمر وتفريش لما بعده، ولأن الآيتين حكمان أمر الله بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه صلّى الله عليه وسلّم في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في عدم الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يميلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ويردوك إلى أهوائهم وكان بنو النضير إذا قتلوا من قريظة أدوا إليهم نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، ويقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة فما لهم يخالفون.

[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 60]

قال ابن عباس: إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا، وشاش بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه، أي نصرفه عن دينه فأتوه صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك فأتى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى: أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل اشتمال من المفعول أي واحذرهم فتنتهم أو مضاف إليه لمفعول من أجله أي احذرهم مخافة أن يفتنوك أي يصرفوك عن الحق ويلقوك في الباطل فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي أن يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والسبي فالقوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وذلك كاف في إهلاكهم وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أهل الكتاب وغيرهم لَفاسِقُونَ (49) أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي برفع «حكم» على أنه مبتدأ. وقرأ قتادة «أبحكم» بالباء الجارة بدل الفاء. وقرئ «فحكم» بفتح الفاء والكاف. أي أفيطلبون حاكما كحكام الجاهلية. وهي إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام. وإما أهل الجاهلية. قال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا واحدا منهم أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جروحاتهم فاقص بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أحكم أن دم القرظي كدم النضيري ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة» . فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك عدوّ لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. روي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين: لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر. فنزلت هذه الآية. وقال السدي لما كانت واقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن تدال علينا اليهود.

وقال رجل آخر: أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا فأنزل الله هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه، أي إنه يقتلكم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض كل فريق من ذينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي فهو من أهل دينهم فإنه لا يوالي أحد أحدا إلا وهو عنه راض فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل دينه. وهذا على سبيل المبالغة في الزجر عن إظهار صور الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة، أو لأن الموالين كانوا منافقين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) بموالاة الكفار. روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال مالك: قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا أما سمعت قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قلت له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام. والمعنى اجعله في ظنك أنه قد مات فما تعمل بعد موته؟ أي فاعمله الآن ميتا واستغن عنه بغيره فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بالنفاق ورخاوة العقل في الدين كعبد الله بن أبي وأصحابه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موادة يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة يقرضونهم ويعينونهم على مهماتهم يَقُولُونَ معتذرين عنها إلى المؤمنين نَخْشى أي نخاف خوفا شديدا أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الدهر كالهزيمة والحوادث المخوفة وتكون الدولة للكفار وتقال الدائرة في المكروه كالجدب والقحط. وتقال الدولة في المحبوب. وقال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول الله على أعدائه وللمسلمين على أعدائهم وبإظهار الدين أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ بقطع أصل اليهود وبإخراجهم عن بلادهم. و «عسى» بمنزلة الوعد وهو من الله تعالى واجب فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) أي فيصير هؤلاء المنافقون نادمين على ما حدّثوا به أنفسهم من أن الدولة أي الغلبة لأعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم كانوا يشكّون في أمر الرسول ويقولون: لا نظن أنه يتم له أمره وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا. قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع مع إثبات الواو كما في مصاحف أهل العراق على الاستئناف. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالرفع مع حذف الواو كما في مصاحف أهل الحجاز والشام. على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في جواب سؤال نشأ من قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ كأن القائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.

وقرأ أبو عمرو بالنصب مع الواو عطفا على «يصبحوا» لا على «يأتي» لأن ذلك القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط. والمعنى يقول المؤمنون مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يولونهم ويرجون دولتهم عند مشاهدتهم لانعكاس رجائهم تعريضا بالمخاطبين أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي غاية أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ بالمعونة فإن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أو المعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض مشيرين للمنافقين متعجبين من حالهم متبجحين بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان عند مشاهدتهم لإظهارهم الميل إلى موالاة اليهود والنصارى أنهم كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم معنا في ديننا في السر ومن أنصارنا فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم، وهذا أنسب لقراءة الرفع مع إثبات الواو على الاستئناف، أما المعنى الأول فهو أنسب لقراءة النصب ولقراءة الرفع مع حذف الواو، ولقراءة الرفع مع الواو بجعل عطف جملة على جملة والله أعلم. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطل ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) في الدنيا والآخرة فاستحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. قرأ ابن عامر ونافع «يرتدد» بدالين من غير إدغام وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها. روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشر فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الأولى: بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار- ويلقب بالأسود- كان له حمار يقول له: قف، فيقف! وسر، فيسير! وكانت نساء أصحابه يتعطرن بروث حماره وكان كاهنا ادعى النبوة. فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن وأمرهم بالنهوض إلى حراب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه. والثانية: بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما توفي بعث أبو بكر خالد بن الوليد في جيش كبير وقتل على يد وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه. والثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد ادّعى النبوة فبعث أبو بكر خالدا فهزمهم وأفلت طليحة فهرب نحو الشام، ثم أسلم أيام عمر وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر. الأولى: فزارة قوم عيينة بن حصن. والثانية: غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري. والثالثة: بنو سليم قوم الفجأة بن عبد ياليل.

والرابعة: بنو يربوع قوم مالك بن نويرة. والخامسة: بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وهي ادّعت النبوة وزوجت نفسها لمسيلمة الكذاب. والسادسة: كندة قوم الأشعث بن قيس: والسابعة: بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر وهي: غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف، فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فاشتكى الرجل إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه. فقال: أنا أشتريها بألف، فأبى الرجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره، فهرب جبلة إلى الروم وارتد، والمراد بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ كما قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. ومعنى يُحِبُّهُمْ أي يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى وَيُحِبُّونَهُ أي يطيعون لأوامره تعالى ونواهيه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي عاطفين عليهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي شداد عليهم كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» «1» . وكان أبو بكر في أول الأمر حين كان رسول الله في مكة يذب عنه ويلازمه ويخدمه، ولا يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي وقت خلافته كان يبعث العسكر إلى المرتدين وإلى مانعي الزكاة حتى انهزموا وجعل الله ذلك مبدأ لدولة الإسلام يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة دين الله وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فالواو للحال أي بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، فمن كان قويا في الدين فلا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه ولومة لائم وهذا الجهاد مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر في الجهاد أتم، لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار في أول البعث. وفي ذلك الوقت كان الإسلام في غاية الضعف والكفر في غاية القوة وكان يجاهد الكفار ويذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغاية وسعه. وأما علي فإنه كان جهاده في بدر وأحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي لوجهين: لتقدمه على جهاد علي في الزمان ولأنه كان وقت ضعف الإسلام ذلِكَ أي وصف القوم بالمحبة والشفقة والقوة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أي كامل القدرة فلا يعجز عن هذا

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 281) ، وابن ماجة في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله.

الموعود عَلِيمٌ (54) أي كامل العلم فيمتنع دخول الحق في أخباره ومواعيده إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ أي إنما ناصركم ومؤنسكم الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) أي منقادون لجميع أوامر الله ونواهيه. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود، وقال: أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. وقال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل. فنزلت هذه الآية فقرأها النّبيّ عليه فقال: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء. والمراد بالمؤمنين المذكورين عامة المؤمنين. والمراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين. وقيل: المراد أبو بكر. وقيل: علي لما روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) أي ومن يتخذهم أولياء في النصرة فإنهم جند الله وجند الله هم الغالبون على أعدائهم بالحجة فإنها مستمرة أبدا، أما بالصولة والدولة فقد يغلبون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً أي سخرية وَلَعِباً أي ضحكة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي اليهود والنصارى وَالْكُفَّارَ أي المشركين كعبدة الأوثان أَوْلِياءَ في العون. والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أحبابا وأنصارا فإن ذلك كالأمر الخارج عن العقل والمروءة. روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإيمان ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» بالجر ويعضده قراءة أبي «ومن الكفار» . وقراءة عبد الله «ومن الّذين أشركوا» فهم من جملة المستهزئين أيضا بخلاف قراءة الباقين بالنصب فلا يفيد أنهم منهم وإنما يستفاد ذلك من آية أخرى وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) أي حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء بلا شك وَأولئك الذين اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا هم الذين إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ بالآذان والإقامة اتَّخَذُوها أي الصلاة والمناداة هُزُواً وَلَعِباً أي لما اعتدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا: إنها لعب. روى الطبراني أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله. وقيل: كان المنافقون من اليهود يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.

وقيل: إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الآذان دخلوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى! فإن كنت نبيا فقد خالفت الأنبياء قبلك فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر فأنزل الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: 33] الآية. وأنزل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية وقد دلّت هذه الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب العزيز لا بمنام الصحابة وحده وجملة وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها من الشرط، والجواب: صلة ثانية للموصول المجرور بمن البيانية وفي الحقيقة إن قوله: اتَّخَذُوها معطوف على أُوتُوا وإن قوله: إِذا نادَيْتُمْ ظرف له كأنه قيل: ومن الذين اتخذوها هزوا ولعبا وقت أذانكم والله أعلم. ذلِكَ أي الاستهزاء المذكور بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن خدمة الخالق المنعم بغاية التعظيم لا تكون مهزوءا بها فإنه أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام. قُلْ بل أشرف الخلق لليهود: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ أي ما تكرهون من أحوالنا إلا الإيمان بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي بما أنزل من قبل إنزال القرآن من التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) . وقرأ الجمهور «أن» بفتح الهمزة أي وما تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بما ذكر واعتقادنا بأن أكثركم خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه بلا شك. وقرأ نعيم بن ميسرة «إن» بالكسر على الاستئناف قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي مما قلتم لمحمد وأصحابه. روي أنه أتى نفر من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه عن دينه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا- إلى قوله- ونحن مسلمون» فحين سمعوا منه صلّى الله عليه وسلّم ذكر عيسى عليه السلام قالوا: لا نعلم شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية أي هل أخبركم بما هو شر مما تعتقدونه شرا. مَثُوبَةً أي عقوبة عِنْدَ اللَّهِ ف «مثوبة» تمييز ل «شر» بمعنى عقوبة للتهكم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ف «من» موصولة بدل من «شر» أي من أبعده الله من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ أي سخط عليهم بانهماكهم بعد سنوح البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ في زمن داود عليه السلام وهم أصحاب السبت وَالْخَنازِيرَ في زمن عيسى عليه السلام بعد أكلهم من المائدة فكفروا. وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي من أطاع أحدا في معصية الله كالكهنة وهو معطوف على صلة من كقراءة أبي و «عبدوا الطاغوت» كما أفصح عن ذلك قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطاغوت» ، وكقراءة الأعمش والنخعي وعبد مبنيا للمفعول. وكذا على قراءة عبد بفتح العين

[سورة المائدة (5) : الآيات 61 إلى 70]

وضم الباء على وزن كرم أي صار الطاغوت معبودا من دون الله تعالى ورفع الطاغوت على هاتين القراءتين فالراجع إلى الموصول محذوف فيها أي عبد الطاغوت فيهم أو بينهم. وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال، وجر الطاغوت وهو مفرد يراد به الكثرة أي بالغ الغاية في طاعة الشيطان وهو معطوف على القردة كقراءة عابد الطاغوت، وعابدي، وعبادة، وعبيد، وعبد بضمتين، وعبدة بوزن كفرة وعبد بفتحتين جمع عابد كخدم جمع خادم وقرئ وعبد الطاغوت بجر عبد عطفا على من بناء على أنه مجرور على أنه بدل من شر والسبعية اثنتان. أولاهما: عبد الطاغوت على أن عبد فعل ماض مبني للفاعل وفيه ضمير عائد على من وهذه قراءة غير حمزة. وثانيهما: قراءته وغيرهما قراءات شاذة أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شرا منه. أو المعنى أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير العابدون الطاغوت شر مكانا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذميمة وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) أي أكثرهم ضلالا عن الطريق المستقيم. قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره الله تعالى بشأنهم أنهم يخرجون من مجلسك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء مما سمعوا منك من نصائحك وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) من الكفر وغرضهم من هذا النفاق المبالغة فيما في قلوبهم من الجلد في المكر بالمسلمين والعداوة لهم وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي الكذب وكلمة الشرك وَالْعُدْوانِ أي الظلم على الناس وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام كالرشا لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) أي لبئس شيئا كانوا يعملونه عملهم هذا لَوْلا أي هلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي العباد وَالْأَحْبارُ أي العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) أي لبئس شيئا كانوا يصنعونه تركهم للنهي عن ذلك، والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا. فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأن ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية، لأن النفس تلتذ بها لأنها مرض الروح وهو صعب شديد لا يكاد يزول ولا كذلك ترك الإنكار عليها

فيدخل في هذا الذم كل من كان قادرا على النهي عن المنكر من العلماء وغيرهم وتركه، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية أشد آية في القرآن. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم وَقالَتِ الْيَهُودُ. قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: إن الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا فلما بعث الله محمدا وكذبوا به ضيّق الله عليهم المعيشة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء وأخرج الطبراني عن ابن عباس: أنه قال النباش بن قيس: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وهذه الكلمات دعاء عليهم. والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] ، وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: 10] وعلى أبي لهب في قوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] فحينئذ يكون المعنى دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وبغل الأيدي حقيقة بأن يغلوا في الدنيا أسارى وتشد أيديهم إلى أعناقهم في نار جهنم، ويسحبوا إلى النار بأغلالها وقوله: ولعنوا بما قالوا أي عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار بسبب قولهم ذلك بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر، أي ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود، وأيضا إن المراد بالتثنية المبالغة في وصف النعمة، فالمعنى أن نعمة الله متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة. وقيل: التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة. وقيل: على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا. فقيل: نعمتاه تعالى: نعمة الدين، ونعمة الدنيا. أو نعمة الباطن ونعمة الظاهر. أو نعمة النفع، ونعمة الدفع. أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي يرزق خلقه كائنا على أي حال يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أي والله ليزيدن القرآن علماء اليهود غلوا في الإنكار وشدة في الكفر إذ كلما نزلت آية كفروا بها كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم فإن اليهود فرق فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية، وبعضهم مرجئة، وبعضهم مشبهة، وكذا النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والماردانية كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما هموا بمحاربة أحد رجعوا خائبين مقهورين وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم

فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وكلما أرادوا محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورتبوا أسبابها وركبوا في ذلك متن كل صعب ردهم الله تعالى وقهرهم وذلك لعدم ائتلافهم وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي ويجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الفتنة بينهم وفي تعويق الناس عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) أي والله يعاقب المفسدين في الأرض كاليهود وغيرهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي أن اليهود والنصارى آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بما جاء به وَاتَّقَوْا مخالفة كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) فالكتابي لا يدخل الجنة ولا يرفع عنه العقاب ما لم يسلم والإسلام يجب ما قبله وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من الكتب ككتاب شعياء وكتاب حيقوق، وكتاب دانيال، وكتاب أرمياء، وزبور داود لأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وأيضا في هذه الكتب ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وهذه مبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا. والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا. وقيل: من نزول القطر ومن حصول النبات. وقيل: من الأشجار المثمرة ومن الزروع المغلة. وقيل: المراد أن يرزقهم الله الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم هذا في القائلين: يد الله مغلولة الذين ضيق عليهم عقوبة لهم مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة معتدلة. وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وبحيرا الراهب وأصحابه، والنجاشي وأصحابه، وسلمان الفارسي وأصحابه وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) من العناد وتحريف الحق والإفراط في العداوة وكتمان صفة محمد ككعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وسعيد بن عمرو، وأبي ياسر، وجدي بن أخطب يا أَيُّهَا الرَّسُولُ أي يا محمد بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من غير مبالاة باليهود والنصارى ومن غير خوف من أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي رسالة ربك. وقرأ ابن عامر ونافع وشعبة رسالاته بجمع تأنيث سالم. وقرئ فما بلغت رسالاتي وهذا تنبيه على غاية التهديد وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أي الكفار أي يؤمنك من مكر اليهود والنصارى من قتلهم. وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من

الناس» «1» . إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) أي إنه تعالى لا يمكّنهم مما يريدون بك من القتل. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلّق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «الله» «2» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين ولا في أيديكم من الصواب حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تحافظوا على ما فيهما من دلائل رسالة الرسول وشواهد نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك. وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي حتى تراعوا على ما في القرآن بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تحصل بغير ذلك وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن طُغْياناً أي تماديا في الجحود وَكُفْراً أي ثباتا على الكفر فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) أي لا تتأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم ولا بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا بموسى وبجملة الأنبياء والكتب وماتوا على ذلك فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في اليهودية وَالصَّابِئُونَ هم قوم من النصارى وهم ألين قولا من النصارى وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ من هؤلاء الثلاثة بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي خالصا فيما بينه وبين ربه وتاب اليهودي من اليهودية، والصابئ من الصابئة، والنصارى من النصرانية فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذا ذبح الموت وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) إذا أطبقت النار، فقوله: وَالَّذِينَ هادُوا مبتدأ «قالوا» ولعطف الجمل أو للاستئناف. وقوله: وَالصَّابِئُونَ عطف على هذا المبتدأ كقوله: وَالنَّصارى وقوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إلخ خبر عن هذه المبتدءات الثلاثة. وقوله: مَنْ آمَنَ بدل بعض من هذه الثلاثة فهو مخصص. فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر بشرط الإيمان بما ذكر وقوله: إِنَّ الَّذِينَ خبر إن محذوف دل عليه المذكور من خبر هذه الثلاثة. وقرئ «والصابئين» ، وقرئ «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» «وهم من صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الأحكام المكتوبة عليهم في التوراة وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوى عدد كثير ليقرروهم على مراعاة حقوق الميثاق كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي من الشرائع، ومشاق التكليف عصوه وعادوه فَرِيقاً كَذَّبُوا أي فريقا من الرسل كذبوهم كعيسى وموسى ومحمد

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 5. (2) رواه أحمد في (م 3/ ص 365) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 71 إلى 80]

صلوات الله عليهم وَفَرِيقاً منهم يَقْتُلُونَ (70) كزكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا أيضا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام فإنهم كذبوه في كل مقام، وتمردوا على أوامره لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر ومحافظة للفاصلة وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يوحّد بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم لأنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله لأنهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب فَعَمُوا عن الهدى وَصَمُّوا عن الحق فخالفوا أحكام التوراة فقتلوا شعياء وحبسوا أرمياء عليهما السلام فسلط الله تعالى عليهم بختنصر عامل لهراسب على بابل، فاستولى على بيت المقدس، فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة، وذهب بالبقية إلى أرضه، فبقوا هناك دهرا طويلا على أقصى الذل إلى أن أحدثوا توبة صحيحة ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا فوجه الله تعالى ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره، ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختنصر وردّهم إلى وطنهم، وتراجع من تفرّق منهم في الأكناف فعمره ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه. وقيل: لما ورث بهمن الملك من جده ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردّهم إلى الشام، وملّك عليهم دانيال عليه السلام، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فعادوا إلى الفساد واجترءوا على قتل زكريا ويحيى، وقصدوا قتل عيسى فبعث الله تعالى عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود ففعل بهم ما فعل. قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان لم يقبل منا، فقال: ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم، ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام، فقال: بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم. ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحدا منهم فهدأ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) أي وإن دق فيجازيهم به وفق أعمالهم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. قيل: هم الملكانية والمار يعقوبية منهم القائلون بالاتحاد. وقيل: هم اليعقوبية خاصة لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حلّ في

ذات عيسى واتحد بذات عيسى. وَقالَ الْمَسِيحُ أي والحال قد قال المسيح مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي وحدوا الله في العبادة خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي فقد منعه الله من دخولها وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها هي المعدة للمشركين وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) أي وما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة. فقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ إلى آخر الآية وارد من جهته تعالى لتأكيد مقالة عيسى عليه السلام ولتقرير مضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهم النسطورية والمرقوسية. وفي تفسير قولهم طريقان: الأولى: قال بعض المفسرين: إنهم أرادوا بذلك إن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. فمعنى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة، فكل واحد من هؤلاء إله لأنهم يقولون: إن الآلهة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة. قال الواحدي: ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم اه. كما قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» «1» . والثانية: حكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: إن الإله جوهر واحد مركب من ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس. فهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب: الذات. وبالابن: الكلمة. وبالروح: الحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن واختلاط الماء بالخمر وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد، أو المعنى وما من إله لأهل السموات والأرض إلا إله لا ولد له ولا شريك له فهو إله واحد بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي من هاتين المقالتين وما قرب منهما لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي ليصيبن الذين أقاموا على هذا الدين عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أي شديد الألم أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله عن تلك المقالة والعقيدة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول. أو المعنى أيسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقب سماع تلك القوارع الهائلة؟ وَاللَّهُ غَفُورٌ

_ (1) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 1، وأحمد في (م 1/ ص 4) .

لمن تاب وآمن رَحِيمٌ (74) لمن مات على التوبة مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين مضوا من قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فليس بإله كالرسل الخالية قبله فإنهم لم يكونوا آلهة فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يد عيسى عليه السلام، فقد فلق البحر وأحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام وهو أعجب منه، وإن كان الله خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب منه وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه إلا صديقة أي تلازم الصدق وتصدق الأنبياء وتبالغ في بعدها عن المعاصي وفي إقامة مراسم العبودية كسائر النساء اللاتي يلازمن الاتصاف بذلك فما رتبة عيسى إلا رتبة نبي، وما رتبة أمه إلا رتبة صحابي فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواص الناس؟ فإن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية وذلك لا يستلزم لهما الألوهية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كسائر أفراد البشر. انْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أي العلامات بأن عيسى ومريم لم يكونا بإلهين وببطلان ما تقولوا عليهما ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) أي كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها فالله بيّن لهم الآيات بيانا عجبا وإعراضهم عنها أعجب منها قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وهو عيسى عليه السلام فإن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟ فلو كان كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى! ومن كان كذلك كان محتاجا إليه في تحصيل المنافع ودفع المضار ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم؟ وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) . والمراد من هذه الجملة التهديد أي سميع بكفرهم ولمقالتهم في عيسى وأمه عليم بضمائرهم وبعقوبتهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا تتجاوزوا الحد في دينكم تجاوزا باطلا فإن الغلو في الدين نوعان: غلو حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه وتقريرها كما يفعله المتكلمون وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه ويتجاوز الحق ويعرض عن الأدلة وذلك الغلو هو رفع النصارى لعيسى فقالوا: إنه إله وخفص اليهود له فقالوا: إنه ابن زنا وإنه كذاب وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أي لا تتبعوا مذاهب قوم قد ضلوا من قبلكم عن التوراة والإنجيل وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس بتماديهم في الباطل وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) أي عن الدين الحق وعن القرآن بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعن الله تعالى اليهود في الزبور والنصارى في الإنجيل عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فاليهود لعنوا على لسان

[سورة المائدة (5) : الآيات 81 إلى 90]

داود، والنصارى لعنوا على لسان عيسى، والفريقان من بني إسرائيل وهم أصحاب السبت وأصحاب المائدة. أما أصحاب السبت فهم قوم داود وذلك أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان دعا عليهم داود عليه السلام وقال: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخهم الله قردة. وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة وادخروا ولم يؤمنوا، قال عيسى عليه السلام: اللهم عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) أي ذلك اللعن الفظيع بسبب عصيانهم ومبالغتهم في العصيان كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي كانوا لا يمتنعون عن معاودة منكر فعلوه ولا يتركونه ولا يصدر من بعضهم نهي لبعض عن منكر أرادوا فعله. روى ابن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثّر سواد قوم فهو منهم» «1» . لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلونه فعلهم هذا وهو ترك الإصرار على منكر فعلوه وترك النهي عنه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي تبصر كثيرا من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يصادقون كفار أهل مكة أبا سفيان وأصحابه بغضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، أي فإن كعبا وأضرابه خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لبئس شيئا قدموا من موالاتهم لعبدة الأوثان لزاد معادهم موجب سخطه تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) أي وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم وَلَوْ كانُوا أي أهل الكتاب الذين يوالون المشركين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم وهو موسى وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة كما يدعون مَا اتَّخَذُوهُمْ أي ما اتخذ اليهود المشركين أَوْلِياءَ لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة في شرع موسى عليه السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى بل مرادهم الرياسة فيسعون في تحصيله بأيّ طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما البعض منهم فقد آمن وفي هذه الآية وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن ليس في

_ (1) رواه ابن حجر في المطالب العالية (1605) ، والزيلعي في نصب الراية (4: 346) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6: 128) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (24735) ، والعجلوني في كشف الخفاء (2: 378) .

الكلام ما يدفعه لَتَجِدَنَّ يا أكرم الخلق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله» «1» . وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى فليس مذهبهم ذلك بل الإيذاء حرام في دينهم فهذا وجه التفاوت وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم وَلَتَجِدَنَّ يا أشرف الخلق أَقْرَبَهُمْ أي الناس مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود للأشعار بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهودا فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهود بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل أو لتحركهم في دراستهم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ أي علماء وَرُهْباناً أي عبادا أصحاب الصوامع وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) عن قبول الحق إذا فهموه كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة وَأنهم إِذا سَمِعُوا أي القسيسون والرهبان الذين آمنوا منهم ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض أي تسيل مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم أو مما عرفوا بعض الحق الذي هو القرآن. روي أن قريشا تشاورت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من آمن منهم، فآذوهم وعذبوهم، ومنع الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نزل بأصحابه أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا» . فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب

_ (1) رواه العجلوني في كشف الخفاء (2: 266) .

وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان، فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار. قال كفار قريش: إن ثاركم بأرض الحبشة فاهدوا إلى النجاشي واسمه أصحمة وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم فدخلا إليه فقالا له: أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل زعم أنه نبي وهو قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نخبرك خبرهم وأن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا: يستأذن أولياء الله. فقال: ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله. فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أيها الملك ألا ترى أنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذه العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال: هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا: نعم. قال: اقرءوا. فقرأ جعفر سورة مريم وهناك قسيسون ورهابين وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر الطيار من القراءة، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون. فرجع عمرو ومن معه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن علا أمر رسول الله وقهر أعداءه في سنة ست من الهجرة وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي إليها جارية اسمها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسرت أم حبيبة بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوجها فأنفذ النجاشي إليها أربعمائة دينار صداقها على يد أبرهة، وقالت أبرهة: قد صدقت بمحمد وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام، قالت: نعم وقالت: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلت عليه فقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك فرد الرسول عليها السلام ووافى جعفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر ومع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة، وثمانية نفر من رهبان الشام: بحيرا الراهب وأصحابه أبرهة وأشرف وإدريس، وتميم وتمام ودريد وأيمن وكلهم من أصحاب النجاشي، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا وأسلموا. وقالوا: ما أشبه هذا بما

كان ينزل على عيسى عليه السلام يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بما سمعنا مما أنزل على رسولك وشهدنا أنه حق فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) أي فاجعلنا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين آمنوا فلما لامهم قومهم بالإسلام فقالوا تحقيقا لإيمانهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وجملة قوله تعالى: لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في «لنا» وجملة «لا نطمع» حال ثانية منه بتقدير مبتدأ. أي أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله وبما جاءنا من القرآن والرسول ونحن نطمع في صحبة الصالحين ويجوز أن يكون قوله: وَنَطْمَعُ حالا من الضمير في لا نُؤْمِنُ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي جعل الله ثوابهم على قولهم: ربنا آمنا مع إخلاص النية ومعرفة الحق، أو بسبب ما سألوا بقولهم: فاكتبنا مع الشاهدين كما رواه عطاء عن ابن عباس. وقرئ فآتاهم الله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ أي الجنات جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) بالإيمان. أو المعنى جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور. روي أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) أي ملازمون لها لا ينفكون عنها دون غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم، ولا تظهروا باللسان تحريمه، ولا تجتنبوا الطيبات اجتنابا شبيه الاجتناب من المحرمات، ولا تلتزموا تحريم الطيبات بنذر أو يمين وَلا تَعْتَدُوا أي لا تسرفوا في تناول الطيبات ولا تتجاوزوا أمر الله بقطع المذاكير إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) من الحلال إلى الحرام كالمثلة فمن اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر، أما ترك لذات الدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة مأمور بها. نزلت هذه الآية في عشرة نفر من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو بكر الصديق، وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود، وعثمان بن مظعون الجمحي، ومقداد بن الأسود الكندي، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر وذلك لما وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة لأصحابه يوما فبالغ الكلام في الإنذار فبكوا واجتمع هؤلاء العشرة في بيت عثمان بن مظعون وتشاوروا واتفقوا على عزمهم أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «إني لم أومر بذلك» ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم

والدسم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . وروي أن عثمان بن مظعون أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ائذن لي في الاختصاء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من خصي ولا من اختصي. إن خصاء أمتي الصيام» . فقال يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة» «2» وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا بعض رزقكم من الله الذي يكون حلالا مستلذا واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) في تحريم ما أحل الله لكم وفي المثلة لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قد تقدم أن قوما من الصحابة حرموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك على ظن أنه قربة، فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان بالقصد إذا حنثتم. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «عقّدتم» بتشديد القاف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «عقدتم» بتخفيف القاف. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر «عاقدتم» بالألف والتخفيف فَكَفَّارَتُهُ أي فكفارة نكث الأيمان التي ليست بلغو إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ في قدر الطعام وهو ثلثا منّ لكل مسكين فإن الإنسان قد يكون قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد، وقد يكون كثير الأكل فلا يكفيه المنوان والمتوسط الغالب يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا أو خبزا فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف في قوت اليوم الواحد أَوْ كِسْوَتُهُمْ بأقل ما يطلق عليه اسم الكسوة كإزار أو رداء، وقميص أو سراويل أو عمامة لكل مسكين ثوب واحد أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وتقديم الإطعام على العتق لأن المقصود تنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير بين هذه الثلاثة، ولأن الإطعام أسهل لكون الطعام أعم وجودا ولأن الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من هذه الثلاثة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ولو متفرقة لما روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أيام من رمضان: أفأقضيها متفرقات فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟» قال: بلى:

_ (1) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم في كتاب النكاح باب: 5، والنسائي في كتاب النكاح، باب: النهي عن التبتل، والدارمي في كتاب النكاح باب: النهي عن التبتل، وأحمد في (م 2/ ص 158) . (2) رواه أحمد في (م 2/ ص 173) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 91 إلى 100]

قال: «فالله أحق أن يعفو ويصفح» «1» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي قللوا الأيمان وضنوا بها كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين لحكم الأيمان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي أعلام شريعته لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) نعمته فيما يعلمكم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ أي المسكر وَالْمَيْسِرُ أي القمار وَالْأَنْصابُ أي الأصنام التي نصبها المشركون ويعبدونها وَالْأَزْلامُ سهام مكتوب عليها خير وشر رِجْسٌ أي قذر تعاف عنه العقول عنه العقول مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من الأمور التي يزينها للنفس فَاجْتَنِبُوهُ أي الرجس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) أي لكي تنجوا من العذاب إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ إذا صرتم نشاوى كما فعل الأنصاري الذي شجّ رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل وَالْمَيْسِرِ إذا ذهب مالكم وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ لأن شرب الخمر يورث اللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت فيها غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الشخص إذا كان غالبا في القمار صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) أي قد بينت لكم مفاسد الخمر والميسر فهل تنتهون عنهما أم أنتم مقيمون عليهما كأنكم لم توعظوا بهذه المواعظ؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر وَاحْذَرُوا عن مخالفتهما في التكاليف فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن طاعتهما وعن الاحتراز عن مخالفتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) أي فالحجة قامت عليكم والعلل انقطعت لأن الرسول قد خرج عن عهدة التبليغ كمال الخروج، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب وهذا تهديد شديد لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم فِيما طَعِمُوا من الخمر ومن مال اللعب بالملاهي إِذا مَا اتَّقَوْا أن يكون في ذلك الشيء من المحرمات أي إذا عملوا الاتقاء وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة ثُمَّ اتَّقَوْا ما حرم عليهم بعد ذلك وَآمَنُوا بتحريمه ثُمَّ اتَّقَوْا أي استمروا على اتقاء المعاصي وَأَحْسَنُوا أي اتجروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) . روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة: إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم؟ فنزلت هذه الآية. وروى أبو بكر الأصم: أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها؟ فأنزل الله هذه الآيات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليختبرن الله طاعتكم من معصيتكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي من صيد البر تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ.

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 212) .

قال مقاتل بن حبان: ابتلاهم الله بصيد البر وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذ الطير بالأيدي، والوحش بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم من يخافه حال كون الله تعالى غير مرئي له غائبا عن رؤيته أو يخافه بإخلاص القلب فيترك الصيد فَمَنِ اعْتَدى بالتعرض للصيد بَعْدَ ذلِكَ أي بعد بيان أن ما وقع من الصيد ابتلاء من عند الله تعالى لتمييز المطيع من العاصي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) وهو العذاب في الآخرة والتعزير في الدنيا. قال ابن عباس: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. ولما قتل أبو اليسر بن عمرو صيدا متعمدا بقتله ناسيا لإحرامه أنزل الله تعالى قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون أو داخلون في الحرم وَمَنْ قَتَلَهُ أي الصيد مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً أي بقتله مع نسيان الإحرام كما قاله مجاهد والحسن فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي شبهه في الخلقة والتقييد بالتعمد، لأن الآية نزلت في المتعمد حيث قتل أبو اليسر حمار وحش وهو محرم عمدا ولأن الأصل فعل المتعمد، والخطأ ملحق بالعمد فيستوي في محظورات الإحرام العمد والخطأ في جزاء الإتلافات يَحْكُمُ بِهِ أي بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان صالحان من أهل دينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من النعم فيحكمان به. قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا. فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي ابن كعب فقال الأعرابي: أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: وما أنكرت من ذلك، قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به. وعن قبيصة بن جابر أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات، فسأل عمر بن الخطاب وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، فقال: اذهب فاهد شاة، قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت له: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف وقد حكم ابن عباس وعمر وغيرهما بشاة في الحمام وهو كل ما عب وهدر من الطير كالقمري والدبسي هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ فهديا منصوب على التمييز والمعنى يحكمان بالمثل هديا يساق إلى الكعبة أي إلى أرض الحرم فينحر هناك أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ فقوله كفارة عطف على قوله فجزاء أي فعليه جزاء أو كفارة إلخ أو عطف على محل قوله من النعم وقوله: طعام مساكين عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ أي أو مثل ذلك الطعام صِياماً فقوله: أو عدل عطف على طعام إلخ كأنه قيل: فعليه جزاء

مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين، أو صيام أيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثالث فيختار الجاني كلا من هذه الثلاثة لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي جزاء ذنبه. والوبال في اللغة الثقل، وإنما سمى الله ذلك وبالا لأن أحد هذه الثلاثة ثقيل على الطبع لأن في الجزاء بالمثل والإطعام تنقيص المال، وفي الصوم إنهاك البدن. والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي لم يؤاخذ بقتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم لأن قتله إذ ذاك مباح وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد بعد النهي عنه فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله منه في الآخرة مع لزوم الكفارة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغالب ذُو انْتِقامٍ (95) أي ذو عقوبة شديدة أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ أي أحل لكم أيها الناس صيد جميع المياه العذبة والملحة بحرا كان أو نهرا، أو غديرا أي اصطياد صيد الماء والانتفاع به بأكله ولأجل عظامه وأسنانه، وأحل لكم طعام البحر أي أكله. فالصيد كما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. قال الشافعي رحمه الله: السمكة الطافية في البحر محللة والسمك عنده ما لا يعيش في الماء ولو كان على صورة غير المأكول من حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير، فهذا كله حلال عنده بخلاف ما يعيش في الماء والبر كالسرطان والضفدع والتمساح، والسلحفاة وطير الماء. وحجة الشافعي القرآن والخبر: أما القرآن: فهو قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ فما يمكن أكله يكون طعاما فيحل. وأما الخبر: فقوله صلّى الله عليه وسلّم في حق البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «1» نزلت هذه الآية في قوم من بني مدلج كانوا أهل صيد البحر سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن طعام البحر وعمّا حسر البحر عنه ومعنى قوله: وَطَعامُهُ أي ما حسر عنه البحر وألقاه مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحل لكم ذلك لأجل انتفاعكم وللمسافرين منكم يتزودونه قديدا، فالطري للمقيم والمالح للمسافر وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين أو في الحرم فمذهب أبي حنيفة يحل للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه، وكذا ما ذبحه قبل إحرامه لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم. وعند مالك والشافعي وأحمد: لا يباح ما صيد له فإن لحم الصيد عندهم مباح للمحرم

_ (1) رواه الدارمي في كتاب الوضوء، باب: الوضوء في ماء البحر.

بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له والحجة فيه ما روى أبو داود في سننه عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصطد لكم» «1» وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى غيره فاخشوه تعالى في جميع المعاصي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي صيّر الله الكعبة سببا لحصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمها حتى صار أهل الدنيا يأتون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة فصار ذلك لإسباغ النعم على أهل مكة، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم وجعل الله في الكعبة الطاعات الشريفة والمناسك العظيمة وهي سبب لحط الخطيئات ورفع الدرجات، وكثرة الكرامات، وصار أهل مكة بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يعظمهم وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي وجعل الله الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم فإن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وَالْهَدْيَ أي وجعل الهدي سببا لقيام الناس، وهو ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء. وَالْقَلائِدَ أي وجعل الله الأشخاص الذين يتقلدون بلحاء شجر الحرم سببا لأمنهم من العدو فإنهم كانوا إذا رأوا شخصا جعل في عنقه تلك القلادة عرفوا أنه راجع من الحرم فلا يتعرضون له ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ذلك التدبير اللطيف من الجعل المذكور لأجل أن تتفكروا فيه أنه تدبير لطيف فتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فإن جعل ذلك لأجل جلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل الوقوع دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن، ثم إذا عرفتم أن علمه تعالى صفة قديمة واجبة الوجود فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات فلذلك قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) فلا يخرج شيء عن علمه المحيط اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لما ذكر الله تعالى أنواع الرحمة ذكر بعده شدة عذابه تعالى لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا» «2» ثم ذكر عقبه ما يدل على الرحمة دلالة على أنها أغلب فقال

_ (1) رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والترمذي في كتاب الحج، باب: 25، والنسائي في كتاب المناسك، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، وأحمد في (م 3/ ص 362) . (2) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (133) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 101 إلى 110]

وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) أي إن الرسول كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن عهدة التكليف وبقي الأمر من جانبكم وقد قامت عليكم الحجة فلا عذر لكم من بعد في التفريط، وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإن المحمود القليل من الأعمال والأموال خير من المذموم الكثير منهما والخطاب لكل معتبر. قيل: نزلت هذه الآية في رجل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتنقت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة. إن الله لا يقبل إلا الطيب» «1» فَاتَّقُوا اللَّهَ بأن تتحروا ترك الخبيث من الأعمال والأموال ظاهرا وباطنا ولا تحتالوا في تركه بالتأويل يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) أي لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أي إن تظهر لكم تلك الأشياء تحزنكم والمعنى اتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وما بلغه الرسول إليكم فكونوا منقادين له وما لم يبلغه إليكم فلا تسألوا عنه فإن خضتم فيما لا يكلف عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض ما يشق عليكم. روى أنس أنهم سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال: «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة بن قيس!» . وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: «في النار» وقال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن: يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما

_ (1) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: 63، والترمذي في كتاب الزكاة، باب: 28، والنسائي في كتاب الزكاة، باب: الصدقة من غلول، وابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: فضل الصدقة، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في أكل الطيب، وأحمد في (م 2/ ص 328) . [.....]

استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «1» ولما اشتد غضب الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر وقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من الفتن. أنا حديث عهد بجاهلية فاعف عنا يا رسول الله، فسكن غضبه صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي وإن تسألوا عن أشياء مست حاجتكم إلى التفسير في زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينزل جبريل بالقرآن ويظهرها حينئذ، فالسؤال عن قسمين سؤال عن شيء لم يجرد ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهي عنه بقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وسؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي. فههنا السؤال واجب وهو المراد بقوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فالضمير في عنها يرجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: 12، 13] فالمراد بالإنسان آدم عليه السلام، والمراد بالضمير ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين عَفَا اللَّهُ عَنْها أي أمسك الله عن أشياء أي عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» «2» أي خففت عنكم بإسقاطها أو المعنى عفا الله عما سلف من مسائلكم التي تغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تعودوا لمثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب حَلِيمٌ (101) عن جهلكم قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) أي قد سأل أشياء قوم من قبلكم ثم صاروا كافرين بها فإن قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها. وقوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة فصار ذلك وبالا عليهم. وبني إسرائيل قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ثم كفروا. وقوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها. والمعنى أن قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال ذوات تلك الأشياء في كون كل واحد من السؤالين فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه، فإن المتقدمين إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء، وأما أصحاب محمد فهم سألوا عن صفات الأشياء فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة لكن يشتركان في وصف واحد وهو خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفي ذلك خطر المفسدة ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ أي ما أمر الله بذلك فالبحيرة هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر فتشق أذنها ولا تذبح ولا تركب، ولا

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 503) . (2) رواه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب: صدقة الرقيق، والموطأ في كتاب الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الخيل والرقيق والعسل، وأحمد في (م 1/ ص 18) .

تحلب ولا تطرد عن ماء ومرعى ولا يجزّ لها وبر، ولا يحمل على ظهرها بل تسيب لآلهتهم. والسائبة: هي البعير المسيبة وكان الرجل إذا شفي من مرض، أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيّب بعيرا وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها والوصيلة هي الشاة الموصلة وذلك أن الشاة إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى البطن السابع فإذا كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كان أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء حتى تموت فإذا ماتت كان الرجال والنساء يأكلونها جميعا وإن كان ذكرا وأنثى قيل: وصلت أخاها فيتركان مع إخوتها فلا يذبحان، وكان للرجال دون النساء حتى يموتا فإذا ماتا اشترك في أكلهما الرجال والنساء والحام (هو الفحل) إذا ركب ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى إلى أن يموت فحينئذ تأكله الرجال والنساء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي إن رؤساءهم عمرو بن لحي وأصحابه يختلقون على الله الكذب ويقولون: أمرنا الله بهذا وَأَكْثَرُهُمْ أي الأتباع لا يَعْقِلُونَ (103) أن ذلك افتراء باطل. قال المفسرون: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» «1» أي معاه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للأكثر الذي هم الأتباع تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبين للحلال والحرام وَإِلَى الرَّسُولِ الذي أنزل الكتاب عليه لتميزوا الحرام من الحلال قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) والواو واو الحال دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أكافيهم دين آبائهم وقد كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولسنة النبي فكيف يقتدون بهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي لا يضركم ضلالة من ضل إذا اهتديتم إلى الإيمان وبينتم ضلالتهم كما قاله ابن عباس. وقال عبد الله بن المبارك: والمعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار وهذا كقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي أهل دينكم فقوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أقبلوا على أهل دينكم وذلك بأن يعظ بعضكم بعضا، ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات، وهذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقوله: لا يَضُرُّكُمْ إما مجزوم على أنه جواب للأمر وهو «عليكم» أو نهي مؤكد له وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة فإن

_ (1) رواه البخاري في كتاب المناقب، باب: ذكر أسلم وغفار إلخ، ومسلم في كتاب الكسوف، باب: 9، وأحمد في (م 2/ ص 275) .

الأصل لا يضرركم ويؤيده قراءة «يضركم» بفتح الراء وهو مجزوم وإنما فتحت الراء لأجل الخفة. وقراءة من قرأ «لا يضركم» بسكون الراء مع كسر الضاد وضمها من ضار يضير ويضورا ما مرفوع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله ويعضده قراءة من قرأ «لا يضيركم» بالرفع وبالياء بعد الضاد أي ليس يضركم ضلال من ضل إذا كنتم ثابتين في دينكم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي رجوعكم ورجوع من خالفكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) في الدنيا من الخير والشر فيجازيكم عليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أي شهادة ما بينكم من التنازع إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي إذا ظهر لأحدكم أمارات وقوع الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ وهذا بدل من قوله «إذا حضر» لأن حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الزمان بهذين الأمرين الواقعين فيه أي الشهادة المحتاج إليها عند مشارفة الموت اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من أهل دينكم يا معشر المؤمنين أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي غير عادلين من غير أهل دينكم إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ أي سافرتم فِي الْأَرْضِ فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وشهادة غير المسلمين لا تجوز إلا في السفر فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي فحضرت عندكم علامات نزول الموت وهذا بيان محل جواز الاستشهاد بغير المسلمين تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي تقفونهما للتحليف من بعد صلاة العصر كما استحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها وجميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب فَيُقْسِمانِ أي يحلفان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن شككتم في شأن آخرين بقولهما والله لا نَشْتَرِي بِهِ أي بالقسم بالله ثَمَناً أي عوضا يسيرا من الدنيا أي لا تأخذ لأنفسنا بدلا من القسم بالله عوضا من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان ذلك العوض اليسير حياة ذي قربى منا أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي لا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها وإظهارها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) أي إنا إن كتمناها حينئذ كنا من العاصين فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فإن حصل الاطلاع بعد ما حلف الوصيان عن أنهما استحقا حنثا في اليمين بكذب في قول وخيانة في مال فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي باليمين وبالمال أو الأقربان إلى الميت الوارثان له والأوليان إما بدل من آخران، أو من الضمير الذي في يقومان أو صفة لآخران عند الأخفش، لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة أو خبر لمبتدأ محذوف وهذا على القراءة المشهورة للجمهور وهو استحق بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمجهول وإنما وصف الورثة بكونهم استحق عليهم، لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم، أو لكونهم جني عليهم. أما على قراءة حفص وحده وهي استحق بفتح التاء والحاء بالبناء للفاعل فقوله: الأوليان فاعل له. والمعنى أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت

عينهما للوصاية، ولما خاناه في مال الورثة صح أن يقال: إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان بالوصية فَيُقْسِمانِ أي هذان الآخران بِاللَّهِ بقولهما لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي والله ليمين المسلمين أصدق وأحق بالقبول من يمين النصرانيين وَمَا اعْتَدَيْنا أي ما تجاوزنا الحق فيما ادعينا وفي طلب المال وفي نسبتهما إلى الخيانة إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) أي إنا إن اعتدينا في ذلك كنا من الظالمين أنفسهم بإقبالها لسخط الله تعالى وعذابه واتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات أن تميم بن أوس الداري وعدي بن نداء وكانا نصرانيين ومعهما بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا خرجوا إلى الشام للتجارة، فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه، وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك. ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات بديل، فأخذا من متاعه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، ولما رجعا دفعا باقي المتاع إلى أهله ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء. فقالوا لتميم وعدي: أين الإناء؟ فقالا: لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية. ولما نزلت هذه الآية صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر ولما حلفا خلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبيلهما، ولما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا: كنا قد اشتريناه منه. فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتما لا!؟ فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوا القصة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى قوله: فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب أبو رفيعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر، فدفع الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي ذلك الطريق الذي بيناه أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على طريقها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الأخروي أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي أو أقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم بعد أيمان المدعيين لانقلاب الدعوى بأن صار المدعى عليه مدعيا للملك، وصار المدعى مدّعى عليه فلذا لزمته اليمين. والمعنى أولم يخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة؟ بل يأتوا الشهادة على غير وجهها ولكنهم يخافون الافتضاح على رؤوس الإشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة، فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأي الخوفين وقع، حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها وَاتَّقُوا اللَّهَ في أن تخونوا في الأمانات وَاسْمَعُوا مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) أي الخارجين عن الطاعة إلى ما ينفعهم في الآخرة يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة فيوم بدل اشتمال من مفعول «اتقوا» أو ظرف ل «يهدي» .

والمعنى لا يهديهم إلى الجنة فَيَقُولُ لهم مشيرا إلى خروجهم عن عهدة الرسالة ماذا أُجِبْتُمْ أي أيّ إجابة أجابكم بها أممكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي أهي إجابة قبول أو إجابة رد؟ قالُوا تفويضا للأمر إلى العدل الحكيم العالم وعلما منهم أن الأدب في السكوت والتفويض وأن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا: لا عِلْمَ لَنا أي لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا لنا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ولأن الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن وهو معتبر في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا مبنية على الظن، وأما الأحكام في الآخرة فهي مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور ولا عبرة بالظن في القيامة فلهذا السبب قالوا: «لا علم لنا» إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) أي فإنك تعلم ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم. وقرئ «شاذا علّام الغيوب» بالنصب إما على الاختصاص أو على النداء، أو على أنه بدل من اسم «إن» . والكلام قد تم بقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ أي أنت متصف بصفاتك السنية قالَ اللَّهُ بدل من يوم يجمع الله ويجوز أن يكون موضع إذ رفعا بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي اذكر إنعامي عليكما إذ طهرت أمك واصطفيتها على نساء العالمين وقويتك بجبريل لتثبت الحجة تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي طفلا بقولك: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] الآية وَكَهْلًا أي إذا أنزله الله تعالى إلى الأرض أنزله وهو في صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم: إني عبد الله كما قال في المهد وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي الكتابة وهي الخط وَالْحِكْمَةَ أي العلوم النظرية والعلوم العملية وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وذكر الكتابين إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم السلام فإن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية يحصل إلا لمن صار ربانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير بِإِذْنِي أي بأمري فَتَنْفُخُ فِيها أي في الهيئة المصورة فالضمير راجع للكاف وهي دالة على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أي فتصير تلك الصورة خفاشا تطير بين السماء والأرض بإرادتي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المطموس البصر وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي أي بأمري وإرادتي وقدرتي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من قبورهم أحياء بِإِذْنِي أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت: اخرج بإذن الله من قبرك وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي منعت اليهود الذين أرادوا قتلك عن مطلوبهم بك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ بما ذكر وما لم يذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ونحو ذلك فأل للجنس فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 111 إلى 120]

قرأ حمزة والكسائي هنا وفي هود والصف ويونس «ساحر» بالألف أي ما هذا الرجل وهو عيسى إلا ساحر ظاهر. وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس فقط بالألف. والباقون «سحر» بكسر السين وسكون الحاء أي ما هذا الذي جاء به عيسى من الخوارق أو ما هذا أي عيسى إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وهذا على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف. روي أن عيسى عليه السلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي الأنصار أي ألهمت القصارين وهم اثنا عشر رجلا في قلوبهم وأمرتهم في الإنجيل على لسانك أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي. والمعنى أي آمنوا بوحدانيتي في الألوهية وبرسالة رسولي عيسى قالُوا آمَنَّا بوحدانيته تعالى وبرسالة رسوله وَاشْهَدْ أنت يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) أي مخلصون في إيماننا إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. قرأ الجمهور بالياء على الغيبة أي هل يفعل ربك. والمقصود من هذا السؤال تقرير أن ذلك المطلوب في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي لا يجوز لعاقل أن يشك فيه، فكذا هاهنا. وقرأ الكسائي «تستطيع» بتاء الخطاب لعيسى و «ربك» بالنصب على التعظيم وبإدغام اللام في التاء وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس، وعن عائشة. أي هل تستطيع أن تسأل ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ عيسى لشمعون قل لهم: اتَّقُوا اللَّهَ في اقتراح معجزة لم يسبق لها مثال بعد تقدم معجزات كثيرة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) بكونه تعالى قادرا على إنزال المائدة فلعلكم تتركون شكرها فيعذبكم فقال لهم ذلك شمعون قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكل تبرك أو أكل حاجة وتمتع وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بكمال قدرته تعالى لحصول علم المشاهدة مع علم الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي ونعلم علما يقينيا أنه صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يجيب دعوتنا وفي قولك: إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى إلا أعطانا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) لله بكمال القدرة ولك بالنبوة وهذه المعجزة سماوية وهي أعظم وأعجب فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك فقام واغتسل ولبس المسح وصلّى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي طعاما مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي نتخذ

اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا وإنما أسند العيد إلى المائدة لأن شرف اليوم مستعار من شرفها. والمعنى يكون يوم نزولها لها عيدا لأهل زماننا ولمن بعدهم لكي نعبدك فيه وَآيَةً مِنْكَ أي دلالة على وحدانيتك وكمال قدرتك وصحة نبوة رسولك وَارْزُقْنا أي أعطنا ما سألناك وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها أي المائدة عَلَيْكُمْ. وقرأ ابن عامر وعاصم ونافع «منزلها» بالتشديد. والباقون بالتخفيف فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ أي بعد نزولها مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أي إني أعذب من يكفر تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) . روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ثم قال: اللهم أنزل علينا إلخ. فنزلت سفرة حمراء بين غما متين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال: «اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها» فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: «باسم الله خير الرازقين» فإذا سمك ة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من الألوان ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله من طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: «ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله» فقال الحواريون: لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال: «يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت» ثم قال لها: «عودي كما كنت فعادت مشوية» ثم طارت المائدة ثم عصوا وقالوا بعد النزول والأكل: هذا سحر مبين فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم، ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش، ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحدا بعد واحد فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا وَإِذْ قالَ اللَّهُ يوم القيامة يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ في الدنيا اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أراد الله تعالى بهذا السؤال أن يقر عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك فذكر هذا السؤال مع علمه تعالى أن عيسى لم يقل ذلك إنما لتوبيخ قومه. قالَ أي عيسى وهو يرعد: سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي

بِحَقٍ أي ما كان ينبغي أن أقول ما ليس بجائز لي إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ لهم فَقَدْ عَلِمْتَهُ وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل في حضرة ذي الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الكبير المتعالي. تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم ما عندي ومعلومي ولا أعلم ما عندك ومعلومك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) عن العباد ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ و «أن» مفسرة للهاء الراجع للقول المأمور به. والمعنى ما قلت لهم في الدنيا إلا قولا أمرتني به وذلك القول هو أن أقول لهم: اعبدوا الله ربي وربكم وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً على ما يفعلون ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي رفعتني من بينهم إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي الحافظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) وعالم بصير إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي القادر على ما تريد الْحَكِيمُ (118) في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته. ومقصود عيسى عليه السلام من هذا الكلام تفويض الأمور كلها إلى الله وترك الاعتراض عليه بالكلية لأنه يجوز في مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل العباد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه قالَ اللَّهُ هذا أي يوم القيامة يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ في الدنيا في أمور الدين. قرأ الجمهور «يوم» بالرفع. وقرأ نافع «يوم» بالنصب. أي هذا القول واقع يوم إلخ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي عن الصادقين بطاعتهم له وَرَضُوا عَنْهُ بالثواب والكرامة ذلِكَ الرضوان الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) فالجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف لا والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) أي إن كل ما سوى الله تعالى من الكائنات والأجساد والأرواح ممكن لذاته موجود بإيجاده وإذا كان الله موجدا كان مالكا له، وإذا كان مالكا له كان له تعالى أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف أراد فصح التكليف على أيّ وجه أراده الله تعالى، ولما كان الله مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع موضعه شرع محمد فبطل قول اليهود بعدم نسخ شرع موسى، ثم إن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله فهو كائن بتكوين الله تعالى فثبت كونهما عبدين لله مخلوقين له فظهر بهذا التقرير أن هذه الآية برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها.

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية، إلا ست آيات فإنها مدنيات، وهي قوله: قُلْ تَعالَوْا إلى آخر الآيات الثلاث وهو: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ إلى قوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ، مائة وخمس وستون آية، ثلاثة آلاف وخمس وخمسون كلمة، اثنا عشر ألفا وسبعمائة وسبعة وعشرون حرفا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ والمدح أعم من الحمد لأن المدح للعاقل ولغير العاقل، فكما يمدح العاقل على أنواع فضائله كذلك يمدح اللؤلؤ لحسن شكله والياقوت على نهاية صفائه وصقالته، والحمد لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإحسان. والحمد أعمّ من الشكر لأن الحمد تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك والشكر تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك. والمقصود من هذه الآية ذكر الدلالة وعلى وجود الصانع والفرق بين الجعل والخلق أن كلا منهما هو الإنشاء والإبداع إلا أن الخلق: مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية، والجعل: عام له كما في هذه الآية الكريمة، وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] الآية وجمع الظلمات دون النور لكثرة محالها إذ ما من جرم إلا وله ظل، والظل: (هو الظلمة) بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار، وهذا إذا حملا على الكيفيتين المحسوستين بحس البصر وإن حمل النور على نور الإسلام والإيمان واليقين والنبوة، والظلمات على ظلمة الشرك والكفر والنفاق فنقول: لأن الحق واحد والباطل كثير وتقديم الظلمات على النور لأن الظلمة عدم النور عن الجسم الذي يقبله وعدم المحدثات متقدم على وجودها ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) أي يشركون به غيره وهذه الجملة إما معطوفة على قوله الحمد لله والباء متعلقة بكفروا فيكون يعدلون من العدول ولا مفعول له. والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه لأنه تعالى ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا بربهم يميلون عنه فيكفرون نعمته أو متعلقة

بيعدلون وهو من العدول ويوضع الرب موضع الضمير العائد إليه تعالى. والمعنى أنه مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته وباعتبار شؤونه العظيمة الخاصة به ثم هؤلاء الكفرة يسوون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسه الحمد، وإما معطوف على قوله: خَلَقَ السَّماواتِ والباء متعلقة بيعدلون وقدمت لأجل الفاصلة وهي إما بمعنى عن ويعدلون من العدول. والمعنى أن الله تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون عن ربهم إلى غيره أو للتعدية ويعدلون من العدل وهو التسوية. والمعنى أنه تعالى خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جمادا لا يقدر على شيء أصلا فيكون المفعول محذوفا، وكلمة «ثم» لاستبعاد الشرك بعد وضوح آيات قدرته تعالى. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي إن الله خلق جميع الإنسان من آدم وآدم كان مخلوقا من طين فلهذا السبب قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي من جميع أنواعه فلذلك اختلفت ألوان بني آدم وعجنت طينتهم بالماء العذب والملح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم وأيضا إن الإنسان مخلوق من المني، والمني إنما يتولّد من الأغذية وهي إما حيوانية أو نباتية، فحال الحيوانية كالحال في كيفية تولّد الإنسان فبقي أن تكون الأغذية نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين. وقال المهدوي: إن الإنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر: «ما من مولود يولد إلا ويذر على النطفة من تراب حفرته وأيا ما كان الإنسان» «1» ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي خصص الله موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص تعلق مشيئته تعالى بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي حد معين لبعثكم جميعا من البرزخ عِنْدَهُ. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى قضى لكل أحد أجلين، أجلا من مولده إلى موته، وأجلا من موته إلى مبعثه فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقال حكماء الإسلام: إن لكل إنسان أجلين. أحدهما: الآجال الطبيعية.

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (11: 210) ، وأبي نعيم في حلية الأولياء (2: 280) ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (1: 160) .

والثاني: الآجال الاختزامية: فالآجال الطبيعية: هي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن الأعراض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني. والآجال الاختزامية: هي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) أي ثم بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم أيها الكفار تنكرون صحة التوحيد للصانع، أو ثم بعد مشاهدتكم في أنفسكم من الشواهد ما يقطع الشك بالكلية أنتم أيها الكفار تستبعدون وقوع البعث ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أي وهو الذي اتصف بالخلق هو المعبود في السموات والأرض والمتصرف فيهما يَعْلَمُ سِرَّكُمْ في القلوب من الدواعي والصوارف وَجَهْرَكُمْ في الجوارح من الأعمال وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) أي مكتسبكم أي تستحقون على فعلكم من الثواب والعقاب وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) أي ما يظهر للكفار من آية من الآيات التكوينية التي يجب فيها النظر التي من جملتها جلائل شؤونه الدالة على وحدانيته تعالى إلا كانوا معرضين عن تأمل تلك الدلائل تاركين النظر المؤدي إلى الإيمان بمكونها، وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل والتأمل في الدلائل واجب، ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن التفكّر في الدلائل. أو المعنى ما ينزل إلى أهل مكة آية من الآيات القرآنية إلا كانوا مكذبين بتلك الآية. ومن الأولى مزيدة لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي، والثانية للتبعيض وهي مع مجرورها صفة لآية فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي فقد كذب أهل مكة بالمعجزات كانشقاق القمر بمكة وانفلاقه فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة، أو بالقرآن أو بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أي سوف يأتيهم أخبار كونهم مستهزئين بذلك الحق يوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي ألم يعرف أهل مكة بمعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء، وبسماع الأخباركم أمة أهلكنا من قبل زمان أهل مكة كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم. مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ أي أعطينا أولئك الجماعة من البسطة في الأجساد والامتداد في الأعمار، عليهم مدرارا والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا ما لم نعطكم يا أهل مكة وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي متتابعا كلما احتاجوا إليه وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت بساتينهم وزروعهم وشجرهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بتكذيبهم الأنبياء وبكونهم باعوا الدين بالدنيا وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن قرنا آخرين بدلا من الهالكين، وهذا تنبيه على أن إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئا ولا يتعاظم على الله هلاكهم وخلو بلاده منهم فإنه تعالى قادر على أن ينشئ مكانهم قوما آخرين يعمر بهم بلاده وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أي

ولو نزل الكتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا أشرف الخلق كما سألك عبد الله بن أبي أمية المخزومي وأصحابه في صحيفة واحدة فرأوه عيانا ولمسوه لطعنوا فيه وحملوه على أنه مخرفة وقالوا: إنه سحر. وقال ابن إسحاق: والقائلون بالأقوال الآتية، زمعة بن الأسود والنضر بن الحرث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف، والعاص بن وائل كما أخرجه ابن أبي حاتم. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل على محمد ملك يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة ويشهد بما يقول. والمعنى أن منكري النبوات يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة، لأن علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين: الأول: قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لفرغ من هلاكهم أي لو أنزل الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فحينئذ ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب، وأيضا إنهم إذا شاهدوا الملك زهقت روحهم من هول ما يشاهدون وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن رآه على صورته الأصلية لم يبقى الآدمي حيا فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى جبريل على صورته الأصلية غشي عليه وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصم داود وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام، وأيضا إذا رآه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وذلك مخل بصحة التكليف، وإن رآه على صورة البشر فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا، وأيضا إن إنزال الملك يقوي الشبهات لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا: هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) أي لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين وكلمة، «ثم» للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق. والثاني: قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي ولو جعلنا الرسول ملكا لجعلنا الملك على صورة الرجل، لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) أي ولو صورنا الملك رجلا لصار فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس لا يظنون أنه بشر مع أنه ليس بشرا، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون

[سورة الأنعام (6) : الآيات 11 إلى 20]

لقومهم: إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولا من عند الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك فلم يفدهم طلب نزول الملك، لأنه لو نزل لهم الملك لنزل على صورة رجل لعدم استطاعتهم لمعاينة هيكله ولأن الجنس إلى الجنس أميل فيقولون له: ما أنت إلا بشر مثلنا ويقولون: إنا لا نرضى برسالة هذا الشخص فيعود سؤالهم ويستمرون يطلبون الملك فلا تنقطع شبهتهم فنزول الملك لا يفيدهم شيئا يزدادون في الحيرة والاشتباه، وأيضا إن طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي وبالله لقد استهزئ برسل أولي شأن خطير وذوى عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك. وهذه الآية تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي تخفيف لضيق قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند سماعه من القوم الذين قالوا: إن رسول الله يجب أن يكون ملكا من الملائكة ووعيد أيضا لأهل مكة فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) أي فدار وأحاط بالذين سخروا من أولئك الرسل عليهم السلام العذاب الذي يستهزئون به وينكرونه، فإن الكفار كانوا يستهزئون بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله. أو المعنى فأحاط بمن استهزأ بالشرائع من الرسل عقوبة استهزائهم بالرسول المندرج في جملة الرسل قُلْ يا أكرم الرسل لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي قل لهم: لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة. ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) أي ثم تكفروا في أنهم كيف أهلكوا بعذاب الاستئصال فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بد وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا فإن أجابوك فذاك، وإلا قُلْ لِلَّهِ لأنه لا جواب غيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب على نفسه إيجاب الفضل والكرم والرحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بتأخير العذاب وقبول التوبة لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي والله ليجمعنكم في القبور محشورين إلى يوم القيامة. فيجازيكم على شرككم وسائر معاصيكم، أو ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان لا رَيْبَ فِيهِ أي في الجمع الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) أي إن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وترك النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وأن سبق قضاء الله بالخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلا وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي له تعالى كل ما حصل في الزمان سواء كان متحركا أو ساكنا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) فيسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي قل يا أشرف الخلق أغير الله أجعله معبودا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

وعن ابن عباس قال: ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: إني فطرتها أي ابتدأتها. وقرئ «فاطر السّموات» بالجر صفة لله أو بدل منه بدل المطابق. وبالرفع على إضمار هو، والنصب على المدح. وقرأ الزهري «فطر السموات» وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. ويقال ولا يعان على الترزيق. قُلْ يا أكرم الخلق لكفار مكة: إِنِّي أُمِرْتُ أي من حضرة الله تعالى أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فإنه صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته في الإسلام. وقيل لي يا محمد وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) أي في أمر من أمور الدين قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) أي عذابا عظيما في يوم عظيم وهو يوم القيامة مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ. قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي «يصرف» بفتح الياء وكسر الراء، والمفعول محذوف والتقدير من يصرف ربي عنه يومئذ العذاب فقد أنعم عليه. والباقون «يصرف» بالبناء للمفعول. والمعنى أيّ شخص يصرف العذاب عنه ذلك اليوم العظيم فقد أدخله الله الجنة وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) أي وذلك الرحمة هو الفوز الظاهر وهو الظفر بالمطلوب وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ أي وإن يصبك الله ببلية أيها الإنسان كمرض وفقر ونحو ذلك فلا رافع له إلا هو وحده وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ أي وإن ينزل الله بك خيرا من صحة وغنى ونحو ذلك فلا راد له غيره فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) . روي عن ابن عباس أنه قال: أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلّم بغلة أهداها له كسرى فركبها بجبل من شعر، ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلا، ثم التفت إليّ فقال: «يا غلام» فقلت: لبيك يا رسول الله فقال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. واعلم أن النصر مع الصبر وإن مع الكرب فرجا وإن مع العسر يسرا» «1» . وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ بالقدرة والقوة وهذا إشارة إلى كمال القدرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) فإن أفعاله تعالى محكمة آمنة من وجوه الخلل والفساد وإنه تعالى عالم بما يصح أن يخبر به. وهذا إشارة إلى كمال العلم اه.

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 307) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 21 إلى 30]

روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا: يا محمد ما وجد الله غيرك رسولا وما ترى أحدا يصدقك، وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة، فأنزل الله تعالى قوله هذا: قُلْ يا أشرف الخلق لهم: أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً من الله كي يقروا بالنبوة وإن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى فإن اعترفوا بذلك فذاك وإلا قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأني رسوله وهذا القرآن كلامه وهو معجز لأنكم فصحاء بلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزا كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقا في دعواي وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أي أنزل الله إلى جبريل بهذا القرآن لأخوفكم يا أهل مكة بالقرآن ولأخوف به من بلغ إليه القرآن من الثقلين ممن يأتي بعدي إلى يوم القيامة أَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى وهي الأصنام التي كنتم تعبدونها وتقولون: إنها بنات الله فإن شهدوا على ذلك قُلْ لهم: لا أَشْهَدُ أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل إنما أشهد أن لا إله إلا هو وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) أي من إشراككم بالله تعالى في العبادة الأصنام. قال العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، ونصّ الشافعي على استحباب ضم التبرؤ إلى الشهادة لأن الله تعالى لما صرح بالتوحيد قال: إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون محمدا من جهة الكتابين بصفته المذكورة فيهما كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بصفاتهم فإنهم كذبوا في قولهم إنا لا نعرف محمدا لما روي أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة وأسلم عبد الله بن سلام قال له عمر: إن الله أنزل على نبيه بمكة هذه الآية فكيف هذه المعرفة، قال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد مني بابني، فقال عمر: كيف ذلك؟ فقال أشهد أنه رسول الله حقا ولا أدري ما تصنع النساء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) ومعنى هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار. فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أجرأ ممن اختلق على الله كذبا كقول كفار مكة هذه الأصنام شركاء لله والله تعالى أمرنا بعبادتها. وقولهم: إن الملائكة بنات الله، ثم قولهم أمرنا الله بتحريم البحائر والسوائب وكقول اليهود والنصارى حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ ولا يجيء بعدهما نبي أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي قدح في معجزات محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنكر كون القرآن معجزة قاهرة بينة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي كافة الناس وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا

خاصة على رؤوس الأشهاد للتوبيخ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله تعالى الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) أي تزعمونها شركاء وإنها شفعاء لكم عند الله. قال ابن عباس: وكل زعم في كتاب الله كذب ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي افتتانهم بالأوثان إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) أي لم تكن عاقبة افتتانهم بشركهم إلا براءتهم منه فحلفهم أنهم ما كانوا مشركين. ومثاله أن ترى إنسانا يحب صاحبا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه. قرأ ابن عامر وابن كثير وحفص عن عاصم «ثم لم تكن» بالتاء الفوقية و «فتنتهم» بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي «لم يكن» بالياء التحتية و «فتنتهم» بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي «ربنا» بنصبه على النداء أو المدح. والباقون بالكسر انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بإنكار صدور الإشراك عنهم في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) أي وكيف زال عنهم افتراؤهم بعبادة الأصنام فلم تغن عنهم شيئا وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي وبعض من أهل مكة من يستمع إلى كلامك حين تتلو القرآن وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرة كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن وفي آذانهم صمما وثقلا مانعا من سماعه، فمحل «أن يفقهوه» مفعول معه بحذف المضاف أو مفعول لفعل مقدر أي منعناهم أن يفقهوه مجموع القدرة على الإيمان مع الداعي إليه يوجب الفعل. فالكفر من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي وأن يشاهدوا كل آية من الآيات القرآنية بسماعها كفروا بكل واحدة منها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بلغوا بتكذيبهم الآيات إلى أنهم إذا جاءوا إليك يجادلونك إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) أي ما هذا الذي يقول محمد إلا خرافات الأولين وكذبهم أي إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة للأولين وإذا كان هذا كذلك فلا يكون معجزا خارقا للعادة وجملة قوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا تفسير لقوله: يُجادِلُونَكَ أي يناكرونك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حضر عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبيّ ابنا خلف والحرث بن عامر، وأبو جهل واستمعوا إلى القرآن فقالوا للنضر وكان كثير الأخبار للقرون الماضية: يا أبا قتيبة ما يقول محمد؟ قال: ما أدري ما يقول، لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى. فقال أبو سفيان: إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل: كلا أي لا تقرّ بشيء من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وأولئك الكفار ينهون الناس عن استماع القرآن لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي ويتباعدون عنه

بأنفسهم تأكيدا لنهيهم وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي وما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي إلا أنفسهم بإقبالها لأشد العذاب وَما يَشْعُرُونَ (26) أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يفعلون من الكفر والمعصية وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أي ولو تبصر حالهم حين يوقفون على النار وهم يعاينونها لرأيت سوء حالهم. أو المعنى ولو تبصرهم حين يحسبون فوق النار على الصراط وهي تحتهم لرأيت سوء منقلبهم. أو المعنى ولو صرفت فكرك الصحيح لأن تتدبر حالهم حين يدخلونها لازددت يقينا. وقرئ «إذ وقفوا» بالبناء للفاعل أي لو تراهم حين يكونون في جوف النار وتكون النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها لعرفوا مقدار عذابها، وإنما صح على هذا التقدير أن يقال: وقفوا على النار لأنها دركات وطبقات بعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا لنؤمن وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا أي بآياته الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بها كي لا نرى هذا الموقف. قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «نكذب» ونصب «نكون» أي ولا يكون منا تكذيب مع كوننا من المؤمنين. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم بنصبهما والتقدير يا ليتنا لنا رد وانتفاء تكذيب بآيات ربنا، وكون من المؤمنين فهذه الأشياء الثلاثة متمناة بقيد الاجتماع. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير والكسائي برفعهما واتفقوا على الرفع في قوله «نرد» . والمعنى أنهم تمنوا الرد إلى دار الدنيا وعدم تكذيبهم بآيات ربهم وكونهم من المؤمنين. أو المعنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيدا بهاتين الحالتين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أي ليس التمني الواقع منهم لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأنه ظهر لهم في موقفهم ما كانوا يخفونه في الدنيا من تكذيبهم بالنار فإن التكذيب بالشيء إخفاء له بلا شك أي فلخوفهم منها ومن العقاب الذي عاينوه قالوا ما قالوا وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي ولو ردهم الله تعالى من موقفهم ذلك إلى الدنيا كما سألوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال لم يحصل منهم فعل الإيمان وترك التكذيب بل كانوا يستمرون على الكفر والتكذيب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) في تمنيهم ووعدهم بفعل الإيمان وترك التكذيب فإن دينهم الكذب، لأنه قد جرى عليهم قضاء الله تعالى في الأزل بالشرك وَقالُوا أي كفار مكة إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما حياتنا إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) بعد أن فارقنا هذه الحياة وليس لنا بعد هذه الحياة ثواب وعقاب وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ أي حبسوا عند ربهم لأجل السؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده للعقاب لرأيت أمرا عظيما، والمعنى وقفوا على جزاء ربهم أي على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين، وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخرة قالَ أَلَيْسَ هذا أي البعث بعد الموت

[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 إلى 40]

والثواب والعقاب بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه لحق. وذلك إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الانجلاء وهم يطمعون في نفع ذلك الإقرار وينكرون الإشراك فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) أي بسبب كفركم وجحدكم في الدنيا بالبعث بعد الموت قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي أنكروا البعث والقيامة حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي أنهم كذبوا ذلك إلى أن ظهرت القيامة باغتة فلا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حصولها قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا ندامتنا على تفريطنا في تحصيل الزاد للساعة في الدنيا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أي والحال أنهم يحملون ثقل ذنوبهم عليهم أي إنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل عليهم فلا تفارقهم ذنوبهم. وقال قتادة والسدي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا ويقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني فذلك قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] أي ركبانا. وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، فذلك قوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) أي بئس شيئا يحملونه آثامهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي وما اللذات والمستحسنات الحاصلة في هذه الدنيا إلا فرح يشغل النفس عمّا تنتفع به، وباطل يصرف النفس عن الجد في الأمور إلى الهزل وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة أو التمسك بعمل الآخرة أو نعيم الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ من المعاصي والكبائر. وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بإضافة دار إلى الآخرة. أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) . وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب أي قل لهم ألا تتفكرون أيها المخاطبون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية. وقرأ الباقون بالباء على الغيبة أي أيغفل الذين يتقون فلا يعقلون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ إنهم لا يؤمنون بك ولا يقبلون دينك وشريعتك أو يقولون إنك ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. قرأ نافع «ليحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. والباقون بفتح الياء وضم الزاي فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع والكسائي بسكون الكاف. والباقون بفتحها وتشديد الذال أي لا يجدونك كاذبا لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة ولا ينسبونك إلى الكذب بالاعتقاد واللسان وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) أي ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك أو المعنى أنهم يقولون في كل معجزة أنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق. أو المعنى إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني لأنك رسولي

كقول السيد لعبده وقد أهانه بعض الناس أيها العبد إنه ما أهانك وإنما أهانني. والمقصود تعظيم الشأن لا نفي الإهانة عن العبد ونظيره قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] . روي أن الحرث بن عامر من قريش قال: يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب. وروي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا لسائر قريش، فنزلت هذه الآية. وعن علي بن أبي طالب أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نكذبك فإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به، فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا أي ولقد كذب الرسل قومهم كما كذبك قومك فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم لهم حتى أتاهم النصر بهلاك قومهم، فاصبر يا أشرف الخلق كما صبروا تظفر كما ظفروا، بل أنت أولى بالتزام الصبر لأنك مبعوث إلى جميع العالمين وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ بالنصرة فإن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) أي خبرهم في القرآن كيف كذبهم قومهم وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي وإن كان شق عليك إعراضهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن، وأحببت أن تجيبهم إلى ما سألوه فإن قدرت أن تتخذ منفذا فيه إلى جوف الأرض، أو مصعدا ترتقي فيه إلى السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوه عليك من تحت الأرض أو من فوق السماء فلتفعل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في نفر من قريش فقالوا: يا محمد ائتنا بآية من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك. فأبى الله أن يأتيهم بآية مما اقترحوه فأعرضوا عنه صلّى الله عليه وسلّم فشق ذلك عليه لشدة حرصه على إيمان قومه، فنزلت هذه الآية. والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طمعه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر وهذا دليل على مبالغة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إسلام قومه إلى حيث لو قدر على أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمانهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي ولو شاء الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعدم صرف اختيارهم إلى جانب الهدى مع تمكنهم التام منه في مشاهدتهم للآيات الداعية إليه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) أي فلا تكونن

بالميل إلى إتيان اقتراحاتهم من الجاهلين بعدم تعلق مشيئته تعالى بإيمانهم لعدم توجههم إليه لخروج الإيمان عن الحكمة المؤسسة على الاختيار. أو المعنى ولا تجزع على إعراضهم عنك ولا يشتد تحزنك على تكذيبهم بك فإن فعلت ذلك فتقارب حالك من حال الجاهلين الذين لا صبر لهم إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي إنما يقبل دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم، وإنما يطيعك من يعقلون الموعظة دون الموتى الذين هؤلاء منهم. وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) أي والموتى يبعثهم الله بعد الموت ثم يوقفون بين يديه للحساب والجزاء. فالله تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه وَقالُوا أي كفار مكة الحرث بن عامر وأصحابه وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأمية وأبي ابنا خلف والنضر بن الحرث لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد من ربه معجزة دالة على نبوته مثل فلق البحر وإظلال الجبل وإحياء الموتى، وإنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفا. قُلْ لهم يا أكرم الرسل: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً أي أن يوجد خوارق للعادة كما طلبوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) أي لا يدرون أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار، وأن الله تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة فإن لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال ولم يبق لهم عذر ولا علة كما هو سنة الله فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم وإن كانوا لا يعلمون كيفية هذه الرحمة. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي وما من دابة تمشي في الأرض أو تسبح في الماء ولا طائر من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو إلا طوائف أمثالكم في ابتغاء الرزق وتوقي المهالك، وفي أنها تعرف ربها وتوحده وفي أنها يفهم بعضها عن بعض، وفي أنها تبعث بعد الموت للحساب. روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قتل عصفورا عبثا جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول: يا رب إن هذا قتلني عبثا لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض» «1» وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقتص للجماء من القرناء» «2» . والمقصود من هذه الآية الدلالة على كمال قدرته تعالى وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما تركنا في القرآن شيئا من الأشياء المهمة أي أن القرآن واف ببيان جميع الأحكام فليس لله على الخلق بعد ذلك تكليف آخر وأن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس

_ (1) رواه النسائي في كتاب الضحايا، باب: من قتل عصفورا بغير حقها، والدارمي في كتاب الأضاحي، باب: من قتل شيئا من الدواب عبثا، وأحمد في (م 2/ ص 166) . (2) رواه أحمد في (م 2/ ص 235) .

وحجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن. روي أن ابن مسعود كان يقول: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه! فقرأت امرأة جميع القرآن فأتته فقالت: يا ابن أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة، فقال: لو تلوتيه لوجدتيه، قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] وإن مما أتانا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لعن الله الواشمة والمستوشمة» «1» . وذكر أن الشافعي كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه، فقال: أين هذا من كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] وقال صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» «2» . وقال عمر رضي الله عنه: للمحرم وقتل الزنبور. وروي أن أبا العسيف قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اقض بيننا بكتاب الله فقال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله» «3» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو عين كتاب الله لأنه ليس في نص الكتاب ذكر الجلد والتغريب ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) فإن الله تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة بمجرد الإرادة ومقتضى الإلهية. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة

_ (1) رواه البخاري في كتاب اللباس، باب: الواشمة، ومسلم في كتاب اللباس، باب: 119، وأبو داود في كتاب الترجّل، باب: في صلة الشعر، والترمذي في كتاب اللباس، باب: 25، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: إحلال المطلقة ثلاثا وما فيه من التغليظ، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب: الواصلة والواشمة، والدارمي في كتاب الاستئذان، باب: الواصلة والمستوصلة، وأحمد في (م 1/ ص 83) . (2) رواه ابن ماجة في المقدمة، باب: اتباع سنّة الخلفاء الراشدين المهديين، والدارمي في المقدمة، باب: اتباع السنّة، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في لزوم السنّة، والترمذي في كتاب العلم، باب: 16، وأحمد في (م 4/ ص 126) . (3) رواه البخاري في كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم في كتاب الحدود، باب: 25، وأبو داود في كتاب الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي في كتاب الأحكام، باب: 3، والنسائي في كتاب القضاة، باب: صون النساء عن مجلس الحكم، وابن ماجة في كتاب الحدود، باب: حدّ الزنا، والدارمي في المقدمة، باب: الفتية وما فيه من الشدة، والموطأ في كتاب الحدود، باب: ما جاء في الرجم، وأحمد في (م 4/ ص 115) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 41 إلى 50]

حتى يقاد للشاة الجماء من القرناء» «1» . قال المفسرون: إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابا وعند هذاقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] . وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي هي من القرآن صُمٌّ لا يسمعونها سمع تدبر وفهم فلذلك يسمونها أساطير الأولين وَبُكْمٌ لا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوة الرسول بها فِي الظُّلُماتِ أي في ضلالات الكفر والجهل والعناد فلا يهتدون سبيلا مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي من يشاء الله إضلاله يخلق الله الضلال فيه ويمته على الكفر فيضل يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) أي ومن يشأ أن يجعله على طريق يرضاه وهو الإسلام يجعله عليه ويهده إليه ويمته عليه فلا يضل من مشى إليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) أي قل يا أكرم الرسل لكفار مكة: يا أهل مكة أخبروني إن أتاكم عذاب الله في الدنيا كالغرق أو الخسف أو المسخ، أو نحو ذلك أو أتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء؟ أو ترجعون فيه إلى الله تعالى إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة فأجيبوا سؤالي؟ أو المعنى إن كنتم قوما صادقين فأخبروني أإلها غير الله تدعون إلخ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ أي إنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية إلا إلى الله تعالى فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم بمحض مشيئته وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) أي وتتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي وبالله لقد أرسلنا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان قبل زمانك رسلا فخالفوهم فعاقبناهم بشدة الفقر والخوف من بعضهم والأمراض والأوجاع لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) أي لكي يدعوا الله تعالى في كشفها بالتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم فَلَوْلا أي فهلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) من الكفر والمعاصي أي فلم يؤمنوا حين جاءهم عذابنا ولكن ظهر منهم الكفر ووسوس لهم الشيطان إن حال الدنيا هكذا تكون شدة ثم نعمة فلم يخطروا ببالهم أن ما أصابهم من الشدائد ما أصابهم إلا لأجل عملهم الفاسد فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي فلما انهمكوا في المعاصي وتركوا ما وعظوا به من الشدائد فتحنا عليهم فنون النعماء على منهاج الاستدراج حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي حتى إذا اطمأنوا بما فتح لهم وبطروا بأن ظنوا أن الذي نزل بهم من الشدائد ليس على سبيل الانتقام من الله وأن تلك الخيرات باستحقاقهم نزل بهم عذابنا فجأة ليكون عليهم أشد وقعا فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) أي متحزنون غاية الحزن منقطع رجاؤهم من كل خير فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي قطع غابر المشركين أي

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 72) .

استؤصلوا بالهلاك بسبب ظلمهم بإقامة المعاصي مقام الطاعات وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) على استئصالهم بالنكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة مستحقة للحمد قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي قل يا أكرم الخلق لأهل مكة: يا أهل مكة أخبروني إن أزال الله سمعكم وأبصاركم وعقولكم أي فرد من الآلهة الثابتة بزعمكم غير الله يأتيكم بذلك الذي أزيل؟ انْظُرْ يا أكرم الرسل كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي كيف نكررها متغيرة من نوع إلى نوع آخر فتارة بترتيب المقدمات العقلية، وتارة بطريق الترغيب والترهيب، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين فكل واحد يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) أي يعرضون عن تلك الآيات وثم لاستبعاد إعراضهم عنها بعد ذكرها على الوجوه المختلفة قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أي أخبروني يا أهل مكة إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي عذابه الخاص بكم بَغْتَةً أي فجأة بأن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أَوْ جَهْرَةً بأن يجيئهم مع سبق علامة تدل عليه فالعذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) أي هل يهلك بذلك العذاب غيركم ممن لا يستحقه وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على الطاعات وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على المعاصي ولا قدرة لهم على إظهار المعجزات بل ذلك مفوض إلى مشيئة الله تعالى فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) أي فمن قبل قول المرسلين وأتى بعمل القلب الذي هو الإيمان وبعمل الجسد الذي هو الإصلاح فلا خوف عليهم من العذاب الذي أنذروه دنيويا كان أو أخرويا ولا هم يحزنون بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي ما ينطق به الرسل عند التبشير والإنذار ويبلغونه إلى الأمم يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ أي يصيبهم العذاب الذي أنذروه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن الطاعة قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. واعلم أن الكفار طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يوسع خيرات الدنيا وأن يخبر عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار، وطعنوا فيه في أكل الطعام والمشي في السوق، وفي تزوجه للنساء فأمر الله تعالى أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة تواضعا لله تعالى واعترافا له بالعبودية وأن يقول لهم: إنما بعثت مبشرا ومنذرا ولا أدعي كوني موصوفا بالقدرة اللائقة بالله تعالى، وأن خزائن الله مفوّضة إليّ أتصرف فيها كيفما أشاء، وأعطيكم منها ما تريدون. ولا أدعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى فأخبركم بما تريدون، ولا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الخوارق للعادات ما لا يطيق به البشر وحتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحا في أمري فتنكرون قولي، وتجحدون أمري، وما أخبركم من غيب إلا بوحي من الله أنزله علي قُلْ لهم: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 51 إلى 60]

وَالْبَصِيرُ أي هل يكونان سواء من غير مزية فإن قالوا: نعم، كابروا الحس وإن قالوا: لا، قيل: فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير ومن أعرض فهو الأعمى أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه، نزلت هذه الآية من قوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ في أبي جهل وأصحابه الحرث وعيينة وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) أي وأنذر يا أشرف الرسل بما أوحي إليك من يجوزون الحشر ويرجى منهم التأثر بالتخويف غير منصورين بقريب ولا مشفوعا لهم من جهة أنصارهم على زعمهم من غير الله تعالى سواء كانوا جازمين بأصل الحشر كالمؤمنين العاصين وأهل الكتاب المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة الأصنام، أو مترددين في أصل الحشر وفي شفاعة الآباء والأصنام معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقا فيهلكوا لكي ينتهوا عن الكفر والمعاصي، وأما المنكرون للحشر بالكلية والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي الذين يعبدون ربهم بالصلوات الخمس أو يذكرون ربهم طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدون بذلك محبة الله تعالى ورضاه أي مخلصين في ذلك. روي أنه جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري، وعباس بن مرداس وهم من المؤلفة قلوبهم فوجدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم جالسا مع ناس من ضعفاء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب، وبلال وخباب وابن مسعود، وسلمان الفارسي ومهجع، وعامر بن فهيرة فلما رأوهم حوله حقروهم وقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وأبعدت عنك هؤلاء ورائحة جبابهم لجالسناك وأخذنا عنك، فقال النبي: «ما أنا بطارد المؤمنين» ، قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: «نعم» ، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فأتى بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، فنزل جبريل بهذه الآية فألقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيفة، وقال مجاهد: قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لبايعنا محمدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أن ناسا من الفقراء كانوا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ناس من الأشراف له صلّى الله عليه وسلّم إذا صلينا فأخر هؤلاء فليصلوا خلفنا؟ فنزلت هذه الآية: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) أي ما عليك من حساب رزق هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي شيء فتملهم وتبعدهم، ولا من حساب رزقك عليهم شيء وإنما الرازق لهم ولك

هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك، ولا تطردهم فتكون من الظالمين لنفسك بهذا الطرد ولهم، لأنهم استحقوا مزيد التقريب. وقيل: إن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا: يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولا وملبوسا عندك، وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى: إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ومثل ذلك الفتون المتقدم فتنا بعض هذه الأمة ببعض وكل أحد مبتلى بضده فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فامتنعوا من الدخول في الإسلام لذلك، واعترضوا على الله في جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين، وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار وبالجملة؟ فصفات الكمال مختلفة متفاوتة محبوبة لذاتها موزعة على الخلق فلا تجتمع في إنسان واحد ألبتة فكل أحد بحسد صاحبه على ما آتاه من الله من صفات الكمال لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وغرضهم بذلك إنكار وقوع المن رأسا وهذه اللام لام كي والتقدير ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا: هذه المقالة امتحانا منا، وقيل: إنها لام الصيرورة والمعنى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليصيروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ قال: تعالى ردا عليهم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) لنعمه حتى تستبعدوا إنعامه عليهم. وفي هذا الاستفهام التقريري إشارة إلى أن الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن وفي التوفيق للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك وتعريض بأن القائلين بتلك المقالة بمعزل من ذلك كله وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: نزلت هذه الآية في أهل الصفة الذين سأل المشركون رسول الله عليه السلام طردهم فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام فإن الله تعالى نهى رسوله أولا عن إبعادهم، ثم أمره بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروه في الدنيا والرحمة في الآخرة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجب على ذاته المقدسة الرحمة بطريق الفضل والكرم تبشيرا لهم بسعة رحمته تعالى وبنيل المطالب أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً أي ذنبا بِجَهالَةٍ بتعمد بسبب الشهوة وكان جاهلا بمقدار ما يستحقه من العقاب وما يفوته من الثواب ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي ندم من بعد عمل المعصية وَأَصْلَحَ عمله بالتوبة منه تداركا وعزما على أن لا يعود إليه أبدا فَأَنَّهُ أي الله غَفُورٌ بسبب إزالة العقاب رَحِيمٌ (54) بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد

والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نفصل لك حجتنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) . قرأ نافع «لتستبين» بالتاء خطاب للنبي و «سبيل» بالنصب. أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المشركين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ليستبين» بالياء و «سبيل» بالرفع. والباقون بالتاء و «سبيل» بالرفع. وقوله و «ليستبين» عطف على المعنى كأنه قيل: ليظهر الحق وليتضح سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. قُلْ يا أشرف الخلق للمصرّين على الشرك إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إني نهيت في القرآن عن عبادة ما تعبدونه من دون الله وهو الأصنام قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأحجار وهي أخس مرتبة من الإنسان بكثير فإنهم كانوا ينحتون تلك الأصنام وإنما يعبدونها بناء على محض الهوى لا على سبيل الحجة فإن اشتغال الأشرف بعبادة الأخس أمر يدفعه صريح العقل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عدادهم قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي حجة واضحة تفصل بين الحق والباطل وهي الوحي مِنْ رَبِّي في أنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بربي حيث أشركتم به غيره ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي من العذاب أي ليس أمره بمفوض إلى ف «ما» الأولى نافية، و «ما» الثانية موصولة، وسبب نزول هذه الآية أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك، وكان النضر بن الحرث وأصحابه يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم فقال تعالى: قل يا أشرف الخلق ليس ما تستحلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيبه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به وأظهر لكم صدقه إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ما الحكم في نزول العذاب تعجيلا وتأخيرا إلا الله يَقُصُّ الْحَقَّ. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «يقص» بالصاد المشددة، وضم القاف، أي ينبئ الحق ويقول الحق لأن كل ما أخبر الله به فهو حق. وقرأ الباقون «يقض» بسكون القاف وكسر الضاد بغير ياء لسقوطها في اللفظ. أي يقضي القضاء الحق أو يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) أي أفضل القاضين قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي قل يا أكرم الرسل لو أن في قدرتي ما تطلبون به قبل وقته من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمره مفوضا إلي من الله تعالى لفصل ما بيني وبينكم بأن نزل عليكم ذلك عقب استعجالكم بقولكم: متى هذا الوعد واسترحت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) أي أعلم بحال المشركين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج فوقع بالنضر بن الحرث العذاب الذي سأل فقتل صبرا يوم بدر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي علم الغيب لأن المفاتيح هي التي يتوصل بها إلى ما في الخزائن فمن علم كيف يفتح بها ويتوصل بها إلى ما فيها فهو عالم. أو المعنى وعنده

[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 إلى 70]

تعالى خاصة خزائن الغيب أي قدرة كاملة على كل الممكنات من المطر والنبات، والثمار ونزول العذاب لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ أي لا يعلم مفاتح الغيب بنزول العذاب الذي تستعجلون به إلا هو فالعذاب ليس مقدورا لي حتى أعجله لكم ولا معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها، وإنما قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز، والجبال والتلال، والحيوان والنبات والمعادن، وأما البحر فإنما أخر ذكره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل لكن الحس يدل على أن عجائب البحر أكثر، وأجناس المخلوقات أعجب وأن طول البحر وعرضه أعظم وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من الشجر والنجم إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) أي وما حبة ملقاة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس من كل شيء إلا في علم الله تعالى، فإذا سمع الإنسان أن الحبة الصغيرة الملقاة في مواضع متسعة يبقى أكبر الأجسام مخفيا فيها وأن الماء والنابت والحي وخلافها لا تخرج عن علم الله تعالى، صارت هذه الأمثلة منبهة على معنى قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ. وقيل: المراد بالكتاب المبين هو اللوح المحفوظ إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ، لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات فيكون في ذلك عبرة تامة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقا له وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم في الليل وإنما صح إطلاق لفظ الوفاة على النوم لأن ظاهر الجسد صار معطلا عن بعض الأعمال عند النوم كما أن جملة البدن صارت معطلة عن كل الأعمال عند الموت فحصل بين النوم والموت مشابهة من هذا الاعتبار وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي يعلم ما كسبتم من أعمال الجوارح في النهار ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي لكي يتم أجل معين عند الله لكل فرد فرد بحيث لا يكاد يتجاوز أحد ما لا عين له طرفة عين ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) أي يخبركم بمجازاة أعمالكم التي كنتم تعملونها في الليل والنهار من الخير والشر وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ أي وهو الغالب المتصرف في أمور عباده يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا إلى غير ذلك فالممكنات كلها مقهورة تحت قهر الله تعالى مسخرة تحت تسخير الله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً أي ملائكة يحفظون أعمالكم ويكتبونها في صحائف تقرأ عليكم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي حتى إذا انتهت مدة أحدكم وانتهى حفظ الحفظة وجاءه أسباب الموت قبضه ملك الموت وأعوانه وَهُمْ أي هؤلاء الرسل لا يُفَرِّطُونَ (61) أي لا يؤخرون الميت طرفة عين.

وقرئ بسكون الفاء أي لا يجاوزون ما حدّ لهم بزيادة أو نقصان ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي ثم رد جميع البشر بعد البعث بالحشر إلى حكم الله وجزائه في موقف الحساب. وقيل: المعنى ثم يرد أولئك الملائكة فإنهم يموتون كما يموت بنو آدم مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي مالكهم الذي لا يقضي إلا بالعدل أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ صورة ومعنى وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) يحاسب جميع الخلائق في أقصر زمان لا يشغله كلام عن كلام ولا حساب عن حساب وفي الحديث: «إن الله تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة» «1» أي وذلك لأنه تعالى لا يحتاج إلى فكر وعد. قُلْ يا أكرم الخلق لكفار مكة: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي من شدائدهما الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول تَدْعُونَهُ والضمير عائد لمن وهذه الجملة في محل نصب على الحال إما من مفعول ينجيكم أي من ينجيكم منها داعين إياه، وإما من فاعله أي من ينجيكم منها مدعوا من جهتكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي تدعونه دعاء إعلان وإخفاء، أو تدعونه متضرعين ومخلصين بقلوبكم قائلين لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي الأهوال والشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) أي من المؤمنين المداومين على الشكر لأجل هذه النعمة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «خفية» بكسر الخاء. والباقون بالضم وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف. وقرأ الأعمش و «خيفة» بكسر الخاء فبعده الياء الساكنة من الخوف أي مستكينا أو دعاء خوف والآية تدل على أن الإنسان يأتي عند حصول الشدائد بأمور. أحدها: الدعاء. وثانيها: التضرع. وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وخفية. ورابعها: التزام الشدائد بالشكر وهو المراد من قوله: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لئن أنجانا» على المغايبة وينجيكم بالتشديد في الموضعين. والباقون «لئن أنجيتنا» على الخطاب و «ينجيكم» بالتشديد والتخفيف وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل لفظ أنجانا وهو «تدعونه» وما بعده وهو «قل الله ينجيكم منها» مذكور بلفظ المغايبة ولا يحتاج في هذه القراءة إلى إضمار نحو تقولون، فالإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (2: 435) .

أي الله وحده ينجيكم من شدائد البر والبحر وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي غم سوى ذلك ثُمَّ أَنْتُمْ يا أهل مكة بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تُشْرِكُونَ (64) بعبادته تعالى غيره الذي عرفتم أنه لا يضر ولا ينفع ولا تفون بعهدكم قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالمطر كما فعل بقوم نوح، والحجارة كما رمى أصحاب الفيل وقوم لوط، والصيحة أي صرخة جبريل التي صرخها على ثمود قوم صالح والريح كما في قوم هود أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالرجفة وغرق فرعون وخسف قارون أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي يخلط أمركم خلط اضطراب فيجعلكم فرقا مختلفين على أهواء شتى كل فرقة متابعة لإمام فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضا انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها متغيرة من حال إلى حال لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) أي كي يقفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمّا هم عليه من العناد وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ أي وكذبوا بالعذاب والحال أنه لواقع لا بدّ وأن ينزل بهم. أو المعنى وكذب قريش بالقرآن وهو الكتاب الصادق في كل ما نطق به وفي كونه منزلا من عند الله قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المكذبين لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل خبر يخبره الله تعالى وقت يحصل فيه من غير تأخير. أو المعنى لكل قول من الله من الوعد والوعيد استقرار وحقيقة منه ما يكون في الدنيا ومنه ما يكون في الآخرة وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) أي ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي وإذا رأيت أيها السامع الذين يستهزئون بآياتنا فاترك مجالسهم كي يشرعوا في حديثهم في غير آياتنا أي في غير الاستهزاء بالقرآن. ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن فشتموا واستهزءوا فأمرهم الله بترك مجالسة المشركين وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) أي وإن يشغلك الشيطان فتنسى النهي فتجالسهم فلا تقعد معهم بعد تذكر النهى وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) . قال ابن عباس: قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية. أي ما على الذين يتقون قبائح الخائضين مما يحاسبون عليه من آثامهم شيء ولكن تذكرة لهم عما هم عليه من القبائح بما أمكن من التذكير لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو نحوه. وقوله تعالى: ذِكْرى معطوف على محل شَيْءٍ وهو رفع على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم «ما» ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال مِنْ شَيْءٍ. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي أعرض عن الذين نصروا الدين ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة، وغلبة الخصم وجمع الأموال ولا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 إلى 80]

تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزنا وإنما نصروا الدين للدنيا لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا أي اطمأنوا بها فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر يتوسلوا بها إلى حطام الدنيا، وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم والمحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه صواب وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي ذكرهم بمقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ أي ليس للنفس من غير الله ناصر ولا شفيع يمنع عنها العذاب وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أي وإن تفد تلك النفس بكل فداء لا يقبل منها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي أولئك المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا هم الذين حبسوا في جهنم بما كسبوا في الدنيا لهم شراب من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم وتتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم بنار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم المستمر في الدنيا قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي قل يا أكرم الرسل لهؤلاء المشركين الذين دعوك إلى دين آبائهم كعيينة وأصحابه أنعبد متجاوزين عبادة الله الجامع لجميع صفات الألوهية ما لا يقدر على نفعنا في الدنيا والآخرة إن عبدناه، ولا على ضرنا فيهما إذا تركناه ونرد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك، وإنما يقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل: إنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه لأن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا تكامل حصل له العلم فإذا يرجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي فيكون مثلنا كالذي استنزلته الشياطين من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض تائها عن الجادة لا يدري ما يصنع وللنازل إلى الوهدة المظلمة عينية وأصحابه رفقة وهم أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعونه إلى الطريق المستقيم يقولون: ائتنا إلى الجادة والغيلان ينزلونه إلى السافلة المظلمة فبقي متحيرا أين يذهب. وهذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه كما أن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة، وذلك يدل على كمال التردد والتحير فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يكثر بلاؤه بسبب سقوطه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالا للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه هو الإسلام هُوَ الْهُدى الكامل النافع الشريف وما عداه ضلال محض، وغي بحت وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي قل وأمرنا بأن نخلص العبادة لرب العالمين لأنه

المستحق للعبادة وقل أقيموا الصلاة واتقوا الله تعالى في مخالفة أمره المقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب تنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان. فإن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر، فيخاطب الكافر بخطاب الغائبين لأنه كالأجنبي الغائب، فيقال له: وأمرنا لنسلم لرب العالمين وإذا أسلم وآمن صار كالقريب الحاضر فيخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) أي تجمعون يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما فيهما بِالْحَقِّ أي قائما بالحق لا عابثا وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أي وأمره المتعلق بكل شيء يريد خلقه حين تعلقه به هو المعروف بالحقية. والمراد من هذا الأمر التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وهذا بيان أن خلقه تعالى للسموات والأرض ليس مما يتوقف على مادة ولا مدة بل يتم بمحض الأمر التكويني من غير توقف على شيء آخر أصلا. والمراد بالقول كلمة «كن» تمثيل لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمنا من زمن النطق بكن وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إنما أخبر الله عن ملكه يومئذ لأنه لا منازع له يومئذ فإن الملوك اعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين نفخة الصعق أي الموت، ونفخة البعث للحساب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي عالم ما غاب عن العباد وما عمله العباد وقوله تعالى: وَلَهُ الْمُلْكُ يدل على كمال القدرة وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يدل على كمال العلم وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) فالحكيم هو المصيب في أفعاله والخبير هو العالم بحقائق الأشياء من غير اشتباه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ وهو في التوراة تارح فلأبي إبراهيم اسمان آزر وتارح بن ناحور. واعلم أن جميع نسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطهر من عبادة الأصنام ما دام النور المحمدي في أصلابهم أما بعد انتقاله منهم فتجوز عليهم عبادة الأصنام وغيرها من سائر أنواع الكفر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي أتجعل لنفسك أصناما آلهة فتعبد أصناما شتى صغيرا وكبيرا ذكرا وأنثى إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) أي إني أراك يا أبت وقومك في ضلال عن الحق بين في الاتفاق على عبادة الأصنام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) أي كما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه والحق في خلاف ما كان قومه عليه من عبادة الأصنام نريه ملكوت السماوات والأرض من وقت طفوليته ليراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه، وعلوه وعظمته وليصير زمان بلوغه من البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، لأن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات والصفات فهي غير متناهية من جهات دلالتها على الذوات والصفات كما نقل عن إمام الحرمين أنه يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات غير متناهية أيضا وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، وكل تلك

الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله وقدرته، وإذا كان الجوهر الفرد وهو الجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى على سمات عظمته وعزته غير متناهية، وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فحينئذ لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقب بعض وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية، وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم فَلَمَّا جَنَّ أي أظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ في السرب رَأى كَوْكَباً وهي الزهرة وهي في السماء الثالثة قالَ هذا رَبِّي مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكوكب فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) أي لا أحب الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً أي مبتدئا في الطلوع إثر غروب الكواكب قالَ هذا رَبِّي هذا أكبر من الأول حكاية لقول الخصم الذين يعبدون الكواكب فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى حضرة الحق لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فإن شيئا مما رأيته لا يليق بالربوبية فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أي مبتدئه في الطلوع قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ من الأول والثاني فَلَمَّا أَفَلَتْ أي هي قالَ مخاطبا للكل صادعا بالحق بينهم يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) بالله من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث. اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان وهو نمروذ بن كنعان رأى رؤيا كأن كوكبا قد طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء، وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد في هذه السنة فحبلت أم إبراهيم به وما أظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر، فجاء جبريل عليه السلام ووضع إصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت: أنا، فقال: ومن ربك؟ قالت: أبوك، فلما أتاه أبوه آزر فقال: يا أبتا من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: ملك البلد نمروذ، فعرف إبراهيم جهلهما بربهما فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئا يستدل به على وجود الرب تعالى فرأى النجم الذي هو أضوء النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ولما تبرأ إبراهيم من المشركين توجه إلى منشئ هذه المصنوعات فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي إني وجهت طاعتي وصرفت وجه قلبي للذي أخرج السموات والأرض إلى الوجود حَنِيفاً أي مائلا عن كل معبود دون الله تعالى وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) في شيء من الأفعال والأقوال وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه في آلهتهم وخوفوه بها.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 إلى 90]

روي أنه لما شبّ إبراهيم جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها له ليبيعها فيذهب بها وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها: اشربي. استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه بها فقالوا له: احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بخبل أو جنون بعيبك إياها فذلك قوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ. قالَ أي إبراهيم لهم: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي أتخاصمونني في وحدانية الله وَقَدْ هَدانِ لدينه فكيف ألتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ من الأصنام لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا أن يشاء ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها كأن يحييها ويمكنها من إيصال المنفعة والمضرة إلي، أو من نزع المعرفة من قلبي فأخاف ممن تخافون وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فإنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) أن نفي الشركاء عن الله تعالى لا يوجب نزول العذاب وإثبات التوحيد له تعالى لا يوجب استحقاق العقاب. أو المعنى أتعرضون عن التأمل في أن آلهتكم جمادات لا تضر ولا تنفع فلا تتذكرون أنها غير قادرة ولا تتعظون فيما أقول لكم من النهي وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الله إشراككم بالله ما يمتنع حصول الحجة فيه، أو ما لم يرد الأمر به أي وكيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا، وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوّفات وهو إشراككم بالله الذي لا يماثل ذاته وصفاته شيء في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف فأي الفريقين من الموحدين والمشركين أحق بالأمن من معبود أحد الفريقين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) من أحق بذلك فأخبروني فلم يجيبوا فأجاب الله ما سأل عنهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ أي الفريق الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك بأن لم يثبتوا لله شريكا في المعبودية أولئك لهم الأمن من العذاب وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) إلى الصواب ومن عداهم في ضلال ظاهر والله تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم أي عدم النفاق بالإيمان. وأما الفاسق فهو مؤمن فوعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله وأن يعفو عنه فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم وَتِلْكَ أي ما احتج به إبراهيم على قومه حُجَّتُنا آتَيْناها أي ألهمناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ متعلق بحجتنا نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي بغير إضافة أي نرفع من نشاء رفعه في رتب عظيمة عالية من العلم والحكمة والمنزلة. وقرأ الباقون بالإضافة إِنَّ رَبَّكَ يا أكرم الرسل حَكِيمٌ في كل ما فعل من رفع وخفض. عَلِيمٌ (83) بحال من يرفعه أي إن الله يرفع درجات من يشاء بمقتضى حكمته وعلمه فإن أفعاله تعالى منزهة عن العبث وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم لصلبه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ من إسحاق كُلًّا هَدَيْنا أي كل واحد من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أرشدنا إلى النبوة والرسالة وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي وهدينا من ذرية نوح داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ هو ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) أي ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائنا مثل ذلك الجزاء على إحسانهم وهو الإتيان بالأعمال الحسنة على حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي، وقد فسره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» . وَزَكَرِيَّا ابن أذن وَيَحْيى ابنه وَعِيسى ابن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ بن ياسين بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران كُلٌّ أي كل واحد من أولئك المذكورين مِنَ الصَّالِحِينَ (85) أي من الكاملين في الصلاح. وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عمّا لا ينبغي وَإِسْماعِيلَ بن إبراهيم وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز. قرأ حمزة والكسائي واليسع بتشديد اللام وسكون الياء. والباقون واليسع بلام واحدة ساكنة وبفتح الياء وَيُونُسَ بن متى وَلُوطاً بن هاران أخي إبراهيم وَكلًّا من هؤلاء الأنبياء فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) فهم يفضلون على الملائكة والأولياء. واعلم أن الله تعالى خصّ كل طائفة من الأنبياء بنوع من الكرامة والفضل فمنهم أصول الأنبياء وإليهم يرجع حسبهم جميعا وهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق بعد النبوة الملك والسلطان والقدرة، وقد أعطى الله داود وسليمان من هذا الباب نصيبا عظيما، ثم المرتبة الثالثة البلاء الشديد، والمحنة العظيمة، وقد خصّ الله أيوب بهذه الخاصية، والمرتبة الرابعة من كان مستجمعا لهاتين الحالتين وهو يوسف فإنه نال البلاء الكثير في أول الأمر، ثم أعطاه الله النبوة مع ملك مصر، والمرتبة الخامسة من فضائل الأنبياء: قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة العظيمة والصولة الشديدة وذلك في حق موسى وهارون.

_ (1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 31، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 57، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في القدر، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: 4، وابن ماجة في المقدّمة، باب: في الإيمان، وأحمد في (م 1/ ص 27) .

والمرتبة السادسة: الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وترك مخالطة الخلق وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله بعد هؤلاء من لم يبق له فيما بين الخلق أتباع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط والله أعلم. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وهذا إما عطف على «كلا» فالعامل فيه «فضلنا» ومن تبعيضية أو على «نوحا» فالعامل فيه «هدينا» و «من» ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدينا بالنبوة والإسلام من آبائهم جماعات كثيرة آدم وشيث وإدريس وهود وصالح ومن ذرياتهم جماعات كثيرة أولاد يعقوب ومن إخوانهم جماعات إخوة يوسف وَاجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم بالنبوة والرسالة وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) أي إلى معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك ذلِكَ أي معرفة الله بوحدانيته هُدَى اللَّهِ أي دين الله فان الايمان لا يحصل الا بخلق الله تعالى يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم المستعدون للهداية في الإرشاد وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء لحبط عنهم مع فضلهم وعلو درجاتهم أعمالهم المرضية وعبادتهم الصالحة فكيف بمن عداهم. والمقصود من هذا الكلام تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك أُولئِكَ أي الأنبياء الثمانية عشر الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم فهما تاما لما في الكتاب وعلما محيطا بأسراره وَالْحُكْمَ فإن الله تعالى جعلهم حكاما على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر وَالنُّبُوَّةَ فيقدرون بها على التصوف في ظواهر الخلق كالسلاطين، وفي بواطنهم وأرواحهم كالعلماء فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة هؤُلاءِ أي كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي وفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أي بجاحدين في وقت من الأوقات وهم الأنصار وأهل المدينة أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي أولئك الذين قصصناهم من النبيين هداهم الله بالأخلاق الحسنى فبأخلاقهم الشريفة اقتده، واستدل بهذه الآية بعض العلماء على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أفضل من جميع الأنبياء، وذلك لأن جميع الصفات الحميدة كانت متفرقة فيهم فأمر الله تعالى رسوله سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهم بأسرهم في جميع صفات الكمال التي كانت متفرقة فيهم فيلزم أنه صلّى الله عليه وسلّم حصّلها، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل منهم بكليتهم. فكان نوح صاحب تحمل الأذى من قومه. وكان إبراهيم صاحب كرم وبذل ومجاهدة في الله تعالى، وكان إسحاق ويعقوب صاحبي صبر على البلاء والمحن. وكان داود وسليمان من أصحاب الشكر على النعمة، وكان أيوب صاحب صبر على البلاء وكان يوسف جامعا بين الصبر والشكر، وكان موسى صاحب الشريعة الظاهرة، وكان زكريا ويحيى وعيسى وإلياس من أصحاب الزهد في الدنيا، وكان إسماعيل صاحب صدق وكان يونس صاحب تضرع. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي القرآن أَجْراً من جهتكم إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) أي ما القرآن إلا عظة للجن والإنس من جهته تعالى

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 100]

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه تعالى حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. روي أن مالك بن الصيف- وهو من أحبار اليهود- ورؤسائهم جاء في مكة يخاصم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان رجلا سمينا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين» فقال: نعم- وكان يحب إخفاء ذلك لكن أقر لإقسام النبي عليه- فقال له النبي: «أنت حبر سمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود» «1» . فضحك القوم، فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك، ولا على موسى. فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمع قومه تلك المقالة قالوا: ويلك. ما هذا الذي بلغنا عنك أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا قال؟!: أغضبني محمد فقلته، فقالوا: وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق. فعزلوه من الحبرية وعن رئاستهم لأجل هذا الكلام وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. قُلْ لهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ أي حال كون الكتاب ظاهرا جليا في نفسه وهاديا للناس من الضلالة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً أي تضعون الكتاب في ورقات مفرقة فجعلوه أجزاء نحو نيف وثمانين جزءا، وفعلوا ذلك ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه، فيجعلون ما يريدون إخفاءه على حدى ليتمكنوا من إخفائه. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بياء الغيبة في الأفعال الثلاثة. والباقون بتاء الخطاب وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود من الأحكام وغيرها ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من قبل نزول التوراة. وقيل: المراد من قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدمه صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقرءون تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث محمدا ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه صلّى الله عليه وسلّم قُلِ اللَّهُ أي قل يا أكرم الرسل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) أي ثم اتركهم في باطلهم الذين يخوضون فيه يسخرون فإنك إذا أقمت الحجة لم يبق عليك من أمرهم شيء ألبتة وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ أي وهذا القرآن كتاب أنزلناه بالوحي على لسان جبريل مُبارَكٌ أي كثير خيره دائم منفعته يبشر بالمغفرة يزجر عن المعصية مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد وتنزيه الله، والدلالة على البشارة والنذارة وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى.

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (62) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7: 388) ، والواحدي في أسباب النزول (147) . [.....]

قرأ شعبة «لينذر» على الغيبة أي لينذر الكتاب والباقون و «لتنذر» بالخطاب. أي ولتنذر يا أكرم الرسل أهل مكة سميت أم القرى لأنها قبلة أهل الدنيا ولأنها موضع الحج وهي من أصول عبادات أهل الدنيا فيجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم، فلما اجتمع أهل الدنيا فيها بسبب الحج فيلزم أن يحصل فيها أنواع التجارات وهي من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى وَمَنْ حَوْلَها أي من أهل جميع بلاد العالم وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالوعد والوعيد والثواب والعقاب يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالكتاب وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) فإن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله فلم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة. قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] أي صلاتكم. ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «1» وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدّعيان النبوة والرسالة من عند الله تعالى على سبيل الكذب أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ. روي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما نزل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] أملاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما بلغ قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: فتبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا نزلت الآية اكتبها كذلك» «2» فشك عبد الله وقال: إن كان محمدا صادقا فقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم قبل فتح مكة حين نزول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمر الظهران وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كما ادعى النضر بن الحرث معارضة القرآن فإنه قال في شأن القرآن: إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله، وقال: لو نشاء لقلنا مثل هذا. قال العلماء: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذبا في ذلك الزمان وبعده لأن خصوص السبب لا يمنع عموم الحكم وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) أي ولو ترى يا أشرف الخلق الظالمين وقت كونهم في شدائد الموت

_ (1) رواه أحمد في (م 6/ ص 421) ، «بما معناه» . (2) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (62) .

في الدنيا والملائكة باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد، وخلّصوها من هذه الآلام، هذا الوقت تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد بسبب الافتراء على الله والتكبر على آيات الله، لرأيت أمرا فظيعا. أو المعنى ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى أنواع الشدائد والتعذيبات في الآخرة فأدخلوا جهنم والملائكة باسطوا أيديهم عليهم بالعذاب مبكتين لهم قائلين: أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد هذا الوقت تجزون العذاب المشتمل على الإهانة بسبب كونكم قائلين قولا غير الحق، وكونكم مستكبرين عن الإيمان بآيات الله لرأيت أمرا عظيما. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب فُرادى عن الأهل والمال والجاه كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي مشبهين ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما أي ليس معهم شيء وَتَرَكْتُمْ بغير اختياركم ما خَوَّلْناكُمْ أي أعطيناكم من الأموال وَراءَ ظُهُورِكُمْ في الدنيا أما إذا صرف الأموال إلى الجهات الموجبة لتعظيم أمر الله وللشفقة على خلق الله فما تركها وراء ظهره بل قدمها تلقاء وجهه وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي وما نرى معكم أصنامكم التي زعمتم أنها شركاء لله في استحقاق عبادتكم لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ. قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بالنصب. أي لقد تقطعت الشركة بينكم. والباقون بالرفع أي لقد تقطع وصلكم ف «البين» اسم يستعمل للوصل والفراق فهو مشترك بينهما كالجون للأسود والأبيض وَضَلَّ أي ضاع عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إن الأصنام شفعاؤكم إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي شاق جميع الحبوب من الحنطة وغيرها وَالنَّوى وهي التي في داخل الثمار أي فإذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مرّ عليها مدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة أو النواة من أعلاها شقا ومن أسفلها شقا آخر فيخرج من الحبة ورق أخضر ومن النواة شجرة صاعدة في الهواء ويخرج منها عروق هابطة في الأرض يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج من النطفة بشرا حيا، ومن البيضة فروخا حية، ومن الحب اليابس نباتا غضا، ومن الكافر مؤمنا، ومن العاصي مطيعا وبالعكس ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) أي ذلكم الله المدبر الخالق، النافع الضار، المحيي المميت فمن أين تكذبون في إثبات القول بعبادة الأصنام؟ وقيل: المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي يستريح فيه الخلق من التعب الحاصل في النهار.

قرأ عاصم وحمزة والكسائي على صيغة الماضي. والباقون على صيغة اسم الفاعل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي قدّر الله تعالى حركة بمقدار معين من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة، وقدّر حركة القمر بحيث تتم الدورة في شهر وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي حصول هذه الأحوال لا يمكن إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وبعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات فليس حصول حركات أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة بالطبع وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي وهو الذي خلق لكم النجوم لاهتدائكم بها في مشتبهات الطرق إذا سافرتم في بر أو بحر، ولاستدلالكم بها على معرفة القبلة وعلى معرفة أوقات الصلاة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) أي قد بينّا العلامات الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا لقوم يتأملون فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب، أي فإن هذه النجوم كما يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي الذي خلقكم مع كثرتكم من نفس آدم عليه السلام فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف. والباقون بفتحها وأما مستودع فهو بفتح الدال لا غير بالمعنى على الأول فمنكم مستقر ومنكم شيء مودع في الصلب وهو النطفة وعلى الثاني فلكم مكان استقرار وهو الأرحام، ومكان استيداع وهو نفس الأصلاب. والفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر ما لم يكن على قرب الزوال والمستودع ما كان على قرب الزوال فإن النطفة تبقى في صلب الأب زمانا قصيرا والجنين يبقى في رحم الأم زمانا طويلا ولما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع على الصلب. وقيل: إن المستقر صلب الأب والمستودع: رحم الأم، لأن النطفة حصلت في صلب الأب قبل حصولها في رحم الأم. فحصول النطفة في الرحم من فعل الرجل مشبه بالوديعة وحصولها في الصلب لا من جهة الغير. وقال أبو مسلم الأصبهاني: إن تقدير الآية هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى، وإنما عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تنشأ في صلبه وتستقر فيه. وإنما عبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي قد بينا العلامات الدالة على قدرتنا من تفاصيل خلق البشر لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) أي يدققون النظر فإن

إنشاء الأنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف صنعة وإن الاستدلال بالأنفس أدق من الاستدلال بالنجوم في الآفاق لظهورها وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي وهو الله الذي خلق هذه الأجسام في السماء ثم ينزلها إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي تنمو من أنواع النجم والشجر فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي النبات خَضِراً أي زرعا. والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولا في القمح والشعير والذرة والأرز ويكون السنبل في أعلاه نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً بعضه على بعض في سنبله واحدة وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها أي كيزانها قبل أن ينشق عن الإغريض قِنْوانٌ أي عراجين تدلت من الطلع دانِيَةٌ أي قريبة من القاطف يناله القائم والقاعد وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ. قرأ عاصم بالرفع وهي قراءة علي، أي ومن الكرم جنات من أعناب. والباقون بالنصب والتقدير وأخرجنا بالماء بساتين من أعناب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي شجرهما والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي إن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة، وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة، وأيضا بعض حبات العنقود من العنب متشابهة وبعضها غير متشابه فإنك إذا أخذت العنقود ترى حباته نضجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة. انْظُرُوا أيها المخاطبون. نظر اعتبار إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد مما ذكر. قرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم. والباقون بفتح الثاء والميم إِذا أَثْمَرَ أي إذا خرج ثمره فتجدوه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وَيَنْعِهِ أي وانظروا إلى حال نضجه وكماله فتجدوه قد صار قويا جامعا لمنافع جمة إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي في اختلاف الألوان وهو ما أمر بالنظر إليه لَآياتٍ أي عظيمة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) أي لمن سبق في حقه قضاء الله بالإيمان، فأما من سبق له قضاء الله بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة ألبتة أصلا. وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي قال المجوس: إن الله تعالى وإبليس أخوان شريكان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب، وقالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وهو المسمى بإبليس في شرعنا. وَخَلَقَهُمْ أي وقد علموا أن الله خلقهم فإن أكثر المجوس معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو حادث، وإنما كان إبليس أصلا لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح وقد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل

[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 إلى 110]

الشرور والقبائح والمفاسد، ثم إن في المجوس من يقول: إنه تعالى تفكّر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب فنشأ الشيطان عن ذلك العجب ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فنشأ من شكه الشيطان فهؤلاء معترفون بأن أهرمن محدث وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى هذا المعنى والضمير عائد إلى الجن وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ. قرأ نافع و «خرقوا» بتشديد الراء والجمهور بتخفيفها، وقرأه ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك إلا أنه شدد الراء أي كذبوا في الله حيث وصفوه تعالى بثبوت البنين والبنات مصاحبين لجهل حقيقة ما وصفوه فالذين أثبتوا لبنين النصارى وقوم من اليهود حيث قال النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله والذين أثبتوا البنات العرب الذين يقولون: الملائكة بنات الله، فلو عرفوا أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته لامتنعوا أن يثبتوا له تعالى البنين والبنات، فإن الولد دال على كونه منفصلا من جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يكون في مركب يمكن انفصال بعض أجزائه وذلك في حق الفرد الواجب لذاته محال فمن عرف حقيقة الإله استحال أن يقول له تعالى ولد سُبْحانَهُ نزه الله ذاته بنفسه عمّا لا يليق به وَتَعالى أي تقدس عَمَّا يَصِفُونَ (100) بأن له تعالى شريكا وولدا. فالتسبيح يرجع إلى ذات المسبح والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له تعالى سواء سبحه تعالى مسبح أم لا؟ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. والمعنى أن الله تعالى أخرج عيسى إلى الوجود من غير سبق الأب والنطفة كما أنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سبق مادة ومدة، فلو لزم من مجرد كونه تعالى مبدعا لإحداث عيسى كونه تعالى والدا له عليه السلام لزم من كونه تعالى مبدعا للسموات والأرض كونه تعالى والدا لهما وذلك باطل بالاتفاق، فثبت أن مجرد كونه تعالى مبدعا لعيسى لا يقتضي كونه والدا له أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أي من أين يكون له تعالى ولد والحال ليس له زوجة؟ أي لأن الولد لا يصح إلا ممن كانت له زوجة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الزوجة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والشهوة واللذة وكل ذلك محال على خالق العالم وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي من أين يكون له ولد والحال أنه تعالى خلق جميع الأشياء؟ فإن تحصيل الولد بطريق الولادة إنما يصح في حق من لا يقدر على التكوين دفعة واحدة فمن كان قادرا على تكوين المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له: كن، فيكون. ومن كان صفته هكذا امتنع إحداث شخص منه بطريق الولادة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) أي فإن علم الله أن في تحصيل الولد نفعا له تعالى وكمالا وجب حصول الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليا وهو محال. وإن علم أنه ليس له تعالى في تحصيل الولد ازدياد مرتبة في الإلهية ولا كمال حال فيها

وجب أن لا يحدثه ألبتة في وقت من الأوقات، وأيضا الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة وهو يوجب اللذة وهي مطلوبة لذاتها فوجب أن يعلم الله أن تحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت فوجب أن تحصل تلك اللذة في الأزل فلزم كون الولد أزليا، وذلك محال فثبت عدم صحة الولد عليه تعالى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ واسم الإشارة راجع إلى الإله الموصوف بما تقدم من الصفات. واسم الجلالة خبر أول ورَبُّكُمْ خبر ثان ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثالث، وخالِقُ كُلِّ شَيْءٍ خبر رابع والفاء في قوله فَاعْبُدُوهُ لمجرد السببية من غير عطف، أي ثبت أن إله العالم فرد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والأولاد وذلك الجامع لهذه الصفات العظيمة هو الله المستحق للعبادة مالك أمركم لا شريك له في ذلك خالق ما كان وما يكون فاعبدوه ولا تعبدوا أحدا غيره، وللعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة ومن جملتها هذه الطريقة وتقريرها من وجوه: الأول: أن يقال الصانع الواحد كاف في كونه إلها للعالم ومدبرا له، وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافئ لأنه لم يدل الدليل على ثبوته لأنه يلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال، أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو محال أيضا، وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد. والثاني: أن يقال إن الإله القادر على كل الممكنات، العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم. فلو قدرنا إلها ثانيا فإما أن يكون فاعلا أو لا، فإن كان فاعلا صار مانعا للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سببا لعجز الآخر وهو محال، وإن لم يكن فاعلا كان ناقصا معطلا وذلك لا يصلح للإلهية. والثالث: أن يقال أن الإله الواحد لا بدّ وأن يكون كاملا في صفات الإلهية فلو فرضنا إلها ثانيا فإما أن يكون مشاركا للأول في جميع صفات الكمال أو لا فإن كان مشاركا في ذلك فإما أن يكون متميزا عن الأول أو لا، فإن لم يكن متميزا عنه بأمر من الأمور لم تحصل الإثنينية، وإن امتاز بصفات الكمال لم تكن جميع صفاته مشتركة بينهما وإن امتاز بغير صفات الكمال، فلذلك نقصان. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم وإيجاده وأن الزائد يجب نفيه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) أي حافظ فيجب أن يعلم كل مكلف أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه ويقال: أي كفيل بأرزاق خلقه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي لا تراه الأبصار في الدنيا وهو تعالى يراه المؤمنون في الآخرة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في

رؤيته» «1» فالتشبيه واقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي، واتفق الجمهور أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فقال: «الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله» . وروي أن الصحابة اختلفوا في أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل رأى الله تعالى ليلة المعراج أو لا، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب وما نسبه إلى الضلالة وهذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤية الله تعالى. وقيل: المعنى لا تحيط به تعالى الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة لعدم انحصاره وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي والله تعالى مدرك لحقيقة الأبصار وَهُوَ اللَّطِيفُ فيلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ (103) أي العالم بكل لطيف فلا يلطف شيء عن إدراكه. وقيل: إنه تعالى لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية، ولا يقطع عنهم كثرة رحمته سواء كانوا مطيعين أو عصاة. وقيل: إنه تعالى لطيف بهم بحيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي جاءكم آيات القرآن كائنة من ربكم وسميت تلك الآيات بصائر لأنها أسباب لحصول الأنوار للقلوب. وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ الآية استئناف وارد على لسان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ أي فمن اهتدى بآيات القرآن فآمن فنفع إهدائه لنفسه وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها أي ومن ضل عنها بأن كفر بها فمضرة ضلالته وكفره على نفسه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) أي لأعمالكم وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي مثل ذلك الإتيان البديع نأتي بالآيات متواترة حالا بعد حال لتلزمهم الحجة وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالألف وفتح التاء. أي ليقول بعضهم ذاكرت يا محمد أهل الأخبار الماضية فيزداد كفرا على كفر وتثبيتا لبعضهم فيزداد إيمانا على إيمان. وذلك لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يظهر آيات القرآن نجما نجما، والكفار كانوا يقولون: إن محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يتفكر فيها ويصلحها آية فآية، ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لم يأت بهذا القرآن دفعة واحدة. كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة أي فإن تكرير هذه الآيات حالا بعد حال هي التي أوقعت الشك للقوم في أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين. وقرأ ابن عامر «درست» بفتح السين وسكون التاء أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد انمحت وتكررت على الأسماع، كقولهم: أساطير الأولين. وقرأ الباقون «درست» بدون

_ (1) رواه أبو عوانة في المسند (1: 376) ، وأبي حنيفة في المسند (19) .

الألف وسكون السين وفتح التاء أي حفظت وأتقنت بالدرس أخبار الأولين كقولهم: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا وَلِنُبَيِّنَهُ أي الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) وهم أولياء الله الذين هداهم إلى سبيل الرشاد اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي لزم العمل بما أنزل إليك من ربك ولا يصر ذلك القول سببا لفتورك في تبليغ الرسالة والدعوة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) أي اترك في الحال مقابلتهم فيما يأتونه من سفه واعدل إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التغليظ والتنفير وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكهم ما أَشْرَكُوا أي لا تلتفت يا أشرف الخلق إلى سفاهات هؤلاء الكفار الذين قالوا لك: إنما جمعت هذا القرآن من مذاكرة الناس ولا يثقلن عليك كفرهم، فإنا لو أردنا إزالة الكفر عنهم لقدرنا ولكنا تركناهم مع كفرهم فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا من جهتنا تحفظ أعمالهم عليهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) أي وما أنت يا أكرم الرسل حافظ عليهم من جهتهم فتدبر مصالحهم وتقوم بأمورهم وتكفل أرزاقهم. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولا تسبوا أيها المؤمنون من يعبدون الأصنام من حيث عبادتهم لآلهتهم كأن تقولوا: تبا لكم ولما تعبدون من الأصنام مثلا فيسبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تجاوزا عن الحق إلى الباطل بجهالة منهم بما يجب عليهم، فإن الصحابة متى شتموهم كانوا يشتمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى الله تعالى، لأن الكفار كانوا مقربين بالله تعالى وكانوا يقولون: إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى. أو المعنى ولا تسبوا الأصنام الذين كان المشركون يعبدونهم فيسبوا الله للظلم بغير علم لأنهم جهلة بالله تعالى لأن بعضهم كان قائلا بالدهر ونفي الصانع. قال قتادة: كان المؤمنون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة لا علم لهم بالله عز وجل اه. وإنما نهوا عن سب الأصنام، وإن كان مباحا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد وهو سب الله وسب رسوله. فظاهر الآية كان نهيا عن سب الأصنام وحقيقتها النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك وفي ذلك دلالة على أن الطاعة إذا أدّت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شرّ كَذلِكَ أي مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ أي لأمم الكفرة عَمَلَهُمْ أي شرّهم وفسادهم بإحداث ما يحملهم عليه فإن المعاصي سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، وكذا الطاعات فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» «1» وفي هذه الآية دلالة على تكذيب القدرية

_ (1) رواه مسلم في كتاب الجنّة، باب: 1، وأبو داود في كتاب السنّة، باب: في خلق الجنّة

[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 إلى 120]

والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله تعالى خلق الكفر وتزيينه ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ بالبعث بعد الموت فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزينة لهم فأعمال الكفرة قد برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة يستحسنها الغواة ويستحبها الطغاة، وستظهر في النشأة الآخرة بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة فعند ذلك يعرفون أن أعمالهم ماذا. فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقية بالإخبار بها لما أن كلا منهما سبب للعلم بحقيقتها كما هي وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي قسم كفار مكة بالله غاية أيمانهم لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة كما طلبوا لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي قالوا لسيدنا رسول الله: إن هذا القرآن كان أمره فليس من جنس المعجزات ألبتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي: قالت قريش: يا محمد إنك تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحا أخرج الناقة من الجبل فأتنا بآية لنصدقك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما الذي تحبون؟» فقالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا، وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام صلّى الله عليه وسلّم يدعو فجاءه جبريل فقال: إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوك ليعذبهم الله، وإن تركتهم تاب الله على بعضهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل يتوب على بعضهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي إنه تعالى هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره وَما يُشْعِرُكُمْ أي أيّ شيء يعلمكم أيها المؤمنون بإيمانهم أي لا تعلمون ذلك أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو «إنها» بكسر الهمزة على الاستئناف. والباقون بالفتح فهي بمعنى لعل ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفهمونه ونقلب أبصارهم عن اجتلاء الحق فلا يبصرونه كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما جاء صلّى الله عليه وسلّم من الآيات أَوَّلَ مَرَّةٍ أي فلا يؤمنون عند نزول مقترحهم لو نزل كما لم يؤمنوا عند نزول الآيات السابقة على اقتراحهم كانشقاق القمر وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) أي نتركهم في ضلالهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما طلبوا فشهدوا على ما أنكروا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى من القبور كما طلبوا بأن محمدا رسول الله والقرآن كلام الله وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا. قرأ عاصم وحمزة الكسائي بضمتين أي وجمعنا على المستهزئين زيادة على ما اقترحوه كل شيء من أصناف المخلوقات

_ والنار، والترمذي في كتاب الجنّة، باب: 21، والنسائي في كتاب الأيمان، باب: الحلف بعزة الله تعالى، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في نفس جهنم، وأحمد في (م 2/ ص 260) .

كالسباع والطيور كفلاء بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم. أو المعنى وحشرنا عليهم كل شيء نوعا من سائر المخلوقات. وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء أي حال كون الكفار معاينين للأصناف ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بمحمد والقرآن إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم. أي ولو أظهر الله جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون في حال من الأحوال الداعية إلى الإيمان إلا في حال مشيئته تعالى لإيمانهم. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) أي إن الكفار لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون. قال ابن عباس: المستهزؤون بالقرآن كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب، والحرث بن حنظلة، ثم إنهم أتوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم في رهط من أهل مكة وقالوا له: أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على صحة ما تدعيه فنزلت هذه الآية وَكَذلِكَ أي كما جعلنا المستهزئين عدوا لك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي جعلنا لكل نبي تقدمك عدوا مردة من الإنس والجن. فشياطين الإنس أشد تمردا من شياطين الجن، لأن شيطان الجن إذا عجز عن إغواء المؤمن الصالح استعان على إغوائه بشيطان الإنس ليفتنه، وإضافة شياطين بمعنى من البيانية وهي بدل من «عدوا» وهو مفعول أول قدم على الثاني مسارعة إلى بيان العداوة يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً أي يلقي شياطين الجن إلى شياطين الإنس تزيين القول بالباطل لكي يغروا به الإنس وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ عدم تزيين القوم لأجل الغرور ما فَعَلُوهُ أي تزيين القول المتعلق بأمرك خاصة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) أي اترك الكفرة المستهزئين وافتراءهم بأنواع المكايد فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي ولكي تميل إلى هذا الزخرف قلوب الذين لا يؤمنون بالبعث بعد الموت وَلِيَرْضَوْهُ أي هذا الزخرف لأنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أي وليكتسبوا بسبب ارتضائهم له ما هم مكتسبون من الأيام فيعاقبوا عليها أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا أي قل لهم أأميل إلى زخارف الشياطين فأطلب حكما غير الله يحكم بيننا. والحال أنه تعالى هو الذي أنزل إليكم القرآن وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون مبينا فيه الحق والباطل فلم يبق في أمور الدين شيء من الإبهام، فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهو والحاكم عند أهل اللغة واحد لكن بعض أهل التأويل قال: الحكم أكمل من الحاكم لأن

الحكم لا يحكم إلا بالحق والحاكم قد يجوز، ولأن الحكم من تكرر منه الحكم والحاكم يصدق بمرة وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي التوراة والإنجيل والزبور يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ ملتبسا بِالْحَقِّ. قرأ ابن عامر وحفص «منزل» بتشديد الزاي. والباقون بسكون النون فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) أي من الشاكين في أن علماء أهل الكتاب يلعمون أن هذا القرآن حق وأنه منزل من عند الله وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا أي كفى القرآن من جهة صدقه في أخباره ومن جهة عدله في أحكامه، وكفى في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة علما وعملا وفي كونها معجزة دالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم. قرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمت» على التوحيد دون ألف. والباقون بألف على الجمع و «ترسم» بالتاء المجرورة على كل من قراءة الجمع وقراءة الإفراد، وكذا كل موضع اختلف فيه القراء جمعا وإفرادا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا أحد يبدل شيئا من القرآن بما هو أصدق وأعدل ولا بما هو مثله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) بالمقال والأعمال وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي وإن تطع يا أشرف الخلق كفار الناس فيما يعتقدونه من إحقاق الباطل وإبطال الحق يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الطريق الموصل إلى الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في إثبات مذهبهم إلا رجوعهم إلى تقليد أسلافهم وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم على آثارهم مقتدون وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) أي يكذبون فإن رؤساء أهل مكة- منهم أبو الأحوص مالك بن عوف الجشمي، وبديل بن ورقاء الخزاعي وجليس بن ورقاء الخزاعي- قالوا للمؤمنين: إن ما ذبح الله خير مما تذبحون أنتم بسكاكينكم. وروي أن المشركين قالوا للنبيّ: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال: «الله قتلها» «1» . قالوا: أنت تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتلها الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) أي فإن هؤلاء الكفار كاذبون في ادعاء اليقين والله عالم بكونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل، أي فإنك إذا عرفت ذلك ففوّض أمرهم إلى خالقهم لأنه عالم بالمهتدى والضلال فيجازي كل واحد بما يليق بعمله فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وهذا أمر متفرع من النهي عن اتباع المضلين، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم. فقال الله للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 42) ، والطبري في التفسير (8: 13) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 121 إلى 130]

ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله خاصة لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أي وأيّ سبب حاصل لكم في أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأن تأكلوا من غيره. والحال أنه قد بيّن لكم ما حرم عليكم بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ [الأنعام: 145] فهذا وإن كان متأخرا في التلاوة فلا يمنع أن يكون هو المراد لأن التأخر في هذا قليل. وأيضا التأخر في التلاوة لا يوجب التأخر في النزول، أو بقوله تعالى في أول سورة المائدة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] الآية. لأن الله تعالى علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي إلا ما دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة مما حرم عليكم فهو حلال لكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ببناء «فصل» و «حرم» للمفعول. ونافع وحفص عن عاصم ببنائهما للفاعل. وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم ببناء الفعل الأول للفاعل وبناء الثاني للمفعول وَإِنَّ كَثِيراً من الذين يناظرونكم في إحلال الميتة ويقولون لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وهم أبو الأحوص وأصحابه، أو ممن اتخذ البحائر والسوائب وهو عمرو بن لحي فمن دونه من أضرابه فإنه أول من غير دين إسماعيل لَيُضِلُّونَ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء. والباقون بفتحها بِأَهْوائِهِمْ أي بسبب اتباعهم شهواتهم بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ملتبسين بغير علم مأخوذ من الشريعة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) أي الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أي اتركوا الإعلان بالزنا والاستسرار به وأهل الجاهلية يعتقدون حل السر منه. وقال ابن الأنباري أي وذروا الإثم من جميع جهاته إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ في الدنيا سَيُجْزَوْنَ في الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) أي يكسبون إن لم يتوبوا وأراد الله عقابهم. أما إذا تاب المذنب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب وإذا لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله. وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو الميتة وما ذبح على ذكر الأصنام وَإِنَّهُ أي الأكل مما لم يذكر اسم الله بغير ضرورة أو إن ما ذكر عليه اسم غير الله لَفِسْقٌ أي خروج عما يحل وأجمع العلماء على أن أكل ذبيحة المسلم التي ترك التسمية عليها لا يفسق. وروي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه قال: «ذكر الله مع المسلم سواء قال: أو لم يقل ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب» . وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي إن إبليس وجنوده وسوسوا إلى المشركين. أو المعنى أن مردة المجوس من أهل فارس كتبوا إلى مشركي قريش، وذلك لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس فكتبوا إلى قريش أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله

ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية لِيُجادِلُوكُمْ في أكل الميتة وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) . قال الزجاج: وهذا دليل على أن كل من أجل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركا لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى وهذا هو الشرك أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ أي أو من كان كافرا فهديناه إلى الإيمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً عظيما وهو نور الوحي الإلهي يَمْشِي بِهِ أي بسببه فِي النَّاسِ أي فيما بين الناس آمنا من جهتهم كَمَنْ مَثَلُهُ أي صفته فِي الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والطغيان وعمى البصيرة لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها أي من تلك الظلمات. فإذا دام الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية يعسر إزالتها عنه، وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة، فهو كالموت الذي يوجب السكون، والكافر ميتا لأنه لا يهتدي إلى شيء كالجاهل كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) أي مثل تزيين المؤمنين بالإيمان والنور زين من جهة الله بطريق الخلق ومن جهة الشياطين بطريق الزخرفة للكافرين ما استمروا على عمله. قال زيد ابن أسلم والضحاك: نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقال عكرمة: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. وقال ابن عباس: إن أبا جهل رمى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بفرث فأخبر بذلك حمزة عند قدومه من صيد والقوس بيده وهو لم يؤمن يومئذ فعمد إلى أبي جهل وجعل يضرب رأسه بالقوس، فقال له أبو جهل وقد تضرع إليه: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا! فقال حمزة: أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. فأسلم حمزة يومئذ فنزلت هذه الآية وَكَذلِكَ أي وكما جعلنا في مكة صناديدها رؤساء ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من سائر القرى أَكابِرَ مُجْرِمِيها و «أكابر» مفعول ثان و «مجرميها» مفعول أول والظرف لغو وهو متعلق بنفس الفعل قبله أي جعلنا في كل بدة فساقها عظماء لِيَمْكُرُوا فِيها أي ليفعلوا المكر فيها وهذا دليل على أن الخير والشر بإرادة الله، وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الباطل على الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رئاستهم وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم وجعل فساقهم أكابرهم. وقال مجاهد: جلس على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر يصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقولون لكل من يقدم: هو كذاب ساحر كاهن، فكان هذا مكرهم وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي وما يحيق شر مكرهم إلا بهم وَما يَشْعُرُونَ (123) بذلك أصلا بل يزعمون أنهم

يمكرون بغيرهم. وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ أي وإذا جاءت مشركي العرب- الوليد بن المغيرة وعبد يا ليل، وأبا مسعود الثقفي- آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وتخبرهم بصنيعهم قالوا: لن نصدقك حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أنك رسول الله صادق. قال تعالى ردا عليهم: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ أي الله أعلم من يليق بإرسال جبريل إليه لأمر من الأمور، وهذا إعلام بأنهم لا يستحقون ذلك التشريف. وهذا المعنى قول الحسن ومنقول عن ابن عباس. وقيل: معنى الآية وإذا جاءتهم آية على صدق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالوا: لن نؤمن برسالته أصلا حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل إيتاء رسل الله. قال تعالى: إنه تعالى يعلم من يستحق الرسالة فيشرفه بها، ويعلم من لا يستحقها وأنتم لستم أهلا لها، ولأن النبوة لا تحصل لمن يطلبها خصوصا لمن عنده حسد ومكر وغدر. وقرأ حفص وابن كثير رسالته على التوحيد. والباقون على الجمع ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين، وهذا دعاء عظيم يدعى به بينهما وهو: «اللهم من الذي دعاك فلم تجبه، ومن الذي استجارك فلم تجره ومن الذي استعان بك فلم تعنه ومن الذي توكل عليك فلم تكفه، يا غوثاه يا غوثاه يا غوثاه، بك أستغيث أغثني يا مغيث، واهدني هداية من عندك، واقض حوائجنا واشف مرضانا، واقض ديوننا، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا بحق القرآن العظيم والرسول الكريم برحمتك يا أرحم الراحمين» سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أشركوا. وليدا أو أصحابه بقولهم: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله صَغارٌ أي حقارة عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة فلا حاكم فيها ينفذ حكمه سواه وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) أي بسبب مكرهم بقولهم ذلك وحسدهم للنبي وتكذيبهم له فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي يرشده لدينه يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي قلبه لِلْإِسْلامِ أي لقبول الإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يتركه كافرا يَجْعَلْ صَدْرَهُ أي قلبه ضَيِّقاً كضيق الزج في الرمح. قرأه ابن كثير ساكنة الياء. والباقون مشددة الياء مكسورة حَرَجاً. قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم بكسر الراء أي شديد الضيق. والباقون بفتحها أي مثل المواضع الكثيرة الأشجار المشتبكة التي لا طريق فيها فلا يصل إليها راعية ولا وحشية كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنه يكلف الصعود إلى السماء. قرأه ابن كثير ساكنة الصاد، وقرأه أبو بكر عن عاصم بتشديد الصاد وبالألف. والباقون بتشديد الصاد والعين بغير ألف ومعنى الآية فمن يرد الله أن يهديه قوّى قلبه في ما يدعوه إلى الإيمان، بأن اعتقد أن نفعه زائد وخيره راجح وربحه ظاهر، فمال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله، وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله، ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر، بأن اعتقد أن شر الإيمان زائد وضرره راجح فعظمت النفرة

عنه فإن الكافر إذا دعي إلى الإسلام شق عليه جدا كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء ولا يقدر على ذلك. أو المعنى كأن قلب الكافر يصعد إلى السماء تكبرا عن قبول الإسلام كَذلِكَ أي مثل جعل الله صدرهم ضيقا يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي يسلط الله الشيطان عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) أي في قلوبهم وَهذا أي كون الفعل متوقفا على الداعي الحاصل من الله تعالى صِراطُ رَبِّكَ أي لأن العلم بذلك يؤدي إلى العلم بتوحيد الله مُسْتَقِيماً فكل فعل العباد بقضاء الله تعالى وقدره قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي قد ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) فيعلمون أن كل ما يحدث من الحوادث خيرا كان أو شرا بقضاء الله تعالى لأنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا المرجح وهو الله تعالى لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي للمتذكرين دار الله المنزه عن النقائص وهي الجنة عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أنها معدة عنده تعالى موصوفة بالشرف إلى حيث لا يعرف كنهها غيره تعالى وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي متكفل لهم بجميع مصالحهم في الدين والدنيا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) أي بسبب أعمالهم الصالحة وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً قلنا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ. وقرأ حفص بالياء أي يوم يحشر الله الخلق جميعا يقول: يا جماعة الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي قد أكثرتم من إغواء الإنس وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي وقال الذين أطاعوا الشياطين الذين هم الإنس: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فاستمتاع الإنس بالشياطين هو أن الشياطين كانوا يدلون الإنس على أنواع الشهوات واللذات والطيبات، ويسهّلون تلك الأمور عليهم واستمتاع الشياطين بالإنس هو أن الإنس كانوا يطيعون الشياطين فيما يأمرونهم به وينقادون لحكمهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي أدركنا وقت موتنا الذي عينته لنا قالَ تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم يا جماعة الجن والإنس خالِدِينَ فِيها أي في النار منذ تبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومن مقدار محاسبتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وَكَذلِكَ أي مثل تمكين الشياطين من إضلال الإنس نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم. قال علي رضي الله عنه: لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله: أو جائز. فقال: نعم، يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت. وروي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شر ولّى أمرهم شرارهم. وروي أن أبا ذر سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإمارة فقال له: إنك ضعيف وإنها لأمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها. مَعْشَرَ

[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 إلى 140]

الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ والصحيح أن الرسل إنما كانت من الإنس خاصة وقد قام الإجماع على أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسل للإنس والجن. والمراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم ولوا إلى قومهم منذرين. فالمراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فالله تعالى إنما بكّت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة يقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي أي يتلونها عليكم مع التوضيح ويُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي ويخوفونكم لقاء عذابي في يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه ما أعد لهم من أفانين العقوبات الهائلة قالُوا عند ذلك التوبيخ الشديد شهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أن الرسل أتونا قد بلغوا الرسالة وأنذرونا عذاب يومنا هذا وَإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي اغتروا من الدنيا بما في الزهرة والنعيم وشَهِدُوا في الآخرة على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ (130) فيهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم أقروا على أنفسهم بالكفر في عاقبة أمرهم ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) أي شهادتهم على أنفسهم بالكفر ثابت لانتفاء كون ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول وكتاب. أو المعنى إرسال الرسل ثابت لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى ملتبسين بظلم وهم غافلون عن تبليغ الرسل وعن أمرهم ونهيهم وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل عامل من الجن والإنس مراتب من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) أي فلا يترك شيئا مما يستحق كل عامل من الفريقين من الجزاء فيجزي كلا بما يليق به من ثواب أو عقاب. وقرأ ابن عامر وحده «تعملون» على الخطاب وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أي إن تخصيص الله المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه تعالى محتاج إلى طاعة المطيعين أو ناقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه تعالى غنيا فإن رحمته عامة كاملة. ومن رحمته تعالى على الخلق ترتيب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. ومن رحمته تعالى إرسال الرسل وعدم استئصالهم بالهلاك بذنوبهم في وقت واحد إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيها العصاة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ أي ويوجد من بعد إذهابكم خلقا آخر مخالفا للجن والإنس فتخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) أي وينشئ الله إنشاء كائنا كإنشائكم من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم في العصيان. أي فكما أن الله تعالى قادر على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة كذلك قادر على تصويرهم بصورة مخالفة لها إِنَّ ما تُوعَدُونَ من مجيء الساعة لَآتٍ أي لواقع لا بد لأنهم كانوا ينكرون القيامة

وكل ما تعلق بالوعد من الثواب والعقاب فهو آت لا محالة وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) أي لستم بخارجين عن قدرتنا وحكمنا. قُلْ يا أشرف الخلق لكفار قريش: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على أقصى إمكانكم واستطاعتكم واثبتوا على حالتكم من الكفر والعداوة إِنِّي عامِلٌ بما أمرت به من الثبات على حالتي من الإسلام والمصابرة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي فسوف تعرفون أي أحد الفريقين له العاقبة المحمودة وهي الاستراحة واطمئنان الخاطر أنحن أم أنتم وذلك حاصلة في الجنة. وقرأ حمزة والكسائي «من يكون» بالياء إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) أي لا يفوز الكافرون بمطالبهم ألبتة فلا ينجون من عذاب الله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ أي عين كفار مكة لله مما خلقه من الحرث والأنعام، وكذا من الثمار وسائر أموالهم نصيبا يصرفونه إلى الضيفان والمساكين ونصيبا من ذلك لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون ذبائح عندها فقالوا: هذا لله بكذبهم في جهة أنه تعالى يستحق ذلك من جهتهم لا في وجه التقرب به إليه وهذا لآلهتنا، ثم إن رأوا ما عينوه لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم فأعطوا نصيب الله لسدنة الأصنام، وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها فلم يصرفوه للمساكين بل يصرفونه للسدنة وكان إذا أصابهم قحط استعانوا بما جعلوه وأكلوا منه ووفروا ما جعلوه لآلهتهم ولم يأكلوا منه فإذا هلك ما جعلوه لها أخذوا بدله مما جعلوه لله ولا يفعلون كذلك فيما جعلوه لها وإن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا: إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) أي بئس الذي يحكمون حكمهم من أنهم رجحوا جانب الأصنام على جانب الله ومن أنهم جعلوا شيئا لغير الله تعالى مع أن الله تعالى الخالق للجميع ومن أنهم أحدثوا الحكم من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة الأموال بين الله والآلهة زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بوأد إناثهم ونحر ذكورهم شُرَكاؤُهُمْ أي أولياؤهم من الشياطين ومن السدنة. قرأ العامة زين مبنيا للفاعل. وقتل نصبا على المفعولية وأولادهم خفضا بالإضافة وشركاؤهم رفعا على الفاعل. أي وهكذا زين لهم شياطينهم قتل أولادهم فأمروا بأن يئدوا بناتهم خشية الفقر والسبي وبأن ينحروا ذكورهم لآلهتهم، فكان الرجل في الجاهلية يقوم فيحلف بالله لئن ولد له كذا من الذكور لينحرن أحدهم. كما حلف عبد المطلب لينحرن عبد الله. وقرأ ابن

عامر وحده «زين» مبنيا للمفعول و «قتل» رفعا على الفاعلية، وأولادهم نصبا على المفعولية وشركائهم خفضا على إضافة المصدر إلى فاعله أي زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم وهذه القراءة متواترة صحيحة، فقد قرأ ابن عامر على أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وفضالة بن عبيد، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة المخزومي. وقرأ أيضا على عثمان وولد هو في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِيُرْدُوهُمْ أي يهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ أي وليخلطوا عليهم من دين إسماعيل عليه السلام أي ليدخلوا عليهم الشك في دِينَهُمْ لأنهم كانوا على دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي ما فعل كثير من المشركين قتل الأولاد بدفن البنات في حياتها وبنحر الأولاد الذكور للأصنام فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) أي فاتركهم وكذبهم في قولهم: إن الله يأمرهم بقتل أولادهم فإن في ما شاء الله تعالى حكما بالغة وذلك دليل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى وَقالُوا أي المشركون الذين قسموا نصيب آلهتهم أقساما ثلاثة هذِهِ أي التي جعلناها للآلهة أَنْعامٌ وَحَرْثٌ أي زروع حِجْرٌ أي محرمة لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ أي لا يأكل هذه الأنعام والحرث إلا خدمة الأوثان والرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ أي قالوا: ما ذكر ملتبسين بكذبهم ومن غير حجة وَهذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي والوصائل وَهذه أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا إذا ركبت وإذا حملت، وإذا ذبحت ونسبوا ذلك التقسيم إلى الله تعالى افْتِراءً عَلَيْهِ وهذا إما مفعول له وعامله قالوا أو حال من ضميره أو مصدر مؤكد له لأن قولهم ذلك هو الافتراء سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) أي إن الله سيكافئهم بسبب تقولهم عليه وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أي ما ولد من البحائر والسوائب حيا حلال للذكور خاصة ومحرم على جنس أزواجنا وهي الإناث وما ولد منها ميتا أكله الرجال والنساء جميعا سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي سيوصل الله لهم جزاء ذنوبهم وهو وصفهم بالتحليل والتحريم. فالواصف بذلك عمرو بن لحي وقدر رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جهنم يجر قصبه من دبره وكان يعلمهم تحريم الأنعام إِنَّهُ حَكِيمٌ في التحليل والتحريم عَلِيمٌ (139) في وصفهم بذلك قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ بالوأد للبنات وبالنحر للذكور سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وهم ربيعة ومضر وأمثالهم من العرب وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب هذا الخسران لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله استحق الذم العظيم في الدنيا، لأن الناس يقولون: قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه والعقاب العظيم في الآخرة وسببه خفة العقل لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والقتل أعظم ضررا منه، والقتل ناجز والفقر موهوم وهذه السفاهة إنما نشأت من الجهل الذي هو أعظم المنكرات.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 150]

وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) فإن تحريم الحلال من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع ويستحق ذلك المنع أعظم أنواع العقاب أو أن الجراءة على الله أعظم الذنوب وهم قد ضلوا عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا ولم يحصل لهم الاهتداء قط وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي وهو الذي خلق بساتين مرفوعات على ما يحملها من العروش والساق وملقيات على وجه الأرض ويقال: معروشات أي وهو ما غرسه الناس في البساتين وغير معروشات وهو ما أنبته الله في الجبال والبراري وَأنشأ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ أي جميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي مختلف المأكول من كل منهما في الهيئة والطعم وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأ شجرهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في اللون أو الطعم كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر كل واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ ولو قبل النضج. وقرأ حمزة والكسائي برفع الثاء والميم من ثمره وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم بفتح الحاء أي اعزموا على إيتاء الزكاة لكل من الزروع والثمار يوم الحصاد، ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء وإنما يجب إخراج الزكاة بعد التصفية والجفاف والأمر بإيتائها يوم الحصاد لئلا يؤخر عن وقت إمكان الأداء وليعلم أن وجوبها بالإدراك ولو في البعض لا بالتصفية. والمعنى آتوا حق كل ما وجب يوم الحصاد بعد التصفية وفائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب بنفس الزرع وإدراكه وإنما يجب يوم حصاده وحصوله في يد مالكه لا فيما يتلف من الزرع قبل حصوله في يد مالكه وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما قاله أبو حنيفة ويقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فالعشر واجب في القليل والكثير كما قاله أبو حنيفة وَلا تُسْرِفُوا أي لا تجاوزوا الحد في الإعطاء والبخل حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وتعطوا كله. وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فأنزل الله هذه الآية ولا تسرفوا وقد جاء في الخبر: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «1» إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) فكل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار وَأنشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً أي ما يحمل الأثقال وَفَرْشاً أي ما يفرش للذبح أو ما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله وهو

_ (1) رواه النسائي في كتاب الزكاة، باب: أيّ الصدقة أفضل، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: 41.

ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي ولا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان بتحريم الحرث والأنعام إِنَّهُ أي الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم من الجنة. وقال: لأحتنكن ذريته إلا قليلا ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي أصناف أربعة ذكور من كل من الإبل والبقر والغنم، وأربعة إناث كذلك وهذا بدل من حمولة وفرشا مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ بدل من ثمانية أزواج أي أنشأ من الضأن زوجين الكبش والنعجة وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ أي من المعز زوجين التيس والعنز قُلْ لهم إظهارا لانقطاعهم عن الجواب آلذَّكَرَيْنِ من ذينك النوعين وهما الكبش والتيس حَرَّمَ أي الله تعالى كما تزعمون أنه هو المحرم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ وهما النعجة والعنز أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم ما حملت به إناث النوعين حرم الله تعالى ذكرا كان أو أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أي أخبروني بعلم ناشئ عن طريق الإخبار من الله بأنه حرم ما ذكر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) في دعواكم إن الله حرم بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ أي وأنشأ من الإبل اثنين الجمل والناقة وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا أي بل أكنتم حاضرين حين أمركم الله بهذا التحريم. والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول فإنكم لا تقرون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام وتنسبونها إلى الله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم ممن تعمد على الله كذبا بنسبة التحريم إليه. قال المحققون: إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحقّ هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق لِيُضِلَّ النَّاسَ عن دين الله بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل يضل أي ملتبسا بغير علم بما يؤدي بهم إليه أو حال من فاعل افترى. أي افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى. أي فمن افترى عليه تعالى جاهلا بصدور التحريم عنه تعالى مع احتمال الصدور عنه كان أظلم ظالم فما ظنك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدر عنه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) أي لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي قل يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة الذين يحكمون بالحلال والحرام من عند أنفسهم لا أجد في القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها على آكل بأكله من ذكر أو أنثى إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً. قرأ ابن كثير وحمزة «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالنصب على تقدير إلا أن تكون المحرمة ميتة. وقرأ ابن عامر «تكون» بالتأنيث «ميتة» بالرفع على معنى إلا أن توجد ميتة أو إلا أن تكون

هناك ميتة. وقرأ الباقون «يكون» بالتذكير «ميتة» بالنصب أي إلا أن يكون ذلك المحرم ميتة. وعلى قراءة ابن عامر يكون ما بعد هذا معطوفا على أن يكون الواقعة مستثناة أي إلا حدوث ميتة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي جاريا كالدماء التي في العروق لا كالطحال والكبد أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي الخنزير رِجْسٌ أي نجس فكل نجس يحرم أكله أَوْ فِسْقاً أي ذبيحة خارجة عن الحلال أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي ذبح على اسم الأصنام فَمَنِ اضْطُرَّ أي فمن أصابه الضرورة الداعية إلى أكل الميتة غَيْرَ باغٍ في ذلك على مضطر مثله وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة وهو الذي يسد الرمق فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) أي فلا يؤاخذه ربك بالأكل من ذلك لأنه مبالغ في المغفرة والرحمة وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي وحرمنا على اليهود كل ذي مخلب وبرثن وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما وهو شحم الكرش والكلى إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي إلا الشحم الذي حملته ظهورهما أَوِ الْحَوايا أي أو إلا الشحم الذي حملته المباعر أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ أي أو إلا شحما مختلطا بعظم مثل شحم الألية فإنه متصل بالعصعص فتلخص أن الذي حرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى وأن ما عدا ذلك حلال لهم ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ أي ذلك التحريم عاقبناهم بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) في الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم وهم كاذبون في قولهم حرم ذلك إسرائيل على نفسه بلا ذنب منا فنحن مقتدون به فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي فإن كذبك اليهود في الحكم المذكور، أو كذبك المشركون في ادعاء النبوة والرسالة وفي تبليغ هذه الأحكام فَقُلْ لهم: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عقابه إذا جاء وقته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الذين كذبوك فيما تقول. وقيل: المعنى ذو رحمة واسعة للمطيعين وذو بأس شديد للمجرمين سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا عنادا لا اعتذارا عن ارتكاب هذه القبائح لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ففعلنا حق مرضى عند الله تعالى ولولا أنه تعالى رضي ما نحن فيه لحال بيننا وبينه كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي مثل ما كذبك هؤلاء في أن الله منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب كفار الأمم الماضية أنبياءهم، فكل من كذب نبيا قال الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا فيه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه، وفي قراءة بتخفيف كذب أي مثل كذبهم في قولهم: إن ما فعلوه حق مرضي عند الله تعالى كذب من قبلهم في ذلك حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي عذابنا الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم الرسل وبكذبهم في قولهم إن الله أمرنا بالشرك قُلْ لهؤلاء المشركين: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي بيان على ما تقولون من تحريم ما حرمتم ومن أن الله راض بشرككم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا كما بينا لكم خطأ قولكم وفعلكم

[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 160]

إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) أي وما أنتم في ذلك إلا تكذبون على الله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي قل لهم إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة الواضحة التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشك عمن نظر فيها وهي إنزال الكتب وإرسال الرسل فَلَوْ شاءَ هدايتكم جميعا إلى الحجة البالغة لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) ولكن لم يشأ هداية الكل بل هداية البعض. قُلْ يا أكرم الرسل لهم: هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا أي أحضروا قدوتكم الذين ينصرون قولكم إن الله حرم الذي حرمتموه فَإِنْ شَهِدُوا بعد حضوهم بأن الله حرم ذلك فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدقهم فيما يقولون بل بيّن لهم فساده لأن السكوت قد يشعر بالرضا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) أي إن وقع منهم شهادة فإنما هي باتباع الهوى فلا تتبع أنت أهواءهم فهم كذبوا بالقرآن ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت ويجعلون لله تعالى عديلا. قُلْ يا أكرم الرسل لمن سألك أي شيء حرم الله وهم مالك بن عوف وأصحابه: تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في الكتاب الذي أنزل، «على» مفسرة لفعل التلاوة أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي بربكم شَيْئاً من الإشراك وَبِالْوالِدَيْنِ أي وأحسنوا بهما إِحْساناً ولم يقل الله ولا تسيئوا الوالدين لأن مجرد عدم تلك الإساءة إليهما غير كاف في قضاء حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر وكانوا يدفنون البنات أحياء فبعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الفقر وهذا هو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ أي أولادكم وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وجمع الفواحش للنهي عن أنواعها ولذلك ذكر ما أبدل عنها بدل اشتمال، وتوسيط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن القتل مطلقا، لأنه في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في حق العزل: «ذاك وأد خفي» «1» . وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بكونها معصومة بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا قتلا ملتبسا بالحق وهو أن يكون القتل للقصاص أو للردة أو للزنا بشرطه ذلِكُمْ أي التكاليف الخمسة وَصَّاكُمْ بِهِ أي أمركم به ربكم أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف في الدين والدنيا وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة التي هي أحسن لليتيم كحفظه وتحصيل الربح به حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي قوته مع الرشد

_ (1) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب: 141، وابن ماجة في كتاب النكاح، باب: الغيل، وأحمد في (م 6/ ص 361) .

ومبدؤه من البلوغ وانتهاؤه إلى الثلاثة والثلاثين وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ أي أتموا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان بالعدل من غير نقصان من المعطي ومن غير طلب الزيادة من صاحب الحق لا نُكَلِّفُ نَفْساً عند الكيل والوزن إِلَّا وُسْعَها أي إلا طاقتها في الإيفاء والعدل فإن الواجب في إيفاء الكيل والوزن هو القدر الممكن في إيفائهما أما التحقيق فغير واجب وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان القول على ذي قرابة منكم فإذا دعا شخص إلى الدين وأقام الدليل عليه ذكر الدليل ملخصا عن الزيادة بألفاظ معتادة، وإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فلا ينقص عن القدر الواجب ولا يزيد في الإيذاء والإيحاش، وإذا حكى الحكايات فلا يزيد فيها ولا ينقص عنها، وإذا بلغ الرسالات عن الناس فيجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان، وإذا حكم فيجب أن يحكم بالعدل وأن يسوى في القول بين القريب والبعيد وذلك لطلب رضا الله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا أي أتموا ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور وغيرهما ذلِكُمْ أي التكاليف الأربعة وَصَّاكُمْ بِهِ أي أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) ولما كانت التكاليف الخمسة في الآية الأولى أمورا ظاهرة مما يجب تفهمها ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولما كانت هذه التكاليف الأربعة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد في الفكر حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وحصل ما ذكر في هاتين الآيتين من المحرمات تسعة أشياء خمسة بصيغ النهي وأربعة بصيغ الأمر وتؤول الأوامر بالنهي لأجل التناسب وهذه الأحكام لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار وَأَنَّ هذا أي الذي بيّنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من دين الإسلام صِراطِي أي ديني مُسْتَقِيماً أي لا اعوجاج فيه. قرأ ابن عامر و «أن هذا» بفتح الهمزة وسكون النون، فأصلها وأنه هذا فالهاء ضمير الشأن والحديث وهو اسم إن والجملة التي بعده خبره. وقرأ حمزة والكسائي و «إن» بكسر الهمزة وتشديد النون فالتقدير اتل ما حرم واتل إن هذا بمعنى قل. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد النون والتقدير واتل عليهم إن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ أي هذا الصراط وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المخالفة لدين الإسلام فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي فتميل بكم هذه السبل عن سبيل الله الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام. وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما خطا ثم قال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: «هذه سبل على كل منها شيطان يدعو إليها» «1» ذلِكُمْ أي اتباع دين الله وَصَّاكُمْ بِهِ في الكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) اتباع الكفر والضلالات ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي ثم بعد تعديد المحرمات وغيرها من

_ (1) رواه الدارمي في المقدمة، باب: في كراهية أخذ الرأي، وأحمد في (م 1/ ص 435) .

الأحكام إني أخبركم أنا أعطينا موسى التوراة تَماماً أي لأجل تمام نعمتنا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن العمل بأحكامه كما يدل عليه قراءة عبد الله على الذين أحسنوا. وقرأ يحيى بن يعمر بالرفع بحذف المبتدأ أي على الذي هو أحسن دينا كقراءة من قرأ مثلا ما بعوضة بالرفع وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي ولبيان كل ما يحتاج إليه في الدين فيدخل في ذلك بيان نبوة سيدنا محمد ودينه وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً من العذاب لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) أي لكي يؤمن بنو إسرائيل بلقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب وَهذا أي الذي تلوت عليكم كِتابٌ أي قرآن أَنْزَلْناهُ إليكم بلسانكم مُبارَكٌ أي كثير المنافع دينا ودنيا لا يتطرق إليه النسخ فَاتَّبِعُوهُ أي فاتبعوا يا أهل مكة ما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أي اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة أَنْ تَقُولُوا أي أنزلناه كراهة أن تقولوا يوم القيامة إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ وهو التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وهم اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أي وإنه كنا عن قراءتهم لجاهلين فلا ندري ما في كتابهم إذا لم يكن بلغتنا. والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة على أهل مكة بإنزال القرآن على سيدنا محمد كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى ولا نعلم ما فيهما، فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم بلغتهم أَوْ تَقُولُوا أي لا عذر لكم في القيامة بقولكم لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل على اليهود والنصارى لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ أي أصوب دينا منهم وأسرع إجابة للرسول منهم فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم قرآن من ربكم فإنه بيان فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا وهو نعمة في الدين فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أي لا أحد أجرأ على الله ممن كذب بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم ومال عن سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ أي شدته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) أي بسبب إعراضهم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أي ما ينتظر أهل مكة إلا أحد هذه الأمور الثلاثة أي فلا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور. وقرأ حمزة والكسائي على التذكير أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي بحسب ما اقترحوا بقولهم لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وهم كانوا كفارا، واعتقاد الكافر ليس بحجة. وقيل: المراد بالملائكة ملائكة الموت لقبض أرواحهم وبإتيان الله تعالى إتيان كل آياته بمعنى آيات القيامة كلها. وقيل: أو يأتي ربك يوم القيامة بلا كيف أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي بعض علامات ربك الدالة على قرب الساعة وهي عشرة وهي العلامات الكبرى وهي الدجّال، والدابة، وخسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، والدخان، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، ونار تخرج مني عدن تسوق إلى المحشر يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو طلوع الشمس من مغربها لا يَنْفَعُ نَفْساً كافرة إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أي قبل

إتيان بعض الآيات أَوْ نفسا مؤمنة عاصية توبتها لم تكن كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً فحكم الإيمان والعمل الصالح حين طلوع الشمس من المغرب حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة وذلك لا يفيد شيئا، أما من كان يومئذ مذنبا فتاب، أو صغيرا أو مولودا بعد ذلك فإنه ينفع توبتهم وإيمانهم وعملهم كما قاله ابن عباس. روي عن ابن عباس أنه قال: لا تزال الشمس تجري من مطلعها إلى مغربها حتى يأتي الوقت الذي جعله الله غاية لتوبة عباده، فتستأذن الشمس من أين تطلع ويستأذن القمر من أين يطلع، فلا يؤذن لهما، فيحبسان مقدار ثلاث ليال للشمس وليلتين للقمر فلا يعرف مقدار حبسهما إلا قليل من الناس، وهم أهل الأوراد وحملة القرآن فينادي بعضهم بعضا فيجتمعون في مساجدهم بالتضرع والبكاء والصراخ بقية تلك الليلة، فبينما الناس كذلك إذ نادى مناد ألا أن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر قد طلعا من مغاربهما ويتصايح أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها، وتضع كل ذات حمل حملها، فأما الصالحون والأبرار فإنهم ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب لهم عبادة وأما الفاسقون والفجار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب عليهم حسرة. قال عمر بن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وما باب التوبة يا رسول الله؟ فقال: «يا عمر خلق الله بابا للتوبة جهة المغرب فهو من أبواب الجنة له مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجواهر ما بين المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين عاما للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلقه الله تعالى إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا من لدن آدم إلى ذلك اليوم إلا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب» . قال أبي بن كعب: يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر بعد ذلك! وكيف بالناس والدنيا؟ فقال: «يا أبي إن الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك ضوء النار، ثم يطلعان على الناس ويغربان كما كانا قبل ذلك، وأما الناس بعد ذلك فيحلون على الدنيا ويعمرونها ويجرون فيها الأنهار ويغرسون فيها الأشجار، ويبنون فيها البنيان، ثم تمكث الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة السنة منها بقدر شهر، والشهر بقدر جمعة، والجمعة بقدر يوم واليوم بقدر ساعة. ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئا إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقى مؤمن ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل المرأة في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد وأفضلهم من يقول لو تنحيتم عن الطريق لكان أحسن» «1» . وروي عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير في

_ (1) رواه الطبري في التاريخ (1: 73) .

هذه الأمة قردة وخنازير وتطوى الدواوين وتجف الأقلام لا يزاد في حسنة ولا ينقص من حسنة، ولا ينفع نفسا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» «1» قُلِ انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) لذلك لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة. والمراد بهذا إن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلّت بهم العقوبة اللازمة أبدا إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً أي أحزابا في الضلالة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي لست من البحث في تفريقهم فأنت منهم بريء وهم منك برآء، ولست من قتالهم في هذا الوقت في شيء إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي يدبره كيف يشاء يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمركم بقتالهم إذا أراد ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) أي ثم يظهر الله لهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ويعلمهم أيّ شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا، ويرتب عليه ما يليق به من الجزاء. والمراد بهؤلاء المفرقين الخوارج كما أخرجه ابن أبي حاتم من حديث أبي أمامة: «أو هم أصحاب البدع والأهواء» كما أخرجه الطبراني من حديث عائشة. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى كما أخرجه عبد الرزاق وكما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى اثنين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فرق أهل الكتابين إنما هو باعتبار ما قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» «2» . رواه أبو داود والترمذي والحاكم. وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا بأن تركوا بعض دين آبائهم. والباقون فرقوا بالتشديد أي اختلفوا في دينهم كما اختلف المشركون بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وبعضهم يعبدون الكواكب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أي فله جزاء عشر أمثالها وهذا أقل ما وعد من الأضعاف فالمراد بالعشرة الأضعاف. مطلقا لا بالتحديد وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالأعمال السيئة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أي الأجزاء السيئة الواحدة إن جوزي وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) أي لا ينقصون من ثواب

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 59) . (2) رواه أبو داود في كتاب السنّة، باب: شرح السنّة، والترمذي في كتاب الإيمان، باب: 18، وابن ماجة في كتاب الفتن، باب: افتراق الأمم، وأحمد في (م 2/ ص 332) .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 161 إلى 165]

طاعتهم ولا يزادون في عقاب سيئاتهم قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم من أهل مكة واليهود والنصارى: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أرشدني ربي بالوحي وبما نصب من الآيات التكوينية في الأنفس وفي السموات والأرض إلى طريق حق دِيناً قِيَماً أي لا عوج فيه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح القاف وكسر الياء مشددة. والباقون بكسر القاف وفتح الياء مخففة، وهو مصدر كالصغر والكبر والحول والشبع أي دينا ذا قيم أي صدق مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) وقوله تعالى: دِيناً بدل من محل صراط لأن محله النصب على أنه مفعول ثان أو مفعول لفعل مقدر والتقدير ألزموا دينا وقوله تعالى: مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان ل «دينا» وحَنِيفاً حال من «إبراهيم» وكذا «وما كان» فهو عطف حال على أخرى قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي الصلوات الخمس وَنُسُكِي أي ذبيحتي وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] . أو المعنى وكل ما تقربت به إلى الله تعالى فإن معنى الناسك من صفّا نفسه من دنس الآثام وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي وما أنا عليه في حياتي وما أكون عليه عند موتي من الإيمان والطاعة لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) أي إن صلاتي وسائر عبادتي وحياتي ومماتي كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه وحكمه لا شَرِيكَ لَهُ في الخلق والتقدير وَبِذلِكَ أي وبهذا التوحيد أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) أي المستسلمين لقضاء الله وقدره فإنه صلّى الله عليه وسلّم أول من أجاب ببلى يوم العهد لسؤال الله تعالى ألست بربكم، أو المعنى وأنا أول المنقادين لله من أهل ملتي وهذا بيان لمسارعته صلّى الله عليه وسلّم إلى الامتثال بأمر الله. قُلْ يا أشرف الرسل للكفار الذين قالوا لك ارجع إلى ديننا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا أي أأعبد ربا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي والحال أن الله رب كل شيء مع أن الذين اتخذوا ربا غير الله أقروا بأن الله خالق الأشياء كما قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] وأصناف المشركين أربعة عبدة الأصنام فهم معترفون بأن الله هو الخالق للسموات والأرض وللأصنام بأسرها وعبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها، والقائلون بيزدان وأهرمن فهم معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله والقائلون: بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته فهم معترفون بأن الله خالق الكل، وإذا ثبت هذا فنقول: العقل الخالص يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكا للرب وجعل المخلوق شريكا للخالق وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ذنبا إِلَّا عَلَيْها أي الإحالة كونه مستعليا عليها بالمضرة أو حالة كونه مكتوبا عليها لا على غيرها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي ولا تحمل نفس آثمة ولا غير آثمة إثم نفس أخرى، فلا تحمل نفس طائعة أو عاصية ذنب غيرها، وإنما قيد في الآيات بالوازرة موافقة لسبب النزول وهو أن الوليد بن المغيرة كان يقول للمؤمنين: اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ أي إلى مالك أموركم

مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ يومئذ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) من الأديان في الدنيا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي جعلكم يخلف بعضكم بعضا في الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ في الشرف والرزق فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ كثرة متفاوتة فجعل الله منهم الحسن والقبيح، والغني والفقير، والشريف والوضيع، والعالم والجاهل، والقوي والضعيف، وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى منزه عن ذلك وإنما هو لأجل الامتحان وهو المراد من قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليعاملكم معاملة المختبر فيما أعطاكم من الجاه والمال والفقر أيكم يشكر وأيكم يصبر وهو أعلم بأحوال عباده منهم. والمراد من الابتلاء هو التكليف، ثم إن المكلف إما أن يكون مقصرا فيما كلف به أو موفرا فيه فإن كان مقصرا كان نصيبه من التخويف قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفر به ولا يشكره ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب، وإن كان المكلف موفرا في الطاعات كان نصيبه من الترغيب قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) لمن راعى حقوق ما أعطاه الله تعالى كما ينبغي. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يتبعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة» «1» .

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الصغير (1: 81) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (7: 19) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 2) .

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية، مائتان وست آيات، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة، أربعة عشر ألفا وأربعمائة وستة وثلاثون حرفا المص (1) قيل: هي حروف مقطعة استأثر الله بعلمها وهي سره تعالى. في كتابه العزيز كِتابٌ أي هذا قرآن أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي إن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي فلا يكن فيك شك من هذا الكتاب في كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى. أو المعنى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغ هذا الكتاب. مخافة أن تقصر في القيام بحقه أو مخافة أن يكذبوك لِتُنْذِرَ بِهِ أي بهذا الكتاب الكافرين وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فإن النفوس البشرية على قسمين نفوس جاهلة غريقة في طلب اللذات والشهوات، ونفوس شريفة مشرفة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حق القسم الأول تخويف، وفي حق القسم الثاني تنبيه اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي من كتابه وسنة رسوله وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي من غير ربكم أَوْلِياءَ من الشياطين والكهان فيحملوكم على البدع والأهواء. وقيل: الضمير للموصول مع حذف المضاف في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء. وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون وما مزيدة للتوكيد. قرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال. والباقون بالتاء وتشديد الذال وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كثير من أهل قرية أردنا إهلاكها فَجاءَها أي فجاء أهلها بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي نائمين في الليل كما في قوم لوط أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) أي نائمون في نصف النهار أو مستريحون فيه من غير نوم كما في قوم شعيب. والمعنى جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم فَما كانَ دَعْواهُمْ أي استغاثتهم بربهم

واعترافهم بالجناية إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا في الدنيا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فأقروا على أنفسهم بالشرك والإساءة حيث لم يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وذلك حين لم ينفعهم الاعتراف والندامة، والمختار عند النحويين أن يكون محل أن قالوا رفعا ب «كان» و «دعواهم» نصبا بدليل تذكير كان كقوله تعالى فما كان جواب قومه إِلَّا أَنْ قالُوا وقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار وقوله تعالى وما كان حجتهم إلا أن قالوا فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي فلنسألن في موقف الحساب الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) قائلين ماذا أجبتم وذلك للرد على الكفار إذا أنكروا التبليغ بقولهم ما جاءنا من بشير ولا نذير. فإذا أثبت الرسل أنهم لم يصدر منهم تقصير ألبتة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير وتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن جميع التقصير كان منهم. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي المرسلين والأمم لما سكتوا عن الجواب بِعِلْمٍ أي فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أحوالهم وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي كائن يوم إذ يسأل الله الأمم والرسل الْحَقُّ أي العدل. أو المعنى والوزن يوم إذ يكون السؤال والقص هو الحق ف «الحق» إما صفة للوزن أو خبر له، و «يومئذ» إما ظرف له أو خبر له فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بسبب ثقل الحسنات في الميزان فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) أي الفائزون بالنجاة والثواب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة، وإن كان بالضد فيزداد حزنه وخوفه في موقف القيامة، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات. وآخرون قالوا: بل يظهر رجحان في الكفة. قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، وكفار ومخلطون وهم الذين يأتون الكبائر. فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيّرة، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر وتثقل الكفة النيرة ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته، وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة، فبأمر الله تعالى بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره، وأما الذين خلطوا فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة وإن كانت السيئات أثقل ولو

[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 20]

بصؤابة دخل النار إلا أن يعفو الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله وأما إن كان عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة جدا فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا لكم يا بني آدم فيها مكانا وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي وجوه المنافع وهي على قسمين ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها، وما يحصل بالاكتساب وكلاهما بفضل الله وتمكينه فيكون الكل إنعاما من الله تعالى وكثرة الأنعام توجب الطاعة قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) تلك النعمة ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورناه أحسن تصوير وتحسن هذه الكناية لأن آدم أصل البشر ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تعظيم فَسَجَدُوا أي الملائكة بعد الأمر إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه أبو الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله تعالى للملائكة إلخ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) لآدم قالَ تعالى لإبليس ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي ما صرفك إلى أن لا تسجد كما قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه تعالى قال: ما رعاك إلى أن لا تسجد لآدم لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل على الداعي إليها إِذْ أَمَرْتُكَ والمشهور أن كلمة لا لتأكيد معنى النفي في منعك والاستفهام للتوبيخ ولإظهار كفر إبليس و «إذ» منصوب ب «تسجد» أي ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فهي أغلب أجزائي وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) أي وهو أغلب أجزائه فالنار أفضل من الطين لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة مجاورة لجواهر السموات والطين مظلم سفلى كثيف بعيد عن مجاورة السموات والمخلوق من الأفضل أفضل وقد أخطأ إبليس طريق الصواب لأن النار فيها الخفة والارتفاع والاضطراب، وأما الطين فشأنه الرزانة والحلم والتثبت، وأيضا فالطين سبب للحياة من إنبات النبات والنار سبب لهلاك الأشياء والطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها. قالَ تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم أو اخرج من زمرة الملائكة المعززين فَما يَكُونُ لَكَ أي فما ينبغي لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة أو في زمرة الملائكة فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) أي من الأذلاء قالَ أَنْظِرْنِي أي لا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) أي آدم وذريته وهو وقت النفخة الثانية وأراد إبليس أن يأخذ ثأره منهم بإغوائهم وأن ينجو من الموت لاستحالته بعد البعث ولأنه قد تمّ عند النفخة الأولى. قالَ تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) أي من المؤجلين إلى النفخة الأولى فيموت كغيره. قالَ إبليس: فَبِما أَغْوَيْتَنِي

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته دينك الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي فأشككهم في صحة البعث والقيامة والحساب وألقي إليهم أن الدنيا قديمة لا تفنى وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي أفترهم عن الحسنات وأقوي دواعيهم في السيئات. ونقل عن شقيق أنه قال: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع فيقول من قدامي: لا تخف فإن الله غفور رحيم. فأقرأ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] ، ومن خلفي يخوفني من وقوع أولادي في الفقر. فأقرأ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] ويأتيني بالثناء من قبل يميني. فأقرأ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ويأتيني بالترغيب في الشهوات من قبل شمالي. فأقرأ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] . والحاصل أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب. ويروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم: إنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين سنة وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) أي مطيعين. وإنما قال هذا لأنه رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد، وذلك أنه حصل للنفس قوة واحدة تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية وهي العقل، وتسع عشرة قوة تدعوها إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة وهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة. ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة، فيلزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات البدنية معرضين عن معرفة الحق ومحبته قالَ اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة ومن صورة الملائكة مَذْؤُماً أي محقورا مَدْحُوراً أي مبعدا من كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي ولد آدم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَجْمَعِينَ (18) ففي اللام ومن في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ وجهان فالأظهر أن «اللام» لام التوطئة لقسم محذوف و «من» شرطية في محل رفع مبتدأ و «لأملأنّ» جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. والوجه الثاني أن اللام لام الابتداء ومن موصولة وتبعك صلتها وهي في محل رفع مبتدأ و «لأملأن» جواب قسم محذوف وذلك القسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم والعائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ متضمن في قوله منكم لأنه لما اجتمع ضمير غيبة وخطاب غلب الخطاب.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 21 إلى 30]

وروى عصمة عن عاصم «لمن تبعك» بكسر اللام على أنه حبر لأملأن. والمعنى لمن تبعك هذا الوعيد. وهذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم. وَيا آدَمُ اسْكُنْ هذه القصة معطوفة على قوله تعالى: للملائكة: اسْجُدُوا أي وقلنا لآدم: يا آدَمُ اسْكُنْ أو معطوفة على «أخرج» أي وقال: يا آدَمُ اسْكُنْ بعد أن أهبط إبليس وأخرجه من الجنة أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. قال ابن إسحاق: خلقت حواء قبل دخول آدم الجنة. والمعنى أي ادخل فيها، وقال ابن عباس وغيره: خلقت في الجنة بعد دخول آدم فيها لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليأنس بها والمعنى انزل في الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أي فكلا من ثمار الجنة في أي مكان شئتما الأكل فيه وفي أي وقت شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي ففعل إبليس الوسوسة لأجلهما لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما ما ستر عنهما بلباس النور أو بثياب الجنة من عورتهما. ف «اللام» إما للعاقبة لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط أو للعلة، فظهور العورة كناية عن زوال الجاه فإن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم ذهاب منصبه. وروي أن إبليس بعد ما صار ملعونا مطرودا من الجنة رأى آدم وحواء في طيب عيش ونعمة، ورأى نفسه في مذلة ونقمة فحسدهما- فهو أول حاسد- ثم أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لهما فمنعه الخزنة فجلس على باب الجنة ثلاثمائة سنة من سني الدنيا وهي بقدر ثلاث ساعات من ساعات الآخرة فلقي آدم مرارا كثيرة ورغّبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام وَقالَ أي إبليس لآدم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي عن الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا كملكين في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وفي قراءة شاذة «ملكين» بكسر اللام أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلا وَقاسَمَهُما أي حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) في حلفي لكما فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي فخدعهما بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر لغلبة الشهوة لا لكونهما صدقا قول إبليس فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وزال عنهما ثوبهما وزال النور عنهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي وجعلا يلزقان على عورتهما من ورق التين للاستحياء وَناداهُما رَبُّهُما يا آدم ويا حواء أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن الأكل من ثمر هذه الشجرة وَألم أَقُلْ لَكُما إِنَّ

الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) أي ظاهر العداوة حيث أبى السجود، كما حكى الله تعالى هذا القول في سورة طه بقوله: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] . روي أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا. فاهبط وعلّم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث، وسقى وحصد، ودرس وذرى، وعجن وخبز. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك من أكل الشجرة التي نهيتنا عن الأكل منها وإنما اعترف آدم بكونه ظالما لأنه ترك الأولى فإن هذا الذنب صدر عنه قبل النبوة بطريق النسيان، ولأن القصد بذلك القول هضم النفس ونهج الطاعة على الوجه الأكمل وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) أي من المغبونين بالعقوبة. قالَ تعالى: اهْبِطُوا يا آدم وحواء وإبليس إلى الأرض فهبط آدم بسرنديب جبل في الهند وحواء بجدة وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وبتشديد اللام (جبل بقرب البصرة) بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس وذرية كل منهما وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي مكان عيش وقبر وَمَتاعٌ أي انتفاع إِلى حِينٍ (24) أي إلى انقضاء آجالكم قالَ تعالى: فِيها أي الأرض تَحْيَوْنَ أي تعيشون مدة حياتكم وَفِيها تَمُوتُونَ وتدفنون وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) إلى البعث للجزاء. قرأ حمزة والكسائي تخرجون بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية. وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف كذلك وفي الروم والجاثية بضم التاء وفتح الراء. والباقون بضم التاء في الجميع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً أي قد خلقنا لكم بأسباب نازلة من السماء لباسين من قطن وغيره لباسا يغطي عوراتكم من العري ولباسا يزينكم فإن الزينة غرض صحيح. وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال في النهار والنساء في الليل ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها. فنزلت هذه الآية تذكيرا ببعض النعم لأجل امتثال أمر الله تعالى بالحذر من قبول وسوسة الشيطان في قوله تعالى: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الأعراف: 27] . والمقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة لمن يسمعها وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب «لباس» عطفا على «لباسا» أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس أو السمت الحسن كما قاله عثمان بن عفان أو خشية الله كما قاله ابن الزبير، أو الحياء كما قاله معبد

والحسن ذلك أي اللباس الثالث خير لصاحبه من اللباسين الأولين لأنه يستر من فضائح الآخرة. وقرأ الباقون و «لباس التقوى» بالرفع على الابتداء وخبره «ذلك خير» . والمعنى واللباس الناشئ عن التقوى وهو اللباس الأول، أو هو الملبوسات المعدة لأجل إقامة نحو الصلاة ذلك خير لأنه لبس المتواضع ذلِكَ أي إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قدرته وعظيم فضله وعميم رحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) أي فيعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنته فتمنعوا من دخول الجنة إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري فمنعا من سكنى الجنة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما بغروره وكان اللباس من ثياب الجنة أو من نور لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي ليرى آدم سوأة حواء وترى هي سوءة آدم إِنَّهُ أي الشيطان يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي أصحابه أو من كان من نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إذا كانوا على صورهم الأصلية لكن قد يكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض. وقال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربع: نرى ولا نرى، نخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) أي إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن مسلطين عليهم وَإِذا فَعَلُوا أي العرب فاحِشَةً كعبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف قالُوا جوابا للناهي عنها معللين فعل الفاحشة بأمرين وَجَدْنا عَلَيْها أي على هذه الأشياء آباءَنا فاعتقدنا أنها طاعات واقتدينا بهم فيها وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها قُلْ لهم يا أكرم الرسل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على نفائس الخصال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) أي إنكم ما سمعتم كلام الله مشافهة ولا أخذتموه عن الأنبياء لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالتوحيد بلا إله إلا الله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي واستقبلوا بوجوهكم القبلة عند كل صلاة وَادْعُوهُ أي اعبدوا الله بإتيان أعمال الصلاة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) أي كما أوجدكم الله بعد العدم يعيدكم بعده أحياء يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي ثبت الضلالة عليهم في الأزل والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل «بدأكم» ، و «فريقا» الثاني منصوب بفعل مقدر موافق في المعنى للمذكور المفسر أي «بدأكم» حال كونه تعالى هاديا فريقا للإيمان ومضلا فريقا. ويجوز أن تكون الجملتان الفعليتان في محل نصب على النعت «لفريقا وفريقا» ، وهذان على الحال من فاعل «تعودون» ، والعائد على المنعوت محذوف أي فريقا هداهم الله، وفريقا حق

[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 40]

عليهم الضلالة ويؤيد هذا الإعراب قراءة أبي بن كعب «تعودون» فريقين فريقا هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل وَيَحْسَبُونَ أي يظن أهل الضلالة أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) بدين الله ودلت هذه الآية على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي عند كل وقت طواف وصلاة وَكُلُوا من اللحم والدسم وَاشْرَبُوا من اللبن وَلا تُسْرِفُوا بالتعدي إلى الحرام أو بتحريم الحلال أو بالإفراط في الطعام إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) أي إنه تعالى لا يرتضي فعلهم. قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال، بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها لتستتر به عن قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك. فأنزل الله تعالى هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب الَّتِي أَخْرَجَ الزينة لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع وَمن حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات من المآكل والمشارب قُلْ هِيَ أي الزينة والطيبات ثابتة لِلَّذِينَ آمَنُوا بطريق الأصالة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يشاركهم فيها غيرهم. قرأ نافع خالصة بالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهي خالصة. والباقون بالنصب حال من الضمير المستكن في الخبر كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل هذا التبيين نبين سائر الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) أن الله واحد لا شريك له فأحلوا حلاله وحرموا حرامه قُلْ للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي جهرها وسرها وَالْإِثْمَ أي شرب الخمر وَالْبَغْيَ أي الظلم على الناس بِغَيْرِ الْحَقِّ فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي وأن تسووا بالله في العبادة معبودا ليس على ثبوته حجة وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه من التحريم والتحليل، فالجنايات محصورة في خمسة أنواع:

أحدها: الجنايات على الأنساب وهي المرادة بالفواحش. وثانيها: الجنايات على العقول وهي المشار إليها بالإثم. وثالثها: الجنايات على النفوس، والأموال والأعراض وإليها الإشارة بالبغي. ورابعها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: إما الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وإما القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهذه الأشياء الخمسة أصول الجنايات وأما غيرها فهي كالفروع وَلِكُلِّ أُمَّةٍ كذبت رسولها أَجَلٌ أي وقت معين لهلاكها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) أي فإذا جاء وقت هلاكهم لا يتركون بعد الأجل طرفة عين، ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. والمعنى إن الوقت المحدود لا يتغير يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) أي يا بني آدم إن يأتكم رسول من جنسكم- بني آدم- يبين لكم أحكامي وشرائعي فمن اتقى كل منهي واتقى تكذيبه وأصلح عمله بأن يأتي كل أمره فلا يخاف في الآخرة من العذاب ولا يحزن على ما فاته في الدنيا أما حزنه على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل له من زوال الخوف وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي يجيء بها رسولنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي امتنعوا من قبولها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) لا يموتون ولا يخرجون أما الفاسق من أهل الصلاة فلا يبقى مخلدا في النار لأنه ليس موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار فَمَنْ أَظْلَمُ أي أعظم ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كإثبات الشريك والولد إليه تعالى وإضافة الأحكام الباطلة إليه تعالى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كإنكار كون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى وإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ يَنالُهُمْ في الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم قابضين أرواحهم قالُوا لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ادعوها لتدفع عنكم ما نزل بكم قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا أي لا ندري مكانهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) أي وأقروا عند الموت بأنهم كانوا في الدنيا عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 28] . لأنه من طوائف مختلفة أو في أوقات مختلفة. قالَ تعالى يوم القيامة: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ أي ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي أهل دين في النار لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين وهي التي تلبست بذلك الدين قبلها فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 41 إلى 50]

والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي اجتمعوا فِيها أي النار جَمِيعاً وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ أي قال آخر كل أمة لأولها رَبَّنا هؤُلاءِ أي الأولون أَضَلُّونا عن دينك بإخفاء الدلائل فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي عذبهم مثل عذابنا مرتين قالَ تعالى لهم لِكُلٍّ منهم ومنكم ضِعْفٌ فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر، إلى غير نهاية فالآلام متزايدة من غير نهاية أما القادة فلكفرهم وإضلالهم وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) . قرأه أبو بكر عن عاصم بالغيبة أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر. والباقون بالتاء على الخطاب ولكن لا تعلمون أيها السائلون ما لكل فريق منكم من العذاب. أو المعنى ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ مخاطبة لها حين سمعوا جواب الله تعالى لهم فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في الدنيا أي إنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب لأنكم كفرتم اختيارا لا أنا حملناكم على الكفر إجبارا فلا يكون عذابنا ضعفا فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) أي تقولون وتعملون في الدنيا وهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة للأتباع وأن يكون من قول الله تعالى للجميع إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالدلائل الدالة على أصول الدين وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ولا لأرواحهم وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي كما يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة ويقال: حتى يدخل القلس الغليظ وهو الجبل الذي تشد به السفينة في خرق الإبرة وكل ثقب ضيق فهو سم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) أي ونجزي المشركين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء وعدم دخولهم الجنة وإنما يدخلون النار بهذه الصفات لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي للذين كذبوا واستكبروا من جهنم فراش من تحتهم ومن فوقهم أغطية وهذه الآية إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف. تنبيه: تنوين غواش عوض من الياء المحذوفة على الصحيح فإن الإعلال بالحذف مقدم على منع الصرف فأصله غواشي بتنوين الصرف فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والتنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في الأصل فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل فأتي بالتنوين عوضا عنها، فغواش المنون ممنوع من الصرف لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت، وتنوين الصرف قد حذف وإنما كان الراجح تقديم الإعلال لأن سببه ظاهر وهو الثقل وسبب منع الصرف خفي وهو مشابهة الفعل وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) أي كالجزاء المذكور للمكذبين المستكبرين نجزي الكافرين وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) أي

والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا ما يسهل عليها من الأعمال وما يدخل في قدرتها ولا ضيق فيه عليها وقوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الأنعام: 152] . اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس ما قبله فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم وتنبيه على أن الجنة مع عظم قدرها يتوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي صفينا طباعهم من الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ودرجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي تجري في الآخرة من تحت سررهم أنهار الخمر والماء والعسل واللبن زيادة في لذتهم وسرورهم. وَقالُوا إذا بلغوا إلى منازلهم أو إلى عين الحيوان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي للعمل الذي ثوابه هذا المنزل وهذه العين التي تجري من تحتنا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي لولا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا إلى الإيمان والعمل الصالح. قرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو كما في مصاحف أهل الشام وذلك، لأنه جار مجرى التفسير لقوله: هَدانا لِهذا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ هذا إقسام من أهل الجنة، قالوا ذلك حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا تبجحا بما نالوه. أي والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق أي ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق فقد حصل لنا عيانا وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي تلك الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا ف «أن» مفسرة لما في النداء وكذا في سائر المواضع الخمسة أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ- تبجحا بحالهم وتنديما لأصحاب النار وذلك بعد استقرارهم في محالهم-: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وعلى طاعته حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ يا أهل النار ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب على الكفر حَقًّا قالُوا أي أهل النار مجيبين لأهل الجنة نَعَمْ. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين في كل القرآن فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل: هو إسرافيل. وقيل: جبريل بَيْنَهُمْ أي نادى مناد أسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل.

قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «أن لعنة» بتخفيف «أن» ورفع «لعنة» . والباقون بالتشديد وبالنصب وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون السبيل معوجة بإلقاء الشكوك في دلائل الدين الحق وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت كافِرُونَ (45) أي جاحدون وَبَيْنَهُما أي بين الجنة والنار أو بين أهلهما حِجابٌ أي سور وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار رِجالٌ. قيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. وقيل: هم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم. وقيل: هم قوم كان فيهم عجب، وقيل: هم قوم كان عليهم دين فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأشراف من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأنبياء وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة. وقيل: إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النار زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده. وقيل: إن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم، ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميّزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي حين رأوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يا أهل الجنة وهذا بطريق التحية والدعاء أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادوا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) حال من فاعل يدخلوها أي لم يدخل رجال الأعراف الجنة وهم في وقت عدم الدخول طامعون. وقيل: قوله: لَمْ يَدْخُلُوها مستأنف لأنه جواب سؤال سائل عن رجال الأعراف فقال: ما صنع بهم؟ فقيل: لم يدخلوها ولكنهم يطمعون في دخولها. وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون، فقهاء علماء، فعلى هذا القول: إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم. والمراد من هذا الطمع طمع يقين أي وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي رجال الأعراف بغير قصد تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) أي كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف عن التقليد الرديء وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا أي أصحاب الأعراف لهم وهم

في النار يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، ويا ابن خلف الجمحي، ويا أسود بن عبد المطلب، ويا سائر الرؤساء ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي أيّ شيء دفع عنكم جمعكم في الدنيا من المال والخدم والأتباع وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) عن قبول الحق وعلى الناس المحقين. وقرئ «تستكثرون» أي من الأموال والجند، ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم: أَهؤُلاءِ الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أي حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أي لا يدخلهم الله الجنة وقد دخلوا الجنة على رغم أنوفكم. وقد قيل للذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بفضل الله فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أي أهؤلاء قد قيل لهم: ادخلوا الجنة، فظهر كذبكم في إقسامكم ويدل على ذلك قراءتان شاذتان «ادخلوا» بالبناء للمفعول و «دخلوا» . وعلى هاتين القراءتين تقع هذه الجملة خبرا، والتقدير دخلوا الجنة مقولا في حقهم لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من العذاب وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) . وقيل: إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوا الجنة، فلما عيّروهم بذلك قيل لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة، وقيل: يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة إلخ، بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وقالوا لهم ما قالوا، وعلى هذا فالمراد بأصحاب الأعراف المقصرون في العمل وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا أي ألقوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من ثمار الجنة وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم، وعن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد فيقطع ما في بطونهم، ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية ويقولون لمالك: ليقض علينا ربك فيجيبهم بعد ألف عام ويقولون: ربنا أخرجنا منها فيجيبهم بقوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق قالُوا أي أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) أي منعهم من طعام الجنة وشرابها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بالفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة

[سورة الأعراف (7) : الآيات 51 إلى 60]

بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول: يا أبي ويا أخي قد احترقت بشدة حر جهنم أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي باطلا وَلَعِباً أي فرحا فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ونيل الشهوات فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا. أو المعنى نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار لأنهم أعرضوا بآياتنا. والمراد من هذا النسيان أنه تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) أي ولكونهم منكرين بآياتنا أنها من عندنا وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، وقد يؤدي إلى الضلال والكفر وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي هؤلاء الكفار بِكِتابٍ أي بقرآن أنزلناه عليك يا أكرم الرسل فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي ميزناه مشتملا على علم كثير وفصل كثير مختلف. وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة في قوله: حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصة عظة مثل وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي «فضلناه» على غيره من الكتب السماوية عالمين بفضله هُدىً وَرَحْمَةً أي هاديا من الضلالة إلى الرشد وذا رحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) به هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما ينتظر أهل مكة إذ لا يؤمنون إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أي يوم يأتي عاقبة ما وعد لهم في القرآن وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي أعرضوا عنه مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان ما يؤول إليه أمره وهو صدقه بما أخبر به. والمعنى أن هؤلاء الذين تركوا الإيمان بالقرآن في الدنيا يقولون يوم القيامة قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وكذبناهم أي إنهم أقروا يوم القيامة بأن ما جاءت به الرسل من ثبوت البعث والنشر والحشر والقيامة، والثواب والعقاب كل ذلك كان حقا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا من العذاب اليوم أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع، فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو أن يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ونطيعه بدلا عن المعصية. وقرئ شاذا بنصب «نرد» إما عطفا على «يشفعوا» فالمسؤول أن يكون لهم شفعاء لأحد الأمرين إما لدفع العذاب، أو للرد إلى الدنيا، وإما الدنيا، وإما بناء على أن أو بمعنى إلى أي فالمطلوب أن يكون لهم شفعا للرد إلى الدنيا فقط. وقرئ شاذة برفع «فنعمل» أي فنحن نعمل في الدنيا غير ما كنا نعمل فيها قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بذهاب الجنة ولزوم النار وَضَلَّ عَنْهُمْ ما

كانُوا يَفْتَرُونَ (53) أي وذهب عنهم دعوى نفع الشريك فإنهم كانوا يدعون أن الأصنام التي كانوا يعبدونها شركاء الله تعالى وشفعاؤهم عنده يوم القيامة إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. والمقصود من هذا الكلام أنه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو تعالى وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر. فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد، بل لأنه تعالى خصّ كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته وهذا معنى قول المفسرين من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على ترك العمل ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي حصل له تعالى تدبير المخلوقات على ما أراد أي بعد أن خلق السموات والأرض استوى على عرش الملك والجلال وصحّ أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض. بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره له بعد خلق السموات والأرض وذلك لأن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال: ثل عرش السلطان أي انتقض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال، ونظير هذا قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد. وللرجل الذي يكثر الضيافة: فلان كثير الرماد. وللرجل الشيخ: فلان اشتعل رأسه شيبا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هنا فالمراد بذكر الاستواء على العرش هو نفاذ القدرة وجريان المشيئة. والواجب علينا أن نقطع بكونه تعالى منزها عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل هذه الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يأتي بالليل على النهار فيغطيه. واللفظ يحتمل العكس أيضا. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر، وعاصم في رواية حفص «يغشى» بتخفيف الشين وهكذا في الرعد. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وكذا في الرعد. وقرأ حميد بن قيس «يغشى الليل النهار» بفتح ياء «يغشى» ونصب «الليل» ورفع «النهار» أي يدرك النهار الليل. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يطلب كل من الليل والنهار الآخر طلبا سريعا فأخبر الله تعالى بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات لطلوع وغروب ومسير

ورجوع بإذنه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر. والباقون بنصب الثلاثة عطفا على «السموات» ، ونصب «مسخرات» على الحال من هذه الثلاثة أَلا لَهُ الْخَلْقُ أي المخلوقات وَالْأَمْرُ أي التصرف في الكائنات وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) أي كثر خير الله مالك العالمين وتعالى بالوحدانية في الألوهية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي متذللين ومسرين والتضرع إظهار ذل النفس. قال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) أي المجاوزين بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء أي إنه تعالى لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» «1» . ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي كإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء وإفساد الأموال بنحو الغصب، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على نحو الزنا وبسبب القذف، وإفساد العقول بنحو تناول المسكرات بَعْدَ إِصْلاحِها بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب. وقيل بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب فإن الله تعالى يمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم مطلوبكم، وذوى طمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه، وهذه الآية بيان فائدة الدعاء ومنفعته ففائدة الدعاء أحد هذين الأمرين أما الآية الأولى فهي بيان شرط صحة الدعاء وهي لا بد أن يكون الدعاء مقرونا بالتضرع وبالإخفاء والداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان خائفا من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء وطامعا في حصول تلك الشرائط بأسرها، ومعنى قوله تعالى: خَوْفاً وَطَمَعاً أي حال كونكم جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم فلا تقطعوا أنكم أديتم حق ربكم وإن اجتهدتم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) بالقول والفعل ومن الإحسان أن يكون الدعاء مقرونا بالخوف والطمع وكل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين كالصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر وكصاحب الكبيرة من أهل الصلاة وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (64) ، والقرطبي في التفسير (7: 226) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3295) . [.....]

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على لفظ الواحد. والباقون «الرياح» على الجمع. قرأ عاصم «بشرا» بضم الباء الموحدة وسكون الشين جمع بشير أي مبشرات. وقرئ بفتح الباء بمعنى باشرات. وقرأ حمزة والكسائي «نشرا» بالنون المفتوحة وسكون الشين بمعنى ناشرة للسحاب. أو بمعنى منشورة فكأن الرياح كانت مطوية فأرسلها الله منشورة بعد انطوائها- وهي كناية عن اتساعها- وقرأ ابن عامر بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الباقون بضم النون والشين جمع نشور مثل رسل ورسول أي مفرقة من كل جانب أو طيبة لينة تنشر السحاب، والريح هواء متحرك يمنة ويسرة وهي أربعة: الصبا: وهي الشرقية فتحرك السحاب. والدبور: وهي الغربية تفرقه. والشمال: التي تهب من تحت القطب الشمالي تجمعه. والجنوب: وهي التي تكثر إرسال المطر. وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة» «1» . حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أي حتى إذا رفعت هذه الرياح سحابا ثقيلا بالماء سُقْناهُ أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء فَأَنْزَلْنا بِهِ أي في ذلك البلد الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أو في ذلك البلد مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كما يخلق الله تعالى النبات بواسطة الأمطار فكذلك يحيي الله الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما، وأنهم يصيرون عند ذلك أحياء. وقيل: المعنى إنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى ويخرجهم من الأجداث بعد أن كانوا أمواتا. والمقصود من هذا الكلام إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) أي لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي المكان الذي ليس بسبخة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بإرادة ربه وتيسيره كذلك المؤمن يؤدي ما أمر الله طوعا بطيبة النفس وَالَّذِي خَبُثَ أي المكان السبخة لا يَخْرُجُ أي نباته إِلَّا نَكِداً أي بتعب. وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله إلا كرها بغير طيبة النفس. وقيل: المراد أن الأرض

_ (1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصبا» ، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب: 17، وأحمد في (م 1/ ص 223) .

[سورة الأعراف (7) : الآيات 61 إلى 70]

السبخة يقل نفعها ومع ذلك أن صاحبها لا يتركها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فالطلب للنفع العظيم في الدار الآخرة بالمشقة في أداء الطاعات أولى من طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة كَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ واسم نوح عبد الغفار وهو ابن لمكا بن متوشلخ بن أخنوخ وسمي نوحا إما لدعوته على قومه بالهلاك أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي من مستحق للعبادة غَيْرُهُ. قرأ الكسائي بالجر على أنه نعت ل «إله» باعتبار لفظه. والباقون بالرفع صفة له باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) أي إني أعلم أن العذاب ينزل بكم إما في الدنيا أو في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي قال الكبراء الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء: إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) في المسائل الأربع وهي: التكليف، والتوحيد، والنبوة، والمعاد. قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة وَلكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي. قرأ أبو عمرو بسكون الباء وَأَنْصَحُ لَكُمْ فتبليغ الرسالة هو أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه والنصيحة هي أن يرغبهم في الطاعات ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أي إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم على لسان رجل من جنسكم أي فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون: ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لِيُنْذِرَكُمْ أي لأجل أن يخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عبادة غير الله وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) أي ولكي ترحموا فلا تعذبوا وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار. والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة فَكَذَّبُوهُ أي نوحا في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ من الغرق والعذاب وكان من صحبوه في الفلك أربعين رجلا وأربعين امرأة. روي أن نوحا عليه السلام صنع السفينة بنفسه في عامين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها

خمسين وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاث بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير، وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر المحرم وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي برسولنا نوح بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد الأولى واحدا منهم في النسب لا في الدين هُوداً أما عاد الثانية وهم ثمود فقوم صالح وبينهما مائة سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) أي أتغفلون فلا تتقون عذاب الله تعالى فإنكم تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا قالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وإنما قال هنا الذين كفروا من قومه لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان يكتم إيمانه بخلاف الملأ من قوم نوح فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائهم إلى الإيمان إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي إنا نتيقنك يا هود متمكنا في خفة عقل حيث فارقت دين آبائك فإن هودا نهاهم عن عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) في ادعاء الرسالة قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي ليس بي شيء مما تنسبونني إليه وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أي فإنه غاية من الرشد والصدق أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أي أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى الإيمان والتوبة أَمِينٌ (68) أي موثوق على رسالة ربي وهذا رد لقولهم وإنا لنظنك من الكاذبين. فكأن هودا قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ما وجدتم مني عذرا، ولا مكرا، ولا كذبا. واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟! أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم نبوة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي على لسان آدمي مثلكم لِيُنْذِرَكُمْ أي ليحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ بأن أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح أو جعلكم ملوكا في الأرض فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الناس بَصْطَةً وهي مقدار ما تبلغه يد الإنسان ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر. أو المراد أنهم متشاركون في القوة والشدة، ولأن بعضهم يكون ناصرا للبعض الآخر وأزال العداوة والخصومة من بينهم فلما خصّهم الله تعالى بهذه الأنواع فصح أن يقال: إنهم زادوا في الخلق بسطة. قرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد. وأبو عمرو، وهشام، وقنبل، وحفص وخلف بالسين. وابن ذكوان وخلاد بهما فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعماء الله عليكم واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) أي لكي تنجوا من الكروب وتفوزوا بالمطلوب. قالُوا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 إلى 80]

مجيبين عن تلك النصائح العظيمة أَجِئْتَنا يا هود لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي بما تهددنا من العذاب بقولك أفلا تتقون إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) في إخبارك بنزول العذاب وغرضهم بذلك القول إذا لم يأتهم هود بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا قالَ أي هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي رين على قلوبهم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وَغَضَبٌ أي عذاب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ عارية عن المسمى سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أصناما فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع إن معنى الألوهية فيها معدوم ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وأن الأصنام لو استحقت العبادة كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب دليل وقوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة فَانْتَظِرُوا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام وهو ما تطلبونه بقولكم فأتنا بما تعدنا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) لما يحل بكم فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة مِنَّا أي من جهتنا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلنا الذين كذبوا برسولنا هود وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) أي ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم. وقصتهم أن عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف، وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام ثلاثة يعبدونها سموا أحدها صمودا، والآخر صداء. والآخر هباء، فبعث الله تعالى إليهم هودا وكان من أفضلهم حسبا فكذبوه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذ نزل بهم بلاء طلبوا من الله الفرج عند البيت الحرام، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وسيدهم معاوية بن بكر، فلما توجهوا إلى البيت الحرام وهم سبعون رجلا من أماثلهم منهم: قيل بن عنز، ومرثد بن سعد نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة، فلما رأى معاوية ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أحزنه ذلك وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، واستحى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله وهو قول هؤلاء الثلاثة: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما

ومعنى فهينم أي أخف الدعاء والغمام هنا المطر فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم أسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يسمى وادي المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم وهي باردة ذات صوت شديد لا مطر فيها، وكان ابتداء مجيئها في صبيحة الأربعاء في الحادي والعشرين من شوال في آخر الشتاء وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها إلى أن ماتوا. وروي عن علي رضي الله عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر. وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب لا في الدين صالِحاً وثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن غابر بن ارم بن سام بن نوح. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي شاهدة بنبوتي وهي الناقة مِنْ رَبِّكُمْ خلقها بلا واسطة هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي علامة على رسالة الله وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها وتخصيصها كما يقال: بيت الله أو لأنها لا مالك لها غير الله، أو لأنها حجة الله على القوم. ووجه كونها آية لخروجها من الجبل لا من ذكر وأنثى ولكمال خلقتها من غير تدريج «وناقة الله» عطف بيان لهذه أو مبتدأ ثان و «لكم» خبر عامل في آية في نصبها على الحال. ويجوز أن يكون عامل الحال معنى التنبيه، أو معنى الإشارة. وجملة قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آية في محل رفع بدل من قوله بينة لأنها مفسرة له وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في معناه فَذَرُوها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ في الحجر أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فاتركوها تأكل من إنباتكم وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي ولا تضربوها ولا تقربوا منها شيئا من أنواع الأذى إكراما لآية الله تعالى فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أي بسبب أذاها وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي فلما أهلك الله عادا عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا أطوالا وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أنزلكم في أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون من سهولة الأرض قصورا بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر للصيف وسميت

القصور بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي وتنقبون في الجبال بيوتا للشتاء وذلك لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم فكان عمر واحد منهم ثلاثمائة سنة إلى سنة كقوم هود فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمة الله عليكم بعقولكم فإنكم متنعمون مترفهون وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) أي ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أي قال الجماعة الذين تكبروا عن الإيمان بصالح للمساكين الذين آمنوا به. فقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل وضمير «منهم» راجع «لقومه» . أي قالوا للمؤمنين الذين استرذلوهم بطريق الاستهزاء بهم. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إليكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) أي نحن مصدقون بما جاء به صالح قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن امتثال أمر ربهم وهو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح بقوله فذروها تأكل في أرض الله إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي قتلها قدار بن سالف بأمرهم في يوم الأربعاء فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا، ثم أن تصبحوا في يوم الجمعة حمرا، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي ارتفعوا فأبوا عن قبول أمر ربهم الذي أمرهم صالح وَقالُوا استهزاء يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فإنهم كذبوا صالحا في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) أي فصاروا في بلدهم خامدين موتى لا يتحركون. والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة. روي أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم وطال عمرهم، وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا- وكان منهم- فطالبوه بالمعجزة فقال: ما تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، ونخرج أصناما فتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم ودعوا أوثانهم فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه السلام وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لتلك الصخرة كائبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء وبراء فإن فعلت ذلك صدقناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفرجت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء، وكانت في غاية الكبر، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به فنهاهم ذؤاب بن عمرو والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم فمكثت الناقة مع

[سورة الأعراف (7) : الآيات 81 إلى 90]

ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون، وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة وصدقة، لما أضرت به من مواشيهم، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فرقى ولدها جبلا مسمى بقارة فرغا ثلاثا، وقال صالح عليه السلام لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفتحت الصخرة بعد رغائه، فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم وهلكوا فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج صالح من بينهم قبل موتهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) أي لم تطيعوا الناصحين بل تستمروا على عداوتهم. وروي أن صالحا خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطا ابن هاران إلى قومه. أي فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلد بحمص إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وقت قوله لهم فإرساله إليهم لم يكن في أول وصوله إليهم أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون اللواطة ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) . قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم، فأبوا، فألح عليهم فقصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا فاستحكم فيهم ذلك إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي إنكم لتأتون أدبار الرجال لمجرد الشهوة لا للولد ولا للألفة متجاوزين فروج النساء اللاتي هن محال الاشتهاء. وقرأ نافع وحفص عن عاصم «إنكم» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر المستأنف، وهو بيان لتلك الفاحشة. وقرأ ابن كثير بهمزتين بدون ألف بينهما. وبتسهيل الثانية، وأبو عمرو كذلك لكنه أدخل الألف بينهما. وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مد. والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما على

الأصل، وهذا الاستفهام معناه الإنكار بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) أي مجاوزين الحلال إلى الحرام، وأنتم قوم عادتكم الزيادة في كل عمل وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أي ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وابنتيه زعورا وريثا مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) أي يتنزهون عن أدبار الرجال قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه فَأَنْجَيْناهُ أي لوطا وَأَهْلَهُ وهم بنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ الكافرة واسمها واهلة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) أي الباقين في ديارهم فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم، وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم وهو في فلسطين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم إرسال المطر آجرا محروقا معجونا بالكبريت والنار. قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. وقيل: المعنى وأنزلنا على الخارجين من المداين الخمسة حجارة من السماء معلّمة عليها اسم من يرمى بها. وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) أي فانظر يا من يتأتى منه النظر كيف أمطر الله حجارة من طين مطبوخ بالنار متتابع في النزول على من يعمل ذلك العمل المخصوص، وكيف أسقط مدائنها مقلوبة إلى الأرض وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أخاهم في النسب لا في الدين شُعَيْباً بن ميكيل. وقيل: شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم قالَ لقومه وهم أهل كفر وبخس للمكيال والميزان: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على رسالة الله وعلى صدق ما جئت به ومن معجزات شعيب أنه دفع عصاه إلى موسى، وتلك العصا حاربت التنين وأنه قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد في أوائلها وبياض في أواخرها، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه، وأنه وقع على يده عصا آدم عليه السلام فإن جميع ذلك كان قبل استنباء موسى عليه السلام. وقيل: إن المراد بالبينة نفس شعيب عليه السلام فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي أتموا كيل المكيال ووزن الميزان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوا حقوق الناس بجميع الوجوه كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل. وقيل:

كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة كما يفعل أمراء الجور وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيها. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا، تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكان كل نبي يبعث إلى قومه فهو صلاحهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين: أحدهما: التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة. وثانيهما: الشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد ذلِكُمْ أي هذه الأمور الخمسة خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم فيه في طلب المال، لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) أي مصدّقين لي في قولي هذا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ أي ولا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس تهددون من مرّ بكم من الغرباء، فكانوا قطّاع طريق وكانوا مكّاسين وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ أي وتصرفون عن دين الله من آمن بالله وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون سبيل الله معوجة بإلقاء الشكوك والشبهات فكانوا يجلسون على الطرق ويقولون لمن يريد شعيبا: إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك فإن آمنت به قتلناك. وجملة الأفعال الثلاثة التي هي توعدون، وتصدون، وتبغون أحوال، أي لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين وَاذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا بالعدد. فَكَثَّرَكُمْ بالعدد قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت، فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة فكثروا وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) أي كيف صار آخر أمر المشركين قبلكم بالهلاك بتكذيبهم رسلهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين وبإظهار هوان الكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) أي إنه تعالى حاكم عادل منزّه عن الجور قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال الجماعة الذين أنفوا من قبول قوله وبالغوا في العتو: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا والظرف متعلق بالإخراج لا بالإيمان. أي والله لنخرجنك وأتباعك من مدين أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي أو لتصيرن إلى ملتنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) أي قال شعيب: أتصيروننا في ملتكم وإن كنا كارهين للدخول فيها قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما حيث نزعم أن لله تعالى ندا إِنْ عُدْنا أي إن دخلنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من ملتكم وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يأمر الله بالدخول فيها

[سورة الأعراف (7) : الآيات 91 إلى 100]

وهيهات ذلك وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي ربما كان في علمه تعالى حصول بقائنا في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل الله يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي في أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي يا ربنا احكم بيننا بالعدل وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) أي الحاكمين. أو المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبينهم بأن تنزل عليهم عذابا يتميز به المحق من المبطل وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي وقال الرؤساء من قوم شعيب للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً في دينه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) في الدين وفي الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال والإضلال فاستحقوا الإهلاك فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة المهلكة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) أي فصاروا في مساكنهم خامدين ساكنين بلا حياة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي الذين كذبوا شعيبا استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا في قريتهم أصلا، أي عوقبوا بقولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) دينا ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج شعيب من بينهم قبل الهلاك. وقال الكلبي: ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي حذرتكم من عذاب الله ودعوتكم إلى الإيمان والتوبة، وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم بوجود علاماته كحبس الريح عنهم سبعة أيام حصل في قلبه الحزن من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة، ثم عزى نفسه وقال: فَكَيْفَ آسى أي أحزن حزنا شديدا عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. وقيل: قال شعيب ذلك اعتذارا من عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم، والمراد أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم، وقرأ يحيى بن وثاب فكيف آسى، بإمالتين وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فكذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي عاقبناهم بِالْبَأْساءِ أي الشدة في أحوالهم كالخوف وضيق العيش وَالضَّرَّاءِ أي الأمراض والأوجاع لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) أي كي يتذللوا وينقادوا لله تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي ثم أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض لأن ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر حَتَّى عَفَوْا أي كثروا في أنفسهم وأموالهم وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما أصابنا وهذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة

[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 إلى 110]

فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم نقتدي بهم وليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل فلما لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء لم ينتفعوا بذلك الإمهال أخذهم الله بغتة أينما كانوا قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بعد ذلك بَغْتَةً أي فجأة بالعذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) أي وقت نزول العذاب ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الذين أهلكناهم آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْا ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات والثمار والمواشي وحصول الأمن والسلامة. وقرأ ابن عامر «لفتحنا» بتشديد التاء للتكثير وَلكِنْ كَذَّبُوا ذلك ولم يتقوا ما حرمه الله فَأَخَذْناهُمْ بالجدوبة والعذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) من الكفر والمعاصي أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أي غافلون عن ذلك أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أي يشتغلون بما ينفعهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي عذاب الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) وهم الذين لا يعرفون ربهم لغفلتهم فلا يخافونه. وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ. قرأ الجمهور «يهد» بالياء من تحت، أي أولم يتبين للذين يرثون أرض مكة من المتقدمين بسكونها من بعد هلاك أهلها تعذيبنا إياهم بسبب ذنوبهم لو شئنا ذلك كما عذبنا من قبلهم، وفاعل «يهد» مصدر مؤول من «أن» وما في حيزها أن نزل «يهد» منزلة اللازم وإلا فمفعوله له محذوف والتقدير أولم يوضح للوارثين أرض مكة من بعد هلاك أهلها عاقبة أمرهم أن الشأن لو نشاء الإصابة أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) أي لا يقبلون موعظة من أخبار الأمم المهلكة. والمراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه وإنما يحصل الطبع حال استمراره على الكفر فهو يكفر أولا ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: و «نطبع» على «أصبناهم» تِلْكَ الْقُرى وهي قرى قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكرم الرسل مِنْ أَنْبائِها كيف أهلكت وإنما خصّ الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد صلّى الله عليه وسلّم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياؤهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما

كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أي فبعد رؤية المعجزات ما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات. والمعنى كانت كل أمة من أولئك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي وما وجدنا أكثر الناس على إيمان كما قاله ابن مسعود أو على عهد أول وهو الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فلما أقروا بربوبية الله تعالى في عالم الذر ثم خالفوا ذلك في هذا العالم صار كأنه ما كان لهم عهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) أي وإن الشأن. والحديث: «وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين» ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد انقضاء الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية مُوسى بِآياتِنا التسع الدالة على صدقه إِلى فِرْعَوْنَ واسمه قابوس. وقيل: اسمه الوليد بن مصعب بن ريان، وكان ملكه أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة ولم ير في تلك المدة مكروها قط من وجع، أو حمى، أو جوع، ولو حصل له ذلك لما ادعى الربوبية وَمَلَائِهِ أي عظماء قومه فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات أي وضعوا الإنكار في موضع الإقرار ووضعوا الكفر في موضع الإيمان وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة فَانْظُرْ أيها المخاطب بعين عقلك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ إليك وإلى قومك مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ. وقرأ نافع «على» بتشديد الياء، ف «حقيق» فحقيق مبتدأ وخبره ما دخلت عليه «أن» ، أي واجب على ترك القول على الله إلا بالحق. والباقون بمد اللام، والمعنى أنا ثابت بأن لا أقول على الله إلا الصدق. وقرأ أبي «بأن لا أقول بالباء» . وقرأ عبد الله والأعمش «أن لا أقول» بدون حرف جر قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ أي معجزة شاهدة على رسالتي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام. قالَ أي فرعون إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها أي إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك فأحضرها عندي ليثبت صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) في دعواك أنك رسول فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة صفراء ذكر مُبِينٌ (107) أي ظاهر لا يشك في كونه ثعبانا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 111 إلى 120]

روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر، فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا، وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى، أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من طوق قميصه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الرؤساء منهم وهم أصحاب مشورته إِنَّ هذا أي موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) أي حاذق بالسحر، فإنهم قالوا ذلك مع فرعون على سبيل التشاور يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قاله لفرعون خدمه والأكابر فإن الأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا، ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة بقولهم: أرجه وأخاه. قال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ فيه ست قراءات. ثلاثة بإثبات الهمزة التي بعد الجيم وهي كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن ابن عامر، وضمها كذلك لأبي عمرو وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير، وهشام عن ابن عامر. وثلاثة بحذف الهمزة وهي سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي. وورش أي أخر أمر موسى ولا تعجل في أمره بحكم. والمراد أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى وَأَخاهُ هارون وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) أي وأرسل في مدائن صعيد مصر شرطا يحشرون إليك ما فيها من السحرة وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) أي ماهر في السحر. وقرأ حمزة والكسائي «سحار» كما اتفقوا عليه في سورة الشعراء وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرط في طلبهم قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الغلبة. قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم «أن» بهمزة واحدة. والباقون بهمزتين وأدخل أبو عمرو الألف بينهما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) لموسى قالَ نَعَمْ. وقرأ الكسائي بكسر العين وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) أي نعم لكم الأجر ولكم المنزلة الرفيعة عندي زيادة على الأجر، أي فإني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين إليّ بالمنزلة. قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) ما معناه من الحبال والعصي أولا، فلما راعوا حسن الأدب حيث قدموا ذكر موسى عليه السلام رزقهم الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب قالَ موسى مريدا الإبطال ما أتوا به من السحر وإزراء شأنهم: أَلْقُوا ما تلقون فَلَمَّا أَلْقَوْا عصيا وحبالا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي صرفوها عن إدراك حقيقتها فتخيلوا أحوالا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 121 إلى 130]

عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان وفق ما تخيلوه. قيل: إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحبال والعصي وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات، وليس خوفه لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) في باب السحر وعند السحرة وإن كان حقيرا في نفسه قيل: كانت الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وكانت سعة الأرض ميلا في ميل فصارت كلها حيات وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ولما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا كما قال تعالى فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تلقم ما يَأْفِكُونَ (117) أي الذي يقبلونه عن الحق إلى الباطل فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فظهر الحق مع موسى وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) أي واضمحل ما عملوه من السحر وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت ثبت أن ذلك حصل بخلق الله تعالى لا لأجل السحر فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في المكان الذي وقع فيه سحرهم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) أي صاروا ذليلين مبهوتين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) أي خروا سجدا لله تعالى أي فمن سرعة سجودهم كأنهم ألقوا. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية وبلغ ذنب الحية وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فكان تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه ليس بسحر فعند ذلك خروا ساجدين قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) قال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: لا بل رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) ولما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حدّ السحر علموا أنها أمر إلهي فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى فلأجل كمالهم في علم السحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان، فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك

بكمال حال الإنسان في علم التوحيد قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون واختلف القراء في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراء فإن القراء في ذلك على أربع مراتب. الأولى: قراءة الأخوين وأبي بكر عن عاصم، وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكار، وأما الألف الثالثة فالكل يقرءونها كذلك وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة، وأما الأولى فمحققة ليس إلا. والثانية: قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها ألف. والثالثة: قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين. والرابعة: قراءة قنبل عن ابن كثير، فقرأ في هذه السورة حال الابتداء «أآمنتم» بهمزتين أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها، كقراءة البزي وحال الوصل يقرأ «قال فرعون» و «آمنتم» بإبدال الأولى واوا وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص وفي سورة الشعراء كقراءة البزي قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي إن إيمان هؤلاء حيلة احتلتموها مع مواطأة موسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد، وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من مصر وإبطال ملكهم، وهاتان شبهتان ألقاهما فرعون إلى أسماع عوام القبط ليمنعهم بها عن الإيمان بنبوة موسى عليه السلام فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) ما أفعل بكم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أي أعلقكم ممدودة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم أَجْمَعِينَ (124) قالُوا أي السحرة: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) أي راجعون بالموت بلا شك سواء كان بقتلك أو لا فيحكم بيننا وبينك وإنا إلى رحمة ربنا راغبون وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي ما تعب علينا إلا إيماننا آيات ربنا، أو ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا لإيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صبّ علينا صبرا كاملا تاما عند القطع والصلب لكيلا نرجع كفارا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) أي مخلصين على دين موسى. قيل: فعل فرعون ما توعدهم به، وقيل: لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى الدعاء في قولهم وتوفنا مسلمين لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته تعالى لا بقتل فرعون وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ له لما خلى سبيل موسى أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ من بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي ليفسدوا على الناس في أرض مصر بتغيير دينهم. واعلم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له، إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك بكسر اللام جمع إله.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 131 إلى 140]

وقرأ ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب «وآلاهتك» بفتح اللام ومدة أي وعبادتك. وقرأ العامة بنصب «يذرك» عطف على «يفسدوا» أو جواب الاستفهام بالواو. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة بالرفع عطفا على «أنذر» أو استئنافا أو حالا. وقرئ بالسكون قالَ فرعون لما لم يقدر على موسى أن يفعل معه مكروها لخوفه منه سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي أبناء بني إسرائيل ومن آمن موسى صغارا كما قتلناهم أول مرة، وقرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بفتح النون وسكون القاف. والباقون بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي ونتركهن أحياء للخدمة وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) كما كنا وهم مقهورون تحت أيدينا وإنما نترك موسى وقومه من غير حبس لعدم التفاتنا إليهم لا لعجز ولا لخوف، واختلف المفسرون، فمنهم من قال: كان فرعون يفعل ذلك، ومنهم من قال: لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل حين تضجروا من قول فرعون على سبيل التسلية لهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ على فرعون وقومه وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من أقاويله الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ أي أرض مصر لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وقرأ الحسن «يورثها» بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير. وقرئ «يورثها» بفتح الراء مبنيا للمفعول وَالْعاقِبَةُ أي الجنة أو فتح البلاد والنصر على الأعداء لِلْمُتَّقِينَ (128) أي الذين أنتم منهم فمن اتقى الله تعالى فالله يعينه في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود بنصب العاقبة عطفا على الأرض، فالاسم معطوف على الاسم والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات. قالُوا أي بنو إسرائيل لموسى لما سمعوا تهديد فرعون بالقتل للأبناء مرة ثانية: أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا. قالوا ذلك استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار هل هو في الحال أو لا؟ لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة. قالَ أي موسى مسليا لهم حين رأى شدة جزعهم مما شاهدوه من فعل فرعون: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي توعدكم بإعادة فعله وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلكم خلفاء في الأرض مصر بعد هلاك أهلها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) أي فيرى سبحانه وتعالى كيف تعملون في طاعته وهذا حث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى، فالله تعالى يرى وقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم في الأزل وإنما يجازيهم على ما يقع منهم وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي باحتباس المطر وبالجوع وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ أي ذهاب الثمرات بإصابة العاهات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) أي كي يقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجوا عمّا هم عليه من العتو والعناد فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي الخصب والسعة في الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مستحقون من كثرة نعمنا على العادة التي جرت وَإِنْ

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدوبة وشدة وبلاء يَطَّيَّرُوا أي يتشاءموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين، أي يقولوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ أي حظهم عِنْدَ اللَّهِ أي كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره. وقيل: المعنى إنما جاءهم الشر بقضاء الله تعالى وحكمه. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل: الكلمة الحسنة. كانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد فأثبت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الفأل وأبطل الطيرة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) أن ما يصيبهم من الله تعالى وَقالُوا أي آل فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) أي أيّ شيء تظهره لدينا من علامة من عند ربك لتصرفنا عمّا نحن عليه من الدين بذلك الشيء فما نحن لك بمصدقين بالرسالة وكان موسى رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ أي الماء من السماء فدخل بيوت القبط وقاموا في الماء إلى تراقيهم ودام ذلك عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ولم يدخل ذلك الماء بيوت بني إسرائيل مع أنها كانت في خلال بيوت القبط فاستغاثوا بفرعون، فأرسل إلى موسى فقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك. فأزال الله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد وَأقاموا شهر في عافية فأرسل الله تعالى عليهم الْجَرادَ فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إلى موسى، فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحا، فألقته في البحر بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، فنظر أهل مصر إلى ما بقي من زرعهم فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك وَأقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الْقُمَّلَ أي الجراد الصغير بلا أجنحة من سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكله، فصاحوا ودعا موسى فأرسل الله عليه ريحا حارة فأحرقته وألقته في البحر. وقرأ الحسن «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم- وهو المعروف- وعن سعد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، فصرخوا وفزعوا إلى موسى، فدعا، فرفع الله عنهم القمل وقالوا: قد تيقّنا اليوم أنك ساحر حيث جعلت الرمل دواب، وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله تعالى عليهم الضَّفادِعَ فخرج من البحر مثل الليل الدامس، ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يستيقظ وعلى رأسه ذراع من الضفادع، فصرخوا إلى موسى وحلفوا لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمن بك، فدعا الله تعالى، فأمات الضفادع، وأرسل

عليها المطر فاحتملها إلى البحر بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ثم أظهروا الكفر وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم الدَّمَ فصارت مياه قلبهم وأنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب حتى بلغ منهم الجهد، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب، وكان فرعون وأشراف قومه يركبون إلى أنهار بني إسرائيل، فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف الماء صار في يده دما، ومكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون لموسى عليه السلام: لئن رفعت عنا العذاب لنصدقن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل مع أموالهم آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي مبينات لا يخفى على كل عاقل أن هذه الخمسة من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، ومفرقات بعضها من بعض بزمان لامتحان أحوالهم: أيقبلون الحجة أو يستمرون على التقليد. وكان كل عذاب يبقى عليهم أسبوعا من سبت إلى سبت وبين كل عذابين شهر فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها وعن عبادة الله وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) مصرين على الذنب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي كلما نزل عليهم العذاب من الأنواع الخمسة قالُوا في كل مرة: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أعلمك به وهو كشف العذاب عنا إن آمنا. أو المعنى أقسمنا بعهد الله عندك وهو النبوة لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ أي لئن رفعت عنا العذاب الذي نزل علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) أي مع أموالهم فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ أي حدّ معين هُمْ بالِغُوهُ لا بدّ وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) أي فلما رفعنا عنهم العذاب فاجأوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما بلغوا الأجل الموقت أهلكناهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر الملح. والفاء تفسيرية بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا التسع الدالة على صدق رسولنا وَكانُوا عَنْها أي تلك الآيات غافِلِينَ (136) أي معرضين غير ملتفتين إليها وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل أبنائهم وأخذ الجزية منهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ أي أرض الشام ومصر وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق، وبالنيل وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي ومضى وعده تعالى عليهم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد. فمن قابل البلاء بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج، ومن قابله بالجزع وكله الله إليه. وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ف «فرعون» اسم «كان» و «يصنع» خبر ل «كان» مقدم. أي وخربنا الذي كان فرعون يصنعه من المدائن والقصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي يرفعون من الشجر والكروم أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء. والباقون بكسرها وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ مع السلامة بأن فلق الله البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا. روي أن موسى عبر بهم يوم عاشوراء

[سورة الأعراف (7) : الآيات 141 إلى 150]

بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وصامه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادة أصنام لهم وكانت تماثيل على صور البقر، وهم من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف. والباقون بالضم قالُوا عند ما شاهدوا أحوالهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي عين لنا تماثيل نتقرب بعبادتها إلى الله تعالى كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها. قالَ موسى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) فلا جهل أعظم مما ظهر منهم فإنهم قالوا ذلك بعد ما شاهدوا المعجزة العظمى إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعبدون تلك التماثيل مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي مهلك ما هم فيه من الدين. أي إن الله يهدم دينهم عن قريب ويحطم أصنامهم وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) من عبادتها أي فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر. قالَ موسى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) أي أأطلب لكم غير الله معبودا والحال أنه تعالى وحده فضّلكم على عالمي زمانكم بالإسلام. أو فضلكم على العالمين بتخصيصكم بنعم لم يعطها غيركم، كالتخصيص بتلك الآيات القاهرات فإنه لم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله رجل تعلّم علما واحدا وآخر تعلّم علوما كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد. وفي الحقيقة إن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد والمعنى أآمركم أن تعبدوا ربا يتخذ ويطلب بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي واذكروا وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية. وقرأ ابن عامر «أنجاكم» بحذف الياء والنون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يعطونكم أشد العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمون نساءكم كبارا وَفِي ذلِكُمْ أي الإنجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) أي نعمة عظيمة من ربكم ويقال: وفي ذلكم العذاب بلية عظيمة من ربكم وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. روي أن موسى وهو بمصر وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها وهي شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب. فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له: أما علمت أن

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ عند ذهابه إلى الجبل للمناداة: اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون وَأَصْلِحْ أمور بني إسرائيل وأمرهم بعبادة الله تعالى وهي صلاحهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) أي ومن دعاك منهم إلى طريق المفسدين بالمعاصي فلا توافقه وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لميعادنا في مدن في يوم الخميس يوم عرفة فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من كل جهة. قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك فأراك. قالَ تعالى له: لَنْ تَرانِي أي لن تقدر أن تراني في الدنيا يا موسى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ في مدين فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي أي فإن استقر الجبل مكانه لرؤيتي فلعلك تراني. والرؤية متأخرة عن النظر، لأنه تقليب الحدقة السليمة جهة المرئي التماسا لرؤيته، والرؤية الإدراك بالباصرة بعد النظر فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي فلما ظهرت عظمته تعالى لجبل زبير جعله مكسورا. قيل: إن جبل زبير أعظم جبل في مدين فإنه صار ستة أجبل، فوقع ثلاثة منها بالمدينة وهي: أحد، وورقان، ورضوى. وقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبير وحراء، أي أمر الله تعالى ملائكة السماء السابعة بحمل عرشه، فلما بدا نور العرش انصدع الجبل من عظمة الله تعالى. وقرأ حمزة الكسائي «دكاء» بالمد أي مستويا بالأرض. وقرأ ابن وثاب «دكا» بضم الدال وبالقصر جمع دكاء أي قطعا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه من هول ما رآه من النور فَلَمَّا أَفاقَ من غشيته قالَ سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عن أن ترى في الدنيا تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة على السؤال بغير إذن منك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) أي المقرين بأنك لا ترى في الدنيا لكل الأنبياء، وقد ثبتت الرؤية لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء على الصحيح أو يقال: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك قالَ تعالى له: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي فضلتك عَلَى النَّاسِ أي بني إسرائيل بِرِسالاتِي أي بكتب التوراة. وقرأ نافع وابن كثير «برسالتي» بالإفراد أي تبليغ رسالتي وَبِكَلامِي أي وبتكلمي معك بغير واسطة فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي فاعمل ما أعطيتك من الرسالة أي الوحي وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) أي واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة وهو القيام بلوازمها علما وعملا، ولا يضق قلبك بسبب منعك الرؤية وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي وكتبنا لموسى في ألواح التوراة مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من قوله تعالى «من كل شيء» باعتبار محله وهو النصب. أي كتبنا له كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، ومن شرح أقسام الأحكام فَخُذْها أي فقلنا

اعمل بهذه الأشياء بِقُوَّةٍ أي بجد ونية صادقة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي التوراة. أي يعملوا بمحكمها ويؤمنوا بمتشابهها وقال بعضهم: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) أي سأدخلكم الشام بطريق الإيراث، وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها فلا تفسقوا مثل فسقهم. وقرئ «سأورثكم» بالثاء المثلثة سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي سأزيل الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، أي وإنما يرى بنو إسرائيل دار الفاسقين بعد هلاكهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي وأن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي الدين الحق والخير لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يسلكوا سبيله. وقرأ حمزة والكسائي «الرشد» بفتح الراء والشين. والباقون بضم الراء وسكون الشين. وروي عن ابن عامر بضمتين، وقال أبو عمرو بن العلاء: «الرشد» بضم وسكون: الصلاح في النظر. وبفتحتين: الاستقامة في الدين وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه مسلكا لأنفسهم ذلِكَ أي تكبرهم وعدم إيمانهم بشتى من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغي بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي حاصل بسبب أنهم كذبوا بكتابنا الدال على بطلان اتصافهم بالقبائح وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) أي وكانوا جاحدين بها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بكتابنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وبلقائهم الآخرة التي هي موعد الجزاء حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي حسناتهم التي لا تتوقف على نية، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين وإن نفعتهم في تخفيف العذاب، لكن التخفيف لا يقال له: ثواب. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) أي ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا أي صاغ موسى السامري المنافق وهو من بني إسرائيل من بعد انطلاق سيدنا موسى عليه السلام إلى الجبل عجلا من ذهب جَسَداً أتى بهذا البدل لدفع توهم أنه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا لَهُ خُوارٌ أي صوت. وقرأ علي رضي الله عنه «جؤار» بالجيم والهمزة أي صياح. قيل: إن بني إسرائيل كان لهم، عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل وصارت ملكا لهم، فجمع السامري تلك الحلي. وكان رجلا مطاطا فيهم صائغا، فصاغ السامري عجلا وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 151 إلى 160]

فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم قوم موسى أَنَّهُ أي العجل لا يُكَلِّمُهُمْ بشيء وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا بوجه من الوجوه اتَّخَذُوهُ أي عبدوه وَكانُوا ظالِمِينَ (148) لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي لما اشتد ندمهم على عبادة العجل. و «سقط» مبني للمجهول، وأصل الكلام: سقطت أفواههم على أيديهم ف «في» بمعنى على وذلك من شدة الندم، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عضّ بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم بحيث تيقنوا ضلالهم بعبادة العجل. قالُوا أي قال بعضهم لبعض: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا فيعذبنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) بالعقوبة. وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب في الفعلين حكاية لدعائهم وبنصب «ربنا» على النداء وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ من مناجاته غَضْبانَ على قومه لأجل عبادتهم العجل أَسِفاً أي حزينا لأن الله تعالى فتنهم قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل. وهذا الخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أي بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى، وإما لهارون والمؤمنين معه أي بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم وعد ربكم من الأربعين فلم تصبروا له وذلك أنهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات فإنهم عدوا عشرين يوما بلياليها أربعين وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضع ألواح التوراة في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه فلما فرغ عاد إليها فأخذها بعينها وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أي إلى نفسه لا على سبيل الإهانة بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة قالَ هارون ابْنَ أُمَّ. قراه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم هنا وفي طه. والباقون بفتحها في السورتين إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي وجدوني ضعيفا وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لأني نهيتهم عن عبادة العجل فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تسر الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) أي ولا تظن أني واحد من الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم وإنما قال هارون تلك المقالة لأنه يخاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل. قالَ موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي فيما

أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب وَلِأَخِي في تركه التشديد على عبدة العجل وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي جنتك بمزيد الأنعام بعد غفران ما سلف منا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ عظيم كائن مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي الاغتراب والمسكنة المنتظرة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي اختص بها السامري هو الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم حما جميعا في الوقت وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) أي الكاذبين على الله. والمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة لأن المبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي التي من جملتها عبادة العجل ثُمَّ تابُوا عن تلك السيئات مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وَآمَنُوا إيمانا صحيحا بالله تعالى بأن صدقوا بأنه تعالى لا إله غيره ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى إِنَّ رَبَّكَ أي يا أفضل الخلق مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان لَغَفُورٌ للذنوب وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ (153) أي مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية أي من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين وَلَمَّا سَكَتَ أي زال عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار أخيه وتوبة القوم. وقرئ «سكن» بالنون، و «أسكت» بالتاء مع الهمزة على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها أي وفي المكتوب فيها من اللوح المحفوظ هُدىً أي بيان للحق وَرَحْمَةٌ للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) اللام الأولى متعلق بمحذوف وهو صفة لرحمة والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا. روي أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان. فتشاجروا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشية غمام فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى بأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. أي لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه فأخذتهم رجفة الجبل يوما وليلة. تنبيه: «اختار» يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور ب «من» ثم يحذف حرف الجر ويوصل الفعل إلى المجرور وسبعين مفعول أول فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة. قالَ

موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خروجهم إلى الميقات وَإِيَّايَ معهم. قاله تسليما لقضاء الله تعالى. أي إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي ظن موسى إنما أهلكهم الله بعبادة قومهم العجل وقال هذا على طريق السؤال، وقال المبرد: «هو استفهام استعطاف، أي لا تهلكنا بسبب فعل عباد العجل إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا محنتك بأن أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به وأسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك حتى طمعوا فيما فوق ذلك تُضِلُّ بِها أي بتلك الفتنة مَنْ تَشاءُ إضلالة فلا يهتدي إلى التثبت وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية فَاغْفِرْ لَنا ما قارفناه من المعاصي وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) لأنك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض بل لمحض الفضل والكرم أما غيرك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل أو للثناء الجميل أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي نعمة وطاعة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي رجعنا عمّا صنعنا من المعصية التي جئناك للاعتذار عنها قالَ تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي. وقرأ الحسن «من أساء» فعل ماض من الإساءة. واختار الشافعي هذه القراءة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي إن رحمته في الدنيا عمّت الكل، وأما في الآخرة فرحمته مختصة بالمؤمنين كما أشار تعالى إليه بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها أي فسأثبتها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون زكاة أموالهم وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي دلائل وحدانيتنا وقدرتنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ومع ذلك قد جمع علوم الأولين والآخرين الَّذِي يَجِدُونَهُ يلقون اسمه ونعته مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين تعبّد بهما بنو إسرائيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد وبمكارم الأخلاق وبر الوالدين، وصلة الأرحام. وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي الأشياء المستطابة بحسب الطبع، فكل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع فهو حلال إلا لدليل منفصل وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس. فكل ما يستخبثه الطبع حرام إلا لدليل منفصل وعلى هذا فرع الشافعي تحريم بيع الكلب لأنه روي عن ابن عباس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكلب خبيث وخبيث ثمنه وإذا ثبت أن ثمنه، خبيث ثبت أن يكون حراما، والخمر محرّمة لأنها رجس والرجس خبيث بإطباق أهل اللغة عليه

والخبيث حرام» «1» . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ثقلهم، والشدائد التي كانت في عباداتهم: كقطع أثر البول من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم وتحريم السبي، وقتل النفس في التوبة، وتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى. فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة، أي وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه السلام فلما جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم نسخ ذلك كله، ويدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» «2» . وقرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه بمنع أعدائه منه وَنَصَرُوهُ أي على أعدائه في الدين بالسيف وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي واتبعوا القرآن الذي أنزل مع نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن وعبر عنه بالنور الدال على كونه مظهرا للحقائق أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) أي الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة والناجون من السخط والعذاب لا غيرهم من الأمم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ. واعلم أن هذه الدعوى- وهي دعوى رسول الله- لا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول ثلاثة: أولها: إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا، والذي يدل عليه ما في قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 9] لأنه بتقدير عدم حصول مؤثر للعالم في وجوده، أو بتقدير كون المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يصح القول ببعثة الأنبياء عليهم السلام. وثانيها: إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لأنه إذا لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل، وإنزال الكتب جائزا لأنه بتقدير كون إلهين للعالم يجوز أن يكون الإنسان الذي يدعوه رسول أحدهما مخلوقا للإله الثاني، فإيجاب الطاعة للإله الذي لم يخلقه ظلم وباطل. وثالثها: إثبات أنه تعالى قادرا على الحشر والنشر والبعث والقيامة وإليه الإشارة بقوله تعالى: يُحيِي وَيُمِيتُ لأنه تعالى لما أحيا أولا ثبت كونه تعالى قادرا على الإحياء ثانيا، ويكون

_ (1) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب: 41، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في كسب الحجام، والترمذي في كتاب البيوع، باب: 46، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في النهي عن كسب الحجام، وأحمد في (م 1/ ص 278) . (2) رواه أحمد في (م 5/ ص 266) .

قادرا على إيصال الجزاء لأنه بتقدير عدم ثبوت الإعادة كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا، ولما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف، لأن الخلق كلهم عبيده تعالى ولذلك قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ. واعلم أن هذا إشارة إلى المعجزات الدالة على كون محمد نبيا حقا، ومعجزات رسول الله كانت على نوعين: الأول: المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان رجلا أمّيا لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ومع ذلك فتح الله عليه باب العلم وأظهر عليه القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين، فظهور هذه العلوم العظيمة على من كان صفته أميا أعظم المعجزات. والثاني: المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى، لأنها لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة تسمى بكلمات الله، كما أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سماه الله تعالى كلمة. وقال ابن عباس: ومعنى كلماته بالجمع كتابه- وهو القرآن- وإن قرئ «وكلمته» بالإفراد كان معناه عيسى، وهذا تنبيه على أن من لم يؤمن به لم يعتدّ بإيمانه وتعريض باليهود، ولما ثبت بالدلائل نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكر الله الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه بالتفصيل وهو الرجوع إلى أقواله وأفعاله فقال: وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ (159) في الأحكام الجارية فيما بينهم، فقيل: هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا. وقيل: إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف في زمن تفريق بني إسرائيل وإحداثهم البدع. وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط من جملة الاثني عشر، فما صنعوا وسألوا الله تعالى أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين عند مطلع الشمس على نهر رمل يسمى أردن وهم اليوم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً أي فرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، وميزنا بعضهم من

[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 إلى 170]

بعض أسباطا قائم مقام قبيلة وهو تمييز أو بدل من اثنتي عشرة وأمما بدل من أسباطا أي وصيّرناهم أمما، لأن كل سبط كان أمة عظيمة وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم واستسقاء موسى لهم أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي معك فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل سبط مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه من حر الشمس تسير الغمام بسيرهم وتسكن بإقامتهم، وتضيء لهم في الليل مثل السراج وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس ويأخذ كل إنسان صاعا وَالسَّلْوى أي الطير السماني بتخفيف الميم وبالقصر، وتسوقه الريح الجنوب عليهم فيذبح كل واحد منهم ما يكفيه وهو يموت إذا سمع صوت الرعد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: كلوا من مستلذاته من المن والسلوى، والمعنى قصر أنفسهم على ذلك المطعوم وعلى ترك غيره، فامتنعوا من ذلك وسئموا وسألوا غير ذلك وَما ظَلَمُونا بمقابلة تلك النعم بالكفران وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) بمخالفتهم ما أمروا به وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ أي اذكر يا أكرم الرسل لبني إسرائيل وقت قوله تعالى لأسلافهم: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي قرية الجبارين قوم من بقية عاد رئيسهم عوج بن عنق أي قال الله تعالى على لسان موسى لهم: إذا خرجتم من التيه اسكنوا بيت المقدس أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه اسكنوا أريحاء وَكُلُوا مِنْها أي القرية حَيْثُ شِئْتُمْ ومتى شئتم وَقُولُوا حِطَّةٌ أي أمرك حطّة لذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية. وقيل: باب القبة التي كانوا يصلون إليها سُجَّداً شكرا على إخراجهم من التيه نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ. وقرأ نافع وابن عامر «تغفر» بالتاء المضمومة. وقرأ نافع «خطيئاتكم» بجمع السلامة، وابن عامر «خطيئتكم» على التوحيد، والباقون «نغفر» بنون مفتوحة، وأبو عمرو خطاياكم بجمع التكسير. والباقون خطيئاتكم بجمع السلام وفي قراءة «يغفر» بالياء فعلى هذا لا يقرأ خطابا بالإفراد وعلى التاء لا يقرأ خطابا سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) بالطاعة في إحسانهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم أصحاب الخطيئة قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي غير الذي أمروا به من التوبة وقالوا مكان حطة حنطة. وروي أنهم دخلوا زاحفين على أدبارهم استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ عقب ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كائنا منها وهو الطاعون بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) أنفسهم لأنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى.

روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي واسأل يا أشرف الخلق، اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم، وهي أيلة قرية بين مدين والطور. وقيل: هي قرية يقال لها: مقنا بين مدين وعينونا، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا: لم يصدر من بني إسرائيل كفر ولا مخالفة للرب فأمره الله تعالى أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية في زمن داود عليه السلام تقريعا، فإنهم يعتقدون أنه لا يعلمه أحد غيرهم، فذكر الله لهم قصة أهل تلك المدينة فبهتوا وظهر كذبهم إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يجاوزون حد الله تعالى بأخذ الحيتان يوم السبت وقد نهوا عنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ أي يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد للعبادة شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ. وقرئ شاذا بضم الباء. وقرأ علي رضي الله عنه بضم الياء من الرباعي، وعن الحسن بالبناء للمفعول أي لا يدخلون في السبت لا تَأْتِيهِمْ. قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه، وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل كَذلِكَ أي مثل ذلك البلاء نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة من يختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) أي بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية ومن صلحائهم الذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين لا يقلعون عن وعظهم رجاء للنفع وطمعا في فائدة الإنذار لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخزيهم في الدينا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة لعدم إقلاعهم عمّا كانوا عليه من الفسق قالُوا أي الواعظون: مَعْذِرَةً. قرأه حفص عن عاصم بالنصب أي وعظناهم لأجل المعذرة. والباقون بالرفع أي موعظتنا معذرة إِلى رَبِّكُمْ لئلا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) أي ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلمّا تركوا ما وعظوا به بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي عن أخذ الحيتان يوم السبت وهم الفريقان المذكوران وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بأخذ الحيتان ذلك اليوم بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد. وقرأ أبو بكر «بيئس» على وزن ضيغم وابن عامر «بئس» بوزن حذر بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) أي أخذناهم بالعذاب بسبب الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم فالباءان متعلقان بأخذنا فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي فلما أبوا عن ترك ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا

قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) أذلاء بعداء عن الناس وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ أي يذيقهم سُوءَ الْعَذابِ أي واذكر يا أكرم الرسل إذ أعلم الله أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم إن لم يؤمنوا بأنبيائهم أن يسلط عليهم من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ إذا جاء وقته لمن عصاه فيعاقبهم في الدنيا أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي فرقنا اليهود الذين كانوا قبل زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الأرض فرقا كثيرة حتى لا تكون لهم شوكة فلا يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم أو الذين وراء نهر الرمل وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ أي بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ أي بالجدوبة والشدائد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) أي لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم فإن كل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء وَرِثُوا الْكِتابَ أي أخذوا التوراة من أسلافهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفي الأحكام وهم يستحقرون ذلك الذنب وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي ويقولون: لا يؤاخذنا الله تعالى وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس يأخذوه لحرصهم على الدنيا ولا يستمتعون منه. أو المعنى أنهم يتمنون المغفرة من الله تعالى، والحال أنهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي ألم يؤخذ عليهم ميثاق كائن في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الصدق، وقد منعوا فيها عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وللتمني ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وأن لا يقولوا عطف بيان للميثاق وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي ذكروا ما في الكتاب لأنهم قرءوه أو ذكروا ما أخذ عليهم لذلك وهذا عطف على ورثوا أو على ألم يؤخذ فإن المقصود من الاستفهام التقريري إثبات ما بعد النفي. والمعنى قد أخذ عليهم الميثاق ودرسوا ما في ذلك الميثاق وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عقاب الله من تلك الرشوة الخبيثة أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) أن الدنيا فانية والآخرة باقية. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب التفاتا لهم ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة أي أفلا تعقلون حالهم. والباقون بالياء على الغيبة مراعاة لها في الضمائر السابقة وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأه أبو بكر عن عاصم بسكون الميم. والباقون بفتحها وتشديد السين بِالْكِتابِ أي والذين يعملون بما في الكتاب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وإنما أفردت بالذكر لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وهذه

[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 إلى 180]

الجملة خبر للموصول والربط حاصل بلفظ المصلحين لأنه قائم مقام الضمير لا سيما وهو فيه الألف واللام فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين. وقيل: الخبر محذوف والتقدير مثابون وقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراض وهذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي واذكر يا أشرف الخلق إذا قلعنا الجبل الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وجعلناه فوق رؤوسهم كأنه سقيفة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام التوراة خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي وقلنا لهم: اعملوا بما أعطيناكم بجد على احتمال تكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب ويقال: احفظوا ما فيه من الأمر والنهي ويقال: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) أي راجين أن تنتظموا في سلك المتقين وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر على الجمع. والباقون على التوحيد أي واذكر يا أكرم الخلق لليهود حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وذكر هذه الآية يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. والمقصود من ذكرها هنا الاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس كافة ومنعهم عن التقليد وحملهم على الاستدلال. وفي تفسير هذه الآية طريقان: طريق السلف، وطريق الخلف. فطريق السلف: أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج أولا ذرية آدم كالذر من ظهره أي من مسام شعر ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها: سم مثل سم الخياط في النفوذ فتخرج الذرة الضعيفة منها كما يخرج الصئبان من العرق السائل، ثم أخرج من هذه الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني وانحصر الجميع قدام آدم ونظر لهم بعينه، وخلق الله تعالى فيهم العقل والفهم والنطق، وجعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود، وخاطب الجميع بقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقال الجميع: بلى أي أنت ربنا، ثم أعاد الجميع إلى ظهر آدم. ويجب اعتقاد إخراج الذرية من ظهر آدم كما شاء الله ومعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ إلخ أي استنطقهم بربوبيته تعالى فأقروا بذلك. وقال الحكيم الترمذي: إن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى مخافة منه تعالى، فلم يك ينفعهم إيمانهم. وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم، وطريق الخلف أن الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وإن لم يكن هناك قول

باللسان فمحصل هذه الطريقة أنه لا إخراج ولا قول، ولا شهادة بالفعل وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي فشبه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة على ربوبية الله المقتضية، لأن ينطق ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر وحينئذ فمعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي ونصب الله لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل والله أعلم بحقيقة الحال أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ. وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة. والباقون بالتاء وفي قوله تعالى: شَهِدْنا قولان، فقيل: إنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا: بلى قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا عليهم لئلا يقولوا ما أقررنا، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة، أو شهدنا عليهم كراهة أن يقولوا. وقيل: إنه من بقية كلام الذرية أي وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر إنا كنا عن وحدانية الربوبية لا نعرفه، أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله: شَهِدْنا ولا يحسن على بلى. وقوله: أَوْ تَقُولُوا معطوف على أَنْ تَقُولُوا. والمعنى أن المقصود من هذا الإشهاد لئلا يقول الكفار: إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا من قبل زماننا فقلدناهم في ذلك الشرك. وقال الخلف: معنى هذه الآية أنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على الاقتداء بالآباء كما قالوا: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نقدر على الاستدلال بالدليل أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) من آبائنا المضلين فالمؤاخذة إنما هي عليهم، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك، لأنه قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولا تسقط الحجة بنسيانهم بعد إخبار الرسل وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) أي مثل ما بيّنا خبر الميثاق في هذه الآية نبين سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) أي واتل يا أكرم الخلق على اليهود خبر

الذي آتيناه علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم وهو أحد علماء بني إسرائيل فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في الحال، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا أن ليس للعلم صانع وهذا معنى فانسلخ منها أي انسلخ من تلك الآيات انسلاخ الحية من جلدها بأن كفر بها فأدركه الشيطان فصار من زمرة الضالين. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله تعالى: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي ولو شئنا رفعه لرفعناه للعمل بتلك الآيات، فكان يرفع منزلته بواسطة تلك الأعمال الصالحة وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى الدنيا فآثر الدنيا الدنية على المنازل السنية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا معرضا عن تلك الآيات الجليلة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي صفة بلعم كصفتي الكلب في حالتي التعب والراحة، فهذا الكلب إن شد عليه لهث وإن ترك أيضا لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال طبيعة ذاتية له واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي فالكلب دائم اللهث سواء أزعجته بالطرد العنيف، أو تركته على حاله بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد إلا عند التعب ذلِكَ أي المثل السيئ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي فاقصص يا أكرم الرسل على قومك قصص الذين كذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) أي يتعظون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة، أي الذين جمعوا بين التكذيب في آيات الله وظلم أنفسهم خاصة. وقرأ الجحدري ساء مثل القوم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أي من يخلق الله فيه الاهتداء فهو المهتدي لدينه بإثبات الياء وصلا ووقفا عند جميع القراء لثبوتها في الرسم بخلاف ما في

[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 إلى 190]

الكهف والإسراء وَمَنْ يُضْلِلْ أي بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره جهتها فَأُولئِكَ الموصوفون بالضلالة هُمُ الْخاسِرُونَ (178) أي الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله كسائر أفعال العباد وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيل الفهم فلهم وصف أو حال من كثيرا وقلوب فاعل به وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها شيئا من المبصرات إبصار اعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي شيئا من المسموعات سماع تأمل فلا يفهمون بقلوبهم ولا يبصرون بأعينهم ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ في انتفاء الشعور بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تعرف صاحبها وتطيعه، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه، وفي الخبر: «كل شيء أطوع لله من ابن آدم» أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) عمّا أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها فَادْعُوهُ بِها أي فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي واجتنبوا الذين يميلون في شأن أسماء الله تعالى عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا إذن فيه من كتاب وسنة، أو بما يوهم معنى فاسدا فلا يجوز أن يقال لله تعالى: يا سخي ولا يا عاقل، ولا يا طبيب، ولا يا فقيه، ولا يجوز أن يقال لله تعالى: يا نجي، يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، لأن أسماء الله تعالى توقيفية أي تعليمية من الشرع لا اصطلاحية، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتلك الصفات الشريفة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات، ثم إنّ لتلك الدعوة شرائط كثيرة منها أن يستحضر الأمرين عزة الربوبية، وذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء ووافقه عاصم والكسائي في النحل سَيُجْزَوْنَ في الآخرة ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وهذا تهديد لمن ألحد في أسماء الله تعالى وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ أي طائفة كثيرة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس ملتبسين بالحق ويدلونهم على الاستقامة وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) أي وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق وهو القرآن، سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به وذلك لأنهم كما أوتوا بجرم فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطرا وانهماكا

في الفساد ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكونون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل مدة أعمارهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أي إن استدراجي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وسمى العذاب كيدا لأن ظاهره إحسان ولطف وباطنه خذلان وقهر أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا ليس بنبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم حالة قليلة من الجنون والتعبير عنه صلّى الله عليه وسلّم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلّى الله عليه وسلّم مما يطلعهم على نزاهته صلّى الله عليه وسلّم عن شائبة جنون، ف «ما» نافية اسمها «جنة» وخبرها «بصاحبهم» والجملة في محل نصب معمولة ل «يتفكروا» إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أي ما هو إلا رسول مخوف مظهر لهم في التخويف بلغة يعلمونها أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي أكذبوا بها ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة، وفيما خلق فيهما من جليل ودقيق ليدلهم ذلك على العلم بوحدانية الله تعالى وبسائر شؤونه التي تنطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها فإن كل فرد من أفراد الأكوان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي وفي أن الشأن عسى أن يكون أجلهم قد اقترب أي لعلهم يموتون عن قريب فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أي فبأي كتاب بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، أي لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة فكيف يرجى منهم الإيمان بغيره مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ فإن إعراضهم عن الإيمان لإضلال الله إياهم وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي ضلالهم يَعْمَهُونَ (186) أي يتحيرون. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر و «نذرهم» بالنون والرفع على طريقة الالتفات. وأبو عمرو بالياء والرفع. وحمزة والكسائي بالياء والجزم. وقد روي الجزم بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق سؤال استهزاء عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت القيامة منهم ممل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد. والساعة: من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الخلق، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة، أو لأنها مع طولها في نفسها كساعة واحدة عند الخلق أَيَّانَ مُرْساها أي متى حصولها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي إنه تعالى قد انفرد به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبي مرسل لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها أي لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه في وقتها المعين إِلَّا هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى وقوعها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة على غفلة. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن الساعة تفجأ

الناس فالرجل يصلح موضعه، والرجل يسقي ماشيته. والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» . يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي يسألونك عن كنه ثقل الساعة مشبها حالك عندهم بحال من هو بالغ في العلم بها، وحقيقة الكلام كأنك مبالغ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير. ونظيره قوله تعالى في سورة يونس: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 47، 48] . وقيل: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا أخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: لما رجع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «انظروا أين ناقتي؟» فقال عبد الله بن أبي مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن ناسا من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» . فوجدوها على ما قال، فأنزل الله تعالى : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ أي أن يفعل بي من النفع والضر وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي جلب منافع الدنيا ودفع مضراتها لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ لاحترازي عنه باجتناب الأسباب إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من النار وَبَشِيرٌ بالجنة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) بالجنة والنار هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء خلقها الله من ضلع آدم من غير أذى لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليستأنس بها فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في مبادئ الأمر فَمَرَّتْ بِهِ أي فاستمرت بالحمل على سبيل الخفة وكانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا سويا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) لنعمائك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي ولدا آدميا مستوى الأعضاء خاليا من العوج والعرج جَعَلا لَهُ تعالى شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي في تسمية ما آتاهما من الولد. وقيل: لما آتاهما ذلك الولد السوي الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق، ثم بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: لما ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل، وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك

[سورة الأعراف (7) : الآيات 191 إلى 200]

فيقتلك، أو ينشق بطنك. فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في همّ من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فآدم وحواء سميا ذلك الولد بعبد الحارث، تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعاء هذا الشخص المسمى بالحارث فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد وهذا لا يقدح في كون الولد عبد الله من جهة كونه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) . قيل: إن المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء، وذكر أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاستقلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فقوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقدير فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما. ثم قال تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم أَيُشْرِكُونَ بالله تعالى في العبادة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده، والعبد غير خالق لأفعاله لأن من كان خالقا كان إلها، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه وَهُمْ أي الأصنام يُخْلَقُونَ (191) فهي منحوتة، أو المعنى والكافرون مخلوقون فلو تفكروا في ذلك لآمنوا ولا يشركون بالخالق شيئا وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) أي إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تدفع عن أنفسها مكروها فإن من أراد كسرها لم تقدر على دفعه عنها، والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي وإن تدعوا يا معشر الكفار الأصنام إلى أن يهدوكم إلى الحق لا يجيبوكم كما يجيبكم الله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فلا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر فَادْعُوهُمْ في جلب نفع أو كشف ضر فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أي بل ألهم أيد يأخذون بها ما يرون أخذه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟ وقد قرئ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بل

أدنى منكم فيكون قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ إلخ تقرير النفي المماثلة بإثبات النقصان قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. قال الحسن: إن مشركي أهل مكة كانوا يخوفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآلهتهم فقال الله تعالى: قل يا أكرم الرسل لهم ادعوا آلهتكم واستعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ أي اعملوا أنتم وآلهتكم في هلاكي وبالغوا في تهيئة ما تقدرون عليه من مكر فَلا تُنْظِرُونِ (195) أي اعجلوا أنتم وآلهتكم في كيدي ولا تؤجلون فإني لا أبالي بكم وبآلهتكم لاعتمادي على حفظ الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي إن ناصري هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) أي ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم. وروي أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له وليا فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) أي يمنعون مما يراد بهم فكيف أبالي بهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي وإن تدعوا أيها المشركون تلك الأوثان إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم لا يجيبوا دعاءكم فضلا عن المساعدة، لأنهم أموات غير أحياء وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي وترى يا أشرف الخلق الأصنام يشبهون الناظرين إليك لأنهم مصوّرون بالعين والأنف والأذن وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) أي والحال أنهم غير قادرين على الإبصار لأنهم أموات غير أحياء خُذِ الْعَفْوَ أي اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتولد العداوة، أو المعنى خذ ما تيسر من المال فما أتوك به فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) من غير مماراة ولا مكافاة. قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل ما هذا؟» . قال: «يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» . قال أهل العلم: تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا آتيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إن يصيبنك وسوسة من الشيطان فالتجئ إليه تعالى في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) أي إنه تعالى سميع باستعاذتك بلسانك عليم في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 إلى 206]

وروي أنه لما نزلت تلك الآية الكريمة قال صلّى الله عليه وسلّم: «كيف يا رب والغضب متحقق» «1» فنزل قوله تعالى : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتصفوا بوقاية أنفسهم عمّا يضرها إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي إذا أصابهم وسوسة من الشيطان وغضب تَذَكَّرُوا ما أمرهم الله به من ترك إمضاء الغضب ومن أن الإنسان إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة، وإن تركه واختار العفو كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء ومن أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قويا قادرا على الغضب فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) أي إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان ويحصل الانكشاف فينتهون عن المعصية وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي وإخوان الشياطين من الكفار يقوون الشياطين في الضلال، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن. فشياطين الإنس يضلون الناس فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) أي لا ينكف الغاوون عن الضلال والمغوون عن الإضلال وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي أهل مكة بِآيَةٍ كما طلبوا قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا فإنهم يزعمون أن سائر الآيات كذلك أو هلا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر الله رسوله أن يذكر الجواب الشافي بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح فعدم الإتيان بالمعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه صلّى الله عليه وسلّم معجزة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر الله تعالى في وصف القرآن ثلاثة بقوله تعالى: هذا أي القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب فيه تبصر الحق وتدرك الصواب وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) بالقرآن في حق أصحاب عين اليقين وهم من بلغوا الغاية في معارف التوحيد بصائر وفي حق أصحاب علم اليقين وهم الذين وصلوا إلى درجات المستدلين هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وهذا خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في مسلك الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته فإنهم قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، فأمروا بالاستماع حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن ولذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) أي لعلكم تطلعون على ما في القرآن من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين وَاذْكُرْ

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 154) .

رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي اذكر ربك عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو، والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا إما في تقصير الأعمال أو في الخاتمة، أو في أنه كيف يقابل نعمة الله التي لا حصر لها بالطاعة الناقصة والأذكار القاصرة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي متوسطا بين الجهر والمخافتة بأن يذكر الشخص ربه على وجه يسمع نفسه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) . والمعنى أن قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله بقدر الطاقة البشرية، وتحقيق القول أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منه نتائج إلى الروح. ألا ترى أن الإنسان إذا تخيّل الشيء الحامض ضرس سنة، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن. واعلم أن قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإن كان ظاهره خطابا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي إن الملائكة مع غاية طهارتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسب ما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه تعالى عن كل سوء وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) أي لا يسجدون لغير الله تعالى. فالتسبيح يرجع إلى المعارف والعلوم والسجود يرجع إلى أعمال الجوارح، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في العبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح والله أعلم.

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية، غير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، خمس وسبعون آية، ألف ومائتان وثلاث وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثمانون حرفا يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ أي يسألك يا أشرف الخلق أصحابك منهم: سعد بن أبي وقاص أو قرابتك عن الغنائم يوم بدر وسميت الغنائم أنفالا، لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم، ولأنها عطية من الله تعالى زائدة على الثواب الأخروي للجهاد. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل يا أشرف الخلق حكم الأنفال يوم بدر مختص به تعالى يقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم كيف أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد فَاتَّقُوا اللَّهَ في أخذ الغنائم واتركوا المنازعة فيها وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا الحال فيما بينكم بترك النزاع وتسليم أمر الغنائم إلى الله ورسوله وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر الصلح وارضوا بما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) فالإيمان لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إنما الكاملون في الإيمان الذين فزعت قلوبهم لمجرد ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما له تعالى. وقال أصحاب الحقائق: الخوف على قسمين: خوف العقاب، وخوف العظمة والجلال. أما خوف العقاب: فهو للعصاة. وأما خوف الجلال والعظمة: فهو لا يزول عن قلب أحد من المحققين سواء كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي الله التي هي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا بقول الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) أي ويعتمدون بالكلية على فضل الله وينقطعون بالكلية عما سوى الله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتمون الصلوات الخمس بحقوقها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أي ويؤدون زكاة أموالهم أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الخمس هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي

إيمانا حقا، لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فمراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة وَمَغْفِرَةٌ بأن يتجاوز الله عن سيئاتهم. وقال العارفون: هي إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) - قال هشام بن عروة هو ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) أي إنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من المدينة بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج للقتال لقلة العدد، أو المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالمدينة بالحق أي بالوحي، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام. فأخبر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران وهو قريب من الصفراء نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع- فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو. فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» - أي بجميع أهل مكة- «ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عند ذلك أبو بكر وعمر فأحسنا في القول، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله امض كما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» . فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبسطه قول سعد ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» «1» . يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ تلقي النفير

_ (1) رواه الطبري في التفسير (9: 124) ، وابن كثير في التفسير (3: 557) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3: 34) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 262) .

بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي بعد إعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا وجدالهم هو قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له وكان ذلك لكراهتهم القتال كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف إلى القتل والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ أي واذكروا وقت أن يعدكم الله بأن إحدى الطائفتين العير أو العسكر مختصة بكم تسلطون عليها تسلط الملاك وتنصرفون فيهم كيف شئتم وَتَوَدُّونَ أي وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي القوة تَكُونُ لَكُمْ وهو العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، ورئيسهم أبو سفيان وذات الشوكة: وهي العسكر وهم ألف مقاتل ورئيسهم أبو جهل وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبت النصر على الأعداء بِكَلِماتِهِ أي بأسباب النصر من أوامره تعالى للملائكة بالإمداد وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور وهو العير للفوز بالمال والله تعالى يريد معاليها بأن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي ليظهر الشريعة ويقوى الدين وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي وليظهر بطلان الباطل بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) أي المشركون ذلك الإظهار إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث كأن يقولوا: ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا أي فرّج عنا. قال ابن عباس: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف استقبل القبلة ومديده وهو يقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» «1» ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر، ثم التزمه ثم قال: كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فنزلت هذه الآية إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من «إذ يعدكم» معمول لعامله، ويجوز أن يكون العامل في «إذ» هو قوله تعالى: «ويبطل الباطل» فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) . وقرأ عيسى بن عمر، ويروى أيضا عن عمرو «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على إجراء «استجاب» مجرى قال. والعامة على فتح الهمزة بتقدير حرف الجر. وقرأ نافع أبو بكر بن عاصم، ويروى عن قنبل أيضا «مردفين» بفتح الدال، أي إن الله أردف المسلمين بهم وأيدهم بهم بمعنى إن الملائكة كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم. والباقون بكسرها أي متتابعين يأتي بعضهم إثر بعض.

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 32) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 إلى 20]

وروي أنه نزل جبريل بخمسمائة، وقاتل بها في يمين العسكر وفيه أبو بكر، ونزل ميكائيل بخمسمائة قاتل بها في يسار الجيش وفيه على وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالأمداد قُلُوبُكُمْ كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من عند غيره أي إن الله ينصركم أيها المؤمنون فثقوا بنصره، ولا تتكلوا على قوتكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي قاهر لا يقهر، حَكِيمٌ (10) فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يجعل الله النعاس مغطيا لكم آمنا من خوف العدو من الله تعالى وإذ بدل ثان من إذ يعدكم. قال الزجاج: محلها نصب على الظرفية، والمعنى وما جعله الله إلا بشرى في ذلك الوقت. قرأ العامة «يغشيكم» بضم الياء والفتح الغين وتشديد الشين، وقرأ نافع بضم الياء وسكون الغين والفاعل في الوجهين هو الله تعالى، وقرأ أبو عمر وابن كثير «يغشاكم» بفتح الياء والشين وسكون الغين و «النعاس» فاعل، أي إذ يلقى عليكم النوم الخفيف أمانا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وحصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على زوال الخوف وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث، وفي الخبر: «أن المشركين سبقوا إلى موضع الماء وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا من أن يأتيهم العدو في تلك الحالة، وأكثرهم احتملوا وموضعهم كان رملا تغوص فيه الأرجل، ويرتفع فيه الغبار الكثير. وكان الخوف في قلوبهم شديدا بسبب كثرة العدو وكثرة آلتهم، فلما أنزل الله ذلك المطر صار ذلك دليلا على حصول النصرة وعظمت النعمة به» وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته. روي أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال: أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء، فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي، واتخذ المسلمون حيضانا واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي ليحفظ قلوبكم بالصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ أي الماء الْأَقْدامَ (11) على الرمل فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فإنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي فانصروهم وبشروهم بالنصرة. وقد روي أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفين فيقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي المخافة من محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) أي فاضربوا رؤوسهم واضربوا أطراف

الأصابع، أي اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها كيف شئتم لأن الله تعالى ذكر الأشرف والأخس فهو إشارة إلى كل الأعضاء. لِكَ أي لقاؤهم الخزي من الوجوه الكثيرةأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي خالفوهما في الأوامر والنواهي مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) أي ومن يخالفهما فإن الله يعاقبه في القيامة وهو شديد العقاب فالذي نزل بهم في ذلك اليوم قليل بالنسبة لما أعده الله لهم من العقاب في القيامة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم فالخطاب للكفرة فَذُوقُوهُ في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) والمعنى حكم الله ذلكم من أن ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار لكم آجلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي مثل الزاحفين على أدبارهم في بطء السير لاجتماعهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم قل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ بأن يخيل عدوه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي متنحيا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم، ثم يقاتل معهم العدو فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) والفرار من الزحف من أكبر الكبائر إذا لم يزد العدد على الضعف فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، أي فلم تؤثر قوتكم في قتلهم ولكن التأثير لله وَما رَمَيْتَ يا أكرم الرسل إِذْ رَمَيْتَ أي وما رميت في الحقيقة وقت رميت التراب إلى وجوه المشركين وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي أوصل رميك إليهم. روي أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني» . فنزل إليه جبريل وقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهدت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه» فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «ولكن الله قتلهم» ، «ولكن الله رمى» بكسر النون مخففة ورفع اسم الجلالة وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ولينعم الله عليهم من رمي التراب نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والثواب، وهذا معطوف على قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم عَلِيمٌ (17) بأحوال قلوبهم الداعية إلى الإجابة ذلِكُمْ أي الأمر ذلكم أي البلاء الحسن وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) معطوف على ذلكم. وقرأ حفص عن عاصم موهن كيد بالإضافة وسكون الواو. وقرأ ابن عامر والكوفيون بعدم الإضافة، ونافع وابن كثير وأبو عمرو كذلك لكن مع فتح الواو وتشديد الهاء أي والأمر أن الله مضعف صنيع الكافرين

[سورة الأنفال (8) : الآيات 21 إلى 30]

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ. قال الحسن ومجاهد والسدي: وهذا خطاب للكفار على سبيل التهكم بهم. وقال السدي: إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين. والمعنى إن تستنصروا أيها الكفار لأعلى الجندين فقد جاءكم النصر لأعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة، فالتهكم في نفس الفتح، وإن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم في الدين بالخلاص من العقاب. والفوز بالثواب، وفي الدنيا بالخلاص من القتل والأسر والنهب، وإن تعودوا إلى القتال نعد إلى تسليط المسلمين على قتلكم ولن تدفع عنكم جماعتكم شيئا من الضرر ولو كثرت. وقيل: هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا أيها المؤمنون فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وعن طلب الفداء على الأسرى فهو خير لكم، وإن تعودوا إلى تلك المنازعة نعد إلى ترك نصرتكم ثم لا تنفعكم كثرتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) . قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «وأن» بفتح الهمزة وهو خبر مبتدأ محذوف، أي والأمر أن الله مع الكاملين في الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الإجابة إلى الجهاد وإلى ترك المال إذا أمره بتركه وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي ولا تعرضوا عن الرسول أي عن قبول قوله وعن معونته في الجهاد وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) دعاءه إلى الجهاد وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا بألسنتهم سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) أي إنا قبلنا تكاليف الله تعالى، والحال أنهم بقلوبهم لا يقبلونها إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) أي إن شر كل حيوان في حكم الله تعالى من لا يسمع الحق ولا ينطق به ولا يفقه أمر الله تعالى. قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقتلوا جميعا يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي ولو حصل في بني عبد الدار خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ بعد أن علم أنه لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا عنها ولم ينتفعوا بها وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أي والحال أنهم مكذبون بها. قيل: إن الكفار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحيى لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم فبين الله تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم الله تعالى حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك إلا على سبيل العناد والتعنت وإنه لو أسمعهم الله كلام

قصي وغيره لتولوا عن قبول الحق على أدبارهم ولأعرضوا عما سمعوه بقلوبهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ أي أجيبوا الله والرسول بحسن الطاعة إذا دعاكم الرسول إلى ما فيه سبب حياتكم الأبدية من الإيمان أو القرآن أو الجهاد. وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ على باب أبي بن كعب وهو في الصلاة، فدعاه، فعجل في صلاته، ثم جاء فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت في الصلاة، قال: «ألم تخبر فيما أوحي إلي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» «1» فقال: لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك وَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي يحول بين المرء وبين ما يريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال تعالى: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به. وقال مجاهد: المراد من القلب هنا العقل، أي فإن الله يحول بين المرء وعقله، والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تأمنون زوال العقل والله يحول بين المرء والكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» «2» ولا يستطيع المرء أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه تعالى وَأَنَّهُ أي واعلموا أن الشأن إِلَيْهِ أي الله تعالى تُحْشَرُونَ (24) في الآخرة فيجزيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعة الله ورسوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصروا على الظالمين خاصّة بل تتعدى إليكم جميعا وتصل إلى الصالح والطالح، وحذر تلك الفتنة بالنهي عن المنكر فالواجب على كل من رآه أن يزيله إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت عليه فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه وقد جعل الله تعالى الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة. وعلامة الرضا بالمنكر: عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم له تألمه لفقد ماله أو ولده فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى وَاذْكُرُوا يا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد في أول الإسلام مُسْتَضْعَفُونَ فِي

_ (1) رواه ابن حجر في فتح الباري (8: 307) . (2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 89، وابن ماجة في كتاب الدعاء، باب: دعاء الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأحمد في (م 4/ ص 182) .

الْأَرْضِ أي مقهورون في أرض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ تخافون إذا خرجتم من البلد أن تأخذكم مشركو العرب بسرعة لشدة عداوتهم لكم ولقربهم منكم فَآواكُمْ أي نقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أي قواكم بنصرته يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من الغنائم وهي كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) هذه النعم العظيمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في الدين وفي الإشارة إلى بني قريظة أن لا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) أن ما وقع منكم خيانة. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود بني قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار فسألوه صلّى الله عليه وسلّم الصلح كما صالح بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم في أذرعات وأريحا من الشام، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر نستشيره في أمرنا وكان مناصحا لهم لأن ماله وعياله عندهم، فأرسله إليهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه أي حكم سعد هو القتل فلا تفعلوا فكان منه خيانة لله ورسوله وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي محنة من الله تعالى ليبلوكم فيهم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة كأبي لبابة لأنه يشغل القلب بالدنيا ويصيّره حجابا عن خدمة المولى وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) فإن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وفي المدة لأنها تبقى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي نجاة مما تخافون في الدارين وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يزلها في الآخرة وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) على عباده بالمغفرة والجنة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي واذكر يا أشرف الخلق وقت احتيالهم بك في إيصال الضرر والهلاك لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنوك أو ليثبتوك بالوثائق كما قرئ ليقيدوك أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة وَيَمْكُرُونَ أي يريدون هلاكك يا أكرم الرسل وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم عليهم، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا ما لقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) أي أقواهم فكل مكر يبطل في مقابلة فعل الله تعالى. قال المفسرون: إن مشركي قريش عرفوا لما أسلمت الأنصار أن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يظهر، فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة. أي في الدار التي يقع فيها الاجتماع للتحدث ورؤوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان وطعيمة بن عدي، وجبير بن معطم والحرث بن عامر، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيهة ومنبه ابنا الحجاج ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل

[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 إلى 40]

نجد، وتشاوروا في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمرو بن هشام: قيدوه وسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء. فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فنسفك فيه الدماء. فقال أبو البحتري بن هشام: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم، فقال إبليس: لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم، وقال أبو جهل: الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلا فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية. فقال إبليس: هذا هو الرأي الصواب. فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له في الهجرة إلى المدينة، وأمر عليا أن يبيت في مضجعه وقال له: تسج ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وهم المشركون بالولوج عليه صلّى الله عليه وسلّم فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدثوا عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا سر حرمتنا، وباتوا مترصدين على الباب، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب وأخذ تعالى أبصارهم عنه فأخذ قبضة من تراب ونثره على رؤوسهم كلهم ومضى هو وأبو بكر إلى الغار، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه صلّى الله عليه وسلّم فأبصروا عليا فقالوا له: وأين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخله لم تنسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثا من الليالي ثم قدم المدينة وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن قالُوا قَدْ سَمِعْنا ما قال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) أي ما هذا القرآن إلا ما كتب الأولون من القصص. روي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة بلدة بقرى الكوفة تاجرا، واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين، كالفرس والروم وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين وإسناد القول إلى الكل مع أن القائل هو النضر لما أنه كان رئيسهم وقاضيهم وهو الذي يقولون بقوله ويأخذون برأيه. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا أي الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلّم هُوَ الْحَقَّ بالنصب خبر كان ودخلت هو للفصل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ عقوبة على إنكارنا أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) غير الحجارة قاله النضر استهزاء وقد أسره المقداد يوم بدر فقتله النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو قاله أبو جهل وقد ذبحه ابن مسعود يوم بدر وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أي لا يفعل الله بهؤلاء الكفار عذاب الاستئصال ما دام سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم حاضرا معهم تعظيما له، وأيضا إن عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) أي وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون لأنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة بقي فيها من لم يستطع الهجرة من مكة من المسلمين وَما

لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي ولا مانع من إهلاك الله لهم بعد ما خرجت من بينهم وحالهم يمنعونك والمسلمين عن الطواف ببيت الله يوم الحديبية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي والحال أنهم ما كانوا أولياء المسجد وهذا رد لقولهم: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي ما أولياء المسجد إلا الذين يتحرزون عن المنكرات كما كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية، ومن كانت هذه حاله لم يكن وليا للمسجد الحرام بل هم أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) أنه لا ولاية لهم عليه وَما كانَ صَلاتُهُمْ أي عبادتهم عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي صفيرا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا أي ما كان شيء مما يعدونه عبادة إلا هذين الفعلين. قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون بإحدى اليدين بالأخرى فَذُوقُوا الْعَذابَ أي عذاب السيف يوم بدر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن دينه. قال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش أبي جهل وأصحابه يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: نزلت في أبي سفيان وكان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالا، وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه أنها نزلت في أبي سفيان ومن كان له في العير من قريش تجارة فَسَيُنْفِقُونَها أي أموالهم ثُمَّ تَكُونُ أي الأموال عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي ندامة لفواتها وفوات قصدهم من نصرتهم على محمد ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أصروا على الكفر أبو جهل وأصحابه إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) أي يساقون يوم القيامة لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين و «اللام» متعلقة ب «يحشرون» أو ب «يغلبون» ، أو المعنى ليميز الله نفقة الكافر على عداوة محمد من نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ حمزة والكسائي: ليميز بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أي ويجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فَيَرْكُمَهُ أي فيجمعه جَمِيعاً لفرط ازدحامهم فَيَجْعَلَهُ أي يطرحه فِي جَهَنَّمَ. وقيل: المعنى يضم الله تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها أُولئِكَ أي

[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 50]

الذين كفروا هُمُ الْخاسِرُونَ (37) أي الكاملون في الغبن قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه أي قل يا أشرف الخلق لأجلهم: إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الذنوب قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام يجب ما قبله» «1» وَإِنْ يَعُودُوا إلى الكفر ومعاداة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أي وإن يرتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ويرجعوا للكفر وقتال النبي ننتقم منهم بالعذاب فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) أي لأنه قد سبقت سيرة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتدمير كما جرى على أهل بدر وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي قاتلوا كفار أهل مكة لئلا توجد فتنة فقد خرج المسلمون إلى الحبشة وتآمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم حين بايعت الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة العقبة، وليكون الدين كله لله في أرض مكة وما حولها لا يعبد غيره فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) أي عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم وَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوبة والإيمان فَاعْلَمُوا يا معشر المؤمنين أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي حافظكم ورافع البلاء عنكم نِعْمَ الْمَوْلى أي الولي بالحفظ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) لا يغلب من نصره وكل من كان في حماية الله تعالى كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوّفات، والمعنى وإن تولوا عن الإيمان فلا تخشوا بأسهم لأن الله مولاكم وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أي واعلموا يا معشر المؤمنين أن الذي أصبتموه كائنا من شيء قليلا كان أو كثيرا، فواجب أن لله خمسه بمعنى أنه تعالى أمر بقسمته على هؤلاء الخمسة فذكر الله للتعظيم. وقوله: إن لله خمسه خبر مبتدأ محذوف أي فكون خمسه لله واجب وهذه الجملة خبر ل «أن» وَلِلرَّسُولِ أما بعد وفاته فيصرف سهمه إلى مصالح المسلمين عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: سهمه ساقط بسبب موته. وقال مالك: مفوض إلى رأي الإمام وَلِذِي الْقُرْبى أي ولقرابة النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني هاشم وبني المطلب دون من عداهم من أغنيائهم وفقرائهم يقسم الخمس بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وَالْيَتامى أي الذين مات آباؤهم وهم فقراء غير يتامى بني عبد المطلب وَالْمَساكِينِ أي ذوي الحاجة من المسلمين وَابْنِ السَّبِيلِ أي المحتاج في سفره ولا معصية بسفره إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والملائكة والفتح يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم بدر سمي به لفرقه بين الحق والباطل، وهو منصوب ب «أنزلنا» أو ب «آمنتم» يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي الفريقان من المسلمين والكافرين وهو بدل من يوم الفرقان أو منصوب بالفرقان. والمعنى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزّل على محمد يوم بدر فاعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا أطماعكم عنه واقنعوا بالأخماس الأربعة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) يقدر

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 154) .

على نصر القليل على الكثير إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وهو بدل ثان من يوم الفرقان أي إذ أنتم كائنون في شط الوادي القربى من المدينة وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي والمشركون في شفير الوادي البعدي منها وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير التي خرجوا لها التي يقودها أبو سفيان وأصحابه كائنون بمكان أسفل منكم على ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة على القتال لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لخالف بعضكم بعضا في الميعاد هيبة منهم لكثرتهم وقلتكم وَلكِنْ جمع الله بينكم على هذه الحال بغير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليمضي أمرا كان مفعولا في علمه وهو النصرة والغنيمة للنبي وأصحابه والهزيمة والقتل لأبي جهل وأصحابه ويكون استيلاء المؤمنين على المشركين معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهو بدل من ليقضي أي ليموت من مات عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لدعائكم عَلِيمٌ (42) بحاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قبل يوم بدر قَلِيلًا مع كثرتهم فأخبر بذلك أصحابه فقالوا: رؤيا النبي حق، فصار بذلك تشجيعا للمؤمنين وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي ولو أراك الله المشركين كثيرا لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لجبنوا وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي لاختلفتم في أمر القتال ولتفرقت آراؤكم في الفرار والثبات وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) أي بالخطرات التي تقع في القلوب من الصبر والجزع والجراءة والجبن ولذلك دبر ما دبر وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا أي وإذ يبصركم أيها المؤمنون إياهم قليلا حتى قال ابن مسعود لمن في جنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة، وهم في نفس الأمر ألف تصديقا لرؤيا الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولتزداد جراءة المؤمنين عليهم وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور، أي قليل يشبعهم جزور واحد، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال، وقلل الله عدد المؤمنين في أعين المشركين قبل التحام الحرب لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سببا لانكسارهم، فلما التحم القتال أرى الكفار المسلمين مثلي الكفار، وكانوا ألفا فرأوا المسلمين قدر ألفين ليهابوا، وتضعف قلوبهم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ليصير سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) بالبناء للمفعول أي ترد وللفاعل أي تصير ويصرف الله الأمور كلها كيفما يريد ولا تجري على ما يظنه العبيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة من الكفرة فجدوا في المحاربة ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً بالقلب واللسان في أثناء القتال ومن الذكر ما يقع حال القتال من التكبير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) أي تفوزون بمرامكم من النصرة والمثوبة وَأَطِيعُوا اللَّهَ

وَرَسُولَهُ في أمر القتال وغيره وَلا تَنازَعُوا أي لا تختلفوا في أمر الحرب فَتَفْشَلُوا أي فتجبنوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي شدتكم وَاصْبِرُوا على شدائد الحرب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) بالنصرة والكلاءة وَلا تَكُونُوا في الاستكبار والفخر كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة لحماية العير بَطَراً أي شديد المرح وَرِئاءَ النَّاسِ أي ولثناء الناس عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أن قريشا خرجوا من مكة لحفظ الغير، فلما بلغوا جحفة أتاهم رسول أبي سفيان وقال: ارجعوا إلى مكة فقد سلمت عيركم. فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة، وأيضا لما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني إلى أبي جهل وهو صديق له بهدايا مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي يقول لك: إن شئت أن أمدك بالرجال أمددنك، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت. فقال أبو جهل: قل لأبيك جزاك الله خيرا إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فو الله ما لنا بالله من طاقة، وإن كنا نقاتل الناس فو الله إن بنا على الناس لقوة، والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان، وتنحر الجزور في بدر فيقنى الناس علينا بالشجاعة والسماحة وقد بدلهم الله شرب الخمور بشرب كأس الموت، وبدّل ضرب الجواري على نحو الدفوف بنوح النائحات، وبدّل نحر الجزور بنحر رقابهم حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون. واعلم أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها إلى مرضاته تعالى وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر، وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمغالبة بالكثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون الناس من الدخول في دين الله، وهذا معطوف على «بطرا» ، وإنما ذكر البطر والرياء بصيغة الاسم، والصد بصيغة الفعل لأن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على المفاخرة والرياء، وأما صدّهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى سيدنا محمد النبوة وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) أي واللَّه أعلم بما في دواخل القلوب وهذا كالتهديد عن التصنع فإن الإنسان بما أظهر من نفسه أن الحامل له إلى ذلك الفعل طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر في الحقيقة كذلك وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وخروجهم من مكة فإن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحدا فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب عليكم اليوم من بني كنانة ومن محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي حافظكم من مضرتهم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين بحيث رأت كل واحدة الأخرى، ورأى إبليس نزول الملائكة من السماء نَكَصَ عَلى

[سورة الأنفال (8) : الآيات 51 إلى 60]

عَقِبَيْهِ أي رجع إلى خلفه هاربا وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ فكان إبليس في صف المشركين وهو آخذ بيد الحارث بن هشام فقال له الحارث: إلى أين تترك نصرتنا في هذه الحالة؟ قال إبليس: إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وأرى جبريل بين يدي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفي يده اللجام يقود الفرس ولم تروه، ودفع إبليس في صدر الحارث وإِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني بتسليط الملائكة عليّ. وقيل: لما رأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، فقال ما قال إشفاقا على نفسه وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) قاله الشيطان بسطا لعذره، وحينئذ فهو تعليل أو مستأنف من محض كلامه تعالى تهديدا لإبليس إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم قوم من الأوس والخزرج وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك وهم قوم من قريش أسلموا ولم يقو إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا منهم: عتبة بن ربيعة، وقيس بن الوليد، وأبو قيس الفاكه، والحارث بن زمعة، وعدي بن أمية، والعاص بن منبه، والعامل في «إذ زيّن» أو اذكر مقدرا غَرَّ هؤُلاءِ أي محمدا وأصحابه دِينُهُمْ فإنهم خرجوا وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم. وقال هؤلاء: لما خرج قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، فلما خرجوا مع قريش ورأوا قلة المسلمين وكثرة الكفّار رجعوا للكفر وقالوا ذلك القول، وقتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر ولم يحضر منافق في بدر مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا واحد وهو عبد الله بن أبي وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) أي ومن يعول على إحسان الله ويثق بفضله ويسلم أمره إلى الله فإن الله حافظه وناصره، لأنه عزيز لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي ولو رأيت يا أشرف الخلق الكفرة حين يتوفاهم الملائكة في بدر يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ويقولون لهم: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) أي النار لأنه كان مع الملائكة مقامع، وكلما ضربوا بها التهبت النار منها في الأجزاء. وجواب «لو» محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف. ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب ما عملت أيديكم من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي عادة كفار قريش فيما فعلوه من الكفر، وما فعل بهم من العذاب كعادة آل فرعون وقوم ونوح وعاد وأضرابهم من الكفر والعناد في ذلك كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي أنكروا الدلائل الإلهية، وهذه الجملة تفسير لدأب كفار قريش فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي بسبب ذنوبهم إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ بالأخذ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) أي إذا عاقب ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي تعذيب الكفرة بما قدمت أيديهم بسبب أن الله لم يكن مغيرا نعمة أنعم بها عليهم- كالعقل وإزالة الموانع- حتى يغيروا أحوالهم، فإذا صرفوا تلك النعمة إلى الفسق

والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فاستحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) أي وبسبب أنه تعال يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كتغيير الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي كذب آل فرعون ومن قبلهم بأنه تعالى رباهم وأنعم عليهم فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم كما كذب أهل مكة ذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالحجارة، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالمسخ كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) أي وكل من الفرق المكذبة كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والمعصية، ولأنبيائهم بالتكذيب، ولسائر الناس بالإيذاء والإيحاش، فالله تعالى إنما أهلكهم بسبب ظلمهم. اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم، فلا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) أي إن شر الخلق في حكم الله وعلمه الذين أصروا على الكفر فهم لا يرجى منهم إيمان الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي من مرات المعاهدة. قال ابن عباس: هم قريظة، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عاهد يهود بني قريظة أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه فنقضوا العهد وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم مرة ثانية فنقضوا العهد أيضا، وساعدوا معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) عن نقض العهد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) أي إن تظفرن بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد في أثناء الحرب فافعل بهم فعلا من القتل والتعذيب يفرق بسببهم من خلفهم من أهل مكة واليمن أي إذا فعلت بقريظة العقوبة فرقت شمل قريش إذ يخافون منك أن تفعل بهم مثل ما فعلت بحلفائهم- وهم قريظة- فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفرقهم في ذلك الوقت تفريقا عنيفا موجبا للاضطراب وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي وإن تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد بأمارات ظاهرة فاطرح إليهم عهدهم على طريق ظاهر مستو، بأن تعلمهم قبل حربك إياهم أنك قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، ولا تبادرهم الحرب وهم على توهّم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) في العهود. والحاصل إن ظهرت الخيانة بأمارات ظاهرة من غير أمر مستفيض وجب على الإمام أن ينبذ إليهم العهد ويعلمهم الحرب، وذلك كما في قريظة فإنهم عاهدوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم: وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد

[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 70]

وإعلامهم بالحرب بل يفعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصل إليهم جيش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمر الظهران وذلك على أربع فراسخ من مكة وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا. قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالياء التحتية، أي ولا يحسبنّ الذين كفروا من قريش أنفسهم فاتوا من عذابنا بهر بهم يوم بدر. وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على مخاطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم أي ولا تحسبن يا أشرف الخلق الذين كفروا الذين خلصوا منك في بدر فائتين من عذابنا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) أي إنهم بهذا الفرار لا يعجزون الله من الانتقام منهم إما بالقتل في الدنيا، وإما بعذاب النار في الآخرة. وقرأ ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة على التعليل وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ . قيل: إنه لما اتفق لأصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قصة بدر أنهم قصدوا الكفار بلا آلة أمرهم الله تعالى أن لا يعودوا لمثله فقال: وَأَعِدُّوا إلخ أي هيئوا لحرب الكفار ما استطعتم من كل ما يتقوى به في الحرب من كل ما هو آلة للجهاد ومن الخيل المربوط سواء كان من الفحول أو من الإناث. وروي أنه كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات تُرْهِبُونَ بِهِ أي بذلك الإعداد. وقرئ تخزون عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم كفار مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غير كفار مكة من الكفرة لا تَعْلَمُونَهُمُ على ما هم عليه من العداوة. أي فإن تكثير آلات الجهاد كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، سواء كانوا مسلمين أو كفارا اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ لا غيره. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ قل أو جل فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي لا يضيع الله في الآخرة أجره ويعجل عوضه في الدنيا وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) أي لا تنقصون من الأجر وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها أي وإن مال الكفار للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد فاقبله. وقرأ أبو بكر عن عاصم «للسلم» بكسر السين. وقرئ «فاجنح» بضم النون. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلام، ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد إِنَّهُ تعالى: هُوَ السَّمِيعُ لما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع، الْعَلِيمُ (61) بنياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي وإن يريدوا الكفار بإظهار الصلح خديعتك لتكف عنهم فاعلم أن الله كافيك من شرورهم وناصرك عليهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي قواك ببصره في سائر أيامك وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) من المهاجرين والأنصار وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أي إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى

قوم تكبرهم شديد حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثاره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصارا. وأيضا كانت الخصومة بين الأوس والخزرج شديدة، والمحاربة دائمة، ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة- فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى- وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّهُ تعالى عَزِيزٌ أي قاهر يقلب القلوب من العداوة إلى الصداقة حَكِيمٌ (63) أي يفعل ما يفعله مطابقا للمصلحة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) أي كفاك الله وكفى أتباعك ناصرا. أو المعنى كفاك الله والمؤمنون. وهذه الآية نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، فالمراد بالمؤمنين هنا أهل غزوة بدر وهم المهاجرون والأنصار. وقيل: نزلت في إسلام عمر بن الخطاب. قال سعيد بن جبير: أسلم مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت هذه الآية، فعلى هذا القول تكون الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أي بالغ في حثّهم عليه إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وإنما وجب هذا الحكم عند حصول هذه الشروط: منها: أن يكون المؤمن شديد الأعضاء قويا جلدا. ومنها: أن يكون قوي القلب شديد البأس، شجاعا غير جبان. ومنها: أن يكون غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة، فعند حصول هذه الشروط وجب على الواحد أن يثبت للعشرة بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) متعلق بيغلبوا في الموضعين أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون امتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لمرضاته، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، وإثارة العدوان. وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمون يستعينون بربهم بالتضرع ومن كان كذلك كان النصر أليق به الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً في البدن أو في معرفة القتال لا في الدين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته. وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة، فقد أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) أي إن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم، وإن لم يقدروا على مصابرتهم، فالحكم المذكور هناك زائل، وهذا يدل على صحة مذهب أبي مسلم ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي ما ينبغي لنبي أن يكون له أسرى من الكفار حتى يقوى ويغلب بل اللائق قتلهم تُرِيدُونَ أيها المؤمنون عَرَضَ الدُّنْيا أي متاع الدنيا الذي هو الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي إنما يرضى الله ما يفضي إلى

السعادات الأخروية المصونة عن الزوال وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ (67) يعلم ما يليق بكل حال كما أمر بالأثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) أي لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب شديد فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حال كونه حلالا مستلذا. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم في بدر ولم يمدوا أيديهم إليها، فنزلت هذه الآية. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره ونهيه في المستقبل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) في الحالة الماضية من استباحة الفداء قبل ورود الإذن من الله تعالى فيه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى. قرأ أبو عمرو «من الأسارى» بضم الهمزة وفتح السين بعدها ألف، وبالإمالة، أي من الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا وعزما على طاعة الله ورسوله في جميع التكاليف وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم قبل الإيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه رَحِيمٌ (70) بأهل طاعته. روي أن العباس كان أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس فكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لمن خرجوا من مكة إلى بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر، وأخذ ذلك العشرون منه فقال العباس: كنت مسلما إلا أنهم أكرموني فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا» . قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليّ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» . قال العباس: وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث فقال العباس: يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله، ولعبيد الله، والفضل، وقثم» . وما يدريك يا ابن أخي؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «أخبرني به ربي» «1» . قال العباس: أنا أشهد أنك صادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في

_ (1) رواه الطبري في التفسير (9: 124) ، وابن كثير في التفسير (3: 557) ، والبيهقي في دلائل النبوة (3: 34) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 262) .

[سورة الأنفال (8) : الآيات 71 إلى 75]

أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب وأمر ابني أخيه عقيلا ونوفل بن الحارث فأسلما، قال العباس: فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني، ولي الآن عشرون عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي. وروي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي بنقض العهد، فاعلم أنه سيمكّنك منهم فإنه صلّى الله عليه وسلّم كلما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته صلّى الله عليه وسلّم، وإلى معاهدة المشركين بالعون عليه صلّى الله عليه وسلّم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ أي من قَبْلُ هذا بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي أقدر المؤمنين عليهم قتلا وأسرا في بدر وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي ببواطنهم حَكِيمٌ (71) يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة حبا لله تعالى ولرسوله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بأن صرفوها إلى السلاح وأنفقوها على المحاويج وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال، وبالخوض في المهالك فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله وَالَّذِينَ آوَوْا أي أنزلوا المهاجرين منازلهم وَنَصَرُوا لهم على أعدائهم يوم بدر أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يكونون يدا واحدة على الأعداء ويكون حب كل واحد للآخر جاريا مجرى حبه لنفسه وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن وَلَمْ يُهاجِرُوا من مكة إلى المدينة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ أي من تعظيمهم مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا فلو هاجروا لحصل الإكرام والإجلال. وقرأ حمزة «من ولايتهم» بكسر الواو. والباقون بالفتح وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي إن قطع التعظيم بين تلك الطائفة ليس كما في حق الكفار بل هؤلاء لو استعانوكم في الدين على المشركين فواجب عليكم أن تعاونوهم عليهم إلا على قوم منهم بينكم معاهدة فإنه لا يجوز لكم نقض عهدهم بنصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) فلا تخالفوا أمره كي لا يحل بكم عقابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في النصرة فإن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم تعاونوا على إيذائه ومحاربته والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم صارت هذه الجهة سببا لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض. وتلك العداوة لمحض الحسد لا لأجل الدين، لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) أي إن لم تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل

بين المسلمين ومن قطع المحبة بينهم وبين الكفار تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة فإن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار، وأن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سببا لجراءة الكفار عليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فالله تعالى ذكرهم أولا لتبيين حكمهم وهو إكرام بعضهم بعضا، ثم ذكرهم ها هنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم، وأثنى عليهم من ثلاثة أوجه وهي: وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين لأن من لم يكن محقا في دينه لم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين لَهُمْ مَغْفِرَةٌ تامة عن جميع الذنوب والتبعات وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ أي بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان وَهاجَرُوا من مكة إلى المدينة بعد المهاجرين الأولين وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في بعض مغازيكم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار في السر والعلانية وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوارث من الأجانب فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله الذي بينه في كتابه بالسهام المذكورة في سورة النساء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) فالعالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب.

سورة التوبة

سورة التوبة مدنية، وقد قيل: إلا الآيتين آخرها فإنهما مكيتان، مائة وتسع وعشرون آية، ألفان وخمسمائة وست كلمات، أحد عشر ألفا ومائة وخمسة عشر حرفا. والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة. قاله القشيري بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) أي هذه براءة من جهة الله تعالى ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين، فإن الله قد أذن في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاهدهم. ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك. وقيل: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أي سيروا أيها المشركون كيف شئتم آمنين من القتل والقتال في هذه المدة من يوم النحر. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يحج سنة تسع فقيل له: المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال: «لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج، وبعث معه أربعين آية من صدر براءة، ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله وذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كل شرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فسار أبو بكر أميرا على الحاج، وعلي ابن أبي طالب يؤذن ببراءة، فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس وحدّثهم عن مناسكهم، وأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على معاهدهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالذي أمر به، وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال علي: بعثت بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في الحج. فقال المشركون لعلي عند ذلك: أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء

ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. ثم حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة عشر حجة الوداع وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي واعلموا يا معشر الكفار أن هذا الإمهال ليس لعجز بل للطف ليتوب من تاب، أي اعلموا أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات وتحصيل الأسباب فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) أي مذلهم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي وهذا إعلام صادر من الله ورسوله، واصل إلى الناس يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو يوم العيد، لأن فيه تمام معظم أفعال الحج، ولأن الإعلام كان فيه، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الناقضين للعهد وَرَسُولِهِ بالرفع باتفاق السبعة فهو معطوف على الضمير المستتر في برىء فَإِنْ تُبْتُمْ من الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالتوب خير لكم في الدارين لا شر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن المتاب من الشرك فَاعْلَمُوا يا معشر المشركين أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين من عذاب الله فإن الله قادر على إنزال أشد العذاب بهم وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) أي أخبرهم بالقتل بعد أربعة أشهر، فالبشارة على سبيل الاستهزاء كما يقال: إكرامهم الشتم وتحيتهم الضرب إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط الميثاق ولم يضروكم قط. وقرئ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم شيئا من النقض وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى وقت أجلهم تسعة. أشهر والمعنى لا تمهلوا الناكثين للعهد فوق أربعة أشهر لكن الذين عاهدتموهم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين، وهم بنو ضمرة، حي من كنانة أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر فإنهم ما غدروا من هذين الوجهين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) عن نقض العهد فإن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الوافي والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي فإذا خرج الأشهر التي حرم الله القتل والقتال فيها وهي من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين خاصة حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره وَخُذُوهُمْ أي وأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي امنعوهم من إتيان المسجد الحرام، ومن التقلب في البلاد وَاقْعُدُوا لَهُمْ أي لأجلهم خاصة كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد فَإِنْ تابُوا من الشرك آمنوا بالله وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أقروا بالصلوات الخمس وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بأداء الزكاة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوهم ولا تتعرضوا بشيء مما ذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) لمن تاب من الكفر والغدر وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ أي وإن

سألك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم أن تؤمنه بعد انقضاء مدة السياحة فأمنه حتى يسمع قراءتك لكلام الله ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه. ونقل عن ابن عباس أنه قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل؟ فقال علي: لا، فإن الله تعالى قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي ثم أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم، ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم ذلِكَ أي إعطاء الأمان بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) أي بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه، فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى معهم معذرة أصلا كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ أي لا ينبغي أن يبقى للمشركين عهد عند الله وعند رسوله وهم ينقضون العهد. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي لكن الذين عاهدتم من المشركين عند قرب أرض الحرم يوم الحديبية وهم المستثنون من قبل هذا الاستثناء فقد استثنوا في قوله تعالى سابقا: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إلخ- وهم بنو كنانة وبنو ضمرة- فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فأيّ زمان استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. أو المعنى فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) عن نقض العهد وقد استقام صلّى الله عليه وسلّم على عهدهم حتى نقضوه بإعانتهم بني بكر وهم كنانة حلفاؤهم على خزاعة حلفائه صلّى الله عليه وسلّم. روي أنه عدت بنو بكر على بني خزاعة في حال غيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاونتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنشده: لا همّ إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك ألا تلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نصرت إن لم أنصركم» كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي وحالهم أنهم إن يقدروا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ أي لا يحفظوا فيكم إِلًّا أي قرابة وَلا ذِمَّةً أي عهدا. والمعنى كيف لا تقتلوهم وهم إن يغلبوكم لا يحفظوا في شأنكم قرابة ولا ضمانا بل يؤذوكم ما استطاعوا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ أي تنكر قلوبهم ما يفيد كلامهم، أي فإنهم يقولون بألسنتهم كلاما حلوا طيبا والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) أي ناقضون للعهد مذمومون عند جميع الناس وفي جميع

[سورة التوبة (9) : الآيات 11 إلى 20]

الأديان اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي تركوا آيات الله الآمرة بالاستقامة في كل أمر وأخذوا بدلها شيئا يسيرا من الدنيا لأجل تحصيل الشهوات، وذلك أن أبا سفيان بن حرب أطعم حلفاءه وترك حلفاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحملتهم تلك الأكلة على نقض العهد فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي عن دينه أو عن سبيل البيت الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) أي ساءهم الذي كانوا يعملونه ما مضى من صدهم عن سبيل الله وما معه لا يَرْقُبُونَ أي لا يحفظون فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا أي قرابة وَلا ذِمَّةً كرر ذلك مع إبدال الضمير ب «مؤمن» ، لأن الأول وقع جوابا لقوله تعالى: وَإِنْ يَظْهَرُوا، والثاني وقع خبرا عن تقبيح حالهم، أو هذا خاص بالذين اشتروا والذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم وأشباههم من اليهود وغيرهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) أي المجاوزون في الظلم والشرارة فَإِنْ تابُوا من مساوي أعمالهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ أي أقروا بحكمهما وعزموا على إقامتهما فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) أي نبين الآيات لقوم يعلمون ما فيها من الأحكام وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي عهودهم التي بينكم وبينهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي عابوا دينكم بالتكذيب وتقبيح الأحكام فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي قاتلوا الكفار بأسرهم فإنهم صاروا بذلك ذوي تقدم في الكفر، أحقاء بالقتل والقتال إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي إنهم لا عهود لهم على الحقيقة لأنهم لا يعدون نقضها محذورا وهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان وإن أجروها على ألسنتهم. وقرأ ابن عامر «لا إيمان لهم» بكسر الهمزة أي لا تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، فيكون «الإيمان» مصدرا بمعنى إعطاء الأمان، فهو ضد الإخافة لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم سببا في انتهائهم عمّا هم عليه من الكفر والطعن في دينكم والمعاونة عليكم أَلا أي هلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ بعد عهد الحديبية بإعانة بني بكر على خزاعة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ أي بإخراجه من مكة لكن لم يخرجوه بل خرج باختياره بإذن الله في الهجرة، أو من المدينة لقصد قتله وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه، أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتال معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالا. أَتَخْشَوْنَهُمْ أي أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ في ترك أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) . ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحدا سواه قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل تارة، والأسر،

أخرى واغتنام الأموال ثالثا وَيُخْزِهِمْ حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي يجعلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين فإنكم تنتفعون بهذا النصر وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) ممن لم يشهد القتال وهم خزاعة: بطون من اليمن، وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشكون إليه، فقال: «أبشروا فإن الفرج قريب» وكان شفاء صدورهم من زحمة الانتظار فإنه الموت الأحمر وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ من بني بكر فإن من طال تأذيه من خصمه، ثمّ مكّنه الله منه على أحسن الوجوه كان سروره أعظم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من بعض أهل مكة كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو فهم أسلموا يوم فتح مكة وحسن إسلامهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يفعل في ملكه حَكِيمٌ (15) أي مصيب في أفعاله وأحكامه أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي بل أحسبتم أن يترككم الله بدون تكليفكم بالقتال الذي سئمتموه. والحال أنه لم يصدر الجهاد عنكم خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين. والمقصود من هذه الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العتاب إلا عند حصول أمرين: الأول: أن يصدر الجهاد عنهم. الثاني: أن يأتي بالجهاد مع الإخلاص. فإن المجاهد قد يجاهد وباطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين المخلصين، أي وهو الذي يطلع الكافر على الأسرار الخفية. والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياد الأمر الله تعالى وحكمه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) من موالاة المشركين وغيرها فيجازيكم عليه فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي ما صحّ للمشركين أن يعمروا المسجد الحرام بدخوله والقعود فيه وخدمته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «مسجد الله» على الواحد. والباقون «مساجد» على الجمع وإنما جمع المسجد الحرام لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، ثم شهادتهم على أنفسهم بالكفر أنهم أقروا بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار أُولئِكَ الذين يدعون عمارة المسجد الحرام وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثورا وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) لكفرهم.

[سورة التوبة (9) : الآيات 21 إلى 30]

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ علي عليه القول فقال العباس: تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا! فقال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، نحن أفضل منكم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة- أي نخدمها- ونسقي الحجيج، ونفك العاني- أي الأسير- فنزلت هذه الآية إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ أي إنما يصح أن يعمر المساجد عمارة يعتد بها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ لأن المساجد موضع يعبدون الله فيه، فمن لم يكن مؤمنا بالله لا يبني موضعا يعبد الله فيه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن الاشتغال بعبادة الله لا تفيد إلا في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى وَأَقامَ الصَّلاةَ فإن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات وَآتَى الزَّكاةَ وإنما اعتبر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد، لأن الإنسان إذا كان مقيما للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد بذلك المسجد، وإذا كان مؤتيا للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد بذلك الحضور وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ في باب الدين بأن لا يختار علي رضا الله تعالى رضا غيره فَعَسى أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجميلة أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) إلى مطالبهم من الجنة وما فيها وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» «1» أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله يوم بدر أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله إلخ. ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله بن الزبير سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام. قال ابن عباس: إن عليا لما أغلظ الكلام على العباس قال العباس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية لا يَسْتَوُونَ أي الفريقان عِنْدَ اللَّهِ في الفضل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أي الذين جمعوا بين هذه الصفات الثلاثة أعلى رتبة وأكثر كرامة عند الله ممن لم يجمع بينها وَأُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة هُمُ الْفائِزُونَ (20) بسعادة الدنيا والآخرة يُبَشِّرُهُمْ أي هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ أي بمنفعة

_ (1) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (7235) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (5: 456) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1: 93) .

خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم من قبل الله تعالى وذلك هو حد الثواب وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ أي منافع خالصة عن المكدرات مُقِيمٌ (21) أي دائمة غير منقطعة خالِدِينَ فِيها أي الجنات أَبَداً أي لا يخرجون منها إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) لما وصف الله المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاث، وبدأ بالرحمة التي هي النجاة من النيران في مقابلة الإيمان وثنى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة ترك الأوطان، ثم ثلث بالجنات التي هي المنافع العظيمة في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وإنّما خصوا بالأجر العظيم لأن إيمانهم أعظم الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ أي بطانة تفشون إليهم أسراركم إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ أي اختاروه عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ في الدين فَأُولئِكَ المتولون هُمُ الظَّالِمُونَ (23) أي فهو مشرك مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق. قيل: إن الله تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين قالوا: كيف تمكن المقاطعة التامة بين الرجل وابنه وأمه وأخيه؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي أهلكم الأدنون الذين تعاشرونهم. وقرأ أبو بكر عن عاصم «وعشيراتكم» بالجمع وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموها وَتِجارَةٌ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تَخْشَوْنَ كَسادَها أي عدم رواجها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أي منازل تعجبكم الإقامة فيها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بالحب الاختياري وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي طاعته فَتَرَبَّصُوا نزلت هذه الآية لما قال جماعة من المؤمنين: يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية، وإن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آباءنا وإخواننا وعشيرتنا، وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا، وخراب ديارنا؟ فبين الله تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وهي عقوبة عاجلة أو آجلة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وهي مشاهد الحروب كوقعات بدر وقريظة، والنضير والحديبية، وخيبر، وفتح مكة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي واذكروا يوم قتالكم هوازن في حنين. فهوازن قبيلة حليمة السعدية، وحنين واد بينه وبين مكة ثمانية عشر ميلا، وذلك لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج في شوال في تلك السنة وهي سنة ثمان متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ

كَثْرَتُكُمْ وهم اثنا عشر ألفا: عشرة من المهاجرين والأنصار الذين فتحوا مكة، وألفان من الطلقاء وهم الأسراء الذين أخذوا يوم فتح مكة وأطلقوا- وهم أسلموا بعد فتحها في هذه المدة اليسيرة بين هوازن وثقيف- وأربعة آلاف ومعهم أمداد سائر العرب. فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة بن سلامة الأنصاري: لن تغلب اليوم من قلة أي من أجلها افتخارا بكثرتهم أي نحن كثيرون فلا نغلب، فأحزنت هذه الكلمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي فلم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الدفع، أي فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي إنكم لشدة الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لفراركم عن عدوكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) أي منهزمين من الله. وقال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق معه صلّى الله عليه وسلّم إلا عمه العباس وهو آخذ بلجام بغلته، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وهو آخذ بركابه، وهو صلّى الله عليه وسلّم يركض بغلته الشهباء نحو الكفار لا يبالي وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناد المهاجرين والأنصار» . وكان العباس رجلا صيتا، فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة. فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقا واحدا، وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده كفا من الحصى فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما زال أمرهم مدبرا وحدهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي رحمته التي يحصل بها سكون وثبات وأمن عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. واعلم أنه لما شق الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، وعن الأموال والمساكن على القلوب مشقة عظيمة ذكر الله تعالى ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا وضرب الله تعالى لهذا مثلا وذلك أن عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لمّا تضرعوا إلى الله قوّاهم به حتى هزموا عسكر الكفار. وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا أتاه الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم على أحسن الوجوه. وَأَنْزَلَ من السماء جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي بأبصارهم. وهم الملائكة عليهم البياض على خيول بلق لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة في قلوبهم وإلقاء الرعب في قلوب المشركين وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر

وهم قوم مالك بن عوف الدهماني، وقوم كنانة بن عبد ياليل الثقفي وَذلِكَ التعذيب جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) في الدنيا لكفرهم ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي ما جرى عليهم من الخذلان عَلى مَنْ يَشاءُ أن يتوب عليه منهم أي يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ (27) لمن آمن وعمل صالحا. روي أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم» . قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، وهي مفاخر آبائه من الذراري والنساء. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده أسير وطابت نفسه أن يرده فشأنه- أي فيلزم شأنه- ومن لا، فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا: قد رضينا وسلمنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا» «1» ، فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا ولم تقع غنيمة أعظم من غنيمتهم فقد كان فيها من الإبل اثنا عشر ألفا، ومن الغنم ما لا يحصى عددا، ومن الأسرى ستة آلاف من نسائهم وصبيانهم وكان فيها غير ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ أي جميع الحرم بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة ولما امتنع المشركون من دخول الحرم وكانوا يتّجرون ويأتون مكة بالطعام، وكانت معايش أهل مكة من التجارات فخافوا الفقر وضيق العيش وذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنزل الله تعالى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي عطائه من وجه آخر إِنْ شاءَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا أغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم، وأسلم أهل جدة، وحنين، وصنعاء، وتبالة وجرش فحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة مما كانوا يخافون إلى مبايعة الكفار، فأغناهم بالفيء والجزية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم وبمصالحكم حَكِيمٌ (28) فلا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب لما فرغ من الكلام على مشركي العرب بقوله تعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 1] إلى هنا أخذ يتكلم على أهل الكتابين فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فاليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه. والنصارى يعتقدون الحلول، وهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد، ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، وهم يكذبون أكثر الأنبياء

_ (1) رواه الطبري في التفسير (10: 72) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2: 112) .

وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرّفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى. قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي حتى يقبلوا أن يعطوا ما يعطى المعاهد على عهده عَنْ يَدٍ أي عن غني فلا تجب الجزية على الفقير العاجز، أو عن إنعام عليهم لأن ترك أرواحهم عليهم بقبول الجزية منهم نعمة عظيمة وَهُمْ صاغِرُونَ (29) أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام. وَقالَتِ الْيَهُودُ سلام بن مشكم ونعمان بن قيس، ومالك بن الصيف أو فنحاص بن عازوراء: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فأضاعوا التوراة، وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله تعالى إذ نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت التوراة إليه فأعلم قومه وقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها عليّ فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزيز على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا: ما جمع الله التوراة في صدر عزيز وهو غلام إلا لأنه ابنه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولص لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى فقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولص قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة في بيت فيها ولم يخرج منه حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال: اسم واحد نسطور، والآخر يعقوب، والآخر ملكان، والآخر من أهل الروم، فعلّم نسطور أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلّم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان وأنه ابن الله، وعلّم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلا آخر من الروم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا

[سورة التوبة (9) : الآيات 31 إلى 40]

أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله ذلِكَ أي ما صدر عنهم قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي مجردا عن برهان وهو فارغ من معنى معتبر يُضاهِؤُنَ أي يشبهون في الشناعة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم أي يشابه قول اليهود والنصارى قول المشركين: الملائكة بنات الله. وقول أهل مكة: اللات والعزى ومناة بنات الله. كما قالت اليهود: عزير ابن الله. وكذلك قال بعض النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعضهم: شريكه، وقال بعضهم: هو الله، وقال بعضهم: ثالث ثلاثة قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك أو تعجب من شناعة قولهم: أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولدا، وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله تعالى لا يتعجب من شيء اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي اتخذ اليهود علماءهم من ولد هارون، واتخذ النصارى علماءهم من أصحاب الصوامع أربابا من دون الله بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا: إنه ابن الله وَما أُمِرُوا أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة والإنجيل إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً عظيم الشأن هو الله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لا لها سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) أي تنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك في التكليف وفي كونه معبودا ومسجودا له وفي وجوب نهاية التعظيم والإجلال يُرِيدُونَ أي رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دلائل الله المنيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد، أي يريدون أن يردوا القرآن فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد ومن الشرائع من أمر الحل والحرمة بِأَفْواهِهِمْ أي بأقوالهم الباطلة وَيَأْبَى اللَّهُ أي لا يريد إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) وجواب «لو» محذوف، أي ولو كره الكافرون تمام نوره لأتمه ولم يبال بكراهتهم. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي ملتبسا بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله دين الإسلام على الأديان كلها وهو أن لا يعبد الله طلا به فإن المسلمين قد قهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل وكان ذلك إخبارا عن الغيب فكان معجزا. وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام وَلَوْ

كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ذلك الإظهار والوصف بالشرك بعد الوصف بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ أي علماء اليهود وَالرُّهْبانِ أي علماء النصارى لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي ليأخذون الأموال من سفلتهم بطريق الرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي لأنهم يمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في ذلك في الزمان في المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، وفي زمان محمد صلّى الله عليه وسلّم كانوا يبالغون في المنع عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم في منهجه الصحيح بجميع وجوه المكر والخداع وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يجمعونهما وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يخرجون من حملة كل واحد منهما سواء كانت آنية أو دنانير ودراهم ما وجب إخراجه عن تلك الجملة من الزكاة والكفارات ونفقة الحج والجمعة، ومما يجب إخراجه في الدين والحقوق ونفقة الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) أي فأخبرهم يا أشرف الخلق بعذاب أليم هو مذكور في قوله تعالى: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي يوم توقد على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة نار ذات حرّ شديد في نار جهنم فَتُكْوى بِها أي فتحرق بتلك الأموال جِباهُهُمْ أي جهة أمامهم كلها وَجُنُوبُهُمْ من اليمين واليسار وَظُهُورُهُمْ يقال لهم: هذا أي الكي ما كَنَزْتُمْ أي جزاء ما جمعتم من الأموال لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) أي فذوقوا جزاء ما كنتم تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ القمرية التي تؤدى فيها الزكاة وعليها يدور فلك الأحكام الشرعية عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما، والسنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام وربع يوم، فبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل آخر فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهذه الظروف الثلاثة أبدل البعض من البعض، والتقدير أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات، أي منذ خلق الله الإحرام والأزمنة أي إن ذلك العدد ثابت في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم مِنْها أي من تلك الشهور الاثني عشر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم ورجب ذلِكَ أي عدة الشهور الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأربعة الحرم أَنْفُسَكُمْ بإتيان المعاصي فإنه أعظم وزرا كإتيانها في الحرم. وقال ابن عباس: فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، وذلك منع الإنسان عن إتيان الفساد في جميع العمر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا

المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم في جميع الأشهر كما إنهم يقاتلونكم على هذه الصفة وكونوا عباد الله متوفقين في مقاتلة الأعداء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) أي مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات واجتناب المحرمات إِنَّمَا النَّسِيءُ أي إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأن ضم هذا العمل إلى الأنواع المتقدمة من الكفر زيادة في الكفر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا. قرأ حفص وحمزة والكسائي «يضل» بالبناء للمفعول. والباقون بفتح الياء على البناء للفاعل. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم ويعقوب من العشرة بضم الياء وكسر الضاد. والمعنى حينئذ يضل بهذا التأخير الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي ويحرمون التأخير عاما آخر، وهو العام الذي يتركون المحرم على تحريمه. وسبب هذا التأخير أن العرب كانت تعظم الأشهر الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة والحروب فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لهلكنا وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم ما أحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى. قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة وكان يقوم ويخطب في الموسم ويقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال: حلال، عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا. وقيل: هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقول على جمل في الموسم بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل: هو رجل من كنانة يقال له: القلمس قال قائلهم: ومنا ناسئ الشهر قلمس وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ. قال ابن عباس: أي زين الشيطان لهم هذا العمل حتى حسبوا هذا

القبيح حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) أي لا يرشدهم إلى دينه لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أي أيّ شيء ثبت لكم من الأعذار حال كونكم متثاقلين ومشتهين الإقامة في أرضكم في وقت قول الرسول لكم: أخرجوا إلى الغزو في طاعة الله. روي أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك مكان على طرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة ويقال لها: غزوة العسر وغزوة الفاضحة، وكانت في رجب في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه صلّى الله عليه وسلّم من الطائف إلى المدينة، وسببها ما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام وإنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، فأمر صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بالجهاد وبعث إلى مكة وقبائل العرب وحضّ أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله، وهي آخر غزواته فجهز عثمان عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي: تسعمائة بعير ومائة فرس، وغير الزاد وما يتعلق بذلك، وأول من جاء بالنفقة: أبو بكر فجاء بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة والأغنياء. وبعثت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن. فلما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالناس وهم ثلاثون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس خلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وتخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه من المنافقين بعد أن خرجوا إلى ثنية الوداع وكان من تخلف عشر قبائل وإنما تباطأ الناس في خروجهم للقتال لشدة الزمان في قحط وضيق عيش، ولبعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات ولشدة الحر في ذلك الوقت، ولمهابة عسكر الروم، ولإدراك الثمار في المدينة في ذلك الوقت فاقتضى اجتماع هذه الأسباب تثاقل الناس عن ذلك الغزو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) أي فما التمتع بلذائذ الدنيا في مقابلة نعيم الآخرة إلا قليل لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل السرور القليل سفه إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً أي إن لم تخرجوا إلى ما طلب الخروج منكم إليه يهلككم الله بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأتي بعد إهلاككم بدلكم بقوم مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا كأهل اليمن وأبناء فارس وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي لا يضر الله جلوسكم شيئا لأنه غني عن العالمين أو لا يضر الرسول تثاقلكم في نصرة دينه أصلا، لأن الله عصمه من الناس وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) فيقدر على نصر نبيه ودينه ولو من غير واسطة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أي إن لم تنصروا محمدا فسينصره الله الذي قد نصره حين لم يكن معه إلا

[سورة التوبة (9) : الآيات 41 إلى 50]

رجل واحد إذ جعله كفار مكة مثل المضطر إلى الخروج حيث أذن له صلّى الله عليه وسلّم في الخروج حين هموا بقتله حال كونه أحد اثنين، والآخر أبو بكر الصديق إذ هما في غار جبل ثور إذ يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر الصديق: «لا تحزن إن الله معيننا» «1» وكان الصديق قد حزن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا على نفسه فقال له: يا رسول الله إذا مت أنا فأنا رجل واحد وإذا مت أنت هلكت الأمة والدين. روي أن قريشا ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره الله تعالى أن يخرج أول الليل إلى الغار، وخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يضطجع على فراشه ليمنع السواد من طلبه حتى يبلغ إلى ما أمر الله به، فلما وصل إلى الغار دخل أبو بكر فيه أولا يلتمس ما فيه فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك؟» فقال: بأبي أنت وأمي، الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحزن إن الله معنا بنصره» «2» . فجعل يمسح الدموع عن خده. وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعم أبصارهم» «3» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي أمنته التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على صاحبه صلّى الله عليه وسلّم أبي بكر الصدّيق وَأَيَّدَهُ أي أعانه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وهذه الجملة معطوفة على جملة «نصره الله» وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي جعل الله يوم بدر كلمة الشرك سافلة حقيرة وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي قوله لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا أي الغالبة الظاهرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي قاهر غالب حَكِيمٌ (40) أي لا يفعل إلا الصواب انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي اخرجوا مع نبيكم إلى غزوة تبوك خفافا في الخروج لنشاطكم له وثقالا عنه لمشقته عليكم وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا في طاعة الله بما أمكن لكم إما بكليهما أو بأحدهما ذلِكُمْ أي الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ أي خير عظيم في نفسه لكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) أن الجهاد خير فبادروا إليه لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ أي لو كان ما دعوا إليه متاعا قريب المنال سهل المأخذ وسفرا متوسطا بين

_ (1) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 75، وأحمد في (م 1/ ص 3) وفيه «معنا» بدل «معيننا» . (2) رواه البخاري في كتاب أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم إلخ، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 75، وأحمد في (م 1/ ص 3) . [.....] (3) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (76) .

القريب والبعيد لاتبعوك في الخروج إلى تبوك طمعا في تلك المنافع وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة التي تقطع بمشقة فتخلفوا عن الجهاد بسبب إنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة وَسَيَحْلِفُونَ أي المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من تبوك وهم عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهم قائلين بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا بالزاد والراحلة لَخَرَجْنا مَعَكُمْ إلى غزوة تبوك يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بسبب الحلف الكاذب فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع» . وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) في أيمانهم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يا أشرف الخلق ما وقع منك من ترك الأولى والأكمل لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) . في ذلك قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت سورة براءة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس من عادة المؤمنين الخلص أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان ولنجاهد معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) الذين يسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي إنما يستأذنك يا أشرف الخلق في التخلف عن الجهاد من غير عذر المنافقون فإنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكت قلوبهم في الدين فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) أي فهم حال كونهم في شكهم المستقر في قلوبهم يتحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الغزو معك لَأَعَدُّوا لَهُ أي للخروج عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي ولكن لم يرض الله نهوضهم للخروج معك فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم بالكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) أي تخلفوا مع المتخلفين والقائل الشيطان بوسوسته أو بعضهم لبعض، أو هو أمر النّبيّ بذلك أمر توبيخ أو ألقاه الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم فلا قول بالفعل لا من الله ولا من النّبيّ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ أي معكم ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي فسادا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي ولساروا على الإبل وسطكم ولأسرعوا بينكم بالنمائم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون لكم ما تفتنون به بإلقاء الرعب في قلوبكم وبإفساد نياتكم وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي فيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لأنفسهم بسبب نفاقهم ولغيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيره في وجوه الآفات لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من

[سورة التوبة (9) : الآيات 51 إلى 60]

قبل واقعة تبوك كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حيث انصرف مع أصحابه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي اجتهدوا في الحيلة عليك وفي إبطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي استمر هؤلاء المنافقون على إثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء النصر الإلهي وكثر المؤمنون وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي غلب دينه بظهور الأسباب التي تقوي شرع محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُمْ كارِهُونَ (48) أي والحال أنهم كارهون لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أي ومن المنافقين وهو الجد بن قيس من يقول للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود في المدينة ولا توقعني في الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم. وروي أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس: «يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر» - أي في جهاد ملوك الروم- فقال الجد: يا رسول الله قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر وإني أخشى إن رأيتهن لا أصبر عنهن ولكني أعينك بمال فاتركني أَلا أي تنبهوا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم في عين الفتنة وقعوا فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف وهم خائفون من نزول آيات في بيان نفاقهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) أي جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب. وقيل: إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها لأنهم كانوا محرومين عن كل السعادات وإنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين، وقصد الرسول بكل سوء. وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي. وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة من ظفر أو غنيمة أو انقياد بعض ملوك الأطراف يحزنهم ذلك وَإِنْ تُصِبْكَ في بعض الغزوات مُصِيبَةٌ أي شدة وإن صغرت يَقُولُوا متبجحين برأيهم: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي حذرنا بالاعتزال عن المسلمين والتخلف عنهم والمداراة مع الكفرة مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم وَهُمْ فَرِحُونَ (50) بما أصابك من المصيبة وبسلامتهم منها. قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين بيانا لبطلان اعتقادهم: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي لن يصيبنا خير ولا شر ولا رخاء، ولا شدة ولا خوف، ولا أمن إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله فإذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا هُوَ أي الله مَوْلانا يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء فإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعا من المصائب فإنه يجب الرضا بها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) أي فالواجب على المؤمن أن يفوّض أمره إلى الله وأن يرضى بفعله تعالى وأن يطمع من فضله تعالى ورحمته. قُلْ يا أشرف الخلق للمنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي ما تنتظرون

بنا إلا إحدى الحالتين الشريفتين، النصر أو الشهادة، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوبا مقتولا بالاسم الحسن في الدنيا وهي الرجولية والشوكة وبالثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالبا فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وفي الآخرة بالثواب العظيم وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى الحالتين الخسيستين إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ كأن ينزل عليكم صاعقة من السماء كما نزلت على عاد وثمود أَوْ بعذاب بِأَيْدِينا وهو القتل على الكفر، أي إن المنافق إذا قعد في بيته كان مذموما منسوبا إلى الجبن، وضعف القلب والرضا بأمر يشاركه فيه النسوان والصبيان والعاجزون، ثم يكون أبدا خائفا على نفسه وولده وماله، وإن أذن الله في قتله وقع في القتل والأسر والنهب مع الذل وإن مات انتقل إلى العذاب الدائم في الآخرة فَتَرَبَّصُوا بنا إحدى الحالتين الشريفتين إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين قُلْ يا أشرف الخلق لهذا المنافق وأمثاله وهذه الآية نزلت في الجد بن قيس حين قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به أَنْفِقُوا أموالكم طَوْعاً أي من غير إلزام من الله ورسوله أَوْ كَرْهاً أي إلزاما منهما. وسمي الإلزام إكراها لأن إلزام المنافقين بالإنفاق كان شاقا عليهم كالإكراه. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي النساء والأحقاف «كرها» بضم الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه. والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ والأمر هنا بمعنى الخير أي نفقتكم غير مقبولة سواء كانت طوعا أو كرها إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) أي منافقين فإنهم كافرون في الباطن وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين فإن هذا المنافق إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل لأنه يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفا من مذمة الناس وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) أي لا رغبة لهم فإنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة حتى إنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرما بينهم فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ والمراد بهذا الخطاب جميع المؤمنين. والمعنى ولا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها أي بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وسبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الغم والخوف بسبب المصائب الواقعة فيهما، وهم اعتقدوا أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة، فالمال والولد عذاب على المنافق في الدنيا دون المؤمن لأنه علم أنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) أي يريد الله أن

تخرج أرواحهم والحال أنهم كافرون فيكون عذابهم في الآخرة أشد العذاب وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي يحلف المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إنهم على دينكم وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا على دينكم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) أي يخافون القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي حرزا يلجئون إليه تحصنا منكم من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة أَوْ مَغاراتٍ أي كهوفا في الجبل يخفون فيها أنفسهم أَوْ مُدَّخَلًا أي سربا تحت الأرض كالآبار يندسون فيه لَوَلَّوْا أي لصرفوا وجوههم إِلَيْهِ أي إلى أحد هذه الوجوه الثلاثة التي هي شر الأمكنة وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء لشدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين وَمِنْهُمْ أي المنافقين أبي الأحوص وأصحابه مَنْ يَلْمِزُكَ أي من يعيبك سرا فِي الصَّدَقاتِ قالوا لم يقسم بيننا بالسوية والله ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا هواه فنزلت هذه الآية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها أي الصدقات قدر ما يريدون في الكثرة رَضُوا بالقسمة وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها قدر ما يريدون إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) أي يفاجئون السخط فإن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الصدقات وطابت نفوسهم وإن قل وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا ذلك سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي سيغنينا الله من فضله برزقه فيعطينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر مما أعطانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعته وإحسانه راغِبُونَ (59) لكان ذلك أعود عليهم. ونقل أن عيسى عليه السلام مرّ بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ثم مرّ على قوم آخرين يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومرّ على قوم ثالث مشتغلين بالذكر، فسألهم، فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال: أنتم المحبون المحققون. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ أي إنما الزكوات مصروفة للفقراء وهم المحتاجون الذين لا يجدون شيئا ولا يسألون الناس وهم أهل صفة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم، والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس كما قاله ابن عباس، ومن سأل وجد فكان المسكين أقل حاجة وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي وعبد الله بن عمر وابن زيد. وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم أصناف: صنف دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب

[سورة التوبة (9) : الآيات 61 إلى 70]

بتألفهم إسلام نظرائهم وأثبت الشافعي والأصحاب سهم هذين الصنفين وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من الكفار أو من مانعي الزكاة ويقبضوا زكاتهم، وهذان في معنى الغزاة والعاملين وعلى هذا فيسقط سهم المؤلفة بالكلية لكن يجوز صرفه إليهما كما أفتى به الماوردي وَفِي الرِّقابِ أي وفي فك الرقاب فسهمهم موضوع في المكاتبين ليعتقوا به كما هو مذهب الشافعي والليث بن سعد أو موضوع لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون كما هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين، ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة وَالْغارِمِينَ أي المديونين في طاعة الله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ويجوز للغازي أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنيا كما هو مذهب الشافعي، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا. ونقل القفال عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى في سبيل الله عام في الكل وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة، ويصرف مال الزكاة إلى الأصناف الأربعة: الأول: حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفي الأربعة الأخيرة: لا يصرف المال إليهم بل يصرف المال إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف كما هو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير. وقال الشافعي: لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية كما هو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة والمقصود من هذا التأكيد تحريم إخراج الزكاة عن الأصناف وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ (60) لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ. روي أن جماعة من المنافقين حذام بن خالد وإياس بن قيس، وسماك بن يزيد وعبيد بن مالك، والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت ذكروا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بما لا ينبغي من القول ثم قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وكان عندهم غلام يقال له: عامر بن قيس ثم أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخبره فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب، وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجعل عامر يدعو ويقول: «اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب» فأنزل الله هذه الآية ومقصود المنافقين بقولهم هو أذن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس له ذكاء بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء المنافقين أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ.

قرأ عاصم في رواية الأعمش، وعبد الرحمن عن أبي بكر عنه «أذن خير» مرفوعين، أي إن كان صلّى الله عليه وسلّم كما تقولون: إنه أذن فأذن يقبل منكم خير لكم من أن يكذبكم. والباقون بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر، أي يصدقكم بالخير لا بالكذب. ثم بيّن الله كونه صلّى الله عليه وسلّم أذن خير بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ويرضى لهم ويصدقهم لما علم فيهم من الخلوص وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي وهو رفق بالذين أظهروا الإيمان منكم حيث لا يكشف أسرارهم. وقرأ حمزة «ورحمة» بالجر عطفا على خير. وقرأ ابن عامر «ورحمة» بالنصب علة لمحذوف، أي ويأذن لكم رحمة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بقولهم هو أذن ونحوه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) في الدنيا والآخرة يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ أي إنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم وكان من الواجب أن يرضوهما بالإخلاص والتوبة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلّى الله عليه وسلّم في باب الإجلال مشهدا ومغيبا لا بإتيانهم بالأيمان الفاجرة إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) فليرضوا الله ورسوله بالطاعة فإنهما أحق بالإرضاء أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون جلاس وأصحابه أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ أي من يخالف الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحق أن له نار جهنم أي فيكون نار جهنم له أمر ثابت خالِداً فِيها ذلِكَ أي العذاب الخالد الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) أي الندم الشديد وهي ثمرات نفاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي يخاف المنافقون أن تنزل في شأنهم سورة تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم إذاعة ظاهرة فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال فكأن السورة تخبرهم بها وهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي افعلوا الاستهزاء بمحمد والقرآن إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) أي فإن الله مظهر ما تحذرونه من إنزال السورة وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. قال الحسن وقتادة: لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم: أتراه يظهر على الشام ويأخذ حصونها وقصورها، هيهات هيهات، فعند رجوعه صلّى الله عليه وسلّم دعاهم وقال: أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا: ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نتحدث ونضحك فيما بيننا قُلْ أَبِاللَّهِ أي بتكاليف الله وَآياتِهِ أي وبالقرآن وبسائر ما يدل على الدين وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي وقد ظهر كفركم للمؤمنين بالطعن في الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعد أن كنتم عندهم مسلمين إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً.

قرأ عاصم «نعف» و «نعذب» بالنون مبنيا للفاعل و «طائفة» بالنصب. والباقون «يعف» بالياء و «تعذب» بالتاء بالبناء للمفعول، و «طائفة» بالرفع. روي أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد: طائفة وهو: جهير بن حمير. والاثنان: طائفة وهما وديعة بن جذام، وجد بن قيس. فالذي عفى عنه جهير بن حمير لأنه كان ضحك معهم ولم يستهزئ معهم فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتخفق منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فلم يعرف أحد من المسلمين مصرعه بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) أي مستمرين على النفاق والاستهزاء فأوجب التعذيب الْمُنافِقُونَ وكانوا ثلاثمائة وَالْمُنافِقاتُ وكن مائة وسبعين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والأفعال الخبيثة يَأْمُرُونَ أي يأمر بعضهم بعضا بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي عن الإيمان والطاعة وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله نَسُوا اللَّهَ أي تركوا أمر الله فَنَسِيَهُمْ أي فجازاهم بتركهم من رحمته إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) أي الكاملون في الفسق الذي هو الانسلاخ من كل خير وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين بالكفر نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فالنار المخلدة من أعظم العقوبات هِيَ حَسْبُهُمْ أي تلك العقوبة كافية ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أهانهم الله بالذم ملحقا بتلك العقوبة وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) غير النار كالزمهرير وكمقاساة تعب النفاق في الدنيا إذ هم دائما في حذر من أن يطلع المسلمون على نفاقهم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي فعلكم أيها المنافقون كفعل الكفار الذين كانوا قبلكم في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً في الأبدان وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي فتمتعوا مدة بنصيبهم من لذات الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ أي فأنتم أيها المنافقون استمتعتم بنصيبكم استمتاعا كاستمتاع الكفار الذين من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي وتلبستم بتكذيب الأنبياء في السر وبالمكر والغدر بهم كالتلبس الذي تلبسوا به من تكذيب أنبياء الله والغدر بهم أُولئِكَ الموصوفون بالأفعال الذميمة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي بطلت حسناتهم بسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف، وبسبب الموت في الآخرة بسبب أنهم يعاقبون أشد العقاب وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة، وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي

[سورة التوبة (9) : الآيات 71 إلى 80]

المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أي المنقلبات التي جعل الله عالي القرى سافلها أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات فكذبوهم فعجّل الله هلاكهم. والله أهلك قوم نوح بالغرق وعادا- قوم هود- بإرسال الريح العقيم، وثمود- قوم صالح- بإرسال الصيحة والصاعقة، وقوم إبراهيم بالهدم وسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ، وقوم شعيب بالظلة أو بالرجفة، وقوم لوط بالخسف وبجعل عالي أرضهم سافلها وبإمطار الحجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم قريبة من بلاد العرب وهي: الشام، والعراق، واليمن فكانوا يمرون عليها ويعرفون أخبار أهلها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإيصال العذاب إليهم لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) بالكفر وتكذيب الأنبياء وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الشرك والمعاصي وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بإتمام الأركان والشروط وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الواجبة عليهم وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل أمر ونهي في السر والعلانية أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي يفيض عليهم آثار رحمته، والسين للتوكيد والمبالغة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة حَكِيمٌ (71) أي مدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً وهي قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي أبهى أماكن الجنات وأسناها. وقال عبد الله بن عمر إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، وله خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ مما هم فيه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة. وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: «هل رضيتم» فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول: «أنا أعطيكم أفضل من ذلك» . قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» . وقرأ شعبة «رضوان» بضم الراء. والباقون بالكسر ذلِكَ أي المذكور من الأمور الثلاثة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ أي المجاهرين بالسيف وَالْمُنافِقِينَ أي الساترين كفرهم بظهور الإسلام بإظهار الحجة لا

بالسيف لنطقهم بكلمتي الشهادة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) هي وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ بتوافقهم على فتك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطعنهم على نبوته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بعد أن أظهروا الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. روي أن المنافقين هموا بقتله صلّى الله عليه وسلّم عند رجوعه من تبوك: وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، فأخبره الله بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها. فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ: «هل عرفت أحدا منهم» . قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال: «هل علمت مرادهم؟» قال: لا، قال النبي: «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» «1» فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وما أنكروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلّى الله عليه وسلّم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره صلّى الله عليه وسلّم إن كرهوه وعابوه فَإِنْ يَتُوبُوا من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته يَكُ أي التوب خَيْراً لَهُمْ في الدارين وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وَالْآخِرَةِ بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مع سعتها مِنْ وَلِيٍّ أي حافظ وَلا نَصِيرٍ (74) ينقذهم من العذاب

_ (1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (5: 257) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 259) .

وَمِنْهُمْ أي المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا بإجرامهم على العهد وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) بقلوبهم عن أوامر الله تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم أي فارتدوا عن الإسلام وصاروا منافقين إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي إلى يوم موتهم الذين يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب إخلافهم الله الوعد من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أي وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في وعدهم. روي أن ثعلبة بن حاطب كان صحيح الإسلام في ابتداء أمره وصار منافقا في آخر أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك تفعل فعل المنافقين؟» فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فجاء ثعلبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أم يرزقني مالا فقال له رسول الله: «أما لك في أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا من أوديتها فجعل يصلي الظهر والعصر مع رسول الله، ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم نمت وكثرت فتباعد من المدينة حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت وكثرت حتى تباعد وترك الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ثم سأل رسول الله فأخبر بخبره فقال: «يا ويح ثعلبة ثلاثا» فنزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين من بني سليم ومن بني جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة وقال لهما: «مرّا على ثعلبة بن حاطب فخذا صدقاته» فأتياه وأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية فلم يدفع الصدقة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله أن يقبل صدقته فقال: «إن الله منعني من قبول ذلك» فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قد قلت لك فما أطعتني» «1» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء بهما إلى عمر أيام

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 225) ، وابن الجوزي في زاد المسير (3: 473) ، وابن كثير في التفسير (4: 124) ، والطبري في التفسير (10: 131) ، والقرطبي في التفسير (8: 209) ، والواحدي في أسباب النزول (171) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 81 إلى 90]

خلافته فلم يقبلها، فلما ولي عثمان أتاه بها فلم يقبلها، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان وإنما امتنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ تلك الصدقة لأن المقصود من الأخذ غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه لقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما تنطوي عليه صدورهم وَنَجْواهُمْ وهو ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) أي ما غاب عن الخلق الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي ويطعنون على الذين لا يجدون إلا طاقتهم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي ويهزئون بالفريق الأخير بقلة الصدقة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وهذه الجملة خبر للموصول. وقال الأصم: أي قبل الله من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية. وقال ابن عباس: فتح الله لهم في الآخرة بابا إلى الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) . قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وجاء أبو عقيل عبد الرحمن بن تيحان بصاع من تمر فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوضعه في الصدقات. فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاءوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاع ليذكر مع سائر الأكابر والله غني من صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. روي أنه لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وظهر نفاقهم للمؤمنين جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون وقالوا: يا رسول الله استغفر لنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سأستغفر لكم» واشتغل بالاستغفار لهم، فنزلت هذه الآية، فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاستغفار . وهذا الأمر تخيير له صلّى الله عليه وسلّم في الاستغفار وتركه، ومعناه إخبار باستواء الأمرين أي إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم فاستغفارك لهم وعدمه سواء إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وقد شاع استعمال السبعة، والسبعين والسبعمائة في التكبير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره فإن عدة مراتبه سبعة آحاد، عشرات مئين، آحاد ألوف، عشرات ألوف، مئين ألوف، آحاد ألوف، الألوف والسبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جمع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض، والبحار، والأقاليم، والنجوم، والأيام، والأعضاء هو هذا العدد ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي بسبب كفرهم لا لعدم الاعتداد بالاستغفار وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) أي فإن تجاوزهم عن الحدود مانع من الهداية فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين تركهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِمَقْعَدِهِمْ أي في المدينة خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ

أي مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث سار إلى تبوك للجهاد وأقاموا في المدينة وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن في المجاهدة إتلاف النفس والمال وَقالُوا لإخوانهم أو للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد، ونهيا عن المعروف لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر الشديد قُلْ تجهيلا لهم: نارُ جَهَنَّمَ التي ستدخلونها بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا مما تحذرون من الحر المعتاد وتحذرون الناس منه لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) أن بعد هذه الدار دارا أخرى، وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة أخرى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً وهذا إخبار بأنه ستحصل لهم هذه الحالة ورد بصيغة الأمر أي إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم وحزنهم في الآخرة، لأن الدنيا بأسرها قليلة وعقابهم في الآخرة دائم لا ينقطع جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) في الدنيا من النفاق فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي المنافقين في المدينة فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك فَقُلْ لهم يا أشرف الخلق: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً في سفر من الأسفار وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من الأعداء إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الغزو أَوَّلَ مَرَّةٍ وهي غزوة تبوك فَاقْعُدُوا عن الجهاد مَعَ الْخالِفِينَ (83) أي النساء والصبيان والرجال العاجزين وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف عليه للدفن أو للدعاء فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله في السر مدة حياتهم وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) أي متمردون في الكفر بالكذب والخداع والمكر. عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما اشتكى عبد الله بن أبي سلول عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره، ثم إنه أرسل إلى الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني، فرده وطلب منه الذي يلي جلده ليكفن فيه فأرسله إليه، فقال عمر رضي الله عنه: لم تعطي قميصك للرجس النجس؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام» . وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فإنه رأسهم فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، فلما مات عبد الله جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه- واسمه عبد الله- فإنه كان من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما، وأكثرهم عبادة، وأشرحهم صدرا، يعرفه صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله: «صل عليه وادفنه» «1» . فقال: يا رسول الله إن لم تصل عليه لم يصل عليه مسلم، فقام صلّى الله عليه وسلّم، فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه،

_ (1) رواه ابن كثير في التفسير (8: 221) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 91 إلى 100]

فنزلت هذه الآية فامتنع صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة عليه وإنما دفع القميص إليه تطييبا لقلب ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وإكراما له، لأنه كان من الصالحين، ولأن العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طويلا فكساه عبد الله بن أبي قميصه بأمره صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ بتمتيعهم بالأموال والأولاد أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بمكابدتهم الشدائد في شأنها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن مشتملة على الأمر أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ في التخلف عن الغزو أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي ذوو السعة في المال والقدرة على الجهاد بالبدن من رؤساء المنافقين عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قيس وَقالُوا ذَرْنا يا محمد نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) أي من الضعفاء من الناس، والساكنين في البلد بغير عذر رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي مع النساء اللاتي يلزمن البيوت وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي منعت من حصول الإيمان فَهُمْ بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ (87) أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء المنافقون عن العزو فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقادا وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ أي منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أي المتخلصون من السخط والعذاب أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي هيأ لهم في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أي مقيمين في الجنة ذلِكَ أي نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الذي لا فوز وراءه وَجاءَ إليك يا أشرف الخلق الْمُعَذِّرُونَ أي الذين أتوا بأعذار كاذبة وتكلفوا عذرا بباطل مِنَ الْأَعْرابِ أي من بني غفار لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالتخلف عن غزوة تبوك فلم يعذرهم الله وَقَعَدَ عن الجهاد بغير إذن الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ادعائهم الإيمان وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا إلى الرسول ولم يعتذروا. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي المعذرين لا من أسلم منهم عَذابٌ أَلِيمٌ (90) في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى من الشباب وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الجهاد من الزاد والراحلة لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة حَرَجٌ أي إثم في التخلف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي آمنوا بهما وأطاعوا لهما في السر والعلن ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم طريق إلى ذمهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) أي وليس على من أتوك يسألوك أن تحملهم إلى غزوة تبوك، ثم خرجوا من عندك يبكون لعدم وجدان ما ينفقون في الجهاد سبيل في لومهم، ولذلك سموا البكائين، وهم سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير،

وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن زيد فإنهم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا أجد ما أحملكم عليه» «1» فتولوا وهم يبكون، فحمل العباس منهم اثنين، وعثمان ثلاثة زيادة على الجيش الذي جهزه وهو ألف وحمل يامين بن عمرو النضري اثنين إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وَهُمْ أَغْنِياءُ أي قادرون على أهبة الخروج معك رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي رضوا بالدناءة والانتظام في جملة النساء وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لأجل ذلك الطبع لا يَعْلَمُونَ (93) ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا يَعْتَذِرُونَ أي هؤلاء المنافقون وهم بضع وثمانون رجلا إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ من عزوة تبوك إِلَيْهِمْ بالأعذار الباطلة. قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لا تَعْتَذِرُوا بما عندكم من المعاذير لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم فيما تقولون من العلل أبدا قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أي قد أعلمنا الله بعض أحوالكم مما في ضمائركم من الخبث والنفاق والمكر وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ أي وسيقع عملكم معلوما لله ولرسوله هل تبقون على نفاقكم أم تتوبون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ يوم القيامة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ للجزاء مما ظهر منكم من الأعمال فَيُنَبِّئُكُمْ عند وقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) في الدنيا. أي فيجازيكم عليه سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ أي إذا رجعتم إليهم من تبوك أنهم معذورون في التخلف لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لتعرضوا عن ذمهم إعراض الصفح فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض المقت وترك الكلام. قال مقاتل: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة: «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» «2» إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي إن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب على الإنسان الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية يجب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية حذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى الأعمال القبيحة وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وكفتهم النار توبيخا فلا تتكلفوا أنتم في ذلك جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) في الدنيا من فنون السيئات يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بالحلف وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) أي فإن رضيتم أيها المؤمنون عنهم بما حلفوا لكم فلا ينفعهم رضاكم، لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم لكون إرادتكم مخالفة لإرادة الله تعالى وذلك لا يجوز. الْأَعْرابُ أي جنس أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر لتوحشهم واستيلاء

_ (1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (5: 318) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 268) ، وابن الجوزي في زاد المسير (3: 485) . (2) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (3: 478) .

الهواء الحار اليابس عليهم، وبعدهم عن أهل العلم وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي أحق بأن لا يعلموا مقادير التكاليف والأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب خلقه حَكِيمٌ (97) فيما فرض من فرائضه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً أي من الأعراب أسد وغطفان من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله خسران لأنه لا ينفق إلا رياء وخوفا من المسلمين لا لوجه الله وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر أن تتقلب الأمور عليكم بموت الرسول، وأن يعلو عليكم المشركون فيتخلص مما ابتلى به من الإنفاق عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم يدور البلاء والحزن فلا يرون في محمّد صلّى الله عليه وسلّم ودينه إلا ما يحزنهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عند الإنفاق من كلام لا خير فيه عَلِيمٌ (98) بنياتهم الفاسدة وَمِنَ الْأَعْرابِ مزينة وجهينة وأسلم مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ في السر والعلانية وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي ويأخذ لنفسه ما ينفقه في سبيل الله سببا لحصول القربات إلى الله في الدرجات وسببا لحصول دعوات الرسول، فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم أَلا أي تنبهوا إِنَّها أي إن نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ إلى الله في الدرجات سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ أي جنته، وهذا تفسير للقربة ووعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة، كما أن قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تهديد للأولين عقب الدعاء عليهم، والسين للدلالة على تحقيق الوقوع إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسيئاتهم رَحِيمٌ (99) بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أسلم وغفار وشيء من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان» «1» . وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي في الهجرة والنصرة مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا كما قاله ابن عباس وَالْأَنْصارِ وهم الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة الأولى: وكانوا سبعة نفر. والعقبة الثانية: وكانوا اثني عشر رجلا. والعقبة الثالثة: وكانوا سبعين رجلا والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ أي الفريقين بِإِحْسانٍ وهم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لأعمالهم وكثرة طاعاتهم وَرَضُوا عَنْهُ لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة، والسابقون مبتدأ وخبره جملة رضي الله عنهم وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ. وقرأ ابن كثير «من تحتها» بكلمة «من» كما في سائر المواضع وعلى هذا لزم صلة الميم في المواضع الثلاثة، والباقون بغير كلمة «من» وفتح التاء. خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي من غير انتهاء

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 420) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 101 إلى 110]

ذلِكَ أي الرضوان والجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) أي النجاة الوافرة وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي حول بلدتكم مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حول المدينة وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي من أهل المدينة كعبد الله ابن أبي وأصحابه من ثبتوا على النفاق ولم يتوبوا عنه لا تَعْلَمُهُمْ أي لا تعلم نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء. نفسك لشدة إبطان الكفر وإظهار الإخلاص نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي نحن نعلم سرائرهم التي في ضمائرهم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بعذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) هو النار المؤبدة وَآخَرُونَ أي ومن أهل المدينة قوم آخرون أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي أقروا بذنوبهم وأظهروا الندامة على التخلف خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وهو خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات وَآخَرَ سَيِّئاً وهو تخلفهم من غزوة تبوك أي خلطوا كل واحد من العمل الصالح والعمل السيء بالآخر عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي ثبت أن يقبل الله توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أي لما أظهروا التوبة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب المؤدي لذلك التخلف حبهم للأموال أمر الله رسوله أن يأخذ منهم الزكوات الواجبة عليهم فكأنه قيل لهم: إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة لو أخرجتم الزكاة الواجبة بانشراح قلب، لأن الدعوى إنما يشهد عليها الامتحان، فعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة وإلا فهم كاذبون تُطَهِّرُهُمْ أي تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم عن نجاسة الذنوب وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي ترفعهم بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين وتثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء وتجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا لزيادة البركة وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم. قال الشافعي رضي الله عنه والسنة للإمام: إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي إن دعاءك يوجب طمأنينة قلوبهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ (103) بنياتهم. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «صلاتك» على التوحيد. والباقون «صلواتك» على الجمع. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي ألم يعلم أولئك التائبون قبل توبتهم وصدقتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة عن عباده المخلصين، ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) أي وأ لم يعلموا أنه تعالى المنفرد ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة وإيصال الرحمة وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ أي وقل يا أشرف الخلق اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فسيرى الله عملكم خيرا كان

أو شرا، ويراه رسوله باطلاع الله إياه على أعمالكم، ويراه المؤمنون بقذف الله تعالى في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المفسدين فإن لعملكم في الدنيا حكما، وفي الآخرة حكما. أما حكمه في الدنيا فإنه يراه الله والرسول والمسلمون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة، وهذا ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين. وفي الخبر: «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» «1» وَسَتُرَدُّونَ بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. والمراد من الرد تعريف عقاب الخزي والفضيحة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) في الدنيا أي فيعرفكم أحوال أعمالكم من خير وشر فيجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى في الآخرة لا تحصل إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «مرجئون» بهمزة مضمومة وبعدها واو ساكنة. والباقون «مرجون» بدون تلك الهمزة أي ومن أهل المدينة قوم من المتخلفين غير المعترفين مؤخرون عن قبول التوبة لِأَمْرِ اللَّهِ أي لحكمه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار. فنزل قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فوقف الرسول أمرهم بعد نزول هذه الآية خمسين ليلة بقدر مدة التخلف- إذ كانت غيبته صلّى الله عليه وسلّم عن المدينة خمسين ليلة- ونهى الناس عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن أهاليهن لأنه لما تمتعوا بالراحة في المدينة مع تعب غيرهم في السفر عوقبوا بهجرهم تلك المدة فلما مضى خمسون يوما نزلت توبتهم بقوله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة: 117] وبقوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة: 118] إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وهذه الجملة في محل نصب على الحال، أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم، وهؤلاء القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو ولم يحكم الله بكونهم تائبين بل قال: إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، فلعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة، وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم، فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية، وعند

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (4: 314) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5335) ، والسيوطي في الدر المنثور (1: 78) .

ذلك صحت توبتهم، وكلمة «إما» للشك بالنسبة لاعتقاد العباد، والمراد منه: ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله لهم عذرا. وأناس يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فالناس مختلفون في شأنهم فصاروا عندهم مرجئين لأمر الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ (106) فيما يحكم فيهم وفيما يفعل بهم وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً أي ومنهم الذين بنوا مسجدا وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين لإضرار أهل مسجد قباء وَكُفْراً أي ولتقوية الكفر بالطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم ودين الإسلام وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا يصلون في مسجد قباء أي لكي يصلي طائفة من المؤمنين في ذلك المسجد فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي انتظارا لأبي عامر الراهب الفاسق مِنْ قَبْلُ متعلق باتخذوا أي اتخذوا ذلك المسجد من قبل أن ينافق بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك، وكان أبو عامر قد تنصّر في الجاهلية وترهّب- أي لبس المسوح- وطلب العلم، فلما قدم صلّى الله عليه وسلّم المدينة عاده لأنه زالت رئاسته وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» . ولم يزل يقاتله صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا هذا المسجد إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الإحسان إلى المؤمنين وهو الرفق بهم في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن الذهاب إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) في حلفهم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصل في ذلك المسجد أبدا. روي أنه لما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غزوة تبوك نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه إتيان مسجدهم، فنزلت عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» «1» ففعلوا ذلك وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل ذلك الموضوع مكان كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين غريبا وحيدا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي بنى أصله على طاعة الله تعالى وذكره مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام تأسيسه فقد أسس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجد قباء وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وخرج صبيحة الجمعة فدخل المدينة أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي أن تصلي فيه ذلك

_ (1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (3: 499) ، والقرطبي في التفسير (8: 53) ، والواحدي في أسباب النزول (176) .

المسجد فِيهِ أي في هذا المسجد رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأحداث والجنابات والنجاسات، وسائر النجاسات وهم: بنو عامر بن عوف الذين بنوه وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أي يرضى عنهم. روى ابن خزيمة عن عويمر ابن ساعدة أنه صلّى الله عليه وسلّم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به» «1» ؟ أي الذي تحصلون الطهارة بسببه. قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، وكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وفي حديث رواه البزار فقالوا: في جواب سؤاله لهم: نتبع الحجارة بالماء فقال: «هو ذاك فعليكموه» «2» . أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ أي أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه على قاعدة قوية هي الخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ أي أم من أسس بنيان دينه على طرف مسيل متصدع وهو كفر بالله وإضرار بعباد الله فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي فسقط المسيل مصاحبا له أي للمؤسس في قعر نار جهنم أي مثل الضلال مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فكان قريب السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم. وقرأ نافع وابن عامر «أسس» مبنيا للمفعول، وبنيانه بالرفع نائب الفاعل وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) أي لا يغفر للمنافقين ولا ينجيهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يزال مسجدهم سبب شك في الدين لأن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته، وعظم خوفهم منه في جميع الأوقات، وصاروا مرتابين في أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل يخلي سبيلهم أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟! إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة بفتح التاء والطاء المشددة. والباقون بضم التاء مبني للمجهول. وعن ابن كثير بفتح الطاء وسكون القاف على الخطاب وقلوبهم بالنصب أي إلا أن تجعل قلوبهم قطعا بالسيف. وقرأ الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب «إلى أن تقطع» ، وأبو حيوة كذلك إلا أنه قرأ بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة على الخطاب للرسول، و «قلوبهم» بالنصب، وفي قراءة عبد الله ولو قطعت قلوبهم بالبناء للمجهول وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على الخطاب. والمعنى أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبدا ويموتون على هذا النفاق، و «إلا» بمعنى إلى بدليل القراءة الشاذة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ (110) في

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، وأحمد في (م 3/ ص 422) . (2) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالماء، والدارقطني في (ج 1/ ص 62) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 120]

الأحكام التي يحكم بها عليهم إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهذا استئناف لبيان البيع الذي يستلزمه الشراء كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم في طاعة الله والمؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتله كافر وأنفق ماله في سبيل الله فإنه يأخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل وهو تسليم المبيع من الأنفس والأموال فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. قرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول على المبني للفاعل، والباقون بعكسه فمعنى تقديم الفاعل على المفعول أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي وعدهم الله وعدا ثابتا على الله فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى فَاسْتَبْشِرُوا أي فافرحوا غاية الفرح بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي بجهادكم الذي فزتم به بالجنة وَذلِكَ أي الجنة التي هي ثمن بذل الأنفس والأموال هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) أي فلا فوز أعظم منه التَّائِبُونَ وهو رفع على المدح، أي هم التائبون من كل معصية كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود، وأبي، والأعمش «التائبين» بالياء إلى قوله تعالى: «والحافظين» إما نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين، ويجوز أن يكون التائبون رفعا على البدل من الواو في يقاتلون. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل باجتماع أربعة أمور: أولها: احتراق القلب عند صدور المعصية. ثانيها: الندم على ما مضى. ثالثها: العزم على الترك في المستقبل. رابعها: أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو لغرض آخر من الأغراض الدنيوية فليس بتائب، ولا بد من رد المظالم إلى أهلها إن كانت الْعابِدُونَ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الذين يريدون عبادة الله واجبة عليهم الْحامِدُونَ أي الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه دينا ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم السَّائِحُونَ أي الصائمون لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سياحة أمتي الصيام» «1» . وقال عكرمة: أي طلاب

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (8: 270) .

العلم فإنهم ينتقلون من بلد إلى بلد الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون الصلوات الخمس الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان والطاعة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عن الشرك والمعاصي وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي لتكاليف الله المتعلقة بالعبادات وبالمعاملات وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) الموصوفين بهذه الصفات بالجنة ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما جاز لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي ذوي قرابات لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) أي أهل النار بأن ماتوا على الكفر وسبب نزول هذه الآية استغفار ناس لآبائهم الذين ماتوا على الكفر. روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ قال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه! فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون يستغفرون لآبائهم المشركين حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي إلا لأجل موعدة وعدها إبراهيم إياه بقوله: لأستغفرن لك، أي لأطلبن مغفرة لك بالتوفيق للإيمان فإنه يمحو ما قبله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي إنه مستمر على الكفر ومات عليه تَبَرَّأَ مِنْهُ أي ترك الاستغفار له أي إن إبراهيم استغفر لأبيه ما كان حيا فلما مات أمسك عن الاستغفار له. وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: لما مرض أبو طالب أتاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال المسلمون: هذا محمد يستغفر لعمه وقد استغفر إبراهيم لأبيه فاستغفروا لقراباتهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم أنزل وما كان استغفار إبراهيم الآية. وروى ابن جرير عن عمرو بن دينار أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي» «1» ، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي لعمه، فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية إلى قوله تعالى تَبَرَّأَ مِنْهُ فظهر بهذه الأخبار أن الآية نزلت في استغفار المسلمين لأقاربهم المشركين لا في حق أبي طالب، لأن هذه السورة كلها مدنية نزلت بعد تبوك، وبينها وبين موت أبي طالب نحو اثني عشر سنة، وأيضا إن عم إبراهيم آزر كان يتخذ أصناما آلهة ولم ينقل عن أبي طالب أنه اتخذ أصناما آلهة وعبد حجرا أو نهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 9، وأحمد في (م 1/ ص 131) .

عبادة ربه وإنما هو ترك النطق بالشهادتين لخوف مسبة لا للعناد للإسلام، أو ترك بعض الواجبات ومع ذلك قلبه مشحون بتصديق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومثل هذا ناج في الآخرة على مقتضى ديننا فلا يليق بالحكمة، ولا بمحاسن الشريعة الغرّاء، ولا بقواعد الأثمة من أهل الكلام أن يكون هو وآزر- عم إبراهيم- في مرتبة واحدة فإن أبا طالب رباه صلّى الله عليه وسلّم صغيرا وآواه كبيرا، ونصّره وعزره، ووقره، وذب عنه، ومدحه، ووصى باتباعه. وأما ما روي أن عليا ضحك على المنبر ثم قال: ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا وأنا أصلي ببطن نخلة فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس ولكن والله لا يعلوني استي أبدا. فهذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلاة، وقد قرأ بأنه لا بأس بالتوحيد وإباؤه عن صلاة النفل لا يدل على إبائه عن التوحيد، ليس في حديث عمرو بن دينار السابق دلالة قطعية على شركه، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب» «1» فهذا يمكن أن يكون معناه أن إبراهيم استغفر لأبيه مع شركه فكيف لا أستغفر أنا لأبي طالب مع خطيئته دون الشرك فلا أزال أستغفر له حتى ينهاني عنه ربي ولم ينه صلّى الله عليه وسلّم بل نهى عن الاستغفار للمشركين لا لخصوص عمه كما صرح بهذا ما روي عن قتادة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سألوه عن الاستغفار لآبائهم فقال: «والله إني لأستغفرن لأبي- أي لعمي- كما استغفر إبراهيم لأبيه» . فأنزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن لا أستغفر لمن كان كافرا» «2» فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأستغفرن لأبي» ولم يقل: أمرت أن لا أستغفر له بل قال: «لمن مات مشركا» جواب لسؤال أصحابه مع إشارة خفية إلى أن عمه لم يكن مشركا والله أعلم. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي كثير الدعاء والتضرع حَلِيمٌ (114) أي صبور على المحنة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب أن يحترزوا عنه أي لما نزل المنع من الاستغفار للمشركين خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم منه قبل المنع وقد مات قوم منهم قبل النهي عن الاستغفار فوقع الخوف في قلوب المسلمين على من مات منهم أنه كيف يكون حالهم، فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يحترزوا عنه أي وما كان الله ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله حتى يبين لكم بالوحي ما يجب الاحتراز عنه من محظورات الدين فلا تنزجروا عما نهيتم عنه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) فيعلم حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فبين لهم ذلك إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 9، وأحمد في (م 1/ ص 131) . [.....] (2) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 283) .

له فيه يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي متولى الأمور. وَلا نَصِيرٍ (116) أي لما أمر الله بالبراءة من الكفار بين أن له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصرا لكم فهم لا يقدرون على إضراركم أي إنكم صرتم محرومين عن معاونتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم، والواجب عليكم أن تنقادوا لحكم الله وتكليفه لكونه إلهكم ولكونكم عبيدا له لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدا في السفر إلى تبوك وكانت لهم عسرة من الزاد وعسرة من الظهر، وعسرة من الحر، وعسرة من الماء فربما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وكان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكانوا قد خرجوا في قيظ شديد وأصابهم فيه عطش شديد حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه أي لقد عفى الله عن النبي في إذنه للمنافقين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو شيء صدر عنه من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وعفى الله عن المهاجرين والأنصار من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة كما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أي من بعد ما قرب أن تميل قلوب بعضهم إلى أن يفارق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الغزو لحر شديد ولم ترد الميل عن الدين وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منها ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي عفى الله عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية لما صبروا وندموا على ذلك الهم إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) فلا يحملوهم ما لا يطيقون من العبادة ويوصل إليهم المنافع وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا أي وتاب الله على الثلاثة الذين أخروا في قبول التوبة عن الطائفة الأولى ابن لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت الأرض عليهم مع سعتها بسبب مجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة لأن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان معرضا عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمرهم باعتزال أزواجهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوما وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت قلوبهم إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء بسبب تأخير أمرهم عن قبول التوبة وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا أنه لا ملجأ لأحد من سخطه تعالى إلا إليه بالتضرع ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي ثم وفقهم للتوبة الصحيحة المقبولة لِيَتُوبُوا أي ليحصلوا التوبة إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) ولما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر» قد أنزل الله عذر أصحابنا، فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشّرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتلا

[سورة التوبة (9) : الآيات 121 إلى 129]

عليهم ما نزل فيهم كعب: توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: «لا» . قلت: فنصفه. قال: «لا» . قلت: فثلثه. قال: «نعم» «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) أي مع الرسول وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا جالسين مع المنافقين في البيوت. وقرئ شاذة «من الصادقين» فعلى هذا ف «مع» بمعنى «من» ، أي كونوا ملازمين الصدق. روي أن واحدا جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر، والزنا، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اترك الكذب» فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد عليّ فتركها، ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فتاب عن الكل فعاد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أي ما جاز لأهل دار الهجرة ومن حولهم من سكان البوادي أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا دعاهم وأمرهم لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنفسه ذلِكَ أي وجوب المشايعة لرسول الله بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شدة عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طريق دينه وَلا يَطَؤُنَ أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف بعيرهم مَوْطِئاً أي دوسا يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي يغضبهم بذلك وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي شيئا منا لا أسرا أو قتلا أو هزيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ أي بكل واحد من الأمور الخمسة عَمَلٌ صالِحٌ مستوجب للثواب ومن قصد طاعة الله كان جميع حركاته وسكناته حسنات مكتوبة عند الله إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) أي لا يترك ثوابهم وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة أو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً كما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي ولا يجاوزون مسلكا في سيرهم إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق والسير في الذهاب والرجوع لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) أي ليجزيهم الله على أحسن أعمالهم وهو الواجب والمندوب دون المباح، أو ليجزيهم الله جزاء هو أحسن من

_ (1) رواه النسائي في كتاب الوصايا، باب: الوصية بالثلث، «بما معناه» .

أعمالهم وهو الثواب، فالأحسن صفة عملهم على المعنى الأول وصفة الجزاء على الثاني وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو وطلب علم فإنه يخل بأمر المعاش هذه الآية إما كلام لا تعلق له بالجهاد، وإما من بقية أحكام الجهاد فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) فعلى الأول يقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز، وليس حال النفقة كحال الجهاد معه صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له فهلا نفر من كل فرقة من فرق الساكنين في البلاد طائفة إلى إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا قومهم لكي يحذروا عقاب الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعلى هذا التقدير فيكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتعلم، لأنه يحدث كل وقت تكليف جديد أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجبا. وعلى الاحتمال الثاني يقال: إن النبي لما بالغ في الكشف عن عيون المنافقين في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المسلمون: والله لا نتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا عن سرية بعثها، فلما قدم الرسول المدينة من تبوك وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا النبي وحده في المدينة فنزلت هذه الآية فالمعنى لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا جميعا ويتركوا النبي بل يجب أن ينقسموا قسمين: طائفة تنفر إلى الجهاد وقهر الكفار، وطائفة تكون مع رسول الله لتعلم العلم والفقه في الدين لأن أحكام الشريعة كانت تتجدد شيئا بعد شيء، والماكثون يحفظون ما تجدد فإذا قدم الغزاة علموا ما تجدد في غيبتهم وبهذا الطريق يتم أمر الدين، والمعنى: فهلا نفر من كل فرقة من المقيمين مع رسول الله طائفة إلى جهاد العدو ليتفقه المقيمون في الدين بسبب ملازمتهم خدمة الرسول وليخبروا قومهم الخارجين إلى الجهاد إذا رجع الخارجون من جهادهم إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم لكي يحذروا معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي لما أمرهم الله بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصلح وهو أن يبدءوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة فإن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاتل أولا قومه، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب، ثم إلى قتال أهل الكتاب وهم قريظة والنضير وخيبر وفدك، ثم انتقل إلى غزو الروم والشام فكان فتحه في زمن الصحابة ثم إنهم انقلبوا إلى العراق وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة عظيمة وشجاعة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) أي معينهم بالنصرة على أعدائهم. والمراد أن يكون الإقدام على الجهاد بسبب تقوى الله، لا بسبب طلب المال والجاه وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من سور القرآن والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين مجلس نزولها وليس في السورة فضيحة لهم

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أي فمن المنافقين فريق يقول لأصحابه استهزاء بالقرآن والمؤمنين أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً قال تعالى تعيينا لحالهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء من عنده فَزادَتْهُمْ أي هذه السورة إِيماناً بانضمام إيمانهم بما فيها بإيمانهم السابق لأنهم يقرون عند نزولها بأنها حق من عند الله وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) بنزولها لما فيها من المنافع الدينية والدنيوية وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق وسوء عقيدة فَزادَتْهُمْ أي هذه السورة رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ عقيدة باطلة مضمومة إلى عقيدتهم الباطلة فإنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإنهم كانوا في العداوة واستنباط وجوه المكر، والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى فإن الأولى ازدياد الرجاسة وهذه مداومة الكفر وموتهم عليه أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون فالاستفهام للتوبيخ. وقرأ حمزة بالتاء على الخطاب للمؤمنين فالاستفهام للتعجيب أي ألا ينظرون ولا يرون أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي إنهم يبتلون بأفانين البليات مرارا كثيرة من المرض والجوع، ومن إظهار الفضيحة على نفاقهم وعلى تخلفهم من الغزو ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) بتلك الفتن الموجبة للتوبة. وقوله تعالى: ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وما بعده عطف على «لا يرون» داخل تحت الإنكار والتوبيخ على قراءة الجمهور، وعطف على «يفتنون» على قراءة الجمهور وعطف على قراءة حمزة. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها بيان حالهم وكانوا حاضرين مجلس نزولها نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي تغامزوا بالعيون يدبرون الهرب ليتخلصوا من تأذي سماعها يقولون بطريق الإشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين إن قمتم من المجلس ثُمَّ انْصَرَفُوا جميعا عن مجلس نزول الوحي خوفا من الافتضاح أو غير ذلك صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان وعن استماع القرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لسوء الفهم وعدم التدبر لَقَدْ جاءَكُمْ أيها العرب رَسُولٌ عظيم الشأن مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم بشر عربي قرشي مثلكم. وقرئ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. قيل: هذه قراءة فاطمة وعائشة رضي الله عنهما. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شاق شديد على هذا الرسول ما أثمتم فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ في إيمانكم وصلاح حالكم فهو شديد الرغبة على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة بِالْمُؤْمِنِينَ أي بجميعهم رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فهو تعالى شديد الرحمة بالطائعين منهم، مريد الإنعام على المذنبين فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرض هؤلاء المنافقون والكفار عن الإيمان والتوبة وناصبوك الحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي يكفيني

الله فهو ثقتي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا حافظ ولا ناصر إلا هو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي وثقت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ أي السرير الْعَظِيمِ (129) فإن جعل صفة للرب فمعنى العظمة هي وجوب الوجود والتقدس عن الحجمية والإجزاء وكمال العلم والقدرة والتنزه عن أن يتمثل في الأوهام وتصل إليه الأفهام، وإن جعل صفة للعرش فمعنى العظمة كبر الجرم واتساع الجوانب، ووجوب العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من أسلافهم أو من اليهود والنصارى.

سورة يونس

سورة يونس مكية، إلا قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فإنها مدنية لأنها نزلت في اليهود، مائة وتسع آيات، ألف وثمانمائة وإحدى وأربعون كلمة، سبعة آلاف وخمسمائة وواحد وتسعون حرفا الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أي تلك الآيات الحاصلة في سورة «الر» هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر. أَكانَ لِلنَّاسِ أي لأهل مكة عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا أي إيحاؤنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أي من أهل مكة أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي إنه أي الشأن قولنا أنذر الناس أي خوف جميع الناس كافة بالقرآن فإن أهل مكة كانوا يقولون: إن الله ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي بأن لهم منزلة رفيعة عند ربهم قالَ الْكافِرُونَ أي المتعجبون إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (2) . قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بصيغة اسم الفاعل أي إن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم قالوا متعجبين: إن هذا الذي يدّعي أنه رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ساحر ظاهر. والباقون «لسحر» بكسر السين وسكون الحاء أي إن هذا القرآن لكذب ظاهر، ووصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم القرآن عندهم من حيث تعذر عليهم فيه المعارضة فأرادوا بهذا الكلام أن القرآن كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة، وهذا ذم له. أو أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر وهذا مدح له وإنما لم يؤمنوا به عنادا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي مقدار ستة أيام معلومة ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو الجسم المحيط بسائر الأجسام. والمعنى ثم تصرف الله في ملكه وليس معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرض لأن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بدليل قوله تعالى وكان عرشه على الماء، بل المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات وهذا ملك الله تعالى إنما حصل بعد تخليق السموات

والأرض فصحّ إدخال حرف يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يقدر على الوجه الأكمل أمر ملكوت السموات والأرض ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي إن الله تعالى ينفرد في التدبير فإن تدبيره تعالى للأشياء لا يكون بشفاعة شفيع ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه تعالى ولا يدخل أحد في الوجود إلا بعد أن قال تعالى له: كن حتى كان ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فإن العبادة لا تصلح إلا له وهو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) فالتفكر في مخلوقات الله تعالى واجب، والاستدلال بها على عزته تعالى وعظمته وجلالته أعلى المراتب، إِلَيْهِ تعالى مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالبعث فلا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدكم الله بالرجوع إليه وعدا وحق ذلك الوعد حقا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثُمَّ يُعِيدُهُ من العدم بالبعث لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بعد لهم. والمراد به هنا الإيمان وهذا تنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة وإيصال الرحمة، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي ماء حار قد انتهى حره وَعَذابٌ أَلِيمٌ أي بالغ في الإيلام بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) أي بسبب كفرهم. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً أي الذي خلق الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نور فما بالذات ضوء وما بالعرض نور، فنور القمر مستفاد من الشمس وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي جعل للقمر وهيأ له منازل وهي ثمانية وعشرون منزلا، وأسماؤها: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرفة، والجبهة، والذبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. فينزل القمر كل ليلة في واحد منها على تقدير مستو من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخر منازل له دق واستقوس، ثم لا يرى ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما لِتَعْلَمُوا باعتبار نزول كل منهما في تلك المنازل عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب الأوقات فيمكنكم ترتيب مهمات المعاش من الزراعة والحراثة ومهمات الشتاء والصيف ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي المذكور من الشمس والقمر على تلك الأحوال إِلَّا بِالْحَقِّ أي الأعلى وفق الحكمة ومطابقة المصلحة في أمور المعاملات والعبادات يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يذكر هذه الدلائل الباهرة واحدا عقب آخر مع البيان لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها من الوحدانية، وكمال القدرة والعلم وفي قوله تعالى: يُفَصِّلُ قراءتان: قراءة ابن كثير، وأبو عمر وحفص عن عاصم بالياء. والباقون بالنون. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في تعاقبهما أو في

[سورة يونس (10) : الآيات 11 إلى 20]

تفاوتهما بازدياد وانتقاص، أو في تفاوتهما بحسب الأمكنة في الطول والقصر وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الموجودات لَآياتٍ دالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) وخصّ الله تعالى العلامات بالمتقين لأن الداعي إلى التدبير والنظر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يطمعون في ثوابنا لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي استغرقوا في طلب اللذات الجسمانية وَاطْمَأَنُّوا بِها أي سكنوا في الاشتغال بطلب لذات الدنيا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أي دلائل وحدانيتنا الظاهرة في الأكوان غافِلُونَ (7) أي لا يتفكرون فيها أصلا أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) أي من الأعمال القلبية ومن أنواع المعاصي والسيئات إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة فعينهم مشغولة بالاعتبار وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى ولسانهم مشغول بذكر الله وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) أي إنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي اشتغال أهل الجنة بتقديس الله تعالى وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام وتحية الملائكة لهم بالسلام وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) أي إن أهل الجنة لما عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات علموا أن كل هذه الأحوال السنية إنما كانت بإحسان الله تعالى عليهم، فاشتغلوا بالثناء على الله فقالوا: الحمد لله رب العالمين. وإنما وقع الختم على الحمد لأن الاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة، والمعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله ووجدوا فيها النعم العظيمة وعرفوا أنه تعالى كان صادقا في وعده إياهم بتلك النعم مجدوه تعالى ونعتوه بنعوت الجلال فقالوا: سبحانك اللهم، أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وعمّا لا يليق بحضرتك العلية، ولما حياهم الله والملائكة بالسلامة عن الآفات وبالفوز بأنواع الكرامات أثنوا عليه تعالى بصفات الإكرام. وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي ولو يعجل الله لهم العذاب عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم كشف الشدائد عند استعجالهم به لأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين. وقرأ ابن عامر «لقضى» بفتح القاف والضاد، و «أجلهم» بالنصب. وقرأ عبد الله، «لقضينا إليهم أجلهم» . فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) أي فنترك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء مع تمردهم في ضلالتهم يتحيرون في شأنهم وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا

لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ وهذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعا أو قاعدا أو قائما، مجتهدا في ذلك الدعاء طالبا من الله تعالى إزالة تلك المحنة، وتبديلها بالمنحة فإذا كشف الله تعالى عنه بالعافية أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره. فالواجب على العاقل أن يكون صابرا عند نزول البلاء شاكرا عند الفوز بالنعماء، وأن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء» «1» . كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) أي هكذا زين لمن بذل العقل والفهم والحواس لأجل لذات الدنيا، وهي خسيسة جدا في مقابلة سعادات الدار الآخرة ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر، والدعاء والانهماك في الشهوات، والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ أي الأمم مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبل زمانكم يا أهل مكة مثل قوم نوح وعاد وأشباههم لَمَّا ظَلَمُوا أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الدالة على صدقهم وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي وقد علم الله منهم أنهم يصرون على الكفر كَذلِكَ أي مثل الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) أي نجزي كل طائفة مجرمين لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم التي هي تكذيب الرسول ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أهل مكة خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاك أولئك القرون لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) أي لنعاملكم معاملة من يطلب العلم بما يكون منكم من خير أو شر فنجازيكم على حسب عملكم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي أهل مكة الوليد بن المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الحنظلة، آياتُنا الدالة على بطلان الشرك بَيِّناتٍ أي ظاهرة في دلالتها على وحدانيتنا وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يرجون في لقائنا خيرا على طاعة لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي بكتاب آخر على غير ترتيب هذا الكتاب أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان آية العذاب آية رحمة ومكان الحرام حلالا، ومكان الذم مدحا وإنما قالوا ذلك على سبيل السخرية كقولهم: لو جئتنا بقرآن آخر أو بدلت هذا القرآن لآمنا بك أو على سبيل التجربة حتى إنه صلّى الله عليه وسلّم لو فعل ذلك علموا أنه كذاب في قوله: إن هذا القرآن ينزل عليه من عند الله قُلْ لهم: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي ما يستقيم لي أن أغيره من قبل نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 544) .

أي ما أتبع في شيء مما أفعل وأترك إلا ما يوحى إليّ في القرآن من غير تغيير له في شيء أصلا إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالإعراض عن اتباع الوحي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) وهو يوم القيامة قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي قل يا أشرف الخلق للذين طلبوا منك تغيير القرآن: لو شاء الله عدم تلاوتي للقرآن عليكم بأن لم ينزله عليّ ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم وما أعلمكم به بواسطتي. وقرأ الحسن «ولا أدرؤكم به» أي ولا أجعلكم بتلاوته عليكم خصما تدرأونني بالجدال وتكذبونني. وقرأ ابن عباس «ولا أنذرتكم به» . وعن ابن كثير و «لأدراكم» بلام التأكيد التي تقع في جواب لو، أي ولأعلمكم به على لسان غيري فإنه حق لا محيص عنه ولو لم يرسلني الله به لأرسل غيري به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي فقد مكثت فيما بينكم مقدار أربعين سنة تحفظون أحوالي طرا مِنْ قَبْلِهِ أي قبل أن يوحى إليّ هذا القرآن لم آتكم بشيء أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) أي ألا تدبرون فلا تعقلون أن القرآن ليس من تلقاء نفسي، ووجه هذا الاحتجاج أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول عمره إلى ذلك الوقت وعلموا أحواله وأنه كان أميا لم يطالع كتابا ولم يتلمذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة جاءهم بهذا الكتاب المشتمل على نفائس العلوم وأخبار الماضين وفيه من الأحكام والأدب والفصاحة ما أعجز العلماء والفصحاء عن معارضته وكل من له عقل سليم يعلم أن هذا القرآن لا يحصل إلا بالوحي من الله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي إني لم أفتر على الله كذبا ولم أكذب عليه في قولي إن هذا القرآن من عند الله ولو لم يكن من عند الله بحيث افتريته على الله لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني فإذا أنكرتم ذلك فقد كذبتم بآيات الله فثبت كونكم أظلم الناس على أنفسكم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) أي لا ينجو من عذاب الله المشركون وَيَعْبُدُونَ أي هؤلاء المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ في الدنيا والآخرة وَلا يَنْفَعُهُمْ فيهما وهو الأصنام كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون عزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أي فإنهم يزعمون أنهم تشفع لهم في الدنيا في إصلاح معايشهم لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثا بعد الموت أو تشفع لهم في الآخرة أن يبعثوا لأنهم كانوا شاكين في البعث قُلْ تبكيتا لهم: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي أتخبرون الله بالذي لم يعلمه الله- وهو شفاعة الأصنام- وإذا لم يعلم الله شيئا استحال وجود ذلك الشيء لأنه تعالى لا يعزب عن علمه شيء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) أي عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاء لهم عند الله. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بالتاء على الخطاب وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً

[سورة يونس (10) : الآيات 21 إلى 30]

أي كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قتل قابيل هابيل فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على دين الإسلام وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده وإن كانوا كافرين لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، ولما كان ذلك سببا لزوال التكليف وكان إبقاؤه أصلح أخر الله العقاب إلى الآخرة فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) أي في الدين الذي اختلفوا بسببه وَيَقُولُونَ أي كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي هلا أنزل الله على محمد عليه السلام آيَةٌ أخرى سوى القرآن مِنْ رَبِّهِ دالة على صدق ما يقول كما كان لصالح من الناقة، ولموسى من العصا فَقُلْ لهم في الجواب: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي إن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة، وعلقتم إيمانكم بنزوله هو من الغيوب المختصة بالله تعالى لا علم لي به فَانْتَظِرُوا نزوله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) لما يفعل الله بكم لاجترائكم على جحود الآيات القرآنية واقتراح غيرها. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي إن مشركي أهل مكة عادتهم اللجاج والعناد لأنه تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون، فأنزل الله الأمطار النافعة على أراضيهم حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو الأصنام، وإذا كان كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوا من إنزال ما اقترحوه فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي إن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر فالله تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو إهلاكهم يوم بدر، وحصول الفضيحة، والخزي في الدنيا، وعذاب شديد يوم القيامة. ومعنى الوصف بالأسرعية أنه تعالى قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم، والمكر من الله تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر أي إخفاء الكيد إِنَّ رُسُلَنا الذين يحفظون أعمالكم يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) أي مكركم. ويعرض عليكم ما في بواطنكم الخبيثة يوم القيامة هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ مشاة وركبانا وَالْبَحْرِ. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بنون ساكنة فشين معجمة مضمومة أي يبسطكم حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي السفن وَجَرَيْنَ أي السفن بِهِمْ أي بالذين فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ موافقة للمقصود وَفَرِحُوا بِها أي بتلك الريح فرحا تاما جاءَتْها أي تلقت تلك الريح الطيبة رِيحٌ عاصِفٌ أي شديد أزعجت سفينتهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ العظيم الذي أرجف قلوبهم مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي ناحية وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي ظنوا القرب من الهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي من غير أن يشركوا معه تعالى شيئا من آلهتهم، أي وهم مقرون بوحدانية الله وربوبيته لأجل علمهم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى فيكون إيمانهم جاريا مجرى الإيمان الاضطراري قائلين: والله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) لنعمك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ من هذه البلية العظيمة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يترقون في الفساد والجراءة على الله تعالى بالكفر والمعاصي يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا.

قرأ الأكثرون: «متاع» بالرفع «فبغيكم» مبتدأ و «متاع» خبره، أو «على أنفسكم» خبره، و «متاع» خبر محذوف، أي إن ظلم بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا وهي مدة حياتكم لا بقاء لها، أو أن الظلم لبعضكم كائن عليكم في الحقيقة لا على الذين تظلمون عليهم وهو منفعة سريعة الزوال. وقرأ حفص عن عاصم بنصب متاع على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر، أي تتمتعون متاع أو مصدر وقع موقع الحال أي متمتعين بالحياة الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ بعد الموت فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) في الدنيا من البغي أي قصد الاستعلاء بالظلم فنجازيكم على أعمالكم إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي لأنه إذا نزل المطر يثبت بسببه أنواع كثيرة من النبات وتكون تلك الأنواع مختلطة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من البقول والزروع والحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي حتى إذا جعلت الأرض آخذة لباسها من كل نبات وَازَّيَّنَتْ بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض وَظَنَّ أَهْلُها أي أهل النبات الموجودة في الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي على تحصيل ثماره وعلى حصاده أَتاها أي نبات الأرض أَمْرُنا بهلاكنا بنار أو برد أو ريح لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها أي نبات الأرض حَصِيداً أي شبيها بالمقلوع فلا شيء على الأرض كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أي كأن تلك النباتات لم تكن قائمة على ظهر الأرض في الزمن الماضي. والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء مثل النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه بالهلاك، والمتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها. كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبين الآيات القرآنية في فناء الدنيا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) ويقفون على معانيها وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثلي ومثلكم شبه سيد بني دارا ووضع مائدة وأرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد» «1» . فالله السيد والدارين الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق- إلا الثقلين- أيها الناس. هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام» «2» . وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) أي إجابة تلك الدعوة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي

_ (1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والدارمي في المقدمة، باب: صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الكتب قبل مبعثه. (2) رواه المنذري في الترغيب والترهيب (2: 49) .

[سورة يونس (10) : الآيات 31 إلى 40]

أتوا بالمأمور به واجتنبوا المنهيات الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أي نضرة الوجوه ورؤية الله تعالى. وعن ابن عباس: أن الحسنى هي الحسنة والزيادة عشر أمثالها. وعن علي: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة وَلا يَرْهَقُ أي لا يعلو وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي سواد وَلا ذِلَّةٌ أي أثر هوان أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) أي دائمون بلا انتقال وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الكفر والمعاصي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها من غير زيادة بعدل الله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي ويعلو أنفسهم ذلة عظيمة ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم عاصم من عذاب الله كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أي كأن الوجوه ألبست سوادا من الليل لفرط سوادها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي نحشر الكل حال اجتماعهم لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي نقول للمشركين من بينهم: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ أي الزموا أنتم ومن عبدتموه من دون الله مكانكم حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فباعدنا بين المشركين ومعبوداتهم بعد الجمع في الموقف، وتبرأ شركاؤهم منهم ومن عبادتهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ لهؤلاء المشركين ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) بأمرنا وإرادتنا إنما كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم الذين أغووكم فإنها الآمرة لكم بالإشراك فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) أي إنا كنا عن عبادتكم لجاهلين لا نعلمها ولا نرضى بها هُنالِكَ أي في ذلك المقام أو في ذلك الوقت تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ بالتاء، فالباء على القراءة المشهورة أي تذوق كل نفس سعيدة أو شقية ما قدمت من عمل فتعلم نفعه وضره. وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» بتاءين أي تقرأ كل نفس في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر أو تتبع ما أسلفت، لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. وقرأ عاصم «نبلو كل نفس» بالنون والباء ونصب «كل» ، أي نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل، أي نفعل بها فعل المختبر، أو المعنى نصيب بالبلاء- الذي هو العذاب- كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي أعرض الذين أشركوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق وأقروا بألوهيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، وردوا إلى حكمه وَضَلَّ عَنْهُمْ أي ضاع عنهم في الموقف ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) أي يدعون أن معبوداتهم آلهة وأنها تشفع لهم قُلْ لأولئك المشركين: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي رزقا مبتدأ منهما أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي بل من يستطيع خلق الأسماع والأبصار ومن يحفظهما من الآفات. وعن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي ومن يقدر أن يخرج الإنسان من

النطفة، والطائر من البيضة، وأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي من يدبر أحوال العالم جميعا فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي إن الرسول إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال كانوا يعرفون الله وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام: إنها تقربنا إلى الله وإنها تشفع عند الله وكانوا يعلمون أنها لا تنفع ولا تضر، فعند ذلك قال الله تعالى لرسوله فَقُلْ عند ذلك تبكيتا لهم أَفَلا تَتَّقُونَ (31) أي أتعلمون ذلك فلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في العبودية مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وبأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة فَذلِكُمُ اللَّهُ أي فمن هذه قدرته ورحمته هو الله رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي الثابت ربوبيته ثباتا لا ريب فيه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي ليس غير الحق إلا الضلال أي فإذا ثبت أن عبادة الله حق ثبت أن عبادة غيره من الأصنام ضلال محض إذ لا واسطة بينهما فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) أي فكيف تمالون من التوحيد إلى الإشراك وعبادة الأصنام كَذلِكَ أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن حد الصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) بدل من كلمة بدل كل من كل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي هل من الأصنام التي أثبتم شركتها لله في استحقاق العبادة مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئ المخلوقات من العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ في القيامة للجزاء ولما لم يقدروا على الجواب أمر الله رسوله أن ينوب عنهم في الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) أي فكيف تقبلون من الحق إلى الباطل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي إلى ما فيه صلاح أمركم فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعابديه إلى ذلك قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ دون غيره وذلك بنصب الأدلة وإرسال الرسال وإنزال الكتب وبالتوفيق للنظر أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله تعالى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أي حقيق أن يطاع ويعبد أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أي أم من لا ينتقل إلى مكان إلا أن ينقل إليه لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة، أو المعنى أم من لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام. وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع «أم من لا يهدي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. وقرأ عاصم وحفص بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال. وقرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء. وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» ساكنة الهاء. فَما لَكُمْ أي أيّ شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله شركاء وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم إلا ظنا واهيا أما بعضهم فقد يتبعون العلم فيقفون على بطلان الشرك لكن لا يقبلون العلم عنادا، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ أي عن العلم شَيْئاً من

[سورة يونس (10) : الآيات 41 إلى 50]

الإغناء في العقائد إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) من الاتباع للظنون الفاسدة والإعراض عن البراهين القاطعة وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وما صح أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الحجج الناطقة ببطلان الشرك وحقية التوحيد مفترى من الخلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولكن القرآن تصديق الذي قبله من الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء قبله وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وتفصيل جميع العلوم العقلي والنقلي الذي يمتنع حصوله في سائر الكتب لا رَيْبَ فِيهِ أي منتفيا عنه الريب مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أي كائنا من رب العالمين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أيقرون بالقرآن بل يقول كفار مكة اختلق محمد صلّى الله عليه وسلّم القرآن من تلقاء نفسه قُلْ لهم إظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي إن كان الأمر كما تقولون فأتوا بسورة مثل القرآن في الفصاحة وحسن الصياغة، وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، وأشد تمرنا مني في النظم والعبارة وَادْعُوا للمعاونة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من سائر خلق الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) في أني افتريته بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي بل كذبوا بما لم يدرك علمهم به مسرعين في ذلك من غير أن يتدبروا فيه ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه كَذلِكَ أي مثل ذلك التكذيب من غير تدبر كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) فإنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم وَمِنْهُمْ أي ومن هؤلاء المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي القرآن عند الإحاطة بعلمه أي إما يعتقد بحقية القرآن فقط بأن يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، وإما سيؤمن به ويتوب عن الكفر وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي بأن لا يصدق به في نفسه لفرط غباوته أو لسخافة عقله وعجزه عن تخليص علوم عن مخالطة الظنون أو بأن يموت على كفره وهم المستمرون على اتباع الظن من غير انقياد للحق وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) أي بالمصرين على الكفر من المعاندين والشاكين وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة بالتحدي فَقُلْ لهم: لِي عَمَلِي من الإيمان وجزاء ثوابه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ من الشرك وجزاء عقابه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعلمكم وَمِنْهُمْ أي من هؤلاء المشركين مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ عند قراءتك القرآن وتعليمك الشرائع أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي أأنت تقدر على إسماع الصم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أي من يعاين دلائل صدقك أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ أي أعقب ذلك أنت تهديهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) أي لا يستبصرون بقلوبهم ولا يعتبرون إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أي بسبب حواسهم وعقولهم وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) بإفساد الحواس والعقول وتفويت منافعها عليها فإن الفعل منسوب إليهم::

[سورة يونس (10) : الآيات 51 إلى 60]

بسبب الكسب، وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون ظلما منه تعالى لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالما وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي وأنذر المشركين المنكرين للعبث يوم يحشرهم في الموقف مشبهين من لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا مقدار ساعة من النهار فإن عاقبة الكافر خالصة مقرونة بالإهانة، ولذات الدنيا مع خساستها لم تكن خالصة بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات وكانت لم تحصل إلا في بعض الأوقات، أما آلام الآخرة فهي سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود، فمتى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يوبخ بعضهم بعضا فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) أي قد هلكوا بتكذيبهم بالبعث بعد الموت، وضلوا وما كانوا عارفين لطريق النجاة وهذه شهادة من الله تعالى على خسرانهم وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي وإن أريناك بعض العذاب الذي نعدهم به بأن نعجله لهم في حياتك في الدنيا فتراه، وإن توفيناك قبل نزول العذاب بهم فإنك ستراه في الآخرة لأن العذاب لا يفوتهم بل ننزله بهم في الآخرة ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) أي ثم الله معاقب على ما يفعلونه. وقرئ ثمة أي هناك وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغهم ما أرسل إليهم، فكذبه بعضهم وصدقه بعضهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، أي فصل بينهم وحكم بهلاك المكذبين وبنجاة الرسول ومن صدقه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) في ذلك القضاء بتعذيبهم لأنه بجرمهم وَيَقُولُونَ أي قال: كل أهل دين لرسولهم على وجه التكذيب للرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا بنزول العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) في أنه يأتينا قُلْ يا أشرف الخلق لقومك الذين استعجلوا نزول العذاب على طريقة الاستهزاء به والإنكار لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا أقدر على دفع ضر ولا جلب نفع لنفسي إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي وقت معين خاص بهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي وقت هلاكهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل ساعَةً أي شيئا قليلا من الزمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) عليه قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أي قل للذين يستعجلون العذاب أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم وقت اشتغالكم بالنوم أو عند اشتغالكم بمشاغلكم أي شيء تستعجلون من عذاب الله وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي أبعد ما وقع العذاب بكم حقيقة::

آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان آلْآنَ تؤمنون بالعذاب وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ أي بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ (51) أي تكذبون فإن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار ثُمَّ قِيلَ يوم القيامة على لسان ملائكة العذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا الكفر والتكذيب موضع الإيمان والتصديق ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي، وهذا استثناء مفرغ والجار والمجرور مفعول ثان «لتجزون» والأول قائم مقام الفعل. تنبيه: أين ما ذكر الله تعالى العذاب ذكر هذه العلة كأن سائلا يقول: يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد؟ فهو تعالى يقول: ما أنا عاملته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك يا أشرف الخلق- والقائل حيي بن أخطب- لما قدم مكة بطريق الاستهزاء والإنكار: أَحَقٌّ هُوَ أي ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا، وما تعدنا من البعث والقيامة. قُلْ لهم في الجواب هذه الأمور الثلاثة غير ملتفت إلى استهزائهم: إِي وَرَبِّي ف «إي» من حروف الجواب بمعنى «نعم» في القسم خاصة كما أن «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة. إِنَّهُ أي العذاب الموعود لَحَقٌّ أي لثابت وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ وهو لا حق بكم بالشرك أو غيره من أنواع الظلم ولو مرة ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا من الأموال لَافْتَدَتْ بِهِ أي لفادت بما في الدنيا نفسها من عذاب الله وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي أخفوا الندامة على ترك الإيمان حين عاينوا العذاب فلم يقدروا على أن ينطقوا بشيء لشدة الأهوال وفظاعة الحال وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الظالمين بالشرك وغيره بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ أي الظالمون لا يُظْلَمُونَ (54) فيما فعل بهم من العذاب أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما وجد فيهما أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن جميع ما وعد الله به ثابت لا بد أن يقع، ووعده تعالى مطابق للواقع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) أي غافلون عن هذه الدلائل هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) بعد الموت للجزاء يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) أي قد جاءكم كتاب فيه بيان ما ينفع المكلف وما يضره ودواء للقلوب وهدي إلى الحق ورحمة للمؤمنين بإنجائهم من الضلال إلى نور الإيمان وتخلصهم من دركات النيران إلى درجات الجنان. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير الظاهر عمّا لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الباطن عن العقائد الفاسدة، والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدي إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة إشارة إلى بلوغ الكمال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أي فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله. قال الصديقون::::

[سورة يونس (10) : الآيات 61 إلى 70]

من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك، أما من فرح بنعمة الله من حيث إنّها من الله كان فرحه بالله وذلك غاية الكمال ونهاية السعادة. وقال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. هُوَ أي المذكور من فضل الله ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) من الدنيا لأن الآخرة أبقى. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب، وأما «فليفرحوا» فبالياء التحتية عند السبعة ولا يقرؤه بالتاء الفوقية إلا يعقوب من العشرة كما هو مروي عن زيد بن ثابت. والمعنى فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي الذي خلقه الله لكم من حرث وأنعام فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي فحكمتم بأن بعض الرزق حرام وبعضه حلال مع كون كله حلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فقل تأكيد الأمر بالاستخبار أي أخبروني الله أمركم بذلك الحكم فأنتم ممتثلون بأمره تعالى؟ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) أي أم لم يأذن لكم في ذلك بل على الله تكذبون بنسبة ذلك إليه وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي أيّ شيء ظنهم يوم عرض الأفعال والأقوال أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون! كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإمهالهم على سوء أفعالهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) تلك النعم فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله تعالى ولا ينتفعون باستماع كتب الله وَما تَكُونُ يا أشرف الخلق فِي شَأْنٍ أي أمر من أمور الدنيا وَما تَتْلُوا مِنْهُ أي الشأن مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي أيّ عمل كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ أي تشرعون فِيهِ أي في ذلك المذكور وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي ولا يغيب عن علم ربك ما يساوي في الثقل نملة صغيرة أو هباء في دائرة الوجود. وقرأ الكسائي بكسر الزاي وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ أي الذرة وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أي في لوح محفوظ. وقرأ حمزة بالرفع على الابتداء والخبر. والباقون بالنصب على أن لا نافية للجنس وما بعدها اسمها وخبرها أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدارين من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) من فوات مطلوب الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما جاء من عند الله تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) والتقوى هنا التجنب عن كل إثم والتنزه عن كل ما يشغل السر عن الله تعالى والتبتل إليه تعالى بالكلية وهذا تفسير للأولياءهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ فالبشرى في الدنيا محبة الناس لهم وذكرهم إياهم بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، وبشرى الملائكة لهم عند الموت وفي الآخرة تلقى الملائكة إياهم مبشرين بالفوز والكرامة، وبياض::::

[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 80]

الوجوه، وإعطاء الصحف بأيمانهم وما يقرءون منها ومن غير ذلك من البشارات تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا خلف في أقواله لِكَ أي حصول البشرى لهم في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) الذي لا فوز وراءه وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي لا تحزن بما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إن القوة لله جميعا فهو يعصمك منهم وينصرك عليهم حتى تكون أقوى منهم هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أي يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافؤهم بذلك أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين، وإذا كان هؤلاء في ملكه تعالى فالجمادات أحق أن لا تكون شركاء له تعالى وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي وما يتبع الذين يعبدون من دون الله آلهة شركاء ف «آلهة» مفعول «يدعون» و «شركاء» مفعول «يتبع» إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي إن المشركين ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئا ظنوه شريكا لله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) أي ما هم إلا يكذبون فيما ينسبونه إليه تعالى ويقدرون أن معبوداتهم شركاء تقديرا باطلا هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي هو الذي صيّر لكم الليل لتستريحوا فيه من تعب النهار والنهار مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم بالإبصار ولتتحركوا فيه لمعاشكم إِنَّ فِي ذلِكَ أي الجعل لَآياتٍ أي لعبرات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) مواعظ القرآن فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المنفرد بالوحدانية في الوجود قالُوا أي كفار مكة: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ قال تعالى ذلك تنزيها لنفسه عما نسبوه إليه وتعجيبا من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء في كل شيء لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من ناطق وصامت ملكا وخلقا إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم حجة بهذا القول الباطل أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) أي أتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز نسبته إليه تعالى جهلا منكم قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) أي لا يصلون إلى مقاصدهم وكل من قال في ذات الله تعالى وصفاته قولا بغير علم، وبغير حجة بينة كان داخلا في هذا الوعيد مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أي حياتهم متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله، وعند هذا الرجوع لا بد وأن يذيقهم الله العذاب الشديد بسبب كونهم كافرين فأين هم من الفلاح؟ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي المشركين نَبَأَ نُوحٍ أي خبره مع قومه الذين هم أشباه قومك في العناد ليصير داعيا إلى مفارقة الإنكار للتوحيد والنبوة إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم بنو قابيل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي ثقل عَلَيْكُمْ مَقامِي أي مكثي فيكم مدة طويلة وَتَذْكِيرِي أي وعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ أي بحجته فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي فوضت أمري

إلى الله فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي فاعزموا على أمركم الذي تريدون بي من السعي في إهلاكي وَشُرَكاءَكُمْ أي وادعوا من يشاركونكم في الدين والقول، أو ادعوا أوثانكم التي سميتموها بالآلهة وتقدير «ادعوا» هو كما في مصحف أبي، ويصح أن يكون و «شركاءكم» مفعولا معه من الضمير في «فأجمعوا» . وقرأه الحسن وجماعة من القراء بالرفع عطفا عليه ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي خفيا. وليكن ظاهرا ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي ونفذوه إليّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) أي لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي إن أعرضتم عن نصيحتي فلا ضير علي لأني ما سألتكم بمقابلة وعظي من أجر تؤدونه إليّ حتى يؤدي ذلك إلى إعراضكم إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى يثيبني به آمنتم أو توليتم وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) أي وإني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة فَكَذَّبُوهُ أي استمروا على تكذيب نوح بعد ما بين لهم المحجة فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أي السفينة من المسلمين من الغرق وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة وَجَعَلْناهُمْ أي أصحاب نوح خَلائِفَ من الهالكين بالغرق فيسكنون في الأرض وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) أي كيف صار آخر أمر الذين أنذرتهم الرسل فلم يؤمنوا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ كان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فجاء كل رسول قومه المخصوصين بالمعجزات الدالة على صدق ما قالوا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي فما كانوا ليصدقوا بما كذبوا به من أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة. ودعوا أممهم إليها من قبل مجيء رسلهم أي كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) أي المتجاوزين عن الحدود في كل زمن ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أولئك الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي وأشراف قومه بِآياتِنا أي التسع: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين، وطمس الأموال، فَاسْتَكْبَرُوا أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما أي ادعوا الكبر من غير استحقاق وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) أي دوي آثام عظام فلذلك اجترءوا على الاستهانة برسالة الله تعالى فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو العصا واليد البيضاء قالُوا من فرط عنادهم إِنَّ هذا أي الذي جاء به موسى لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) أي ظاهر يعرفه كل أحد قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ ما تقولون من أنه سحر أَسِحْرٌ هذا أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) أي والحال أنه لا يفلح فاعلو السحر وهذه جملة حالية من الواو في أتقولون قالُوا لموسى وهارون عاجزين عن المحاجة أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي من عبادة الأصنام

[سورة يونس (10) : الآيات 81 إلى 90]

مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج 1، ص: 493 وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك والعز فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) أي بمصدقين وَقالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) بفنون السحر حاذق فيه. وقرأ حمزة والكسائي سحار فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ أي فأتوا بالسحرة قالوا لموسى: إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) أي ما معكم من الحبال والعصي فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم واسترهبوا الناس قالَ لهم مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به هو السحر أي التمويه الذي يظهر بطلانه لا ما سماه فرعون وقومه سحرا فهو من آيات الله تعالى. وقرأ أبو عمرو «السحر» بهمزة الاستفهام بإبدال الهمزة الثانية ألفا ومدها مدا لازما أو بتسهيلها من غير قلب وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى، والمعنى الذي جئتم به أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام وجه التحقير والتوبيخ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه بالكلية ويظهر فضيحة صاحبه للناس والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) أي لا يكمله وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يظهره ويقويه بِكَلِماتِهِ أي بوعده لموسى وقضائه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) ذلك فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي مع خوف من فرعون لأنه كان شديد البطش وخوف على رؤساء الذرية فإن أشراف بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من إجابة موسى خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن الإيمان بتسليط أنواع العذاب عليهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) أي المجاوزين الحد بكثرة القتل والتعذيب لمن يخالفه في أمره من الأمور، وبالكبر حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء وَقالَ مُوسى لمن آمن به يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ولا تخافوا أحدا غيره إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) أي منقادين لأمره تعالى. قال الفقهاء: الشرط المتأخر يجب أن يكون متقدما، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا فمجموع قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق مشروط بقوله: إن كلمت زيدا، والمشروط متأخر عن الشرط، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا التعليق قبل أن كلمت المرأة زيدا لم يقع الطلاق فقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك، لأن الإسلام هو

الانقياد لتكاليف الله وترك التمرد، والإيمان هو معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه محدث تحت تصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى فَقالُوا مجيبين له عليه السلام: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ولا نلتفت إلى أحد سواه، ثم دعوا ربهم قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) أي لا تجعلنا مفتونين لهم أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) أي خلصنا برحمتك من أيدي فرعون وقومه ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اجعلا بمصر بيوتا لقومكما ومرجعا ترجعون إليه للعبادة وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مصلى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ في بيوتكم إن موسى ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم لئلا يظهروا على الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة على هذه الحالة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) بالنصر في الدنيا وبالجنة في العقبى وخصّ الله تعالى موسى بالبشارة، لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تبع له. وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أي أشراف قومه زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها. وَأَمْوالًا كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعا عليهم بلفظ الأمر. والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ. قال ابن عباس: بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا وجعل سكرهم حجارة وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على «ليضلوا» حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) وإذا دعا موسى عليهم بهذا الدعاء لما علم أن سابق قضاء الله وقدره فيهم أنهم لا يؤمنون فوافق دعاء موسى ما قدر وقضى عليهم. قالَ الله لموسى وهارون: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فموسى كان يدعو هارون كان يؤمن والتأمين دعاء، وحصول المدعو به بعد أربعين سنة لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة فَاسْتَقِيما أي فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالمصالح والحكم، أي ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابا كان المقصود حاصلا في الحال، والاستعجال وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي جعلناهم مجاوزين بحر السويس بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. قال أهل التفسير: اجتمع يعقوب وبنوه على يوسف وهم اثنان وتسعون، وخرج بنوه مع

[سورة يونس (10) : الآيات 91 إلى 100]

موسى من مصر وهم ستمائة ألف، وذلك لما أجاب الله دعاء موسى وهارون أمرهما بالخروج ببني إسرائيل من مصر فخرجوا، وقد كان فرعون غافلا عن ذلك، فلما سمع بخروجهم خرج بجنوده في طلبهم فلما أدركهم قالوا لموسى: أين المخلص والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق، فقطعه موسى وبنو إسرائيل، فلحقهم فرعون وكان على حصان أدهم، وكان معه ثمانية آلاف حصان على لون حصانه سوى سائر الألوان، وكان يقدمهم جبريل على فرس أنثى وميكائيل يسوقهم حتى لا يشذ منهم أحد، فدنا جبريل بفرسه فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يتمالك فرعون من أمره شيئا فنزل البحر وتبعه جنوده حتى إذا اكتملوا جميعا في البحر وهمّ أولهم بالخروج انطبق البحر عليهم فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً أي مفرطين في محبة قتلهم ومجاوزين الحد حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي بأن الشأن لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) أي الذين أسلموا نفوسهم لله فقال له جبريل: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) أي آلآن تؤمن وتتوب وقد صنعت التوبة في وقتها، وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، وقد كنت من الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان، ولم يقبل ذلك من فرعون لأنه إنما آمن عند نزول العذاب وإنما أقر بعزة الربوبية ووحدانية الله تعالى ولم يقر بنبوة موسى ولأن ذلك الإقرار كان مبينا على محض التقليد وهو كان دهريا منكرا لوجود الصانع، وإنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك على نجوة من الأرض وهي المكان المرتفع بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها. وقرئ «ننجيك» بالحاء أي نلقيك بناحية الساحل لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل إذ قالوا: ما مات فرعون وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم ولما حصل في قلوبهم من الرعب من أجله فأمر البحر فألقاه على الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور فرآه بنو إسرائيل فعرفوه، وقرئ «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم نكالا من الطغيان، وقرئ «لمن خلفك» بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته فإن إفراده تعالى إياك بالإلقاء إلى الساحل لإبطال دعوى ألوهيتك لأن الإله لا يموت وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) أي لا يتفكرون فيها وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أسكناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر بلاد البركة والخصب، وأورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي حتى قرءوا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فيميز المحق من المبطل، والصديق من الزنديق فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ أي القرآن مِنْ رَبِّكَ في خبر الأولين فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) أي

الشاكين وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) أنفسا وأعمالا وهذا كله خطاب للنبي ظاهر، أو المراد به غيره ممن عنده شك، ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه يوجه الخطاب على ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرا في قلوبهم. وقيل: هذا الخطاب ليس مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره، الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وهم عبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي ثبت عليهم حكمه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار لا يُؤْمِنُونَ (96) أبدا إذ لا كذب في كلامه وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ أي ولو جاءتهم الدلالة التي لا حصر لها لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) كدأب آل فرعون وأشباههم فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. قال أبو مالك صاحب ابن عباس: كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر «لولا» فمعناه هلا إلا حرفين فلولا كانت قرية آمنت فمعناه فما كانت قرية آمنت فلولا كان من القرون من قبلكم فمعناه فما كان من القرون وتقدير الآية فما كان أهل قرية آمنوا فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس لما آمنوا أول ما رأوا أمارة العذاب صرفنا عنهم العذاب في الحياة الدنيا وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد صرف العذاب عنهم إِلى حِينٍ (98) أي إلى وقت انقضاء آجالهم. روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم: إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود هائل فظهر منه دخان شديد، وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة، وسوّد سطوحهم، فخرجوا إلى الصحراء، وفرقوا بين النساء وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات، وكثرت التضرعات، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم، وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وخرج يونس ينتظر العذاب فلم ير شيئا فقيل له: ارجع إلى قومك. قال: وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا وكان كل من كذب ولا بينة له قتل فانصرف عنهم مغاضبا فالتقمه الحوت وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان لا

[سورة يونس (10) : الآيات 101 إلى 109]

يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ على ما لم يشأ الله منهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) أي لا قدرة لك على التصرف في أحد وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما يتأتى لنفس واحدة أن يقع بها إيمان في وقت ما إلا بإرادة الله وبإقداره عليه وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) أي الذين لا يستعملون عقولهم بالنظر في الدلائل والمضارع بمعنى الماضي وهو معطوف على مقدر، والتقدير فأذن الله لبعضهم في الإيمان وجعل الكفر لبعض آخر قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قل يا أشرف الخلق مخاطبا لأهل مكة: تفكروا أيّ شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنع الله الدالة على وحدته وكمال قدرته وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) وما تنفع الدلائل السماوية والأرضية والرسل المنذرون عن قوم لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي فما ينتظر المشركون إلا عذابا مثل عذاب الأمم الماضية من الكفار قُلْ فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) لذلك ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا أي أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا لأن العذاب لا ينزل إلا على الكفار كَذلِكَ أي مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومن آمن بهم حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) بك يا أشرف الخلق من كل شدة وعذاب وجب ذلك علينا وجوبا بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق، لأن العبد لا يستحق على خالقه شيئا قُلْ لجمهور المشركين: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أدعوكم إليه، أي إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في وقت من الأوقات وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) بما دل عليه العقل ونطق به الوحي وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي وأمرت بتوجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين وبالاستقامة في الدين بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح وباستقبال القبلة في الصلاة حَنِيفاً أي مائلا إلى الدين ميلا كليا معرضا عمّا سواه إعراضا كليا فقوله: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان. وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) أي وأمرت بأن لا ألتفت إلى غير ذلك الدين فمن عرف مولاه والتفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك الالتفات شركا هذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تعبد من غير الله ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فلا نافع إلا الله ولا ضار إلا الله، ولا حكم إلا لله، ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله وهذه الجملة عطف على جملة الأمر وهي أقم فتكون داخلة في صلة أن المصدرية فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) أي لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الواضعين للشيء في غير موضعه وطلب الشبع من الأكل،

والري من الشرب لا يقدح في الإخلاص لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله لذلك لا يكون منافيا للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الله فحينئذ يرى ما سوى الله عدما محضا بحسب أنفسها ويرى نور وجوده تعالى وفيض إحسانه عاليا على الكل وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي إن يصبك بضر كمرض وفقر فَلا كاشِفَ لَهُ أي فلا رافع لذلك الضر إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي وإن يرد أن يصيبك بخير فلا دافع لعطيته الذي أرادك به ولم يستثن الله تعالى مع الإرادة، لأن إرادة الله تعالى قديمة لا تتغير بخلاف مس الضر فإنه صفة فعل. قال الرازي: وتقديم الإنسان في اللفظ وهو المشار إليه بالخطاب دليل على أن المقصود هو الإنسان أما سائر الخيرات فهي مخلوقة لأجله يُصِيبُ بِهِ أي يخص بالفضل الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممن كان أهلا لذلك وَهُوَ الْغَفُورُ أي البالغ الستر للذنوب الرَّحِيمُ (107) أي البالغ في الإكرام قُلْ مخاطبا لأولئك الكفرة لأجل أن تنقطع معذرتهم يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان به فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمنفعة اهتدائه لها خاصة وَمَنْ ضَلَّ بالإعراض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال الضلال مقصور على نفسه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير فلا يجب على السعي في إيصالكم إلى الثواب وفي تخليصكم من العذاب وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ أي يؤمر لك في القرآن من تبليغ الرسالة وَاصْبِرْ على ما يطرأ عليك من مشاق التبليغ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالأمر بالقتال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) فحكم بالجهاد وبالجزية على أهل الكتاب وأنشد بعضهم في الصبر شعرا فقال: سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر

سورة هود

سورة هود مكية، مائة وثلاث وعشرون آية، ألف وتسعمائة وسبع وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وتسعة عشر حرفا الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما رصيفا متقنا ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت فصولا من دلائل التوحيد والنبوة، والأحكام، والمواعظ، والقصص مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) صفة ثانية لكتاب أو صلة للفعلين كأنه تعالى يقول: أحكمت آياته من عند حكيم أي واضع الشيء بالحكمة وفصلت آياته من عند خبير أي عالم بكيفيات الأمور أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» تفسيرية لفصلت فإنها في معنى القول إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ أي من جهة الحكيم الخبير نَذِيرٌ بعذابه إن عبدتم غير الله تعالى وَبَشِيرٌ (2) بثوابه إن تمحضتم في عبادته وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ معطوف على أن لا تعبدوا ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا من ربكم ستر ما سلف منكم من الشرك ثم أقبلوا إليه بالطاعة والإخلاص يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يعشكم عيشا مرضيا إلى وقت مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم فمن أخلص لله في القول والعمل عاش في أمن من العذاب وراحة مما يخشاه، ومن اشتغل بمحبة الله كان انقطاعه عن الخلق أكمل وسروره أتم لأنه آمن من زوال محبوبه ومن كان مشتغلا بحب غير الله كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وَيُؤْتِ أي يعط في الدنيا وفي الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الإسلام والطاعة فَضْلَهُ أي ثوابه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عمّا ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بموجب الشفقة عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) هو يوم القيامة إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ ثم البعث للجزاء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) فيقدر على تعذيبكم بأفانين العذاب أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي تنبه أن الكفار يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى حين يغطون رؤوسهم بثيابهم للاستخفاء. روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق وأصحابه من منافقي مكة وكان رجلا حلو المنطق، حسن المنظر، يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضمر في قلبه العداوة يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ

في قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) أي إنّه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدرهم فلا فائدة لهم في استخفائهم وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي غذاؤها اللائق بها. روي أن موسى عليه السلام تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة، ثم ضرب بعصاه فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فيها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الله الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني وسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مكانها في الأرض قبل الموت وبعده وَمُسْتَوْدَعَها أي موضعها قبل الاستقرار من صلب أو رحم بيضة كُلٌّ من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها وأحوالها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) أي ثابت في علم الله ومذكور في اللوح المحفوظ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي خلق السموات في يومين، والأرض في يومين، وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلقهما عَلَى الْماءِ قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان الله وما كان معه شيء، ثم كان عرشه على الماء» «1» أي والعرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل على كمال قدرته تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أي خلق السموات والأرض وما فيهما ورتب فيها جميع ما تحتاجون إليه من مبادي وجودكم وأسباب معايشكم وأودع فيهما ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به وَلَئِنْ قُلْتَ يا أشرف الخلق لأهل مكة إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ أي محيون مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أي ما هذا القول إلا خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازا لهم إلى الاعتقاد لكم والدخول تحت طاعتكم. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» أي كاذب وحينئذ فاسم الإشارة عائد على النبي أو القرآن وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الذي هددهم الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم به إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى انقراض جماعة من الناس بعد هذا التهديد بالقول لَيَقُولُنَّ بطريق الاستعجال استهزاء ما يَحْبِسُهُ

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (2: 341) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 322) ، والطبري في التفسير (12) .

[سورة هود (11) : الآيات 11 إلى 20]

أي أيّ شيء يمنع العذاب من المجيء إلينا أَلا أي تنبهوا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ أي العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي فلا يرفع رافع أبدا عذاب الآخرة ولا يدفع عنهم دافع عذاب الدنيا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) أي أحاط بهم ذلك العذاب وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي أعطيناه نعمة كغنى وصحة ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ أي قاطع رجاءه من عود أمثالها لقلة صبره وعدم ثقته بالله كَفُورٌ (9) أي عظيم الكفران لما سلف من النعم وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحة بعد سقم وفرج بعد شدة لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تحزنني إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي بطر بالنعم مغتر بها فَخُورٌ (10) على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن الشكر إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عند البلاء استسلاما لقضاء الله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عند الراحة والخير شكرا على ذلك أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وإن جمت وَأَجْرٌ أي ثواب كَبِيرٌ (11) لأعمالهم الحسنة فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فلعل للزجر وللتبعيد أي لا تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك من البينات الدالة على حقيقة نبوتك ولا يضق صدرك بتلاوته عليهم في أثناء الدعوة والمحاجة كراهة أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد كَنْزٌ أي مال كثير مخزون يدل على صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه. والمعنى لا تترك التبليغ ولا يضق صدرك به بسبب قول القوم لك إن كنت صادقا في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وبأنك عزيز عنده مع إنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكدر والعناء وإن كنت صادقا فهلا أنزل عليك ملكا يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فنزل قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ فلا تبال بما صدر عنهم من الرد والقبول وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أي حفيظ فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون افترى محمد القرآن من تلقاء نفسه وليس من عند الله قُلْ لهم إرخاء للعنان: إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ أي القرآن في البلاغة وحسن النظم مُفْتَرَياتٍ من عند أنفسكم فإنكم أقدر ذلك مني لأنكم عرب فصحاء ممارسون للأشعار، ومزاولون أنواع النظم والنثر وَادْعُوا للمعاونة في المعارضة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من الأصنام والكهنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) في ادعاء كون القرآن مفترى على الله فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا أي من تدعونهم من دون الله لَكُمْ أيها الكفار في الإعانة على المعارضة فَاعْلَمُوا يا معشر الكفار أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي إن الذي أنزل ملتبس بعلم الله أي هو من عند الله إذ لو كان مفترى على الله لوجب أن يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أنه لا شريك له في الألوهية ولا يقدر على ما يقدر هو عليه أحد، أي لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقا وثبت كون محمد صلّى الله عليه وسلّم صادقا في دعوى الرسالة وفي خبره أنه لا إله إلا الله فَهَل

أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) أي فهل أنتم داخلون في الإسلام. والمعنى فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون في ملماتكم إلى المعاونة فاعلموا أن القرآن خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر، واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية فهل أنتم داخلون في الإسلام بعد قيام هذه الحجة القاطعة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها بعمل الخير من العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوانات نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وَهُمْ فِيها أي في الحياة الدنيا لا يُبْخَسُونَ (15) أي لا ينقصون نقصا كليا ولا يحرمون من ذلك حرمانا كليا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة، وسعة الرزق، وكثرة الأولاد ونحو ذلك أُولئِكَ أي المريدون لزينة الدنيا الموفون فيها ثمرات أعمالهم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة المقرونة بالرياء. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعوذوا بالله من جب الحزن» قيل: وما جب الحزن؟ قال: «واد في جهنم يلقى فيه القراء والمراؤون» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيرا ولا خير فيه» «2» . وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وهذا إن تعلق بحبط، فالضمير عائد على «الآخرة» ، أي وظهر في الآخرة حبط ما صنعوه من الأعمال وإن تعلق «بصنعوا» فالضمير يعود على الحياة الدنيا أي وحبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) فباطل إما خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، أو عطف على الخبر وما بعده فاعل له، ويرجح هذا قراءة زيد بن على وبطل ما كانوا يعملون على صيغة الماضي معطوف على حبط أي ظهر بطلان عملهم في نفسه في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية. وقرئ «وباطلا» ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو في معنى المصدر أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أي أفمن كان على برهان من ربه عرف به صحة الدين الحق ويتبع ذلك البرهان شاهد من ربه وهو القرآن ويتبع ذلك البرهان من قبل مجيء الشاهد الذي هو القرآن شاهد آخر وهو كتاب موسى حال كونه مقتدى به في الدين وسببا لحصول الرحمة لأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها في أنهم ليس لهم في الآخرة إلا النار، لا بل بين الفريقين تباين بين فالحاصل أنه اجتمع في تثبيت صحة هذا الدين أمور ثلاثة:

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب: 48، وابن ماجة في المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به. (2) رواه السيوطي في جمع الجوامع (3264) .

أولها: دلالة الدلائل العقلية اليقينية على صحته. وثانيها: شهادة القرآن بصحته. وثالثها: شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه فلا يبقى في صحته شك أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات الحميدة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن كعبد الله بن سلام وغيره ممن اتصف بتلك الصفات وهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن مِنَ الْأَحْزابِ أي أصناف الكفار فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي مكان وعده وهي التي فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يسمع ابن يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» . قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ من أن مصير من كفر بالقرآن النار أن هذا الوعد هو الثابت ممن يريبك في دينك ودنياك والخطاب للنبي. والمراد غيره وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) بذلك إما لاختلال أفكارهم وإما لعنادهم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إيه ما لا يليق به كقولهم في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله أُولئِكَ الموصوفون بالافتراء على الله تعالى يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ عرضا تظهر به فضيحتهم أي يساقون إلى الأماكن المعدة للحساب والسؤال وَيَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم في الدنيا والأنبياء عند العرض هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ بالافتراء عليه ثم لما أخبر الله تعالى عن حالهم في القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) بالتزام الكفر والضلال أي إنهم في الحال الملعونون من عند الله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الذين يمنعون من الدين الحق كل من يقدرون على منعه بإلقاء الشبهات وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون سبيل الله زيغا بتعويج الدلائل المستقيمة وَهُمْ أي والحال أنهم بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أي بالبعث بعد الموت جاحدون أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يمكنهم أن يفلتوا بأنفسهم من عذاب الله بالهرب من الأرض مع سعتها إن أراد الله تعذيبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أنصار يدفعون عذاب الله عنهم أي إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب بالفرار ونحوه، ولا لأجل أن لهم ناصرا يمنع العذاب عنهم كما زعموا أن الأصنام شفعاؤهم عند الله بل لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة كما قال تعالى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أي فيعذبون في الآخرة على ضلالهم في أنفسهم وعلى إضلالهم غيرهم، وهذا غير خارج عن قوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] .

[سورة هود (11) : الآيات 21 إلى 30]

وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) وهذا تعليل لمضاعفة العذاب أي لأنهم كانوا عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي فإنهم اشتروا عبادة الأصنام بعبادة الله تعالى وهذا أعظم وجوه الخسران وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) من شفاعة الأصنام لهم فلم يبق معهم غير الندامة لا جَرَمَ أي لا بد أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) بذهاب الجنة وما فيها أي أنهم أخسر من كل خاسر لأنهم أظلم من كل ظالم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي إن الذين آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وأتوا بالأعمال الصالحات، واطمأنت قلوبهم عند أداء الأعمال إلى ذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى، واطمأنت إلى صدق وعد الله بالثواب على تلك الأعمال وخافت قلوبهم من أن يكونوا أتوا بتلك الأعمال مع وجود الإخلال ومن أن لا تكون مقبولة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجميلة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) أي دائمون مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي صفة الكافر كصفة شخص متصف بالعمى والصمم فلا يهتدى لمقصوده، وصفة المؤمن كصفة شخص متصف بالبصر والسمع فاهتدى لمطلوبه هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة وحالا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) أي أتشكون في عدم الاستواء ولا تتعظون بأمثال القرآن فتؤمنوا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ للعصاة من العقاب مُبِينٌ (25) أي بين النذارة، فأبين لكم طريق الخلاص من العذاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «أني» بفتح الهمزة أي متلبسا بالإنذار. والباقون بالكسر على معنى فقال: إني لكم. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من «أني لكم» إلخ. على قراءة الفتح ومجرور بالباء المقدرة التي للتعدية المتعلقة بأرسلنا إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) في الدنيا أو في الآخرة فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي ما نعلمك إلا آدميا مثلنا ليس فيك مزية تخصك بوجوب الطاعة علينا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا كالحجامين والنساجين والأساكفة بادِيَ الرَّأْيِ. قرأ أبو عمرو ونصر عن الكسائي «بادئ» بالهمزة. والباقون بالياء ونصبه على الظرفية أي في ابتداء حدوث الرأي ولو احتاطوا في الكفر ما اتبعوك أو في ظاهر رأي العين وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لا نرى لك ولمن تبعوك بعد الاتباع فضلا علينا لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) أي بل نظنك يا نوح في دعوى النبوة، ونظن أصحابك كاذبين في تصديق نبوتك قالَ أي نوح: يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان عقلي في معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي نبوة ومعجزة دالة على النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي وصار ذلك البرهان مشكوكا في عقولكم.

[سورة هود (11) : الآيات 31 إلى 40]

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «فعميت» بضم العين وتشديد الميم. والباقون بفتح العين وتخفيف الميم أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) أي فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفة ذلك البرهان وأنتم منكرون له. والمعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس أخبروني إن امتزت عنكم بحيازة فضيلة من ربي وهي دليل العقل وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفي عليكم دليل العقل ولم تنالوه، ولم تعلموا حيازتي لها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها، والحال أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهام لطلب الإقرار وحاصل الكلام أنهم لما قالوا وما نرى لكم علينا من فضل ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت، فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهور المقصود وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلا عظيما وأنا لا أقدر على إعطاءكم الإلهام والمعرفة في تلك الحجة وإنما أقدر على أن أدعوكم إلى الله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي قال نوح عليه السلام: أنا لا أطلب منكم على تبليغ دعوة الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا وغنيا، وما أجري على هذه الطاعة إلا على رب العالمين، وإن ظننتم أني إنما اشتغلت بهذا التبليغ لأجل أخذ أموالكم فهذا الظن منكم خطأ، وإنما أسعى في طلب الدين لا في طلب الدنيا وهذا يوجب فضلي عليكم، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا بقولكم لي: امنع واطرد هؤلاء الأسافلة عنك ونحن نتبعك فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله تعالى فإن طردتهم استخصموني في الآخرة عنده فأعاقب على طردهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) إن منزلة المؤمنين عند الله تعالى أعلى وإن طردهم يوجب غضب الله تعالى وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي بدفع نزول سخطه عني إِنْ طَرَدْتُهُمْ فإن الطرد ظلم موجب للسخط قطعا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) أي أتأمرونني بطردهم فلا تتعظون بما أقول لكم وَلا أَقُولُ لَكُمْ حين أدعي النبوة عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي رزقه وأمواله وهذا رد لقولهم: وما نرى لكم علينا من فضل كالمال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أقول: إني أعلم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وهذا رد لقولهم: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، أي في ظاهر حالهم وأول فكرهم وفي الباطن لم يتبعوك فقال نوح لهم: إني إنما أعول على الظاهر لا أعلم الغيب فأحكم به وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا فكأن نوحا قال: أنا لم أدّع الملكية حتى تقولوا ذلك. أي إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها، وإنما يتعلق بالفضائل النفسية التي بها تتفاوت مقادير البشر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي ولا أقول كما تقولون في حق الذين تحتقرهم أعينكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي هداية

وأجرا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ أي بما في قلوبهم من الإيمان إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) لنفسي ولهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله أعطاهم خيري الدارين قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا أي فأتيت بأنواع الجدال فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) فيما تقول قالَ أي نوح إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أي إن الإتيان بالعذاب الذي تستعجلونه أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) أي بمانعين من العذاب بالهرب أو بالمدافعة كما تدفعونني في الكلام وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ أي إن كان الله يريد أن يضلكم عن الهدى فإن أردت أن أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى التوحيد لا ينفعكم دعائي إلى التوحيد وتحذيري إياكم من عذاب الله. هُوَ رَبُّكُمْ أي مالك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وَإِلَيْهِ تعالى تُرْجَعُونَ (34) بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقول قوم نوح: إن نوحا افترى بما أتانا به من عند نفسه مسندا إلى الله تعالى. قُلْ يا نوح: إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي إن اختلقت الوحي الذي بلغته إليكم من تلقاء نفسي فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي فعلي عقاب اكتسابي للذنب وإن كنت صادقا وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) أي من عقاب كسبكم الذنب بإسناد الافتراء إليّ وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) أي فلا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي اصنع السفينة ملتبسا بإبصارنا لك وتعهدنا بتعليمك كيفية صنعها وَوَحْيِنا أي وبأمرنا لك وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تدعني باستدفاع العذاب عنهم، أو المعنى لا تراجعني في نجاة الذين كفروا: ابنك كنعان وامرأتك واعلة «1» إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) أي محكوم عليهم بالإغراق بالطوفان وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي أقبل نوح يصنعها وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عملها. وقال ابن عباس: اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج. وجعل لها ثلاث بطون،

_ (1) ورد في تفسير القرطبي لسورة هود: «وكان اسم امرأة نوح: والهة، واسم امرأة لوط: والعة قاله مقاتل. وقال الضحّاك عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أن اسم امرأة نوح: واعلة، واسم امرأة لوط: والهة» . وورد في تفسير الجلالين لسورة هود: «كانت امرأة نوح اسمها: واهلة ... وامرأة لوط واسمها: واعلة» .

[سورة هود (11) : الآيات 41 إلى 50]

فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى، وحمل ما يحتاج إليه من الزاد وغيره. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ أي طبقة من كبرائهم سَخِرُوا مِنْهُ أي كانوا يتضاحكون لعمله السفينة ويقولون: يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجارا، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدا. وكانوا يقولون: ليس هاهنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) اليوم منا. أي إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله وعذابه فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب في الدنيا، ويهينه وهو عذاب الغرق من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) أي وأينا ينزل عليه عذاب النار الدائم في الآخرة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا الموعود به وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء من تنور الخبز وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها. روي أنه قيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب وقيل: كان التنور لآدم وكانت حواء تقمر فيه فصار إلى نوح وكان من حجارة وهو في الكوفة على يمين الداخل مما يلي باب كندة في المسجد قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وقرأ حفص «من كل» بالتنوين أي من كل شيء زوجين اثنين كل منهما زوج للآخر. على قراءة غيره إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم في قوله تعالى: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 37] الآية. والمراد به: ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين فحمل في السفينة زوجته المؤمنة وأولادها الثلاثة مع نسائهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. وَمَنْ آمَنَ عطف على زوجين أو على اثنين أي واحمل من آمن من غير أهلك وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) . وعن ابن عباس قال: كان في سفينة نوح ثمانون. إنسانا نصفهم رجال ونصفهم نساء. وقال مقاتل: في ناحية الموصل قرية يقال لها: قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم وَقالَ أي نوح عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ أي اركبوا في السفينة ذاكرين اسم الله مَجْراها وَمُرْساها أي

وقت جريها وإرسائها قيل: كان نوح عليه السلام إذا أراد أن يجريها يقول: بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيها يقول بسم الله فترسو إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) أي لولا مغفرته تعالى ورحمته إياكم لما نجاكم لأنكم لا تنفكون عن أنواع الزلات وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في عظمه وارتفاعه وذلك يدل على وجود الرياح الشديدة في ذلك الوقت. قال علماء السير: أرسل الله تعالى المطر أربعين يوما وليلة وخرج الماء من الأرض وارتفع الماء على أعلا جبل وأطوله أربعون ذراعا حتى أغرق كل شيء وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان قبل سير السفينة وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) أي في المكان وهو وجه الأرض خارج السفينة لا في الدين لأن نوحا عليه السلام يحذر ابنه عن الهلكة لا ينهى عن الكفر في ذلك الوقت قالَ سَآوِي أي ألتجئ إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ لارتفاعه قالَ أي نوح: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي عذابه إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي إلا الله الراحم والتقدير لا فرار من الله إلا إلى الله. وهذا تأويل في غاية الحسن. وقيل: لا مكان يعصم من عذاب الله إلا مكان من رحمة الله وهو السفينة. وقيل: لا ذا عصمة إلا من رحمه الله وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي حال الموج بين نوح وابنه كنعان فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) أي فصار كنعان من المهلكين بالطوفان وَقِيلَ أي قال الله يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أي أنشفي ما على وجهك من ماء الطوفان وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر وَغِيضَ الْماءُ أي ونقص ما بين السماء والأرض من الماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم الأمر من هلاك قوم نوح وَاسْتَوَتْ أي استقرت الفلك عَلَى الْجُودِيِّ أي على جبل بالجزيرة قريب من الموصل يقال له: الجودي وكان ذلك الجبل منخفضا. روي أنه عليه السلام ركب في الفلك في عاشر رجب، ومرت بالبيت الحرام فطافت به سبعا ونزل عن الفلك عاشر المحرم فصام ذلك اليوم وأمر من معه بصيامه شكر الله تعالى، وبنوا قرية بقرب ذلك الجبل فسموها قرية الثمانين فهي أول قرية عمّرت على الأرض بعد الطوفان وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) أي قال نوح وأصحابه بعدوا بعدا من رحمة الله للقوم المشركين بحيث لا يرجى عودهم وهذا الكلام جار مجرى الدعاء عليهم، لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي كنعان مِنْ أَهْلِي وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن قولك واحمل أهلك وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي إن كل وعد تعده لا يتطرق إليه خلف وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) أي لأنك أعدل الحاكمين وهذا دعاء سيدنا نوح عليه السلام في غاية التلطف وهو مثل دعاء سيدنا أيوب عليه

[سورة هود (11) : الآيات 51 إلى 60]

السلام أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين قالَ أي الله تعالى: يا نُوحُ إِنَّهُ أي هذا الابن الذي سألتني نجاته لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذي وعدتك أن أنجيهم معك إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي لأن هذا الابن ذو عمل غير مرضي. وقرأ الكسائي ويعقوب «عمل» على صيغة الفعل و «غير» بالنصب أي لأنه عمل عملا غير مرضي وهو الشرك فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) أي إني أنهاك عن أن تكون من الجاهلين بالسؤال. سمي سؤاله عليه السلام جهلا لأنّ حب الولد شغله عن تذكر استثناء من سبق عليه القول منهم بالإهلاك قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أعوذ بك من أن أطلب منك من بعد هذا مطلوبا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) أعمالا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى إقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية وإنما لجأ إلى الله تعالى وسأله المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين قِيلَ أي قال الله: يا نُوحُ اهْبِطْ أي انزل من السفينة بِسَلامٍ أي ملتبسا بأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية عليك وهذا بشارة من الله تعالى بالسلامة من التهديد وبنيل الحاجات من المأكول والمشروب وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى يوم القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة مِمَّنْ مَعَكَ أي وعلى أمم مؤمنة ناشئة من الذين معك إلى القيامة وَأُمَمٌ كافرة متناسلة ممن معك سَنُمَتِّعُهُمْ مدة في الدنيا ثُمَّ في الآخرة يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) فقوله وأمم مبتدأ وجملة قوله سنمتعهم خبر تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي تلك التفاصيل التي بيناها من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق نُوحِيها أي تلك الأخبار إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ بطريق التفصيل مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل إيحائنا إليك بنزول القرآن فَاصْبِرْ على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح على أذى أولئك الكفار إِنَّ الْعاقِبَةَ أي آخر الأمر بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة لِلْمُتَّقِينَ (49) كما عرفته في نوح وقومه ولك فيه أسوة حسنة وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي ولقد أرسلنا إلى عاد واحدا منهم في النسب نبيهم هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع صفة للمحل وبالجر على قراءة الكسائي صفة للفظ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) أي كاذبون في قولكم: إن الأصنام تستحق العبادة يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على إرشادكم إلى التوحيد أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من بعد التوحيد بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعودوا لمثله يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير السيلان وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ بالمال والولد والشدة

[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 70]

في الأعضاء قيل: حبس الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين وعقمت نساؤهم ثلاثين سنة ولم تلد وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) أي ولا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه مصرين على آثامكم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بمعجزة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي بتاركي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ أي لأجل قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) أي بمصدقين بالرسالة إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أي ما نقول في شأنك إلا قولنا: أصابك بعض آلهتنا بجنون لأنك شتمتها ومنعت عن عبادتها قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ على وَاشْهَدُوا أنتم على أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ أي من إشراككم آلهة من دون الله فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي فاعملوا في هلاكي أنتم وآلهتكم جميعا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) أي لا تؤجلوني إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ أي إني فوضت أمري إلى الله مالكي ومالككم ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته وهو منقاد لقضائه وقدره إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) أي إنه تعالى وإن كان قادرا على عباده لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ أي فإن تعرضوا عن الإيمان والتوبة لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ لأني قد أبلغتكم وصرتم محجوجين من الله تعالى لأنكم أصررتم على التكذيب وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يخلق ربي بعدكم من هو خير منكم وأطوع وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أي لا ينقص هلاككم من ملك الله شيئا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) فيحفظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا الدنيوي وهو السموم التي تدخل من أنوفهم وتخرج من أدبارهم فترفعهم في الجو وتصرعهم على الأرض على وجوههم فتتقطع أعضاؤهم نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا أربعة آلاف بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وهو العذاب الأخروي وَتِلْكَ القبيلة عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي دلالة المعجزات على صدق هود وَعَصَوْا رُسُلَهُ وجمع الرسول مع أنه لم يرسل إليهم غير هود لبيان أن عصيانهم له عليه السلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ أي مرتفع متمرد عَنِيدٍ (59) أي منازع معارض. أي واتبع السفلة أمر رؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب الرسل وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي جعل الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير مصاحبا لهم وملازما في الدنيا والآخرة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي كفروا بربهم أَلا بُعْداً لِعادٍ وهذا دعاء عليهم بالهلاك وتحقيرهم قَوْمِ هُودٍ (60) عطف على بيان لعاد وهذه عاد القديمة إرم ذات العماد واحترز به عن عاد الثانية وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وثمود اسم أبي القبيلة وبين صالح وبينه خمسة أجداد، وبين صالح وهود مائة سنة وعاش صالح مائتي سنة وثمانين سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ فإن الإنسان مخلوق من المني وهو متولد من الدم، وهم متولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما

نباتية فانتهاء الحيوانية إلى النبات وهو متولد من الأرض فثبت أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها أي جعلكم سكان الأرض وصيّركم عامرين لها أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة أعماركم ثم تتركونها لغيركم فَاسْتَغْفِرُوهُ أي آمنوا بالله وحده ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادة غيره إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ بالعلم والسمع والرحمة مُجِيبٌ (61) دعاء المحتاجين بفضله ورحمته قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أي قبل نهيك إيانا عن عبادة الأوثان لما كنا نرى منك من دلائل السداد ومخايل الرشاد فإنك كنت تعطف على فقرائنا، وتعين ضعفاءنا، وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأحباب ومن أنصار ديننا فكيف أظهرت العداوة ثم قالوا متعجبين تعجبا شديدا: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي ما عبدوه من الأوثان وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وترك عبادة الأوثان مُرِيبٍ (62) أي موقع في اضطراب القلوب وانتفاء الطمأنينة قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ في الحقيقة عَلى بَيِّنَةٍ أي بصيرة وبرهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أي نبوة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من ينجيني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ أي بالمساهلة في تبليغ الرسالة وفي المجاراة معكم فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) أي فما تزيدونني بما تقولون غير بصيرة في خسارتكم أي وما زادني قولكم إلا قولي لكم إنكم لخاسرون وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي معجزة دالة على صدق نبوتي فإن الله خلقها من الصخرة في جوف الجبل حاملا من غير ذكر على تلك الصورة دفعة واحدة وقد حصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم فَذَرُوها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي ترع نباتها وتشرب ماءها فليس عليكم كلفة في مؤنتها وكانت هي تنفعهم ولا تضرهم لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها، ولا تقربوها بشيء من السوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) أي عاجل لا يتراخى عن مسكم بالسوء إلا يسيرا وهو ثلاثة أيام فَعَقَرُوها أي فقتلها قدار بن سالف ومصدع بن زهر وقيل: زينت عقرها لهم عنيزة أم غنم، وصدقة بنت المختار فضربها قدار بأمرهم في رجليها فأوقعها، فذبحوها وقسموا لحمها على ألف وخمسمائة دار. فَقالَ لهم صالح بعد قتلهم لها: تَمَتَّعُوا أي عيشوا فِي دارِكُمْ أي في بلادكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ من العقر الأربعاء والخميس والجمعة، ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع يوم السبت وإنما أقاموا ثلاثة أيام، لأن الفصيل رغى ثلاثة وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها، ولما عقروا الناقة أنذرهم صالح بنزول العذاب ورغبهم في الإيمان فقالوا: يا صالح وما علامة العذاب؟ فقال: تصير وجوهكم في اليوم الأول: مصفرة، وفي الثاني: محمرة، وفي الثالث: مسودة، وفي الرابع: يأتيكم العذاب صبيحته ذلِكَ أي نزول العذاب عقب ثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي ونجينا صالحا والذين آمنوا معه من العذاب النازل بقومه الكافرين ومن

[سورة هود (11) : الآيات 71 إلى 80]

الخزي الذي لزمهم وبقي العيب منسوبا إليهم، لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله. وقرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون هنا، وفي المعارج «يومئذ» بفتح الميم لإضافة «يوم» إلى «إذ» ، وهو مبني فيكون مبنيا. والباقون بكسر الميم فيهما لإضافة «يوم» إلى الجملة من المبتدأ والخبر، فلما قطع المضاف إليه عن «إذ» نوّن ليدل التنوين على ذلك، ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين ولم يلزم من إضافة يوم إلى المبني أن يكون مبنيا لأن هذه الإضافة غير لازمة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) فإنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذابا، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحانا. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ مع الزلزلة أي صيحة جبريل فقد صاح عليهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم، فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) ميتين لا يتحركون ولا يضطربون عند ابتداء نزول العذاب ساقطين على وجوههم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في بلادهم فإنهم صاروا رمادا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) قوم صالح من رحمة الله وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل بِالْبُشْرى أي متلبسين بالبشارة له بالولد من سارة قالُوا سَلاماً أي سلمنا عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي قال إبراهيم: أمري سلام أي لست مريدا غير السلامة. وقرأ حمزة والكسائي هنا «وفي الذاريات» بكسر السين وسكون اللام فَما لَبِثَ أي إبراهيم أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ أي في المجيء بولد بقرة حَنِيذٍ (69) أي مشوي على حجارة محماة في حفرة في الأرض فوضعه بين أيديهم فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم وَأَوْجَسَ أي أدرك مِنْهُمْ خِيفَةً وظن أنهم لصوص حيث لم يأكلوا من طعامه فلما علموا خوفه قالُوا لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إِنَّا أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وهو ابن هاران أخي إبراهيم وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ تخدم الأضياف وتسمع مقالتهم وإبراهيم عليه السلام جالس معهم فَضَحِكَتْ أي ففرحت سارة بزوال الخوف عنها وعن إبراهيم وبحصول البشارة بحصول الولد، وبهلاك أهل الفساد. وقال مجاهد وعكرمة: أي حاضت سارة عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ على ألسنة رسلنا وإنما نسبت البشارة لسارة دون سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأنها كانت أشوق إلى الولد منه لأنها كانت لم يأتها ولد قط بخلافه فقد أتاه

إسماعيل قبل إسحاق بثلاث عشرة سنة وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب، أي ووهبنا يعقوب من بعد إسحاق. والباقون بالرفع على الابتداء. أي ومن بعد إسحاق يعقوب مولود. قالَتْ يا وَيْلَتى هي كلمة تقال للتعجب عند أمر عظيم. أي يا ذلي احضر فهذا أوان حضورك أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ بنت ثمان وتسعين سنة وَهذا بَعْلِي أي زوجي شَيْخاً ابن مائة وعشرين سنة إِنَّ هذا أي حصول الولد من هرمين مثلنا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده ومقصودها استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد قدرته تعالى على ذلك قالُوا أي الملائكة لسارة: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من قدرة الله رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي يا أهل بيت إبراهيم، أي رحمة الله الواسعة لكل شيء وخيراته الفائضة منه بواسطة تلك الرحمة لازمة لكم لا تفارقكم، فإذا رأيتم أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية فكيف يليق به التعجب إِنَّهُ حَمِيدٌ أي فاعل ما يستوجب الحمد وموصل العبد المطيع إلى مراده مَجِيدٌ (73) أي كريم لا يمنع الطالب عن مطلوبه فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) أي فلما زال عن إبراهيم الخوف وحصل له السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد جادل رسلنا في شأن قوم لوط حيث قال للملائكة حين قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ العشرة قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أي غير عجول على كل من أساء إليه فلذلك طلب تأخير العذاب عنهم رجاء إقدامهم على الإيمان والتوبة عن المعاصي أَوَّاهٌ أي كثير التضرع إلى الله عند وصول الشدائد إلى الغير مُنِيبٌ (75) أي رجاع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم قالت الملائكة لإبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي اترك هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإيصال هذا العذاب إليهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع بجدال ولا دعاء ولا غيرهما وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا أي هؤلاء الملائكة لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي حزن بسببهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي صدرا لأنهم انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط عليهما السلام ودخلوا عليه في صور شبان مرد حسان الوجوه، فخاف أن يقصدهم قومه وأن يعجز عن مدافعتهم وبين القريتين أربع فراسخ وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) أي شديد علي، فلما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام ولم يعلم بذلك أحد خرجت امرأته الكافرة فأخبرت قومها وقالت: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوها ولا أنظف ثيابا، ولا أطيب رائحة منهم. وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ أي يسوق بعضهم بعضا إِلَيْهِ لطلب الفاحشة من أضيافه وَمِنْ قَبْلُ أي والحال من قبل مجيء هؤلاء الملائكة إلى لوط كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ وهي إتيان الرجال في

[سورة هود (11) : الآيات 81 إلى 90]

أدبارهم أي فهم معتادون لذلك فلا حياء عندهم. قالَ أي لوط: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أي فتزوجوهن. والمراد بالجمع ما فوق الواحد لما صحت الرواية أن لسيدنا لوط عليه السلام بنتين فقط وهما زنتا وزعوراء. وقال السدي: اسم الكبرى ريا، والصغرى رغوثا وكان في ملته يجوز تزوج الكافر بالمسلمة، أو قال ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم، لا لعدم جواز تزويج المسلمات من الكفار فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تخجلوني في أضيافي لأن مضيف الضيف يلزمه الخجل من كل فعل قبيح يصل إلى الضيف أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) يهتدي إلى الحق ويرعوي عن الباطل، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي شهوة أي إنك قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) من إتيان الذكران قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) أي لو قويت على دفعكم بنفسي أو رجعت إلى عشيرة قوية لبالغت في دفعكم. وإنما قال ذلك لأنه لم يكن من قومه نسب بل كان غريبا فيهم لأنه كان أولا بالعراق مع إبراهيم فلما هاجرا إلى الشام أرسله الله تعالى إلى أهل سذوم- وهي قرية عند حمص- أو المعنى لو قويت على الدفع لدفعتكم بل أعتصم بعناية الله تعالى قالُوا أي هؤلاء الملائكة: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم فخرجوا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فاخرج مع أهلك في نصف الليل لتستبقوا العذاب الذي موعده الصبح وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع أي لا يتأخر منكم أحد إلا امرأتك واعلة المنافقة. والباقون بالنصب. والمعنى لا ينظر أحد إلى ورائه منك ومن أهلك إلا امرأتك وإنما نهوا عن الالتفات ليسرعوا في السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة وهذه القراءة تقتضي كون لوط غير مأمور بالإسراء بها وقراءة الرفع تقتضي كونه مأمورا بذلك إِنَّهُ مُصِيبُها أي امرأتك ما أَصابَهُمْ من العذاب إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي إن وقت عذابهم وهلاكهم الصبح لأنه وقت الراحة فحلول العذاب حينئذ أفظع وهذا تعليل للنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) وهذا تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواضع العذاب فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا وهو الصبح جَعَلْنا عالِيَها أي عالي قرى قوم لوط وهي خمس مدائن فيها أربعمائة ألف ألف سافِلَها.

روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار، ونباح الكلاب، وصياح الديوك ولم تنكفئ لهم جرة ولم ينكب لهم إناء، ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض. وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على أهل تلك القرى الخارجين عنها في الأسفار وغيرها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ أي من طين متحجر مَنْضُودٍ (82) أي كان بعض الحجارة فوق بعض في النزول مُسَوَّمَةً أي مخططة بالسواد والحمرة والبياض. أي كان عليها علامة تتميز بها عن حجارة الأرض عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) أي ما هذه الحجارة من كل ظالم ببعيد فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها أي فإن الظالمين حقيق بأن تمطر عليهم وَإِلى مَدْيَنَ أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ولا تشركوا به شيئا ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي لا تنقصوا حقوق الناس بالكيل والوزن إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي ملتبسين بسعة تغنيكم عن النقص وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم توفوا بالكيل والوزن عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) أي يحيط بكم ولا ينفلت منكم أحد وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما بِالْقِسْطِ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ بسبب عدم اعتدالهما أَشْياءَهُمْ أي أموالهم التي يشترونها بهما وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) أي ولا تعلموا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة إفساد مصالح أنفسكم بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق التطفيف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين لي في مقالتي لكم. وقرئ «تقية الله» بالفوقية أي تقواه تعالى عن المعاصي. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) أي أحفظكم من القبائح ولست بحافظ عليكم نعم الله إذ لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت النعم عنكم قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا وقوله: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على «ما يعبد» ، و «أو» بمعنى الواو. والمعنى هلا صلاتك تأمرك بتكليفك إيانا ترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان، وترك فعلنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص. روي أن شعيبا كان كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك السخرية إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) أي كنت عندنا مشهورا بأنك حليم رشيد فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي علم وهداية ودين ونبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ أي من عنده بإعانته بلا كد مني

[سورة هود (11) : الآيات 91 إلى 100]

رِزْقاً حَسَناً أي مالا حلالا. فهل يجوز لي مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه، وأن أخالفه في أمره ونهيه؟ وهذا الجواب مطابق لقولهم لسيدنا شعيب إنك لأنت الحليم الرشيد فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا؟ فكأن شعيبا قال: إن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره! ومعنى الآية على هذا الوجه يا قوم أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره وأوافقكم فيما تأتون وما تذرون وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي ليس مرادي أن أمنعكم عن التطفيف وأن أفعله إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ أي ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي مدة استطاعتي للإصلاح لا أقصر فيه. والمعنى أنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الخصومة حتى إنكم أقررتم بأني حليم رشيد فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلاح بقدر طاقتي وذلك هو الإبلاغ والإنذار. وَما تَوْفِيقِي أي ما قدرتي على تنفيذ كل الأعمال الصالحة إِلَّا بِاللَّهِ أي إلا بمعونته وهدايته عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي عليه تعالى اعتمدت في جميع أموري وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) أي عليه أقبل وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا تكسبنكم معاداتكم لي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح العقيم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة والرجفة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) أي وما خبر إهلاك قوم لوط بالخسف منكم ببعيد فإن لم تعتبروا بمن قبلكم من الأمم المعدودة فاعتبروا بهم فإن بلادهم قريبة من مدين وإهلاكهم أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عن عبادة الأوثان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عن النجس إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ أي عظيم الرحمة للتائبين وَدُودٌ (90) أي محب لهم قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى المنع عن طريق الحق كما هو ديدن المفحم المحجوج وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً أي لا تقدر على منع القوم عن نفسك إن أرادوا بك سوءا وَلَوْلا رَهْطُكَ أي لولا حرمة قومك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك بالحجارة أو لشتمناك وطردناك وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) أي معظم فيسهل علينا قتلك وإيذاؤك وإنما نمتنع من ذلك لرعاية حرمة عشيرتك لموافقتهم لنا في الدين لا لقوة شوكتهم. قالَ لهم: يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ والمعنى حفظكم إياي رعاية الأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي فالله تعالى أولى أن يتبع أمره وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا أي جعلتم الله شيئا منبوذا خلف ظهرك منسيا لا يعبأ به إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال السيئة مُحِيطٌ (92) أي عالم فلا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية استطاعتكم من إيصال الشرور إلى إِنِّي عامِلٌ بقدر ما آتاني الله

[سورة هود (11) : الآيات 101 إلى 110]

تعالى من القدرة سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ أي سوف تعرفون الشقي الذي يأتيه عذاب يهلكه والذي هو كاذب في ادعاء القوة والقدرة على رجم شعيب عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف وَارْتَقِبُوا أي انتظروا عاقبة ما أقول إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) أي منتظر وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من ذلك العذاب بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بسبب مرحمة كائنة منا لهم وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل والزلزلة أيضا فأهلكوا بهما فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) أي ميتين ملازمين لأماكنهم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي كأنهم لم يقيموا في ديارهم أحياء مترددين أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ أي هلاكا لقوم شعيب كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) أي كما هلكت قوم صالح أي فإنهما أهلكا بنوع من العذاب وهو الصيحة إلا أن هؤلاء صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وهذا في أهل قرية شعيب وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بعذاب الظلة وهو نار نزلت من السماء أحرقتهم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) أي ولقد أرسلنا موسى بالتوراة مع ما فيها من الأحكام وأيدناه بمعجزات قاهرة دالة على صدق نبوته ورسالته إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي جماعته فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) أي بمرشد إلى خير فإنه كان دهريا نافيا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يقود قومه جميعا، يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أي إن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال وفي دخول البحر والغرق في الدنيا، فكذلك يتقدمهم يوم القيامة في دخول النار والحرق وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد، إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك وَأُتْبِعُوا أي الملأ الذين تبعوا أمر فرعون فِي هذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً من الأمم بعدهم إلى يوم القيامة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا من أهل الموقف قاطبة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) أي بئس العون المعان عونهم، أي بئس اللعنة الأولى المعان باللعنة الثانية عونهم وهي اللعنة في الدارين، وسميت اللعنة عونا لأنها إذا تبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن رحمة الله وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال وسميت رفدا أي عونا لهذا المعنى على التهكم وسميت معانا لأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى ليكونا هاديين إلى طريق الجحيم وَالْعادِياتِ أي الذي ذكرناه في هذه السورة من القصص السبعة مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أي ذلك بعض أخبار القرى المهلكة بجناية أهلها مقصوص عليك لتخبر به قومك لعلهم يعتبرون وإلا فينزل بهم مثل ما نزل بالقرى المهلكة مِنْها أي القرى قائِمٌ أي أثر باق وَمنها حَصِيدٌ (100) أي ذاهب الأثر فشبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما محي منها بالزرع المحصود وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي فما نفعتهم أصنامهم الذين يعبدونها في شيء

ألبتة، ولا دفعت شيئا من عذاب الله عنهم حين جاءهم وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) أي وما زادت الأصنام عابديها غير إهلاك فإن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار، ثم زال عنهم بسبب ذلك الاعتقاد منافع الدنيا والآخرة، وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران. وقرئ «آلهتهم اللاتي» بالجمع، و «يدعون» بالبناء للمجهول وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وقرأ عاصم والجحدري «إذ أخذ» بألف واحدة. وَهِيَ ظالِمَةٌ أي ومثل ذلك الأخذ المذكور أخذ ربك أهل القرى إذا أخذهم وهم ظالمون أنفسهم بالكفر أي إن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) أي وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص إِنَّ فِي ذلِكَ أي القصص السبعة لَآيَةً أي لموعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فينتفع بسماع هذه القصص ويعلم أن القادر على إنزال عذاب الدنيا قادر على إنزال عذاب الآخرة فإن في هذه القصص عذاب الدارين وقد حصل عذاب الدنيا ذلِكَ أي يوم الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون للمحاسبة والجزاء وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) أي يحضر فيه أهل السماء وأهل الأرض وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) أي إلا لأجل انقضاء وقت محدود وهو مدة الدنيا يَوْمَ يَأْتِ أي حين يأتي ذلك اليوم المؤخر لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ أي الله تعالى في التكلم فالمأذون في الكلام هو الجوابات الصحيحة والممنوع عنه هو ذكر الأعذار الباطلة فَمِنْهُمْ أي من أهل الموقف شَقِيٌّ أي من مات على الكفر وإن تقدم منه إيمان وَسَعِيدٌ (105) أي من مات على الإيمان وإن تقدم منه كفر. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي فمستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ أي صوت شديد وَشَهِيقٌ (106) أي صوت ضعيف خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وإلا في المعنى بمعنى واو العطف، والاستثناء منقطع بقدر بلكن أو بسوى. فالمعنى دائمين في النار مثل دوام السموات والأرض منذ خلقت إلى أن تفنى، وزيادة على هذه المدة وهي ما شاء مما لا نهاية له إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) من غير اعتراض وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أي مثل دوام السموات والأرض منذ خلقتا سوى ما شاء ربك زائدا على ذلك وهو لا منتهى له عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) أي غير مقطوع وعطاء نصب على المصدرية أي يعطيهم عطاء وهذا ظاهر في أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة وما ذكر من أن عذاب الكفار في جهنم دائم أبدا هو ما دلت عليه الآيات والأخبار، وأطبق عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا ولا ظلم على الله في ذلك لأن الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيا فعوقب دائما فهو لم يعاقب بالدائم إلا على دائم فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا.

[سورة هود (11) : الآيات 111 إلى 120]

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «سعدوا» بضم السين. والباقون بفتحها. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي فلا تك يا أشرف الخلق في شك من حال ما يعبد كفار قريش من الأوثان في أنها لا تنفع لهم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي ليس لهم في عبادة الأصنام مستند إلا تقليد آبائهم فإنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) أي إنا معطو هؤلاء الكفرة ما يخصهم من العذاب ونصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية تاما كما أعطينا آباءهم أنصباءهم من ذلك وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في شأنه. فآمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف قومك في القرآن فلا تحزن فإن ما وقع لك وقع لمن قبلك. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لولا الحكم الأزلي بتأخير العذاب عن أمتك إلى يوم القيامة لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين وَإِنَّهُمْ أي وإن كفار قومك لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ أي القرآن مُرِيبٍ (110) أي ظاهر الشك أو موقع في الشك وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ. قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم «إن» و «لما» مخففتين، وأبو عمرو والكسائي شددا «إن» وخففا «لما» ، وحمزة وابن عامر وحفص شددوهما، أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين والله لفريق يوفيهم ربك أجزية أعمالهم، أو المعنى وإن جميعهم والله لَيُوَفِّيَنَّهُمْ الآية. قالوا: وأحسن ما قيل إن أصل لما لمّا بالتنوين بمعنى جميعا إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) أي إن ربك بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عالم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده وإن دقت فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي مثل الاستقامة التي أمرت في العقائد والأعمال والأخلاق فإن الاستقامة في العقائد اجتناب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال الاحتراز عن الزيادة والنقصان وفي الأخلاق التباعد عن طرفي الإفراط والتفريط وهذا في غاية العسر وعن بعضهم قال: رأيت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم فقلت له: روي عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها، فقال: «نعم» فقلت: وبأي آية؟ فقال بقوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» «1» . وَمَنْ تابَ مَعَكَ من الكفر وشاركك في الإيمان ف «من» منصوب على أنه مفعول معه أو مرفوع عطف على الضمير في أمرت وَلا تَطْغَوْا أي لا تتحرفوا عمّا حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلّا طرفي قصد الأمور ذميم إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) فيجازيكم على ذلك وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي ولا تميلوا أدنى ميل إلى الذين وجد منهم الظلم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي فتصيبكم بسبب ذلك وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي من أنصار ينقذونكم من النار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) من جهة الله تعالى.

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 56.

قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم ومشاركتكم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أي غدوة وعشية فالصبح في الغدوة والظهر والعصر في العشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي ساعات منه قريبة من النهار وهي المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ كالصلوات الخمس يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي يكفرنها وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر» «1» . روي أن أبا اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تشتري تمرا فقلت لها: إن في البيت تمرا أطيب من هذا. فدخلت معي البيت، فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك، وتب ولا تخبر أحدا. فلم أصبر حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال لي: «أخنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» وأطرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طويلا حتى نزلت هذه الآية فقرأها علي فقال: «نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت» «2» . ذلِكَ أي القرآن ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) أي عظة للمتعظين أو ذلك الحسنات كفارات لذنوب التائبين. وَاصْبِرْ يا أشرف الخلق على مشاق ما أمرت به فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) أي إن الله يوفي الصابرين أجور أعمالهم من غير بخس أصلا فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ والمراد بالتخصيص النفي أي فما كان من القرون الماضية المهلكة بالعذاب جماعة أصحاب جودة في العقل، وفضل ينهون عن الفساد إلا قليلا وهم من أنجيناهم من العذاب نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي واتبع الذين تركوا النهي عن المنكرات ما أنعموا من الشهوات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وأعرضوا عما وراء ذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) أي كافرين فإن سبب استئصال الأمم المهلكة فشو الظلم وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) أي لا يهلك ربك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات بينهم، أي إن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك بل إنما ينزل ذلك إذا أساءوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء للناس، وظلم الخلق لفرط مسامحته تعالى في حقوقه ولذلك تقدم حقوق العباد على حقوقه تعالى عند تزاحم الحقوق وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً أي أهل ملة

_ (1) رواه ابن حجر في فتح الباري (8: 357) . (2) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 11.

[سورة هود (11) : الآيات 121 إلى 123]

واحدة وهي الإسلام بحيث لا يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي ولا يزالون مخالفين لدين الحق إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إليه فلم يخالفوه وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي وللمذكور من الاختلاف والرحمة خلق الناس كافة فإن الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، ومصيرهم النار. وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين ومصيرهم الجنة. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي ثبت قول ربك لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) أي من كفارهما أجمعين وَكُلًّا أي كل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ أي من أخبارهم وما جرى لهم مع قومهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي ما نقوي به قلبك لتصير على أذى قومك وتتأسى بالرسل الذين خلوا من قبلك وَجاءَكَ فِي هذِهِ الأنباء المقصوصة عليك الْحَقُّ أي البراهين الدالة على التوحيد والنوبة وَمَوْعِظَةٌ أي تنفير عن الدنيا وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) أي إرشاد لهم إلى الأعمال الصالحة وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بهذا الحق اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي ثابتين على حالتكم وهي الكفر إِنَّا عامِلُونَ (121) على حالتنا وهي الإيمان. أو المعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن عاملون على قدرتنا. والمراد بهذا الأمر: التهديد وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان به من الخذلان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن علمه تعالى نافذ في جميع الكليات والجزئيات والحاضرات والغائبات عن العباد وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فَاعْبُدْهُ أي فاشتغل بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة وأما العبادات الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله في ملكوت السموات والأرض وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ أي ثق به تعالى في جميع أمورك فإنه كافيك وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) . وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، أي فإنه تعالى لا يضيع طاعات المطيعين، ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين، وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقمطير، ويعاتبوا في الصغير والكبير، ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير.

سورة يوسف

سورة يوسف مكية، مائة وإحدى عشرة آية، ألف وسبعمائة وخمس وتسعون كلمة، سبعة آلاف وثلاثمائة وسبعة أحرف وعن ابن عباس أنه قال: سألت اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: حدثنا عن أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف. فنزلت هذه السورة الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) أي تلك الآيات التي نزلت إليك في هذه السورة المسماة الر هي آيات الكتاب المبين وهو القرآن الذي بين الهدى وقصص الأولين إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي فيه قصه يوسف في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) أي لكي تفهموا معانيه في أمر الدين فتعلموا أن قصه كذلك ممن لم يتعلم القصص معجز لا يتصور إلا بالإيحاء. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي بسبب إيحائنا إليك يا أكرم الرسل هذه السورة لما فيه من العبر من أنه لا مانع من قدرة الله تعالى، وأن الحسد سبب للخذلان، وأن الصبر مفتاح الفرج وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أي وإنه أي الشأن كنت من قبل إيحائنا إليك هذه السورة لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط إِذْ قالَ يُوسُفُ منصوب بقال: يا بني، أي قال يعقوب: يا بني وقت قول يوسف له: كيت وكيت أو بدل من أحسن القصص بدل اشتمال لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في منام النهار أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) . قال وهب: رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها، فذكر ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال: لا تذكرها لهم فيبغوا لك الغوائل. روي عن جابر رضي الله عنه أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف عليه السلام، فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم لليهودي: «إذا أخبرتك بذلك هل تسلم» فقال: نعم، قال: «جريان، والطارق،

والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروخ، والفرغ، ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف عليه السلام، والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له» «1» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها، قالَ أي يعقوب ليوسف في السر يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيفعلوا لأجل هلاكك كيدا خفيا عن فهمك لا تتصدى لمدافعته إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ أي لنبي آدم عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) أي ظاهر العداوة فلا يقصر في إضلال إخوتك وحملهم على الحسد وما لا خير فيه كما فعل بآدم وحواء، وإخوة يوسف الذين يخشى غوائلهم، الأحد عشر هم يهوذا وروبيل وشمعون، ولاوى، وربالون، ويشجر، ودينة فهؤلاء بنو يعقوب من ليا بنت خالته، ودان ونفتالى، وجاد وآشر فهؤلاء بنوه من سريتين زلفة وبلهة، وأما بنيامين فهو شقيق يوسف وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب بعد وفاة أختها ليا، وَكَذلِكَ أي كما اجتباك لهذه الرؤية الدالة على كبر شأنك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير الرؤيا إذ هي أحاديث الملك إن كانت صادقة، وأحاديث النفس والشيطان إن كانت كاذبة، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بسعادات الدنيا والآخرة، أما سعادات الدنيا: فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه، والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء، وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي أولاده كَما أَتَمَّها أي نعمته عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الوقت إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) فالله أعلم حيث يجعل رسالته ومقدس عن العبث فلا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وهذا يقتضي حصول النبوة لأولاد يعقوب، وأيضا إن رؤية يوسف إخوته كواكب دليل على مصير أمرهم إلى النبوة، فإن الكواكب يهتدى بأنوارها. وكانت تأويلها بأحد عشر نفسا لهم فضل يستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب. وأما ما وقع منهم في حق يوسف فهو قبل النبوة، فالعصمة من المعاصي إنما تعتبر وقت النبوة لا قبلها على خلاف في ذلك. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم آياتٌ أي عبرات لِلسَّائِلِينَ (7) أي لكل من سأل عن قصتهم وعرفها أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم المنتفعون بها دون من عداهم إِذْ قالُوا أي بعض العشرة لبعضهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ الشقيق بنيامين بكسر الباء وفتحها أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنّا جماعة قائمون بدفع المفاسد والآفات مشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات، وقائمون بمصالح الأب فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بذلك وبكوننا أكبر سنا. ونقل عن علي رضي الله عنه أنه قرأ و «نحن عصبة» بالنصب. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ عن رعاية المصالح في الدنيا

_ (1) رواه الطبري في التفسير (12: 90) .

[سورة يوسف (12) : الآيات 11 إلى 20]

مُبِينٍ (8) أي ظاهر الحال وإنما خصص على يوسف أبوه بالبر لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد، ولأنه وإن كان صغيرا كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى مما كان يصدر عن سائر الأولاد. قال شمعون: ودان والباقون كانوا راضين إلا من قال: لا تقتلوا إلخ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي يقبل عليكم أبوكم بكليته ولا يلتفت إلى غيركم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد يوسف من قتله أو تغريبه في أرض بعيدة قَوْماً صالِحِينَ (9) أي تائبين إلى الله تعالى من الكبائر ومتفرقين لإصلاح أمور دنياكم وصالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من إخوة يوسف هو يهوذا فإنه أقدمهم في الرأي والفضل وأقربهم إلى يوسف سنا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ. وقال قتادة: القائل لإخوته روبيل حتى قال: القتل كبيرة عظيمة وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره. وقرأ نافع «غيابات» بالجمع في الموضعين. قال قتادة: الجب هنا هو بئر بيت المقدس. وقال وهب: هو في أرض الأردن. وقال ابن زيد: هو بحيرة طبرية. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي يرفعه بعض طائفة تسير في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) بمشورتي ولم يقطع القول عليهم بل إنما عرض عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وحذرا من نسبتهم له إلى الافتيات أو إن كنتم فاعلين ما عزمتم عليه من إزالته من عند أبيه ولا بد فافعلوا هذا القدر أي إلقاءه في البئر. والأولى أن لا تفعلوا شيئا من القتل والتغريب. قالُوا لأبيهم إعمالا للحيلة في الوصول إلى مقاصدهم مستفهمين على وجه التعجب لأنه علم منهم السوء، وهذا مبني على مقدمات محذوفة، وذلك أنهم قالوا أولا ليوسف: اخرج معنا، إلى الصحراء إلى مواشينا فنستبق ونصيد، وقالوا له: سل أباك أن يرسلك معنا، فسأله فتوقف يعقوب فقالوا له: يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أي أيّ شيء ثبت لك لا تجعلنا أمناء عليه مع أنه أخونا وأنك أبونا ونحن بنوك وَالحال وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أي لعاطفون عليه قائمون بمصلحته وبحفظه، أي هم أظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ أي نتسع في أكل الفواكه ونحوها وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال تمرينا لقتال الأعداء، وبالإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر لا للهو. وقرأ نافع وعاصم وحمزة، والكسائي بمثناة تحتية على إسناد الفعل ليوسف لأنهم سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا به وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) من أن يناله مكروه قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي ليؤلم قلبي ذهابكم به لأني لا أصبر عنه ساعة وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لكثرة الذئب في تلك الأرض. وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) لاشتغالكم بالاتساع

في الملاذ وبنحو التناضل قالُوا: لأبيهم. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة كثيرة عشرة تكفي الخطوب بآرائنا إِنَّا إِذاً أي إذا لم نقدر على حفظ أخينا لَخاسِرُونَ (14) أي لقوم عاجزون وهذا جواب عن عذر يعقوب الثاني وأما عذره الأول فلم يجيبوا عنه لكون غرضهم إيقاعه في الحزن، ولكون حقدهم بسبب ذلك العذر وهو شدة حبه له فتغافلوا عنه فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي فأرسله معهم فلما ذهبوا به وعزموا على جعله في ظلمة البئر فجعلوه فيها. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضر به فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيما، فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول: يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك لأباك فقال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه. فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب. فقال لهم: ردوا علي قميصي لأتوارى به. فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا لتؤنسك، ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي، فنادوه فظن أن رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فقام يهوذا فمنعهم من ذلك، وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال. وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، ودفعه إسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف، فجاءه جبريل فأخرجه من التميمة وألبسه إياه. وروي أن جبريل قال له: إذا رهبت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلما قالها يوسف حفته الملائكة واستأنس في الجب. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في الجب إزالة لوحشته عن قلبه، وتبشيرا له بما يؤول إليه أمره. وكان ابن سبع عشرة سنة. لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا أي لتخبرن يا يوسف إخوتك بصنيعهم هذا بك بعد هذا اليوم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) في ذلك الوقت أنك يوسف حتى تخبرهم لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامك. والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصيرون تحت قهره وقدرته. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) أي لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء في ظلمة الليل متباكين. وقرئ «عشيا» بالتصغير «لعشي» أي آخر النهار. وقرئ «عشى» بالضم والقصر جمع

أعشى فعند ذلك فزع يعقوب. وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا: لا، قال: وأنّى يوسف. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ يسابق بعضنا بعضا في الرمي. روي أن في قراءة عبد الله «إنا ذهبنا ننتضل» وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا من ثياب وأزواد وغيرهما ليحفظه فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) أي ولو كنا عندك موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي فوق قميص يوسف بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم ملابس لكذب. وقرئ «كذبا» على أنه حال من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعول له. وقرأت عائشة رضي الله عنها «بدم كذب» بالدال المهملة أي كدر أو طري. قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي قال يعقوب: ليس الأمر كما تقولون بل زينت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون. قيل: لما جاءوا على قميصه بدم جدي وقد ذهلوا عن خرق القميص فلما رأى يعقوب القميص صحيحا قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه، وقال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله؟ وقيل: إنهم أتوه بذئب وقالوا: هذا أكله فقال يعقوب: أيها الذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي فأنطقه الله عز وجل وقال: والله ما أكلت ولدك ولا رأيته قط ولا يحل لنا أن نأكل لحوم الأنبياء فقال له يعقوب: فكيف وقعت في أرض كنعان؟ قال: جئت لصلة الرحم قرابة لي فأخذوني وأتوا بي إليك فأطلقه يعقوب. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فصبري صبر جميل أو فصبر جميل أولى من الجزع وهو أن لا يشكو البلاء لأحد غير الله تعالى وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون عَلى ما تَصِفُونَ (18) أي على تحمل ما تصفون من هلاك يوسف وكأن الله تعالى قد مضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة، والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم. وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة تسير من جهة مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون في الأرض حتى وقعوا في الأراضي التي فيها الجب- وهي أرض دوثن بين مدين ومصر- فنزلوا عليه فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ أي ساقيهم ليطلب لهم الماء وهو من يهيئ الأرشية والدلاء فيتقدم الرفقة إلى الماء يقال له: مالك بن ذعر الخزاعي ابن أخي سيدنا شعيب عليه السلام وهو رجل من العرب من أهل مدين فَأَدْلى دَلْوَهُ أي فأرخى دلوه في جب يوسف فتعلق هو فلم يقدر الساقي على نزعه من البئر فنظر فيه فرأى غلاما قد تعلق بالدلو فنادى أصحابه قالَ يا بُشْرى أي يا أصحابي، وقال الأعمش: إنه دعا امرأة اسمها بشرى. وقال السدي: إنه نادى صاحبه واسمه بشرى كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي بغير ياء

[سورة يوسف (12) : الآيات 21 إلى 30]

المتكلم بعد الألف المقصورة، وقال أبو علي الفارسي: والوجه أن يجعل البشرى اسما للبشارة، فنادى ذلك بشارة لنفسه كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور، ويدل على هذا قراءة الباقين «يا بشراي» بفتح ياء المتكلم بعد الياء على الإضافة قالوا: ماذا لك يا مالك؟ قال: هذا غُلامٌ أحسن ما يكون من الغلمان. فكان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين، والعضدين والساقين، خميص البطن، صغير السرة. وكان إذا تبسم ظهر النور من ضواحكه، وإذا تكلم ظهر من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه اه. فاجتمعوا عليه فأخرجوه من الجب بعد مكثه فيها ثلاثة أيام وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة، أي كتم الوارد مالك وأصحابه من بقية القوم وذلك لأنهم قالوا: إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا: اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول: إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) أي بما ينشأ من عمل إخوة يوسف ليوسف من إيقاعه في البلاء الشديد وهو سبب لوصوله إلى مصر ولتنقله في أحوال إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فرحم الله به العباد والبلاد وَشَرَوْهُ أي باع يوسف من استخرجوه من البئر بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي حرام دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ فإنهم في ذلك الزمان كانوا لا يزنون ما كان أقل من أربعين دينارا وَكانُوا أي البائعون فِيهِ أي في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) أي من الذين لا يرغبون لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فكذلك باعوه من أول مساوم بأوكس الأثمان. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ أي في مصر من مالك بن ذعر وكان اشتراؤه بعشرين درهما وحلة ونعلين، فالذي اشتراه في مصر هو قطفير خازن الملك الريان بن الوليد، وهو صاحب جنوده، وقد آمن الملك بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشترى ذلك الوزير يوسف وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة عشرين سنة. لِامْرَأَتِهِ زليخا. وقال ابن إسحاق: اسمها راعيل بنت رعيائيل: أَكْرِمِي مَثْواهُ أي اجعلي منزله عندك كريما حسنا مرضيا: والمعنى أحسني تعهده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبناه، وكان قطفير لا يأتي النساء وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي وكما نجينا يوسف من القتل والجب وجعلنا في قلب الوزير حنوا عليه تعطيه مكانة أي رتبة عالية في أرض مصر وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تعبير بعض المنامات التي أعظمها رؤيا الملك وصاحبي السجن وهذا عطف على مقدر متعلق بمكنا، أي جعلنا يوسف وجيها بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم لينشأ منه ما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه بعض تأويل الرؤيا وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في

أرضه وسمائه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ (21) أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب فمن تأمل في أحوال الدنيا عرف ذلك وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وهو ما بين الثلاثين والأربعين آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي حكمة عملية وحكمة نظرية وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العلمية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية، ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية. وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية: فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولا، ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية. وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله تعالى عليه أبواب المكاشفات. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) أي كل من يحسن في عمله وعن الحسن من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت زليخا من يوسف أن يجامعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أبواب البيت السبعة، ثم دعته إلى نفسها وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ. قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان «هيت» بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ ابن كثير «هيت» بضم التاء وفتحها مع فتح الهاء، وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر «هئت لك» بكسر الهاء وبالهمزة الساكنة وضم التاء، والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء وإن قرئ «هيت» بفتح الهاء والتاء أو ضم التاء فمعناه تعال وبادر أنالك وإن قرأت بكسر الهاء، ثم بالهمزة الساكنة وضم التاء فمعناه تهيأت لك قالَ يوسف: مَعاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه إِنَّهُ أي الشأن العظيم رَبِّي أي سيدي العزيز أَحْسَنَ مَثْوايَ أي تعهدي حيث أمرك بإكرامي فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بالخيانة في حرمه إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) أي المجازون للإحسان بالإساءة وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها أي قصدت زليخا مخالطة يوسف مع التصميم وقصد مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية وشهوة الشباب لا بقصد اختياري وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ولهذا قال بعض أهل الحقائق: الهم قسمان: هم ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا- مثل هم امرأة العزيز- فالعبد مأخوذ به. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم- مثل هم يوسف عليه السلام- والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لولا أن أيقن بحجة ربه الدالة على كمال قبح الزنا وجواب لولا محذوف. أي لولا مشاهدته برهان ربه في شأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، لكنه حيث كان البرهان الذي هو الحكم والعلم حاضرا لديه حضور من يراه بالعين فلم يهم أصلا. والحاصل أن هذا البرهان عند المحققين المثبتين لعصمة الأنبياء هو حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب، أو المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق الحميدة وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات.

وقيل: إن البرهان هو النبوة المانعة من إتيان الفواحش. وقيل: إنه عليه السلام رأى مكتوبا في سقف البيت ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا. وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف فقالوا: إنه رأى يعقوب عاضا على إبهامه أو هتف به هاتف وقال له: لا تعمل عمل السفهاء واسمك في ديوان الأنبياء، أو تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت منيه من أنامله أو رأى كفا من غير ذراع مكتوبا فيه وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [يونس: 61] ، الآية. كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ أي مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بشهوة وَالْفَحْشاءَ أي الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) . قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام في جميع القرآن أي الذين أخلصوا دينهم الله تعالى، والباقون بفتح اللام أي الذين اختارهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها أو أخلصهم من كل سوء وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص فإن سبق يوسف فتح الباب للخروج وإن سبقت زليخا أمسكت الباب لمنع الخروج وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي شقت قميص يوسف من خلف بنصفين من وسطه إلى قدميه فغلبها يوسف وخرج وخرجت خلفه وَأَلْفَيا سَيِّدَها أي صادفا زوجها قطفير لَدَى الْبابِ أي البراني. روى كعب رضي الله عنه: أنه لما هرب يوسف عليه السلام صار فراش القفل يتناثر حتى خرج من الأبواب قالَتْ لزوجها خائفة من التهمة ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً قيل: إن يوسف أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فذكرت كلاما مبهما، ثم خافت أن يقتله العزيز وهي شديدة الحب له فقالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) أي ليس جزاؤه إلا السجن أو الضرب الوجيع، وإنما أخرت ذكر الضرب لأن المحب لا يشتهي إيلام المحبوب وإنما أرادت أن يسجن يوما أو أقل على سبيل التخفيف، أما الحبس الطويل فلا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولم يقل هذه ولا تلك لفرط استحيائه- وهو أدب حسن حيث أتى بلفظ الغيبة- ولم يكن يوسف يريد أن يهتك سترها، ولكن لما لطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فصرّح بالأمر فقال: هي طالبتني للمواتاة وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها وهو ابن داية زليخا أو ابن خال لها وكان عمره شهرين أنطقه الله تعالى لبراءة يوسف. وروي أن العزيز اشترى يوسف، بوزنه ذهبا ووزنه فضة، ووزنه لؤلؤا، ووزنه مرجانا، ووزنه مسكا، ووزنه عنبرا فلما ذهب به إلى البيت شغفت به زليخا فقالت لحاضنتها: ما الحيلة؟ فقالت لها: يا سيدتي لو نظر إليك لكان أسرع حبا منك إليه، ولو رأى حسنك وجمالك وصفاء لونك ما قرّ له قرار دونك فقالت: وكيف ذلك؟ فقالت: مكنيني من الأموال، فقالت: خزائني بين يديك فخذي ما شئت لا حساب عليك وأمرت بإحضار أهل البناء والهندسة، وقالت: أريد بيتا يرى الوجه في سقفه وفي حيطانه كما يرى في

المرآة المصقولة فقالوا: نعم، فبنوا لها بيتا سمته القيطون، فلما تم دعت المصور وأمرته بصنع سرير من ذهب مرصّع بالجواهر واليواقيت، وفرشته بالديباج والسندس، وصوّرت صورة يوسف وزليخا متعانقين، ثم زينت زليخا وخرجت إلى يوسف مستعجلة وقالت: يا يوسف أجب سيدتك فإنها تدعوك في بيتها القيطون، وكان سميعا مطيعا، وكان بيده قضيب من ذهب يلعب به فرماه وأسرع لباب البيت فلما وضع قدمه الواحدة أحس قلبه بالشر وأراد الرجوع فأسرعت زليخا إليه وجرته للسرير فغمض عينيه، وأطرق رأسه، وبكى حياء من الله تعالى وراودته عن نفسه فأبى، فقالت له: لم تخالف أمري؟ فقال: خوفا من الله وإكراما لسيدي الذي أحلني محل أولاده، فقالت: أما إلهك فأنا أعطيك جميع الأموال تصدّق بها لربك ليغفر لك هذا الذنب، وأما سيدك فأنا أطعمه السم حتى يهرى لحمه وأكون أنا وأموالي ملكك، فقام وبادر إلى الباب من غير أن يكون بينه وبينها سبب من الأسباب فجذبته مزقت قميصه من خلفه وهو فار، فوافق ذلك الوقت أن العزيز مر بالباب، فنظر العزيز لزليخا فرآها مزينة حاسرة عن وجهها، ونظر إلى يوسف فرآه منكس الرأس، باكي العين. فوقف متحيرا في أمرهما ينظر إليه مرة، وإليها مرة، فقالت له: إن غلامك هذا يريد أن يخونك في أهلك أي شيء جزاؤه أن يسجن أو عذاب أليم. فقال له العزيز: يا يوسف ما كان هذا جزائي منك أحللتك محل أولادي وتخونني في أهلي! فقال يوسف عليه السلام: إن لي شاهدا يشهد لي بالبراءة فقال له: أين الشاهد وليس معكما في البيت ثالث؟ فقال: هذا الطفل يشهد لي بالبراءة، فأوحى الله لجبريل أن اهبط على الطفل وشق له لسانه حتى يشهد لعبدي يوسف بالبراءة فعند ذلك تنحنح الطفل وقال: أيها الملك إن عندي في أمرك هذا ما لك فيه فرج ومخرج، انظر إلى قميص الغلام العبراني إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي شق من قدام فَصَدَقَتْ أي فقد صدقت المرأة وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) في قوله: هي راودتني وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف فَكَذَبَتْ أي فقد كذبت المرأة في دعواها وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) في قوله: هي راودتني فَلَمَّا رَأى أي زوجها قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها إِنَّهُ أي هذا القذف له في ضمن قولك: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا مِنْ كَيْدِكُنَّ أي من جنس مكركن أيتها النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) لأن لهن في هذا الباب من الحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي يا يوسف أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها، واكتمه فقد ظهر صدقك ونزاهتك، اسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ الذي صدر عنك أي توبي إلى الله تعالى مما رميت يوسف به وهو بريء منه إِنَّكِ كُنْتِ بسبب ذلك مِنَ الْخاطِئِينَ (29) . في هذا القول الذي لا يليق بمقام الأنبياء وكان العزيز رجلا حليما، فاكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها، وكان قليل الغيرة قال: في البحر أن

[سورة يوسف (12) : الآيات 31 إلى 40]

تربة مصر تقتضي هذا ولهذا لا ينشأ فيها الأسد ولو دخل فيها ما يبقى، ثم أخبرت زليخا بعض النساء بما حصل لها وأمرتهن بالكتم فلم يكتمن بل أشعن الأمر. وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ أي أشعن الأمر في مصر: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ أي الملك قطفير تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي وقال جماعة من النساء: وكن خمسا وهن امرأة صاحب دواب الملك وامرأة صاحب سجنه، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب مطبخه، وامرأة ساقيه فتحدثن فيما بينهن وقلن: امرأة العزيز تراود عبدها الكنعاني عن نفسه وهو يمتنع منها قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي قد شق فتاها شغاف قلبها من جهة الحب. وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين «شغفها» بالعين المهملة أي قد أحرق حبها فتاها حجاب قلبها. والمعنى أن اشتغالها بحبه صار حجابا بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا يخطر ببالها إلا هو إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) أي إنا نعلمها في ضلال واضح عن طريق الرشد بسبب حبها إياه فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي قولهن المستدعي لنظرهن إلى وجه يوسف أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ أي أرادت إظهار عذرها فاتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشرف مدينتها فيهن الخمس المذكورات وَأَعْتَدَتْ أي أحضرت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي وسائد يتكئن عليها، هذا «إن» قرئت مشددة فإن قرئت مخففة فمعناها اترنجة فإنهم كانوا يتكئون على المسانيد عند الطعام والشراب والحديث على عادة المتكبرين ولذلك جاء النهي عنه في الحديث وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا آكل متكئا» . وَآتَتْ أي أعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لأجل أكل الفاكهة واللحم لأنهم كانوا لا يأكلون من اللحم إلا ما يقطعون بسكاكينهم وَقالَتِ أي زليخا ليوسف وهي مشغولات بأعمال الخناجر في الطعام: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز لهن ومر عليهن فإن يوسف عليه السلام ما قدر على مخالفتها خوفا منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وهبنه ودهشن عند رؤيته من شدة جماله وقيل: معنى أكبرن أي حضن والهاء إما للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف على حذف اللام، أي حضن له من شدة الشبق وأيضا إن المرأة إذا فزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت ويقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر وذلك إذا حاضت، لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحن أيديهن حتى سال الدم ولم يجدن الألم لفرط دهشتهن وشغل قلوبهن بيوسف وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها لله تعالى من العجز حيث قدر على خلق جميل مثل هذا ما هذا بَشَراً أي ليس يوسف آدميا. وقرأ ابن مسعود «ما هذا بشر» بالرفع. وقرئ «ما هذا بشرى» أي ما هو بعبد مملوك للبشر حاصل بشراء إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) على الله فإنه قد ثبت في العقول أنه لا شيء أحسن من الملك كما ثبت فيها أن لا شيء أقبح من الشيطان.

وقيل: إن النسوة لما رأين يوسف لم يلتفت إليهن ألبتة، ورأين عليه هيبة النبوة والرسالة وسيما الطهارة قلن: إنا ما رأينا فيه أثرا من آثار الشهوة ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية قالَتْ أي زليخا لهن: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي فهذا الذي ترينه هو ذلك العبد الكنعاني الذي عيبتنني في الافتتان به قبل أن تتصورنه حق تصوره ولو حصلت صورته في خيالكن لتركتن هذه الملامة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ حسبما سمعتن وقلتن فَاسْتَعْصَمَ أي فامتنع عني بالعفة وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي إن لم يفعل يوسف مقتضى أمري إياه من قضاء شهوتي لَيُسْجَنَنَّ أي ليعاقبن بالحبس وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) أي من الذليلين في السجن فقلن ليوسف: أطع مولاتك قالَ أي يوسف مناجيا لربه عز وجل: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أي يا رب دخول السجن أحب عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بالتثبيت على العصمة فإن كل واحدة منهن كانت ترغب يوسف على موافقة زليخا وتخوّفه على مخالفتها أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل إلى إجابتهن على قضية الطبيعة البشرية وحكم القوة الشهوية وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) أي وأصر من الذين لا يعملون بعلمهم فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ دعاءه الذي في ضمن قوله وإلا تصرف عني إلخ فإن فيه التجاء إلى الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات وطلب النجاة من الشرور على جناب الله تعالى كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة حتى وطّن نفسه على مشقة السجن إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء المتضرعين إليه الْعَلِيمُ (34) للنيات فيجيب ما طاب منه العزم ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ أي ثم ظهر للعزيز وأصحابه المشاركين له في الرأي من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبي، وقد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن سجنه عليه السلام قائلين والله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) أي إلى انقطاع مقالة الناس في المدينة فإن زليخا لما أيست من يوسف بجميع حيلها كي تحمله على موافقة مرادها قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إليهم وإما أن تسجنه، فسجنه وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي عبدان لملك مصر الكبير وهو الريان بن الوليد العمليق سمى أحدهما: وهو صاحب شرابه سرهم، وسمى الآخر وهو صاحب مطبخه برهم. وقيل: اسم الأول: مرطش، والثاني: رأسان، وسبب سجنهما أن جماعة من أهل مصر أرادوا قتل الملك فجعلوا لهما رشوة على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثم إن الساقي ندم ورجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام، فلما حضر الخبز بين يدي

الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز: لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشربه فشربه، فلم يضره وقال الخباز: كل من الطعام فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أنهما دخلا مع يوسف فلما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول: إني أعبر الأحلام قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب شراب الملك إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً أي إني رأيت نفسي أعصر عنبا وأسقي الملك وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أي رأيتني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أي أخبرنا بتفسير رؤيانا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) أي من العالمين بتفسير الرؤيا ومن المحسنين إلى أهل السجن فيسليهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فقالوا: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم. فقال له: صاحب السجن يا فتى والله لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك واختر أي بيوت السجن شئت، أي إن الساقي قال لسيدنا يوسف: أيها العالم إني رأيت في المنام كأني في بستان وفيه شجرة عنب فيها ثلاثة أغصان وعليها ثلاثة عناقيد من العنب فجنيتها وكأن كأس الملك في يدي فعصرتها وسقيت الملك فشربه. وقال الخباز: إني رأيت في المنام كأني أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسي ثلاث سلال من الخبز فوقع طير على أعلاها وأكل منها ولما قصا عليه الرؤيا كره أن يعبرها لهما حين سألاه لما علم ما فيها من المكروه لأحدهما فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والنبوة والدعاء إلى التوحيد لأنه علم أن أحدهما هالك فأراد أن يدخله في الإسلام فبدأ بإظهار المعجزة لهذا السبب قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في منزلكما على حسب عادتكما المطردة إلا أخبرتكما بعاقبته فهو يفيد الصحة أو السقم وبلونه وجنسه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وكيف لا أعلم تعبير رؤياكما وهذا راجع إلى أن يوسف ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قول عيسى: وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي والإلهام لا على جهة الكهانة والنجوم إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) أي إني امتنعت عن دين قوم لا يؤمنون بالله وبالبعث بعد الموت وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وإنما قال يوسف: ذلك ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عمّا كانا عليه من الشرك والضلال. ما كانَ أي لا يصح لَنا معاشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي أيّ شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن أن نشرك به صنما لا يسمع ولا يبصر ذلِكَ أي التوحيد الذي هو ترك الإشراك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَعَلَى النَّاسِ بإرسالنا إليهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) أي لا يوحدون الله تعالى يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا

[سورة يوسف (12) : الآيات 41 إلى 50]

صاحبي في السجن أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة أصحاب الجنة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ أي مختلفون في الكبر والصغر واللون من ذهب وفضة وحديد وصفر وخشب وحجارة وغير ذلك خَيْرٌ لكما أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) أي هذه الأصنام معمولة ومقهورة فإن الإنسان إذا أراد كسرها قدر عليها فهي مقهورة ولا ينتظر حصول منفعة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر على إيصال الخيرات ودفع الآفات. والمراد أعبادة آلهة شتى مقهورة خير. أم عبادة الله المتوحد بالألوهية الغالب على خلقه ولا يغالب خير. ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله شيئا إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي إلا ذوات. أوجدتم وآباؤكم لها أسماء آلهة بمحض ضلالتكم ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بتلك التسمية المتتبعة للعبادة مِنْ سُلْطانٍ أي من حجة تدل على صحتها وتحقيق مسمياتها في تلك الذوات فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة عن الذوات. والمعنى أنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه الألوهية عقل ولا نقل آلهة ثم أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أي ليس الحكم في أمر العبادة إلا لله فليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام أَمَرَ على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن العبادة نهاية التعظيم فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الأنعام وهو الله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والرزق والهداية، ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ذلِكَ أي تخصيصه تعالى بالعبادة الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الذي تعاضدت عليه البراهين عقلا ونقلا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) أن ذلك هو الدين المستقيم لجهلهم بتلك البراهين ولما فرغ سيدنا يوسف من الدعاء إلى عبادة الله تعالى رجع إلى تعبير رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ. روي أن الساقي لما قصّ رؤياه على يوسف قال له: ما أحسن ما رأيت. أما الكرم: فهو العمل الذي كنت فيه، وأما العنب: فهو عزك في ذلك العمل، وأما الأغصان الثلاثة: فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن، وأما العنب الذي عصرت وناولت الملك: فهو أن يردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن، ولما قص الخباز رؤياه على يوسف قال له: بئسما رأيت. أما خروجك من المطبخ: فهو أن تخرج من عملك، وأما ثلاث سلال: فهي ثلاثة أيام تكون في السجن، وأما أكل الطير من رأسك: فهو أن يخرجك الملك بعد ثلاثة أيام ويصلبك وتأكل الطير من رأسك ففزعا لتعبير رؤيا الخباز وقالا جميعا: ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب فقال لهما يوسف: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) أي تم الأمر الذي تسألان عنه رأيتما أو لم تريا فكما قلتما وقلت لكما كذلك يكون وَقالَ أي يوسف عليه السلام لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ أي للرجل الذي ظنه ناجيا من القتل مِنْهُمَا أي من صاحبيه وهو الساقي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي عند سيدك الملك الكبير فقل له: إن في السجن غلاما يحبس ظلما خمس سنين فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي أنسى الشيطان بوسوسته الشرابي ذكره ليوسف عند الملك. ويقال: فأنسى الشيطان يوسف أن يذكر ربه حتى طلب

الفرج من مخلوق مثله وذلك غفلة عرضت ليوسف عليه السلام فإن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فالأولى بالصديقين أن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب ولذلك جوزي يوسف بسنتين في الحبس كما قال تعالى: فَلَبِثَ أي يوسف فِي السِّجْنِ بسبب ذلك القول بِضْعَ سِنِينَ (42) أي سبع سنين خمس منها قبل ذلك القول وثنتان بعده هذا هو الصحيح وَقالَ الْمَلِكُ الريان بن الوليد إِنِّي أَرى أي رأيت في منامي سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ قد خرجن من النهر ثم خرج منه بعدهن سبع بقرات مهازيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي ابتلعت العجاف السمان ودخلن في بطونهن ولم يتبين على العجاف شيء منهن وَإني أرى وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ أي قد انعقد حبها وَأُخَرَ أي وسبعا أخر يابِساتٍ أي قد بلغت أوان الحصد فالتوت اليابسات على الخضر حتى علون عليهن ولم يبق من خضرتهن شيء فقلق الملك لما رأى الناقص الضعيف قد استولى على القوي الكامل حتى غلبه فجمع سحرته كهنته ومعبريه وأخبرهم بما رأى في منامه وسألهم عن تأويلها فأعجزهم الله تعالى عن تأويل هذه الرؤيا ليكون ذلك سببا لخلاص يوسف من السجن فهذا هو قوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي السحرة والكهنة والمعبرون للرؤيا أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ أي بينوا لي تعبير رؤياي هذه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) أي إن كنتم تعلمون بانتقال الرؤيا من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها قالُوا أي أشراف العلماء والحكماء: أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة لا حقيقة لها وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها بِعالِمِينَ (44) أي لأنه لا تأويل لها وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي الذي خلص من السجن من صاحبي يوسف بعد أن جلس بين يدي الملك أي قال الشرابي للملك إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير العلم، كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي تذكر الشرابي يوسف بعد مدة طويلة. وقرأ الأشهب العقيلي «بعد أمة» بكسر الهمزة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرئ «بعد أمه» بفتح الهمزة والميم، ثم بالهاء أي بعد نسيان. أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي أنا أخبرك أيها الملك بتعبير رؤياك فَأَرْسِلُونِ (45) إلى السجن فأرسله إليه فأتى يوسف فقال له: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أي البالغ في الصدق أَفْتِنا أي بين لنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ من البقر عِجافٌ في وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ في سبع وَأُخَرَ من السنابل يابِساتٍ أي في رؤيا ذلك رآها الملك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي أعود إلى الملك وجماعته بفتواك لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) فضلك وعلمك فإن الساقي علم عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز يوسف عنه أيضا قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي متتابعة على عادتكم في الزراعة فَما حَصَدْتُمْ من الزرع في كل سنة فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي كوافره ولا تدوسوه لئلا يقع

[سورة يوسف (12) : الآيات 51 إلى 60]

فيه السوس فإن ذلك أبقى له على طول الزمان إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) أي إلا كل ما أردتم أكله فدوسوه في تلك السنين وهذا تأويل السبع السمان والسبع الخضر ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السبع سنين المخصبة سَبْعٌ شِدادٌ أي سبع سنين قحطة صعاب على الناس وهذا تأويل السبع العجاف والسبع اليابسات يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي تأكلون الحب المزروع وقت السنين المخصبة المتروك في سنبله في السنين المجدبة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) أي تدخرون للبذر فأكل ما جمع أيام السنين المخصبة في السنين المجدبة تأويل ابتلاع العجاف السمان ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السنين المجدبة عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي ينقذ الناس من كرب الجدب وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) ما من عادته أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها. وقيل: معنى يعصرون يحلبون الضروع. وقيل: معناه يمطرون. وقيل: معناه ينجون من الشدة وعلى هذين يقرأ بالبناء للمفعول. وهذا من مدلولات المنام، لأنه لما كانت العجاف سبعا دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد، فالحاصل بعده هو الخصب على العادة الإلهية حيث يوسع الله على عباده بعد تضييقه عليهم فلما رجع الشرابي إلى الملك وأخبره بما ذكره يوسف استحسنه الملك وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أي بيوسف لما علم من فضله وعلمه فرجع الساقي إلى يوسف فَلَمَّا جاءَهُ أي يوسف الرَّسُولُ وقال له: أجب الملك. قالَ أي يوسف له: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي إلى سيدك الملك الكبير فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي فاسأل الملك بأن يفتش عن شأن النسوة ليعلم براءتي عن تلك التهمة، وإنما لم يخرج يوسف من السجن في الحال لأنه لو خرج قبل ظهور براءته من تلك التهمة عند الملك فلربما يقدر الحاسد على أن يتوسل إلى الطعن فيه بعد خروجه إِنَّ رَبِّي أي سيدي ومربيّ، وهو ذلك الملك بِكَيْدِهِنَّ أي بمكرهن عَلِيمٌ (50) فلما أبى يوسف أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال يوسف عليه السلام، فأمر الملك بإحضارهن وكانت زليخا معهن، قالَ أي الملك مخاطبا لهن لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز بقولها ليوسف أطع مولاتك: ما خَطْبُكُنَّ أي ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ أي خادعتنه هل وجدتن فيه ميلا إلى قولكن قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها له ما عَلِمْنا عَلَيْهِ أي يوسف مِنْ سُوءٍ أي من خيانة في شيء من الأشياء قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي الآن تبين الحق ليوسف أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ أي أنا دعوته إلى نفسي وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) أي في قوله: حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وإنما أقرت زليخا بذنبها، وأشهدت لبراءة يوسف عن الذنب مكافأة على فعل يوسف حيث ترك ذكرها. وقال: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن مع أن الفتن كلها إنما نشأت من جهتها وقد عرفت أن ذلك لرعاية حقها ولتعظيمها

ولإخفاء الأمر عليها فجاء الرسول إلى يوسف فأخبره بجواب النسوة وبقول زليخا فقال يوسف وهو في السجن: ذلِكَ أي الذي فعلت من ردي الرسول لطلب البراءة إنما كان لِيَعْلَمَ أي الملك الصغير الذي هو قطفير زوج زليخا أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حرمته كما زعمه بِالْغَيْبِ أي وأنا غائب عنه أو هو غائب عني وَليعلم أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) أي لا ينفذه ولو كنت خائنا لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي والحال أني لم أقصد بذلك تنزيه نفسي من الزلل وبراءتها منه إِنَّ النَّفْسَ البشرية لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ أي ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية. ولما كان قوله ذلك ليعلم أني لم أخنه جاريا مجرى مدح النفس استدركه بقوله: وما أبرئ نفسي أي لا أمدحها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي أي إلا نفسا عصمها ربي من الوقوع في المهالك إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ للهم الذي هممت به رَحِيمٌ (53) لمن تاب وهذا ما عليه أكثر المفسرين. وقال بعضهم من اسم الإشارة إلى هنا من كلام امرأة العزيز. والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، أي أني لم أقل في يوسف وهو في السجن خلاف الحق فإني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره ما أحلت الذنب عليه عند غيبته وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، أي لا يرضاه فإني لما أقدمت على المكر لا شك افتضحت، وأن يوسف لما كان بريئا من الذنب لا شك طهره الله عنه وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث راودته وقلت في حقه ما قلت، وأودعته في السجن. ومقصود زليخا بهذا الكلام الاعتذار مما كان، وتنزيه يوسف من الذنب إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعصمة- كنفس يوسف عليه السلام- إن ربي غفور لمن استغفر من ذنبه، رحيم له. فعلى هذا يكون تأتيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه ملاقاة الملك حتى يتبين أنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من نباهة الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإجلال وقد حصل ذلك. وَقالَ الْمَلِكُ أي الكبير وهو الريان: ائْتُونِي بِهِ أي بيوسف أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي أجعله خاصا بي دون العزيز. روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام: «قم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة» فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، فلما أراد الدخول على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم دخل على الملك فسلم عليه بالعربية فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال له: وما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف به وزاد عليه بالعربية والعبرانية.

وروي أنه لما رآه الملك شابا وهو في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة قال للشرابي: أهذا هو الذي علم تأويل رؤياي؟ قال: نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أي كلم الملك يوسف قالَ أي الملك: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أي ذو منزلة رفيعة أَمِينٌ (54) أي ذو أمانة على كل شيء فما ترى أيها الصديق قالَ أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي ولني أمر خزائن أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لما وليتني ولجميع مصالح الناس عَلِيمٌ (55) بوجوه التصرف في الأموال وبجميع ألسن الغرباء الذين يأتونني وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإن كان الطلب من يد الكافر وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأنعام الذي أنعمنا عليه من تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ أي نازلا في أي موضع يريد يوسف من بلادها. روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين فرسخا. وقرأ ابن كثير «نشاء» بالنون مسندا إلى الله تعالى. روي أنه لما تمت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وأخرج خاتم الملك وجعله في إصبعه وقلده بسيفه، وجعل له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشا وضرب له عليه حلة من إستبرق فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال الملك: وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك وأمره أن يخرج فخرج متوجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وأمر مصر وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه ومات قطفير بعد ذلك فزوجه عليه السلام الملك امرأته زليخا، فلما دخل يوسف عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين قالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك، فغلبتني نفسي وعصمك الله. فأصابها يوسف فوجدها عذراء فولدت له ذكرين أفراثم وميشا، فاستولى يوسف على ملك مصر وأقام فيها العدل وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى: بالدنانير والدراهم. وفي الثانية: بالحلي والجواهر. وفي

الثالثة: بالدواب. وفي الرابعة: بالجواري والعبيد. وفي الخامسة: بالضياع والعقار. وفي السادسة: بأولادهم وفي السابعة: برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له عليه السلام. فقال أهل مصر: ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من يوسف. فقال يوسف للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ قال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان يوسف لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس ومات الملك في حياة يوسف نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا أي بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم مَنْ نَشاءُ من عبادنا وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) لأن إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) أي ولأجر المحسنين وهم الذين آمنوا بالله والكتب والرسل، واتقوا الفواحش في الآخرة خير لهم. والمراد أن يوسف وإن كان قد وصل إلى الدرجات الرفيعة في الدنيا فثوابه الذي أعده الله له في الآخرة أفضل وأكمل وقد ثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ إلى مصر وهم عشرة ليمتاروا أي لما وصل القحط إلى البلدة التي يسكنها يعقوب عليه السلام وهي ثغور الشام من أرض فلسطين قال لبنيه: إن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون إليه من الطعام، فخرجوا غير بنيامين حتى قدموا مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف وهو في مجلس ولايته فَعَرَفَهُمْ بأول نظرة نظر إليهم لقوة فهمه وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) أي والحال أنهم لا يعرفونه لطول المدة فبين أن ألقوه في الجب ودخولهم عليه أربعون سنة، ولأنهم رأوه جالسا على سرير الملك وعليه ثياب حرير وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج من ذهب، فكلموه بالعبرانية فقال لهم: من أنتم وأيّ شيء أقدمكم بلادي؟ فقالوا: قدمنا لأخذ الميرة، ونحن قوم رعاة من أهل الشام، أصابنا الجهد. فقال: لعلكم عيون تطلعون على عوراتنا وتخبرون بها أعداءنا. فقالوا: معاذ الله، قال: من أين أنتم؟ قالوا: من بلاد كنعان نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ كبير صدّيق، نبي من أنبياء الله اسمه يعقوب، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحدا، فقال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك، لأنه أخوه الشقيق. قال: فمن لم يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد غربة لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا! قال: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا أكتفي بذلك منكم. قالوا: إن أبانا يحزن لفراقه. قال: فاتركوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني به، فاقترعوا فيما بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف في أمر الجب فتركوه عنده فأمر بإنزالهم وإكرامهم وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي فلما أوقر

[سورة يوسف (12) : الآيات 61 إلى 70]

يوسف إبلهم بالميرة وأصلحهم بالزاد وما يحتاج إليه المسافر قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ إذا رجعتم لتمتاروا مرة أخرى لأعلم صدقكم فيما قلتم: إن لنا أخا من أبينا عند أبينا. أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي أتمه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وحملا آخر لأبيكم لأنهم قالوا: إن لنا أبا شيخا كبيرا وأخا آخر بقي معه، لأن يوسف لا يزيد لأحد على حمل بعير وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) أي خير المضيفين فإنه عليه السلام كان قد أحسن ضيافتهم مدة إقامتهم عنده فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ أي بأخيكم من أبيكم إذا عدتم مرة أخرى فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي أي فلا طعام لكم يكال عندي وَلا تَقْرَبُونِ (60) أي لا تدخلوا بلادي فضلا عن وصولكم إلى قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنطلبه من أبيه ونحتال على أن ننزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) ما أمرتنا به من أن نجيئك بأخينا فإنهم كانوا محتاجين إلى تحصيل الطعام ولا يمكن إلا من عنده وَقالَ لِفِتْيانِهِ أي لخدامه الكيالين. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «لفتيانه» بالألف والنون. والباقون «لفتيته» بالتاء من غير الألف. اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أي دسوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي لكي يعرفوا بضاعتهم إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ أي إذا رجعوا إلى أبيهم وفرغوا أوعيهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) أي لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، لأنهم إذا علموا أن ذلك من سخاء يوسف بعثهم على العود عليه والرغبة في معاملته وأيضا أن سيدنا يوسف يخاف من أن لا يكون عند أبيه من الدراهم ما يرجعون به مرة أخرى فَلَمَّا رَجَعُوا أي إخوة يوسف غير شمعون إِلى أَبِيهِمْ بكنعان قالُوا قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي حكم العزيز بمنع الطعام بعد هذه المرة إن لم يذهب معنا بنيامين إليه، فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين إلى مصر. وقال يعقوب: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر وأخبروه بالقصة نَكْتَلْ أي نرفع المانع من الكيل بسببه ونكتل بسببه من الطعام ما نشاء. وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بالياء أي يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) من أن يصيبه مكروه وضامنون برده إليك قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ أي قال لهم يعقوب: كيف آمنكم على بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه فما فعلتم فلما لم يحصل الأمن والحفظ هناك فكيف يحصل هاهنا وإنما أفوّض الأمر إلى الله فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً منكم. قرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وبألف بعدها على التمييز أي حفظ الله بنيامين خير من حفظكم. وقرأ الباقون «حفظا» بكسر الحاء وسكون الفاء. وقرأ الأعمش «فالله خير حافظا» .

وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين» . وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وهو أرحم به من والديه ومن إخوته وقيل: إن يعقوب لما ذكر يوسف قال: فالله خير حافظا إلخ أي حفظا ليوسف لأنه كان يعلم أن يوسف حي. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ أي أوعيتهم التي وضعوا فيها الميرة بحضرة أبيهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ وهي ثمن الميرة الذي دفعوه ليوسف رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ما نكذب بما قلنا من أنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة أو المعنى أي شيء نريد من إكرام الملك هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا هل من مزيد على ذلك فقد أحسن الملك مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا فلا نطلب وراء ذلك إحسانا. وقيل المعنى نحن لا نطلب منك يا أبانا عند رجوعنا إلى الملك بضاعة أخرى فإن هذه التي ردت إلينا كافية لنا في ثمن الطعام وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي نأتي بالطعام إلى أهلنا برجوعنا إلى ذلك الملك بتلك البضاعة وهذا معطوف على محذوف، والتقدير فنستعين بهذه البضاعة ونمير أهلها وَنَحْفَظُ أَخانا بنيامين من المكاره في الذهاب والإياب وَنَزْدادُ بسببه كَيْلَ بَعِيرٍ أي وقر بعير له ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) أي ذلك الحمل الذي نزداده كيل قليل على الملك، لأنه قد أحسن إلينا وأكرمنا بأكثر من ذلك ويقال: ذلك الذي نطلب منك أمر يسير قالَ لهم أبوهم: لَنْ أُرْسِلَهُ أي بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي حتى تعطوني عهدا من الله أي حتى يحلفوا بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي في حال أن تموتوا أو في حال أن تصيروا مغلوبين فلا تقدروا الإتيان به إلى فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أي أعطوا أباهم عهدهم من الله على رده إلى أبيهم فقالوا في حلفهم: بالله رب محمد لنأتينك به. قالَ أي يعقوب: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) أي شهيد فإن وفيتم بالعهد جازاكم الله بأحسن الجزاء، وإن غدرتم به كافأكم بأعظم العقوبات. وَقالَ ناصحا لهم لما أزمع على إرسالهم جميعا: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ من أبوابها الأربعة وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ إنما أمرهم بذلك لأنه خاف عليهم العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة، وكانوا أولاد رجل واحد وقد تجملوا في هذه الكرة أكثر مما في المرة الأولى وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أدفع عنكم بتدبيري شيئا مما قضى الله عليكم فإن الحذر لا يمنع القدر، والإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، وأن يسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان، إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم بالإلزام والمنع إِلَّا لِلَّهِ وحده عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أي إليه وحده فوّضت أمري وأمركم وَعَلَيْهِ دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) أي فليثق الواثقون وَلَمَّا دَخَلُوا أي المدينة مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي من الأبواب المتفرقة ما كانَ أي دخولهم متفرقين يُغْنِي أي يخرج عَنْهُمْ أي الداخلين مِنَ اللَّهِ أي من قضائه مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي لكن الدخول على صفة التفرق أظهر حاجة في قلب يعقوب وهي خوفه عليهم من إصابة العين وهذا تصديق الله لقول يعقوب وما أغني عنكم من الله من شيء وَإِنَّهُ أي

[سورة يوسف (12) : الآيات 71 إلى 80]

يعقوب لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي لفوائد ما علمناه أي أنه عامل بما علمه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) إن يعقوب بهذه الصفة والعلم وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ أي في محل حكمه آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي أنزله معه في منزله أي لما أتى إخوة يوسف بأخيه بنيامين قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم: أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم فريدا، فأجلسه معه على مائدة وجعل يواكله، ثم أنزل كل اثنين منهم بيتا. فبقي بنيامين وحده وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فضمه يوسف إليه وشمّ ريح أبيه منه حتى أصبح، فلما خلا به قال له يوسف: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: المثكل وهو لما ولد هلكت أمه، قال: وما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوى . قال: فهل لك من ولد؟ قال: لي عشرة بنين قال: فهل لك من أخ لأمك؟ قال: كان لي أخ فهلك، قال يوسف: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: بنيامين ومن يجد أخا مثلك أيها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل! فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم من أعمالهم المنكرة وفيما يعملون بك من الجفاء ويقولون لك من التعيير والأذى، قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، وقال يوسف: قد علمت اغتمام والدك بي فإذا حبستك عندي ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يحمد قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك. قال يوسف: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة لأحتال في ردك بعد إطلاقك معهم. قال: فافعل ما شئت فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي فلما هيأ يوسف لهم ما يحتاجون للسفر وحمل لهم أحمالهم من الطعام على إبلهم جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي دسّ مشربته التي كان يشرب فيها في وعاء طعام أخيه الشقيق بنيامين، ثم أمرهم بالسير، ثم أرسل خلفهم عبده ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد مع رفع صوت مرارا كثيرة أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي يا أصحاب الإبل التي عليها الأحمال إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) وهذا الكلام إما على سبيل الاستفهام، وإما على قصد المعاريض. والمعنى إنكم لسارقون ليوسف من أبيه ليكون للمنادي مندوحة عن الكذب. قالُوا أي إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي والحال إنهم التفتوا إلى جماعة الملك المؤذن وأصحابه: ماذا تَفْقِدُونَ (71) أي أي شيء صاع منكم. قالُوا أي أصحاب الملك: نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أي نطلب إناء الملك الذي كان يشرب فيه ويكيل وإنما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت قال المؤذن: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالإناء من عند نفسه مظهرا له قبل التفتيش حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام أجرة له وَأَنَا بِهِ أي بالحمل زَعِيمٌ (72) أي كفيل أؤديه إليه، لأن الإناء كان من الذهب وقد اتهمني الملك. قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ يا أهل مصر ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بمضرة

الناس وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) لأنه قد ظهر من أحوالهم امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس، ولأنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها. قالُوا أي أصحاب يوسف: فَما جَزاؤُهُ أي فما جزاء سرقة الصواع في شريعتكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) في نفي كون الصواع فيكم: قالُوا أي إخوة يوسف: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاء سرقة الصواع هو أخذ الإنسان الذي وجد الصواع في متاعه فَهُوَ جَزاؤُهُ أي فاسترقاق ذلك الشخص سنة هو جزاء سرقته لا غير، فأفتوا بشريعتهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) بالسرقة في أرضنا هذا من بقية كلام إخوة يوسف. وقيل: من كلام أصحاب يوسف جوابا لقول إخوته ذلك فَبَدَأَ أي يوسف بعد ما رجعوا إليه بِأَوْعِيَتِهِمْ أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين لنفي التهمة. روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا؟ فقال إخوة يوسف: والله لا نتركك حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي الصواع مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فقال له: فرجك الله كما فرجتني كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي كما ألهمنا إخوة يوسف إن جزاء السارق أن يسترق كذلك ألهمنا يوسف حتى دسّ الصواع في رحل أخيه ليضمه إليه على ما حكم به إخوته ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لم يكن يوسف يأخذ أخاه في حكم الملك بسبب من الأسباب إلا بسبب مشيئة الله، وهو حكم أبيه. أي وكان حكم ملك مصر في السارق أن يضرب ويغرم مثلي قيمة المسروق، فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه عند نفسه إلا أن الله تعالى كادله ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالإضافة، أي نرفع رتبا كثيرة عالية من العلم من نشاء رفعه وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) أي إن إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء، ويوسف كان زائدا عليهم في العلم ففوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فليس فوقه أحد. قالُوا أي إخوة يوسف تبرئة لأنفسهم: إِنْ يَسْرِقْ أي بنيامين سقاية الملك فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ أي قالوا للملك: إن هذا الأمر ليس بغريب من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا. قال سعيد بن جبير: كان جد يوسف أبو أمه كافرا يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة فَأَسَرَّها أي إجابتهم يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ أي في قلبه وَلَمْ يُبْدِها أي لم يظهر الإجابة لَهُمْ قالَ أي يوسف في نفسه أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي منزلة في السرقة من يوسف حيث سرقتم أخاكم من أبيكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) أي بحقيقة ما تذكرون من أمر يوسف هل يوجب عود مذمة إليه أم لا؟ قالُوا مستعطفين: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي ملك مصر إِنَّ لَهُ أي

[سورة يوسف (12) : الآيات 81 إلى 90]

بنيامين أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو يفرح به إن رددناه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ أي بدلا منه في الاسترقاق إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) إلينا في حسن الضيافة ورد البضاعة إلينا فأتمم إحسانك إلينا بهذه التتمة قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله معاذا من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم إِنَّا إِذاً أي إن أخذنا بريئا بمذنب لَظالِمُونَ (79) في مذهبكم وما لنا ذلك ولهذا الكلام معنى باطن وهو أن الله تعالى إنما أمرني بالوحي بأن آخذ بنيامين لمصالح يعلمها الله تعالى فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فصرت ظالما لنفسي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي من يوسف خَلَصُوا نَجِيًّا أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوذا، أو رئيسهم وهو شمعون أَلَمْ تَعْلَمُوا يا إخوتاه أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ في رد بنيامين إليه وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ ف «ما» مزيدة، والجار والمجرور متعلق ب «فرطتم» أي ومن قبل أخذكم العهد في شأن بنيامين قصرتم في شأن يوسف، ولم تفوا بوعدكم على النصح والحفظ له، «أو» مصدرية عطفا على مفعول «تعلموا» أي ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم السابق في شأن يوسف أو وترككم ميثاقه في حق يوسف، «أو» موصولة عطفا على مفعول «تعلموا» أيضا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا والذي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة من قبل تقصيركم في بنيامين فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الرجوع إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي من يد العزيز بسبب من الأسباب وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق. روي أنهم كلموا العزيز في إطلاق بنيامين فقال روبيل: أيها الملك لتردن إلينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فمسه فذهب ذلك الابن فمسه، فسكن غضبه. فقال روبيل: إن هذا بذر من بذر يعقوب وهمّ أن يصيح فركض يوسف عليه السلام على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط على الأرض. وقال له: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم فلما رأوا ما نزل بهم ورأوا أن لا سبيل إلى الخلاص خضعوا، ثم قال لهم كبيرهم: ارْجِعُوا يا إخوتي إِلى أَبِيكُمْ دوني فَقُولُوا له متلطفين بخطابكم: يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ صواع الملك من ذهب وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي رأينا أن الصواع استخرجت من وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ أي باطن الحال حافِظِينَ (81) أي إن حقيقة الأمر غير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله فلعل الصواع دس في رحله ونحن لا نعلم ذلك وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها أي واسأل أهل قرية من قرى مصر التي كنا فيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي واسأل

أصحاب الإبل التي عليها الأحمال الذين جئنا معهم وهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) في أقوالنا فرجع التسعة إلى أبيهم فقالوا له: ما قال كبيرهم قالَ أي يعقوب: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي بل زيّنت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك ضرر فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فعلي صبر بلا جزع ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال: يا بني لا تخرجون من عندي مرة إلا ونقص بعضكم، ذهبتم مرة فنقص يوسف، ومرة ثانية نقص شمعون، ومرة ثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بيوسف وأخيه الشقيق وأخيه الذي توقف في مصر جَمِيعاً فلا يتخلف منهم أحد وإنما قال يعقوب هذه المقالة على سبيل حسن الظن بالله تعالى، لأنه إذا اشتد البلاء كان أسرع إلى الفرج، ولأنه علم بما جرى عليه وعلى بنيه من رؤيا يوسف إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ (83) أي الذي لم يبتلني إلا لحكمة بالغة وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي وأعرض يعقوب عن بنيه حين بلغوه خبر بنيامين، وخرج من بينهم كراهة لما سمع منهم. وَقالَ يا أَسَفى أي يا شدة حزني عَلى يُوسُفَ أي أشكو إلى الله أسفي ولم يسترجع يعقوب أي لم يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، لأن الاسترجاع خاص بهذه الأمة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي ضعف بصره من كثرة البكاء، فإن الدمع يكثر عند غلبة البكاء، فتصير العين كأنها بيضاء من بياض الماء الخارج منها فَهُوَ كَظِيمٌ (84) أي ممسك على حزنه فلا يظهره أو ممتلئ من الحزن أو مملوء من الغيظ على أولاده. قالُوا أي الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي والله لا تزال تذكر يوسف حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أي فاسدا في جسمك وعقلك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) أي من الأموات فكأنهم قالوا: أنت الآن في بلاء شديد، ونخاف عليك أن يحصل فيك ما هو أزيد منه وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء. الَ أي يعقوب لهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) أي أعلم من رحمته ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، أي إنه يعلم أن رؤيا يوسف صادقة، ويعلم أن يوسف حي لأن ملك الموت قال له: اطلبه هاهنا وأشار إلى جهة مصر ويعلم أن بنيامين لا يسرق، وقد سمع أن الملك ما آذاه وما ضرّ به فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فمن ذلك قال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي استعلموا بعض أخبار يوسف وأخيه بنيامين فإن حالهما مجهولة ومخوفة بخلاف حال روبيل وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من فرج الله وفضله. وقرأ الحسن وقتادة «من روح الله» بضم الراء، أي من رحمته إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) لأن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم

[سورة يوسف (12) : الآيات 91 إلى 100]

بجميع المعلومات، أو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا أي فقبلوا من أبيهم تلك الوصية فعادوا إلى مصر مرة ثالثة فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الملك القادر القوي: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أي أصابنا ومن تركناهم وراءنا الهزال من شدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ أي بدراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وتقبل فيما بين الناس فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ما تتمم لنا بالدراهم الجياد وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة عن ما بين الثمنين إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) في الدنيا والآخرة. وروي أنهم لما قالوا ذلك وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك قالَ مجيبا عما عرصوا به من طلب رد أخيهم بنيامين: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ أي ما أعظم ما أتيتم من أمر يوسف وأخيه من تفريق يوسف من أبيه وإفراده عن أخيه لأبيه وأمه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) أي حال كونكم جاهلين عقبى فعلكم ليوسف من خلاصه من الجب وولايته السلطنة قالُوا أي إخوته: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ. قرأ ابن كثير «إنك» على لفظ الخبر. وقرأ نافع «أإنك» بفتح الألف غير ممدودة وبالياء. كان ليعقوب وإسحاق مثل ذلك، فلما عرفوه بتلك العلامة قالوا ذلك. قالَ جوابا لسؤالهم: أَنَا يُوسُفُ وَهذا أي بنيامين أَخِي أي شقيقي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالجمع بيننا بعد التفرقة وبكل عز ولم يقل عليه السلام في الجواب: هو أنا، بل صرّح بالاسم تعظيما لما نزل به عليه السلام من ظلم إخوانه وما عوّضه الله من النصر والملك فكأنه قال: أنا يوسف الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، وأنا العاجز الذي قصدتم قتله، والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب كما ترون فكان في إظهار الاسم هذه المعاني ولهذا قال: وهذا أخي مع أنهم كانوا يعرفونه، لأن مقصوده عليه السلام أن يقول وهذا أيضا مظلوم، ثم صار هو منعما عليه من الله تعالى كما ترون إِنَّهُ أي الشأن والمحدث مَنْ يَتَّقِ معاصي الله وَيَصْبِرْ على أذى الناس والمحن فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) ويقوم الظاهر مقام الضمير لاشتماله على النعتين اللذين هما التقوى والصبر قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ أي فضلك الله عَلَيْنا بالعلم والحلم والحسن والعقل والملك وَإِنْ كُنَّا أي وإن الشأن كنا لَخاطِئِينَ (91) أي لمتعمدين في الإثم فهم اعتذروا منه وتابوا. قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ خبر ثان، أي إني حكمت في هذا اليوم بأن لا توبيخ مطلقا، وتقدير الكلام:

اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات، لأن «لا تثريب» نفي للماهية فيقتضي انتفاء جمع أفراد الماهية فذلك مفيد للنفي المشتمل لكل الأوقات يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ما كان منكم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) يغفر الصغائر والكبائر أي لما بين يوسف لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا بعد اليوم طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة، وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا، ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام فقال يوسف: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ إلي بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) من النساء والذراري والموالي وكانوا نحو سبعين إنسانا، وحمل القميص يهوذا وقال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطخا بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ أي خرجت الإبل التي عليها الأحمال لإخوة يوسف من العريش وهي قرية بين مصر وكنعان قالَ أَبُوهُمْ يعقوب لمن حضر عنده من أولاد بنيه وقرابته: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أي إني لأشم ريح الجنة من قميص يوسف لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف وفساد الرأي من هرم لصدقتموني. والتحقيق أن يقال: إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إلى سيدنا يعقوب على سبيل إظهار المعجزات، لأن وصول الرائحة إليه من المسافة البعيدة ثمانية أيام مثلا أمر مناقض للعادة فيكون معجزة له قالُوا أي الحاضرون عنده: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) أي لفي حبك الأول ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه وكان يوسف عندهم قد مات فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو يهوذا بالقميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ أي ألقى البشير القميص على وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً أي فصار يعقوب بصيرا لعظم فرحه قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) من حياة يوسف وأن رؤياه صدق، وأن الله يجمع بيننا قالُوا اعتذارا عمّا حصل منهم: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي اطلب لنا من الله غفر ذنوبنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) أي متعمدين للإثم في أمر يوسف قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي أي أدعو لكم ربي ليلة الجمعة وقت السحر، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فقام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ منها رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف، وقلة صبري عليه، واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف. فأوحى الله تعالى إليه إني قد غفرت لك ولهم أجمعين. روي أن يوسف عليه السلام وجّه إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة مع إخوته ليأتوا بجميع أهله إلى مصر، وهم يومئذ اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، وكانوا حين خرجوا من مصر مع موسى عليه السلام ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية

ألف ألف ومائتي ألف، فقد بورك فيهم كثيرا حتى بلغوا هذا العدد في مدة موسى مع أن بينه وبين يوسف أربعمائة سنة، فخرج يوسف في أربعة آلاف من الجند لكل واحد منهم جبة من فضة وراية خز وقصب فتزينت الصحراء بهم واصطفوا صفوفا، ولما صعد يعقوب ومعه أولاده وحفدته ونظر إلى الصحراء مملوءة بالفرسان مزينة بالألوان فنظر إليهم متعجبا فقال جبريل: انظر إلى الهواء فإن الملائكة قد حضرت سرورا بحالك، وكانوا باكين محزونين مدة لأجلك، وهاجت الفرسان بعضهم في بعض وصهلت الخيول، وسبحت الملائكة، وضرب بالطبول والبوقات، فصار اليوم كأنه يوم القيامة، وكان دخولهم في مصر يوم عاشوراء فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ في محل ضرب فيه يوسف خيامه حين خرج من مصر لتلقي أبيه آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضم يوسف إليه أباه وخالته واعتنقهما فإن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين. فمعنى بنيامين بالعبرانية: ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فإن الرابة تدعى أما. وَقالَ أي يوسف لجميع أهله: ادْخُلُوا مِصْرَ للإقامة بها إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحدا، وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي لما نزلوا في مصر أجلس يوسف أباه وخالته معه في السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً أي وخروا الله سجدا شكرا لأجل يوسف واجتماعهم به وكان يوسف كالقبلة لهم كما سجدت الملائكة لآدم فإن الله أمر يعقوب بالسجود لحكمة خفية وذلك، لأن إخوة يوسف ربما حملهم التكبر عن السجود على سبيل التواضع لا على سبيل العبادة ويوسف لم يكن راضيا بذلك السجود في قلبه لكن لما علم أن الله أمر يعقوب بذلك سكت، ولأن يعقوب علم أنهم لو لم يفعلوا ذلك لظهر الفتر والأحقاد القديمة بعد كمونها، فالسجود لزوال الاستعلاء والنفرة عن قلوبهم وذلك جائز في ذلك الزمان، فلما جاءت هذه الشريعة نسخت هذه الفعلة. ويقال: كان سجودهم تحيتهم فيما بينهم كهيئة الركوع نحو فعل الأعاجم. وَقالَ أي يوسف: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ أي هذا السجود تصديق رؤياي الكائنة من قبل المصائب التي وقعت فكأن يوسف يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به فإن رؤيا الأنبياء حق وذلك قوله تعالى حكاية عن قول يوسف: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وكأنه قيل ليعقوب: إنك كنت دائم الرغبة في وصال يوسف، ودائم الحزن بسبب فراقه، فإذا وجدته فاسجد له، فكان الأمر بذلك السجود من تمام التشديد من الله تعالى على يعقوب عليه السلام قال سلمان: كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي وقد لطف بي محسنا إلي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إنما ذكر إخراجه من السجن ولم يذكر إخراجه من الجب لئلا تخجل إخوته، ولأن خروجه من السجن كان سببا لصيرورته ملكا ولوصوله إلى أبيه وإخوته ولزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه تعالى عليه وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية.

[سورة يوسف (12) : الآيات 101 إلى 110]

وقال علي بن طلحة: أي من فلسطين مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي من بعد أن أفسد الشيطان بيننا بالحسد إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي مدبر لما يشاء من خفايا الأمور فإذا أراد الله حصول شيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول عند العقول إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب الْحَكِيمُ (100) أي المحكم في فعله مبرأ عن العبث والباطل. وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعا وعشرين سنة فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده إلى الشام ويدفنه عند قبر أبيه إسحاق فلما مات بمصر حمله يوسف وجعله في تابوت من ساج فوافق ذلك موت عيص أخي يعقوب، وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد، وكان عمرهما مائة وسبع وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه رجع إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة فلما تم أمره وعلم أن نعيم الدنيا لا يدوم سأل الله حسن العاقبة فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا منه وهو ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يا خالقهما أَنْتَ وَلِيِّي أي أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً دعا يوسف بذلك مع علمه بأن كل نبي لا يموت إلا مسلما إظهارا للعبودية والافتقار، وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة، وتعليما لغيره. والمطلوب هاهنا كمال حال المسلم وهو أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في ذلك، وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) أي بآبائي المرسلين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب في ثوابهم ودرجاتهم في الجنة وولد ليوسف أفراثيم وميشا، وولد لأفرائيم نون وولد لنون يوشع فتى موسى عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة مصر بعد يوسف ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف، وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام ذلِكَ أي خبر يوسف وإخوته مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الذي لا يحوم حوله أحد نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي حين عزموا على إلقائهم يوسف في غيابة الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) أي والحال أنهم يحتالون بيوسف ويريدون بذلك قتل يوسف أي ذلك الخبر لا سبيل إلى معرفتك إياه إلا بالوحي، وأما ما ينقله أهل الكتاب فليس على ما هو عليه، ومثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور فيكون معجزا، لأن محمدا لم يطالع الكتب ولم يأخذ عن أحد من البشر وما كانت بلده بلد العلماء فإتيانه بهذه القصة على وجه لم يقع فيه غلط كيف لا يكون معجزا وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وهم قريش واليهود وَلَوْ حَرَصْتَ أي بالغت في طلب إيمانهم بإظهار الآيات الدالة على صدقك بِمُؤْمِنِينَ (103) لإصرارهم على العناد. روي أن اليهود وقريشا لما سألوا عن قصة يوسف وعدوا أن يسلموا فلما أخبرهم بها على

موافقة التوراة فلم يسلموا حزن النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الأنباء التي أوحينا إليك مِنْ أَجْرٍ كما يفعله حملة الإخبار إِنْ هُوَ أي القرآن الذي أوحينا إليك إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) عامة أي عظة من الله تعالى لهم في دلائل التوحيد والنبوة، والمعاد والتكاليف والقصص فإن الوعظ العام ينافي أخذ الأجر من البعض، وهذا القرآن مشتمل على هذه المنافع العظيمة ولا تطلب منهم مالا فلو كانوا عقلاء لقبلوا منك وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي وكم من عدد شئت من العلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال قدرته وعلمه وحكمته غير هذه الآية التي جئت بها كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأجرام الفلكية وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب يَمُرُّونَ عَلَيْها أي يشاهدونها ولا يتأملون فيها. وقرئ برفع «والأرض» على الابتداء و «يمرون عليها» خبره. وقرأ السدي بنصبها على معنى ويطؤن الأرض. وَهُمْ عَنْها أي الآية مُعْرِضُونَ (105) أي غير متفكرين فيها فلا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك يا أشرف الخلق وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أي لا يؤمن أكثرهم بوجود الله إلا في حال شركهم فالكافرون مقرون بوجود الله لكنهم يثبتون له شريكا في المعبودية. وعن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته. وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزيز ابن الله، وقالت النصارى: ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وكل من هؤلاء لم يوحدوا بل أشركوا. وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده ولا شريك معه أَفَأَمِنُوا أي أهل مكة أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي أفلم يخافوا أن تأتيهم في الدنيا عقوبة تشملهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أي فجأة من غير سبق علامة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) بإتيانها غير مستعدين لها. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: هذِهِ أي الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالإخلاص سَبِيلِي أي ديني أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ بهذا الدين عَلى بَصِيرَةٍ أي حجة واضحة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي «فأدعوا» إما مستأنف أو حال من الياء «وعلى بصيرة» إما حال من فاعل «أدعوا» أو من الياء، و «أنا» إما توكيد للمستكن في «أدعوا» أو في «على بصيرة» ، «ومن اتبعني» عطف على فاعل «أدعو» . قال صلّى الله عليه وسلّم: «العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما يدعونهم إليه» «1» . وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأسبح سبحان الله وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) الذين اتخذوا مع الله ضدا وولدا وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى وهذا رد على أهل مكة حيث أنكروا نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: هلا بعث الله

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1: 388) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1: 185) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (28952) . [.....]

[سورة يوسف (12) : آية 111]

ملكا. والمعنى كيف يتعجبون من إرسالنا إياك مع أن سائر الرسل الذين كانوا من قبلك بشر مثلك حالهم كحالك ولم يبعث الله رسولا من أهل البادية. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» «1» . وقرأ حفص عن عاصم «نوحي» بالنون مبنيا للفاعل. والباقون بالياء مبنيا للمفعول أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أهل مكة فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كيف صار آخر أمر المكذبين للرسل والآيات ممن قبلهم فيعتبروا بما حل بهم من عذابنا وَلَدارُ الْآخِرَةِ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا معاصي الله أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة. والباقون على الغيبة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أي لا يغررهم تماديهم فيما هم فيه من الراحة والرخاء فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الذال المكسورة. والمعنى وظن القوم أن الرسل أخلفوا في وعدهم بالنصر، أي أخلف الله وعده لرسلهم بالنصر. وقرأ الباقون بالتشديد. والمعنى وظن الرسل أنهم قد كذبهم الأمم الذين آمنوا بهم بما جاءوا به من الله وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه، وقالت: إن البلاء لم يزل من الأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم جاءَهُمْ نَصْرُنا لهم بهلاك أعدائهم فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ هم الرسل والمؤمنون بهم. وقرأ ابن عامر وعاصم بنون واحدة فعل ماض مبني للمفعول. والباقون بنونين الثانية ساكنة وبسكون الياء فعل مضارع وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا أي عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) أي المشركين إذا نزل بهم لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ بفتح القاف أي قصص يوسف وإخوته وأبيه عليهم السلام. وقرئ بكسر القاف أي قصص الأنبياء وأممهم عِبْرَةٌ أي عظة عظيمة لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول الذين انتفعوا بمعرفتها ما كانَ أي هذا القرآن فقد تقدم ذكره في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [طه: 113] حَدِيثاً يُفْتَرى فلا يصح من محمد أن يختلق فيه ولا يصح الكذب من القرآن فليس بكذب في نفسه وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولكن كان القرآن مصدق الكتب التي قبله وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ أي ومبينا بين الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين وَهُدىً في الدنيا من الضلالة وَرَحْمَةً أي سببا لحصول الرحمة من العذاب يوم القيامة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) أي يصدقونه فإنهم المنتفعون به.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي، باب: في اتباع الصيد، والترمذي في كتاب الفتن، باب: 69، والنسائي في كتاب الصيد، باب: اتباع الصيد، وأحمد في (م 1/ ص 357) ، وفيه «من سكن البادية» بدل «من بدا» .

سورة الرعد

سورة الرعد مكية، إلا آيتين فهما مدنيتان وهما قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ الآية. وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. وقيل: مدنية، سوى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآيتين، ثلاث وأربعون آية، ثمانمائة وأربع وخمسون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسة وأربعون حرفا المر اسم للسورة أي هذه السورة مسماة بهذا الاسم. وقال ابن عباس في رواية عطاء معناه أنا الله الملك الرحمن. وقال في رواية غيره: أنا الله أعلم وأرى ما تعملون وتقولون. تِلْكَ أي آيات السورة المسماة ب «آلمر» آياتُ الْكِتابِ أي الكتاب العجيب الكامل وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن الْحَقُّ أي هو المطابق للواقع في كل ما نطق به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي مشركي مكة لا يُؤْمِنُونَ (1) بالقرآن لإخلالهم بالنظر اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها كلام مستأنف أو حال من السموات أي وأنتم ترون السموات مرفوعة بلا عماد، أو صفة لعمد. والمعنى أن الله رفع السموات بغير عمد مرئية، لكم من العيون بل لها عمد غير مرئية وهي قدرة الله تعالى أي إنما بقيت السموات واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى الله على العرش بالحفظ والتدبير وظهر تصرفه في هذه الأشياء بعد خلق السموات. ويقال للسلطان والملك إذا استقام أمره: إنه استوى على عرشه أي سريره الذي يجلس عليه فالاستواء على العرش كناية عن جريان التدبير والحكم وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي وذللهما لمنافع الخلق كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه حسبما أريد منهما لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة فيها تتم دورته. قال ابن عباس: للشمس مائة وثمانون منزلا كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر، ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلا، فالله تعالى قدر لكل واحد منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء فلزم أن يكون لهما بحسب كل لحظة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يدبر أمر

الخلق بالإيجاد والإعدام والإحياء، والإماتة والإغناء والإفقار، وبإنزال الوحي، وبعثة الرسل وتكليف العباد يُفَصِّلُ الْآياتِ أي يحدث الله بعض الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته عقب بعض على سبيل التمييز والتفصيل لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) أي لكي تصدقوا بالبعث بعد الموت فهذه الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع تدل على صحة القول بالحشر والنشر، لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على كثرتها فلأن يقدر على النشر والحشر أولى. ويروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم، ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة . وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا على الماء وَجَعَلَ فِيها أي الأرض رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْهاراً أي مجاري للماء واسعة لمنافع الخلق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي وجعل كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا صنفين: إما في اللون كالأبيض والأسود، أو في الطعم: كالحلو والحامض، أو في القدر: كالكبير والصغير أو في الكيفية: كالحار والبارد وما أشبه ذلك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يستر النهار بالليل إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من مد الأرض وإيتادها بالرواسي وإجراء الأنهار، وخلق الثمرات، وإغشاء الليل النهار لَآياتٍ دالة على وحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) فيستدلون بالصنعة على الصانع وبالسبب على المسبب وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ أي بقاع مختلفة في الأوصاف مُتَجاوِراتٌ أي متقاربات فمنها أرض سبخة رديئة وبجنبها أرض عذبة جيدة ومنها صلبة وبقربها رخوة إلى غير ذلك والاختلاف من دلائل قدرته تعالى وَجَنَّاتٌ أي بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ أي تنبت من أصل واحد ثلاث نخلات فأكثر أي مجتمع أصول الأربعة مثلا في أصل واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ أي هو مفترق أصولها واحدة واحدة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان» كلها بالرفع عطفا على قوله: «وجنات» . والباقون بالجر عطفا على «أعناب» . وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس صنوان بضم الصاد والباقون بكسرها يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ في الطبع سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار. قرأ عاصم وابن عامر يسقي بالياء أي كل المذكور من القطع وما بعده. والباقون بالتاء أي جنات وَنُفَضِّلُ بَعْضَها أي الجنات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ بضم الهمزة أي في المهيأ للأكل طعما وشكلا ورائحة، وحلاوة وحموضة، ولونا وقدرا، ونفعا وضرا. وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء عطفا على يدبر. والباقون بالنون إِنَّ فِي ذلِكَ أي المفضل من أحوال القطع والجنات لَآياتٍ أي دلالات كثيرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) أي يستعملون عقولهم في

التدبر وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي وإن تعجب يا أكرم الخلق من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك إنك من الصادقين فحقيق بالعجب قولهم: أنعاد خلقا جديدا بعد الموت، وبعد أن صرنا ترابا، وفينا الروح كما كنا قبل الموت، فإنهم عرفوا أن الله على كل شيء قدير فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته، لأن القادر على الأقوى قادر على الأضعف بالأولى أُولئِكَ أي المنكرون لقدرته تعالى على البعث بعد ما عاينوا الآيات الباهرة الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لأنهم أنكروا قدرته وعلمه وصدقه في خبره وَأُولئِكَ أي أهل الكفر الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يوم القيامة وَأُولئِكَ أي أهل الأغلال أَصْحابُ النَّارِ أي سكان النار هُمْ فِيها أي النار خالِدُونَ (5) لا ينكفون عنها وَيَسْتَعْجِلُونَكَ استهزاء منهم بِالسَّيِّئَةِ أي بنزول العذاب عليهم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي قبل طلب الإحسان إليهم بالإمهال، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا فكلما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا البعث والجزاء وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له استهزاء بإنذاره: فجئنا بهذا العذاب وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ أي لذو إمهال لهم وتأخير للعذاب عنهم عَلى ظُلْمِهِمْ أي حال كونهم ظالمين أنفسهم بالمعاصي وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) فيعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون بالعذاب أيضا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي قالوا عنادا: هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام قال تعالى له صلّى الله عليه وسلّم إزالة لرغبته في حصول مقترحاتهم: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما أنت يا أشرف الخلق رسول مخوف من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون ولا حاجة إلى إلزامهم بإتيان ما اقترحوا من الآيات وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) أي نبي مخصوص له هداية مخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى هو السحر جعل معجزته من جنس ذلك وهو العصا واليد، ولما كان الغالب في أيام عيسى الطب جعل معجزته ما كان من جنس ذلك وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم الفصاحة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من حين العلوق إلى زمن الولادة من أي شيء متحمل وعلى أي حال وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي في عدد الولد واحد واثنين وثلاثة وأربعة، وفي جثته فقد يكون الولد مخدجا وتاما وفي مدة ولادته فقد يكون مدة الحمل تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة وإلى أربعة سنين عند الشافعي وإلى خمسة عند مالك. وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ أي في علمه تعالى بِمِقْدارٍ (8) أي

[سورة الرعد (13) : الآيات 11 إلى 20]

بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه عالِمُ الْغَيْبِ أي ما غاب عن العباد وَالشَّهادَةِ أي ما علمه العباد الْكَبِيرُ أي العظيم الذي يصغر غيره بالنسبة إلى كبريائه الْمُتَعالِ (9) أي المنزه عن كل ما لا يجوز عليه في ذاته سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه فلم يظهره على أحد وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي أظهره لغيره. قال ابن عباس: أي سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ أي مستتر بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ أي بارز يراه كل أحد بِالنَّهارِ (10) . وقال مجاهد: أي وسواء من أقدم على القبائح سرا في ظلمات الليل ومن أتى بها ظاهرا بالنهار، أي فإن علمه تعالى محيط بالكل لَهُ أي لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي والسارب أو لعالم الغيب والشهادة مُعَقِّباتٌ أي ملائكة حفظة يعقب بعضهم بعضا في المجيء إلى من ذكر ويعقبون أقواله وأفعاله بالكتب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي يحيطون بمن ذكر فيعدون عليه أعماله وأقواله ولا يشذ من حفظهم إياها شيء أصلا يَحْفَظُونَهُ أي من ذكر مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي من بأس الله حين أذنب بالاستمهال أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله وقد قرئ به أو بسبب أمر الله كما تدل له قراءة علي وابن عباس، وزيد بن علي وعكرمة بأمر الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من أمن ونعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ بترك الشكر وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي هلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ أي لم تغن المعقبات شيئا فلا راد لعذاب الله ولا ناقض لحكمه وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مِنْ والٍ (11) أي مانع من عذاب الله الذي أراده بهم بتغيير ما بهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ وهو لمعان يظهر من خلال السحاب خَوْفاً أي خائفين من وقوع الصواعق وَطَمَعاً أي وطامعين في نزول الغيث، أو ذا خوف لمن له في المطر ضرر كالمسافر، وكمن يجفف التمر والزبيب والقمح وذا طمع لمن له فيه نفع كالحراث وَيُنْشِئُ السَّحابَ أي ويرفع الغمام المنسحب في الجو الثِّقالَ (12) بالماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ. قيل: الرعد اسم ملك موكل بالسحاب، والصوت المسموع لنا هو صوته بالتسبيح، وقيل: هو صوت الآلة الذي يتولد عند ضرب السحاب بها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن اليهود سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق- أي آلات من نار- يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا: فما الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره السحاب» «1» ويقال: الرعد صوت السحاب وتسبيحه هو دلالته على وحدانية الله تعالى وفضله المستلزم لحمده وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح جميع الملائكة من هيبة الله تعالى. وفي رواية عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر، وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه وأنه يسبح الله تعالى، فإذا

_ (1) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 13، وأحمد في (م 1/ ص 274) .

سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وهي نيران تنشأ من السحاب فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ أي في شأن الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) أي العقاب نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل، وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة فإنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخاصمانه ويريدان الفتك به صلّى الله عليه وسلّم فقال أربد أخو لبيد: أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم حديد؟ فلما رجع أرسل الله عليه صاعقة في يوم صحو صائف فأحرقته، ورمى عامرا بغدة كغدة البعير فمات على ظهر فرسه. وعن الحسن أنه قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا يدعونه إلى الله تعالى ورسوله فقال لهم: أخبروني من رب محمد هذا الذي تدعونني إليه فهل هو من ذهب أم من فضة أم من حديد أم من نحاس؟ فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فقال: أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه، فرجعوا إليه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى بل أخبث منها فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه فبينما هم عنده ينازعونه ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس عنده، فرجعوا ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخبر، فاستقبلهم الأصحاب فقالوا: احترق صاحبكم قالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ إلخ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي لله الدعوة المطابقة للواقع حيث جعلها افتتاح الإسلام بحيث لا يقبل بدونها وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وهي كلمة الإخلاص. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ والأصنام الذين يعبدهم الكفار من غير الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ أي ليبلغ الماء بنفسه من غير أن يغترف إلى فيه وما الماء ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه، ولا يبسط يده إليه، فكما لا يبلغ الماء في هذا الرجل العطشان كذلك لا تنفع الأصنام من عبدها وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) أي وما عبادة الكافرين إلا في ضياع لا منفعة فيها، لأنهم إن عبدوا الأصنام لم يقدروا على نفعهم، وإن عبدوا الله لم يقبل منهم لإشراكهم وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً أي ولله يعبد من في السموات ومن في الأرض من الملائكة، وبعض المؤمنين من الثقلين حال كونهم طائعين بسهولة ونشاط وحال كونهم كارهين للعبادة بمشقة لصعوبة ذلك على بعض المؤمنين وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) أي ولله يسجد ظلال من يسجد غدوة عن أيمانهم وعشية عن شمائلهم. قُلْ يا أشرف الخلق لقومك: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ أمر الله رسوله بهذا الجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية وبأنهم لا ينكرونه ألبتة، ثم ألزمهم الحجة فقال: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أبعد إقراركم هذا عبدتم من غير الله أربابا لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه

عن أنفسهم فبالأولى أن يكونوا عاجزين عن تحصيل المنفعة للغير، ودفع المضرة عن الغير، فإذا عجزوا عن ذلك كانت عبادتهم محض العبث والسفه، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الظّلمت والنّور أي قل لهم: هل يستوي الجاهل بمستحق العبادة والعالم بذلك، وهل يستوي الجهل بالحجة والعلم بها أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أي بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا العبادة كما استحقها، أي هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا: إنها تشارك الله في كونها خالقة فوجب أن تشاركه في الألوهية واستحقاق العبادة، بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة إن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة، وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الألوهية محض الجهل قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا شريك له في الخلق فلا يشاركه في استحقاق العبادة أحد وَهُوَ الْواحِدُ أي المنفرد بالألوهية الْقَهَّارُ (16) لكل ما سواه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها ماءً فَسالَتْ بذلك الماء أَوْدِيَةٌ أي أنهار بِقَدَرِها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ أي الجاري زَبَداً أي غثاء رابِياً أي منتفخا فوق الماء وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ أي من الجواهر كالنحاس والذهب والفضة ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ أي لطلب اتخاذ زينة أو اتخاذ متاع كالأواني زَبَدٌ أي خبث مِثْلُهُ أي مثل وسخ الماء في أن كلا منهما شيء من الأكدار كَذلِكَ أي مثل هذا التبيين للأمور الأربعة الماء والجوهر والزبدين، يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي يبين الله مثل الإيمان والكفر فَأَمَّا الزَّبَدُ من الماء والجوهر فَيَذْهَبُ جُفاءً أي يرميه الماء إلى الساحل ويرميه الكير، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء الصافي والفلز الخالص فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ فالماء: يثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والآبار، والفلز: يصاغ من بعضه أنواع الحلي، ويتخذ من بعضه أصناف الآلات فينتفع بكل من ذلك مدة طويلة. والحاصل إن القرآن شبه بالماء فالله أنزله من سماء الكبرياء والإحسان. وشبهت القلوب المنورة بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن، كما أن الأودية يستقر فيها الماء فيحصل في كل قلب من أنوار علوم القرآن ما يليق به من قوة فهمه وقصوره كما يحصل في كل واد من مياه الأمطار ما يليق به من سعته وضيقه، وكما أن الماء يعلوه وضر، والفلز يخالطه خبث، ثم إن ذلك يذهب ويبقى الخالص منه كذلك بيانات القرآن تختلط بها شبهات، ثم تزول ويبقى العلم والدين في الآخر، وشبهت القلوب المظلمة بالسيل أي فاحتملت القلوب المنورة الحق بقدر سعتها بالنور واحتملت القلوب المظلمة باطلا كثيرا بهواها. كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) أي يبين الله أمثال الحق والباطل فيجليها في غاية الوضوح لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي للذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والتزام

[سورة الرعد (13) : الآيات 21 إلى 30]

الشرائع الواردة على لسان رسوله المنفعة الدائمة الخالصة عن شوائب المضرة، المقرونة بالإجلال وهي الجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي والأشقياء الذين عاندوا الحق الجلي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف الأموال جميعا لجعلوا ما في الأرض، ومثله فداء أنفسهم من العذاب، لأن محبوب كل إنسان ذاته فإذا كانت في ضرر وكان مالكا لكل شيء فإنه يرضى أن يجعل جميع ملكه فداء لها لأنه حب ما سواها ليكون وسيلة إلى مصالحها أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ بأن يحاسبوا بكل ذنب فلا يغفر منه شيء وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أي المستقر هي أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى أي أفمن يعلم أن القرآن الذي مثل بالماء النازل من السماء وبالأبريز الخالص في المنفعة هو الحق كمن لا يعلم! إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) أي إنما يتعظ بالقرآن وينتفع بهذه الأمثلة ذوو العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي بما كلف الله العبد به فيدخل فيه الإتيان بجميع المأمورات والوفاء بالعقود في المعاملات وأداء الأمانات وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وهو ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختيار نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وهو رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم والقرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان وعيادة المريض وشهود الجنائز، وإفشاء السلام على الناس، والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم ويدخل في العباد كل حيوان حتى الدجاجة والهرة وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والخشية نوعان: خوف من أن يقع خلل في طاعاته، وخوف هيبة، وإن كان العبد في عين طاعته وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وَالَّذِينَ صَبَرُوا على فعل العبادات وعلى ثقل الأمراض والمضار والغموم وعلى ترك المشتهيات ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أي طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء وسمعة، ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا، فكما أن العاشق يرضى بضرب معشوقه لالتذاذه بالنظر إلى وجهه فكذلك العبد يرضى بالمحنة لاستغراقه في معرفة نور الله تعالى وَأَقامُوا الصَّلاةَ وأفردها بالذكر تنبيها على كونها أشرف من سائر العبادات ولا يمتنع إدخال النوافل فيها وَأَنْفَقُوا نفقة واجبة ومندوبة مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاة أو عند إعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا أو في التطوع وَعَلانِيَةً لغير ذلك وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون المعصية بالتوبة ولا يجازون الشر بالشر بل يجازون الشر بالخير أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) أي عاقبة الدنيا ومرجع أهلها جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أي يدخل جنات عدن المنعوتون بتلك النعوت الجليلة، ومن آمن كما آمنوا من أصولهم وإن علوا ذكورا كانوا أو إناثا، ومن أزواجهم اللاتي متن في عصمتهم وذرياتهم وإن لم يعمل مثل أعمالهم، لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وإنما يلحق بهم من آمن

من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم كرامة لهم وتعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وقوله: «جنات عدن» بيان ل «عقبى» أو خبر مبتدأ مضمر. وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) لكل واحد منهم خيمة من درة مجوفة لها أربعة آلاف باب لكل باب مصراع من ذهب يدخل عليهم من كل باب ملائكة يقولون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلمكم الله دعاء لهم وبشارة بدوام السلامة بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامة العظمى بسبب صبركم على الطاعات، وترك المحرمات، وعلى المحن فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) أي نعم عاقبة الدار التي كنتم عملتم فيها هذه الكرامات التي ترونها وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أي لا يعملون مقتضى الأدلة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة، أو المعنى يتركون فرائض الله من بعد توكيده وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أي ما أوجب الله وصله فيدخل فيه وصل الرسول بمعاونة دينه ووصل سائر من له حق وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالدعاء إلى غير دين الله وبالظلم في النفوس والأموال أُولئِكَ أي الموصوفون بالقبائح لَهُمُ اللَّعْنَةُ أي الأبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى نقمة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) أي سوء عاقبة الدنيا اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَيَقْدِرُ أي يعطي من يشاء منهم بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء أي إن فتح باب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو متعلق بمجرد مشيئته تعالى فقد يوسع على الكافر استدراجا، ويضيق على المؤمن امتحانا لصبره وتكفيرا لذنوبه، فالدنيا دار امتحان وَفَرِحُوا أي فرح من بسط الله له رزقه من كفار مكة فرح بطر بِالْحَياةِ الدُّنْيا لا فرح سرور بفضل الله تعالى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) أي إنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة، والحال أن ما بطروا به في مقابلة ما أعرضوا عنه شيء قليل النفع سريع النفاد كمتاع البيت وزاد الراعي وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد من ربه علامة لنبوته كما كانت للرسل الأولين قُلْ لهؤلاء المعاندين: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ عن دينه وَيَهْدِي إِلَيْهِ أي يرشد إلى دينه مَنْ أَنابَ (27) أي من أقبل إليه أي ما أعظم عنادكم في الآيات التي ظهرت على يد الرسول إن الله يضل من كان على صفتكم من شدة الشكيمة على الكفر فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت عليهم كل آية طلبوها، ويهدي إليه بأدنى آية جاء بها الرسول من كان على خلاف صفتكم الَّذِينَ آمَنُوا بما جاء به الرسول وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي بكلام الله أي إن علم المؤمنين بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون محمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا حقا من عند الله وإن شكهم في أنهم أتوا بالطاعات كاملة يوجب الوجل في قلوبهم. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) أي إن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الأزمان، فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا صافيا نورانيا لا يقبل التغير الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ.

[سورة الرعد (13) : الآيات 31 إلى 40]

روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» . ويقال: طوبى شجرة في الجنة ساقها من ذهب وثمرها من كل لون، وثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها فتنبت الحلي والحلل وأصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأغصانها متدليات في كل دار وغرفة في الجنة وتحتها كثبان المسك والعنبر والزعفران وينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل وَحُسْنُ مَآبٍ (29) أي مقر كَذلِكَ أي مثل إرسالنا الأنبياء إلى أمم وإعطائنا إياهم كتبا تتلى عليهم أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ أي إلى جماعة كثيرة قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي قد تقدمتها أمم كثيرة لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ أي على أمتك الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ فلماذا اقترحوا غيره وَهُمْ أي والحال أن أمتك يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وفي إنزال هذا القرآن المعجز عليهم. روى الضحاك عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسجدوا للرحمن» أي اخضعوا بالصلاة وغيرها للرحمن أي الذي لا نعمة لكم إلا منه قالوا: وما الرحمن؟ متجاهلين في معرفته فضلا عن معرفة نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل. قال الله تعالى: قُلْ لهم يا أشرف الخلق: هُوَ أي الرحمن الذي أنكرتم معرفته رَبِّي أي خالقي، ومبلغي إلى مراتب الكمال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا مستحق للعبادة سواه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في جميع أموري لا على أحد سواه وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) أي مرجعي في الآخرة. وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ أي زعزعت بتلاوته الْجِبالُ من أماكنها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى بعصاه أو جعلت قطعا بعيدة أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بعد أن أحييت بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه السلام لكان هو هذا القرآن لكونه ينطوي على عجائب آثار قدرة الله تعالى. روي أن أهل مكة منهم أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرّك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فادفعها عنا حتى ينفسح المكان علينا، لأنها ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها أنهارا وعيونا لنغرس الأشجار، ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخّر له الجبال تسير معه، أو سخر لنا الريح لنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا كما سخرت لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان كما زعمت أو أحيي لنا جدك قصيا لنسأله أحق ما تقول أم باطل؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً إلخ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي بل الله الأمر الذي يدور عليه فلك

الأكوان وجودا وعدما إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فالله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي أغفل المؤمنون عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هداية جميع الناس إلى دينه لهداهم، لكنه تعالى لم يشأها فلم يظهر ما اقترحوا من الآيات قيل: لما سأل الكفار تلك الآيات طمع المؤمنون في إيمانهم فطلبوا نزولها ليؤمنوا، وعلم الله أنهم لا يؤمنون برؤيتها وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من سوء أعمالهم قارِعَةٌ أي داهية تقرعهم بما ينزل الله عليهم في كل وقت من أنواع البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ أي أو تنزل تلك القارعة مكانا قريبا منهم فيفزعون منها حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وهو موتهم أو القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) أي الوعد والمقصود من هذا تقوية قلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإزالة الحزن عنه وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي إن أقوام سائر الأنبياء استهزءوا بهم كما أن قومك استهزءوا بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فتركتهم بعد الاستهزاء مدة طويلة في راحة وأمن ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أي على أيّ حالة كان عقابي إياهم هل كان ظلما لهم أو كان عدلا أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي أفمن هو حافظ كل نفس مع ما عملت من خير وشر وهو الله القادر على كل الممكنات العالم بجميع الجزئيات والكليات كالأصنام التي لا تضر ولا تنفع: وَجَعَلُوا أي الكفار لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أي سموهم بالآلهة وهذا أمر على سبيل التهديد. والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها لحقارتها. أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي أتقدرون على أن تخبروا الله بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى أم تتفوهون بإظهار قول من غير اعتبار معنى؟ أي أتقولون بأفواهكم من غير فكر وأنتم ألباء فتفكروا في ذلك لتعلموا بطلانه! وإنّما خصّ بنفي الشريك عن الأرض وإن لم يكن له تعالى شريك ألبتة، لأن الكفار ادعوا أن له تعالى شركاء في الأرض لا في غيرها. بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ أي تمويههم الأباطيل فإنهم أظهروا أن شركاءهم آلهة حقا وهم يعلمون بطلان ذلك وليس فيهم في الباطن إلا تقليد الآباء وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ. قرأ عاصم وحمزة والكسائي هنا، وفي «حم المؤمن» بضم الصاد أي منعوا عن سبيل الحق. والباقون بفتح الصاد أي أعرضوا عنه أو صرفوا غيرهم عنه. وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال المكسورة إليها. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه بسوء اختياره فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أي موفق للهدى لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالقتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أي أشد من عذاب الدنيا بالقوة وكثرة الأنواع وعدم الانقطاع وعدم اختلاط شيء من الراحة وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي عذابه مِنْ واقٍ (34) أي حافظ يعصمهم من ذلك مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ عن

الكفر والمعاصي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن أُكُلُها دائِمٌ أي ثمرها لا ينقطع وَظِلُّها كذلك أيضا فليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة تِلْكَ أي الجنة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا أي منتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ أي آخر أمرهم النَّارُ (35) لا غير وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي أعطيناهم علم التوراة والإنجيل، وهم من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن لكونهم آمنوا به وَمِنَ الْأَحْزابِ أي بقية أهل الكتاب وسائر المشركين مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ أي بعض القرآن وهو الشرائع الحادثة قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وحده فعبادة الله واجبة على المرء فبهذا يبطل القول بالجبر المحض، وقول نفاة التكاليف ولا تمكن عبادة الله إلا بعد معرفة الله ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل. فهذا دليل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه وَلا أُشْرِكَ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء فيبطل من أثبت معبودا سوى الله تعالى سواء قال: إن المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب، أو الأصنام، أو الأرواح العلوية، أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية. إِلَيْهِ أي إلى الله خاصة أَدْعُوا خلقه فكما يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الإتيان بالعبادة كذلك يجب عليه صلّى الله عليه وسلّم الدعوة إلى عبودية الله تعالى. وهذا إشارة إلى نبوته صلّى الله عليه وسلّم وَإِلَيْهِ أي إلى الله تعالى وحده مَآبِ (36) أي مرجعي للجزاء. وهذا إشارة إلى النشر والحشر، والبعث والقيامة. فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة عرف أنها محتوية على جميع المطالب في الدين. وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم أَنْزَلْناهُ أي ما أنزل إليك حُكْماً أي حاكما يحكم في القضايا والواقعات عَرَبِيًّا أي مترجما بلسان العرب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ الفائض من ذلك الحكم العربي ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعك وَلا واقٍ (37) أي مانع يمنعك من مصارع السوء. روي أن المشركين دعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ملة آبائه فهدده الله تعالى على اتباع أهوائهم في ذلك وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً أي نساء فقد كان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية وكان لأبيه داود مائة امرأة وَذُرِّيَّةً أي أولادا مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مما اقترح عليه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت من الأوقات كِتابٌ (38) أي حكم معين مكتوب في صحف الملائكة التي تنسخها من اللوح المحفوظ فقد أثبت فيها أن أمر كذا يكون في وقت كذا على ما تقتضيه الحكمة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ أي يبقيه على حاله وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) أي أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو

مكتوب فيه كما هو. فالحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالما بجميع المعلومات على سبيل التفصيل، فعند الله كتابان كتاب يكتبه الملائكة على الخلق: وهو محل المحو والإثبات، وكتاب كتبه القلم بنفسه في اللوح المحفوظ: وهو الباقي. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة» . اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعا من الشبهات في إبطال نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. فالشبهة الأولى: إنهم عابوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكثرة الزوجات وبأكل الطعام والمشي في الأسواق، وبكونه من جنس البشر. وقالوا: لو كان محمد رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان مشتغلا بالنسك والزهد وقالوا: الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة، وقالوا: لو كان محمد رسولا من الله لما أكل الطعام ولما مشى في الأسواق فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي إن الأنبياء الذين كانوا قبل محمد كانوا من جنس البشر فاتصفوا بصفاته من الزواج والأكل ونحو ذلك ولم يقدح ذلك في نبوتهم فكيف يجعلون ذلك قادحا في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والشبهة الثانية: قولهم: لو كان محمد رسولا من عند الله لكان أي شيء طلبناه من المعجزات أتى به، ولم يتوقف فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إن المعجزة الواحدة كافية في إظهار الحجة، فالزائدة عليها مفوضة إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها. والشبهة الثالثة: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخوفهم بنزول العذاب فيهم وظهور النصرة له ولأصحابه فلما تأخر ذلك طعنوا في نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لو كان محمد نبيا لما ظهر كذبه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: لكل أجل كتاب أي إن نزول العذاب على الكفار وظهور النصرة للأولياء قضى الله بحصولهما في أوقات مخصوصة ولكل حادث وقت معين ولكل أجل كتاب فقبل حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه صلّى الله عليه وسلّم كاذبا. والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان محمد صادقا في دعوى الرسالة لم ينسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثبوتها في الشرائع المتقدمة لكنه حرفها كما في القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبيا فأجاب الله عنه بقوله يمحو الله ما يشاء ويثبت: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ أي إن نرك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي نقبضنك قبل أن نرينك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي سواء أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي في حياتك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء رسالته وأمانته، فلا تهتم بما

[سورة الرعد (13) : الآيات 41 إلى 43]

وراء ذلك، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أي وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم السيئة ومجازاتها. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي أأنكر أهل مكة نزول ما وعدناهم ولم يروا أنا نأخذ أرضهم نفتحها من نواحيها للمسلمين شيئا فشيئا، ونلحقها بدار الإسلام، ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك؟! وَاللَّهُ يَحْكُمُ ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أي لا راد له وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) أي فبعد زمن قليل يحاسبهم في الآخرة غب ما عذبهم في الدنيا بالقتل والأسر والإخراج من ديارهم وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي وقد مكر الكفار الذين مضوا من قبل كفار مكة بأنبيائهم فنمرود مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى، واليهود مكروا بعيسى كما مكر هؤلاء بك. فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً أي إن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه تعالى وإرادته فوجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فلا قدرة للعبد على الفعل والترك وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «الكافر» على لفظ المفرد، وقرأ جناح ابن حبيش «وسيعلم» على صيغة المجهول من الأعلام أي سيخبر لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) أي لمن العاقبة الحميدة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اليهود وغيرهم لَسْتَ مُرْسَلًا من الله يا محمد قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه تعالى قد أظهر المعجزات الدالة على كوني صادقا في دعوى الرسالة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) أي السماوي ككعب الأحبار وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وتميم الداري، وآصف بن برخيا فكل من كان عالما بالتوراة والإنجيل علم أن محمدا مرسل من عند الله. وقرئ ومن عنده علم الكتاب بمن الجارة التي لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم القرآن لأن أحدا لا يعلمه إلا من تعليمه، ثم على هذه القراءة. قرئ أيضا علم الكتاب على البناء للمفعول أي لما أمر الله نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله على رسالته ولا يكون ذلك إلا بإظهار القرآن ولا يعلم العبد كون القرآن معجزا إلا بعد العلم بما فيه من أسراره بين الله تعالى إن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم مكية، اثنتان وخمسون آية، ثمانمائة وإحدى وثلاثون آية، ثلاثة آلاف وخمسمائة وتسعة وثلاثون حرفا الر كِتابٌ أي السورة المسماة ب «الر» كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا أشرف الخلق لِتُخْرِجَ النَّاسَ كافة بدعائك إياهم مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والضلالة والجهل إِلَى النُّورِ أي الإيمان وهذه الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وطريق الحق واحد بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتسهيله فإن الرسول لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) أي إلى دين الكامل القدوة المستحق للحمد في كل أفعاله اللَّهِ. قرأه نافع وابن عامر بالرفع الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) أي لما ترك الكفار عبادة الله الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما وعبدوا ما لا يملك ضرا ولا نفعا فالويل ثم الويل لمن كان كذلك أي يولولون أي يصيحون من عذاب غليظ ويقولون: يا ويلاه الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارون الدنيا على الآخرة فهم ضالون وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن قبول دين الله فهم مضلون وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لسبيل الله زيغا ويقولون لمن يريدون إضلاله: إنها زائغة غير مستقيمة فهذا نهاية الضلال والإضلال أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح فِي ضَلالٍ عن طريق الحق بَعِيدٍ (3) أي في غاية البعد عنه فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي إلا متكلما بلغة من أرسل إليهم الرسول أيا كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من أصناف الخلق، لأن رسالته عامة لجميع الخلق وهو صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يصادف أنه خاطب أحدا من أهلها ولو خاطبه لكلمه بها لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما كلفوا به بلغاتهم فيكون فهمهم لأسرار الشريعة أسهل

ووقوفهم على المقصود أكمل فَيُضِلُّ اللَّهُ عن دينه مَنْ يَشاءُ أي يمنع ألطافه تعالى به وَيَهْدِي لدينه بمنح الألطاف مَنْ يَشاءُ فتقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان، وحصلت الهداية لأن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) فلا يغالب في مشيئته ولا يفعل شيئا إلا لحكمة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان فإن مفسرة لأرسلنا وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعم الله عليهم كانفلاق البحر وتظليل الغمام وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما سلف من الأيام وببأس الله عليهم، وهي أيامهم تحت قهر فرعون، وبعذاب الله من كذب الرسل فيما سلف من الأيام كما نزل بعاد وثمود وغيرهم ليرغبوا في الوعد فيصدقوا وليحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب إِنَّ فِي ذلِكَ أي في التذكير بالوقائع لَآياتٍ أي دلائل لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) . وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد الأمرين الصبر والشكر، لأن الحال إما أن يكون حال بلية أو حال عطية فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه كان شكورا، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان صبورا فالانتفاع بهذا التذكير لا يكون إلا لمن كان صابرا أو شاكرا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي مستقرة عليكم إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي وقت إنجائه إياكم منهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يطلبون منكم الأعمال الشاقة وَيُذَبِّحُونَ تذبيحا كثيرا أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمونهن كبارا بالاستحياء ويبقونهن منفردات عن الرجال وَفِي ذلِكُمْ أي المذكور من الأفعال الفظيعة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) لا يطاق وفي الخلاص من ذلك نعمة عظيمة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي واذكروا حين أعلم ربكم في الكتاب وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وإذ قال ربكم: لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وحقيقة الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ومزيد النعم الجسمانية أن كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر، ومزيد النعم الروحانية أن النفس إذا اشتغلت بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه أوجب ذلك الاشتغال تأكد محبة العبد لله تعالى، ثم قد يترقى العبد من ذلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعم فالشكر مقام شريف يوجب السعادة في الدين والدنيا. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أي أنكرتم نعمتي فعسى يصيبكم عذابي إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وكفران النعمة لا يكون إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمه من الله تعالى والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العذاب وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا نعمة تعالى ولم تشكروها أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لم يرجع ضرر الكفر إلا عليكم فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكر

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 إلى 20]

الشاكرين حَمِيدٌ (8) أي مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده أحد بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا بني إسرائيل نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم عددهم إلا الله لكثرتهم وهذه الجملة حال من الذين أو من الضمير المستكن في من بعدهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل الواضحة على صدقهم وهذه الجملة تفسير لنبأ الذين من قبلكم فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي وعض الكفار أيديهم من الغيظ من شدة نفرتهم عن استماع كلام الرسل أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إلى الرسل أي كفوا عن هذا الكلام واسكتوا وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على ادعائكم فإنهم ما أقروا بأن أوامر الرسل ومنهياتهم من الله تعالى وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله والتوحيد. وقرئ «تدعونا» بإدغام النون مُرِيبٍ (9) أي ذي قلق النفس قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي أفي وجود الله ووحدته شك وهو أظهر من كل ظاهر فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وما فيهما يَدْعُوكُمْ إلى التوحيد بإرساله إيانا لِيَغْفِرَ لَكُمْ بسببه مِنْ ذُنُوبِكُمْ في الجاهلية وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخر موتكم إلى وقت معين عند الله إن آمنتم وإلا عاجلكم الله بالاستئصال قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير فضل تُرِيدُونَ بالدعوة أَنْ تَصُدُّونا أي تصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) أي وإن كنتم رسلا من الله فأتونا بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده قالوا ذلك عنادا فإن الرسل قد أتوهم بالآيات الظاهرة قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة معهم في أول مقالتهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة فإنها عطية من الله من غير سبب وَما كانَ لَنا أي ما استقام لنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي بحجة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) ومقصود الرسل بهذا القول حمل أنفسهم على التوكل فإن الكفار أخذوا في التخويف حتى قالوا للرسل: توكلوا أنتم على الله حتى تروا ما يفعل بكم فقالت الرسل: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي أيّ عذر لنا في ترك التوكل على الله والحال أنه قد هدانا طرقه التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) أمر الرسل في هذا أتباعهم بالتوكل بعد أمر أنفسهم به وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر إلا بعد الإتيان به فالإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا، فالناقص إما أن يكون ناقصا غير ساع في تنقيص حال غيره فهو ضال، وإما أن يكون ساعيا في ذلك فهو مضل، وإما خاليا عن الوصفين فهو مهتد. والكامل إما أن يكون غير قادر على تكميل الغير فهو ولي، وإما قادرا على

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 21 إلى 30]

ذلك فهو نبي فالولي: هو الإنسان الكامل، والنبي: هو الإنسان الكامل المكمل. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الغالون في الكفر لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي من مدينتنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي لتصيرن داخلين في ملتنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أي أرض الظالمين وديارهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ أي إسكان الأرض ثابت لِمَنْ خافَ مَقامِي أي لمن خافني وخاف حفظي لأعماله وَخافَ وَعِيدِ (14) أي عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلب كل من الرسل والقوم النصرة على عدوه فنصر الله الرسل وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ أي خسر عند الدعاء من النصرة كل متكبر عن عبادة الله عَنِيدٍ (15) أي منحرف عن الحق مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من بعد هذه الخيبة جهنم يلقى فيها وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) أي مما يسيل من جلود أهل النار من القبح والدم يَتَجَرَّعُهُ أي يتناوله جرعة جرعة على الاستمرار لغلبة العطش والحرارة عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يكاد أن يجريه في الحلق بل يستمسكه فيه لمرارته ونتنه فوصوله إلى الجوف ليس بإجازة وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي يجد ذلك الكافر ألم الموت من كل مكان من أعضائه حتى من أصول شعره وإبهام رجله والحال أنه لا يموت من ذلك العذاب وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب أشد مما هو عليه لا ينقطع ولا يخف بسبب الاعتياد كما في عذاب الدنيا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ أي صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم، وإعتاق رقاب وفداء أسير، وقري ضيف وبر والد، وإغاثة ملهوف كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ أي ذرت بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أي لا يجدون يوم القيامة أثرا مما عملوا في الدنيا من ثواب أو تخفيف عذاب كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان ذلِكَ أي عملهم هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أي الضياع البعيد عن نيل الثواب أَلَمْ تَرَ أي قد أخبرت أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة وليس عبثا. وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات» على اسم الفاعل والإضافة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم بالمرة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) سواكم أطوع لله منكم. وَما ذلِكَ أي إذهابكم والإتيان ببدلكم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) أي بمتعسر لأن القادر لا يصعب عليه شيء وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي ويخرجون من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم فَقالَ الضُّعَفاءُ في الرأي وهم السفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عبادة الله وهم أكابرهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي فهل أنتم في هذا اليوم دافعون عنا بعض شيء هو عذاب الله؟ قالُوا أي القادة: لَوْ

هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ أي لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة ودفعنا عنكم بعض العذاب ولكن سد الله عنا طريق الخلاص سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا مما لقينا أَمْ صَبَرْنا على ذلك أي الصياح، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) أي محل هرب من العقاب وَقالَ الشَّيْطانُ أي يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ منه بأن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقد قالوا له: اشفع لنا فإنك أضللتنا إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو الوعد بالبعث والجزاء على الأعمال فصدق في وعده إياكم وَوَعَدْتُكُمْ أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولئن كان فالأصنام شفعاؤكم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبت لكم وتبين خلف وعدي وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صدقي أو قهر فأقهركم على الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي أجبتموني فَلا تَلُومُونِي بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أجبتموني باختياركم حين دعوتكم بلا دليل فما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة وقد سمعتم دلائل الله، وجاءتكم الرسل، وكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم من عذابكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي بمغيثي من عذابي إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي إني الآن تبرأت من إشراككم إياي مع الله في الطاعة من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا أي، لأن الكفار كانوا يطيعون إبليس في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير. ومعنى إشراكهم إبليس بالله تعالى طاعتهم لإبليس في تزيينه لهم في عبادة الأوثان. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) هذا تمام كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإغاثة فالوقف على من قبل حسن أو ابتداء كلام من حضرة الله تعالى إيقاظا للسامعين حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم فالوقف على من قبل تام كما هو عند أبي عمرو وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) فإن بعضهم يحيي بعضا بهذه الكلمة، والملائكة يحيونهم بها والرب الرحيم يحييهم أيضا بهذه الكلمة. وقرأ الحسن «وأدخل» على صيغة التكلم وعلى هذه القراءة فقوله: «بإذن» ربهم متعلق «بتحيتهم» أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. أَلَمْ تَرَ أي ألم تخبر يا أشرف الخلق كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً أي كيف جعل الله كلمة طيبة وهي لا إله إلا الله مثلا وهي كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة أَصْلُها ثابِتٌ أي ضارب بعروقه في الأرض وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) أي أعلاها في الهواء تُؤْتِي أُكُلَها أي تعطي هذه الشجرة ثمرها كُلَّ حِينٍ أي

كل وقت وكل ساعة ليلا أو نهارا شتاء أو صيفا، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح، والخلال والبسر، والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت بِإِذْنِ رَبِّها أي بإرادة خالقها كذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل حين يعمل خيرا بأمر ربه وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون بثلاثة أشياء عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال كذلك التوحيد يكون بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأبدان وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي يبين الله صفات التوحيد لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) أي يتعظون لأن في ضرب الأمثال تصويرا للمعاني فيحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك بالله كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كالحنظل والكشوت وهي نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض اجْتُثَّتْ أي استؤصلت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها في وجه الأرض أي ليس لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض فتسميتها شجرة للمشاكلة فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) أي ثبات على وجه الأرض فلا يقبل مع الشرك عمل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي الذي يثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم وهو شهادة أن لا إله إلا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون عن تلك الشهادة إذا افتتنوا في دينهم كزكريا ويحيى، وجرجيس، وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود وَفِي الْآخِرَةِ أي في القبر حين يقال له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام؟ ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وحكي أن سهل بن عمار العملي يقول: رأيت يزيد بن هارون في منامي بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظان فقالا: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء فقلت لهما: ألمثلي يقال هذا وقد علّمت النّاس جوابكما ثمانين سنة! فذهبا، وكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في دقائقها أتم وأكمل كان رسوخ هذه المعرفة في قلبه بعد الموت أقوى وأكمل. قال ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة هاهنا بالقبر، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي يصرف الله المشركين عن قول لا إله إلا الله في الدنيا وفي القبر وعند خروجهم من القبور فإنهم إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) من الإضلال والتثبيت ومن صرف منكر ونكير أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً كأهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن، ووسّع عليهم أبواب رزقه،

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 31 إلى 40]

وشرّفهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين فقتلوا وأسروا يوم بدر وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي أنزل بعض قريش المطعمون يوم بدر وهم بنو أمية وبنو المغيرة أتباعهم، وهم بقية قريش بسبب إضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ (28) أي دار الهلاك جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يوم القيامة مقاسين لحرها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) أي بئس المنزل جهنم وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي أشباها وشركاء في التسمية والحظ والعبادة لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء فاللام للعاقبة. والباقون بضمها فاللام إما للعاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال، أو للتعليل فالذين اتخذوا الأوثان يريدون إضلال غيرهم وتحقيق لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل: أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيها بالأمر المقصود في هذا المعنى قُلْ تَمَتَّعُوا بعبادتكم الأوثان وعيشوا بكفركم وهذا الأمر تهديد لهم فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ أي مرجعكم يوم القيامة إِلَى النَّارِ (30) ليس إلا قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وهذان إما مجزومان في جواب أمر محذوف أي قل لهم أقيموا الصلاة فإن قلت لهم ذلك يقيموا الصلاة أو مجزومان بلام أمر مقدر، أي ليقيموا الصلاة أي الواجبة، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم سِرًّا وَعَلانِيَةً أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية. والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا كما هو صنيع الكفرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ أي معاوضة فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) أي مصادقة تنفع وهو يوم القيامة وإنما الانتفاع فيه للمؤمن بالعمل الصالح، أو الإنفاق لوجه الله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهما أصلان في دلالة وجود الصانع وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فلولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به فإذا علم المكلفون أن في تحصيل هذه المنافع القليلة تحمل المتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الآخرة أولى بتحمل المشاق في طلبها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن لِتَجْرِيَ أي الفلك جريا تابعا لإرادتكم بِأَمْرِهِ أي بمشيئته التي نيط بها كل شيء فإن الانتفاع بما ينبت من الأرض لا يكمل إلا بوجود الفلك لنقله إلى البلد الآخر المحتاج أهلها إليه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) أي لتنتفعوا بها في نحو الشرب وسقي الزراعات وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي جاريين فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران في سيرهما إلى انقضاء عمر الدنيا ولولاهما لاختلت مصالح العالم بالكلية، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) لمنامكم ومعاشكم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي كل ما لم تصلح أحوالكم إلا به فكأنكم سألتموه أو من كل ما طلبتموه بلسان الحال. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ التي أنعم الله بها عليكم لا تُحْصُوها أي لا تطيقوا على عد أنواعها فضلا عن عد أفرادها فإنها غير متناهية إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) أي فإن

الإنسان مجبول على النسيان والملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال، وترك شكرها فذلك ظلم، وإن لم ينسها فإنه يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا إن نعم الله كثيرة فمتى حاول الإنسان التأمل في بعضها غفل عن الباقي. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي مكة آمِناً من الخراب ومن الخوف لمن التجأ إليه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام ومن البعد عن عبادة الأصنام. أو المراد أعصمنا من الشرك الخفي وهو عند الصوفية تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي إن الأصنام ضلّ بهن كثير من الناس أي لما حصل الإضلال عند عبادتها نسب إليها فَمَنْ تَبِعَنِي في ديني واعتقادي فَإِنَّهُ مِنِّي أي فإنه جار مجرى بعضي لقربه مني وَمَنْ عَصانِي أي خالف ديني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) أي فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض ذريتي إسماعيل ومن سيولد له بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي في واد ليس فيه زرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أي المعظم الذي يهابه كل جبار أو الذي منع من الطوفان وهو مكة شرفها الله تعالى فلعله قال ذلك باعتبار ما سيؤول إليه أو باعتبار ما كان رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي يا ربنا إنما أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة نحو الكعبة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إلى ذريتي شوقا إليهم بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات بالنسك والطاعة لله تعالى. وقرأ العامة «تهوي» بكسر الواو، وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد بفتح الواو أي تحبهم. وقرئ على البناء للمفعول أي اجعل قلوب بعض الناس ممالة إليهم، وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) تلك النعمة فإن إبراهيم عليه السلام إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة وأداء الواجبات رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها فلا حاجة بنا إلى الدعاء، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وافتقارا إلى ما عندك وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) وهذه الجملة من كلام الله تعالى تصديقا لإبراهيم عليه السلام، وهي اعتراض بين كلامي إبراهيم، فالوقف على «نعلن» حسن كالوقف على «في السماء» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي حال كوني بعد الكبر إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. روي أنه لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) أي لمجيب الدعاء وهو عالم بالمقصود رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مثابرا عليها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل بعض ذريتي كذلك رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) .

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 41 إلى 50]

وقال ابن عباس: أي عبادتي. أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ بلا عذاب الاستئصال لِيَوْمٍ أي لأجل يوم تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) أي تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم للدهشة مُهْطِعِينَ أي مسرعين نحو البلاء ناظرين إلى الداعي وهو جبريل حيث يدعو إلى الحشر من صخرة بيت المقدس مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي يدوم شخوص أبصارهم لدوام الحيرة في قلوبهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) أي خالية عن جميع الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة لما تحققوه من العقاب وحصول هذه الصفات الخمس عند المحاسبة وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ أي وخوف الكفار يا أكرم الرسل أهوال يوم القيامة فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي كل من ظلم بالشرك رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أخر العذاب عنا وردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب نُجِبْ دَعْوَتَكَ لنا على ألسنة الرسل إلى التوحيد وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاءونا به أي نتدارك في الدنيا ما فاتنا من إجابة الدعوة واتباع الرسل فيقول الله لهم توبيخا أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ أي أطلبتم هذا المطلوب وهل لم تكونوا خلفتم مِنْ قَبْلُ هذا اليوم أي في الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) أي كانوا يقولون بالحلف لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، أما زوالهم من غنى إلى فقر، ومن شباب إلى هرم، ومن حياة إلى موت فلا ينكرونه وَسَكَنْتُمْ معطوف على أقسمتم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية وهم قوم نوح وعاد وثمود، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستحقا للتقريع وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي وظهر لكم حالهم بمشاهدة الآثار وبتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك بما فعلوا من الفساد. وقرئ «وبين» على المجهول، وقرئ أيضا «وتبين» بنون المتكلم، أي أولم نبين لكم. وَضَرَبْنا لَكُمُ

الْأَمْثالَ (45) أي بينا لكم الأمثال في القرآن مما يعلم به أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وَقَدْ مَكَرُوا أي المهلكون مَكْرَهُمْ حال من الضمير في فعلنا بهم أي فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق مكرهم الذي جاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي أخذه بهم بالعذاب الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون وهذه الجملة حال من الضمير في مكروا وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) أي وإن كان مكرهم في غاية العظم والشدة بحيث تزول منه الجبال فإن وصلية. وقيل: «إن» نافية و «اللام» لتأكيدها، وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير في «مكروا» أي ومكروا مكرهم. والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الشرائع والمعجزات. وقيل: هي مخففة من «أن» أي وأنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الشرائع والمعجزات. وقرأ الكسائي وحده «لتزول» بفتح اللام الفارقة ورفع الفعل. فالجملة حينئذ حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله المكر بهم. والحال أن مكرهم في غاية القوة بحيث تزول منه الجبال. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تفريع على ولا تحسبن الله إلخ فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا فمخلف إما متعد لاثنين مضاف لمفعوله الثاني، وإما متعد لواحد مضاف لمفعوله ورسله مفعول لوعده إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ (47) لأوليائه من أعدائه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أي تغير في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وَالسَّماواتُ أي تبدل السموات غير السموات فتنتثر كواكبها، وتكسف شمسها، ويخسف قمرها وتكون السماء أبوابا، وذكر شبيب بن إبراهيم بن حيدرة أن الأرض والسموات يبدلان كرتين إحداهما قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا الكواكب وتكسف الشمس والقمر، وتصير السماء كالمهل، ثم تكشط عن رؤوسهم، ثم تسير الجبال، ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيرانا، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء وبدلت السماء سماء أخرى من ذهب، ودحيت الأرض أي مدت مد الأديم، وأعيدت كما كانت فيها القبور أو البشر على ظهرها وفي بطنها، وتبدل تبديلا ثانيا إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم ساهرة يحاسبون عليها وهي أرض بيضاء من فضة، وحينئذ يقوم الناس على الصراط، وعلى متن جهنم وهي أرض من نار، فإذا جاوزوا الصراط وحصل أهل

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 51 إلى 52]

الجنان من وراء الصراط في الجنان وأهل النيران في النار بدلت الأرض خبزا نقيا فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت الأرض قرصا واحدا يأكل منه جميع من دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور الجنة وزيادة كبد النون. وحاصل كلام القرطبي أن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى من فضة يكون قبل الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي ملائكة سماء الدنيا، وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك على الصراط وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة. وقال الرازي: لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) أي واذكروا يوم يبرز الخلائق جميعا من قبورهم للحساب والجزاء وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي وتبصر يا أكرم الخلق الكافرين يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ برزوا له تعالى مُقَرَّنِينَ أي قرن بعضهم ببعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال فِي الْأَصْفادِ (49) أي القيود سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم مِنْ قَطِرانٍ وهو ما يتحلب من شجر الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجربي. فيحرق الجرب بحرارته وقد تصل إلى الجوف. والمراد أنه تطلى به جلود أهل النار ليجتمع عليهم الأنواع الأربعة من العذاب لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، وإسراع النار في جلودهم وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) أي تعلوها النار وخصّ الله هذا العضو بظهور آثار العقاب، كما خصّ القلب بذلك في قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 6، 7] لأن الرأس محل الفكر والوهم والخيال، والقلب موضع العلم والجهل، ولا يظهر أثر هذه الأحوال إلا في الوجه ولأنه مجمع الحواس ولخلوه عن القطران ويفعل الله بهم تلك الأمور الثلاثة لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقا لعملها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) فلا يشغله حساب عن حساب ولا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه هذا أي الموعظة التي في هذه السورة بَلاغٌ أي كفاية في الموعظة لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على مقدر متعلق ببلاغ أي كفاية لهم لينتصحوا ولينذروا به أي بهذا البلاغ وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الأدلة أَنَّما هُوَ أي الله إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) أي وليتعظوا بذلك وهذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية، تسع وتسعون آية، ستمائة وثمان وخمسون كلمة، ألفان وثمانمائة وثلاثة وثمانون حرفا الر قال ابن عباس: أي أنا الله أرى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) أي تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان لسبيل الرشد والغي، وللفرق بين الحق والباطل وهو الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وتنكير القرآن للتفخيم كتعريف الكتاب. فالمقصود الوصفان، وقيل: «الواو» للقسم أي أقسم بالقرآن المبين بالحلال والحرام وبالأمر والنهي رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) أي إن الكافر بالقرآن كلما رأى حالا من أحوال العذاب ورأى حالا من أحوال المسلم تمنى كونه في الدنيا منقادا لحكمه، ومذعنا لأمره وذلك عند الموت، وعند اسوداد وجوه الكفار، وعند دخولهم النار، وعند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار. ف «ربّ» للتكثير باعتبار مرات التمني، وللتقليل باعتبار أزمان الإفاقة فأزمان إفاقتهم قليلة بالنسبة لأزمان الدهشة، وكونه للتقليل أبلغ في التهديد. ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجرا لك عن هذا العمل فكيف كثيره وأيضا إنه يشغلهم العذاب عن تمني ذلك إلا في القليل. وقرأ نافع وعاصم «ربما» بتخفيف الباء. والباقون بالتشديد ذَرْهُمْ أي اترك كفار مكة يا أشرف الرسل عن النهي عمّا هم عليه بالنصيحة إذ لا سبيل إلى ارعوائهم عن ذلك بل مرهم بتناول ما يتناولونه يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا أي يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ أي يشغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) عند الموت وفي القبر ويوم القيامة ماذا يفعل بهم وعن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها وبإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم بعذاب الاستئصال كما فعل ببعض آخر إِلَّا وَلَها في ذلك الشأن

[سورة الحجر (15) : الآيات 11 إلى 20]

كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) أي أجل مؤقت لهلاكها مكتوب في اللوح المحفوظ لا يغفل عنه ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة وغيرهم أَجَلَها المكتوب في كتابها فلا يجيء هلاكها ولا موتها قبل مجيء كتابها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) عن أجلها وَقالُوا أي كفار مكة عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه استهزاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن في زعمه إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) أي إنك لتقول قول المجانين حتى تدعي أن الله تعالى نزل عليك القرآن لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ أي هلا أتيتنا بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الإنذار إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) في مقالتك إنك نبي وإن هذا القرآن من عند الله فأجاب الله تعالى عن قولهم بقوله تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي فالحق في حق الكفار تنزيل الملائكة بعذاب الاستئصال كما فعل بأمثالهم من الأمم السالفة لا التنزيل بما اقترحوا من أخبارها لهم بصدق الرسول فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء من أفراد كل المؤمنين فكيف على أولئك الكفرة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ما ننزل» بنون المتكلم وبكسر الزاي المشددة، «والملائكة» بالنصب. وقرأ شعبة عن عاصم «ما تنزل» ببناء الفعل للمفعول «والملائكة» بالرفع. والباقون «تنزل الملائكة» . وَما كانُوا إِذاً أي إذ نزلت عليهم الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ (8) أي مؤخرين ساعة أي ولو نزلنا الملائكة ما أخر عذابهم ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ الذي أنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وَإِنَّا لَهُ أي الذكر لَحافِظُونَ (9) من الشياطين حتى لا يزيدوا فيه ولا ينقصوا منه ولا يغيروا حكمه. ويقال: وإنا لمحمد لحافظون من الكفار والشياطين وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) أي في أمم الأولين وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) أي عادة هؤلاء الجهّال مع الرسل ذلك الاستهزاء كما يفعله هؤلاء الكفرة بك وهذا تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتاب نسلك الذكر في قلوب كفار مكة. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالذكر. وهذا حال من ضمير نسلكه أو لا محل له من الإعراب تفسير للجملة السابقة. والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه ومع هذه الأحوال لا يؤمنون به عنادا منهم وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) أي وقد مضت سيرة الأولين بتكذيب الرسل ومضت سيرة الله فهم بإهلاكه إياهم بعد التكذيب، وهذه الجملة استئناف جيء بها تكملة للتسلية وتهديدا لكفار مكة وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي كفار مكة الذين اقترحوا نزول الملائكة باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك

[سورة الحجر (15) : الآيات 21 إلى 30]

الباب يَعْرُجُونَ (14) أي يصعدون ويرون ما فيها من العجائب عيانا لَقالُوا لفرط عنادهم: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي غشيت بالسحر. وقرأ ابن كثير بتخفيف الكاف. والباقون بتشديدها فهو يوجب تكثيرا أو حيرت من السكر كما يعضده قراءة من قرأ سكرت أي حارت بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) أي قد سحر محمد عقولنا كما قالوه عند ظهور سائر المعجزات من انشقاق القمر ومن القرآن الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي محال تسير فيها الكواكب السيارة وهي المريخ بكسر الميم وهو كوكب في السماء الخامسة وله الحمل والعقرب والزهرة بضم ففتح وهي في السماء الثالثة، ولها الثور والميزان وعطارد بفتح العين وهي في الثانية، ولها الجوزاء والسنبلة والقمر، وهو في الأولى، وله السرطان والشمس وهي في الرابعة، ولها الأسد والمشتري وهو في السادسة، وله القوس والحوت وزحل وهو في السابعة، وله الجدي والدلو وجملة البروج اثنا عشر، ووجه دلالة البروج على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة، فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة، وكل مركب لا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب وَزَيَّنَّاها أي السماء بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ (16) بأبصارهم وبصائرهم فيستدلون بها على قدره صانعها ووحدته وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) أي مرمي بالشهاب فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويقف على أحوالها إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي إلا من اختلس المسموع سرا من غير دخول فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ أي لحقه شعلة نار ساطعة تنفصل من الكوكب مُبِينٌ (18) أي ظاهر أمره للمبصرين وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها أي على الأرض رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لكيلا تميل بأهلها ولتكون دلالة للناس على طرق الأرض لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وَأَنْبَتْنا فِيها أي الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) أي مستحسن مناسب أو موزون بوزن فالمعادن كلها موزونة وذلك مثل الذهب والفضة والحديد والرصاص وغير ذلك والنباتات ترجع عاقبتها إلى الوزن، لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها أي الأرض مَعايِشَ أي ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء مدة حياتكم في الدنيا وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والخدم والعبيد والدواب والطيور وما أشبهها، فالناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقونهم وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الكل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي إن جميع الممكنات مقدورة له تعالى يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر في كونها مستورة عن علوم العالمين وكونها مهيأة لإيجاده بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت من غير تأخر بنفائس الأموال المخزونة في

الخزائن السلطانية وَما نُنَزِّلُهُ أي ما نوجد شيئا إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة فقوله تعالى: إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله تعالى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ إشارة إلى أن كل ما يدخل في الوجود منها فهو متناه ومتى كان الخارج إلى الوجود منها متناهيا كان مختصا بوقت مقدر وبحيز معين وبصفات معينة بدلا عن أضدادها، فتخصيص كل شيء بما اختص به لا بد له من حكمة تقتضي ذلك. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: إن في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبر وهو تأويل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ. وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أي حوامل لأنها تحمل الماء وتمجه في السحاب فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا وفي هذا دلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) أي نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله في الأرض وما أنتم على ذلك بقادرين. وقيل: ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها لنجعلها سقيا لكم أي معدا لسقي أنفسكم ومواشيكم وأراضيكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) أي الباقون بعد فناء الخلق المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي من تقدم منكم ولادة وموتا وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) أي من تأخر ولادة وموتا. وقال ابن عباس: في رواية عطاء معنى المستقدمين: أهل طاعة الله تعالى. ومعنى المستأخرين: المتخلفون عن طاعة الله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء إِنَّهُ حَكِيمٌ أي متقن في أفعاله فيأتي بالأفعال على ما ينبغي وعالم بحقائق الأشياء على ما هي عليه عَلِيمٌ (25) أي وسع علمه كل شيء وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي آدم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين يابس غير مطبوخ يصوت عند نقره مِنْ حَمَإٍ أي كائن من طين متغير أسود بطول مجاورة الماء مَسْنُونٍ (26) أي مصور بصورة الآدمي. قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالا كالخزف، ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئا من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح وَالْجَانَّ وهو أبو الجن والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافرا يسمى بهذا الاسم خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق الإنسان مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) أي من نار الحر الشديد النافذ في المسام أو من نار الريح الحارة وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً أي جسما كثيفا يلاقي بخلاف الجن والملائكة

[سورة الحجر (15) : الآيات 31 إلى 40]

فإنهم لا يلاقون للطف أجسامهم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين يتصلصل مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) أي من طين منتن رطب فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي أتممت خلقه باليدين والرجلين والعينين وغير ذلك وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي جعلت الروح فيه وليس ثمّ نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما يحيا آدم به من الروح التي هي من أمره تعالى فَقَعُوا أي خروا لَهُ أي لذلك البشر ساجِدِينَ (29) بوضع الجبهة على الأرض لا بالانحناء تعظيما له، فالسجود كان لآدم في الحقيقة. أو المعنى اسجدوا لله تعالى بوضع الجبهة على الأرض، وآدم عليه السلام بمنزلة القبلة لذلك السجود حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) أي فخلقه فسواء فجعل فيه الحياة فسجد الملائكة. فمعنى «كلهم» أي لم يشذ منهم أحد، ومعنى «أجمعون» أي لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد، أي فالكل سجدوا دفعة واحدة إِلَّا إِبْلِيسَ رئيسهم أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ أي الله تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) أي أيّ سبب لك في أن لا تكون مع الساجدين لآدم قالَ أي إبليس: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ أي لا يصح مني أن أسجد لِبَشَرٍ أي جسم كثيف لأنه مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها وأنا روحاني لطيف خَلَقْتَهُ أي البشر مِنْ صَلْصالٍ ناشئ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ الله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها أي من زمرة الملائكة المعززين ويقال: من رحمتي والفاء في جواب شرط مقدر أي فحيث عصيت وتكبرت فاخرج منها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) أي مطرود عن الرحمة وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ أي الإبعاد عن الرحمة إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) أي الجزاء أي إنك مدعو باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الحساب من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذابا بنسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه قالَ إبليس: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي أخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) أي آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد الملعون بهذا السؤال أن لا يذوق الموت لاستحالته بعد يوم البعث وأن يجد فسحة في إغوائهم قالَ الله تعالى: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) أي المؤجلين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) وهو وقت النفخة الأولى التي علم أنه يموت كل الخلائق فيه قالَ إبليس: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لذرية آدم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر اللام في كل القرآن أي الذين أخلصوا دينهم عن كل شائب يناقض التوحيد. وقرأ الباقون بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بالتوفيق والعصمة وعصمهم من كيد إبليس قال تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) أي هذا الإخلاص طريق يؤدي إلى كرامتي وثوابي من غير اعوجاج. وقرأ يعقوب «علي» بالرفع والتنوين على أنه صفة «لصراط» أي هذا الإخلاص طريق رفيع لا عوج فيه إِنَّ عِبادِي سواء كانوا

[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 60]

مخلصين أو لم يكونوا مخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي قدرة أصلا على الإغواء إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) ولما أوهم إبليس في كلامه أن له على بعض عباد الله تسلطا بالإغواء بين الله كذبه فيه وذكر أن إغواءه للغاوين ليس بطريق تصرفه بالإغواء بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أي لمصير المتبعين أَجْمَعِينَ (43) لَها أي لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة وهي جهنم ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية لِكُلِّ بابٍ أي دركة مِنْهُمْ أي الأتباع جُزْءٌ أي حزب معين مَقْسُومٌ (44) أي مفرز من غيره ففي الدركة الأولى: أهل التوحيد الذين أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها. وفي الثانية: النصارى. وفي الثالثة: اليهود. وفي الرابعة: الصابئون. وفي الخامسة: المجوس. وفي السادسة: أهل الشرك. وفي السابعة: المنافقون. والحاصل أن الله تعالى يجزئ أتباع إبليس سبعة أجزاء فيدخل كل جزء منهم دركة من النار والسبب في التجزئة أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فصارت مراتب العذاب مختلفة بذلك إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) أي مستقرون فيهما لكل منهم عدة منهما ادْخُلُوها بِسَلامٍ أي ادخلوا الجنة سالمين من كل آفة آمِنِينَ (46) من كل خوف، أي لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم: ادخلوها بسلام آمنين. وقرئ «ادخلوها» أمرا من الله تعالى للملائكة بإدخالهم في الجنة. وقرأ الحسن «ادخلوها» مبينا للمفعول على صيغة الماضي المزيد فيه. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي عداوة كانت بينهم في الدنيا إِخْواناً حال من ضمير صدورهم أو من فاعل ادخلوها عَلى سُرُرٍ من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت تدور بهم الأسرة حيثما داروا مُتَقابِلِينَ (47) في الزيارة أي إنهم إذا اجتمعوا، ثم أرادوا الانصراف يدور سرير كل واحد منهم به بحيث يصير راكبه مقابلا بوجهه لمن كان عنده وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير وهذا أبلغ في الإنس والإكرام لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ أي تعب لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلا وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) لأن تمام النعمة بالخلود نَبِّئْ عِبادِي أي أخبر يا أشرف الرسل كل من كان معترفا بعبوديتي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ للعصاة من المؤمنين الرَّحِيمُ (49) بهم وَأَنَّ عَذابِي للعصاة إن عذبت هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) . وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون والنار بين أيديكم» «1» فنزل قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَنَبِّئْهُمْ أي خبر يا سيد

_ (1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (10: 387) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (39784) ، بما معناه.

[سورة الحجر (15) : الآيات 61 إلى 70]

المرسلين عبادي عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) وهم ملائكة على صور غلمان حسان منهم جبريل إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي فسلموا سلاما، أي قالوه تحية لإبراهيم قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) أي خائفون. قال إبراهيم ذلك حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ، لأن العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما قدم له يكون خائنا قالُوا لا تَوْجَلْ أي لا تخف يا إبراهيم منا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ أي ولد هو إسحاق عَلِيمٍ (53) في صغره حليم في كبره قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي بذلك عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي بعد ما أصابني الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) أي فبأي أعجوبة تبشرونني؟! «فما» استفهام بمعنى التعجب. أراد إبراهيم بهذا السؤال أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة، أو بعد قلبه شابا؟ فبينوا أن الله تعالى أعطاه الولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة. قرأ نافع «تبشرون» بكسر النون خفيفة في كل القرآن. وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها. والباقون بفتح النون خفيفة قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي بطريقة هي حق وهو أمر الله تعالى فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) أي من الآيسين من الولد فإن الله قادر على أن يخلق بشرا بغير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر قالَ إبراهيم: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) أي لا يقنط من رحمة ربه إلا المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم فلا يعرفون سعة رحمة الله تعالى وكمال علمه وقدرته. ومراد سيدنا إبراهيم بهذا القول نفي القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى، وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة عليّ. وقرأ أبو عمرو والكسائي «يقنط» بكسر النون، وقرئ شاذا بضم النون. قالَ إبراهيم لجبريل وأعوانه: فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) لإهلاكهم إِلَّا آلَ لُوطٍ ابنتيه زاعورا وريثا وامرأته الصالحة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أي لوطا وآله أَجْمَعِينَ (59) أي مما يصيب القوم إِلَّا امْرَأَتَهُ واعلة المنافقة قَدَّرْنا أي قضينا عليها إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) أي الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بتخفيف الدال هاهنا وفي النمل. وقرأ حمزة والكسائي «لمنجوهم» بسكون النون فخرجوا من عند إبراهيم وسافروا من قريته إلى قرية لوط وكان بينهما أربعة فراسخ فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) هم الملائكة الذين ضافوا إبراهيم قالَ لوط لهم: إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) أي تنكركم نفسي فأخاف أن تصيبوني بشر ولا أعرف غرضكم، لأي غرض دخلتم علي! قالُوا أي الملائكة: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بالعذاب الذي هددت قومك به فيشكون في مجيئه لهم ويكذبونك وهو ما

[سورة الحجر (15) : الآيات 71 إلى 80]

يشفيك من عدوك وما فيه سرورك وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأخبار بمجيء العذاب وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) في مقالتنا إن العذاب نازل عليهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي فسر ببنتيك وامرأتك الصالحة في جزء من الليل عند السحر وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي امش خلفهم جهة صعر لأجل أن تطمئن عليهم وتعرف أنهم ناجون وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلى ورائه إذا سمع الصيحة لئلا ترتاعوا من عظيم ما نزل بهم من البلاء وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) أي سيروا إلى المكان الذي أمركم الله بالذهاب إليه وهو صعر، وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) أي وأخبرنا لوطا عن ذلك الأمر إن آخر هؤلاء المجرمين مستأصل حال دخولهم في الصبح أي يتم استئصالهم حال ظهور الصبح حتى لا يبقى منهم أحد. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أي مدينة سذوم إلى دار لوط: يَسْتَبْشِرُونَ (67) أي يظهرون السرور بأضياف لوط وقالوا: نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجها ولا أحسن شكلا منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبا منه لأولئك المرد قالَ لهم لوط: إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) أي فلا تظهروا عاري عندهم فإن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي وَاتَّقُوا اللَّهَ في فعل الفاحشة وَلا تُخْزُونِ (69) أي ولا تخجلوني قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) أي ألسنا قد نهيناك عن أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة وكان لوط ينهاهم عنها بقدر وسعه قالَ هؤُلاءِ بَناتِي فتزوجوهن إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) قضاء الوطر لَعَمْرُكَ قسمي. وهذا قسم من الملائكة بحياة لوط عليه السلام إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي في شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم يَعْمَهُونَ (72) أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة عظيمة مهلكة مُشْرِقِينَ (73) أي داخلين في وقت شروق الشمس فَجَعَلْنا عالِيَها أي المدينة سافِلَها وكانت قراهم أربعة فيها أربعمائة ألف مقاتل وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على أهل المدينة قبل تمام الانقلاب أو على من كان منهم خارجا عن المدينة بأن كان غائبا في سفر أو غيره حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) أي وحل مطبوخ بالنار عليه كتاب إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة إبراهيم وقصة لوط لَآياتٍ أي لعبرات لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) أي للمتفكرين وَإِنَّها أي مدينة قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) أي في طريق ثابت لم يخف والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في كون المدينة مشاهدة للناس في ذهابهم وإياهم لَآيَةً أي لعبرة عظيمة لِلْمُؤْمِنِينَ (77) أي لكل من آمن بالله وصدق الأنبياء فإنهم عرفوا أن ما حاق بهم من العذاب لمخالفتهم لرسل الله تعالى أما الذين لا يؤمنون فيحملونه على حوادث العالم وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي وإن الشأن كان أصحاب بقعة الأشجار، وكانوا يسكنونها وكان أكثر شجرهم الدوم لَظالِمِينَ (78) بتكذيبهم شعيبا عليه السلام فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. روي أن الله تعالى سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى أخذ بأنفاسهم وقربوا من الهلاك فبعث

[سورة الحجر (15) : الآيات 81 إلى 90]

الله لهم سحابة كالظلة، فالتجأوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها، فبعث الله عليهم منها نارا، فأحرقتهم جميعا. وَإِنَّهُما أي قريات لوط وقريات شعيب لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) أي لفي طريق واضح يمر أهل مكة عليهما وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) أي صالحا وجملة المرسلين فالقوم براهمة منكرون لكل الرسل، والحجر واد بين المدينة الشريفة والشام وآثاره باقية يمر عليها ركب الشام في ذهابه إلى الحجاز وكان ثمود يسكنونه. وَآتَيْناهُمْ آياتِنا أي أعطيناهم الناقة، وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة، وعظم جثتها وقرب ولادتها عند خروجها من الصخرة وكثرة لبنها وشربها فَكانُوا عَنْها أي تلك الآيات مُعْرِضِينَ (81) فلا يستدلون بها على صدق صالح عليه السلام حتى قتلوا الناقة وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) من الانهدام ونقب اللصوص، وتخريب الأعداء لوثاقتها فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) أي صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم عند الصباح فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) أي فلم يدفع عنهم ما كانوا يعملون من تحت تلك الجبال بنقرها بالمعول وجمع الأموال ما نزل بهم من البلاء وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب العدل فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك يا أكرم الرسل وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك على حسناتك ويجازيهم على سيئاتهم فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) أي أعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم. والمقصود من هذا الكلام أن يظهر الرسول الخلق الحسن والعفو فلا يكون منسوخا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) أي إنه تعالى خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم وعلم كونهم كذلك لمحض إرادته وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أي سبع آيات هي المثاني وهي الفاتحة وهذا قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة، والحسن وأبي العالية، ومجاهد، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني» . وقيل: سميت الفاتحة مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء، وأيضا النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) وهذا من عطف الكل على البعض فبعض الشيء مغاير لمجموعه فيكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف. ونقل عن ابن عباس وطاوس أن السبع المثاني هو القرآن كله. وعلى هذا فهو عطف أحد الوصفين على الآخر مع وحدة ذات الموصوف وإنما حسن العطف لاختلاف اللفظين فإن القرآن سبعة أسباع كل سبع صحيفة وكله مثان أمر ونهي ووعد ووعيد، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، وحقيقة ومجاز، ومحكم ومتشابه، وخبر ما كان وما يكون، ومدحة لقوم ومذمة لقوم. وسبب نزول هذه الآية أن سبع قوافل أقبلت من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البز والطيب

[سورة الحجر (15) : الآيات 91 إلى 99]

والجواهر، وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فقال الله تعالى لهم لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه القوافل السبع ويدل على صحة هذا قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي لا تنظرن بالرغبة إلى ما أعطيناه رجالا من الكفرة من متاع الدنيا وزخارفها فإن ما في الدنيا بالنسبة إلى ما أعطيت مستحقر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تحزن لأجل عدم إيمانهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) أي تواضع لهم ولين جانبك لهم وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) أي إني منذر آت بالبينات فأنذرتكم مثل ما نزل بالذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان ويقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة فإنه مجنون، وربما قالوا: ساحر، وربما قالوا: شاعر، وربما قالوا: كاهن. وسمّوا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق فأماتهم الله شر ميتة. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) أي الذين جزأوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر وشعر وكهانة ومفترى وأساطير الأولين. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) في الدنيا من قول وفعل وترك فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهر ما تؤمر به وافرق بين الحق والباطل وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا ليس بمنسوخ، لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) أي الذين يبالغون في الاستهزاء بك، وفي إيذائك الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) ماذا يفعل بهم فأهلكهم الله في يوم وليلة وكانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث فأما الوليد المخزومي فمر بنبال، فأصاب النبل عرقا في عقبه فقطعه فمات، وأما العاص السهمي فدخلت في أخمصه شوكة فقال: لدغت لدغت، وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا، فمات. وأما الحرث السهمي: فإنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فشرب عليه الماء حتى انشق بطنه فمات. وأما الأسود بن المطلب: فرماه جبريل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعته عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك. وأما الأسود بن عبد يغوث: فإنه خرج في يوم شديد الحر فأصابه السموم، فاسود حتى عاد حبشيا فرجع إلى بيته فلم يفتحوا عليه الباب فنطع رأسه ببابه حتى مات وكلهم كانوا يقولون: قتلنا رب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بحسب الطبيعة البشرية وإن كان جميع أموره صلّى الله عليه وسلّم مفوضا لربه بِما يَقُولُونَ (97) أي بسبب ما يقولون من كلمات الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء به وبك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فافزع إلى الله تعالى فيما نابك من الغم بالتسبيح ملتبسا بحمده تعالى وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) أي من المصلين وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) أي الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق أي واعبد ربك في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة.

سورة النحل

سورة النحل وتسمى سورة النعم. مكية، إلا ثلاث آيات في آخرها، مائة وثمان وعشرون آية، ألف وثمانمائة وخمس وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وأربعة وثلاثون حرفا أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي العذاب الموعود للكفرة. والحاصل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: أتى أمر الله أي قد حصل حكم الله بنزول العذاب من الأزل إلى الأبد وإنما لم يحصل المحكوم به لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت ولما قالت الكفار: إنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) فنزه الله تعالى نفسه عن شركة الشركاء وأن يكون لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه ولما قال الكفار: إنه تعالى قضى على بعض عباده بالسراء وعلى آخرين بالضراء، ولكن كيف يمكنك يا محمد أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى! وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي جبريل ومن معه من الملائكة بِالرُّوحِ أي بكلام الله تعالى مِنْ أَمْرِهِ أي إن الروح هي أمره تعالى عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أي أعلموا الناس أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) بالإتيان بعبادتي. وتقرير هذا الكلام أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده، ويأمر الله ذلك العبد الذي نزلت عليه الملائكة بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد وبالعبادة له، وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة فبهذا الطريق صار ذلك العبد مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا إشارة إلى الأحكام الأصولية وقوله تعالى: فَاتَّقُونِ إشارة إلى الأحكام

الفروعية خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي أوجدهما على صفات خصصها بحكمته ولما احتج تعالى بخلق السموات والأرض على حدوثهما قال بعده: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) فالقائلون بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكا في القدم، فنزه تعالى نفسه عن ذلك وبيّن أنه لا قديم إلا هو. فالمقصود من قوله أولا سبحانه وتعالى عما يشركون إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع عقاب الله عنهم. والمقصود هاهنا إبطال قول من يقول أجسام السموات والأرض قديمة فنزه الله تعالى نفسه عن أن يشاركه غيره في القدم خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ منتنة فَإِذا هُوَ بعد قوة عقله وعظم فهمه خَصِيمٌ لربه مُبِينٌ (4) أي ظاهر الخصومة منكر لخالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم وهذا إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفس الإنسان على وجود الصانع الحكيم فإن الانتقال من الحالة الخسيسة إلى الحالة العالية لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم وَالْأَنْعامَ أي الإبل والبقر والغنم خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما يتدفأ به من اللباس المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها وغير ذلك وَمِنْها أي من لحومها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ أي منظر حسن عند الناس حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) أي تخرجونها من حظائرها إلى المرعى بالغداة وَتَحْمِلُ أي الإبل أَثْقالَكُمْ أي أمتعتكم إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي واصلين إليه على غير الإبل إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي إلا بتعب النفس أو إلا بذهاب نصف قوة البدن، والشق بكسر الشين وفتحها معناه المشقة والنصف إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) ولذلك أصبغ عليكم هذه النعم الجليلة ويسّر لكم الأمور الشاقة وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً أي وخلق هذه الأشياء للركوب وللمنظر الحسن، واحتج بهذه الآية من يحرم لحوم الخيل وقالوا: لأن الله تعالى خصّ هذه بالركوب فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وهو قول ابن عباس وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة، وذهب جماعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا على إباحة لحوم الخيل بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسا ونحن بالمدينة أخرجه البخاري ومسلم. روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) أي ويخلق في الدنيا غير ما عدد من أصناف النعم. روي عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر، فيغتسل، فيزداد نورا

[سورة النحل (16) : الآيات 11 إلى 20]

إلى نور، وجمالا إلى جمال، وعظما إلى عظم، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشة كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور، وسبعون ألف ملك الكعبة، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي وعلى الله بيان استقامة الطريق وهو الإسلام وَمِنْها أي من السبيل جائِرٌ أي مائل عن الحق وهو أنواع الكفر والضلال وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) إلى استقامة الطريق هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ ولكل حي مِنْهُ أي الماء شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ أي من الماء ما ينبت على الأرض فِيهِ أي في الشجر تُسِيمُونَ (10) ترعون مواشيكم يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أي بالماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ والإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء وهو إما أن يكون من الحيوان أو من النبات والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات، وأما الغذاء النباتي فقسمان: حبوب، وفواكه. فالحبوب: هي ما به قوام بدن الإنسان. وأشرف الفواكه: الزيتون والنخيل والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن، ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه فظاهر. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ مما لا يمكن على الناس تفصيل أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإنبات ما ذكر لَآيَةً دالة على تفرده تعالى بالألوهية لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان مع رطوبة الأرض، فإنها تنتفخ وينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع ومن تفكر في ذلك علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه أحد في شيء من صفات الكمال وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ. قرأ ابن عامر «والشمس والقمر والنجوم» بالرفع على الابتداء و «مسخرات» خبرها. وقرأ حفص عن عاصم و «النجوم» بالرفع. والباقون بالنصب في الجميع و «مسخرات» حال منه، أي أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحهم حال كونها مسخرات لله تعالى بِأَمْرِهِ أي بإرادته كيف شاء إِنَّ فِي ذلِكَ أي تسخير الليل وما بعده لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) أي يعلمون أن تسخيرها من الله تعالى وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وسخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوان ونبات مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي اختلاف ما في الأرض لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) أي يتعظون فإن اختلاف طبائع ما في الأرض وأشكاله مع اتحاد مواده إنما هو بصنع حكيم عليم قادر مختار منزه عن كونه جسمانيا وذلك هو الله تعالى وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من

الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً أي سمكا طَرِيًّا والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا لانحصار الانتفاع به في الأكل ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على طلب المسارعة إلى أكله لسرعة فساده وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً أي لؤلؤا ومرجانا تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساؤكم لأجلكم فإن زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فهي حلية لكم بهذا الاعتبار وَتَرَى الْفُلْكَ أي تبصر السفن مَواخِرَ فِيهِ أي جواري في البحر مقبلة ومدبرة، ومعترضة بريح واحدة تشقه بحيزومها وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتركبوها للوصول إلى البلدان الشاسعة فتطلبوا الرزق بالتجارة وغيرها من فضل الله تعالى وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) أي تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جعل فيها جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميل بكم الأرض وتضطرب وَأَنْهاراً أي جعل في الأرض أنهارا جارية لمنافعكم وَسُبُلًا أي جعل فيها طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) أي لكي تهتدوا بها في أسفاركم إلى مقاصدكم وَعَلاماتٍ أي جعل في الأرض أمارات الطرق التي يستدل بها المارون: وهي الجبال والرياح والتراب فإن جماعة يشمون التراب ويتعرفون بذلك الشم الطرق وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) بالليل في البراري والبحار. وقال السدي: هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي أَفَمَنْ يَخْلُقُ هذه الأشياء وهو الله تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا أصلا وهو الأصنام أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تفكر ولا إلى شيء سوى التذكر فيكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة ويترك عبادة من يستحقها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إنكم لا تعرفونها على سبيل التمام وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل، ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك بها حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلا عن سائر وجوه الإحسان، ثم الطريق إلى الشكر أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه رَحِيمٌ (18) بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم بسبب تقصيركم وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ (19) أي تظهرونه منهما وهذه

[سورة النحل (16) : الآيات 21 إلى 30]

الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلا فكيف تحسن عبادتها وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي والآلهة الذين يعبدهم الكفار من دون الله لا يقدرون أن يخلقوا شيئا. قرأ حفص عن عاصم «يسرون» ، و «يعلنون» ، و «يدعون» بالياء على الغيبة. لكن نقل عن السمين أن قراءة الياء التحتية شاذة في الفعلين الأولين. وقرأ أبو بكر عن عاصم «يدعون» خاصة بالياء على المغايبة. وقرئ على صيغة المبني للمفعول. وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أي أن الأصنام مخلوقة لله تعالى منحوتة من الحجارة وغيرها أَمُوتُ أي جمادات لا روح فيها غَيْرُ أَحْياءٍ أي لا تأتيها الحياة أصلا وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) أي وما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم من القبور وفي هذا تهكم بالمشركين في أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف وقت جزائهم على عبادتهم. وقيل: المعنى أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى. قال ابن عباس: إن الله تعالى يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا يشاركه شيء في شيء فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لوحدانية الله تعالى ولكل كلام يخالف قولهم وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) عن الرجوع من الباطل إلى الحق لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ من استكبارهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أي وإذا قال وفود الحاج لأولئك المنكرين المستكبرين عمّا أنزل الله تعالى على محمد عليه السلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) أي هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أكاذيب الأولين ليس فيه شيء من العلوم والحقائق لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لم يخفف من عقابهم شيء يوم القيامة بمصيبة أصابتهم في الدنيا فقوله: «ليحملوا» متعلق «بقالوا» ف «اللام» للعاقبة. وقوله: «يوم القيامة» ظرف «ليحملوا» . وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وليحملوا أيضا من جنس آثام من ضل بإضلالهم أي فيحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع بِغَيْرِ عِلْمٍ أي إن هؤلاء الرؤساء يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلته أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) أي بئس ما يحملونه من الذنوب حملهم هذا قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي قد رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فأهلكهم الله تعالى وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانا شديدا ودعّموه فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم سقف بنيانهم، فأهلكهم. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد وفي إبطاله تعالى تلك الحيل،

[سورة النحل (16) : الآيات 31 إلى 40]

وجعله تعالى إياها أسبابا لهلاكهم بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فضعضعت تلك الأساطين، فسقط عليهم السقف، فهلكوا. فهو مثل ضربه الله تعالى لمن مكر بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس من حفر لأخيه قليبا وقع فيه قريبا. وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) أي إنهم اعتمدوا على منصوباتهم ثم تولد البلاء منها بأعيانها فهؤلاء الماكرون القائلون: إن القرآن أساطير الأولين سيأتيهم العذاب العاجل من جهة لا تخطر ببالهم مثل ما أتاهم ثُمَّ الله تعالى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذل الكفار بعذاب وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي يقول الله لهم تفضيحا أين شركائي في زعمكم الذين كنتم تخاصمون الأنبياء والمؤمنين في شأن الشركاء حين بينوا لكم بطلانها. وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي يقول المؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد حين يرون خزي الكفار وهم في الموقف: إِنَّ الْخِزْيَ أي الفضيحة الْيَوْمَ وَالسُّوءَ أي العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي عزرائيل وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي مستمرين على الكفار فإنهم ظلموا أنفسهم حيث عرضوها للعذاب المخلد. وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء مع الإمالة في الموضعين فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي شرك في زعمنا فتقول الملائكة بَلى كنتم تعملون أعظم الشرك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) من الشرك فلا فائدة لكم في إنكاركم فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ليدخل كل صنف من الكفرة في طبقة هو موعود بها. والمراد دخولهم فيها في وقته فإن ذلك تخويف عظيم وإن تراخى المخوف به لا دخول القبر الذي هو حفرة من حفر النيران خالِدِينَ فِيها أي دركات جهنم لا يخرجون منها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي خافوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا. قال المفسرون: كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب. فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه. فيقولون خيرا. أي أنزل خيرا والذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا: لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي ثناء ورفعة وتعظيم، وهذه الجملة بدل من قوله: خيرا أو تفسيرا له وذلك أن الخير هو الوحي الذي أنزل الله تعالى فيه قوله من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة وقوله تعالى: «في هذه الدنيا» متعلق بقوله: «حسنة» . وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مما حصل لهم في الدنيا، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) والمخصوص بالمدح إما محذوف تقديره دار الآخرة أو هي دار الدنيا، لأن المتقين يتزودون فيها للآخرة وأما قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ وهذه تدل على القصور والبساتين وعلى الدوام

يَدْخُلُونَها يوم القيامة صفة لجنات أو حال تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي أنهار الخمر والماء والعسل واللبن وهذه تدل على أن هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات والمتمنيات وهذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) أي كل من يتقى من الشرك والمعاصي الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضتهم طَيِّبِينَ أي طاهرين من الكفر مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت يَقُولُونَ أي الملائكة عند الموت وهذه حال من الملائكة وطيبين حال من المفعول سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي لا يلحقكم مكروه. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي جنات عدن وهي خاصة لكم كأنكم فيها، والمراد دخولهم فيها في وقته فإن ذلك بشارة عظيمة، وإن تراخى المبشر به لا دخول القبر الذي هو روضة من رياض الجنة فإن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة هلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر الكفار الذين طعنوا في القرآن وأنكروا النبوة إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم بالتهديد أوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذاب ربك في الدنيا بهلاكهم كذلِكَ أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والتكذيب والاستهزاء فعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأصابهم العذاب المعجل وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بذلك فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) بأن كذبوا الرسل فاستحقوا ما نزل بهم فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي عقاب سيئات أعمالهم وَحاقَ أي وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) أي عقاب استهزائهم من جوانبهم وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي من أهل مكة للرسول صلّى الله عليه وسلّم تكذيبا له وطعنا في الرسالة لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم عبادتنا لشيء غيره ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نقتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي وإشراكنا بالله الأوثان، وتحريمنا الأنعام، والحرث بمشيئته تعالى فهو راض بذلك، وحينئذ فلا فائدة في مجيئك إلينا بالأمر والنهي وفي إرسالك كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نهوهم عن الخطأ، وهدوهم إلى الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) أي ليست وظيفة الرسل إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا فهو واجب عليهم، وأما حصول الإيمان فلا يتعلق بالرسول وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم السالفة رَسُولًا خاصا بهم كما بعثناك إلى قومك أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله، أو اجتنبوا طاعة الشيطان

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 50]

في دعائه لكم إلى الضلالة فَمِنْهُمْ أي من تلك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق الذي هو عبادته وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ أي ثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يجب الرسول إلى الإيمان فضل عن الحق وعمي عن الصدق، ووقع في الكفر فَسِيرُوا يا معشر كفار قريش فِي الْأَرْضِ أي فإن كنتم في شك من أخبار الرسل فسيروا في الأرض فَانْظُرُوا في أكنافها واعتبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) بالرسل من عاد وثمود وأمثالهم لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ أي إن تطلب يا سيد الرسل توحيد كفار قريش بجهدك فلا تقدر على ذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي لأنه تعالى لا يخلق الهداية قسرا فيمن يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره. وقرئ «لا يهدي» بالبناء للمفعول وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) أي وليس لهم أحد يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة من دفع العذاب عنهم وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي حلف الذين أشركوا غاية إيمانهم وإذا حلف الرجل بالله فقد حلف جهد يمينه فإن الكفار كانوا يحلفون بآبائهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيما حلفوا بالله وهذا عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إعلاما بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فإنهم يجدون في عقولهم أن الشيء إذا صار عدما محضا لا يعود بعينه، بل العائد يكون شيئا آخر ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد بقوله بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي بلى يبعثهم الله بالبعث وعدا حقا لا خلف فيه ثابتا على الله فينجزه لامتناع الخلف في وعده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (38) أنهم يبعثون لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناع البعث ولجهلهم بشئون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي بلى يبعثهم ليبين لمن يموت الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور البعث وغيرها من أمور الدين فيثيب المحق من المؤمنين ويعذب المبطل من الكافرين وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله بالإشراك وإنكار البعث والنبوة يوم القيامة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) فيما أقسموا فيه وفي كل ما يقولون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ أي شيء كان إِذا أَرَدْناهُ أي وقت إرادتنا لوجوده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ أي أحدث وهو خبر المبتدأ فَيَكُونُ (40) أي فيحدث عقب ذلك من غير توقف، وهذا تمثيل لنفي الكلام والتعب فليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور بل هو تمثيل لسهولة حصول المقدورات عند تعلق إرادته تعالى بها، وتصوير لسرعة حدوثها، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم، ولو أراد الله خلق الدنيا وما فيها في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق إرادتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون وَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة فِي اللَّهِ أي لإظهار دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي أرضا كريمة آمنة وهي المدينة وهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة وعلى هذا يكون نزول الآية في أصحاب الهجرتين فيكون نزولها في المدينة بين الهجرتين.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال، وعمار، وخباب، وعابس وجبير أخذهم المشركون بمكة يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر فأما بلال فيخرجونه إلى بطحاء مكة في شدة الحر ويشدونه ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول: أحد أحد، فاشتراه منهم أبو بكر وأعتقه، وأما صهيب فقال: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم، فافتدى منهم وهاجر، وأما سائرهم فقد قالوا: بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم فلذلك غلبوا على أهل مكة وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكبر وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي وللأجر الكائن في الآخرة وهو النعيم الكائن في الجنة أعظم من الأجر الكائن في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) أي لو علم الكفار أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين الَّذِينَ صَبَرُوا على أذية الكفار ومفارقة الأهل والوطن وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) أي إليه خاصة يفوّضون الأمر كله معرضين عما سواه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل إلى الأمم من طوائف البشر إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بواسطة الملائكة وهذا رد لقريش حين قالوا: الله أعلى وأعظم من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لبعث ملكا. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل العلم بأخبار الماضين فإذا سألوهم فلا بد أن يجيبوا بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة من قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) أن الرسل من البشر بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالمعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وبالتكاليف التي يبلغونها من الله تعالى إلى العباد، أو متعلق بيوحى، أي يوحى إليهم بالحجج الواضحة وبالكتب، أو متعلق بذلك، أي فاسألوا أهل العلم بالحجج وبالكتب القديمة من التوراة والإنجيل، أو متعلق بلا تعلمون أي إن كنتم لا تعلمون الله لم يرسل الرسل إلا إنسيا بالعلامات وبخبر كتب الأولين فاسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق، واسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن سمي ذكرا، لأن فيه تنبيها للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال الأمم المهلكة بأفانين العذاب على حسب أعمالهم الموجبة لذلك وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) فيما نزل إليهم فيتنبهوا لما فيه من العبر، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي سعوا من أهل مكة ومن حول المدينة في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على سبيل الخفية أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون

[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 60]

وأصحابه أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أي في حال غفلتهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعقوبة فِي تَقَلُّبِهِمْ أي في أسفارهم وحركتهم إقبالا وإدبارا فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أي وهم لا يعجزون الله بسبب سفرهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي على أن ينقص شيئا بعد شيء في أموالهم وأنفسهم حتى يهلكوا، أو على مخافة من العذاب بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ أي ألم ينظر أهل مكة ولم يروا بأبصارهم إلى جسم قائم له ظل من جبل وشجر وبناء يرجع ظلاله من المشرق ومن المغرب واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد وَهُمْ داخِرُونَ (48) أي منقادون لقدرة الله تعالى وتدبيره ولما وصفت الظلال بالانقياد لأمره تعالى أشبهت العقلاء، فعبر عنها بلفظ «من يعقل» . وقرأ حمزة والكسائي «تروا» بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو عمرو وحده «تتفيؤا» بالتاء. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ عطف على «ما في السموات» . ولما بيّن الله تعالى أولا أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى. بيّن بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى فأخسها الدواب وأشرفها الملائكة. وذلك دليل على أن كل المخلوقات منقادة لله تعالى. وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) عن عبادته تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وهذه الجملة بيان لقوله: «لا يستكبرون» أو حال من ضميره، أي خائفين لمالك أمرهم خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) به من الطاعات والتدبيرات فبواطنهم وظواهرهم مبرأة من الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة وَقالَ اللَّهُ لجميع المكلفين: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي لا تعبدوا الله والأصنام ولما بين الله تعالى أولا أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح، أو من عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك. والمقصود من التكرير تأكيد التنفير عن الإشراك بالله، وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله وقد ثبت أن وجود الإلهين محال ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني لا غير فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السموات والأرض ولما كان الإله واحدا والواجب لذاته واحدا كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وإيجاده فثبت أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ووجب أن يكون جميع المخلوقات في ملكه وتصرفه وتحت قهره. وذلك قوله تعالى: وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي لله تعالى الطاعة دائما فليس من أحد يطاع إلا انقطعت تلك الطاعة بالموت أو بسبب في حال الحياة إلا الله تعالى فإن طاعته واجبة

أبدا، وفي الآية دقيقة أخرى فمعنى قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن كل ما سوى الله محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود ومن الوجود إلى العدم إلى مخصص، ومعنى قوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أن هذا الاحتياج إلى المرجح حاصل دائما أبدا، لأن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح، لأن علة الحاجة هي الإمكان وهو من لوازم الماهية فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، وفي وقت دوامه فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله تعالى وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أيّ شيء يصاحبكم من نعمة أية نعمة كانت فهي من الله فيجب على العاقل أن لا يخاف إلا الله وأن لا يشكر إلا الله ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ كالأسقام فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة في كشفه لا إلى غيره ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ أي إذا فريق كافر وهم أنتم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) غيره وهذا ضلال كامل لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ أي إن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا كفران نعمة إزالة المكروه عنهم. وقيل: إن هذه «اللام» لام الأمر الوارد للتهديد، كقوله تعالى: فَتَمَتَّعُوا أي عيشوا في الكفر فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب وَيَجْعَلُونَ أي المشركون لِما لا يَعْلَمُونَ أي للأصنام التي لا يعلم المشركون أنها تضر من حيث عبادتها ولا تنفع نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة سؤال توبيخ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) أي تكذبون على الله من أنه أمركم بذلك الجعل وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ أي يقول خزاعة وكنانة الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ نزه الله ذاته عن نسبة الولد إليه وأمر الله تعالى الخلق بالتعجب من جراءتهم على وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) ويجعلون لأنفسهم ما يختارون من البنين وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي والحال أنه إذا أخبر بولادة الأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا أي صار وجهه متغيرا تغير معتم من الحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ (58) أي ممتلئ غما وحزنا وغيظا من زوجته فكيف ينسب البنات إليه تعالى! وجملة «وإذا بشر» حال من الواو في «ويجعلون» . يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يختفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أي من أجل كراهية الأنثى التي أخبر بها من حيث كونها لا تكتسب، وكونها يخاف عليها الزنا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته اختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكرا فرح به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها ماذا يصنع بها، وذلك قوله تعالى: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي أيحفظ ما بشر به من الأنثى مع رضاه بذل نفسه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي أم يخفيه في التراب بالوأد فالعرب كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها وهم

[سورة النحل (16) : الآيات 61 إلى 70]

كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية وتارة خوفا من الفقر ولزوم النفقة أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) حكمهم هذا حيث يجعلون له تعالى ما عادته عندهم حقارة. والحال أنهم يتباعدون عنه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت مَثَلُ السَّوْءِ أي الصفة القبيحة وهي احتياجهم إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وللاستعلاء به وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار مع احتياجهم إليهن للنكاح وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة المقدسة وهي صفة الألوهية المنزهة عن صفات المخلوقين وعن الولد وَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنفرد بكمال القدرة الْحَكِيمُ (60) أي الذي يفعل ما يفعل بالحكمة البالغة وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها أي الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لا يبقى لهم نسل فيلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس فحينئذ لا يبقى في الأرض أحد من الدواب أيضا، لأنها مخلوقة لمنافع البشر وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي معين عند الله تعالى لأعمارهم ليتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل ساعَةً أي فذة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وإنما ذكر الاستقدام مع أنه لا يتصور عند مجيء الأجل مبالغة في بيان عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي وينسبون إليه تعالى البنات التي يكرهونها لأنفسهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بدل من الكذب أي يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب إثبات البنات له تعالى وبأنهم على الدين الحق لا جَرَمَ أي ثبت أَنَّ لَهُمُ النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) أي متروكون في النار. وقرأ نافع وقتيبة عن الكسائي بكسر الراء أي مفرطين على أنفسهم في الذنوب تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فرأوها حسنة فكذبوا الرسل فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي فالشيطان متول أمورهم في الدنيا بإغوائهم وقرينهم في النار وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (63) هو عذاب النار وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلا لتبين للناس بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها من التوحيد والشرك والجبر والقدر وأحوال المعاد والأحكام كتحريم الميتة وتحليل نحو البحيرة وَهُدىً وَرَحْمَةً أي وللهداية من الضلالة وللرحمة من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) بالقرآن لأنهم المغتنمون آثاره وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي والله خلق السماء على وجه ينزل منه الماء، ويصير ذلك الماء سببا لنبات الزرع والشجر ولخروج النور والثمر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإحياء الأرض اليابسة لَآيَةً دالة على وحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) هذه المواعظ سماع تفكر، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً عظيمة إذا تفكرتم فيها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي الأنعام. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «نسقيكم» بضم النون.

والباقون بالفتح. مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ أي روث في الكرش وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً أي لا يخالطه الفرث ولا الدم وقوله: «لبنا» مفعول ثان. وقوله: «من بين» حال من «ما» التي للتبعيض، أو للابتداء، أو من لبنا. وعن ابن عباس أنه قال: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه دما، وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) أي جاريا في حلوقهم لذيذا فلا يغص أحد باللبن وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ أي ونسقيكم من عصير ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً أي خمرا وَرِزْقاً حَسَناً كالدبس والخل، والتمر والزبيب والله تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب بها المشركين والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم، ثم نبه في هذه الآية على تحريمها، لأنه ميّز بينهما وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا تكون الخمر رزقا حسنا والخمر يكون حسنا بحسب الشهوة ولا يكون حسنا بحسب الشريعة، وهذه الآية جامعة بين العتاب والمنة، وهذا إذا كانت الخمر محرمة قبل نزولها وإن كانت سابقة النزول على تحريم الخمر فهي دالة على كراهتها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إخراج اللبن من بين الروث والدم وفي إخراج الخمر والرزق الحسن من الثمرات لَآيَةً دالة على قدرته تعالى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) أي يستعملون عقولهم بالتأمل في الآيات فيعلمون أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألهم ربك النحل: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أي أوكارا وَمِنَ الشَّجَرِ أي مما يوافق مصالحك ويليق بك وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) أي مما يرفعه الناس ويبنونه لك، أي إن الله قدّر في أنفس النحل الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال لكان فيها فرج خالية ضائعة. فإلهام ذلك الحيوان الضعيف بهذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات مثل المسطر والفرجار. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل ثمرة تشتهيها مرها وحلوها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي فإذا أكلتها فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ذُلُلًا حال من السبل أي مسخرة لك أو من الضمير في «اسلكي» ، أي فاسلكي منقادة لما أمرت به، ولذا يقسم يعسوبها أعمالها بينها فبعض يعمل الشمع وبعض يعمل العسل وبعض يستقي الماء ويصبه في البيت، وبعض يبني البيوت. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ أي عسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ من أبيض وأسود، وأصفر وأحمر على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار، أو بحسب اختلاف الفصل أو سن النحل فيستحيل المأكول في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب فِيهِ أي في ذلك الشراب شِفاءٌ لِلنَّاسِ من الأوجاع لا سيما البلغمية فإنه فيها عظيم النفع. وعن ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين

[سورة النحل (16) : الآيات 71 إلى 80]

العسل والقرآن. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة وفي اهتدائها إلى جمع الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق لَآيَةً أي لعبرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) فإن من تفكّر في شؤون النحل جزم قطعا بأن لها خالقا قادرا حكيما يلهمها ذلك وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ فإن خالق الأبدان هو الله تعالى ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ أي يقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم فإن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله تعالى وبتقديره وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أحقره وهو الهرم. قال العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب: أولها: سن النشوء وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سن الشباب. وثانيها: سن الوقوف وهي من ذلك إلى أربعين سنة وهو غاية القوة وكمال العقل. وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة وهو من ذلك إلى ستين سنة. ورابعها: سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة وهو من ذلك إلى خمسة وستين سنة وفيه يتبين النقص والهرم. قال علي بن أبي طالب: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة . وقال قتادة: تسعون سنة. وقال السدي: إنه الخرف أي زوال العقل. وقيل: والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان العقل وسوء الفهم وفي النسيان إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعمالكم قَدِيرٌ (70) على تحويلكم من حال إلى حال وكان الإنسان ميتا حين كان نطفة، ثم صار حيا، ثم مات فلما كان الموت الأول جائزا كان عود الموت جائزا فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرة الثانية، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن القول بالبعث والنشر والحشر حق. وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي فاوت بينكم في الرزق كما فاوت بينكم في الذكاء، والبلادة، والحسن، والقبح، والصحة، والسقم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فليس الذين فضلوا في الرزق على غيرهم بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية والمرزوقية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون سواء فكيف جعلتم عبدي عيسى ابنا لي وشريكا بي في الإلهية أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) فإن من أثبت لله شريكا فقد أسند إليه بعض الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى، وأيضا إن أهل الطبائع وأهل

النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «تجحدون» بالتاء على الخطاب وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي زوجات لتأنسوا بها وتقيموا بها مصالحكم. قال الأطباء: والتفاوت بين الذكر والأنثى إن الذكر أسخن مزاجا، والأنثى أكثر رطوبة، فالمني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة. وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاما في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث، وإن انصب إلى الخصية اليسرى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد أنثى في طبيعة الذكور وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي من نسائكم بَنِينَ وَحَفَدَةً أي خدما يسرعون في طاعتكم وهم إما أولاد الأولاد وإما البنات فإنهن يخدمن البيوت أتم خدمة وإما الأختان على البنات أي فيحصل لهم الأختان بسبب البنات وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي بعض اللذائذ من النبات والحيوان فالمرزوق في الدنيا أنموذج لما في الآخرة وكل الطيبات في الجنة أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي أيكفرون بالله الذي شأنه ذلك المذكور ويؤمنون بالباطل بأن يحرموا على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة، ويبيحوا لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب أي لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) أي وبأنعام الله في تحليل الطيبات وتحريم الخبيثات يجحدون وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي أيعبدون الأصنام التي لا تملك لعبدتهم رزقا من المطر والنبات لا قليلا ولا كثير، فشيئا بدل من رزقا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) أي وليس للأصنام استطاعة تحصيل الملك وهذا معطوف على ما لا يملك وعبر عن الأصنام بلفظ ما اعتبارا للحقيقة، وبلفظ جمع العقلاء اعتبارا لاعتقادهم فيها أنها آلهة فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تشبهوا الله تعالى بخلقه في شأن من الشؤون فإن عبدة الأوثان كانوا يقولون: إن إله العالم أعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو هذه الأصنام، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر خدم الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا هاهنا فعند هذا قال الله تعالى لهم: اتركوا عبادة هذه الأصنام والكواكب ولا تجعلوا لله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله القدير الحكيم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أن خطأ قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك، لأن هذا الدليل قياس، والقياس يجب تركه عند ورود النص وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ذلك فتقعون في مهاوي الضلال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بالعبد والحر عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرفات وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أي

مستحسنا عند الناس مرضيا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر والجهر هَلْ يَسْتَوُونَ أي هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله تعالى، وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام. والمعنى لو فرضنا عبدا مملوكا لا يقدر على التصرف، وحرا غنيا كريما كثير الإنفاق في كل وقت، فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال فلما لم تجز التسوية بينهما مع استوائهما في الصورة البشرية، فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق وبين الأصنام التي لا تقدر ألبتة. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كل الحمد له تعالى لأنه معطي جميع النعم لا يستحقه أحد غيره فضلا عن استحقاق العبادة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) إن كل الحمد لله وحده فيسندون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها، وبعض الكفار يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون سبب الحمد عنادا كقوله تعالى: يعرفون نعمة الله، ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي الذي لا يحسن الكلام ولا يعقل لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ للعجز التام وللنقصان الكامل وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي هذا الأبكم ثقيل على من يعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي أينما يرسله من يلي أمره في وجه معين لا يأت بمطلوب لأنه عاجز لا يحسن شيئا ولا يفهم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي من هو منطيق فهم ينفع الناس بحثهم على العدل وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) أي وهو عادل مبرأ عن العبث وإذا ثبت في بديهة العقل أن الأبكم العاجز لا يساوي الناطق القادر الكامل في الفضل والشرف مع استوائهما في البشرية، فلأن نحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أولى. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ولله تعالى خاصة الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين قاطبة، فإن علمه تعالى حضوري وتحقق الغيب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى. وهذا بيان كمال العلم. وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي وما أمر إقامة الساعة وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، وتبديل صور الأكوان أجمعين إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في سهولته! أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي بل أمر إقامة الساعة أقرب من طرف العين في السرعة بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة فالله تعالى يحيي الخلق دفعة، وهي في جزء غير منقسم، وهذا بيان كمال القدرة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) فإن الله تعالى متى أراد شيئا إيجاده أو إعدامه حصل في أسرع ما كان وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً أي غير عارفين شيئا أصلا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها المعرفة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أي لكي تستعملوها في شكر ما أنعم الله به عليكم طورا غبّ

[سورة النحل (16) : الآيات 81 إلى 90]

طور فتسمعوا مواعظ الله وتبصروا دلائل الله وتعقلوا عظمة الله أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ أي ألم ينظر كفار مكة بأبصارهم إليها. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تروا» بالتاء على خطاب العامة مُسَخَّراتٍ أي مذللات للطيران فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض. قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلا، ولا ترتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته الواسعة فإن جسد الطير ثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فبقاؤه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. إِنَّ فِي ذلِكَ- أي تسخير الطير للطيران بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك فإذا بسطت أجنحتها وأذنابها تخرق ما بين يديها من الهواء- لَآياتٍ أي لعلامات لوحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) أي يصدقون أن إمساكهن من الله تعالى فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره مرة أخرى، وخلق الهواء خلقة رقيقة يسهل الطيران بسبب خرقه، ولولا ذلك لما أمكن الطيران وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تبنونها سَكَناً أي موضعا تسكنون فيه وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً مغايرة لبيوتكم المعهودة هي الخيام تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة عليكم في حملها ونقلها ونقضها في أسفاركم، يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي وقت سيركم في أسفاركم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وبفتح العين. وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي وقت نزولكم في الضرب وَمِنْ أَصْوافِها أي الأنعام وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية وَمَتاعاً أي ما ينتفع به في البيت خاصة ويتزين به إِلى حِينٍ (80) أي إلى وقت البلاء وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع من جهتكم ظِلالًا أي ما يستظلون به من شدة الحر وهي ظلال الجدران والأشجار والجبال والغمام. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً أي مواضع تستكنون فيها من شدة البرد والحر من الكهوف والغيران والسروب وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ أي ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ في الصيف والبرد في الشتاء ولم يذكر الله تعالى وقاية البرد لتقدمه في قوله تعالى فيها دفء وَسَرابِيلَ أي جواشن تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي الشدة التي تصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الطعن والضرب والرمي كَذلِكَ أي مثل ما خلق الله هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ في الدنيا عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ (81) أي تؤمنون به تعالى وتنقادون لأمره. وقرئ «تسلمون» بفتح التاء واللام، أي لكي تسلموا من الجراحات أو من الشرك فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام وآثروا متابعة الآباء فلا نقص من جهتك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) أي لأن وظيفتك هي البلاغ الواضح فقد فعلته يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي يقرون أن هذه النعم كلها من الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي لا يشكرونها بالتوحيد لأنهم قالوا: إنما

حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) أي المنكرون بقلوبهم غير مقرين بأن هذه النعم من الله وَيَوْمَ نَبْعَثُ أي وخوفهم يوم نأتي مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان وعليهم بالكفر وهو نبيها، ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وفي كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) أي لا يكلفون أن يرضوا ربهم بالعبادات فلا يقال لهم: ارضوا ربكم بالتوبة لأن الآخرة ليست بدار عمل وإنما هي دار الجزاء وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر الْعَذابَ أي عذاب جهنم بعد شهادة الشهداء فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ذلك العذاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) أي يمهلون فعذابهم يكون دائما لأن التوبة هناك غير موجودة وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي إذا أبصروا يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ أي الأصنام التي يسمونها شركاء الله تعالى قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا أي آلهتنا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا أي نعبدهم مِنْ دُونِكَ أي هؤلاء الذين كنا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) أي فبادر شركاؤهم بالجواب إلى المشركين بقولهم: إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة وإنكم عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم. والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي أسرع المشركون إلى الله يومئذ الانقياد لحكم الله فأقروا بالبراءة عن الشركاء وبربوبية الله بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه لما عجزوا عن الجواب لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم لانقطاع التكليف فيه وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) أي ذهب عنهم افتراؤهم على الله من أن لله شريكا وبطل أملهم من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا الناس عن الدخول في الإسلام وحملوهم على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ أي بحيات وعقارب، وجوع وعطش، وزمهرير وغير ذلك فيخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) بذلك الصد وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أعضاؤهم. فالله تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه وهي العينان والأذنان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان وَجِئْنا بِكَ يا سيد الرسل شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي الأمم كلهم وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين ينص فيه على بعضها وبإحالته لبعضها على السنّة أو على الإجماع، أو على القياس فكانت السنّة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب وَهُدىً وَرَحْمَةً للعالمين فإن حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم لا من جهة الكتاب وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) خاصة لأنهم المنتفعون بذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي بالتوسط في الأمور وهو رأس الفضائل كلها فيندرج تحته فضيلة القوة العقلية، فالحكمة

متوسطة بين الحرمزة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية، فالعفة متوسطة بين الخلاعة والخمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية فالشجاعة متوسطة بين التهور والجبن ويندرج فيه أيضا الحكم الاعتقادية، فالتوحيد متوسط بين التعطيل والتشريك، فنفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك. والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول: لا إله إلا الله، والقول بالكسب متوسط بين الجبر والقدر فإن القول: بأن العبد ليس له قدرة واختيار جبر محض. والقول: بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض. والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه، والقول: بأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول: بأنه تعالى يخلد في النار عبده الآتي بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل هو القول بأنه تعالى يخرج من النار كل من اعتقد أنه لا إله إلا الله ويندرج تحته أيضا الحكم العملية، فالتعبد بأداء الواجبات متوسط بين البطالة والترهب. والختان: مأمور به في شريعتنا، فإن إبقاء الجلدة مبالغة في تقوية اللذة والإخصاء وقطع الآلات كما عليه المانوية إفراط، فكانت الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال، لئلا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ويندرج تحته أيضا الحكم الخلقية، فالجود متوسط بين البخل والتبذير وشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسط بين التشديد والتساهل قال الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور. ولما بالغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العبادات قال تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 1] ولما أخذ قوم في المساهلة قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] والمطلوب رعاية العدل بين طرفي الإفراط والتفريط وَالْإِحْسانِ أي المبالغة في أداء الطاعات إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، وإما بحسب الكيفية كالاستغراق في شهود مقامات الربوبية. والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب والإحسان عبارة عن الزيادة في ذلك وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم» «1» وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي المعاصي كلها وَالْمُنْكَرِ وهو ما لا يعرف في شريعة وَالْبَغْيِ أي الاستعلاء على الناس والترفع. والحاصل أن الفحشاء هي الإفراط في متابعة القوة الشهوية، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأن المنكر هو الإفراط في إظهار آثار القوة الغضبية

_ (1) رواه ابن حبان في المجروحين (3: 149) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات (253) .

[سورة النحل (16) : الآيات 91 إلى 100]

السبعية فهي إنما تسعى في الإيذاء إلى سائر الناس وإيصال البلاء إليهم، فالناس ينكرون تلك الحالة، وأن البغي من آثار القوة الوهمية الشيطانية، فهي إنما تسعى في التطاول على الناس والترفع عليهم وإظهار الرياسة والتقدم يَعِظُكُمْ أي يأمركم بتلك الثلاثة وينهاكم عن هذه الثلاثة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) أي لإرادة أن تتذكروا طاعته تعالى وهذا يدل على أن الله تعالى يطلب الإيمان من الكل. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وهو العهد الذي يلتزمه الإنسان باختياره فيدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله وعهد الجهاد وعهد الوفاء بالمنذورات والأشياء المؤكدة باليمين. وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها بالقصد ففرق بين اليمين المؤكد بالعزم وبين لغو اليمين وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا، فإن من حلف بالله قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف، وهذه واو الحال أي لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهد علينا بالوفاء إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) من النقض والوفاء فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفي هذا ترغيب وترهيب وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد قوة العزل بفتلها وإبرامها أَنْكاثاً أي أنقاضا وهو مفعول ثان لنقضت بمعنى جعلت أو حال من عزلها مؤكدة لعاملها أي منكوثا. قيل: المشبه به معين وهي امرأة في مكة اسمها: رائطة بنت سعد بن تيم. وقيل: تلقب بجعرانة، وكانت حمقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وسنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل الصوف والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا أي مكرا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ وهو استفهام بمعنى الإنكار. والمعنى أتصيرون أيمانكم غشا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى؟ قال مجاهد: كان قريش يحالفون الحلفاء ثم إذا وجدوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم مع الحلفاء وعاهدوا أعداء حلفائهم إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي يعاملكم بالأكثر معاملة من يختبركم لينظر أتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله أم تغترون بكثرة قوم وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) في الدنيا أي حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم لقضية حكمة يعلمها الله ولذلك يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وروى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزيز أعرض عن هذا. فأعاده ثانيا، فقال: أعرض عن هذا. فأعاده ثالثا فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) في

الدنيا وهذا إشارة إلى الكسب الذي عليه يدور أمر الهداية والضلال وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا أي خديعة بَيْنَكُمْ أي لا تنقضوا عهدكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الإيمان به وبشرائعه فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها على الطريق الحق بالإيمان أي فتزلوا عن طاعة الله فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في الضلالة وَتَذُوقُوا السُّوءَ أي العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي بامتناعكم عن دين الله وبصرفكم الناس عنه بأيمانكم التي أردتم بها خفاء الحق وَلَكُمْ مع ذلك في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ (94) أي غير منفك إذا متم على ذلك وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ أي لا تأخذوا بمقابلة بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثَمَناً قَلِيلًا أي عرض الدنيا وكانت قريش يعدون ضعفة المسلمين على الارتداد بحطام الدنيا، أي إنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا لا تلتفوا إليه وإن كان كثيرا، لأن الذي أعده الله تعالى على الاستمرار على الإسلام أفضل مما تجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الدارين الغنيمة والثواب الأخروي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما يعدونه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) تفاوت ما بين العوضين ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وإن جمّ عدده وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له. وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على مشاق التزام شرائع الإسلام أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) أي بحسب أحسن أفراد أعمالهم. والمعنى لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل وفي هذا من العدة الجميلة باغتفار ما قد يطرأ عليهم في أثناء الصبر من بعض جزع وينظمه في سلك الصبر الجميل. وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزينهم» بنون العظمة على طريقة الالتفات. والباقون بالياء من غير التفات «واللام» لام قسم أي والله ليجزين الله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا فيعيش عيشا طيبا فالموسر ظاهر، والمعسر يطيب عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم، فإن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فيصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) أي بجزاء أحسن من أعمالهم فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) أي فإذا أردت قراءة القرآن فاسأل الله أن يعصمك من وساوس الشيطان المطرود من رحمة الله لئلا يوسوسك في القراءة، أي فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا الأمر للندب عند الجمهور وللوجوب عند عطاء وحيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة عند قراءة القرآن فما ظنكم بمن عداه صلّى الله عليه وسلّم فيمن عدا القراءة من الأعمال! إِنَّهُ أي الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي تسلط عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)

[سورة النحل (16) : الآيات 101 إلى 110]

أي وإلى ربهم يفوضون أمورهم وبه يعوذون في كل ما يأتون ويذرون فإن وسوسته لا تؤثر فيهم ودعوته غير مستجابة عندهم إِنَّما سُلْطانُهُ أي ولايته بدعوته عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يطيعونه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بربهم مُشْرِكُونَ (100) أي والذين هم بسبب حمل الشيطان إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من التغليظ والتخفيف في مصالح العباد وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد فالمصالح تدور. وهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله إلى الافتراء في التبديل وللتنبيه على فساد رأيهم. قالُوا أي الكفار من أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي مختلق من تلقاء نفسك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) إن الله لا يأمر عباده إلا بما يصلح لهم وإن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن رُوحُ الْقُدُسِ أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وهو جبريل مِنْ رَبِّكَ يا أكرم الخلق بِالْحَقِّ أي بالموافق للحكمة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأن القرآن كلام الله فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وهذان معطوفان على «ليثبت» ، فهما منصوبان باعتبار محله، ومجروران باعتبار المصدر المؤول. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أي كفار مكة يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أي إنما يعلم محمدا القرآن بشر لا جبريل كما يدّعى. قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا أحدهما يقال له: يسار، والآخر جبر وكانا يصنعان السيف بمكة ويقرءان التوراة والإنجيل وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمر عليهما ويسمع ما يقرءانه فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) أي كلام الذي ينسبون إليه عبراني لم يتكلم بالعربية ولم يأت بفصيح الكلام وهذا القرآن كلام عربي ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلم محمدا وهو جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم عنه وأنتم أهل الفصاحة! فكيف يقدر من هو أعجمي على مثل هذا القرآن وأين فصاحة هذا القرآن من عجمه هذا الذي تشيرون إليه؟! فثبت بهذا الدليل أن القرآن وحي أوحاه الله إلى محمد وليس هو من تعليم الذي تشيرون إليه، ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو

وحي من الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي لا يصدقون أنها من عند الله بل يسمونها افتراء أو معلمة من البشر لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى طريق الجنة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (104) أي بل يسوقهم إلى النار إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي إن المفتري هو الذي يكذب بآيات الله ويقول: إنها افتراء ومعلمة من البشر وهذا رد لقولهم: إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) أي الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آيات الله تعالى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ أي من تلفظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى فعليه غضب من الله. «فمن» موصولة مبتدأ وخبره محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على التلفظ بالكفر فتلفظ به بأمر لا طاقة له به كالتخويف بالقتل وكالضرب الشديد، وكالإيلامات القوية مما يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أي والحال أن قلبه لم تتغير عقيدته وهذا دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي ولكن من اعتقد الكفر وانشرح به قلبا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) . روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في فرجها، فماتت وقتل ياسر. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» «1» . فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينه. وقال مالك: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت فنزلت هذه الآية ذلِكَ أي الكفر بعد الإيمان، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي بسبب أنهم رجّحوا الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أي وبأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فأبت عن التأمل في الحق وإدراكه وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) عمّا يراد بهم في الآخرة من العذاب، فلا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر عواقب الأمور لا جَرَمَ أي حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) حيث صرفوا أعمارهم فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة أي ناصرهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا. نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة أو من أمه وفي أبي

_ (1) رواه أبي نعيم في حلية الأولياء (1: 139) ، وابن حجر في فتح الباري (7: 92) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (33540) ، والواحدي في أسباب النزول (190) .

[سورة النحل (16) : الآيات 111 إلى 120]

جندل بن سهل والوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعبد الله بن أسد الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا. وقرأ ابن عامر «فتنوا» بالبناء للفاعل، أي عذبوا المؤمنين، كعامر بن الحضرمي أكره مولاه جبرا الرومي حتى ارتد ثم أسلما وحسن إسلامهما وهاجروا ثُمَّ جاهَدُوا في سبيل الله وَصَبَرُوا على الطاعة والمرازي. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد. هذه الأعمال الثلاثة لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ (110) فينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لا يكره فلا إثم له في ذلك. وإن كانت واردة فيمن ارتد، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يحصلان له الغفران والرحمة ويزيلان العتاب. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فالظرف منصوب برحيم أو بمحذوف أي ذكرهم يوم يأتي كل إنسان يعتذر عن ذاته ويسعى في خلاصه من العذاب كقولهم: هؤلاء أضلونا السبيلا. وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، ونحو ذلك من الاعتذارات. وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، فضعف عليه العذاب. فيقول الجسد: يا رب أنت خلقتني كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي، فيضرب الله لهما مثلا: أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يتناوله فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر فعلى من يكون العذاب؟! قالا: عليهما، قال الله تعالى: عليكما جميعا العذاب وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت كاملا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) بالعقاب بغير ذنب، وبالزيادة في العقاب على الذنوب. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل الله مثلا أهل قرية مكة كانَتْ آمِنَةً أي كان أهلها ذوي أمن فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف من العدو، مُطْمَئِنَّةً أي كان أهلها صحاحا، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه فلا يحتاجون إلى الانتقال منه بسبب الأمراض يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتي أهل تلك القرية أقوات واسعة من نواحيها من بر وبحر فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق. قالت العقلاء من بحر الرجز: ثلاثة ليس لها نهاية ... الأمن والصحة والكفاية فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ أي كفر أهلها بنعمه تعالى وهي: نعمة الأمن والصحة والرزق الواسع، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ أي أذاق الله أهلها ضرر الجوع والخوف من حرب

محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فإن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع والخوف نوعان: أحدهما: أنه لما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والخوف فأشبها الطعام. وثانيهما: أن أثر الجوع والخوف لما اشتد صار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، وقد ظهر أثرهما عليهم من الهزال وصفرة اللون، ونهكة البدن، وسوء الحال، وكسوف البال. ويشبه أيضا أثر الخوف باللباس في الإحاطة واللزوم، وأثر الجوع بالطعام المر البشع في الكراهة. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وإخراجه من مكة والهمّ بقتله. فالله تعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز وهو وبر يخلط بالدم والقد وهو جلد الماعز الصغير حتى كان ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وأما خوفهم فهو لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم، ثم إن رؤساء مكة أرسلوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب في جماعة فقدموا المدينة عليه، وقال له أبو سفيان: يا محمد إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون. وهذه الآية نزلت في المدينة، لأن الله تعالى وصف القرية بصفات ست كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم مثل ما أصابهم من الجوع والخوف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث السرايا إلى حول مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة. وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي جاء أهل تلك القرية وهي مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة، وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون فَكَذَّبُوهُ في رسالته فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ بالجوع الذي كان بمكة وَهُمْ ظالِمُونَ (113) أي والحال أنهم كافرون بتكذيب رسول الله فَكُلُوا يا معشر المسلمين مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الغنائم حَلالًا طَيِّباً أي إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب، وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث، وهي الميتة والدم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) أي تطيعون إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فهذه الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع: فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) أي فمن دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غير ظالم على مضطر آخر ولا متجاوز

[سورة النحل (16) : الآيات 121 إلى 128]

قدر الضرورة وسد الرمق، فالله لا يؤاخذه بذلك وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل ذكر ألسنتكم الكذب ولتعودها به لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهذا بدل من التعليل الأول أي إنهم كانوا ينسبون ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى ويقولون: إن الله أمرنا بذلك. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ (116) أي لا يفوزون بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم في أفعال الجاهلية منفعة قليلة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا أشرف المرسلين مِنْ قَبْلُ أي من قبل تحريمنا على أهل ملتك ما عدا ذلك من المحرمات وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) حيث فعلوا ما يؤدي إلى ذلك التحريم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي الكفر والمعاصي بِجَهالَةٍ أي بسبب جهالة، لأن أحدا لا يختار الكفر ما لم يعتقد كونه حقا، ولا يفعل المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل فكل من عمل السوء يكون بسبب الجهالة. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي عمل السوء وَأَصْلَحُوا بأن آمنوا وأطاعوا الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (119) يثيب على طاعتهم تركا وفعلا أي لما بالغ الله في تهديد المشركين على أنواع قبائحهم من إنكار البعث والنبوة وكون القرآن من عند الله، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه بين الله أن أمثال تلك القبائح لا تمنعهم من قبول التوبة وحصول المغفرة والرحمة إذا ندموا على ما فعلوا وآمنوا فالله يخلصهم من العذاب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً على انفراده لكماله في صفات الخير وجمعه الفضائل، وهو رئيس أهل التوحيد، لأنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كانوا كفارا ولذلك وصفه بتسع صفات. قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا له تعالى قائما بأمره. حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق لا يزول عنه وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) في أمر من أمور دينهم فإنه كان من الموحدين في الصغر والكبر شاكِراً لِأَنْعُمِهِ. روي أن إبراهيم عليه السلام كان لا يتغذى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا، فأخر غذاءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام، فقال: الآن يجب علي مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء. اجْتَباهُ أي اصطفاه للنبوة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) أي هداه في الدعوة إلى طريق موصل إلى الله تعالى وهو ملة الإسلام. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي ولدا صالحا وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان، فجميع الملل يترصون عن إبراهيم ولا يكفر به أحد. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) أي لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا سيد المرسلين مع علو طبقتك أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإتيان الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن

حَنِيفاً أي مائلا عن الباطل حال من إبراهيم، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد في الرد على المشركين حيث زعموا أنهم كانوا على ملة إبراهيم. إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إنما فرض تعظيم يوم السبت على الذين خالفوا نبيهم موسى عليه السلام لأجل يوم السبت، فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ تعالى بالتكوين من يوم الأحد، وتمّ في يوم الجمعة. وكان يوم السبت يوم الفراغ فأمر سيدنا موسى عليه السلام اليهود أن يعظموا يوم الجمعة- كما هو ملة إبراهيم عليه السلام- بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال، فيكون عيدا، فخالفوا كلهم وقالوا: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فاختاروا السبت، فأذن الله تعالى لهم فيه وشدّد عليهم بتحريم الاصطياد فيه. وقالت النصارى: مبدأ التكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدا لنا وقد جاءهم عيسى عليه السلام بالجمعة أيضا فقالوا: لا نريد أن يكون عيد اليهود بعد عيدنا، واتخذوا الأحد عيدا لهم وقلنا معشر الأمة المحمدية: يوم الجمعة هو يوم الكمال فحصول التمام يوجب الفرح الكامل، فهو أحق بالتعظيم، وبجعله عيدا. وأيضا إن الله تعالى خلق في يوم الجمعة أبا البشر آدم عليه السلام وهو أشرف خلقه وتاب عليه فيه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله تعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة ولم يختاروه لأنفسهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) في الدين فإنه تعالى سيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ادْعُ يا أشرف الرسل من بعثت إليهم من الأمة قاطبة إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي إلى دينه بِالْحِكْمَةِ أي الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وهذه أشرف الدرجات، وهي التي قال الله تعالى في صفتها: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بدليل مركب من مقدمات مقبولة فالناس على ثلاثة أقسام: الأول: أصحاب العقول الصحيحة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها. والثاني: أصحاب النظر السليم الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان. والثالث: الذين تغلب على طباعهم المخاصمة لا طلب العلوم اليقينية فقوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ إلخ. معناه: ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها، وهم خواص الصحابة وغيرهم. وادع عوام الخلق بالدلائل الإقناعية الظنية وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة، وتكلّم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل وهي التي تفيد إفحامهم وإلزامهم. والجدل ليس من باب الدعوة،

بل المقصود منه قطع الجدل عن باب الدعوة، لأنها لا تحصل به أي ولما أمر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم باتباع إبراهيم بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه وهو أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) إليه أي إنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، وحصول الهداية لا يتعلق بك فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس المظلمة الكدرة وباهتداء النفوس المشرقة الصافية وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي بمثل ما فعل بكم ولا تزيدوا عليه. وقد مر أنه تعالى أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وتلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم، وبالحكم عليه بالضلالة وذلك مما يشوش قلوبهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانيا، وبالشتم ثالثا، ثم إن ذلك الداعي إذا عرف ذلك يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء بالقتل أو بالضرب، فعند هذا أمر الله الداعي في هذا المقام برعاية العدل وترك الزيادة ظلم وهو ممنوع في عدل الله ورحمته والله تعالى أمر في هذه الآية برعاية الإنصاف فيدخل فيها ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى عمه حمزة قد مثل به المشركون في أحد فقطعوا أنفه وأذنيه وذكره وأنثييه وفجروا بطنه قال: «لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» «1» فنزلت هذه الآية فكفر عن يمينه وكف عما أراده وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) لأن الرحمة أفضل من القسوة والنفع أفضل من الإيلام. والمقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وطلب ترك الزيادة من الظالم وهذا ليس بمنسوخ وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الأذية وَما صَبْرُكَ بشيء من الأشياء إِلَّا بِاللَّهِ أي بذكره وبالاستغراق في مراقبة شؤونه تعالى وبالتبتل إليه تعالى بمجامع الهمة وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي الكافرين بسبب إعراضهم عنك واستحقاقهم للعذاب الدائم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي غم. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) أي من مكرهم بك في المستقبل فالضيق إذا قوى صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) وهذا يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. والمراد بالمعية هي بالرحمة والفضل والرتبة.

_ (1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (4: 507) .

سورة الإسراء

سورة الإسراء سورة بني إسرائيل، وتسمى سورة الإسراء، وسُبْحانَ مكية، غير قوله: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلى قوله: سُلْطاناً نَصِيراً فهذه الآيات الثمانية مدنيات، مائة وإحدى عشر آية، ألف وخمسمائة وتسعة وخمسون كلمة، ستة آلاف وستمائة واثنان وأربعون حرفا سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ أي تبرأ عن الشريك من سير عبده محمدا صلّى الله عليه وسلّم لَيْلًا أي في جزء قليل من الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من حرم مكة من بيت أم هانئ بنت أبي طالب إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي الأبعد من الأرض وأقرب إلى السماء وهو مسجد بيت المقدس وسمي أقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام. وروي أن عبد الله بن سلام قال في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قراءته هذه الآية لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت» ثم قال: «ويقال له البيت المقدس والزيتون ولا يقال له الحرم» اه. والحكمة في إسرائه صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ليحصل له العروج إلى السماء مستويا من غير تعريج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس قال: وهو أقرب من الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: الحكمة في ذلك أن الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في حديث صحيح فهي أفضل الأرض بعد الحرمين وأول إقليم ظهر فيه ملكه صلّى الله عليه وسلّم. وروي أن صخرة بيت المقدس من جنة الفردوس. وقيل: الحكمة في ذلك لإظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعانده سبيلا إلى الإيضاح فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا علموا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن رآها قبل ذلك لما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ذلك من خبر المعراج إلى السموات. وقيل: الحكمة في ذلك ليجمع الله له صلّى الله عليه وسلّم بين القبلتين الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أي المسجد الأقصى من أرض الشام بركة

قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى إلخ. معنى التنزيه والتعجب أشار الله تعالى بذلك إلى أعجب أمر جرى بينه تعالى وبين أفضل خلقه لِنُرِيَهُ أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ آياتِنا أي بعض عجائب قدرتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر، وثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات، فحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلّى الله عليه وسلّم ممكن، وحينئذ يلزم أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه، لكن يبقى التعجب، لأنه حاصل في جميع المعجزات. فانقلاب العصا ثعبانا تبلغ سبعين ألفا من الحبال والعصي، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب، وكذا القول في جميع المعجزات، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وهو فرع على تسليم أصل النبوة. وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإبطال فكذا هاهنا فثبت أن المعراج ممكن غير ممتنع إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) أي إنه تعالى هو السميع لأقوال محمد صلّى الله عليه وسلّم وأحواله بلا إذن، البصير بأفعاله بلا عين فيكرمه ويقربه بحسب ذلك أي فهو عالم بكونها مهذبة خالصة من شوائب الهوى، مقرونة بالصدق والصفا، متأهلة للقرب والزلفى ويقال: إنه تعالى هو السميع لمقالة قريش البصير بهم. روي عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيت أم هاني بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم» فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت هي بثوبه صلّى الله عليه وسلّم فقال مالك: قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم، قال: «وإن كذبوني» . فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره بحديث الإسراء، فقال أبو جهل: يا معشر كعب بن لؤي بن غالب، هلم فحدّثهم، فمن مصفّق، وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به صلّى الله عليه وسلّم وذهب رجال إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أي كأنه قال: لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ ثم جاء أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر صلّى الله عليه وسلّم شيئا قال له أبو بكر: صدقت. فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقا. فقال له الرسول: «وأنا أشهد أنك الصدّيق حقا» ويقال: إن هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا البصير لذاتنا فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا والقبول لأوامرنا البصير بصرا وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله هذا: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة أي لما ذكر الله تعالى تشريف محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإسراء ذكر عقبه تشريف موسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه السلام

إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى. أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور. وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ والضمير يعود إلى الكتاب أو إلى موسى أي جعلنا موسى يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق أَلَّا تَتَّخِذُوا فلا ناهية و «أن» بمعنى أي التفسيرية أو زائدة و «تتخذوا» على إضمار القول أي فقلنا: لا تتخذوا وقرأ أبو عمرو «أن لا يتخذوا» بالياء خبرا عن بني إسرائيل فإن مصدرية ولا نافية ولام التعليل مقدرة والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) أي ربا تفوضون إليه أموركم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص على قراءة النهي وعلى مفعول «يتخذوا» الأول ومن دوني حال من وكيلا والتقدير: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح، من دوني وكيلا فالناس كلهم ذرية نوح، لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرية أولئك إِنَّهُ أي نوحا كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) أي كثير الشكر في جميع حالاته وفي هذا إعلام بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك. والمعنى ولا تشركوا بي، لأن نوحا كان عبدا شكورا وأنتم من ذريته فاقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله تعالى. روي أن نوحا عليه السلام كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه. وإذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم في التوراة بحصول الفساد مرتين لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أي أرض الشام مَرَّتَيْنِ الأولى مخالفة حكم التوراة وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله تعالى وقتل شعياء نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صدقيا ملكهم تنافسوا في الملك وقتل بعضهم بعضا، وهم لا يسمعون من نبيهم فقال الله تعالى له: «قم في قومك» فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه، فهرب، فانفلقت له شجرة، فدخل فيها، وأدركه الشيطان، فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها والثاني قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام. وَلَتَعْلُنَّ أي لتغلبن الناس بغير الحق عُلُوًّا كَبِيراً (4) أي مجاوزا للحدود ويقال لكل متجبر: قد علا. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرتي الفساد بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ أي قتال شَدِيدٍ عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو من أجل

البيوت ابتناه الله تعالى لسليمان بن داود عليهم السلام من ذهب وفضة، ودرّ وياقوت وزمرد» وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخّر له الجن يأتونه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخّر له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت: يا رسول الله كيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر، وهو من المجوس، وكان ملكه سبعمائة سنة» «1» . وهو قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي فترددوا في أوساط الديار، ودخلوا بيت المقدس، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام. وَكانَ أي ذلك البعث وَعْداً مَفْعُولًا (5) أي منجزا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة عَلَيْهِمْ أي على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الإفساد بظهور كورش الهمذاني على بختنصر. وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) أي رجالا وعددا، أي ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس وهو كورش الهمذاني أن تسير إلى المجوس في أرض بابل وأن تستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنفذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس، واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من البيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فإنّ ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بفعل المحرمات فَلَها أي فقد أسأتم إلى أنفسكم فإن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد المرة الآخرة بعثنا تطوس بن إسبيانوس الرومي مع جنوده لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليجعلوا آثار الحزن ظاهرة في وجوهكم. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة «ليسوء» بالتوحيد أي ليحزن الله، أو الوعد أو البعث وجوهكم، وقرأ الكسائي «لنسوء» بنون العظمة وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي كما دخل الأعداء فيه في أول مرة وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا أي ليهلكوا البلاد التي علوا عليها تَتْبِيراً (7) أي إهلاكا، أي فلما رجعت بنو إسرائيل إلى البيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم،

_ (1) رواه الشجري في الأمالي (2: 231) ، والطبراني في المعجم الكبير (10: 179) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 11 إلى 20]

وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ جميع ما في بيت المقدس، واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدي ويرده إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسي بها على بابل حتى ينقل إلى بيت المقدس عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي لعل ربكم أن يرحمكم بعد المرة الآخرة إن تبتم توبة أخرى من المعاصي يا بني إسرائيل وَإِنْ عُدْتُمْ إلى الفساد مرة أخرى عُدْنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى، وإن عدتم إلى الإحسان عدنا إلى الرحمة، وقد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى القتل والجلاء على قريظة وبني النضير وبني قينقاع ويهود خيبر، والباقي منهم مقهورون بضرب الجزية وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) أي سجنا لا يستطيعون الخروج منها أبدا إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه يَهْدِي كل الناس لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للطريقة التي هي أقوم الطرائق وهي ملة الإسلام فبعضهم يصل بهدايته وهم المؤمنون وبعضهم لا وهم الكافرون وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ من التقوى والإحسان أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) أي بأن لهم في مقابلة تلك الأعمال أجرا كبيرا بحسب الذات وبحسب التضعيف وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وهو عذاب جهنم وهذا عطف على قوله: «أن لهم» فالقرآن يبشر المؤمنين ببشارتين بأجر كبير وبتعذيب أعدائهم. واعلم أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وأن بعضهم قال: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ في الإلحاح، أي إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع ضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه مغترا بظاهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها. روي أن النضر بن الحرث قال: اللهم انصر خير الحزبين اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه، وضربت رقبته يوم بدر. وقيل: المراد أن الإنسان في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته عَجُولًا (11) أي ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يطرأ عليه فإن كل أحد من الناس لا يخلو عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح في الدنيا والدين. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على تمام علمنا وكمال قدرتنا، فلما بيّن الله تعالى أن هذا القرآن يدل على الطريق الأقوم ذكر الدلائل الدالة على وحدته تعالى. وهو عجائب العالم العلوي والسفلي فالقرآن نعم الدين ووجود الليل والنهار نعم الدنيا، فلولاهما لما حصل للخلق

الراحة والكسب والقرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يحصل الانتفاع به إلا بالليل والنهار فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر، لأنه يبدو في أول الأمر على صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا، ثم يشرع في الانتقاص قليلا قليلا إلى أن يعود إلى المحاق وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً أي مضيئة ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة فالإضاءة سبب لحصول الإبصار لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتطلبوا في الليل والنهار فضل ربكم من الرزق الحلال بالكسب ومن الثواب الجزيل بأداء الطاعات والاحتراز عن المنهيات وَلِتَعْلَمُوا بتعاقبهما عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب ما دون السنين من الشهور والأيام والساعات لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في مصالح دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) أي بيّناه في القرآن تبيينا بليغا لا شبهة فيه، فظهر كون القرآن يهدي للتي هي أقوم ظهورا بيّنا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر فِي عُنُقِهِ وذكر العنق كناية عن شدة اللزوم، أي ألزمناه عمله كلزوم القلادة أو الفاء للصفة بحيث لا يفارقه عمله أبدا فإن كان خيرا كان زينة له كالطوق، وإن كان شرا كان شينا له كالغل على رقبته. وإنما يكنى العمل بالطير لأن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل اعتبروا أحوال الطير، فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك فيستدلون بكل واحد منها على الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. وقيل: المراد بالطائر صحيفة الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة، فإذا مات العبد طويت تلك الصحيفة وجعلت معه في قبره حتى تخرج له يوم القيامة. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا أدخل قبره قال: «يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك، فيقول: ليس معي دواة ولا قرطاس ولا قلم، فيقول: كفنك قرطاسك، ومدادك ريقك وقلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه، ثم يشرع العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد، ثم يطوي الملك القطعة ويعلقها في عنقه» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» «1» أي عمله فيه وقيل: المراد بالطائر كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً أي مكتوبا فيه عمله يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان.

_ (1) رواه الخطيب الهندي في الفقيه والمتفقه (11) .

وقرأ ابن عامر «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام، والقاف المشددة أي يعطاه مَنْشُوراً (13) أي مفتوحا ويقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ. قال الحسن وقتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وقال بكر بن عبد الله: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) أي محاسبا. قال الحسن: ومن عدل الله في حقك جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذ له تعالى: إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي من اهتدى بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى من لم يهتد فإن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن ضل عن الطريقة التي يهديه إليها فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى بطيبة النفس حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن إثمها، ولكن يحمل عليها بالقصاص فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى فكل أحد مختص بذنب نفسه، وهذا قطع لأطماع الكفار حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالعقاب على أسلافهم الذين قلدوهم الدين الفاسد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ قوما بالهلاك حَتَّى نَبْعَثَ إليهم رَسُولًا (15) يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع. وأهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد عليهم السلام ثلاثة عشر قسما ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة. فأما السعداء: فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان إذا سئل هل لهذا العالم إله قال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحّد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه. وقسم ألقي في نفسه، واطلع من كشفه على منزلة محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به في عالم الغيب. وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمه. وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء: فقسم عطل بلا نظر بل بتقليد. وقسم عطل بعد ما أثبت بلا استقصاء نظر. وقسم أشرك عن تقليد محض. وقسم علم الحق وعانده. وأما الذي تحت المشيئة: فقسم عطل فلم يقر بوجود الإله عن نظر ناقص لضعف في طبائعه. وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه. وقسم عطل بعد ما أثبت بغير نظر قوي. ونقل عن السيوطي أن أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول:

وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجيا ولا يعذب ويدخل الجنة وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بعذاب الاستئصال أمرنا على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها رؤساءها بالأعمال الصالحات وهي الإيمان والطاعة. وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس «أمرنا مترفيها» بمد الهمزة أي كثرنا أغنياءها وفساقها. وعن أبي عمرو «أمرنا» بتشديد الميم أي جعلنا جبابرتها أمراء. فَفَسَقُوا فِيها أي فخرجوا عما أمرهم الله وعملوا المعاصي فيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي فثبت عليها ما توعدناهم به على لسان رسولنا من الإهلاك فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) أي فأهلكناها إهلاك الاستئصال وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي وكثيرا أهلكنا من الأمم الماضية من بعد قوم نوح فإن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم وإنما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ لأنه أول من كذبه قومه وخوّف تعالى بهذه الآية كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه فإنه منزه عن الظلم، وهذه بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف عظيم لأهل المعصية مَنْ كانَ يُرِيدُ بالذي يعمله الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة فقط عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك الدار ما نَشاءُ تعجيله له من نعيمها لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له وهذا بدل من الضمير بإعادة الجار بدل بعض من كل فلا يجد كل واحد جميع ما يهواه فإن كثيرا من الكفار يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا والدين ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة مكان ما عجلناه جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذاب يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً أي مهانا بالذم مَدْحُوراً (18) أي مطرودا من رحمة الله تعالى. قيل: نزلت هذه الآية في مرثد بن ثمامة وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أي أراد بعمله ثواب الآخرة وَسَعى لَها أي للدار الآخرة سَعْيَها بأن يكون العمل من باب القرب والطاعات وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ أي عملهم مَشْكُوراً (19) أي مقبولا عند الله أحسن القبول. قيل: نزلت هذه الآية في بلال المؤذن كُلًّا أي كل واحد من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة نُمِدُّ أي نزيد بالعطاء هؤُلاءِ أي الذين يريدون الدنيا وَهَؤُلاءِ أي الذين يريدون الآخرة وهذان بدلان من كلا فإن الله يوسع عليهما في الرزق من الأموال والأولاد وغير ما من أسباب العز والزينة في الدنيا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع وهذا متعلق «بنمد» رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي معطاه في الدنيا مَحْظُوراً (20) أي ممنوعا من أحد، مؤمنا كان أو

[سورة الإسراء (17) : الآيات 21 إلى 30]

كافرا، لأن الكل مخلوقون في دار العمل فأزاح تعالى العذر عن الكل، وأوصل تعالى متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح انْظُرْ أيها الإنسان بنظر الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فيما أمددناهم به من العطايا في الدنيا فمن وضيع ورفيع، وضالع وضليع، ومالك ومملوك، وموسر وصعلوك وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من درجات الدنيا فإن درجات الآخرة باقية غير متناهية ونعم الدنيا فانية متناهية وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) من تفضيل درجات الدنيا أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها، ثم ذكر الله تعالى من أنواع التكاليف خمسة وعشرين نوعا بعضها أصلي وبعضها فرعي وهي: تفصيل لثلاثة شروط لأهل الثواب وهي إرادة الآخرة بالعمل، وأن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة وأن يكون مؤمنا فقال: لا تَجْعَلْ أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ أي فتمكث في الناس أو فتعجز عن سعادة الآخرة أو فتصير مَذْمُوماً من الملائكة والمؤمنين مَخْذُولًا (22) من الله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما. وقرأ علي وابن عباس وعبد الله «ووصى ربك» ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ف «أن» إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لا» ناهية وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً عظيما كاملا فإن إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ومع ذلك لا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادئ بالبر لا يكافأ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي إن يبلغا إلى حالة الضعف وهما عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر فلا تتضجر لواحد منهما بما تستقذر منه ولا تستثقل من مؤنه، أي ولا تقل له كلاما رديئا إذا وجدت منه رائحة تؤذيك كما أنهما لا يتقذران منك حين كنت تخرأ أو تبول. وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» فأحدهما بدل من ضمير التثنية. وقرأ ابن كثير وابن عامر «أف» بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء مع التنوين. والباقون بكسر الفاء من غير تنوين. وَلا تَنْهَرْهُما أي لا تغلظ لهما في الكلام. والمراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ومن قوله وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) أي لينا حسنا بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ أي لين لهما جانبك المذلول. والمراد افعل التواضع لهما مِنَ الرَّحْمَةِ أي من أجل فرط عطفك عليهما ورقتك لهما بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) أي ادع لهما بالرحمة ولو خمس مرات في اليوم والليلة بأن تقول: رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية رحمة مثل تربيتهما

[سورة الإسراء (17) : الآيات 31 إلى 40]

إياي في صغري؟ ويجوز أن تكون الكاف للتعليل، أي لأجل تربيتهما لي رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من الإخلاص وعدمه في برهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي صادقين في نية البر بالوالدين إن كنتم رجاعين إلى الله تعالى فَإِنَّهُ تعالى كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي للرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم غَفُوراً (25) فيكفر عنهم سيئاتهم وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي أعط ذا القرابة من جهة الأب والأم وإن بعد حَقَّهُ من صلة الرحم بالمال أو غيره وَالْمِسْكِينَ أي أعط المسكين حقه من الإحسان إليه وَابْنَ السَّبِيلِ أي أعط الضيف النازل بك حقه وهو إكرامه ثلاثة أيام وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) وهو إنفاق المال في المعصية وفي الفخر والسمعة إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أتباعهم في الصرف في المعاصي وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) فإنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالا أو جاها فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفورا لنعمة الله تعالى فكان المبذرون موافقين للشياطين في تلك الصفة وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد لكونك كنت فقيرا في وقت طلبهم منك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) أي لينا سهلا بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق أو تقول لهم الله يسهل. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول: يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله اه. وقوله تعالى: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله من إطلاق اسم المسبب عن اسم السبب وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك وَلا تَبْسُطْها في الإنفاق كُلَّ الْبَسْطِ أي في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله وعند أصحابك فهم يلومونك على تضييع المال بالكلية، وإبقاء الأهل والولد في الضر وتبقى ملوما عند نفسك بسبب سوء تدبيرك وترك الحزم في مهمات معاشك مَحْسُوراً (29) أي نادما أو منقطعا عنك الأحباب بسبب ذهاب الأسباب إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن الله يوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض الآخر وهو يربي المربوب ويدفع حاجاته على مقدار الصلاح فعلى العباد أن يقتصدوا في الإنفاق وأن يستنوا بسنته تعالى إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويعلم أن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد لأجل رعاية الصلاح لا لأجل البخل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي خشية وقوع فقر بكم فقتل الأولاد، إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على النبات فهو سعي في تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله تعالى. والثاني: ضد الشفقة على خلق الله.

قال بعضهم: والذي حملهم على قتل الأولاد البخل وطول الأمل نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ أي نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيطرأ عليكم ما تخشونه من الفقر إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) أي ذنبا عظيما. وقرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن عامر بفتح الخاء والطاء مع القصر بمعنى ضد الصواب. وقرأ ابن كثير بفتح الخاء والطاء مع المد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بإتيان مقدماته إِنَّهُ أي الزنا كانَ فاحِشَةً أي ظاهرة القبح لاشتماله على فساد الأنساب وعلى التقاتل فإن الإنسان لا يعرف أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل وخراب العالم وَساءَ سَبِيلًا (32) لأنه لا يبقى فرق بين الإنسان والبهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث فالله تعالى وصف الزنا في آية أخرى بصفات ثلاثة، فالذي لم يذكر هنا كونه مقتا فإن المرأة إذا تمرنت على الزنا يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر سليم وإذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق فحينئذ لا تحصل لها الألفة ولا يتم الازدواج وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بالإسلام والعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي بسبب الحق وهو عند القصاص فهو متعلق بلا تقتلوا وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يبيح القتل للقاتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث سُلْطاناً أي استيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي فلا يسرف الولي في أمر القتل بأن يزيد على القتل المثلة وقطع الأعضاء أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه، أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد أو بأن يقتل القاتل مع أخذ الدية. وقيل: المعنى ولا يسرف القاتل الظالم والإسراف هو إقدامه على القتل بالظلم. وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالتاء على الخطاب، أي لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة. أو لا تسرف أيها الإنسان أي لا تفعل القتل الذي هو ظلم محض، فإنك إن قتلت مظلوما استولى في القصاص منك. ويعضد هذا قراءة «ولا تسرفوا» . إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) . قال مجاهد: إن المقتول المظلوم كان منصورا في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بكثرة الثواب له وبكثرة العقاب لقاتله. وقال قتادة: إن ولي المقتول كان منصورا على القاتل حيث أوجب الله له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي حفظه وإرباحه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي حتى يبلغ إلى حيث يمكنه بسبب رشده القيام بمصالح ماله فحينئذ تزول ولاية غيره عنه فإن بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ سواء جرى بينكم وبين ربكم أو جرى بينكم وبين الناس إِنَّ الْعَهْدَ

كانَ مَسْؤُلًا (34) أي مسؤولا عنه فيسأل الناكث ويعاتب عليه يوم القيامة وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه إِذا كِلْتُمْ لغيركم وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بميزان العدل بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين. ذلِكَ أي الوزن بالميزان المعتدل وإيفاء الكيل والعهد خَيْرٌ في الدنيا، فإنه يوجب الذكر الجميل بين الناس وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) أي عاقبة في الآخرة فإنه يخلص من العقاب الشديد وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تكن أيها الإنسان في اتباع ما لا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده. والمراد بالعلم هو الظن المستفاد من سند إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل واحد من تلك الأعضاء كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه أي عما فعل به صاحبه ولا يبعد أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء، ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها وفي هذا دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية. روي عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي» «1» قال: فحفظتها وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا شدة فرح أي لا تمش مشيا يدل على الكبرياء والعظمة إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تنقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) أي لن يبلغ طولك الجبال. والمعنى تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله فلا يليق بك التكبر كُلُّ ذلِكَ أي المذكور من الخصال الخمس والعشرين كانَ سَيِّئُهُ بضم الهمزة والهاء أي السيء منه وهي المنهيات الاثنا عشر عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) أي محرما مبغوضا فاعله معاقبا عليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيئة» بالتاء وبالنصب، وهو خبر كان وعند ربك صفة لسيئة ومكروها خبر ثان لكان. والمعنى كل ما تقدم من المنهيات وهي اثنتا عشرة خصلة كان سيئة أي ذنبا ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي ذلك التكاليف الأربعة والعشرون نوعا بعض ما أوحى إليك ربك مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وهذا خبر ثان وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً يلومك نفسك وغيرها مَدْحُوراً (39) أي مبعدا من رحمة الله تعالى أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ أي اختاركم ربكم فخصكم بالذكور وَاتَّخَذَ لنفسه مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أي إن كفار مكة اعتقدوا أن أشرف الأولاد البنون: وأخسهم البنات، ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية نقصهم، وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله هو الموصوف

_ (1) رواه النسائي في كتاب الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر السمع والبصر.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 41 إلى 50]

بالكمال الذي لا نهاية له وذلك يدل على نهاية جهلهم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بسبب ذلك الاعتقاد قَوْلًا عَظِيماً (40) في الفرية على الله حيث تجعلونه تعالى من نوع الأجسام، ثم تنسبون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد، ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا هذه الدلائل فِي هذَا الْقُرْآنِ أي في مواضع منه لِيَذَّكَّرُوا بفتح الذال والكاف وتشديدهما أي ليعرفوا بطلان ما يقولونه. وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» ساكنة الذال مضمومة الكاف أي ليفهموا ما في القرآن أو ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه. وَما يَزِيدُهُمْ أي والحال ما يزيدهم ذلك التكرير إِلَّا نُفُوراً (41) أي تباعدا عن الإيمان، وهذا دليل على أن الله ما أراد الإيمان من الكفار قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى: لَوْ كانَ مَعَهُ تعالى آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كونا موافقا لما يقولون: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) أي لطلبوا إلى من له الملك سبيلا بالمغالبة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض. وقيل: المعنى لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى كما تقولون لطلبت لأنفسها المراتب العالية فلما لم تقدر على ذلك فكيف يدرك في العقل أن تقربكم إلى الله منزلة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) أي تنزه الله وارتفع بصفات الكمال عن الشركاء والنقائص ارتفاعا عظيما تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي تنزه الله تعالى السموات السبع والأرض عن كل نقص بدلالة أحوالها على توحيد الله تعالى وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح، وتسبح العقلاء بلسان المقال. وقرأ ابن كثير «كما يقولون» و «عما يقولون» و «يسبح» بالياء في هذه الثلاثة. وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب. وفي الثاني والثالث بالياء. وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء على الحكاية والأخير بالتاء. وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي ما من شيء من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إلا ينزهه تعالى متلبسا بحمده بلسان الحال عما لا يليق بذاته تعالى من لوازم الإمكان فالأكوان بأسرها شاهدة بتلك النزاهة وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ أيها المشركون تَسْبِيحَهُمْ فإن الكفار وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم لم يتفكروا في أنواع الدلائل ولم يعلموا كمال قدرته تعالى فاستبعدوا كونه تعالى قادرا على النشر والحشر فهم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، لأنهم أثبتوا لله شركاء وزوجا وولدا. وقرئ «لا يفقهون» على صيغة المبني للمفعول مع فتح الفاء وتشديد القاف. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم ولذا كان غَفُوراً (44) لمن تاب منكم وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ بمكة جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي المنكرين للبعث حِجاباً مَسْتُوراً (45) .

روى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم ويستمعون إلى حديثه فقال النضر: يوما ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفته تتحرك بشيء. وقال أبو سفيان: إني لا أرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر. فنزلت هذه الآية، والله تعالى خلق حجابا في عيونهم يمنعهم عن رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن إدراك ما عليه من النبوة وعن فهم قدره الجليل وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فكان مستورا من هذا الوجه وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي موانع من أَنْ يَفْقَهُوهُ أي يفهموا القرآن حق الفهم وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما مانعا من سماعه اللائق به أي كان بعضهم يحجب بصره عن رؤية النبي إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن وبعضهم يحجب قلبه عن إدراك القرآن ويحجب سمعه عن سماعه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بآلهتهم في الألوهية، وهذا منصوب على الحال من ربك أو على الظرف وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) أي متباعدين عن قولك أي كان الكفار عند استماع القرآن على حالتين، فإذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله بقوا متحيرين لا يفهمون منه شيئا، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله تركوا ذلك المجلس ولا يستطيعون سماع القرآن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ إلى قراءة القرآن بِهِ أي بسببه من الهزء والتكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي إلى قراءتك. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره رجلان وعن يساره رجلان من ولد قصي أو من بني عبد الدار فيصفقون ويصفرون، ويخلطون عليه بالأشعار. وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم إذ هم ذوو نجوى، إذ يقول المشركون بعضهم لبعض: إنكم إن اتبعتم محمدا فقد اتبعتم رجلا زال عقله عن حدّ الاعتدال. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل على ذلك ودخل عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال: «قولوا: لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتنقاد لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى بأنهم يقولون: ما تتبعون إن وجد منكم الأتباع إلا رجلا مخدوعا من قبل الشيطان فإنه يتخيل له فيظن أنه ملك ومن جهة الناس فإن محمدا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك يخدعونه بهذه الحكايات انْظُرْ يا أشرف الرسل كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فكل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك القول عن طريق الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) إلى طعن يمكن أن

[سورة الإسراء (17) : الآيات 51 إلى 60]

يقبله أحد فيأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد وَقالُوا أَإِذا كُنَّا أي صرنا عِظاماً بالية وَرُفاتاً أي ترابا رميما أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) أي مخلوقين تجدد الروح فينا بعد الموت. قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. والمعنى لو تكونون حجارة مع أنها لا تقبل الحياة، بحال أو حديدا مع أنه أصلب من الحجارة أو خلقا غيرهما كائنا من الأشياء التي تعظم في اعتقادكم عن قبول الحياة، كالسماوات والأرض، فلا بد من إيجاد الحياة فيكم فإن قدرته تعالى لا تعجز عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما ممزقة وقد كانت طرية موصوفة بالحياة من قبل والشيء أقبل لما اعتيد فيه مما لم يعتد فَسَيَقُولُونَ تماديا في الاستهزاء مَنْ يُعِيدُنا أي من الذي يقدر على إعادة الحياة إلينا إذا صرنا كذلك قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي قل إرشادا لهم إلى طريقة الاستدلال فالذي ابتدأ خلقكم أول مرة من غير مثال يعيدكم إلى الحياة بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك عن البداءة لا تعجز عن الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي فسيحركونها جهتك تعجبا وتكذيبا لقولك وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي الذي وعدتنا من الإعادة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً (51) إذ كل آت قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ على لسان إسرافيل بالنداء الذي يسمعكم من القبور وهو النفخة الأخيرة، فإن إسرافيل ينادي: أيتها الأجسام البالية، والعظام النخرة، والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال سعيد بن جبير: أي فيخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك. قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال الزمخشري: بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث وَتَظُنُّونَ عند ما ترون الأهوال الهائلة إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما مكثتم في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا (52) كالذي مر على قرية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين إذا أردتم إتيان الحجة على المخالفين فاذكروها غير مخلوطة بالشتم والسب فيقابلونهم بمثله ولا يخاشنوهم بل يَقُولُوا لهم الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كأن يقولوا: يهديكم الله. وقيل: نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يهيج الشر بين الناس ويغري بعضهم على بعض لتقع بينهم المخاصمة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في قديم الزمان لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) أي ظاهر العداوة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بعاقبة أمركم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والمعرفة إلى أن تموتوا فينجيكم من العذاب أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بأن يميتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية. ويقال: هذه تفسير للتي هي أحسن أي قولوا لهم: هذه الكلمة ولا تقولوا أيها المؤمنون للمشركين: إنكم من أهل

النار، فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن عاقبة أمرهم مغيبة عنكم فعسى يهديهم الله إلى الإيمان. ويقال: إن يشأ ينجكم منهم، وإن يشأ يسلطهم عليكم. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) أي موكولا إليك أمرهم فتقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة عليهم، فإن اللين عند الدعوة يؤثر في القلب، ويفيد حصول المقصود. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحق ذلك وهو رد عليهم إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ولا يجوز إطلاق يتيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم لإشعاره بالتحقير حتى أفتى بعض المالكية بقتل قائله كما في الشفاء وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية لا بكثرة الأموال والأتباع وهذا إشارة إلى تفضيل رسول الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) فيه ذكر فضل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وكونه خاتم النبيين وأمته خير الأمم، وكون الأرض يرثها عباد الله الصالحون وهم محمد وأمته وهذا بيان أن تفضيل داود بإيتاء الزبور لا بإيتاء الملك والسلطنة ورد لقول اليهود لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة أي فإذا أعطى الله تعالى التوراة فلم يبعد أن يعطي داود زبورا وعيسى الإنجيل، ومحمدا القرآن، ولم يبعد أن يفضل محمدا على جميع الخلق فكيف تنكر اليهود ذلك وكفار قريش فضل محمد وإعطاءه القرآن؟! قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي قل يا أشرف الخلق للكفار: ادعوا عند الشدة الذين عبدتم من دون الله كعيسى ومريم وعزير، وطائفة من الملائكة، وطائفة من الجن فَلا يَمْلِكُونَ أي لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي رفع الشدة عنكم وَلا تَحْوِيلًا (56) للضر إلى غيركم أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يتألهونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يحرص من هو أقرب إلى ربهم القربة بالطاعة إليه فأولئك مبتدأ وخبره يبتغون والذين عطف بيان والوسيلة مفعول ليبتغون وإلى ربهم متعلق بالوسيلة وأي موصولة بدل من فاعل يبتغون. وقيل: إن اسم الموصول خبر لاسم الإشارة ويبتغون حال من فاعل يدعون، والمعنى أولئك المعبودون لهم يعبدون ربهم يطلبون بتلك العبادة القربة إلى ربهم والفضيلة عنده وهم أقرب إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بها وَيَخافُونَ عَذابَهُ بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر! فكيف يكونون آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) أي يجب الحذر عنه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي وما من قرية طائعة أهلها أو عاصية إلا وتهلك إما بالموت، وإما بالعذاب. فالصالحة: يكون إهلاكها بالموت. والطالحة: يكون إهلاكها بالعذاب بنحو السيف. أو المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا وتخرب إما بالاستئصال بالكلية أو تعذب بعذاب شديد دون ذلك كقتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال، وأخذ الجزية وبفنون العقوبات الأخروية كانَ ذلِكَ أي الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي اللوح المحفوظ مَسْطُوراً (58) أي مكتوبا وقد بين فيه أسباب ذلك ووقته.

وروي عن بعضهم أن خراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان. وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا» «1» المدينة. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي ما منعنا من إرسال المعجزات التي طلبتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا، وإزالة الجبال عن مكة ليزرعوا مكانها إلا تكذيب الأولين بالمعجزات حين جاءتهم باقتراحهم فيستحقوا عذاب الاستئصال، أي لو أظهر الله تلك المعجزات المقترحة لقريش، ثم لم يؤمنوا بها صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزاله على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعالى علم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذه المصلحة ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وَآتَيْنا ثَمُودَ باقتراحهم النَّاقَةَ مُبْصِرَةً بكسر الصاد أي مبنية لنبوة صالح فَظَلَمُوا بِها أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وأقبلوا أنفسهم للهلاك بعقرها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً (59) من نزول العذاب المستأصل على المقترحين فإن لم يخافوا ذلك نزل أو ما نرسل بعير مقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة، فإن أمر المكذبين بها مؤخر إلى يوم القيامة وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر يا أشرف الخلق إذ بشرناك بأن الله يغلب أهل مكة ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، وهذه بشارة بوقعة بدر وعبر الله بالماضي، لأن كل ما أخبر الله بوقوعه فهو واجب الوقوع فكان كالواقع وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ليلة المعراج وهي ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم على اليقظة بعيني رأسه من عجائب الأرض والسماء إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي إلا امتحانا لأهل مكة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر لهم قصة الإسراء فمنهم من كذبه ومنهم من كفر بعد إسلامه ومنهم من نافق ومنهم من توقف في حاله ومنهم من تردد في قلبه ومنهم من صدق كلامه صلّى الله عليه وسلّم وازداد المخلصون إيمانا وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ أي المذمومة فِي الْقُرْآنِ وهي الزقوم أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس حيث قالوا: إن محمدا يزعم أن نار جهنم تحرق الحجارة، ثم يقول: ينبت فيها الشجر فكيف تنبت في النار شجرة رطبة وهي تحرق الشجر، فينسبون لله العجز عن خلق شجرة في النار غافلين عن قدرته تعالى على كل شيء، فإن النعامة تبتلع الجمر والحديد المحمّى بالنار ولا يحرقها، وأن السمندل وهي دويبة في بلاد الترك يتخذ من وبره مناديل فإذا اتسخت طرحت في النار فيذهب وسخها وتبقى هي سالمة لا تعمل فيها النار وَنُخَوِّفُهُمْ بشجرة الزقوم وبعذاب الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ ذلك التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) أي إلا تماديا في المعصية وتجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لازدادوا تماديا في العناد فأهلكوا بعذاب الاستئصال كعادة من قبلهم وقد حكمنا بتأخير

_ (1) رواه الترمذي في المناقب، باب: 67.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 إلى 70]

العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض اسْجُدُوا لِآدَمَ بوضع الجبهة عليه، إما هو المسجود له أو هو قبلة للسجود والمسجود له هو الله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وكان داخلا تحت الأمر بالسجود لأنه مندرج تحت زمرتهم قالَ عند ما وبخه الله تعالى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) أي من طين. قالَ أي إبليس بعد الاستنظار: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضلته علي بأمرك لي بالسجود له لم فضلته علي وأنا خير منه من حيث أنا مخلوق من العنصر العالي لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإغواء أو لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها إِلَّا قَلِيلًا (62) لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم. قرأ ابن كثير «أخرتن» بإثبات ياء المتكلم في الوصل والوقف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف. قالَ تعالى له: اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته. واعلم فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم في دينك فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك ومن تبعك جَزاءً مَوْفُوراً (63) أي مكملا فكل معصية توجد يحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل لأنه هو الأصل فيها فلذلك يخاطب بالوعيد. وَاسْتَفْزِزْ أي استزل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ استزلاله بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم مصحوبا بجنودك الركاب والمشاة، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو ماش في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده. وقرأ حفص عن عاصم «ورجلك» بكسر الجيم. وقرأ غيره بالضم أو بالسكون. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ أي في كل تصرف قبيح فيها وَالْأَوْلادِ أي في الأفعال القبيحة والحرف الذميمة والأديان الزائغة والأسماء المنكرة وَعِدْهُمْ أي بالأماني الباطلة وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (64) أي ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. وهذه الجملة اعتراض واقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان. إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي غلبة وقدرة على إغوائهم وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) أي حفيظا. فإن الشيطان وإن كان قادرا على الوسوسة فإن الله أرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ أي الذي يسوق لمنافعكم السفن على وجه البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي رزقه تعالى بالتجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) حيث سهل عليكم ما يعسر من أسباب ما تحتاجون إليه وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تعبدون من دون الله إِلَّا إِيَّاهُ تعالى فتسألون من الله تعالى النجاة لأنكم تعلمون أنه لا ينجيكم سواه. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق وأخرجكم من البحر إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الشكر والتوحيد ورجعتم إلى الإشراك، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أي منكرا لنعم الله. أَفَأَمِنْتُمْ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 71 إلى 80]

أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ أي أنجوتم من هول البحر فأمنتم أن نغور البر بكم. جانِبَ الْبَرِّ الذي أنتم فيه ونصيركم تحت الثرى كما خسف بقارون. أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أي ريحا ترمي حجارة كما أرسل على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أي حافظا يحفظكم من ذلك أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى بأسباب تلجئكم إلى أن تركبوه وإن كرهتم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً أي كاسرا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بعد كسر فلككم في البحر بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب إشراككم وكفرانكم لنعمة الإنجاء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا بكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هذه الخمسة «أن نخسف» ، «أو نرسل» ، «أن نعيدكم» ، «فنرسل» ، «فنغرقكم» بنون العظمة على سبيل الالتفات. والباقون بياء الغيبة. وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالصورة والقامة المعتدلة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات والعلم والنطق وتناول الطعام باليد وغير ذلك وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدواب وغيرها وَالْبَحْرِ على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من أنواع المستلذات الحيوانية كاللحم والسمن واللبن والنباتية، كالثمار والحبوب وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) أي فضلناهم على غير الملائكة تفضيلا عظيما بالعقل والقوى المدركة التي يتميز بها الحق من الباطل والحسن من القبيح فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بمن اقتدوا به. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه ينادى يوم القيامة: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادي يا أتباع فرعون، يا أتباع نمروذ، يا أتباع ثمود» . وقال الضحاك وابن زيد: أي بكتابهم الذي أنزل عليهم فينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الربيع وأبو العالية والحسن: أي بكتاب أعمالهم كأن يقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وقيل: بمذاهبهم فيقال: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك. وقرئ «يدعي كل أناس» على البناء للمفعول. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهم أولو البصائر في الدنيا فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ الذي أعطوه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة في كتبهم فَتِيلًا (71) أي قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله في خلق السموات والأرض والبحار، والجبال، والناس، والدواب، وعن الشكر عن النعم المذكورة في الآيات المتقدمة فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ويستولي الخوف والدهشة على قلبه فيثقل لسانه عن قراءة كتابه. وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) من الأعمى لتعطل الآلات

بالكلية وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي إن الشأن قاربوا أن يزيلوك عن حكم القرآن لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي لتكذب علينا غير الذي أوحينا إليك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) أي لو اتبعت أهواءهم لكنت وليا لهم ولخرجت من ولايتي. قال ابن عباس في رواية عطاء: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه شططا وقالوا: متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يجبهم، فكرروا ذلك الالتماس وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) أي لولا تثبيتنا إياك على الحق بعصمتنا إياك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا فيما طلبوك إِذاً لو قاربت الميل من قلبك لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة، ثُمَّ إذا أذقناك العذاب المضاعف لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) أي أحدا يخلصك من عذابنا وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي ليستزلونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) أي وإذا لو أخرجوك لا يلبثون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى نهلكهم. قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله، فنزلت هذه الآية، فرجع، ثم قتل منهم بني قريظة وأجلي بني النضير بعذر من قليل وعلى هذا فالآية مدنية. والمراد بالأرض: أرض المدينة، وهذا قول الكلبي: وقال قتادة ومجاهد: همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره بالهجرة، فخرج بنفسه، فأهلكوا ببدر بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا فالآية مكية والمراد بالأرض: أرض مكة. وهذا اختيار الزجاج. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة «خلفك» بفتح الخاء وسكون اللام. والباقون «خلافك» بكسر الخاء وفتح اللام مع المد سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سننا سنته فيمن قد أرسلنا قبلك أي إن عادة الله أن يهلك كل قوم أخرجوا نبيهم من بينهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) أي تغييرا أي إن ما

أجرى الله تعالى به العادة لا يقدر أحد أن يبدل تلك العادة أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لأجل زوال الشمس عن كبد السماء إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى اجتماع ظلمة الليل وهو وقت صلاة العشاء. والمعنى أقم الصلاة من وقت زوال الشمس إلى ظلمة الليل بأن تديم كل صلاة في وقتها فيدخل في هذا الظهر والعصر والمغرب. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي أقم صلاة الفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) تحضره الملائكة الكاتبون والحفظة، فإنهم يتعاقبون على ابن آدم في صلاة الصبح وصلاة العصر وتشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء، وتبدل النوم بالانتباه، فتشهد العقول بأنه لا يقدر على تقليب كلية هذا العالم إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة، وتشهده الجماعة الكثيرة وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي وقم بعض الليل فاترك النوم في ذلك الوقت للصلاة. وقيل: المعنى تهجد بالقرآن بعض الليل أي صل في ذلك بالقرآن نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك في كثرة الثواب وارتفاع الدرجات مختصة بك فإن كل طاعة يأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى المكتوبة لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب ألبتة، لأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب، فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعات لهم لتكفير الذنوب فلهذا السبب قال تعالى: نافلة لك أي إن الطاعات هذه زوائد في حقك لا في غيرك كما نقل عن مجاهد والسدي، ومن قال: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: معنى نافلة لك أن صلاة الليل فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خاصة بك دون أمتك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) أي إن يقيمك ربك مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس. وروى أبو هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي» . وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي في المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي من مكة إليها وذلك حين أمر النبي بالهجرة كما قاله ابن عباس والحسن. أو المعنى وأخرجني من المدينة إلى مكة غالبا عليها بفتحها. وقيل: الأكمل مما سبق أن يقال: رب أدخلني في الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص وحضور قلبي بذكرك، ومع القيام بلوازم شكرك. والأكمل من ذلك أن يقال: رب أدخلني في القيام بمهمات أداء شريعتك، وأخرجني بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة والأعلى مما سبق أن يقال: رب أدخلني في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك، ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الفرد المنزه عن التغيرات. وقيل: رب أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80)

[سورة الإسراء (17) : الآيات 81 إلى 90]

أي اجعل لي في هذا البلد من لدنك قوة ظاهرة في تثبيت دينك وإظهار شرعك أو اجعل لي من عندك حجة بينة تنصرني بها على جميع من يخالفني وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ أي هلك الشرك وتسويلات الشيطان إِنَّ الْباطِلَ أي أيّ باطل كان كانَ بجبلته زَهُوقاً (81) زائلا على أسرع الوجوه وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من جميع الأمراض الظاهرة والباطنة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن القرآن يعلم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي يصل بها الإنسان إلى قرب رب العالمين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) أي لا يزيد القرآن المشركين إلا هلاكا بتكذيبهم وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بأن وصل إلى مطلوبه أَعْرَضَ أي اغتر وصار غافلا عن طاعة الله وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد من أهل الحق ولم يقتد بهم تعظما لنفسه كديدن المستكبرين وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه بلاء كانَ يَؤُساً (83) أي قنوطا من رحمة الله حزينا ولم يتفرغ لذكر الله تعالى قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي طريقته التي توافق حاله في الهدى والضلالة فإن كانت نفسه طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة، وإن كانت نفسه خبيثة صدرت عنه أفعال رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84) أي أصوب طريقا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الذي هو سبب حياة البدن بنفخه فيه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من فعل ربي أو من علم ربي فإنه مما اختص الله تعالى بعلمه. روي أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن أصحاب الكهف. وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جميعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين صلّى الله عليه وسلّم لهم القصتين وأبهم شأن الروح وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) فإن عقول الخلق عاجزة عن معرفة حقيقة الروح، وقال بعضهم جاء في الخبر في بعض الروايات أن الله تعالى خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم ولكنه جعلها محصورة في عالمين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] فعبر عن عالم الدنيا وهو ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة السمع والبصر، والشم والذوق، واللمس بالخلق. وعبر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر فعالم الأمر هو الأوليات التي خلقها الله تعالى للبقاء بمحض الأمر التكويني من غير تحصيل من أصل وهي الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي، والجنة والنار وسمي عالم الأمر أمرا، لأن الله أوجده بلا واسطة شيء بل بأمر كن من لا شيء. ولما كان أمره تعالى قديما فما يكون بالأمر القديم كان باقيا، وإن كان حادثا. وسمي عالم الخلق خلقا، لأنه تعالى أوجده بوسائط شيء مخلوق خلقه للفناء، فمعنى الروح من أمر ربي أنه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء اهـ. فلا يمكن تعريف الروح بمباديه ولا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنّما الممكن هذا القدر الإجمالي ولذا قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي وما

[سورة الإسراء (17) : الآيات 91 إلى 100]

أعطيتم من العلم فيما عند الله إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن أي لنزيلن العلم به عن القلوب وعن المصاحف ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا (86) أي من تتوكل عليه في استرداد شيء منه محفوظا مسطورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي لكن أبقيناه إلى قرب قيام الساعة رحمة من ربك فعند ذلك يرفع من الصدور والمصاحف إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) بإبقاء العلم والقرآن عليك وبجعلك سيد ولد آدم وخاتم النبيين وإعطائك المقام المحمود. قُلْ لمن يزعمون أن القرآن من كلام البشر: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لئن اتفق الإنس والجن والملائكة على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى لا يقدرون على إتيان مثله، وتخصيص الثقلين بالذكر، لأن المنكر في كونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرهما قادر على المعارضة. وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) أي معينا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا بوجوه مختلفة توجب زيادة بيان لِلنَّاسِ أي لأهل مكة فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بالنعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى بديع يشبه المثل في الغرابة ليتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ أي فلم يرض أكثر أهل مكة إِلَّا كُفُوراً (89) أي جحودا للحق وَقالُوا عند ظهور عجزهم بالقرآن وغيره من المعجزات الباهرة: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة يَنْبُوعاً (90) أي عينا لا ينضب ماؤها أَوْ تَكُونَ لَكَ وحدك جَنَّةٌ أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي وأشجار عنب وعبر بالثمرة لأن الانتفاع بغيرها من الكرم قليل فَتُفَجِّرَ أي أنت الْأَنْهارَ خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً (91) والمراد إجراء الأنهار في وسط البستان عند سقيها أو إدامة إجرائها و «تفجر» الأولى تكون بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم عند عاصم وحمزة والكسائي، وبضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة عن الباقين. ولم تختلف السبعة في «تفجر» الثانية أنها مشددة. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ بقولك: إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا بالعذاب أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) أي مقابلين ومرئيين لنا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي ذهب وفضة كامل الحسن أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد إليها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لصعودك إلى السماء أصلا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من الله نَقْرَؤُهُ فيه أنك رسول الله إلينا أي لما ظهر لهم كون القرآن معجزا التمسوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أنواع من المعجزات كما حكي عن ابن عباس أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى رسول الله وهو جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا: يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسيّر جبالها لننتفع بها وفجر لنا فيها عيونا نزرع فيها فقال: «لا أقدر عليه» فقال قائل منهم: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا؟! فقال: «لا أقدر عليه» . فقيل: أو يكون لك بيت

من زخرف فيغنيك عنا؟! فقال: «لا أقدر عليه» فقيل له: أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك؟ فقال: «لا أستطيع» . قالوا: فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال: عبد الله بن أمية المخزومي وهو ابن عاتكة عمته صلّى الله عليه وسلّم: لا أومن بك أبدا حتى تشد سلما إلى السماء فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا؟ فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا فأنزل الله تعالى هذه الآية قُلْ. وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال» بصيغة الماضي: سُبْحانَ رَبِّي أي أنزه ربي عن أن يكون له إتيان وذهاب وأتعجب من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) أي مأمورا من قبل ربي بتبليغ الرسالة كسائر الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة أَنْ يُؤْمِنُوا بنبوتك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) إلينا أي وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الوحي إلا اعتقادهم أن الله تعالى لو أرسل رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة وإنكارهم أن يكون من جنس البشر قُلْ لهم من جهتنا جوابا لقولهم: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ عليها مُطْمَئِنِّينَ أي قارين فيها من غير أن يعرجوا في السماء لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) أي لو كان أهل الأرض ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر لتمكنهم من الاجتماع والفهم منه لمماثلتهم له في الجنس قُلْ لهم: كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأني رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) أي محيطا ببواطن أحوالهم وظواهرها، أي فإنكم إنما أنكرتم هذا لمحض الحسد والاستنكاف من الانقياد للحق وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ بحذف الياء من الرسم هنا، وفي الكهف. وأما في النطق فقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا. وحذفها الباقون في الحالين. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ تعالى يهدونهم إلى طريق الحق أي فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال وأن يوجد من يصرفهم عنه وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فقد روي أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» «1» . عُمْياً لا يبصرون ما يسر

_ (1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 25، ومسلم في كتاب المنافقين، باب: 54، والترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 17، وأحمد في (م 2: 354) .

[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 110]

أعينهم وَبُكْماً لا ينطقون ما يقبل منهم وَصُمًّا لا يسمعون ما يلذ مسامعهم مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهبها بعد أكل جلودهم ولحومهم بأن لم يبق فيهم ما تتعلق به النار زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) أي توقدا بإعادة الجلود واللحوم ولعل ذلك عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها عيانا حيث لم يعلموها برهانا ذلِكَ العذاب جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة وَقالُوا منكرين لقدرتنا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أي ترابا رميما أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أي بعثا جديدا أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكروا ولم يبصروا بعيون قلوبهم أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ أي يعيد بالإحياء مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وقتا معلوما عند الله لا شك فيه عند المؤمنين وهو يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي لم يقبل المشركون بعد هذه الدلائل الظاهرة إِلَّا كُفُوراً (99) أي جحودا للأجل قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ ما ملكتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر فلا فائدة في إسعافكم بذلك المطلوب الذي التمستموه وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) أي بخيلا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على نبوته وهي اليد والعصا، والجراد والقمل، والضفادع والدم، والطوفان والسنون، ونقص الثمرات فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل يا أشرف الرسل بني إسرائيل الذين كانوا في زمانك عن موسى فيما جرى بينه وبين فرعون وقومه، ليظهر صدق ما ذكرته عند المشركين، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. وهذه الجملة اعتراضية بين العامل والمعمول إِذْ جاءَهُمْ أي حين جاء موسى بني إسرائيل الذين كانوا في زمانه عليه السلام وهذا الظرف متعلق بآتينا فأظهر ما آتيناه من الآيات عند فرعون وبلغه ما أرسل به فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) أي مغلوب العقل قالَ لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ. قرأ الكسائي بضم التاء. والباقون بفتحها، فالضم قراءة على والفتح قراءة ابن عباس ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات عليّ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي أدلة ظاهرة يستدل بها على صدقي ولكنك تنكرها للحسد وحب الدنيا وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ أي لأعلمك يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) أي ملعونا ممنوعا من الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه مِنَ الْأَرْضِ بالقتل فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) في البحر وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي أرض الشام ومصر فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي البعث بعد الموت جِئْنا بِكُمْ من قبوركم إلى المحشر لَفِيفاً (104) أي مختلطين أنتم وهم فيختلط جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ما أردنا بإنزال القرآن إلا إثبات الحق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك حصل هذا المعنى ووصل إليهم بعد إنزاله عليك ليس فيه تبديل أو يقال: وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحكمة

المقتضية لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها. وَما أَرْسَلْناكَ يا أفضل الخلق إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً (105) للعاصي بالعقاب فهؤلاء الجهال الذين اقترحوا عليك تلك المعجزات وتمردوا عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم وَقُرْآناً فَرَقْناهُ. وقرأ العامة بتخفيف الراء، أي بينا حلاله وحرامه أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ علي وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد أي فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة. أو نزلناه مفرقا في ثلاثة وعشرين سنة، أو في عشرين سنة على الخلاف في تقارن النبوة والرسالة وتعاقبهما لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بضم الميم وفتحها أي على تأن لتكون الإحاطة على دقائقه وحقائقه أسهل وَنَزَّلْناهُ من عندنا تَنْزِيلًا (106) متفرقا آية وآيتين وثلاثا وهكذا بحسب ما تقتضيه الحكمة وما يحصل من الواقعات قُلْ للذين اقترحوا تلك المعجزات: آمِنُوا بِهِ أي القرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم عن الإيمان به لا يورثه نقصا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي يسقطون على وجوههم بغاية الخوف سُجَّداً (107) لله شكرا على إنجاز وعده في تلك الكتب من بعثتك ونزول القرآن وَيَقُولُونَ في سجودهم سُبْحانَ رَبِّنا أي تنزيها له عن خلف وعده إِنْ أي إن الشأن كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لَمَفْعُولًا (108) أي منجزا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ للسجود لما أثر فيهم من مواعظ القرآن يَبْكُونَ من خشية الله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن أو البكاء أو السجود أو المتلو خُشُوعاً (109) أي تواضعا لله كما يزيدهم يقينا بالله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموا المعبود بحق بهذا الاسم. قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: «يا الله يا رحمن» . فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية أي إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي أيّ هذين الاسمين سميتم فهو حسن، لأن للمسمى بذلك الأسماء الحسنى. ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس والتمجيد والتعظيم وعلى صفات الجلال والكمال وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك وَلا تُخافِتْ بِها أي بقراءتها. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون

[سورة الإسراء (17) : آية 111]

فيسبوا الله عدوا بغير علم، ولا تخافت بها فلا تسمع أصحابك وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي اطلب بين الجهر والمخافتة سَبِيلًا (110) أي أمرا وسطا. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته، وكان عمر يرفع صوته فلما حاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «لم تخفي صوتك؟» فقال: أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر: «لم ترفع صوتك؟» فقال: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض صوته قليلا. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مليح حيث قالوا: عزير ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله فكل من له ولد وهو محدث محتاج فلا يقدر على كمال الأنعام فلا يستحق كمال الحمد وكل من له ولد يمسك جميع النعم لولده، فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده، فلو كان له تعالى ولد لكان منقضيا فلا يقدر على كمال الأنعام في كل الأوقات فلا يستحق الحمد على الإطلاق وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي في الألوهية كما يقوله الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، لأنه لو كان معه إله آخر لتصرف في الموجودات فلا يعرف حينئذ أن هذه النعم حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر منه لأنه لو جاز عليه ناصر من أجل المذلة لم يجب شكره لجواز أن يكون غيره تعالى حمله على الأنعام أو منعه منه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) فالتحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير والتكبير يكون في ذاته تعالى بأن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل ما سواه وفي صفاته بأن يعتقد أن كل صفة له فهو من صفات الجلال والكمال، والعز والعظمة، وكل واحد من تلك الصفات لا نهاية له وإن كل صفة له قديمة سرمدية منزّهة عن التغير وفي أفعاله كأن يقول: إنا نحمد الله ونكبره عن أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته، فالكل واقع بقضاء الله وقدرته وإرادته وفي أحكامه بأن يعتقد أنه ملك مطاع فلا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وفي أسمائه بأن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المنزهة، ثم ينبغي للعبد بعد أن يبالغ في التكبير والتنزيه والتحميد والطاعة مقدار عقله وفهمه أن يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره وأعضاءه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته. وروي أن قول العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، وعن عمرو بن شعيب كان رسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية واسأل الله الرحمة قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت إنه تعالى ناشر العظام بعد الموت وسامع الصوت. حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم آمين.

سورة الكهف

سورة الكهف مكية، غير آيتين، ذكر فيهما عيينة بن حصن الفزاري، مائة وعشر آيات، ألف وخمسمائة وثلاث وثمانون كلمة، ستة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسون حرفا الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو الإعلام بثبوت الحمد لله وإنشاء الثناء بذلك الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ أي القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) أي اختلالا في النظم وتنافيا في المعنى، وهو كامل في ذاته وهذه الجملة معطوفة على أنزل قَيِّماً أي وجعله قائما بمصالح العباد وأحكام الدين. وقيل: هاتان الجملتان حالان من الكتاب متواليان أي غير مجعول له عوجا قيما لِيُنْذِرَ تعالى بالكتاب الكافرين بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي عذابا شديدا نازلا من عنده تعالى وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين به. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الموحدة وضم الشين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) في الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) أي خالدين في الأجر من غير انتهاء وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) وهم كفار العرب الذين يقولون: الملائكة بنات الله، واليهود القائلون عزير ابن الله، والنصارى القائلون المسيح ابن الله ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ليس لهم ولا لأحد من أسلافهم الذين قلدوه علم بهذا القول أهو صواب أو خطأ بل إنما قالوه رميا عن جهالة من غير فكر كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ فكلمة بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية فعلى النصب يكون فاعل «كبرت» مضمرا مفسرا بما بعده وهو للذم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: كبرت الكلمة، كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاء. والنصب أقوى وأبلغ، وفيه معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً (5) أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا مقولا كذبا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ. والمراد بالترجي النهي عن الغم أي لا تهلك نفسك بالغم من بعد إعراضهم عن الإيمان بك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أي بهذا القرآن أَسَفاً (6) أي لفرط الحزن إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ حيوانا كان أو نباتا أو معدنا زِينَةً لَها أي الأرض ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظرا واستدلالا فإن العقارب والحيات من حيث تذكيرهما

[سورة الكهف (18) : الآيات 11 إلى 20]

لعذاب الآخرة من نوع المنافع بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على وجود الصانع ووحدته لِنَبْلُوَهُمْ أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) أي أيهم أطوع لله وأشد استمرارا على خدمته وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها أي الأرض من المخلوقات قاطبة عند تناهي عمر الدنيا صَعِيداً جُرُزاً (8) أي ترابا لا نبات فيه أَمْ حَسِبْتَ أي أظننت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا أي من بين آياتنا عَجَباً (9) أي آية ذات عجب وفي الآيات أي آثار قدرة الله تعالى ما هو أعجب من ذلك وهي السماء والأرض والشمس والقمر، والنجوم والجبال والبحار. و «عجبا» خبر كان و «من آياتنا» حال منه، والكهف: هو الغار الواسع في الجبل، والرقيم: كلب أصحاب الكهف. وقيل: هو لوح رصاصي أو حجري كتبت فيه أسماؤهم وقصتهم وجعل على باب الكهف وهم كانوا فتية من أشراف الروم، أرادهم دقيانوس على الشرك فهربوا منه بدينهم إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ظرف ل «عجبا» ، أي حين التجأ الشبان إلى الكهف فَقالُوا عقب استقرارهم فيه: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً خاصة تستوجب المغفرة والرزق والأمن من الأعداء، وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) أي يسّر لنا من أمرنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي فعقب هذا القول ألقينا على آذانهم حجابا يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة من نومهم فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) أي معدودة، وفي الكهف حال من المضاف إليه. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من نومهم الثقيل لِنَعْلَمَ أي لنعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي المختلفين في مدة لبثهم أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) أي ضبط غاية لبثهم فيظهر لهم عجزهم ويفوضون ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفون ما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم، فيزدادون يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه، ويستبصرون به أمر البعث، ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم. فالمراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف و «أحصى» فعل ماض و «أمدا» مفعول به. وقرئ «ليعلم» بالياء مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الأعلام أي ليعلم الله الناس أي الحزبين أحصى إلخ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أشرف الخلق نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي على وجه الصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ أي جماعة من الشبان آمَنُوا بِرَبِّهِمْ بالتحقيق لا بالتقليد وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) أي بأن ثبتناهم على ما كانوا عليه من الدين وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قويناها حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والإخوان، واجترءوا على الرد على دقيانوس الجبار إِذْ قامُوا أي حين انتصبوا لإظهار شعار الدين أو وقت قاموا بين يدي الملك دقيانوس الكافر فإنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت، فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار، وأقروا بربوبية الله تعالى، وصرحوا بالبراءة من الشركاء فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أي لن نعبد أبدا معبودا آخر

لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) أي والله لئن عبدنا غيره لقد قلنا حينئذ قولا زورا على الله. قال أصحاب الكهف عند خروجهم من عند الملك دقيانوس الكافر: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا أي عبدوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ف «قومنا» عطف بيان لاسم الإشارة أو خبر له و «اتخذوا» حال منه. لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي هلا يأتون على عبادتهم بحجة ظاهرة، وهذا إنكار وتعجيز وتبكيت لهم فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) أي فليس أحد أظلم ممن افترى على الله. كذبا بنسبة الشريك إليه تعالى فإن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد. قال بعض الفتية لبعض وقت اعتزالهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ أي وإذ أردتم اعتزالهم واعتزال الشيء الذي تعبدونه إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي التجئوا إليه وهذا جواب إذ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي يبسطها عليكم في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) أي ويسهل لكم من أمركم الذي أنتم عليه من الفرار بالدين ما تنتفعون به غدا. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء والجمهور بالعكس. وَتَرَى الشَّمْسَ خطاب لكل أحد بيان لحالهم بعد ما صاروا إلى الكهف وهذا ليس إخبارا بوقوع الرؤية تحقيقا بل الأخبار بكون الكهف بحيث لو أبصرته تبصر الشمس إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ. قرأ ابن عامر «تزور» ساكنة الزاي مشدد الراء. ونافع وابن كثير وأبو عمر «تزاور» بتشديد الزاي وبالألف. وعاصم وحمزة والكسائي «تزاور» بالتخفيف والألف أي تميل، عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أي جانب الكهف الذي يلي المغرب فلا يقع عليهم شعاع الشمس. وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال الذي يلي المشرق فإن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم وذلك خارق للعادة وكرامة عظيمة خصّ الله بها أصحاب الكهف. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي والحال أنهم في فضاء متسع من الكهف معرض لإصابة الشمس ذلِكَ أي المذكور من إنامتهم وحمايتهم من إصابة الشمس لهم في ذلك الغار تلك المدة الطويلة مِنْ آياتِ اللَّهِ العجيبة على كمال علمه وقدرته وعلى وحدته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى الحق بالتوفيق له فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي الذي أصاب الفلاح مثل أصحاب الكهف وَمَنْ يُضْلِلْ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وَلِيًّا مُرْشِداً (17) أي ناصرا يهديه إلى الفلاح كدقيانوس الكافر وأصحابه. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أي لو رأيتهم أيها الخاطب لانفتاح عيونهم على هيئة الناظر وَهُمْ رُقُودٌ أي نيام وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لينال النسيم جميع أبدانهم ولئلا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث، فالله قادر على حفظهم من غير تقليب ولكن جعل لكل شيء سببا في أغلب الأحوال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي بموضع الباب من الكهف وكان الكلب أنمر، أو أصفر، أو أصهب، أو أحمر، أو أسمر. واسمه: قطمير أو ريان، أو تتوه، أو قطمور، أو ثور، أو

[سورة الكهف (18) : الآيات 21 إلى 30]

حمران، وكان لواحد منهم فلما خرجوا تبعهم فمنعوه، فأنطقه الله وتكلم وقال: أنا أحب أحباب الله فمكنوه من الذهاب معهم، فلما ناموا نام كنومهم، ولما استيقظوا استيقظ معهم، ولما ماتوا مات معهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو شاهدتهم لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأدبرت عنهم هربا بما شاهدت منهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) أي خوفا يملأ الصدر لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة فكل من رآهم فزع فزعا شديدا. وقرأ نافع وابن كثير «لملئت» بتشديد اللام. وروي أيضا عن ابن كثير بالتخفيف كالجمهور. وقرأ السوسي بإبدال الهمزة ياء وقفا ووصلا، وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي «رعبا» بضم العين في جميع القرآن. والباقون بالإسكان. وَكَذلِكَ أي كما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى آية دالة على كمال قدرتنا بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من النوم بعد مضي ثلاثمائة سنة وتسع سنين لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا في مدة لبثهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو رئيسهم واسمه «مكسلمينا» : كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم مقدار مكثكم في منامكم في هذا الغار قالُوا أي بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً لأنهم دخلوا الكهف غدوة، ثم ناموا طلوع الشمس وكان انتباههم آخر النهار فلما خرجوا فنظروا إلى الشمس وقد بقي منه شيء قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا أي بعض آخر منهم وهو «مكسلمينا» : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فأنتم لا تعلمون مدة لبثكم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ هو تمليخا كما قاله ابن إسحاق بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وهي منبج أو أفسوس بضم الهمزة هذا في الجاهلية وتسمى في الإسلام طرسوس بفتح الراء فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أيّ أهلها أَزْكى طَعاماً أي أبعد عن كل حرام لأن ملكهم كان ظالما وعامة أهل بلدهم كانوا مجوسا وفيهم قوم يخفون إيمانهم فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ أي بطعام مِنْهُ أي من ذلك الأزكى. وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليرفق في الشراء كي لا يغبن وفي دخول المدينة لئلا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) أي لا يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة فإن ذلك يستلزم شيوع أخباركم إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي إن يطلعوا على أنفسكم أو على مكانكم يَرْجُمُوكُمْ أي يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيّروكم إلى ملتهم كرها وَلَنْ تُفْلِحُوا أي لن تسعدوا إِذاً أي إن دخلتم فيها ولو بالكره أَبَداً (20) أي في الدنيا والآخرة وَكَذلِكَ أي وكما أنمناهم وبعثناهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي أطلعنا الناس المؤمنين والكافرين على أحوالهم، وكان ملكهم يومئذ مسلما يسمى يستفاد وذلك أن دقيانوس مات وانقضت قرون، ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح واختلف أهل مملكته في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: إنما تحشر الأرواح دون الأجساد، فإن الجسد تأكله الأرض. وقال بعضهم: تبعث الأرواح والأجساد جميعا وكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمر البعث لهم حتى دخل بيته وأغلق بابه ولبس المسوح وقعد على الرماد، وتضرّع إلى الله تعالى في طلب حجة وبرهان،

فأعثره الله على أهل الكهف فإنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكر ورقه، لأنه ظهرت في بشرة وجهه آثار عجيبة تدل على أن مدته قد طالت طولا خارجا عن العادة، لأن ورقه كان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك وكان صالحا قد آمن هو ومن معه فلما نظر إليه قال: لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى، فأخبره بأنه ومن معه خرجوا فرارا من الملك دقيانوس فسّر الملك بذلك وقال لقومه: لعل الله قد بعث لكم آية فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا: أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم وأعلمهم بأن الأمة أمة مسلمة فخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم، ثم رجعوا إلى كهفهم ورجع من شك في بعث الأجساد فهذا معنى أعثرنا عليهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أعثرناهم وهم الملك ورعيته على أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث للروح والجثة معا حَقٌّ أي صادق بطريق أن القادر على إنامتهم مدة طويلة وإبقائهم على حالهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى. قال بعض العارفين: علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت وَأَنَّ السَّاعَةَ أي وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في قيامها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ في صحة البعث وهذا ظرف لقوله تعالى: أَعْثَرْنا لا لقوله لِيَعْلَمُوا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم أمرهم ليرتفع الخلاف ويتبين الحق فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي لما أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا، فعاد الفتية إلى كهفهم، فأماتهم الله تعالى فقال بعضهم: ابنوا على باب كهفهم بنيانا لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا بتربيتهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ كأن المتنازعين لما رأوا عدم اهتدائهم إلى حقيقة حالهم من حيث النسب والاسم، ومن حيث العدد، ومن حيث اللبث في الكهف قالوا ذلك تفويضا للأمر إلى علام الغيوب قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ وهم الملك والمسلمون أو أولياء أصحاب الكهف أو رؤساء البلد لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) نعبد الله فيه ونستبقي آثارهم بسبب ذلك المسجد سَيَقُولُونَ أي يقول بعض المتنازعين لك يا أشرف الخلق وهم اليهود أو السيد وأصحابه؟ وهم اليعقوبية من نصارى نجران: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي النصارى أو العاقب وأصحابه وهم النسطورية منهم: هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا بالغيب من غير دليل ولا برهان وَيَقُولُونَ أي المسلمون أو الملكانية من النصارى: هم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ يا أشرف الخلق رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ من النّاس وكان علي رضي الله عنه يقول: كانوا سبعة وأسماؤهم: تمليخا، مكشليينا مشليتيا، هؤلاء الثلاثة أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش برنوش شاذنوش، وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي

الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفشطيطيوش، واسم كلبه: قطمير. وقال ابن عباس: هم سبعة مكسلمينا تمليخا مرطونس، نينونس ساربونس، ذو نواس فليستطيونس وهو الراعي. وعن ابن مسعود كانوا تسعة وسماهم ابن إسحاق: تمليخا مكسملينا، محسلينا مرطونس، كسوطونس سورس، يكربوس بطسوس قالوس اه. وقال ابن عباس: رضي الله عنهما، خواص أسماء أهل الكهف تنفع لتسعة أشياء: للطلب، والهرب، ولطف الحريق، تكتب على خرقة وترمى في وسط النار تطفأ بإذن الله تعالى، ولبكاء الطفل، والحمى المثلثة، وللصداع: تشد على العضد الأيمن. ولأم الصبيان، وللركوب في البر والبحر، ولحفظ المال، ولنماء العقل ونجاة الآثمين. فَلا تُمارِ فِيهِمْ أي فلا تجادل معهم في عدد الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً بأن لا تكذبهم في تعيين ذلك العدد بل تقول هذا التعيين لا دليل عليه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) أي لا تشاور أحدا من أهل الكتاب في شأن الفتية وَلا تَقُولَنَّ يا أكرم الرسل لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً (23) أي فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا قائلا: إن شاء الله أي لا تقل لشيء في حال من الأحوال إلا في حال تلبسك بالتعليق بالمشيئة بأن تقول: إن شاء الله نزلت هذه الآية حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ائتوني غدا أخبركم» «1» . ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالتسبيح والاستغفار إِذا نَسِيتَ كلمة الاستثناء. وهذا مبالغة في الحث على ذكر هذه الكلمة وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) أي لعل ربي يؤتيني أعظم دلالة على صحة نبوتي من نبأ أصحاب الكهف وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) وهذا إخبار من الله عن مدة لبثهم ردا على أهل الكتاب المختلفين فيها فقال بعضهم: ثلاثمائة، وبعضهم ثلاثمائة وتسع، والسنون عندهم شمسية. فهذان القولان غير ما أخبر الله به من أن السنين ثلاثمائة وتسع قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين، لأن السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة. قرأ حمزة والكسائي «ثلاثمائة» بغير تنوين فهو مضاف ل «سنين» والباقون بالتنوين «فسنين» عطف بيان. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بالزمان الذي لبثوا فيه في نومهم قبل بعثهم أي الله أعلم بحقيقة ذلك وكيفيته فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب. وهذا إشارة إلى أن الإخبار من الله لا من عنده صلّى الله عليه وسلّم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى علم ما خفي من أحوال

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (4: 217) .

أهلهما، لأنه موجدهما ومدبرهما أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصر الله وما أسمعه بكل شيء وهذا التعجب يدل على أن علمه تعالى بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول عنه حائل ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ يتولى أمورهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه تعالى وَلا يُشْرِكُ تعالى فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) فلما حكم تعالى أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولا بخلافه. وقرأ ابن عامر «لا تشرك» بالتاء على الخطاب لكل أحد وبالجزم على النهي أي ولا تسأل أحدا عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف ومن مدة لبثهم في الغار واقتصر على حكمه تعالى ولا تشرك أحدا في طلب معرفة هذه الواقعة وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ولا تسمع لقولهم: أئت بقرآن غير هذا أو بدله لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا قادر على تبديلها وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ تعالى مُلْتَحَداً (27) أي ملجأ تعدل إليه إن هممت بالتبديل للقرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه في كل الأوقات. قرأ ابن عامر «بالغدوة» بضم الغين وسكون الدال. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي مريدين بعبادتهم لرضاه تعالى وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تنصرف عيناك عنهم إلى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ترغب في مجالسة الأغنياء وجميل الصورة وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجالسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي وجدنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا أي عن توحيدنا وَاتَّبَعَ هَواهُ في عبادة الأصنام وَكانَ أَمْرُهُ في متابعة الهوى فُرُطاً (28) أي ضائعا نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري فإنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء منهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه وينسجه فقال عيينة للنبي أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادة مضر وأشرافها إن أسلمنا تسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحهم عنك حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا وقد أسلم هو رضي الله عنه وحسن إسلامه وكان في حنين من المؤلفة قلوبهم فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم منها مائة بعير وكذلك أعطي الأقرع بن حابس، وأعطي العباس بن مرداس أربعين بعيرا. وروى أبو سعيد رضي الله عنه قال: كنت جالسا في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضا من العرى وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ماذا كنتم تصنعون» ؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نسمع فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» ثم جلس وسطنا وقال: «أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف

[سورة الكهف (18) : الآيات 31 إلى 40]

سنة» «1» وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل لأولئك الغافلين هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح، والحسن والخمول والشهرة فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ فالله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحا لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار وهذه الصيغة تهديد وليست بتخيير إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي هيأنا لمن أنف عن قبول الحق لأجل أن من قبلوه فقراء ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها فلا مخلص لهم منها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أي كدردي الزيت أو كالفضة المذابة يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إذا قرب إلى الفم ليشرب سقطت فروة وجهه بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغا عظيما وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) أي وساءت النار منزلا ومجتمعا للرفقة مع الكفار والشياطين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أي لا نبطل ثواب من أخلص عملا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي من تحت مساكنهم الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ويسور المؤمن في الجنة بسوار من ذهب وبسوار من فضة، وبسوار من لؤلؤ فيكون في يده هذه الأنواع الثلاثة وفي الحديث الصحيح تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وهو الديباج اللطيف وَإِسْتَبْرَقٍ وهو الديباج الصفيق فإن الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي ويجلسون في الجنة متربعين على السرر في الحجال وهي بيوت تزين بأنواع الزينة أما السرير وحده فلا يسمى أريكة نِعْمَ الثَّوابُ ذلك وَحَسُنَتْ أي الأرائك مُرْتَفَقاً (31) أي منزلا ومجتمعا للرفقة مع الأنبياء والصالحين وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي بيّن لهؤلاء الذين يطلبون طرد المؤمنين لضعفهم مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين شريكين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو تمليخا لهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال هذا: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم تزوج صاحبه امرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال هذا: اللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا: اللهم إني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريق حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه صاحبه فعرفه

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (16586) ، وأحمد ابن حنبل في الزهد (37) .

فقال له: فلان، قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك فأتيتك لتعينني بخير قال: فما فعل بمالك فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدقين فطرده ووبخه على التصدق بماله وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى فنزل في شأنهما قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ أي بستانين من كروم متنوعة وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطا بالجنتين وَجَعَلْنا بَيْنَهُما أي وسط أرض الجنتين زَرْعاً (32) ليكون كل منهما جامعا للأقوات والفواكه فتأتي هذه الأرض في كل وقت بمنفعة فكانت منافعها متواصلة كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أخرجت ثمرها كل عام وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من ثمرها شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي أجرينا في داخل تلك الجنتين نَهَراً (33) وفي قراءة يعقوب «وفجرنا» بالتخفيف وَكانَ لَهُ أي لصاحب الجنتين ثَمَرٌ. قرأ عاصم بفتح الثاء والميم أي ثمر البستان. وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم. والباقون بضم الثاء والميم في الموضعين، أي أنواع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك فَقالَ أي صاحب الجنتين لِصاحِبِهِ الذي جعل مثلا للفقراء المؤمنين وَهُوَ أي صاحب الجنتين يُحاوِرُهُ أي يراجع صاحبه بالكلام الذي فيه الافتخار بالمال والناس: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) أي أكثر أصحابا من الأولاد وغيرهم، ويقال: وهو أي صاحبه المؤمن يراجه الكافر في الكلام بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي بستانه مع صاحبه يطوف به فيها ويريه حسنها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي ضار لها بكفره وعجبه واعتماده على ماله قالَ استنئاف بيان لسبب الظلم ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) أي ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي وقت البعث قائِمَةً أي حاصلة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامة كما تقول لَأَجِدَنَّ يومئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة مُنْقَلَباً (36) أي عاقبة وسبب هذه اليمين الفاجرة اعتقاده إنما أعطاه الله المال في الدنيا لكرامته عنده تعالى، وهي معه بعد الموت. وقرأ نافع وابن كثير منهما أي الجنتين. قالَ لَهُ أي لصاحب الجنة صاحِبُهُ الذي هو المؤمن وَهُوَ أي المؤمن يُحاوِرُهُ أي يجاوب الكافر بالتوبيخ على شكه في حصول البعث أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي من آدم وهو من تراب ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ لأبيك وأمك ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) أي صيّرك إنسانا ذكرا، وهيّأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله تعالى أمرك فإن من قدر على بدء خلقه من تراب قادر أن يعيده منه وجعل الكفر بالبعث كفرا بالله، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله لكِنَّا أي لكن أنا أقول هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) أي أنت كافر بالله لكني مؤمن به موحد، ثم قال المؤمن للكافر: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ أي وهلا حين دخلت بستانك قُلْتَ عند إعجابك بها: ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر هو الذي شاءه الله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره.

[سورة الكهف (18) : الآيات 41 إلى 50]

وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصره» «1» . إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً (39) وخدما في الدنيا فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي يعطيني في الآخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لإيماني وَيُرْسِلَ عَلَيْها أي على جنتك حُسْباناً أي نارا مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أي فتصير جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها بحيث تزلق الرجل لكفرك أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائصا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أنت لَهُ أي الماء طَلَباً (41) أي حيلة تدركه بها وقوله تعالى: أَوْ يُصْبِحَ عطف على قوله تعالى: فَتُصْبِحَ وإن كان الحسبان بمعنى النار لأنها الحكم الإلهي بتخريب الجنة فيتسبب عنه صيرورتها ترابا أملس، أو صيرورة مائها غائر إثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أهلك ثمر بستانه بالكلية وجميع أمواله فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي صار يضرب إحداهما على الأخرى، وإنما يفعل هذا ندامة عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي في عمارة جنته لأنه أنفق ما يمكن ادخاره من الأموال الكثيرة في مثل هذا الشيء السريع الزوال وقوله: «على ما أنفق» متعلق ب «يقلب» لأنه ضمن معنى يندم كأنه قيل: فأصبح يندم على ما صنع فإنه من عظمت ندامته يصفق إحدى يديه على الأخرى وَهِيَ أي الجنة خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوف الجنة، وهي سقطت على الجدران. وهذه اللفظة كناية عن هلاك البستان بالكلية وَيَقُولُ أي الكافر- تلهفا على تلف المال أي تنبهوا يا قومي-: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وهذا الكافر تذكر كلام المؤمن وعلم إنما هلكت جنته بشؤم شركة فتمنى أن لا يكون مشركا فلم يصبه ما أصابه وَلَمْ تَكُنْ لَهُ أي الكافر فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ بدفع الهلاك عن الجنة أو برد الهالك منها أو بإتيان مثله مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه وحده قادر على ذلك. وقرأ حمزة والكسائي و «لم يكن» بالياء التحتية. والباقون بالتاء الفوقية وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) أي قادرا بنفسه على واحد من هذه الأمور هُنالِكَ الْوَلايَةُ أي في مثل ذلك الوقت وفي ذلك المقام النصرة لِلَّهِ الْحَقِّ فلا يقدر عليها أحد. وقرأ حمزة والكسائي «الولاية» بكسر الواو بمعنى الملك فالمعنى أي في تلك الدار الآخرة السلطان لله. والباقون بفتحها أي النصرة. وقرأ أبو عمرو والكسائي «الحق» بالرفع صفة للولاية. وقرأ الباقون بالجر صفة لله أي الثابت الذي لا يزول هُوَ تعالى خَيْرٌ ثَواباً أي إثابة في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه وَخَيْرٌ عُقْباً (44) أي عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر بضم القاف. وعاصم وحمزة بتسكينها. وقرئ «عقبى» كرجعى والكل بمعنى العاقبة. وَاضْرِبْ لَهُمْ

_ (1) رواه العجلوني في كشف الخفاء (2: 100) . [.....]

أي واذكر للذين افتخروا بأموالهم على فقراء المسلمين مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي صفتها العجيبة في فنائها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي اختلط بعض أنواع النبات ببعضها الآخر بسبب هذا الماء أي صار النبات في المنظر في غاية الحسن فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي فصار النبات بعد بهجتها يابسا مكسورا تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه ولم يبق منها شيء. وقرأ حمزة والكسائي الريح بالتوحيد وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) أي قادرا على الكمال بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا، فأحوال الدنيا كذلك تظهر أولا في غاية النضارة، ثم تتزايد قليلا قليلا، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يفرح به الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقراض فيقبح بالعاقل أن يفتخر به وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبدا من الصلوات الخمس وأعمال الحج وصيام رمضان والطيب من القول خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة ثَواباً فتعود إلى صاحبها وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) فينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يرجوه في الدنيا، لأن صاحب تلك الأعمال يأمل في الدنيا نصيبه من ثواب الله في الآخرة. وللغزالي في هذا وجه لطيف فقال: روي أن من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال: والحمد لله صارت عشرين فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين، فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين. وتحقيق القول في ذلك أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزها عن كل ما لا يليق به، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة، فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الله تعالى مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال، فإذا قال: مع ذلك ولا إله إلّا الله فقد أقر بأنه ليس في الوجود موجود منزه عن كل ما لا ينبغي مبتدئ لإضافة كل ما ينبغي إلا الواحد فإذا قال والله أكبر ومعنى أكبر أي أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة، فكانت درجات الثواب أربعة، فهذه الكلمات الأربع تسمى الباقيات الصالحات وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي واذكر لهم حين نسير أجزاء الجبال عن وجه الأرض بعد أن نجعلها غبارا مفرقا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «تسير الجبال» بالتاء الفوقية بالبناء للمفعول وبرفع الجبال. وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لكل أحد. وقرئ على صيغة البناء للمفعول بارِزَةً أي ظاهرة ليس عليها ما يسترها من جبال وأشجار وبناء وحيوان وظل وبحار وَحَشَرْناهُمْ أي جمعنا الخلائق إلى الموقف من كل أوب للسحاب فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أي لم نترك من الأولين والآخرين أَحَداً (47) إلا وجمعناهم لذلك اليوم عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ كعرض الجند على السلطان

[سورة الكهف (18) : الآيات 51 إلى 60]

ليقضي بينهم صفًّا أي مصطفين وقد ورد في الحديث الصحيح: «يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا» «1» وفي حديث آخر: «أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون» «2» اهـ. مقولا لهم: لقَدْ جِئْتُمُونا كائنين كما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حفاة عراة غرلا بلا أموال وأعوان بلْ زَعَمْتُمْ في الدنيا ألَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً أي وقتا للبعث وَوُضِعَ الْكِتابُ أي وضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده اليمنى إن كان مؤمنا وفي يده اليسرى إن كان كافرا فقد تطايرت الكتب إلى أيدي الخلق مثل الثلج فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي المشركين والمنافقين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة أي يحصل لهم خوف العقاب من الله بذنوبهم وخوف الفضيحة عند الخلق بظهور الجرائم لأهل الموقف وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في الكتاب من السيئات يا وَيْلَتَنا أي يا هلكتنا مالِ هذَا الْكِتابِ أي أيّ شيء له لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من أعمالنا إِلَّا أَحْصاها أي عدها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات حاضِراً أي مكتوبا في صحفهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) فلا ينقص من حسنات أحد ولا يزيد على سيئات أحد وَإِذْ قُلْنا أي واذكر لهم وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا جميعا امتثالا بالأمر إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه لم يسجد بل تكبر على آدم، لأنه افتخر بأصله كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من نوع الجن الذين هم الشياطين فالذي خلق من نار هو أبوهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعته بترك السجود أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ أي أبعد ما وجد من إبليس ما وجد تتخذونه وذريته أصدقاء يا بني آدم مِنْ دُونِي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي والحال أن إبليس وذريته لكم أعداء بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) من الله تعالى في الطاعة إبليس وذريته وعن مجاهد قال: ولد إبليس خمسة بتر والأعور وزلنبور ومشوط، وداسم، فبتر: صاحب المصائب، والأعور: صاحب الزنا زلنبور الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب غيره ومشوط صاحب الصخب والأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ولا يجدون لها أصلا وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله دخل معه وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه ما أَشْهَدْتُهُمْ أي ما أحضرت إبليس وذريته خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإني خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ

_ (1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة 17، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 327، والترمذي في كتاب القيامة، باب: 10، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في سجود المؤمنين يوم القيامة، وأحمد في (م 1/ ص 4) . (2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (19: 419) ، والطحاوي في مشكل الآثار (1: 156) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (34512) .

للناس وهم الشياطين عَضُداً (51) أي أعوانا في شأن الخلق حتى يتوهم شركتهم بي في بعض أحكام الربوبية. والمعنى ما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بفضائل لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس، فكيف تطيعونهم يا بني آدم: وَيَوْمَ يَقُولُ أي واذكر لهم يا أشرف الخلق أحوال المشركين وآلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله تعجيزا. وقرأ حمزة بنون العظمة. نادُوا شُرَكائِيَ أي نادوا آلهتكم التي قلتم: إنهم شركائي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي عبدتم ليمنعوكم من عذابي فَدَعَوْهُمْ للإغاثة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ إلى ما دعوهم إليه وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي المشركين وآلهتهم مَوْبِقاً (52) أي حاجزا بعيدا أو واديا في جهنم من قيح ودم، وذلك أن المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة الملائكة وعزيرا، وعيسى ومريم عليهم السلام دعوا هؤلاء فلم يجيبوهم استهانة بهم، واشتغالا بأنفسهم، ثم حيل بينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم، وأدخل عزيرا وعيسى ومريم الجنة، وسار الملائكة إلى حيث أراد الله من الكرامة وحصل بين الكفار ومعبوديهم هذا الحاجز وهو ذلك الوادي وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون النَّارَ من مكان بعيد فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) أي معدلا إلى غيرها، لأن الملائكة تسوقهم إليها وَلَقَدْ صَرَّفْنا أن ذكرنا على وجوه كثيرة فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ أي لمنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان التي هي في الغرابة كالمثل ليتلقوه بالقبول فلم يفعلوا وَكانَ الْإِنْسانُ بجبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) أي وكان خصومة الإنسان بالباطل أكثر شيء فيه وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن الهادي إلى الإيمان وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ عما فرط منهم من الذنوب إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي إلا طلب إتيان سنتنا في الأولين وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55) . وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بضم القاف والباء. أي أنواعا من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء، والباقون بكسر القاف وفتح الباء أي عيانا. وقرئ بفتحتين أي مستقبلا. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على أفعال الطاعة وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على أفعال المعصية وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا المرسلين بِالْباطِلِ أي باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليبطلوا بجدالهم الشرائع وَاتَّخَذُوا آياتِي التي هي معجزات الرسل وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم بالعذاب هُزُواً (56) أي سخرية. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي ليس أحد أظلم ممن وعظ بالقرآن فَأَعْرَضَ عَنْها أي فصرف عن تلك الآيات ولم يتدبرها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي تغافل عن كفره وذنوبه ولم يتفكر في عاقبته إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي مانعة من أن يفهموا القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما مانعا من استماعه وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى التوحيد فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) أي فلن

[سورة الكهف (18) : الآيات 61 إلى 70]

يوجد منهم اهتداء ألبتة مدة التكليف وَرَبُّكَ الْغَفُورُ أي البليغ لستر ذنوبهم بالحلم عنها إلى وقت آخر ذُو الرَّحْمَةِ بتأخير العقوبة عنهم لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد الله مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ أي وقت لهلاكهم لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ أي العذاب مَوْئِلًا (58) أي مرجعا فمن يكون مرجعه العذاب فلا يوجد منه الخلاص وَتِلْكَ الْقُرى أي وأهل قرى عاد وثمود وأمثالهما أَهْلَكْناهُمْ في الدنيا لَمَّا ظَلَمُوا أي حين كفروا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) أي وقتا معينا لا يتأخرون عنه. وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام أي لوقت هلاكهم، والباقون بضم الميم وفتح اللام أي لإهلاكنا إياهم وَإِذْ قالَ أي واذكر حين قال مُوسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف عليه السلام وكان يوشع من أشراف بني إسرائيل، وإنما سمي فتى موسى عليه السلام لأنه كان يخدمه، وكان موسى عليه السلام وقع في قلبه أن ليس في الأرض أحد أعلم مني فقال الله: يا موسى إن لي في الأرض عبدا أعبد لي منك وأعلم وهو الخضر، فقال موسى: يا رب دلني عليه، فقال الله له: خذ سمكا مالحا وامض على شاطئ البحر حتى تلقى صخرة عندها عين الحياة فانضح على السمكة منها حتى تحيا السمكة فثم تلقى الخضر فأخذ حوتا، فجعله في مكتل فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان لا أَبْرَحُ أي لا أزال سائرا حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أي ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) أو أسير زمانا طويلا أتيقن معه فوات الطلب أو أسير ثمانين سنة فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي بلغا موضعا يجتمع فيه موسى وصاحبه الذي كان يقصده وهو الخضر نَسِيا حُوتَهُما أي نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره وقد جعل فقدانه أمارة لوجدان المطلوب. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) أي فأدركته الحياة بسبب برد الماء الذي أصابه فتحرك في المكتل، فخرج منه وسقط في البحر، فاتخذ الحوت في البحر مسلكا كالسرب. قيل: إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت فَلَمَّا جاوَزا أي موسى وفتاه مجمع البحرين، وذهبا كثيرا، وألقي على موسى الجوع قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا الذي بعد مجاوزة الصخرة نَصَباً (62) أي تعبا. قيل: إن موسى لم يتعب ولم يجع قبل ذلك قالَ أي فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي أأبصرت حالنا إذ قمنا عند الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي خبر الحوت وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء أي وما أنساني ذكر أمر الحوت لك إلا الشيطان بوسوسته الشاغلة عن ذلك. وقرأ حفص بضم الهاء «من أنسانيه» . وَاتَّخَذَ أي الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالسرب فلم يلتئم الماء وجمد ما تحت الحوت منه

[سورة الكهف (18) : الآيات 71 إلى 80]

حتى رجع موسى إليه فرأى مسلكه وكون الحوت قد مات وأكل شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك قالَ أي موسى: ذلِكَ أي الذي ذكرت من أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ أي الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفا، وابن كثير أثبتها في الحالين. والباقون حذفوها في الحالين اتباعا للرسم. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) أي فرجعا مفتشين آثارهما أو فاقتصا على آثارهما اقتصاصا حتى آتيا الصخرة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا وهو الخضر واسمه: بليا بن ملكان، وكنيته أبو العباس وهو من نسل نوح، وكان أبوه من الملوك الذين تزهدوا وتركوا الدنيا. وروي أنهما وجدا الخضر وهو نائم على وجه الماء وهو مغطى بثوب أبيض أو أخضر، طرفه تحت رجليه والآخر تحت رأسه فسلم عليه موسى فرفع رأسه واستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال له موسى: ومن أخبرك إني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي ودلّك علي. والصحيح أن الخضر نبي، وذهب الجمهور إلى أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي أكرمناه بالنبوة- كما قاله ابن عباس- وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) وهو علم الغيوب قالَ لَهُ مُوسى على سبيل التأدب والتلطف في ظرف الاستئذان هَلْ أَتَّبِعُكَ أي أصحبك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلا لا وقفا، وابن كثير في الحالين، والباقون حذفوها. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) أي علما يرشدني في ديني. وقرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح الراء والشين، والباقون بضم الراء وتسكين الشين. قال له الخضر: كفى بالتوراة علما وببني إسرائيل شغلا. فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا فحينئذ قالَ له الخضر: يا موسى إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) أي على ما لم تعلم به بيانا وحكمة، أي إنك يا موسى لا تصبر على أمور لم تعلم حقائقها يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه، أي وهو علم الكشف وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أي وهو علم ظاهر الشريعة. قالَ له موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) عطف على «صابرا» ، أي ستجدني صابرا على ما أرى منك وغير مخالف لأمرك قالَ له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أي صحبتني فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي ولو منكرا بحسب علمك الظاهر حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) أي حتى أبتدئ بإخبارك ببيان ذلك الشيء. وقرأ ابن عامر «فلا تسألن» بالنون المثقلة وبغير ياء. وروي عنه «تسألني» مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع، وقرأ باقي السبعة بسكون اللام وتخفيف النون، وقرأ أبو جعفر هنا «تسلن» بفتح السين واللام وتشديد النون من غير همز. فَانْطَلَقا أي موسى والخضر عليهما السلام على

الساحل يطلبان السفينة، وأما يوشع فقد صرفه موسى إلى بني إسرائيل أو كان معهما وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى فاكتفى بذكر المتبوع عن التابع. فالمقصود ذكر موسى والخضر حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها أي ثقبها الخضر. وعن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مرت بهم سفينة فكلموا أهلها أن يحملوهم فعرفوا الخضر بعلامة فحملوهم بغير نول فلما لجوا- أي وصلوا- إلى الماء الغزير أخذ الخضر فأسا وأخرج بها لوحا من السفينة» . قالَ له موسى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها أي لتغرق أنت أهل هذه السفينة، وقرأ حمزة والكسائي «ليغرق أهلها» بالياء المفتوحة وفتح الراء ورفع «أهلها» . لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) أي لقد فعلت شيئا عظيما شديدا على القوم. روي أن الماء لم يدخل السفينة. وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى به الخرق قالَ له الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أي بما تركت من وصيتك أول مرة أو هذا من التورية وإيهام خلاف المراد فيتقي موسى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض وهو بسط عذره في الإنكار، فالمراد بما نسيه شيء آخر غير الوصية لكنه أوهم أنها المنسية وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) أي لا تكلفني مشقة في أمر صحبتي إياك فقبل الخضر عذر موسى فخرجا من السفينة فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً بين قريتين لم يبلغ الحنث يلعب مع عشر صبيان كان وضيء الوجه اسمه «خيشور» فأخذه الخضر فَقَتَلَهُ بذبحه مضطجعا بالسكين أو بفتل عنقه قالَ له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي بريئة من الذنوب بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس محرمة. وقرأ نافع وابن كثيرون وأبو عمرو بألف بعد الزاي وبتخفيف الياء، والباقون بالتشديد وبدون ألف. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) أي لقد فعلت فعلا منكرا قالَ الخضر أَلَمْ أَقُلْ لَكَ يا موسى زاد الخضر لك هنا تقريعا لموسى وتحاملا في الخطأ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قيل: إن يوشع كان يقول لموسى يا نبي الله اذكر العهد الذي أنت عليه قالَ موسى: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي أي لا تجعلني صاحبك. وقرئ لا تصحبني بضم التاء وسكون الصاد قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) أي قد وجدت من قبلي عذرا حيث خالفتك ثلاث مرات، قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم في بعض الروايات بتخفيف النون وضم الدال، وفي بعض الروايات عن عاصم بضم اللام وسكون الدال. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ بعد الغروب في ليلة باردة ممطرة وهي أنطاكية أو أبرقة اسْتَطْعَما أَهْلَها أي طلبا من أهلها الخبز على سبيل الضيافة فإقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد.

وعن أبي هريرة قال: أطعمتهما امرأة من أهل بربرة بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعوا لنسائهم ولعنا رجالهم فقوله تعالى: «استطعما» جواب «إذا» أو صفة ل «قرية» . فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا أهل قرية لئاما فَوَجَدا فِيها أي القرية جِداراً مائلا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يقرب من السقوط وكان ارتفاعه مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعا وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع فَأَقامَهُ أي رفعه الخضر بيده فاستقام أو مسحه بيده فاستوى أو هدمه ثم بناه قالَ موسى: لَوْ شِئْتَ يا خضر لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) أي طلبت على عملك أجرة تصرفها إلى تحصيل المطعوم، وتحصيل سائر المهمات أي كان ينبغي لك أن تأخذ منهم جعلا على فعلك لتقصيرهم فينا مع حاجتنا وليس لنا في إصلاح الجدار فائدة فهو من فضول العمل. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسيانا، والوسطى شرطا، والثالثة عمدا» «1» قيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر أنها حجة على موسى وعتب عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك للقبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر؟ قالَ له الخضر: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي هذا الإنكار على ترك الأجر سبب فراق حصل بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) السين للتأكيد لا للاستقبال لعدم تراخي التنبئة أي أظهر لك بيان وجه ما لم تصبر عليه أي حكمة هذه الأمور الثلاثة قبل فراقي لك. أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيعيرون بالناس مؤاجرين للسفينة لحمل الأمتعة ونحوها كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر فأما العمال منهم. فأحدهم: كان مجذوما. والثاني: كان أعور. والثالث: كان أعرج. والرابع: كان آدر. والخامس: كان محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم.

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (1: 317) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4: 28) .

[سورة الكهف (18) : الآيات 81 إلى 90]

والخمسة: الذين لا يطيقون العمل أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أن أجعلها ذات عيب وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم كما قرأ به ابن قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير. مَلِكٌ كافر اسمه: هدد بن بدد أو جلندى ابن كرر. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة- كما قرأ بذلك ابن عباس وابن جبير. غَصْباً (79) من أصحابها ولم يكن عندهم علم به فلذلك ثقبتها فإذا جاوزوا الملك أصلحوها وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ من عظماء تلك القرية اسم الأب كازبرا واسم الأم سهوا. فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أي فخفنا أن يحمل الوالدين المؤمنين طُغْياناً وَكُفْراً (80) لمحبتهما له. وقرئ «فخاف ربك» أي كره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر أن يلحق الوالدين معصية وكفرا، أو يقال: فعلم ربك أن يوقعهما في الكفر، وقيل: إن أبويه فرحا به حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض العبد بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقيل: كان الغلام رجلا كافرا لصا قتالا فمن ذلك قتله الخضر، وكان اسمه: جيسور فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وطهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) أي عطفا بأبويه وأوصل رحما بأن يكون أبر بهما. قال ابن عباس: أبدلا بنتا ولدت نبيا وهو الذي كان بعد موسى الذي قالت له بنو إسرائيل: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وكان اسمه: شمعون. وقرأ أبو عمرو ونافع بفتح الياء وتشديد الدال، هنا وفي التحريم وفي القلم. وقرأ ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو «رحما» بضم الحاء. وَأَمَّا الْجِدارُ الذي سويته فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ هما أصرم وصريم ابنا كاشح وأمهما دنيا فِي الْمَدِينَةِ وهي المعبر عنها أولا بالقرية تحقيرا لها لخسة أهلها وعبر عنها هنا بالمدينة تعظيما لها من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وأبيهما وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان ذهبا وفضة» «1» رواه البخاري في تاريخه، والترمذي والحاكم ، وقيل: كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن: وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب: وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح: وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل: وعجبت لمن يعرف الدنيا

_ (1) رواه ابن الجوزي في زاد المسير (5: 163) ، وابن حجر في فتح الباري (11: 550) ، والطبري في التفسير (15: 185) ، والقرطبي في التفسير (11: 18) ، وابن كثير في التفسير (5: 172) .

وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً وهذا يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وقد روي أن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي قوتهما وكمال رأيهما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما أي دفينهما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته وضاع بالكلية رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له وعامله «أراد» أي نعمة لهما من ربك أو عامله مقدر أي فعلت هذه الأفعال وحيا من ربك. وَما فَعَلْتُهُ أي ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عَنْ أَمْرِي أي عن اجتهادي ورأيي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) أي ذلك الأجوبة الثلاثة تفسير ما لم تصبر عليه من الوقائع الثلاثة وحذف التاء بعد السين هنا للتخفيف. روي أن موسى عليه السلام لما أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. وقيل: إن الخضر لما أراد أن يفارق موسى قال له موسى: أوصيني، قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك با ابن عمران. وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي يسألك يا أشرف الخلق أهل مكة عن خبر ذي القرنين: اسمه: إسكندر بن فيلفوس اليوناني، كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة، وألبسه الهيبة، وكان وزيره الخضر. والصحيح أنه لم يكن نبيا وإنّما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم، ودانت له البلاد وكان داعيا إلى الله. قُلْ لهم في الجواب: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) أي سأذكر لكم من حال ذي القرنين خبرا مذكورا. «والسين» للتأكيد وللدلالة على التحقق. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي إنا جعلنا له قدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وعلى الأسباب حيث سخر له السحاب وبسط له النور، وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في إصلاح ملكه سَبَباً (84) أي طريقا يوصله إلى ذلك الشيء المقصود كآلات السير وكثرة الجند فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) أي فأخذ طريقا يوصله إلى استقصاء بقاع الأرض ليملأها عدلا حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يمكن أحد من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له: أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ في رأى العين فِي عَيْنٍ أي بحر محيط حَمِئَةٍ أي ذات طين أسود شديد السخونة كما يدل عليه قراءة شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر حامية بألف بعد الحاء وبياء بعد الميم، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين قَوْماً كفارا لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما يلفظه البحر من السمك قُلْنا بإلهام: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) أي أمرا ذا حسن بأن تتركهم أحياء. قالَ أي ذو القرنين: أَمَّا مَنْ

[سورة الكهف (18) : الآيات 91 إلى 100]

ظَلَمَ نفسه باستمراره على الكفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل بعد طول الدعاء إلى الإسلام ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً (87) أي شديدا وهو عذاب النار وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بسبب دعوتي وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى. قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بنصب «جزاء» أي فله الجنة في الآخرة من جهة الجزاء. وقرأ الباقون برفعه والإضافة أي فله في الدارين جزاء الفعلة الحسنى التي هي الإيمان والعمل الصالح وَسَنَقُولُ لَهُ أي لمن آمن مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) أي قولا سهلا مما نأمره به من الزكاة والخراج وغيرهما ولا نأمره بالصعب الشاق ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) أي ثم أخذ ذو القرنين طريقا نحو المشرق من جهة الجنوب حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي موضع طلوعها من معمورة الأرض وَجَدَها أي الشمس تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم الزنج لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها أي الشمس سِتْراً (90) من اللباس فيكونون عراة أبدا فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين فيهم كأمره في أهل المغرب فحكم في أهل المطلع كما حكم في أهل المغرب من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) أي وقد علمنا بما كان عند ذي القرنين من الخبر ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) أي ثم سلك ذو القرنين طريقا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا نحو الروم من الجنوب إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي بين الجبلين العاليين الأملسين فلا يستطاع الصعود عليهما في آخر بلاد الترك مما يلي المشرق ويسمى كل منهما سدا، لأنه سد فجاج الأرض وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي من ورائهما مجاوزا عنهما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) أي أمة من الناس لا يقربون يفهمون قول غيرهم لقلة فطنتهم، وفي قراءة حمزة والكسائي ضم الياء وسكون الفاء وكسر القاف أي لا يفهمون الناس كلامهم لغرابة لغتهم وهم من أولاد يافث وذو القرنين من أولاد سام. قال أهل التاريخ: أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام، وحام، ويافث. أما سام: فهو أبو العرب والعجم والروم. وأما حام: فهو أبو الحبشة والزنج والنوبة. وأما يافث: فهو أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج قالُوا لذي القرنين- بواسطة ترجمان ممن هو مجاورهم، ويفهم كلامهم، أو بغير ترجمان على أن فهم ذي القرنين كلامهم وإفهام كلامه إياهم من جملة ما أعطاه الله تعالى من الأسباب-: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا يأكلون كل شيء أخضر، ويحملون كل شيء يابس، ويقتلون أولادنا وسمى يأجوج ومأجوج لكثرتهم. وروى حذيفة حديثا مرفوعا: «أن يأجوج أمة ومأجوج أمة فكل أمة أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألف ذكر من صلبه كلهم قد حملوا السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى

خراب الدنيا وهم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال شجر الصنوبر طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية» فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً. وفي قراءة حمزة والكسائي بفتح الراء مع مده، والباقين بسكون الراء فقيل: الخرج. ما كان على كل رأس. والخراج: ما كان على البلد، وقيل: الخرج ما كان بالتبرع. والخراج: ما يلزم أداؤه. عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ أي يأجوج ومأجوج سَدًّا (94) أي حاجزا بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا قالَ ذو القرنين: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما جعلني فيه ربي قادرا من المال الكثير والملك الواسع وسائر الأسباب خير مما تعرضون علي من الجعل فلا حاجة بي إليه. وقرأ ابن كثير «مكنني» بفك الإدغام فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بآلات الحدادين وبصناع يحسنون البناء والعمل أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) أي حاجزا حصينا وبرزخا متينا وهو أكبر من السد وأوثق آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ بمد الهمزة أي أعطوني قطع الحديد الكبيرة. وقرأ حمزة «ائتوني» بوصل الهمزة في الموضعين، ووافقه أبو بكر هنا وخالفه في الموضع الثاني، والمعنى جيئوني بزبر الحديد، ف «زبر» على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض وحفر ذو القرنين الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان طوله مائة فرسخ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين طرفي الجبلين بالبناء أي إنهم جاءوا ذا القرنين بزبر الحديد فشرع يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساويا لها في السمك وكان ارتفاعه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعا ووضع المنافخ والنار حول ذلك قالَ للعملة: انْفُخُوا بالكيران في الحديد المبني فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي إذا جعل الحديد مثل النار قالَ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها: آتُونِي أي أعطوني نحاسا مذابا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) أي أصب على الحديد المحمى نحاسا مذابا فأفرغه عليه فدخل مكان الحطب والفحم فامتزج بالحديد والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا وهذه كرامة عظيمة حيث صرف الله تأثير الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين والمفرغين للقطر فَمَا اسْطاعُوا بحذف تاء بعد السين أي فلم يقدر يأجوج ومأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ أي أن يعلوا ظهر الجبل لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) أي خرقا من أسفله لصلابته وثخنه، لأنه كان خمسين ذراعا وكان ارتفاعه مائتي ذراع وكان طول السد على وجه الأرض مائة فرسخ ومسيرة الفرسخ ساعة ونصف، فتكون مسيرة السد مائة وخمسين ساعة مسيرة اثني عشر يوما ونصف قالَ أي ذو القرنين لمن عنده: هذا السد

[سورة الكهف (18) : الآيات 101 إلى 110]

رَحْمَةٌ أي نعمة عظيمة مِنْ رَبِّي على جميع الخلق فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي وقت وعد ربي بخروج يأجوج ومأجوج جَعَلَهُ أي هذا السد دَكَّاءَ بالمد أي أرضا مستوية. وقرئ «دكا» أي مكسورا حتى يصير ترابا وَكانَ وَعْدُ رَبِّي بخروجهم وقت قرب الساعة حَقًّا (98) أي صدقا وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي صيرنا بعض يأجوج ومأجوج يوم خروجهم من السد يختلط ببعضهم الآخر من شدة الازدحام عند خروجهم لكثرتهم، وذلك عقب موت الدجال فينحاز عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور فرارا منهم. روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ولا يصلون إلى من تحصن منهم بورد أو ذكر ويحبس نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار فيتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء فيسلط الله تعالى دودا في أنوفهم أو آذانهم فيموتون به، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلّا ملأه رممهم ونتنهم، فيتوجه نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل سبحانه وتعالى عليهم طيرا فتلقيهم في البحر، ثم يرسل مطرا يغسل الأرض حتى تصير كالمرآة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الغنم والإبل حتى إن اللقحة لتكفي الجماعة الكثيرة فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة ثانية للبعث فَجَمَعْناهُمْ أي يأجوج ومأجوج وغيرهم جَمْعاً (99) أي جمعا عجيبا بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) أي أظهرناها لهم مع قربهم منها يوم إذ جمعنا الخلائق كافة إظهارا هائلا فذلك يجري مجرى عقابهم لحصول الغم العظيم بسبب رؤيتها وسماعها تغيظا وزفيرا الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ أي أعين قلوبهم في الدنيا فِي غِطاءٍ أي غشاوة كثيفة عَنْ ذِكْرِي على وجه يليق بشأني وعن كتابي فلا يهتدون به وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) إلى قراءة القرآن فلا يؤمنون به. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفروا بي مع جلالة شأني فظنوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي من الملائكة وعيسى وعزير أَوْلِياءَ أي معبودين ينصرونهم من عذابي. والمعنى أفظنوا أنهم ينتفعون بمن عبدوه من عبادي مع إعراضهم عن تدبر الآيات السمعية والمشاهدة. وقرأ أبو بكر «أفحسب الذين كفروا» بسكون السين ورفع الباء، وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أي أفكافيهم اتخاذهم ذلك من دون طاعتي إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا (102) أي منزلا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) في الآخرة الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي بطل عملهم

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعيهم لا بضل وذلك كالعتق، والوقف، وإغاثة الملهوف، لأن الكفر لا تنفع معه طاعة وَهُمْ يَحْسَبُونَ أي والحال أنهم يظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أي يحسنون في أعمالهم بالإتيان بها على وجه اللائق ويحسبون أنهم ينتفعون بآثارها. قيل: المراد بهم أهل الكتابين. وقيل: الرهبانية الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة وجملة وهم يحسبون حال من فاعل ضل، وهو أولى من كونها حالا من المضاف إليه أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي بدلائله الداعية إلى توحيده عقلا ونقلا وَلِقائِهِ أي وكفروا بالبعث بعد الموت وبرؤيته تعالى في الآخرة فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت لإنكارهم الدلائل فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) أي فلا نجعل لمن حبطت أعمالهم حبوطا كليا يوم القيامة قدر إبل نزدري بهم فليس لهم عندنا قيمة أصلا ولا يوزن من خيراتهم قدر ذرة ذلِكَ جَزاؤُهُمْ أي ذلك الذي ذكرناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم جَهَنَّمُ عطف بيان للخبر بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على وحدانيتي وَرُسُلِي المؤيدين بالمعجزات هُزُواً (106) أي مهزوءا بهما إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بآيات ربهم ولقائه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) أي منزلا خبر كانت ولهم متعلق بمحذوف حال من نزلا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا (108) أي لا يطلبون تحولا إلى غيرها وهذا يدل على غاية الكمال فلا مزيد عليها في خيرات الجنة حتى يريد أشياء غيرها، فإن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت من السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها. وعن كعب أنه قال: ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام، والفردوس أعلاها. وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإن فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي قل يا أشرف الخلق لو كان ماء البحر مداد التحرير كلمات علم ربي وحكمته لنفد البحر مع كثرته في كتابتها ولم يبق منه شيء لتناهيه من غير أن تنفد كلمات ربي لعدم تناهيها. وقرأ حمزة والكسائي «ينفد» بالياء التحتية. وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل ماء البحر مَدَداً (109) أي زيادة لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي. وقيل: هنا بمعنى غير، أو بمعنى دون. وروي أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم تقرأون وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فنزلت هذه الآية أي إن ذلك الحكمة خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله ثم أمر الله تعالى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يسلك طريقة التواضع فقال: قُلْ لهم بعد ما بينت لهم شأن كلماته تعالى: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدعي الإحاطة بكلماته تعالى التامة

يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات. أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له في الخلق ولا في سائر أحكام الألوهية وإنما تميزت عنكم بذلك الوحي، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي فمن استمر على رجاء كرامته تعالى فَلْيَعْمَلْ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة عَمَلًا صالِحاً لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء. روي أن جندب بن زهير العامري قال لرسول صلّى الله عليه وسلّم: إني لأعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه» «1» . فنزلت هذه الآية تصديقا له وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لك أجران أجر السر وأجر العلانية» «2» . فالرواية الأولى: محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة. والرواية الثانية: محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به. والمقام الأول مقام المبتدئين والمقام الثاني مقام الكاملين. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين آمين. (تم الجزء الأول من تفسير مراح لبيد. ويليه الجزء الثاني أوله سورة مريم)

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8: 165) «بما معناه» . (2) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: الثناء الحسن، والترمذي في كتاب الزهد، باب: 49.

سورة مريم

[الجزء الثاني] سورة مريم مكية، ثمان وتسعون آية، تسعمائة واثنتان وستون ثلاثة آلاف وثلاثمائة وحرفان كهيعص (1) وهو من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وقيل: هو ثناء من الله على نفسه، وهو وصفه تعالى بأنه كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم بأمرهم، صادق في وعده. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ، فإن جعلت كهيعص اسما للسورة على ما عليه اتفاق أكثر العلماء، فهي مبتدأ وخبره ذِكْرُ أي المسمى كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) ، أي إصابة الله رحمته عبده زكريا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) ، فإنه أدخل في الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى الخلاص، عن لوم الناس على طلب الولد في زمان الشيخوخة. قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف بدني، وإنما أسند الضعف إلى العظم لأنه دعامة الجسد، فإذا ضعف كان غيره أضعف. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، أي أخذ رأسي شمطا، وقد صار مثل شواظ النار. وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) أي ولم أكن بدعائي إياك يا رب خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل، بل كلما دعوتك استجبت لي وقد توسّل سيدنا زكريا عليه السلام، بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة بعد ذكر ما يتسبب للرأفة من كبر السن، وضعف الحال. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ، أي الذين يخلفونني في السياسة، وفي القيام بأمر الدين. مِنْ وَرائِي، أي بعد موتي، وهم بنو عمه عليه السلام، وكانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف عليه السلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، ويبدّلوا عليهم دينهم، وقوله: مِنْ وَرائِي متعلق بمحذوف أي فعل الموالي، أو جور الموالي لا ب «خفت» لفساد المعنى. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها. فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أي أعطني من محض فضلك الواسع، وقدرتك الباهرة. وَلِيًّا (5) أي ولدا من صلبي. يَرِثُنِي، من حيث العلم والدين والنبوة. وَيَرِثُ الملك. مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، بن إسحاق، بن إبراهيم عليه السلام، لأن زوجة زكريا هي أخت مريم، وكانت من ولد سليمان بن داود، من ولد يهوذ بن يعقوب. أما زكريا فهو من ولد هارون أخي موسى، وهما من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحاق.

[سورة مريم (19) : الآيات 11 إلى 20]

وقرأ أبو عمرو والكسائي «يرث» في الكلمتين بالجزم على جواب الأمر، والباقون بالرفع على أنه صفة. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) أي مرضيا عندك قولا وفعلا. قال تعالى بواسطة الملك جبريل: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ، أي ولد يرث العلم والنبوة في حياتك فإنه قتل قبل موت أبيه اسْمُهُ يَحْيى لإحيائه رحم أمه بعد موته بالعقم. لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) ، أي شريكا له في الاسم حيث لم يكن قبل يحيى أحد يسمّى بيحيى، وقيل: أي شبيها في الفضل والكمال، فإنه لم يعص ولم يهم بمعصية من حال الصغر، وأنه صار سيّد الشهداء على الإطلاق. قالَ زكريا: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي من أين يكون لي ولد، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي والحال أنه قد صارت امرأتي لم تلد قط، وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) ، أي يبوسا. وقرأ أبي ابن كعب وابن عباس «عسيا» بالسين غير المعجمة قالَ أي الله تعالى: كَذلِكَ أي الأمر، ذلك الوعد، من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما، قالَ رَبُّكَ هُوَ، أي خلق يحيى منكما على حالتكما، عَلَيَّ خاصة هَيِّنٌ، وإن كان في العادة مستحيلا. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) أي وقد أوجدتك يا زكريا من قبل يحيى، والحال أنك إذ ذاك عدم بحت. وقرأ حمزة والكسائي «خلقناك» . قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي علامة تدلني على حصول حبل امرأتي قالَ أي الله تعالى: آيَتُكَ على تحقق المسؤول أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ، أي أن لا تقدر على أن تكلم الناس ثَلاثَ لَيالٍ مع أيامهن، سَوِيًّا (10) ، أي حال كونك سليم الجوارح، لم يحدث بك مرض ولا خرس. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ، أي من المصلى، وهم اجتمعوا ينتظرون فتح الباب ليصلّوا فيه بإذنه على العادة، فخرج إليهم للإذن وهو لا يتكلم، متغيرا لونه فأنكروه، فقالوا: ما لك يا نبي الله فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار إليهم، أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) ، أي صلوا صلاة الفجر، وصلاة العصر. قال الله تعالى ليحيى بعد ما بلغ: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ، أي اعمل بما في التوراة بجدّ، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ أي الفهم في التوراة والفقه في الدين. صَبِيًّا (12) ، أي في صغره. وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ، فهو ممن «أوتي الحكم صبيا» . روي أنه عليه السلام دعاه الصبيان إلى اللعب فقال: ما للعب خلقنا. وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً، أي وأعطينا تعظيما من عندنا على يحيى، حيث جعلناه نبيا وهو صغير، وتشريفا له. ويقال: وأعطينا يحيى رحمة من لدنّا على زكريا وتزكية له، عن أن يصير مردود الدعاء. ويقال: وأعطينا يحيى تعطفا منا على أمته لعظم انتفاعهم بإرشاده، وتوفيقا للتصدق عليهم، وتطهيرا منا عن الالتفات لغيرنا، وَكانَ تَقِيًّا (13) . بطبعه، ومن جملة تقواه، أنه كان يتقوّت

[سورة مريم (19) : الآيات 21 إلى 30]

بالعشب وكان كثير البكاء، فكان لدمعه مجار على خدّه. وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ ، أي لطيفا بهما، محسنا إليهما. وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً أي متكبرا في دينه. عَصِيًّا (14) ، أي عاصيا لربه، عاقا بوالديه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ ، أي أمان من الله تعالى على يحيى. يَوْمَ وُلِدَ ، من أن يناله الشيطان. وَيَوْمَ يَمُوتُ ، من فتنة القبر، وَيَوْمَ يُبْعَثُ ، من القبر حَيًّا (15) ، من هول القيامة، وهذا تنبيه على كونه عليه السلام من الشهداء. وَاذْكُرْ ، يا أكرم الرسل للناس، فِي الْكِتابِ أي هذه السورة مَرْيَمَ أي قصتها، إِذِ انْتَبَذَتْ أي اعتزلت، مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) أي شرقي بيت المقدس، وشرقي دارها، لتتخلى هناك للعبادة. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً أي فأرخت لأجل منع رؤية أهلها سترا لتغتسل من حيضها، فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا رسولنا جبريل، فَتَمَثَّلَ لَها بعد فراغها من الاغتسال، وبعد لبسها ثيابها، بَشَراً سَوِيًّا (17) أي لم ينقص من الصورة البشرية شيئا. وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحّولت إلى بيت خالتها، وإذا طهرت عادت إلى المسجد، فلما طهرت وهي في مغتسلها، أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها في صورة آدمي شاب أمرد، وضيء الوجه، جعد الشعر، كامل البدن لم ينقص من حسان نعوت الآدمية شيئا. وقيل: تمثّل في صورة ترب لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس، لتستأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى، قالَتْ أي مريم: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) أي مطيعا لله، يرجى منك أن تتقي الله، ويحصل ذلك بالاستعاذة به، فإني عائذة به منك. وقيل: كان في ذلك الزمان، رجل فاجر اسمه تقي، يتبع النساء، فظنت مريم أن ذلك المشاهد هو ذلك التقي، فمن ذلك تعوّذت منه، وخصّت الرحمن بالذكر ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه. قالَ لها جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الذي استعذت به، لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) ، أي لأكون سببا في هبة ولد طاهر من الذنوب، بالنفخ في الدرع. قرأ نافع وأبو عمرو «ليهب» بياء مفتوحة بعد اللام، أي ليهب الرب لك ولدا ذكرا، مترقيا من سن إلى سن، على الخير. قالَتْ مريم لجبريل: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي من أين يكون لي ولد كما وصفت، والحال أنه لم يباشرني رجل بنكاح، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) أي فاجرة تبغي الرجال. قالَ لها جبريل: كَذلِكِ أي الأمر كما قلت لك، قالَ رَبُّكِ الذي أرسلني إليك هُوَ أي هبة الولد من غير أن يمسك بشر أصلا. عَلَيَّ خاصة هَيِّنٌ وإن كان مستحيلا عادة، لأني لا أحتاج إلى الوسائط، وَلِنَجْعَلَهُ أي وهب الولد من غير أب، آيَةً لِلنَّاسِ أي برهانا لهم يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك. وبهذا إتمام الأنواع الأربعة في خلق البشر، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية البشر من ذكر وأنثى معا.

وَرَحْمَةً، عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته، وَكانَ، أي خلق الولد بلا أب، أَمْراً مَقْضِيًّا (21) أي لا يتغيّر. فلو لم يقع لا نقلب علم الله جهلا وهو محال. وجميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء إلى واجب الوجود، وإذا كان الأمر كذلك، فلا فائدة في الحزن، وهذا هو سر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب» . فَحَمَلَتْهُ أي فنفخ جبريل في طوق قميصها نفخة وصلت إلى فرجها، ودخلت منه جوفها فحملته في الحال، فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها، مَكاناً قَصِيًّا (22) ، أي بعيدا من الناس. قال وهب: إن مريم لما حملت بعيسى، كان معها ابن عم لها يقال له: يوسف النجار، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون، وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد، ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد عبادة منهما. وأول من علم حمل مريم هو يوسف، فتحيّر في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها، وأنها لم تغب عنه ساعة قط. وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذي ظهر بها من الحمل. فأول ما تكلم به أن قال: قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه، فغلبني ذلك، فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري، فقالت: قل قولا جميلا. قال: أخبريني يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ وهل تنبت شجرة من غير غيث؟ وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر، ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث؟ وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر، بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة، أو تقول أن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء، ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها. فقال يوسف: لا أقول هذا ولكني أقول: إن الله قادر على ما يشاء، فيقول له: كن فيكون. فقالت له مريم: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه. وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل، وضيق القلب، فلما دنت ولادتها، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فخرجت أقصى الدار. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي فألجأها وجع الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ أي إلى أصل نخلة يابسة لا رأس لها، وكان الوقت شتاء شديد البرد، فلما اعتمدت عليه بصدرها اخضر، وأطلع الجريد، والخوص، والثمر رطبا في وقت واحد، كما أن حمل عيسى وتصويره وولادته في وقت واحد. وكأن الله أرشدها إلى النخلة ليريها من آياته ما يسكن روعتها، وليطعمها الرطب، الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء فهو خرسة لها، ولأن النخلة من أقل الأشجار صبرا على البرد،

ولأنها لا تثمر إلا عند اللقاح من ذكر النخل، وإذا قطعت رأسها ماتت. فكأنه تعالى قال: كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر، فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح. ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح، ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر فحملها بمجرد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد، قالَتْ لما خافت أن يظن بها السوء في دينها، فيقع في المعصية من يتكلم فيها وهي راضية بما بشّرها به جبريل: يا أي أنبهك يا مخاطب، لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا، الوقت الذي فيه الأمر العظيم. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «مت» بكسر الميم. والباقون بالضم. وَكُنْتُ نَسْياً، أي شيئا تافها لا يعتدّ به أصلا كخرقة الطمث، ونحوها. وقرأ حفص وحمزة وابن وثاب والأعمش بفتح النون، والباقون بالكسر. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وبهما، وهو الحليب المخلوط بالماء الكثير ينساه أهله لقلته واستهلاكه في الماء، مَنْسِيًّا (23) أي متروكا لم يذكر بالبال، وهو نعت للمبالغة. وهذا جرى على عادة الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم، فإنهم يقولون مثل ذلك. كما روي عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر. وعن عمر أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أك شيئا. وعن علي أنه قال يوم الجمل: يا ليتني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وعن بلال أنه قال: ليت بلالا لم تلده أمه. وقرأ الأعمش: «منسيا» بكسر الميم اتباعا للسين. فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) . وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي: ب «من» الجارة، أي فناداها جبريل من مكان أسفل منها تحت الأكمة، أي لا تحزني يا مريم على ولادة عيسى، قد جعل ربك بمكان أسفل منك، أو قريب منك نهرا صغيرا، أو إنسانا شريفا جليلا. ويدل على ذلك قراءة ابن عيسى، فناداها ملك من تحتها، ويقال: فناداها المولود كائنا من تحت ذيلها، أي لا تحزني يا أمي، قد جعل ربك تحتك جدولا يجري، ويمسك بأمرك، أو نبيا مرتفع القدر. وقرأ الباقون ب «من» الموصولة. وقرأ زر وعلقمة «فخاطبها» من تحتها بفتح الميم، أي فناداها عيسى الذي كان تحت ذيلها أي لا تحزني قد جعل ربك تحتك رئيسا عزيزا لا يكاد يوجد له نظير أو جدولا بضرب جبريل الأرض برجله. ويقال: فناداها جبريل من تحتها يقبل الولد كالقابلة، أو من تحت النخلة بأن لا تحزني، قد جعل ربك قربك عين ماء عذب، تعظيما لشأنك فإن الله تعالى أرسل جبريل إليها ليناديها بهذه الكلمات. كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيرا لها ما تقدم من أصناف البشارات، أو

يقال: إن الله تعالى أنطق عيسى لها حين وضعته تطييبا لقلبها، وإزالة للوحشة عنها، حتى تشاهد في أول الأمر ما بشّرها به جبريل من علوّ شأن ذلك الولد. كما قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلّمها لما علمت أنه ينطق، فما كانت تشير إلى عيسى بالكلام . وحمل فاعل «نادى» على عيسى أقرب وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ أي حرّكي أصل النخلة تحريكا عنيفا إلى جهتك، تُساقِطْ عَلَيْكِ أي تسقط النخلة عليك إسقاطا متواترا بحسب تواتر الهز، رُطَباً جَنِيًّا (25) أي طريا استحق أن يجنى. وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة، وفتح القاف. وقرأ حفص بضم التاء، وكسر القاف. والباقون بفتح التاء، وتشديد السين، وفتح القاف، فَكُلِي وَاشْرَبِي أي فكلي من الرطب، واشربي من النهر، أو كلي من الرطب، واشربي من عصيره. وَقَرِّي عَيْناً أي طيبي نفسا بولدك عيسى، فالعين إذا رأت ما يسّر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره، وأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ولذلك يقال: للمحبوب قرة العين، وللمكروه سخنة العين. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) ، أن فإن تري يا مريم أحدا من الآدميين فيسألك عن ولدك، فقولي له إن استنطقك: إني نذرت للرحمن صمتا فلن أكلم اليوم آدميا، بعد أن أخبرتك بنذري وإنما أكلم الملائكة، وأناجي ربي. وإنما منعت مريم من الكلام ليكون عيسى المتكلم عنها، فيكون أقوى لحجتها في إزالة التهمة عنها، ولكراهة مجادلة السفهاء. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي فجاءتهم مع ولدها عيسى حاملة له وهو ابن أربعين يوما. روي عن ابن عباس أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوما حتى طهرت من النفاس، ثم حملته إلى قومها، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه. فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين. قالُوا مؤنبين لها: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) ، أي لقد فعلت شيئا منكرا عظيما، يا أُخْتَ هارُونَ، أي يا شبيهة هارون في العبادة وكان هارون هذا رجلا صالحا من أفضل الناس من بني إسرائيل، ينسب إليه كل من عرف بالصلاح وهذا لمّا مات تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمّون هارون تبركا به وباسمه. والمراد أنك يا مريم كنت في الزهد كهارون، فكيف صرت هكذا! ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، أي ما كان أبوك عمران رجلا زانيا، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) ، أي وما كانت أمك حنة امرأة فاجرة فَأَشارَتْ، مريم إِلَيْهِ، أي إلى عيسى أن كلموه، قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ، أي في الحجر أو في السرير صَبِيًّا (29) أي صغيرا ابن أربعين يوما. روي أن عيسى كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابة يمينه، فتكلم عيسى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وإنما نص عيسى على إثبات عبودية نفسه، لأن إزالة التهمة عن الله تعالى، تفيد إزالة التهمة عن الأم، لأن الله تعالى لا يخص

[سورة مريم (19) : الآيات 31 إلى 40]

الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية. أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى. وقد وصف عيسى عليه السلام نفسه بصفات ثمانية: أولها: العبودية، فاعترف بها لئلا يتخذوه إلها. وآخرها: تأمين الله له في أخوف المقامات، وكل هذه الصفات تقتضي تبرئة أمه. آتانِيَ الْكِتابَ، أي علمني التوراة والإنجيل في بطن أمي، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) بعد الخروج من بطن أمي، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أي نفاعا معلما للخير، أَيْنَ ما كُنْتُ، أي في أي مكان كنت. روى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلمت مريم عيسى إلى الكتاب، فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه، فقال له المعلم: اكتب. فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد. فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب لا تضربني، إن كنت لا تدري فاسألني فإني أعلمك الألف من آلاء الله، والباء من بهاء الله، والجيم من جمال الله، والدال من أداء الحق إلى الله» . وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بإقامة العبودية وتطهير النفس عن الصفات الذميمة. ما دُمْتُ حَيًّا (31) ، في الدنيا ليكون ذلك حجة على من ادعى أنه عليه السلام إله، لأنه لا شك في أن من يعبد إلها ليس بإله، والله تعالى صيّره حين انفصل عن أمه عاقلا. وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وكلفني برا بأمي، وهذا إشارة إلى غير تنزيه أمه عن الزنا، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً، أي متعاظما. شَقِيًّا (32) أي عاصيا لله، عنيدا له لفرط التكبر، بل جعلني متواضعا. وكان من تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر، ويجلس على التراب، ولم يتخذ له مسكنا. وروي أن عيسى عليه السلام، قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي الأمان من الله علي، يَوْمَ وُلِدْتُ، أي حين ولدت من لمزة الشيطان، وَيَوْمَ أَمُوتُ، أي حين أموت من ضغطة القبر، وَيَوْمَ أُبْعَثُ من القبر، حَيًّا (33) . وإنما خصّ هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ، أي عيسى بن مريم كلمة الله، فالحق اسم الله، أو المعنى خبر عيسى ابن مريم خبر الحق، فعيسى عطف بيان. وقرأ عاصم وابن عامر قول الحق بالنصب على المدح إن فسّر بكلمة الله فحينئذ الوقف في مريم وقف كاف وإن فسّر بالقول الصدق، كان مصدرا مؤكدا لقال: إني عبد الله، ف «عيسى» خبر المبتدأ وعلى قراءة النصب كان اسم الإشارة راجعا لمن بينت نعوته الجليلة. الَّذِي فِيهِ، أي في عيسى يَمْتَرُونَ (34) ، أي يتنازعون. فيقول اليهود: هو ساحر. ويقول بعض النصارى: هو ابن الله. ويقول بعضهم: هو الله. ويقول: بعضهم هو شريكه. ما كانَ لِلَّهِ، أي ما صحّ له تعالى، أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لأنه يلتزم من اتخاذه ولدا الحاجة، وهو نقص، سُبْحانَهُ، أي تنزه الله عن ذلك، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) . أي إذا أراد الله أن يحدث أمرا من الأمور، فإنما يريده ويعلق قدرته به، فيكون

حينئذ بلا تأخير. وقرأ ابن عامر بنصب «يكون» على الجواب. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ. قرأ ابن عامر والكوفيون بكسر «إن» عطف على قوله: «إني عبد الله» أو على الاستئناف، ويؤيده ما قرأه أبي «إن الله» بالكسر بغير واو. وقرأ أبو عمرو والمدنيون بالفتح على حذف حرف الجر متعلقا بما بعده، أي ولأن الله أو بسبب أنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه. هذا التوحيد ونفي الولد والزوجة الذي أمرتكم به، صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) ، يوصل إلى الجنة ورضا الله تعالى. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، أي اختلف النصارى في شأن عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء. فأخرج كل قوم عالمهم، فأخرج منهم أربعة نفر، فقال أحدهم: هو الله تعالى هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم: اليعقوبية. فقالت الثلاثة كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه. فقال: هو ثالث ثلاثة الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية، ملوك النصارى، ولذلك سموا ملكانية. فقال الرابع: كذبت، بل هو عبد الله، وروحه، ورسوله، وكلمته، فخصمهم، وقال: أما تعلمون أن عيسى كان يطعم، وينام، وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك، وهم المسلمون. وكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال، فاقتتلوا وغلبوا على المسلمين. فذلك قول الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 21] فصاروا أحزابا. وذلك قوله تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فاختلفوا فيه، وهذا معنى قوله تعالى: الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ فَوَيْلٌ أي فشدّة عذاب، لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي اختلفوا في شأن عيسى، مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) ، أي من حضور هول الحساب، والجزاء يوم القيامة، أو من مكان الحضور في الحساب وهو الموقف، أو من وقت حضوره، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وهو شهادة الملائكة والأنبياء، وشهادة ألسنتهم وأيديهم، وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال، أو من وقت شهادة يوم عظيم الهول أو من مكانها. أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا، أي أن أسماعهم وأبصارهم يوم يأتوننا للحساب والجزاء، جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميانا في الدنيا. لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) ، أي لكن الكافرون في الدنيا في ضلال مبين، حيث تركوا النظر بالكلية، وهم في الآخرة يعرفون الحق. وَأَنْذِرْهُمْ، أي خوف يا أشرف الخلق، كفار مكة يَوْمَ الْحَسْرَةِ، أي يوم الندامة، إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب ببيان أمر الثواب والعقاب، فيندم في ذلك اليوم الناس، المسيء على إساءته في الدنيا، والمحسن على قلة إحسانه فيها. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، سئل عن قوله تعالى: إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، والفريقان ينظران فينادي المنادي: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح، وأهل النار غما إلى

[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 50]

غم» . «1» و «إذ» بدل من «يوم الحسرة» أو ظرف ل «الحسرة» ، و «يوم الحسرة» مفعول به، أي خوفهم نفس ذلك اليوم. وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) ، أي أنذرهم في حال كونهم في جهلة عن ذلك اليوم، وفي حال كونهم لا يصدقون به. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، أي إنا لا ندع في الأرض شيئا من عاقل وغيره ونسلب جميع ما في أيديهم وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) أي وإلى حكمنا يردّون للجزاء، وهذا تخويف عظيم للعصاة. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ، أي واتل على كفار مكة قصة إبراهيم في هذه السورة، فإنهم ينتسبون إليه عليه السلام، فعساهم باستماع قصته يتركون ما هم فيه من القبائح. إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً أي يبلغ الصدق في أقواله، وأفعاله وأحواله. نَبِيًّا (41) ، رفيع القدر عند الله، وعند الناس، فلا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه، وبين عباده. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ ، آزر، متلطفا في الدعوة: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ، ثناءك عليه، وَلا يُبْصِرُ ، خشوعك بين يديه، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) ، أي ولا يقدر على أن يكفيك شيئا من جلب نفع، أو دفع ضرّ. يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي، من الله، مِنَ الْعِلْمِ، أي علم الوحي، ما لَمْ يَأْتِكَ، منه، فَاتَّبِعْنِي، بالتوجه إلى الله، أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) ، أي طريقا موصلا إلى أسنى المطلب، منجيا عن المعاطب. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له، إذ هو الذي يزيّنها بوسوسته. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) ، فطاعة العاصي عصيان، والعصيان يوجب العذاب. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ. إن لم تؤمن به، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) أي قرينا في العذاب. روي عن أبي هريرة أنه قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام، أنك خليلي، فحسّن خلقك، ولو مع الكفار، تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسّن خلقه، أن أظلّه تحت عرشي. وأن أسكنه حظيرة قدسي، وأن أدنيه من جواري» «2» . قالَ آزر: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي، أي أمعرض أنت عن آلهتي! يا إِبْراهِيمُ، أنكر آزر نفس الانصراف عن الأصنام مع نوع من التعجب، كان الانصراف عنها مما لا يصدر من العاقل. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ، عن مقالتك هذه، لَأَرْجُمَنَّكَ، أي لأقتلنك، أي لأظهرن، أمرك للناس ليقتلوك، وهذا تهديد عما كان إبراهيم عليه من العظة. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) أي تباعد عني لكيلا أراك زمانا طويلا. قالَ

_ (1) رواه البخاري في كتاب التفسير، باب: قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ، ومسلم في كتاب الجنّة، باب: 4، والترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة 19، باب: 2، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في ذبح الموت، وأحمد في (م 2/ ص 377) . (2) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (2: 155) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1: 308) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2432) .

[سورة مريم (19) : الآيات 51 إلى 60]

إبراهيم: سَلامٌ عَلَيْكَ، وهذا توادع ومتاركة، أي لا أشافهك بما يؤذيك بعد. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، أي أدعو لك ربي أن يهديك إلى الإيمان، فإن حقيقة الاستغفار للكافر طلب التوفيق للإيمان المؤدي للمغفرة. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) ، أي بليغا في البرّ والألطاف. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي وأترككم وما تعبدون من الأصنام، بالارتحال من بلادكم. وَأَدْعُوا رَبِّي، أي أعبده وحده. عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي، أي بعبادته، شَقِيًّا (48) ، أي ضائع العمل كما ضاع عملكم بعبادة الأوثان. فارتحل سيدنا إبراهيم من كوثي إلى الأرض المقدسة. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي فلما فارقهم إبراهيم في المكان في طريقتهم من عبادة الأوثان وأبعد عنهم إلى الأرض المقدسة، والتشاغل بالعبادة، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، يأنس بهما لأنه عاش حتى رأى يعقوب. وَكُلًّا أي كل واحد منهم جَعَلْنا نَبِيًّا (49) ، ينبئهم الله تعالى بعلوم المعارف، وهم ينبّئون الخلق بالله وبالإسلام. وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، المال، والجاه والأتباع، والذرية الطيبة. وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) ، أي جعلنا لهم ثناء صادقا يفتخر بهم الناس، ويثنون عليهم، ويذكرهم الأمم كلها إلى يوم القيامة، بما لهم من الخصال المرضية. وتقول هذه الأمة في الصلوات الخمس: كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلى قيام الساعة. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً. قرأه عاصم وحمزة والكسائي، بفتح اللام أي معصوما من الأدناس، اختاره الله تعالى. والباقون بالكسر أي مخلصا لعبادته عن الرياء، ولنفسه عما سوى الله. وَكانَ رَسُولًا إلى بني إسرائيل والقبط، نَبِيًّا (51) يخبرهم عن الله تعالى. وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ أي الذي يلي يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين، وذلك حين توجه من مدين إلى مصر، أي تمثل له الكلام من تلك الجهة. يقول يا موسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه: 14] وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) ، أي مناجيا أي رفعنا قدره، وشرّفناه بالمناجاة، بأن أسمعه الله تعالى كلامه بلا واسطة. وقيل: رفعناه مكانا عاليا فوق السموات، حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) ، أي وجعلنا أخاه هارون نبيا من أجل رأفتنا به، ليكون وزيرا له، ومعينا له في تبليغ الرسالة. وهذا إشارة إلى أن النبوة ليست كسبية، بل هي من مواهب الله تعالى، يهب لمن يشاء النبوة والرسالة، وإشارة إلى أن لموسى اختصاصا بالقربة، والقبول عند الله تعالى، حتى يهب أخاه هارون النبوة والرسالة بشفاعته، كما يهب الأنبياء والرسل بشفاعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم عليه السلام» . وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، فكان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إنه عليه السلام وعد صاحبا له أن ينتظر في مكان، فانتظره

سنة. وقد وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، وَكانَ رَسُولًا إلى جرهم- وهم قبيلة من عرب اليمن نزلوا في وادي مكة- بشريعة أبيه، فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته. نَبِيًّا (54) ، يخبر عن الله، وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ، أي قومه، بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، أي الصدقات الواجبة، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) ، أي فائزا في كل طاعاته بأعلى الدرجات. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ، وهو سبط شيث وجدّ أبي نوح إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً، أي ملازما للصدق في جميع أحواله، نَبِيًّا (56) ، وهذا مخصص للخبر الأول، إذ ليس كل صديق نبيا. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) ، وهو السماء الرابعة. وكان سبب رفعه إليها، أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس، فقال: يا ربّ إني قد مشيت فيها يوما فأصابني منها ما أصابني، فكيف من يحملها مسيّرة خمسمائة في يوم واحد؟ اللهم خفف عنه من ثقلها، وحرّها، فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها، ما لا يعرف، فقال: يا ربّ خففت عني حرّ الشمس، فما الذي قضيت فيه؟ قال: إن عبدي إدريس، سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته، قال: يا ربّ اجعل بيني وبينه خلة، فأذن الله تعالى له حتى أتى إدريس ورفعه إلى السماء. أُولئِكَ العشرة المذكورون في هذه السورة، الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، بفنون النعم الدينية والدنيوية، مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وهو إدريس، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من مع نوح في السفينة وهو إبراهيم فإنه من ذرية سام بن نوح، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وَإِسْرائِيلَ، أي ومن ذرية يعقوب، وهم يوسف، وإخوته، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وَمِمَّنْ هَدَيْنا، أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق. وَاجْتَبَيْنا أي اصطفيناهم للإسلام، كعبد الله بن سلام، وأصحابه واسم الموصول خبر اسم الإشارة، ومن النبيين بيان للموصول، ومن ذرية بدل بإعادة الجار، ومن للتبعيض. إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ وهي ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم، خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) ، من مخافة الله تعالى. قال العلماء: ينبغي أن يدعو الساجد للتلاوة في سجدته بما يليق بآياتها، فههنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين، الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك، اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، أي حدث من بعد النبيين جماعة سوء ويقال لعقب الخير: «خلف» بفتح اللام ولعقب الشر: «خلف» بالسكون. أَضاعُوا الصَّلاةَ، أي تركوها، وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، وشربوا الخمر، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وعن علي رضي الله عنه: هم من بني المشيد، وركب المنظور، ولبس المشهور . فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) أي واديا في جهنم، بعيدا قعره، تستعيذ منه

[سورة مريم (19) : الآيات 61 إلى 70]

أوديتها، أعد للزناة، وشربة الخمر، وشهّاد الزور، وأكلة الربا، والعاقّين لوالديهم. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ أي من اتصف بهذه الأمور الثلاثة: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ، أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم، شَيْئاً (60) . وتوقّف الأجر على العمل الصالح هو الغالب، لأنه لا تناط الأحكام إلا بالأعم الأغلب، ولا تناط بالنادر، كمن تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة، أو وجد الحيض، فإنه لا يجب عليه العمل قبل وجود سببه وشرطه، فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة، مع أنه لم يصدر عنه عمل صالح، من صلاة وزكاة وصوم، وعلى هذا لا يتوقف الأجر على وجود العمل الصالح. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، حال من المفعول أي وهم غائبون عنها لا يرونها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار منه تعالى، أي وعدهم بها وهم في الدنيا، ومن في الدنيا لا يشاهدها. إِنَّهُ تعالى أو إن الشأن، كانَ وَعْدُهُ تعالى، مَأْتِيًّا (61) ، أي مفعولا منجزا أي الوعد منه تعالى لا بد من وقوعه فهو وإن كان بأمر غائب، فكأنه حاصل مشاهد. لا يَسْمَعُونَ فِيها أي الجنة لَغْواً أي فضول كلام لا فائدة فيه إِلَّا سَلاماً من بعضهم على بعض، أو من الملائكة عليهم. فإن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة. فأهل الجنة لا يحتاجون إلى هذا الدعاء لأنهم في دار السلام، فهذا من فضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها أي طعامهم في الجنة، بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) أي لهم رزق واسع ودائم، فلهم ما يشتهون متى شاءوا، إذ لا ليل فيها، ولا بكرة، ولا عشيّ. وإنما ذكرهما ليرغب كل قوم بما أحبوه، لأنه لا شيء أحب إلى العرب من الغداء والعشاء، فوعدهم بذلك. ولذلك ذكر أساور الذهب، والفضة، ولباس الحرير، التي كانت عادة العجم، والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وهي كانت من عادة أشراف العرب في اليمن. تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) من الكفر أي هذه الجنة التي عظم شأنها، نعطيها من أطاعنا عطاء لا يردّ كالميراث الذي يأخذه الوارث فلا يرجع فيه المورث. وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. قيل: احتبس جبريل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه في أمر الروح وأصحاب الكهف، وذي القرنين، فقال: «أخبركم غدا» ، ولم يقل: إن شاء الله، حتى شق على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم نزل بعد أيام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبطأت علي حتى ساءني، واشتقت إليك» «1» . فقال له جبريل: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، حكاية قول جبريل أمره الله تعالى أن يقوله لمحمد جوابا لسؤاله بقوله: يا جبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» «2» والمعنى وما نتنزل من السماء وقتا غبّ وقت إلّا

_ (1) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7: 2547) ، وعبد الرزاق في المصنف (20918) . (2) رواه أحمد في (م 1/ ص 357) ، والحاكم في المستدرك (2: 611) ، والطبري في التفسير

بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، أي لربك ما قدّامنا وما خلفنا من الجهات، وما نحن فيه، فلا ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان إلى مكان، إلّا بأمره ومشيئته، فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) أي تاركا لك بتأخير الوحي عنك، فعدم النزول لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه. وقال أبو مسلم: ويجوز أن يكون قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، حكاية قول أهل الجنة يدخلونها، والمعنى: وما نتنزل الجنة إلا بأمر الله تعالى ولطفه، له ما بين أيدينا في الجنة مما يكون مستقبلا، وما خلفنا مما كان في الدنيا، وما بين ذلك فيما نحن فيه مما بين الوقتين. وقول تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ابتداء كلام من الله تعالى، تقرير لقولهم أي وما كان الله ناسيا لأعمال العاملين وللثواب عليها بما وعدهم، لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، فلا يجوز عليه النسيان، وهو بدل من ربك أو خبر مبتدأ مضمر أي هو فَاعْبُدْهُ، يا أكرم الرسل، وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، وعدي الاصطبار باللام لأن العبادة جعلت بمعنى القرب، ففيه معنى الثبات لأن العبادة ذات شدائد ومشاق، فكأنه قيل: اثبت لعبادة الرب، ولا يضق صدرك، من قول الكافرين لك. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ، أي للرب سَمِيًّا (65) أي نظيرا فيما يقتضي العبادة، من كونه منعما بأصول النعم وفروعها، وشريكا في الاسم الخاص كرّب السموات والأرض وما بينهما وكالله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يسمّى بالرحمن غير تعالى. وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أبي بن خلف الجمحي بطريق الإنكار والاستبعاد فإنه أخذ عظاما بالية ففتّها، وقال: يزعم محمد أنا نبعث ما نموت، ونصير إلى هذه الحال أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف. أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) ، أي أبعث من الأرض. أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وقالون، عن يعقوب بسكون الذال، وضم الكاف، أي أيقول المجترئ بهذا الإنكار على ربه ولا يتفكر، أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل الحالة التي هو فيها من نطفة منتنة، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا أصلا، أي أولا يعلم ذلك من حال نفسه؟ لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا، ثم صار حيا فيها. فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لنجمعنّ القائلين بعدم البعث بالسوق إلى المحشر، بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياء. وَالشَّياطِينَ. روي أن كل كافر يحشر مع شيطانه الذي يضلّه في سلسلة. ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ بعد طول الوقوف في المحشر حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ، أي باركين على الركب، لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم. ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي من كل أمة تبعث دينا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) أي جراءة. أي فمن كان أشدهم تمردا في كفره، خصّ

_ (16: 78) ، والقرطبي في التفسير (11: 128) .

[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 80]

بعذاب أعظم، لأن عذاب الضّال المضل، يجب أن يكون فوق من يضلّ تبعا لغيره، وليس عذاب من يتجبّر كعذاب المقلّد، وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل، كعذاب من يقتدي به مع الغفلة. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها أي أحقّ بجهنم صِلِيًّا (70) أي دخولا فنبدأ بهم. وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أي ما منكم أيها الإنسان أحد إلّا حاضر قرب جهنم، ويمرّ بها المؤمنون، وهي خامدة، وتنهار بعيرهم. وعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال بعضهم لبعض: أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد وردتموها وهي خامدة» «1» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية» «2» ، فقالت حفصة أليس الله يقول: وإن منكم إلّا واردها؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم ننجي الذين اتقوا» أي نبعدهم عن عذاب جهنم. وقيل: ورود جهنم هو الجواز على الصراط الممدود عليها، وقيل: الورود: الدخول، فالمؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة، بل مع الغبطة والسرور. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) أي كان ورودهم إياها أمرا محتوما أوجبه الله تعالى على ذاته. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا من الكفر والمعاصي، أي نخرجهم منها، فلا يخلدون بعد أن أدخلوا فيها، وإنما دخلوا لهم فيها ليشاهدوا العذاب، ليصير ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة. وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ، بالكفر والمعاصي فِيها أي جهنم جِثِيًّا (72) أي منهارا بهم. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ أي المشركين، آياتُنا الناطقة بحسن حال المؤمنين، وسوء حال الكفرة، بَيِّناتٍ أي مرتلات الألفاظ، مبينات المعاني، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مردوا منهم على الكفر، ومرنوا على العناد، وهم: النضر بن الحرث، وأتباعه الفجرة. لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لفقراء المؤمنين الذين هم في خشونة عيش، ورثاثة ثياب وضيق منزل، واللام للتبليغ لأنهم شافهوا المؤمنين وخاطبوهم بقولهم: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي المؤمنين والكافرين خَيْرٌ مَقاماً أي منزلا. وقرأ ابن كثير بضم الميم وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) أي مجلسا أي أنحن أو أنتم. روي أنهم كانوا يرجلون شعورهم، ويدهنونها، ويتطيبون، ويتزينون بالزينة الفاخرة، ثم يدعون فقراء المؤمنين، ويقولون مفتخرين عليهم: انظروا إلى منازلنا فتروها أحسن من منازلكم، وانظروا إلى مجالسنا عند التحدث ومجلسكم، فترونا نجلس في صدر المجلس، وأنتم في طرفه الحقير. فإذا كنا بهذه المثابة، وأنتم بتلك، فنحن عند الله خير منكم، ولو كنتم على خير لأكرمكم بهذه الأمور، كما أكرمنا بها.

_ (1) رواه ابن عبد البر في التمهيد (7: 156) ، بما معناه. (2) رواه أحمد (م 6/ ص 362) .

والمعنى أنهم لما سمعوا الآيات، بينات الإعجاز، وعجزوا عن معارضتها، شرعوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ، أي كثيرا أهلكنا بفنون العذاب قبل هؤلاء القريش، من أمم عاتية كعاد، وثمود وأمثالهم، هُمْ أَحْسَنُ من هؤلاء أَثاثاً أي أمتعة وَرِءْياً (74) ، أي منظرا، أي فهم أفضل من هؤلاء فيما يفتخرون به، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا، أي فإن ما أنتم أيها الكفار فيه من النعم، محض استدراج لم ينفعكم الترفه شيئا عند نزول البلاء بكم، كما وقع للأمم الماضية، حيث كانوا في رفاهية أكثر منكم، ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم، ولم ينفعهم الترفه شيئا قُلْ يا أشرف الرسل لهؤلاء المفتخرين بما لهم من حظوظ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، وهذا الأمر بمعنى الخبر، أي من كان مستقرا في الضلالة، مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور، فيمهله الله بطول العمر، وبسط المال، وإنفاقه فيما يستلذّ به من الأوزار، ولا يزال يمدّ له استدراجا وقطعا للمعاذير يوم القيامة. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، من الله تعالى إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي بغلبة المسلمين عليهم، وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا، وَإِمَّا السَّاعَةَ، أي ما نالهم يوم القيامة من الخزي والنكال. فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ، مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً أي منزلا من الفريقين وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) ، أي أقلّ ناصرا، أهم أم المؤمنون. وهذا ردّ لما كانوا يزعمون أن لهم أنصارا من الأخيار، ويفتخرون بذلك في المحافل، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بالإيمان، هُدىً أي بالإخلاص، وبالعبادات المتفرعة على الإيمان، وبالثواب على ذلك الإيمان. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، أي الطاعات التي تبقى فوائدها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي فائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أي عاقبة. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ؟؟؟ بِآياتِنا، الناطقة بالبعث، وهو العاص بن وائل السهمي، وَقالَ لخباب بن الأرت: لَأُوتَيَنَّ في الآخرة مالًا وَوَلَداً (77) . نزلت هذه الآية في شأن العاص بن وائل، عن خباب قال: كان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أقتضيه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر به، حتى تموت ثم تبعث. قال: وإني لمبعوث من بعد الموت، قلت: نعم، قال: إني إذا بعثت وجئتني فسيكون لي ثمّ مال وولد، فأعطيك. وقرأ حمزة والكسائي «وولدا» بضم الواو وسكون اللام. وقيل: صاغ خباب للعاص حليا فطلب الأجرة، فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهبا، وفضة، وحرير، أفأنا أقضيك، ثم فإني أوتى مالا وولدا حينئذ فأجاب الله تعالى عن كلامه بقوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أي أعلم الغيب، وأن يعطى ما قاله، أو أقد بلغ من عظمة الشأن، إلى أن ارتقى إلى علم الغيب، الذي انفرد الله به، حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا، وأقسم عليه. أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ

[سورة مريم (19) : الآيات 81 إلى 90]

عَهْداً (78) ، بأن يؤتى ما قاله، وقيل: المعنى انظر في اللوح المحفوظ أن له ما يقول، أم اعتقد وحدة الله بكلمة الشهادة فيكون له ما يقول. وعن قتادة: هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بدلك ما يقول: كَلَّا ردع له عن التفوّه بتلك الكلمة الشنيعة، وتنبيه على خطئه، أي لا يكون له ما يقول، سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ، أي سنظهر له أنا كتبنا قوله ونؤاخذه به، وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) أي نطوّل به من العذاب ما يستحقه، ونضاعفه له لكفره وافترائه على الله تعالى، واستهزائه بآياته، وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ، أي ننزع ما آتيناه بموته، ونحرمه ما تمناه في الآخرة من مال، وولد، ونجعله لغيره من المسلمين، وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً (80) لا يصحبه مال، ولا ولد، ولا عشيرة، ولا خير. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً، أي اتخذ كفار قريش الأصنام آلهة متجاوزين الله تعالى، لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) أي ليكون الأصنام مانعين لهم من عذاب الله، كَلَّا أي لا مانع من عذابهم، فلا يعتقدوا أن الأصنام شفعاء لهم عنده تعالى، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي سيجحد الأصنام بعبادتهم لها، بأن ينطقها الله تعالى، وتقول ما عبدتمونا، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ أي تكون الأوثان التي كانوا يرجون أن تكون لهم منعة من العذاب، ضِدًّا (82) ، أي أعداء وأعوانا بالعذاب، فإنهم وقود النار، ولأنهم عذّبوا بسبب عبادتهم. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) أي ألم تنظر يا أشرف الرسل، أنا سلطنا الشياطين على الكافرين، تهيّجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع الوساوس، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، بطلب إهلاكهم حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم. إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) ، فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة، وأنفاس معدودة، فنضبط عليهم ما يقع منهم، حتى نؤاخذهم به ولا نهمله. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) بإيمانهم، إِلَى الرَّحْمنِ أي إلى محل كرامة ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة، وَفْداً (85) ، أي وافدين على ربهم، منتظرين لكرامتهم وأنعامهم، فبعضهم كانوا ركبانا على نجائب سرجها من ياقوت، وعلى نوق رحالها من ذهب، وأزمتها من زبرجد، من أول خروجهم من القبور، أو من منصرفهم من الموقف حتى يقرعوا باب الجنة. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بكفرهم ومعاصيهم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) أي عطاشا بإهانة كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) ، أي لا يستحق هؤلاء المجرمون أن يشفع لهم غيرهم، إلا من اتخذ كلمة الشهادة بالتوحيد والنبوة، ولو كانوا أهل الكبائر. وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا» قالوا: وكيف ذلك؟ قال: «يقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتبعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع، ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم

[سورة مريم (19) : الآيات 91 إلى 98]

عند الرحمن؟ عهد، فيدخلون الجنة» «1» . وَقالُوا أي الكافرون اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) عزيرا، والمسيح، والملائكة، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) أي لقد قلتم قولا منكرا عظيما تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ، أي يتشققن مِنْهُ أي من قولهم، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ أي تنخسف بهم، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أي تسقط الجبال منطبقة عليهم. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) أي من نسبهم ولدا للرحمن، وهذا بدل من الهاء في منه. قال ابن عباس: فزعت السموات والأرض والجبال، وجميع الخلائق إلا الثقلين، وغضبت الملائكة حين قالوا: الله ولد، أي استعظاما للكلمة، وتهويلا من فظاعتها، وتصويرا لأثرها في الدين. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد، ولا مشبه لله تعالى. ولأن اتخاذ الوالد إنما يكون لأجل سرور الوالد به، واستعانته به، وذكر جميل به، وكل ذلك لا يليق به تعالى، محال عليه. وهذه الجملة حال من فاعل قالوا أو دعوا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) ، أي ما من أحد فيهما إلا مملوك له، مقرّ له بالعبودية، مطيع له، غير الكافر. لَقَدْ أَحْصاهُمْ فلا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه، وقبضة قدرته وملكوته، لَكَ صَدْرَكَ (1) أي عدّ أشخاصهم، وأنفاسهم، وأفعالهم، وكل شيء عنده بمقدار، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) أي كل واحد منهم يجيء إلى الله وحيدا، بلا مال، ولا أتباع. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) أي سيحدث لهم في القلوب محبة، من غير تعرض للأسباب من قرابة، أو صداقة، أو اصطناع معروف، أو غير ذلك تخصيصا لأوليائه بهذه الكرامة. كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب إعظاما لهم. أي إن الله تعالى وعدهم أن يؤلف بين قلوبهم في الدنيا إذا ظهر الإسلام، وأن يحبّبهم إلى خلقه يوم القيامة، بما يظهر من حسناتهم، وينشر من ديوان أعمالهم، على رؤوس الأشهاد. فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي القرآن بِلِسانِكَ أي أنزلناه ميسرا بلغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، بامتثال ما فيه من الأمر والنهي، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) ، أي الذين يجادلون فيه بالباطل وهم كفار مكة. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قرونا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) أي هلكوا جميعا فلم يبق منهم عين، ولا أثر فلا يرى منهم أحد، ولا يسمع منهم صوت حفي، أي فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء. وختم الله تعالى هذه السور بموعظة بليغة، لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا ومن الانتهاء إلى الموت، خافوا ذلك وخافوا سواء العاقبة في الآخرة، فكانوا أقرب إلى الحذر من المعاصي.

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (108) . [.....]

سورة طه

سورة طه مكية، مائة وخمس وثلاثون، ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون، خمسة آلاف ومائتان اثنان وأربعون طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) . أي لتتعب بالمبالغة في محاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم، أو لتهلك نفسك بالعبادة وبكثرة الرياضة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) ، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه، ولكن تذكرة لمن يسلم. تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) ، منصوب على المدح والاختصاص، أو منصوب ب «يخشى» مفعولا به أي أمدح تكليما من الله، أو أنزل الله القرآن تذكرة لمن يخشى، تكليم الله تعالى. الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) أي الرحمن أوجد الكائنات، ودبر أمرها فالاستواء على العرش، مجاز عن الملك والسلطان، متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير، يقال: استوى فلان على سرير الملك، ويراد بهذا القول صار فلان ملكا، وإن لم يقعد على السرير أصلا. والمراد هنا بيان تعلّق إرادته تعالى بإيجاد الكائنات، وتدبير أمرها. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، سواء كان فيهما جزءا منهما، أو حالا فيهما. وَما بَيْنَهُما، من الموجودات الكائنة في الجوّ دائما كالهواء، والسحاب، أو أكثريا كالطير وَما تَحْتَ الثَّرى (6) ، أي والذي تحت الأرض السابعة السفلى، لأن الأرضين على ظهر الحوت، والحوت على الماء والماء على صخرة خضراء، فخضرة السماء منها والصخرة، على قرني ثور، والثور على الثرى، وهو التراب الندي، ولا يعلم ما تحته إلا الله أي أنه تعالى مالك لهده الأقسام الأربعة، تصرفا وإيجادا وإعداما، وإحياء، وإماتة. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، أي وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك. فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) أي لأنه يعلم ما أسررته إلى غيرك في خفاء، وما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا. وهذا إما نهي عن الجهر وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى، بل لغرض آخر كحضور القلب ودفع الشواغل، والوسوسة: اللَّهُ، أي ذلك الموصوف بصفات الكمال، هو الله لا إله إلا هو، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.

[سورة طه (20) : الآيات 11 إلى 20]

قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق ملكا من الملائكة قبل أن يخلق السموات والأرض، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله مادا بها صوته، ولا يقطعها، ولا يتنفس فيها، ولا يتمّها، فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور، وقامت القيامة تعظيما لله عزّ وجل» اه. وينبغي لأهل لا إله إلا الله، أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله: التصديق، والتعظيم، والحلاوة، والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق. ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع، ومن ليس له الحلاوة فهم مراء، ومن ليس له الحرية فهو فاجر. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) ، فحسن الأسماء لحسن معانيها. وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً، أي أليس قد أتاك خبر موسى حين رأى نارا. روي أن موسى عليه السلام استأذن شعيبا في الرجوع إلى والدته، فأذن له، فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق، مخافة من ملوك الشام، فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور، ولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية، مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد حاد عن الطريق، فقدح عليه السلام النار فلم تنوّر المقدحة شيئا فبينما هو في مزاولة ذلك، إذ رأى نارا من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا في مكانكم أي لا تتبعوني في الذهاب إلى النار، إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها إبصارا بينا، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ، أي لعلّي أجيئكم من النار بشعلة مقتبسة من معظم النار، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) ، أي عند النار من يدلني على الطريق. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أي فلما أتى النار رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، كأنها نار بيضاء، فوقف متعجبا من شدة ضوء تلك النار، وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغيّر خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغيّر ضوء النار، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها، فإذا حضرته ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك، وضع يده على عينيه، فنودي يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي فلما نودي يا موسى أجاب سريعا فقال: لبيك، من المتكلم؟ إني أسمع صوتك ولا أراك، فأين أنت؟ فقال تعالى: أنا فوقك، ومعك، وأمامك، وخلفك، وأقرب إليك منك فعلم أن ذلك لا ينبغي، ولا يكون إلا من الله فأيقن به وسمع الكلام بكل أجزائه حتى إن كل جارحة منه كانت أذنا، وسمعه من جميع الجهات. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمر عليه الصلاة والسلام بالخلع، لأن الحفوة تواضع لله، وحسن أدب معه تعالى، إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ، أي المبارك طُوىً (12) ، اسم الوادي، أو اسم بئر قد طويت بالحجر في ذلك الوادي الذي كانت فيه الشجرة. قال أهل الإشارة: والمراد بخلع النعلين، ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة. كأنه تعالى أمره عليه السلام، بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى، ولا يلتفت بخاطره إلى

ما سواه تعالى. والمراد من الوادي المقدس: طهارة عزة الله تعالى وجلاله. والمعنى: إنك لما وصلت إلى بحر المعرفة، فلا تلتفت إلى المخلوقات اه. ويقال: معنى طوى قد طوته الأنبياء قبلك. قال ابن عباس: إنه عليه السلام مرّ بذلك الوادي ليلا فطواه، فكان المعنى: أنك بالوادي المقدس الذي طويته طيا، أي جاوزته حتى ارتفعت إلى أعلاه وعلى هذا إن «طوى» مصدر خرج عن لفظه. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ للرسالة والكلام الذي خصصتك به. وقرأ حمزة: «وأنا اخترناك» بنون العظمة، وبتشديد النون من «أنا» ، وبفتح الهمزة والكسر. وقرأ أبي بن كعب: «إني اخترتك» فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) أي فاستمع للذي يوحي إليك مني. وقوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يفيد نهاية اللطف والرحمة. وقوله تعالى: فَاسْتَمِعْ يفيد نهاية الهيبة، فكأنه تعالى قال: لقد جاءك أمر عظيم، هائل، فتأهب له، واجعل كل خاطرك مصروفا إليه. فأرسله الله تعالى في ذلك الوقت، في ذلك المكان، وكان عمره حينئذ أربعين سنة إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وهذا إشارة للعقائد العقلية، فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إي لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على كلامي، أو لذكري إياك بالمدح والثناء، أو لإخلاص ذكري لا تقصد بالصلاة غرضا آخر. وهذا إشارة للأعمال الفرعية. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي كائنة لا بد، أَكادُ أُخْفِيها، أي أكاد أظهرها، أي قرب إظهارها. ويؤيده قراءة فتح الهمزة أو المعنى، أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب، كقولك أشكلت الكتاب، أي أزلت إشكاله، وهذا إشارة إلى العقائد السمعية، وهذه الثلاثة جملة الدين. فإن أصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة: علم المبدأ، وعلم الوسط، وعلم المعاد. فعلم المبدأ، هو معرفة الله تعالى، وهو المراد بقوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وعلم الوسط، هو علم العبودية، فقوله تعالى: فَاعْبُدْنِي إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله: لِذِكْرِي، بمعنى لتكون ذاكرا لي غير ناس، إشارة إلى الأعمال الروحانية، فالعبودية أولها الأعمال الجسمانية، وآخرها الأعمال الروحانية، وعلم المعاد هو قوله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ برة أو فاجرة بِما تَسْعى (15) أي بما تعمل من خير أو شر فقوله: لِتُجْزى متعلق ب «آتية» أو ب «أخفيها» . فَلا يَصُدَّنَّكَ أي فلا يصرفنّك يا موسى عَنْها، أي عن ذكر الساعة، مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ أي ميل نفسه إلى إنكار الساعة، فإن منكر البعث إنما أنكره اتباعا للهوى لا للدليل، فَتَرْدى (16) أي فتهلك بالنار. فالله تعالى راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب، لأنه قال لموسى أولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وهو إشارة إلى الأمر، بتطهير السر عما سوى الله تعالى، ثم أمره بتحصيل ما يجب تحصيله من التكاليف، وافتتحها بمحض اللطف، وهو قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ واختتمها بمحض القهر وهو قوله تعالى: فَلا

[سورة طه (20) : الآيات 21 إلى 30]

يَصُدَّنَّكَ عَنْها الآية تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة، والرهبة، والرجاء، والخوف. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ أي وما تلك مأخوذة بيمينك يا مُوسى (17) ، فقوله: وَما تِلْكَ، إشارة إلى العصا، وقوله: بِيَمِينِكَ إشارة إلى اليد. أراد الله تعالى بالسؤال أن يثبت قلب موسى، ويزداد علمه، حتى إذا قلب الله تعالى العصا ثعبانا لا يخافه ولا يعتريه شك، وكذا إذا أخرج الله من يد موسى شعاعا، فيعرف أن ذلك بقدرة الله تعالى. والنكتة في ذلك السؤال، أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة، أراد ربّ العزة إزالتها، فسأله عن أمر لا يغلط فيه وهي العصا. كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال، فالدهشة تغلبه، والحياء يمنعه عن الكلام، فتسأله الملائكة عن الأمر الذي لم يقع الغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد، فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه. قالَ هِيَ أي التي قارة بيميني عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أعتمد عليها عند النهوض إلى القيام، أو عند الإعياء، أو عند المشي. وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أي أخبط بها ورق الشجر لغنمي. وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين غير المنقوطة- وهو زجر الغنم وتعديته ب «على» لتضمن معنى الأنحاء والإقبال أي أزجر الغنم بها منحيا ومقبلا عليها وَلِيَ فِيها أي العصا؟؟؟ مَآرِبُ أُخْرى (18) ، أي حاجات شتى. وأجمل موسى عليه السلام، رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب، فيسمع كلام الله مرة أخرى، ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك. ثم أراد الله أن يعرّفه عليه السلام، أن فيها أعظم من مآربه التي هي: حمل الزاد، والقوس، وعرض الزند، وإلقاء الكساء للاستظلال، وطرد السباع وغير ذلك، فأمره الله بإلقائها. قالَ أَلْقِها من يدك يا مُوسى (19) ؟؟؟ فَأَلْقاها من يده على الأرض، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) . قيل كانت العصا أول انقلابها حية صفراء صغيرة في غلظ العصا، ثم انتفخت وتزايد جرمها، حتى صارت ثعبانا، فأول حالها جان، ومآلها ثعبان. وقيل: إنها كانت من أول الأمر في شخص الثعبان، وسرعة حركة الجان، وكان لها عرف كعرف الفرس، وكان بين فكّيها أربعون ذراعا، وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار، حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها، وجوفها، وعيناها تتّقدان كالنار، وهي تشتد رافعة رأسها فلما عاين موسى ذلك ولى هاربا منها. قالَ تعالى له: خُذْها يا موسى بيمينك، وَلا تَخَفْ منها، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى، التي هي الهيئة العصوية. فلما قال له ربه لا تَخَفْ، ذهب خوفه حتى أدخل يده في فمها، وأخذ بلحييها، فعادت عصا كما كانت. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي أدخل كفك اليمنى في إبطك الأيسر وأخرجها، تَخْرُجْ بَيْضاءَ أي متبرقة مثل البرق، أو مشرقة تضيء كشعاع الشمس، تغطي البصر عن الإدراك. ثم إذا ردّها إلى كفّه صارت إلى لونها الأول بلا نور، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي من غير برص،

[سورة طه (20) : الآيات 31 إلى 40]

آيَةً أُخْرى (22) أي معجزة أخرى غير العصا. فقوله تعالى: بَيْضاءَ حال من الضمير في تخرج، ومن غير سوء متعلق ببيضاء لما فيها من معنى الفعل، وهو ابيضت. وآية أخرى حال من ضمير تخرج. لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) في الإعجاز وهي اليد فإنها أكبر آيات موسى لأنها لم تعارض أصلا، وأما العصا فقد عارضها السحرة. فقوله: لِنُرِيَكَ متعلق، بقوله تعالى: وَاضْمُمْ أو بقوله: تَخْرُجْ وقوله: مِنْ آياتِنَا حال من الكبرى، ف «الكبرى» مفعول ثان «لنريك» ، والتقدير لنريك الآية الكبرى، حال كونها بعض آياتنا الدالة على قدرتنا اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بما رأيته من الآيتين العظيمتين،؟؟؟ وادعه إلى عبادتي وحذّره نقمتي. إِنَّهُ طَغى (24) أي جاوز الحدّ في الكبر، حتى تجاسر على دعوى الربوبية. قالَ مستعينا بالله تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) ، أي ليّن لي قلبي لأجترئ على مخاطبة فرعون، وكان موسى يخاف فرعون لشدة شوكته، وكثرة جنوده. فسأل الله تعالى أن يوسّع قلبه ليكون حمولا لما يستقبل من الشدائد والمكاره، بجميل الصبر وحسن الثبات. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) أي هوّن عليّ تبليغ الرسالة إلى فرعون. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) متعلق باحلل. روي أنه عليه السلام كان في لسانه رتة، لأنه حال صباه أخذ لحية فرعون ونتفها لما كان فيها من الجوهر، فغضب فرعون وأمر بقتله، وقال: هذا هو الذي يزول ملكي على يده، وقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرّب منه التمرة، والجمرة، فقرّبا إليه فأخذ الجمرة، فجعلها في فيه. يَفْقَهُوا أي يفهموا قَوْلِي (28) عند تبليغ الرسالة. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) . ف «وزيرا» مفعول ثان لأنه نكرة، و «هارون» مفعول أول لأنه معرفة، وقدم الثاني اعتناء بشأن الوزارة، و «أخي» عطف بيان، ولي متعلق بمحذوف على أنه حال من وزيرا، ومن أهلي متعلق بأجعل، والمعنى واجعل من أهلي هارون أخي، متحملا على الأعباء لي، ومعينا على أمري، يقوي أمري، وأثق برأيه، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) ، أي قوي بهارون ظهري، وأعنّي به وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) أي اجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي. وقرأ العامة على صيغة الطلب وهي ضم الهمزة من «أشدد» وهي همزة وصل، وفتح الهمزة من أشركه وهي همزة قطع. وقرأ ابن عامر وحده على صيغة الجواب، وهو فتح همزة «أشدد» ، وضم همزة «أشركه» ، وكلاهما همزة قطع للمتكلم فيهما، ويجوز لمن قرأ على لفظ الأمر، أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء، واشدد به خبره ويوقف على هارون. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) ، أي كي ننزهك عمّا لا يليق بك من الصفات، والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية، ويقبله منه جماعته الباغية، من ادّعاء الشركة في الألوهية، ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال، والجمال، والجلال، زمانا كثيرا من جملته، زمان دعوة فرعون، وأوان المحاجة معه، وهذا إشارة إلى أن للجليس الصالح، والصديق الصديق، أثرا عظيما في

المعاونة على كثرة الطاعات، والمرافقة في اقتحام عقبات السلوك وقطع مفاوزه. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) أي عالما بأن ما دعوتك به مما يفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة، وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به. قالَ الله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) أي قد أردت إعطاء مسؤولك ألبتة، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) ، أي في وقت غير هذا الوقت من غير سابقة دعاء منك وطلب. فلأن أنعم عليك بمثل تلك النعم التامة وأنت طالب له أولى. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أي ألهمنا أمك الذي يلهم، أو أريناها في منامها الذي يرى، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، أي بأن تضعي الصبي في الصندوق، فَاقْذِفِيهِ أي فألقي الصبي، فِي الْيَمِّ أي في بحر النيل، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، أي فيلقي بحر النيل هذا الصبي على الشط. والأمر بمعنى الخبر، وحكمة صورة الأمر لوجوب وقوع ذلك، لتعلّق الإرادة الربانية به. روي أن أم موسى اتخذت تابوتا، وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى عليه السلام، وقيرت رأس التابوت، وشقوقه بالقار، ثم ألقته في نيل مصر، وكان يشرع منه نهر كبير إلى دار فرعون، فرفعه الماء إليه، فأتى به إلى بركة في البستان، وكان فرعون جالسا على رأس البركة مع امرأته آسية بنت مزاحم، إذ بتابوت يجيء به الماء، فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراج ما فيه، ففتحوا رأس التابوت فإذا صبي من أصبح الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبه شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وهو فرعون. فالأول: باعتبار الواقع لكفره وعتّوه. والثاني: باعتبار ما يؤول إليه، وما لو ظهر لفرعون حال موسى لقتله، وفي هذا الأمر بقذفه في البحر، وفي وقوعه في يد العدو، لطف خفي مندرج تحت قهر صوري. وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي وألقيت عليك محبة عظيمة حاصلة مني، واقعة بخلقي، فلذلك أحبتك امرأة فرعون، حتى قالت لفرعون: «قرة عين لي ولك» لا تقتلوه. ويروى أنه عليه السلام، كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) ، معطوف على علة مقدرة متعلقة بألقيت، والتقدير وألقيت عليك المحبة ليعطف عليك، ولتربى بالشفقة بحفظي. وقرأ العامة «لتصنع» بالبناء للمجهول، بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وقرئ بكسر اللام، وسكونها، وبالجزم بلام الأمر. وقرأ الحسن وأبو نهيك، بفتح التاء بالبناء للفاعل. أي ليكون تصرفك على رعاية مني. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، مريم وكانت شقيقته، وهي غير أم عيسى، وهذا الظرف متعلق بألقيت، أي ألقيت عليك محبة مني في وقت مشي أختك، أو بتصنع أي لتربى، ويحسن إليك في هذا الوقت، فَتَقُولُ لفرعون وآسية: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يربيه، ويرضعه.

[سورة طه (20) : الآيات 41 إلى 50]

ويروى أنه لما فشا الخبر بمصر، أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها، واضطروا إلى تتبع النساء. فخرجت أخته مريم لتعرف خبره، فدخلت قصر فرعون، فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم. ثم جاءت بالأم، فقبل ثديها. فرجع إلى أمه بما لطف الله تعالى له من هذا التدبير. فذلك قوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ، معطوف على محذوف. أي فقالوا: دلينا على من تكفله، فجاءت بأمك فرددناك إلى أمك. كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها فتطيب نفسها بلقائك ورؤيتك. وَلا تَحْزَنَ أي ليزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك، أو كي لا تحزن أنت بفراقها. وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، قبل إلقائه في اليم. وَقَتَلْتَ نَفْساً قبطيا طباخا لفرعون اسمه قاب قان، وكان عمره إذ ذاك ثلاثين سنة. فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي من غم اقتصاص فرعون منه، بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين، ومن غم عقاب الله تعالى، حيث قتله لا بأمر الله بالمغفرة، وكان قتله للكافر خطأ. وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي أوقعناك في محنة بعد محنة، وخلّصناك منها. فإنه ولد في عام يقتل فيه الولدان. وألقته أمه في البحر، والتقطه آل فرعون، وامتنع من ارتضاع الأجانب، وهمّ فرعون بقتله، ووضع الجمرة في فيه، وقتل قبطيا، ثم هرب إلى مدين. فَلَبِثْتَ سِنِينَ أي مكثت عشر سنين، فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهي بلدة شعيب عليه السلام، على ثمان مراحل من مصر. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) أي ثم جئت إلى المكان الذي أونس فيه النار، ووقع فيه النداء كائنا على مقدار معين من الزمان وهو أربعون سنة، فنبأتك وأرسلتك حينئذ. وَاصْطَنَعْتُكَ أي اصطفيتك لِنَفْسِي (41) بالرسالة وبالكلام. اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ أي وليذهب أخوك إلى فرعون، وقومه، وبني إسرائيل، بِآياتِي أي مع آياتي التي هي العصا واليد ففي كل منهما آيات شتى. فانقلاب العصا حيوانا آية، وكونها ثعبانا عظيما لآية أخرى، وسرعة حركته مع عظيم جرمه آية أخرى، ثم إنه عليه السلام يدخل يده في فيه فلا يضره آية أخرى، ثم انقلابه عصا آية أخرى. وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشعاعها آية أخرى، ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) أي لا تضعفا عن تبليغ رسالتي، فإن الذكر يطلق على كل عبادة، والتبليغ من أعظم العبادات. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ. روي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر، أن يتلقى موسى عليه السلام إِنَّهُ طَغى (43) أي تكبر بادعائه الربوبية، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً فإن تليين القول، مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة، وإن فرعون كان قد ربّاه عليه السلام، فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) أي قولا له قولا ليّنا على أن تكونا راجيين لأن يقبل

وعظكما أو يخشى الله فيرجع من الإنكار، إلى الإقرار بالحق. فإن لم ينتقل من الإنكار، إلى الإقرار لكنه إذا حصل في قلبه الخوف ترك الإنكار. وإن لم ينتقل إلى الإقرار، فإن ترك الإنكار، خير من الإصرار على الإنكار. وفائدة إرسالهما مع علم الله بأن فرعون لا يؤمن إلزام الحجة من الله، وقطع المعذرة عن فرعون، وإظهار الآيات. ويروى عن كعب أنه لمكتوب في التوراة: «فقولا له قولا لينا وسأقسي قلبه فلا يؤمن» . قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي أن يعجّل علينا بالعقوبة، بأن لا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة. أي إنا نخاف فوات القيام لتبليغ الرسالة كما أمرتنا، إذا قتلنا. وقرئ «يفرط» بضم الياء، وكسر الراء، أي نخاف أن يحمله حامل من ادعاء الربوبية، أو حبه للرياسة، والمملكة، أو قومه المتمردين على المعالجة بالعقاب. أَوْ أَنْ يَطْغى (45) ، أي يزداد تكبرا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجراءته عليك، وقساوة قلبه. قالَ الله تعالى: لا تَخافا، مما عرض في قلبكما من أذية فرعون لكما، ومن ازدياد كفره. إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) ، أي إنني حافظكما سميعا وبصيرا. قال القفال: يحتمل أن يكون قوله تعالى: أَسْمَعُ وَأَرى مقابلا لقولهما أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا، أي أن يعدو علينا بأن لا يسمع منا، أو أن يطغى، أي يغلب علينا بأن يقتلنا. فقال الله تعالى إِنَّنِي مَعَكُما أي معينكما، وعالم بما يليق من حالكما معه، أسمع كلامه معكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه. فَأْتِياهُ أي فلتكونا واصلين إلى فرعون، فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إليك، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، نذهب بهم إلى أرضهم- وفي ذلك إدخال النقص على ملكه، لأنه كان محتاجا إليهم فيما يريده من الأعمال، من بناء أو غيره- وَلا تُعَذِّبْهُمْ بالأمور الشاقة كالحفر، ونقل الأحجار، وقتل ذكور أولادهم، عاما دون عام، واستخدام نسائهم. قَدْ جِئْناكَ؟؟؟ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أي بإثبات الدعوى ببرهانها. فهو بيان من عند الله. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) ، أي السلامة في الدارين، من عذاب الله لمن صدق آيات الله الهادية إلى الحق. وهذا من جملة قوله تعالى الذي أمرهما أن يقولاه لفرعون، أي وفقولا له والسلام إلخ. إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا، من جهة ربنا، أَنَّ الْعَذابَ الدنيوي والأخروي، عَلى مَنْ كَذَّبَ بآياته تعالى وَتَوَلَّى (48) ، أي أعرض عن قبولها. قالَ أي فرعون بعد ما أتياه وبلّغا ما أمرا به، فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) ، لم يقل فمن ربي، مع أن حق الجواب كذلك، لغاية عتوّه أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما وتخصيص النداء بموسى، بعد مخاطبته لهما معا لأنه الأصل في الرسالة، وهارون وزيره. قالَ أي موسى مجيبا له: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ، من أنواع المخلوقات خَلْقَهُ أي صورته اللائق بما نيط به من الخواص، والمنافع. أو أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه وينتفعون به. وتقديم المفعول الثاني للاعتناء به. ثُمَّ هَدى (50) ، إلى طريق الانتفاع من

[سورة طه (20) : الآيات 51 إلى 60]

الأكل، والشرب، والجماع. قالَ أي فرعون لموسى: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) ، أي ما حال الأمم الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة، أي فلما ذكر موسى عليه السلام برهانا نيرا على هذا المطلوب، خاف فرعون أن يزيد موسى في تصوير تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه عليه السلام، وحقيقة مقالاته، وتبين عندهم بطلان خرافات نفسه. فأراد فرعون أن يصرف موسى عليه السلام عن ذلك الكلام الذي يتعلق بالرسالة، إلى الحكايات. فعسى يظهر منه نوع غفلة، فيرتقي فرعون إلى أن يدعي قدام قومه نوع معرفة. فقال: ما حال القرون الحالية قالَ موسى: عِلْمُها أي علم حالهم عِنْدَ رَبِّي، فلا يعلمها إلا الله، وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه. فِي كِتابٍ، أي ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، يكون المكتوب فيه يظهر للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم لكل المعلومات، منزّه عن السهو، والغفلة، أو المعنى. إن بقاء المعلومات في علمه تعالى كبقاء المكتوب في الكتاب، فلا يزول شيء منها عن علمه تعالى. لا يَضِلُّ رَبِّي، أي لا يخطئ عن معرفة الأشياء، ولا يخفى شيء عن علمه، وَلا يَنْسى (52) شيئا علمه. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا. وقرأ عاصم وحمزة بفتح الميم وسكون الهاء. والباقون بكسر الميم وفتح الهاء مع الألف. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا، أي جعل لكم في الأرض طرقا تذهبون وتجيئون فيها. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، هذا تمام كلام موسى عليه السلام، ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه، تتميما لكلام موسى لخطاب أهل مكة فقال: فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء، أَزْواجاً، أي أصنافا، مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) ، أي مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع، بعضها صالح للناس، وبعضها للبهائم، على اختلاف وجوه الصلاح. وقيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام، كأنه يقول: ربي الذي جعل لكم كذا وكذا، فأخرجنا نحن معشر عباده بذلك الماء بالحراثة، أزواجا من نبات شتى. وقال صاحب الكشاف: إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: وَلا يَنْسى ثم ابتدأ كلام الله، من قوله الَّذِي جَعَلَ فهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هو الذي جعل، ويكون الانتقال من الغيبة إلى التكلم، التفاتا للدلالة على كمال القدرة والحكمة. وللإعلام بأن ذلك لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ، حال من ضمير، أخرجنا على إرادة القول، أي فأخرجنا أصناف النبات قائلين لكم: كلوا وارعوا أنعامكم، أي مبيحين لكم الأكل وعلف الأنعام، آذنين في الانتفاع بها. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في اختلاف النبات في الشكل والطبع، لَآياتٍ واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى، في ذاته، وصفاته، وأفعاله، لِأُولِي النُّهى (54) أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل. مِنْها أي الأرض، خَلَقْناكُمْ وذلك إذا وقعت النطفة، فيخلق الله الولد من النطفة، ومن التراب. وأيضا أن تولّد الإنسان إنما هو من النطفة، ودم الطمث، وهما يتولّدان من الأغذية، وهي تنتهي إلى

[سورة طه (20) : الآيات 61 إلى 70]

النبات، وهي إنما تحدث من امتزاج الماء والتراب. وَفِيها نُعِيدُكُمْ، إلى الموضع الذي أخذ ترابكم منه مدفونين فيه. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) ، يوم البعث على الهيئة السابقة. وَلَقَدْ أَرَيْناهُ أي والله لقد بصّرنا فرعون آياتِنا كُلَّها. روي أن موسى لما ألقى عصاه انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجّه نحو فرعون، فهرب وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه، فصاح فرعون يا موسى: أنشدك بالذي أرسلك ألا أخذته، فأخذه، فعاد عصا. وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون: يا موسى أنشدك إلخ. ونزع موسى يده من جيبه، فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا، خارجا عن حدود العادات، قد غلب شعاعه شعاع الشمس ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة، ولذلك أكدت بكلها. فَكَذَّبَ موسى عليه السلام، وَأَبى (56) أن يؤمن ويطيع لعتوّه قالَ لموسى خوفا من أن يتبعه الناس: أَجِئْتَنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا، لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، بِسِحْرِكَ أي الذي هو العصا واليد البيضاء، يا مُوسى (57) وليكون لك الملك فيها، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي مثل سحرك في الغرابة. فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي وعدا لإتيانك بالسحر، لا نُخْلِفُهُ، أي ذلك الوعد، نَحْنُ وَلا أَنْتَ، ف «موعدا» مفعول أول، والظرف مفعول ثان. مَكاناً مفعول فيه منصوب ب «اجعل» ، سُوىً (58) . قرأ عاصم وحمزة وابن عامر بضم السين، أي تستوي مسافة المكان على الفريقين، والباقون بكسرها، أي غير هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قالَ موسى: مَوْعِدُكُمْ أي أجلكم يَوْمُ الزِّينَةِ، وهو يوم النيروز، أو يوم عيد لهم، وكان يوم عاشوراء. واتفق أنه في هذه الواقعة يوم سبت. وقرأ الحسن، والأعمش، وعيسى، وعاصم، وغيرهم «يوم» بالنصب أي موعدكم يقع يوم الزينة، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) ، عطف على الزينة أو على يوم. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، أي انصرف عن المجلس وفارق موسى، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم، ثُمَّ أَتى (60) بهم الموعد وأتى موسى أيضا. قالَ لَهُمْ. أي لأهل الكيد، مُوسى بطريق النصيحة: وَيْلَكُمْ أي ألزمكم الله ضيقا في الدنيا، لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، بإتيان السحر في معارضة آيات الله وبادعائكم أن الآيات التي ستظهر على يدي سحر فَيُسْحِتَكُمْ. قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء والبيخقون بفتحهما، أي فيهلككم، بِعَذابٍ في الدنيا بالاستئصال أو في الآخرة بالنار. وَقَدْ خابَ أي حرم عن المقصود مَنِ

افْتَرى (61) على الله. فَتَنازَعُوا أي السحرة، أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، أي تشاوروا ليستقروا على شيء واحد حين سمعوا كلام موسى عليه السلام، وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) من فرعون وملئه، فقالوا في نجواهم: إن غلب علينا موسى آمنا به. ثم قالُوا بطريق العلانية، أي قال السحرة، وقيل: قال لهم فرعون ومن معه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ. قرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من «إن» ، وشدّدها الباقون. وشدّد ابن كثير نون «هذان» ، وقرأ عمرو «هذين» بالياء. يُرِيدانِ أي موسى وهارون، أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، أي أرض مصر، بِسِحْرِهِما الذي أظهراه لكم، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) ، أي يذهبا دينكم، الذي هو أفضل الأديان بإعلاء دينهما. أو يقال: يذهبا بإشراف قومكم بميلهم إليهما لغلبتهما- وهم بنو إسرائيل- فإنهم ذوو علم ومال. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ. وقرأ أبو عمرو بفتح الميم، وبوصل الهمزة، أي فأجمعوا أدوات سحركم فلا تتركوا شيئا منها. وقرأ الباقون بكسر الميم، وقطع الهمزة، أي ليكن عزمكم مجمعا عليه لا تختلفوا، ثُمَّ ائْتُوا للقاء موسى وهارون، صَفًّا، أي مصطفين مجتمعين لكي يكون الصف أنظم لأمركم، وأشد لهيبتكم. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) ، أي وقد فاز بالمطلوب من غلب. ومرادهم بالمطلوب الأجر والتقريب من فرعون على ما وعدهم بذلك. ومرادهم بمن غلب أنفسهم جميعا، أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة. قالُوا أي السحرة لموسى: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) ، أي اختر إما إلقاءك ما معك قبلنا، وإما القاءنا ما معنا قبلك. وهذا التخيير حسن أدب منهم، وتواضع لموسى عليه السلام، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع، لم يضر، بل نفعهم، ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته. ثم إن موسى عليه السلام، قابل أدبهم بأدب أحسن من أدبهم، حيث بتّ القول بإلقائهم أولا لأنه فهم أن مرادهم الابتداء. قالَ بَلْ أَلْقُوا، أي قال لهم موسى: لا ألقي أنا أولا بل ألقوا أنتم أولا إن كنتم محقين، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، ميلا من هذا الجانب، وميلا من هذا الجانب. فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أي موسى، مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها حيات تَسْعى (66) . «فإذا» ظرفية تطلب متعلقا ينصبها من فعل المفاجأة، وجملة ابتدائية تضاف إليها. أي ففاجأ موسى إذا حبالهم وعصيهم، مخيلة إلى موسى السعي، كسعي ما يكون حيا من الحيات، من أجل سحرهم، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليه الشمس، اضطربت واهتزت فخيّل إليه أنها تتحرك فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) أي أضمر موسى في قلبه بعض خوف من أن لا يظفر بهم، فيقتلون من آمن به عليه السلام قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) ، أي الغالب عليهم.

[سورة طه (20) : الآيات 71 إلى 80]

وقيل: إن موسى خاف من مفاجأته بمقتضى طبع البشرية من النفرة من الحيات، ومن الاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه، فإن خوف البشرية مركوز في جبلّة الإنسان، وذلك مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها. ولذلك قال تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. وَأَلْقِ، على الأرض ما فِي يَمِينِكَ، يا موسى وإنما لم يقل وألق عصاك تعظيما لشأنها، أي لا تحفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عنده، فألقه، تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، أي تلقم ما طرحوا من الحبال والعصي، الذي خيل إليك سعيها وخفتها. وقرأ ابن عامر «تلقّف» بتشديد القاف، وبالرفع. والعامة بالجزم، وحفص بسكون اللام وبالجزم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي لأن الذي صنعوه عمل ساحر. وقرأ حمزة، والكسائي و «كيد سحر» بكسر، فسكون، على أن الإضافة للبيان. وقرأ مجاهد، وحميد، وزيد بن علي، بنصب «كيد ساحر» ، على أنه مفعول به، و «ما» كافة مزيدة، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ، أي لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، حَيْثُ أَتى (69) أي أينما كان، وهذا من تمام التعليل. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي فألقى موسى عصاه، فتلقّفت حبال السحرة وعصيّهم فسجدوا، فإنهم من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا، فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود. روي أنهم في سجودهم رأوا الجنة، ومنازلهم التي يصيرون إليها، ثم رفعوا رؤوسهم، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قال رئيسهم: كنا نغالب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا، فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه؟! قالَ لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له، إِنَّهُ أي موسى لَكَبِيرُكُمُ أي أستاذكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، وأنكم تلامذته في السحر، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لشأنه وتفخيما لأمره، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، أي في حال كونها مختلفات، والقطع من خلاف، أن تقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لا كل واحد من العضوين، فإن هذا يد، وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، أي عليها، وأتى بكلمة «في» ، للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا، تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أي أنا أو موسى، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) . وهذا لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به، لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء. أو لإرادة أن إيمانهم كان على خوف من موسى، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم، فخافوا على أنفسهم أيضا، وفي ذلك تبجّح فرعون بما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب. قالُوا: أي السحرة لفرعون غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ، أي لن نختار اتباعك عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام، مِنَ

الْبَيِّناتِ أي المعجزات الظاهرة الدالة على صدق موسى. وَالَّذِي فَطَرَنا أي ولا على عبادة الذي خلقنا، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ أي فاصنع ما أنت صانعه، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) ، أي لأنك إنما تحكم علينا في الدنيا فقط، وليس لك علينا سلطان في الآخرة، وأنت تجزى على حكمك في الآخرة، وما لنا من رغبة في حلاوة الدنيا ولا رهبة من عذابها. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، أي شركنا ومعاصينا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، أي وليغفر لنا السحر الذي عملناه في معارضة موسى رغبة في خيرك، ورهبة من شرك، بإكراهك علينا في الحضور إليك من المدائن القاصية، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) أي فخيره تعالى أبقى من خيرك لمن أطاعه، وعذابه أبقى من عذابك لمن عصاه، إِنَّهُ أي لأنه الشأن، مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ يوم القيامة مُجْرِماً، بأن مات على الكفر، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها، فينتهي عذابه ويستريح وَلا يَحْيى (74) ، حياة ينتفع بها. وَمَنْ يَأْتِهِ يوم القيامة مُؤْمِناً، بما وعد من الثواب، وأوعد من العقاب على لسان أنبيائه، قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ التي جاءوا بها، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) ، أي المنازل الرفيعة في الجنان. جَنَّاتُ عَدْنٍ، وهي في وسط الجنان، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ، أي الدرجات العلى، جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) ، أي تطهر من الذنوب. وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي. قرأ نافع وابن كثير بكسر النون، وهمزة وصل. أي سر ببني إسرائيل أول الليل من أرض مصر إلى البحر، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً، أي اجعل لهم بالضرب بعصاك طريقا في البحر يابسا ليس فيه وحل ولا نداوة. لا تَخافُ دَرَكاً، أي إدراك فرعون، وَلا تَخْشى (77) ، من الغرق. وقرأ حمزة «لا تخف» بالجزم جوابا للأمر. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، أي فلحقهم فرعون مع جموعه، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) ، أي فسترهم ما سترهم من البحر. وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ، أي سلك بهم مسلكا أدّاهم إلى الهلاك في الدين والدنيا معا، حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الدنيوي المتصل بالعذاب الأخروي. وَما هَدى (79) أي ما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب دنيوي وأخروي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان موسى وبنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلا وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف، ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وخرج فرعون في طلب موسى، وعلى مقدمته ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب. فلما انتهى موسى إلى البحر قال: هاهنا أمرت، فأوحى الله إليه: أن اضرب بعصاك البحر، فضرب، فانفلق، فقال لهم موسى عليه السلام: أدخلوا فيه. فقالوا: وأرضه رطبة، فدعا الله تعالى فهبت عليها الصبا فجفت. فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر.

[سورة طه (20) : الآيات 81 إلى 90]

فأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال قومه له: إن موسى قد سحر البحر فصار كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأصبر الحصان الحجر، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس: الحقوا الملك، حتى إذا دخل آخرهم، وكاد أولهم أن يخرج التقى البحر عليها فغرقوا، فسمع بنو إسرائيل خفقة البحر عليهم، فقالوا: ما هذا يا موسى؟ قال: قد أغرق الله فرعون وقومه، فرجعوا حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادع الله أن يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فدعا، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سلاحهم. يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي وقلنا: يا أولاد يعقوب، قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه بإغراقهم، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ، أي واعدناكم إتيان جانب الجبل الأيمن، لمن انطلق من مصر إلى الشام. فإن الله أمر أن يأتي منهم سبعون مع موسى إلى طور سيناء لأخذ التوراة، ففيه صلاح دينهم ودنياهم وأخراهم، وَنَزَّلْنا في التيه، عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) ، فالمنّ: هو شيء «حلو أبيض مثل الثلج، كان ينزل من الفجر إلى طلوع الشمس، لكل إنسان صاع» . والسلوى: «هو السماني يبعثه الجنوب عليهم فيذبح الرجل منهم ما يكفيه» . كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، أي من لذائذه. وقرأ حمزة والكسائي: «قد أنجيتكم» ، و «وعدتكم» ، و «رزقتكم» بتاء المتكلم. والباقون بنون العظمة، واتفقوا على ونزلنا بالنون. وأسقط أبو عمرو ألف «واعدنا» . وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم بأن لم تشكروه. قال ابن عباس: أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، بكسر الحاء أي يجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائي بضم الحاء أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) ، أي هلك وو قرأ الكسائي بضم اللام الأولى. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من الشرك والمعاصي، وَآمَنَ بما يجب الإيمان به، وَعَمِلَ صالِحاً أي مستقيما عند الشرع والعقل، ثُمَّ اهْتَدى (82) أي استمرّ على الهدى من غير تقصير، ومات على ذلك فلما ذهب موسى عليه السلام مع السبعين إلى الميقات تعجّل إلى الميعاد قبلهم، قال الله له: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) أي وقلنا له: أي شيء أعجبك منفردا عن النقباء، قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي هم معي، وإنما سبقتهم بخطي يسيرة ظننت أنها لا تخلّ بالمعيّة ولا تقدح في الاستصحاب. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، قالَ تعالى: يا موسى فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم. وهم الذين خلفهم موسى مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) ، حيث كان هو المدبّر في الفتنة، واسمه موسى بن

ظفر، وكان منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، وكان قد ربّاه جبريل فكان يغذيه من أصابعه الثلاثة، فيخرج له من أحدها لبن، ومن الأخرى سمن، ومن الأخرى عسل. وذلك لأن فرعون لما شرع في ذبح الولدان، كانت المرأة من بني إسرائيل، تأخذ ولدها وتلقيه في حفيرة أو كهف من جبل، أو غير ذلك، وكانت الملائكة تتعهد هذه الأطفال بالتربية حتى يكبروا فيدخلوا بين الناس. وقرئ وأضلّهم السامري على صيغة التفضيل، أي أشدهم ضلالا السامري، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ، بعد ما استوفى الأربعين ليلة وأخذ التوراة غَضْبانَ أَسِفاً، أي حزينا. روي أنه لما رجع موسى سمع الصياح، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة، قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة، فيها ما فيها من الهدى؟ أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي أوعدكم ذلك فطال عليكم مدة الإنجاز، ومدة نعم الله تعالى عليكم من إنجائه إياكم من فرعون، أفنسيتم ذلك العهد أو تعمدتم المعصية؟! أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بسبب عبادة العجل فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) ، بالإقامة على طاعة الله تعالى؟ قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا. قرأ حمزة والكسائي بضم الميم، أي بسلطاننا وقوتنا. ونافع وعاصم، بفتح الميم. وأبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالكسر أي بأمر كنا نملكه ونريده. وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص، وابن عامر بضم الحاء، وكسر الميم مشددة، أي أمرنا أن نحمل أحمالا من حليّ القبط التي استعرناها منهم، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وفي الواقع ليس للعرس، أي فإن موسى أمرهم باستعارة الحليّ والخروج بها. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو عمرو، وعاصم، في رواية أبي بكر بفتح الحاء والميم مخففة، أي حملنا مع أنفسنا ما كنا استعرناه من حليّ آل فرعون، فَقَذَفْناها أي فطرحنا الحليّ في النار بأمر السامري. روي أنه قال لهم: إنما تأخر عنكم مجيء موسى عليه السلام لما معكم من الأوزار، أي فهو محبوس عقوبة بالحلي، فالرأي أن تحفروا لها حفيرة، وتوقدوا فيها نارا، وتقذفوها فيها لتخلصوا من ذنبها. فَكَذلِكَ، أي فمثل ذلك القذف، أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) ما كان معه منها، فَأَخْرَجَ أي السامري لَهُمْ عِجْلًا أي صورة عجل من تلك الحلي المذابة، أي فصاغ لهم السامري من الذهب الذي ألقوا في النار في ثلاثة أيام، جَسَداً أي حال كون العجل جسدا صغيرا من ذهب بلا روح. لَهُ خُوارٌ أي صوت يسمع. أي أن السامري صوّر صورة على شكل العجل. وجعل فيها منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح، فيخرج صوت يشبه صوت العجل.

[سورة طه (20) : الآيات 91 إلى 100]

قال ابن عباس: لا، والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك. فَقالُوا أي السامري ومن تبعه في بادئ الرأي لمن توقف من بني إسرائيل: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) ، أي موسى أن إلهه هنا فيطلبه في الطور. وفي موضع آخر أو فنسي السامري الاستدلال على حدوث الأجسام، وأن الإله لا يحلّ في شيء ولا يحل فيه شيء. أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ أي العجل، إِلَيْهِمْ قَوْلًا. أي ألا يتفكر السامري وأصحابه فلا يعلمون أنه لا يرجع إليهم كلاما. وقرئ «يرجع» بالنصب، أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم، قولا من الأقوال، و «أن» الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين. وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) أي، ولا يقدر العجل على أن يدفع عنهم ضرا، ولا أن يجرّ لهم نفعا فيخافوا كما يخافون فرعون، ويرجوا منه كما يرجون من فرعون، فكيف يقولون ذلك؟ وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل مجيء موسى عليه السلام: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، أي أوقعتم في الفتنة بالعجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ أي إن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن. وإنما قال هارون ذلك شفقة منه على نفسه، وعلى الخلق. كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح وهمّه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتمّ بالمسلمين فليس منهم» » . ويروى: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه، إذ نظر إلى شاب على باب المسجد فقال: «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» «2» ، فسمع الشاب ذلك فولّى، فقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار، وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك، فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتشعل النار بي حتى تبرّ يمينه، ولا تشعل النار بأحد آخر. فهبط جبريل عليه السلام وقال يا محمد: بشّر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك، وفدائه أمتك بنفسه، وشفقته على الخلق. قالُوا في جواب هارون عليه السلام: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ، أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) . جعلوا رجوع موسى عليه السلام إليهم، غاية لعكوفهم على عبادة العجل بطريق التعلل والتسويف، وقد دسّوا تحت ذلك، أن موسى لا يرجع بشيء مبين اعتمادا على مقالة السامري.

_ (1) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (7: 2530) ، والحاكم في المستدرك (4: 320) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 84) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (43706) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3: 48) . (2) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (9: 529) ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار (4: 282) .

واعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الطرق، لأنه زجرهم عن الباطل: أولا: بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وهو إزالة الشبهات- لأنه لا بدّ قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق- ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى. ثانيا: بقوله: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، لأنها الأصل، وإنما خصّ هذا الموضع باسم الرحمن، لأنه عليه السلام كان ينبئهم، بأنهم متى تابوا قبل الله توبتهم، لأنه هو الرحمن كما خلصهم من آفات فرعون برحمته، ثم دعاهم. ثالثا: إلى معرفة النبوة بقوله: فاتبعوني، ثم دعاهم. رابعا: إلى الشريعة بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثم إنهم لجهلهم وتقليدهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال، بقولهم لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فجحدوا قول هارون كما هو عادة المقلّد. فكأنهم قالوا: لا نقبل حجّتك، ولكن نقبل موسى. روي أنهم لما قالوا ذلك: اعتزلهم هارون عليه السلام، في اثني عشر ألفا، وهم الذين لم يعبدوا العجل. قالَ موسى: يا هارُونُ حين سمع جوابهم له وهو مغتاظ: ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) بعبادة العجل، أَلَّا تَتَّبِعَنِ في حالي الغضب لله تعالى، والمقاتلة مع من كفر به، أي أيّ شيء دعاك إلى أن لا تتبعني في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعا أو كرها، فلم تركت قتالهم وتأديبهم، وتركت وصيتي، وأنت نبي الله، وأخي، ووزيري، وخليفتي في قومي؟ وأثبت الياء بعد النون ابن كثير، وقفا ووصلا، وأثبتها نافع وأبو عمرو، وصلا لا وقفا، وحذفها الباقون وصلا ووقفا أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) ، أي ألم تتبعني وعصيت أمري؟ وأمره عليه السلام هو ما حكاه الله تعالى عنه في قوله تعالى: وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فلما أقام هارون معهم ولم يبالغ في منعهم، نسبه إلى مخالفة أمره. الَ هارون لموسى: ابْنَ أُمَ ذكر هارون أمه، مع أن موسى أخوه الشقيق، ترقيقا لقلبه. قرأ حمزة والكسائي بكسر الميم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ، أي ولا بشعر رأسي. روي أن موسى عليه السلام أخذ شعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله من فرط غضبه لله. ِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، برأيك بسبب القتال تفريقا لا يرجى بعده الاجتماع. لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) ، أي ولم تنتظر قدومي، فمن ذلك تركت القتال معهم. وإني رأيت أن الإصلاح، في المداراة معهم إلى أن ترجع إليهم لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت، قالَ موسى عليه السلام للسامري موبخا له بعد سماع الاعتذارين: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) أي فيما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما مطلوبك مما فعلت من عبادة العجل؟ قالَ أي السامري مجيبا له عليه السلام: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، بضم الصاد فيهما. وقرأ حمزة والكسائي، بالتاء على خطاب موسى وقومه، أي رأيت ما لم يره بنو إسرائيل، قال له

موسى: وما رأيت دونهم؟ قال: رأيت جبريل لما نزل على دابة الحياة فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، أي حفنة من تربة موطئ فرس الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور للمناجاة، وأخذ التوراة. وقرأ الحسن «قبضة» بضم القاف. وقرئ «قبصت قبصة» ، بالصاد المهملة، فالضاد المعجمة للأخذ بجميع الكف، والمهملة للأخذ بأطراف الأصابع. فَنَبَذْتُها أي فطرحت المأخوذ في فم العجل المصوغ ودبره فخار، أو في الحلي المذابة. قال أبو مسلم الأصفهاني: إن موسى عليه السلام، لما أقبل على السامري باللوم على الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ إلخ. أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق. وقد كنت أخذت شيئا من سنتك أيها الرسول فطرحتها، وعلى هذا فالمراد بالأثر: الدين، وبالرسول: سيدنا موسى عليه السلام. قال الرازي: وهذا القول أقرب إلى التحقيق لأن جبريل لم يجر له فيما تقدم ذكره، وليس بمشهور عندهم باسم الرسول ولأن إضمار الكلام خلاف الأصل، ولأن جبريل ربّى السامري حال طفولته فلا يعرفه، ولو عرفه بعد البلوغ لعرف قطعا أن موسى عليه السلام نبي صادق، ولأنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة أن تراب فرس جبريل له خاصية الإحياء، لاطلع موسى عليه السلام على شيء آخر يشبه ذلك، فلأجله أتى بالمعجزات. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) ، أي وزينت لي نفسي تزينا كائنا مثل ذلك التزيين الذي فعلته من القبص، والنبذ، فالمعنى لم يدعني إلى ما فعلته أحد غيري، بل اتبعت هواي فيه. قالَ له موسى: فَاذْهَبْ يا سامري من بين الناس، فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ، أي فإن قولك لا مساس ثابت لك في مدة حياتك لا ينفك عنك، فكان يصيح بأعلى صوته: لا مساس، أي إني لا أمسّ ولا أمسّ، وإذا مسّه أحدّهم أخذت الحمّى الماسّ والممسوس، فكان إذا أراد أحد أن يمسّه صاح خوفا من الحمى، وقال: لا مساس. وحرّم موسى عليهم مكالمته، ومبايعته، وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس، فكان يهيم في البرية مع السباع والوحوش، ويقال: إن موسى همّ بقتل السامري، فقال الله تعالى: «لا تقتله فإنه سخي» . وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لعذابك في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ. قرأ أهل المدينة والكوفة، بفتح اللام أي لن يخلفك الله ذلك الوعد. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والحسن بكسر اللام، أي لن تجد للوعد خلفا ولن يتأخر عنك. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً، أي الذي أقمت عابدا على إلهك ثم لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار. ويؤيده قراءة «لنحرقنّه» بضم النون، وسكون الحاء أو «لنبردنّه» بالمبرد، ويعضده قراءة أبي جعفر، وابن محيصن «لنحرقنّه» بفتح النون، وضم الراء، أي لنبردنّه بعد أن أحميه بالنار، حتى لان فهان على المبارد. ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) أي لنذرينّه في هواء البحر ذروا إذا صار رمادا، أو مبرودا، كأنه هباء. ولقد فعل موسى عليه السلام ذلك كله حينئذ، فلما فرغ موسى من إبطال ما

[سورة طه (20) : الآيات 101 إلى 110]

ذهب إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ أي إنما معبودكم المستحق للعبادة الله، الَّذِي لا إِلهَ أي لا معبود لشيء من الأشياء موجود، إِلَّا هُوَ، وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء. وقرئ «الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش» ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ، أي وسع علمه كل شيء فيعلم من يعبده ومن لا يعبده. كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ، أي نقص عليك يا أشرف الخلق- من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية- قصا مثل ذلك القصّ المارّ، زيادة في معجزاتك، وليكثر الاعتبار للمكلّفين بها في الدين. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) أي ولقد أعطيناك من عندنا قرآنا مشتملا على هذه الأخبار. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ أي عن ذلك الذكر، فَإِنَّهُ أي المعرض عنه، يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) أي عقوبة ثقيلة، خالِدِينَ فِيهِ أي في حمل العقوبة، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا (101) ، أي بئس لهم حملا عقوبتهم، أو بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفرا بالقرآن. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، النفخة الثانية. قرأ الجمهور بالياء المضمومة، وفتح الفاء، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة، وضم الفاء، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له، وقرئ بالياء المفتوحة، والضمير لله تعالى، أو لإسرافيل، وإن لم يجر ذكره لشهرته. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين، يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ينفخ في الصور زُرْقاً (102) أي زرق العيون، سود الوجوه، لأن زرقة العيون أبغض ألوان العين إلى العرب، أو عميا، لأن حدقة الأعمى تزرق، أو عطاشا لأنهم من شدة العطش، يتغيّر سواد عيونهم حتى تزرق، أو طامعين فيما لا ينالونه. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة لما يملأ صدورهم من الرعب، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (103) أي ما مكثتم في القبور إلّا عشرة أيام، لأنهم يرون من شدة أهوال ذلك اليوم، ما يقلل ذلك في أعينهم، فهم يحسبون أنهم ما لبثوا في القبور إلّا عشرة أيام، وهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك، اعترافا به، وتحقيقا لسرعة وقوعه، كأنهم قالوا قد بعثتم، وما لبثتم في القبور، إلا مدة يسيرة. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في ذلك اليوم أي ليس كما قالوا. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً. أي أصوبهم رأيا إِنْ لَبِثْتُمْ، أي ما مكثتم في القبور، إِلَّا يَوْماً (104) ، ونسبة هذا القول إلى أفضلهم عقلا لكونه أدلّ على شدة الهول. وَيَسْئَلُونَكَ أي يسألك يا أشرف الخلق، مشركو مكة على سبيل الاستهزاء، أو بنو ثقيف، عَنِ الْجِبالِ أي عن أمر الجبال كيف تكون يوم القيامة، فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) ، أي يصير الجبال كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح، فَيَذَرُها أي فيترك الأرض بعد قلع الجبال، قاعاً أي مستويا صَفْصَفاً (106) أي ملساء لا نبات فيها، لا تَرى فِيها أي الأرض عِوَجاً أي لا تدرك فيها انخفاضا وَلا أَمْتاً (107) أي نتوءا يسيرا. يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أي يوم إذ نسفت الجبال، يتبع الناس

[سورة طه (20) : الآيات 111 إلى 120]

صوت الداعي إلى المحشر بعد القيام من القبور، فيقبلون من كل أوب إلى جهته. والراجح أن الداعي: جبريل، والنافخ: إسرافيل، لا عِوَجَ لَهُ، أي لا يعدل الداعي عن أحد بدعائه، بل يحشر الكل. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ، أي سكنت لِلرَّحْمنِ، أي لهيبة الرحمن. فَلا تَسْمَعُ، يا أشرف الخلق، إِلَّا هَمْساً (108) ، أي وطأ خفيا كوطء الإبل- وهو خفق أقدامهم في مشيها إلى المحشر- وهذا قول ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وابن زيد. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) أي يوم إذ يتبعون الداعي، لا تنفع الشفاعة أحدا من الخلق، إلا شخصا أذن لأجله في أن يشفع له، وقبل منه قولا واحدا من أقواله، وهو شهادة «أن لا إله إلا الله» ، بأن مات على الإسلام وإن عمل السيئات، وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفسّاق وهي نافعة لهم. يَعْلَمُ، أي الرحمن ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، أي المتبعين للداعي وهم الخلق جميعهم، وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما مضى من أحوالهم وما بقي منها، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ، أي بما بين أيديهم وما خلفهم عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، أي ذلّت المكلفون لله تعالى ذلّ الأسارى في يد الملك القهار. وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) ، أي خسر من أشرك بالله ولم يتب. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، أي بعضا من الصالحات وهو الفرائض، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فإن الإيمان شرط في الصحة والقبول. فَلا يَخافُ ظُلْماً أي منعا من الثواب، وَلا هَضْماً (112) أي نقصا من ثوابه. وقال أبو مسلم: الظلم: نقص من الثواب، والهضم: عدم تمام حقه من التعظيم، لأن الثواب مع كونه من اللذات، لا يكون ثوابا، إلا إذا قارنه التعظيم. فنفى الله تعالى عن المؤمنين كلا الأمرين. وقرأ ابن كثير: «فلا يخفّ» بالجزم على النهي، أي فليأمن فالنهي عن الخوف والأمر بالأمن. وَكَذلِكَ، ومثل إنزال هذه الآيات، أَنْزَلْناهُ، أي القرآن كله قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب، وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، أي وكرّرنا في القرآن نوعا من الوعيد، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. أي لكي يتقوا الكفر والفواحش. أَوْ يُحْدِثُ، أي القرآن لَهُمْ ذِكْراً (113) . أي اتعاظا يدعوهم إلى الطاعات، وفعل ما ينبغي، فإن لم يحصل التقوى، فأقلّ ما يحصل أن يحدث القرآن لهم شرفا وصيتا حسنا. فَتَعالَى اللَّهُ أي تنزّه عن مماثلة المخلوقات في ذاته، وصفاته، وأفعاله. الْمَلِكُ، النافذ أمره ونهيه، الْحَقُّ، أي الثابت في ملكه. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ. أي ولا تستعجل يا أشرف الخلق بقراءة القرآن، من قبل أن يفرغ جبريل من قراءة القرآن عليك. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا ألقى إليه جبريل الوحي، يتبعه عند تلفّظ كل حرف، وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالحفظ، فنهي عن ذلك، وأمر باستزادة العلم من الله تعالى فقيل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) أي فهما لإدراك حقائقه، فإنها غير متناهية.

[سورة طه (20) : الآيات 121 إلى 130]

روى الترمذي، عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علما والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» «1» . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية، قال: اللهم زدني علما ويقينا. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ، أي وصّيناه أن لا يأكل من الشجرة، مِنْ قَبْلُ، أي من قبل أكله منها، فَنَسِيَ عهدنا وأكل منها. وقرئ «فنسي» بالبناء للمجهول، وبتشديد السين، أي فنسّاه الشيطان. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) . أي تصميما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد. فهو إنما أخطأ في الاجتهاد، أو لم نجد له عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد، وهذا أقرب إلى المدح، ف «عزما» مفعول به، و «له» حال منه، أو متعلّق ب «نجد» ، أو ب «عزما» وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، أي واذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه، حتى يتبين نسيانه لك، وفقدان صبره عما نهيناه عنه، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، رئيسهم أَبى (116) ، أي أظهر الإباء، فَقُلْنا عقب ذلك: يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي تكبّر عليك، عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حواء، لأن إبليس رأى آثار نعم الله تعالى، في حق آدم عليه السلام، فإنه كان شابا عالما وإبليس كان شيخا جاهلا فأثبت فضله بفضيلة أصله، وهو النار. وبينها وبين أصل آدم وهو الماء، والتراب، عداوة فثبتت تلك العداوة. فَلا يُخْرِجَنَّكُما، بوسوسته مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) . أي فتتعب ففي طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة. روي أنه هبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي الجنة، وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا، أي لا تعطش فِيها وَلا تَضْحى (119) ، أي لا يصيبك حرّ الشمس، أو تعرق. فالجوع: ذل الباطن. والعري: ذلّ الظاهر. والظمأ: حرّ الباطن. والضحو: حرّ الظاهر. فنفى الله عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن، وحرّ الظاهر والباطن. وقرأ نافع، وأبو بكر، و «إنك» بكسر الهمزة استئناف أو عطف على «أن» الأولى. والباقون بفتحها عطف على «أن لا تجوع» . فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، أي أنهى إليه وسوسته، ثم بيّن الله صورة الوسوسة بقوله تعالى: قالَ؟؟؟ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) . أي لا يزول ولا يختل، أي هل أدلك على الشجرة التي من أكل منها خلّد، ولا يموت أصلا ودام ملكه، إما على حاله، أو على أن يصير ملكا. فَأَكَلا مِنْها، أي الشجرة

_ (1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات، باب: 128، وابن ماجة في المقدّمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به.

فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، أي ظهرت فروجهما لكل منهما، بسبب تساقط حلل الجنة عنهما لمّا أكلا من الشجرة. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا يلزقان ورق التين بعضه ببعض، لأجل ستر عوراتهما، كلما ألزقا بعضه ببعض تساقط. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، بأكله من الشجرة أي خالف آدم نهي ربه، لأنه اعتقد أن النهي عن شجرة معينة، وأن غيرها ليس منهيا عنه فَغَوى (121) . أي خاب من نعيم الجنة فلم يصب بأكله من الشجرة ما أراده، لأنه إنما أكل منها ليصير ملكه دائما، فلما أكل زال ملكه، وخاب سعيه. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي قرّبه بالتوفيق للتوبة، فَتابَ عَلَيْهِ، أي قبل توبته حين تاب هو وزوجته، وَهَدى (122) إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة. قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً أي انزلا يا لآدم وحواء من الجنة إلى الأرض، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالخطاب لآدم وحواء ولإبليس. وقيل: مع آدم، وذريته قابيل وأقليما، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، أي فإن يأتكم يا ذرية لآدم مني دلالة من كتاب ورسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، أي دلالتي فَلا يَضِلُّ في الدين والدنيا وَلا يَشْقى (123) ، بسبب الدين فيها وفي الآخرة. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، أي عن الهدى الداعي إلي، فَإِنَّ لَهُ، في الدنيا، مَعِيشَةً ضَنْكاً. أي ضيقة، وهي معيشة الكافر فإنه يكون حريصا على الدنيا للزيادة أبدا، فحالته مظلمة، لأن مطامح نظره مقصورة على أمتعة الدنيا، وهو خائف من انتقاصها. أما المسلم فهو يعيش في الدنيا عيشا طيبا لتوكّله على الله تعالى، فإن المؤمن الطالب للآخرة يوسّع ببركة الإيمان. وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الأدلة، يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) ، أي فاقد البصر أي فإذا خرج هو من القبر خرج بصيرا، فإذا سيق إلى المحشر عمي، فإذا دخل النار زال عماه، ليرى محلّه وحاله. قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) في الدنيا وعند البعث؟ قالَ كَذلِكَ، أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسّره بقوله تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا أي دلائلنا في الدنيا واضحة بحيث لا تخفى على أحد، فَنَسِيتَها أي تركتها، وَكَذلِكَ أي مثل تركك آياتنا في الدنيا الْيَوْمَ تُنْسى (126) . أي تترك في العذاب جزءا وفاقا وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية، نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، بالانهماك في الشهوات، وَلَمْ يُؤْمِنْ؟؟؟ بِآياتِ رَبِّهِ، بل كذّبها، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) ، من عذاب الدنيا وعذاب القبر. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ، أي أغفلوا، فلم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: أفلم نهد بالنون، أي أفلم نبيّن لأهل مكة بيانا يهتدون به كثرة من أهلكنا من القرون الماضية من أصحاب الحجر، وثمود، وقريات قوم لوط. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، حال من الضمير لهم، أي حال كون هؤلاء القريش ماشين في منازل تلك القرون إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك لَآياتٍ ظاهرة الدلالة على الحق، لِأُولِي النُّهى (128) . أي لأهل العقول الناهية عن القبائح. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ،

[سورة طه (20) : الآيات 131 إلى 135]

وهي عدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه. لَكانَ أي الإهلاك بجناياتهم، لِزاماً، أي لازما لهم بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة. وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى، لعذابهم يوم القيامة، لما تأخر عذابهم أصلا، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، أي لا يضطرب قلبك يا أكرم الرسل، لما صدر منهم من الأذيّة، بالشتم والتكذيب، فيما تدعيه من النبوة. فقالوا: إن محمدا ساحر، أو مجنون، أو شاعر، أو غير ذلك. فهذه الآية غير منسوخة. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، أي ساعاته. فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ. عطف على محل من «آناء» المنصوب ب «سبّح» المقرون بالفاء الزائدة، أو عطف على «قبل» ، أي في طرفي نصفيه، أي في الوقت الذي يجمع الطرفين، وهو وقت الزوال، فهو نهاية للنصف الأول، وبداية للنصف الثاني، أي اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات عما ينسبونه إليه تعالى مما لا يليق به، حامدا له على ما ميّزك بالهدى. أو المعنى صلّ وأنت حامد لربك على كمال هدايته إياك، صلاة الصبح وصلاة العصر، وصلاة المغرب، والعشاء، وصلاة الظهر. لَعَلَّكَ تَرْضى (130) . رجاء أن تنتفع بذلك وترضي به نفسك. وقرأ الكسائي، وأبو بكر، عن عاصم، بضم التاء أي لعلك تعطى ما يرضيك. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطل نظرهما، إِلى ما مَتَّعْنا، أي ألذذنا، بِهِ أَزْواجاً، أي أصنافا مِنْهُمْ، أي الكفرة من بني قريظة والنضير. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها بدل من «أزواجا» ، أو حال من «ما» الموصولة، أو من «الهاء» في «به» . لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنعذبهم في الآخرة بسببه أو لنجعل ذلك فتنة لهم، بأن يزيدوا بذلك طغيانا وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) . أي ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة، خير لك من حيث العاقبة. أبقى لأن أموالهم الغالب عليها الغصب، والسرقة، فالحلال خير وأبقى. قال أبو رافع: نزل ضيق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فبعثني إلى يهودي لبيع أو سلف، فقال: والله لا أفعل ذلك إلا برهن، فأخبرته صلّى الله عليه وسلّم بقوله، فأمرني أن أذهب بدرعه الحديد إليه، فنزل قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. وقال أبو مسلم: أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، فالذي نهى عنه الأسف لا النظر. وَأْمُرْ أَهْلَكَ أي أهل دينك بِالصَّلاةِ، لئلا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة. وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، أي على مشاقّها وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرّغ بالك بأمر الآخرة وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) أي العاقبة الجميلة لأهل تقوى الله تعالى. وَقالُوا أي مشركو مكّة: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أي هلا يأتينا محمد بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة، وبآية مما اقترحناها. قال تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) أي ألم يكفهم اشتمال القرآن على بيان ما في التوراة، والإنجيل، وسائر الكتب

السماوية في كونه آية دالة على صدق محمد، حتى طلبوا غيرها، فإن في الصحف الأولى: بشارة بصفة محمد، ونبوته، وبعثته، وأنباء الأمم الماضية، وإهلاكهم بتكذيب الرسل وجحود الآيات. وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، أي ولو أنا أهلكنا أهل مكة في الدنيا بعذاب مستأصل من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن، لَقالُوا يوم القيامة: رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا أي لم لم ترسل إلينا في الدنيا، رَسُولًا مع كتاب، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ، أي فنطيع رسولك ونؤمن بكتابك مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ، أي أن يحصل لنا الذل بالعذاب في الدنيا وَنَخْزى (134) . أي أن يحصل لنا الفضيحة بدخول النار اليوم، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيان البينات، فانقطعت معذرتهم، فعند ذلك قالوا: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا، وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] . روي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك، في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلّا كنت أطوع خلقك لك، والمغلوب عقله، يقول: لم تجعل لي عقلا أنتفع به، ويقول الصبي: كنت صغيرا لا أعقل، فترفع لهم نار، ويقال لهم: ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله أنه سعيد، ويبقى من في علمه أنه شقي، فيقول الله تعالى لهم: عصيتم اليوم، فكيف برسلي لو أتوكم» . «1» قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين: كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم. إما قبل الموت: بسبب الأمر بالجهاد، وبسبب ظهور القوة، وإما بالموت: فإن كل واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه. وإما بعد الموت: بظهور أمر الثواب والعقاب، فيظهر على المحق أنواع كرامة الله تعالى، وعلى المبطل أنواع إهانته. فَتَرَبَّصُوا. وقرئ «فتمتعوا» . فَسَتَعْلَمُونَ، عن قريب بوعد من الله لا خلف فيه، مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي العدل. وقرئ «السواء» أي الوسط الجيد. وقرئ «السوء» ، و «السوأى» ، و «السوي» ، تصغير السوء وَمَنِ اهْتَدى (135) إليه أنحن أم أنتم؟ وهذا تهديد الكفار.

_ (1) رواه الطبري في التفسير (16: 17) .

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية، مائة واثنتان وعشرة آية، ألف ومائة وثلاثون كلمة، أربعة آلاف وثمانمائة وستون حرفا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، أي قرب من كفار قريش وقت حساب أعمالهم الموجبة للعقاب، فإن كل آت قريب، وإن طالت أوقات ترقّبه، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أي والحال أنهم منكرون للحساب، لا يتفكرون في عاقبتهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء المحسن والمسيء، مُعْرِضُونَ (1) . عن الآيات المنبّهة لهم عن سنة الغفلة. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ، أي من جزء نازل من القرآن ينبههم عن الغفلة أتمّ تنبيه، مِنْ رَبِّهِمْ، متعلق ب «يأتيهم» ، مُحْدَثٍ أي متجدد ننزله آية بعد آية، وسورة بعد سورة، بحسب اقتضاء الحكمة. قرأ ابن أبي عبلة «محدث» بالرفع صفة ل «محل» ذكر، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) . أي والحال أنهم يهزئون. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ، حال من واو «يلعبون» . والمعنى: ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال، إلا حال استماعهم إياه مستهزئين به حال كون قلوبهم غافلة عن معناه، لفرط إعراضهم عن النظر في الأمور وعن التفكّر في العواقب. وقرأ ابن أبي عبلة «لاهية» بالرفع خبر ثان، أو خبر مقدّم وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، أي بالغوا في إخفاء التناجي، وجعلوه بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم، الَّذِينَ ظَلَمُوا بدل من واو «أسرّوا» ، أو مبتدأ وخبره «أسرّوا النجوى» . والمعنى: وهم أسرّوا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم، هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) ف «هل» بمعنى النفي، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، و «أنتم» حال من فاعل «تأتون» مؤكدة للاستبعاد، فالجملتان الاستفهاميتان في محل نصب، على أنهما محكيتان للنجوى، لأنها في معنى القول. والمعنى: ما محمد إلّا بشر من جنسكم، فكيف يختص عنكم بالرسالة؟ وما أتى به سحر، أتعلمون ذلك فتحضرونه على وجه القبول والحال أنكم تبصرون بأعينكم أنه آدمي مثلكم، وأن ما ظهر منه من نوع السحر. قالَ أي محمد وهو حكاية من الله لقول رسوله، وهذا قراءة حمزة والكسائي وحفص، عن عاصم.

وقرأ الباقون «قل» - على الأمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم-: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ، الكائن فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، سواء كان سرا أم جهرا وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ؟؟؟ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ. وهذا متصل بقوله تعالى هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ، فإن الظالمين لم يقتصروا على قولهم في حقه صلّى الله عليه وسلّم هل هذا إلّا بشر، وفي حق ما ظهر على يده من القرآن أنه سحر، بل قالوا: ما أتانا به محمد أباطيل أحلام كاذبة رآها في النوم، بل اختلق محمد ما أتانا به من تلقاء نفسه من غير أن يكون له. صل، بل محمد هو شاعر، فما أتى به كلام يخيّل للسامع معاني لا حقيقة لها، ويرغّبه فيها، فترتيب كلامهم كأنهم قالوا: ندّعي أن كون محمد بشرا مانع من كونه رسولا لله، فإن سلّمنا أنه غير مانع فلا نسلّم أن هذا القرآن معجز، فإن ساعده على أن فصاحته خارجة عن مقدور البشر. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحرا وإن لم تساعده فصاحته عليه، فإن ادّعينا كونه في غاية الركاكة، قلنا: إنه أضغاث أحلام. وإن ادعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة، قلنا: إنه افتراء، وإن ادعينا أنه كلام فصيح، قلنا: إنه من جنس فصاحة سائر الشعراء. وعلى هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزا ولا يثبت كون محمد رسولا لله تعالى، وإن لم يكن كما قلنا، بل كان رسولا من الله تعالى، فليأتنا بآية كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) أي بآية كائنة مثل الآية التي أرسل بها الأولون، كاليد، والعصا والناقة، ونظائرها، حتى نؤمن به. قال الله تعالى مجيبا لهم: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ، أي قبل مشركي مكة، مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) أي الأمم المهلكة لم يؤمنوا عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات، أهم لم يؤمنوا، فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوا مع كونهم أشدّ عتّوا من أولئك. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا، أي وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك، إلا رجالا مخصوصين من أفراد جنسك، متأهلين للإرسال، ولم يكونوا ملائكة، نُوحِي إِلَيْهِمْ بواسطة الملك، كما نوحي إليك من غير فرق. وقرئ «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول. فَسْئَلُوا أيها الجهلة أَهْلَ الذِّكْرِ، أي أهل الكتاب التوراة والإنجيل، فإنهم يخبرونكم بحقيقة الحال ليزول شككم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) أن الرسل بشر فأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديقكم للذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وَما جَعَلْناهُمْ، أي الرسل جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل والشرب، بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يخرج منه وَما كانُوا أي الرسل خالِدِينَ (8) . في الدنيا بل يموتون كغيرهم لأن عاقبة التحلّل هو الفناء. ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم بإهلاك من كذبهم، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 20]

ممن يصدقونهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) . أي المجاوزين للحدود في الكفر، بعذاب الاستئصال في الدنيا. لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش، كِتاباً أي قرآنا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه ما يوجب الثناء عليكم، لكونه بلسانكم وفيه موعظتكم، أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) ؟ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون؟ إن ذلك الكتاب شرفكم، وسبب اشتهاركم لكونه نازلا بينكم على لسان رسول منكم. وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي وكثيرا كسرنا من أهل قرية كانوا كافرين بآيات الله، بأن قتلوا بالسيوف، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ (11) أي ليسوا منهم نسبا، ولا دينا فسكنوا ديارهم. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا عذابنا الشديد إِذا هُمْ مِنْها أي القرية يَرْكُضُونَ (12) أي يهربون مسرعين، فقيل لهم- بلسان الحال أو بلسان المقال-: لا تَرْكُضُوا أي لا تهربوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ أي أنعمتم فِيهِ من العيش والحال الناعمة، وَمَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) . أي لكي يسألكم الوافدون عطاياكم، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس، أو كانوا بخلاء، فقيل لهم ذلك، تهكما إلى تهكم. قالُوا لما أيقنوا بنزول العذاب: يا وَيْلَنا أي هلاكنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) . أي بقتل نبينا. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ، أي قولهم، أي فلم يزالوا يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي مثل الزرع المحصود بالمناجل في استئصالهم، خامِدِينَ (15) . أي ميتين لا يتحركون أي أنهم أهلكوا بالعذاب، حتى لم يبق لهم حسّ، ولا حركة، وجفّوا كما يجفّ الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار. وهذه قصة أهل قرية في جهة اليمن- يقال لها: حضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة- بعث الله لهم نبيا وهو موسى بن ميشا، بن يوسف، بن يعقوب، وكان قبل موسى بن عمران، فقتلوا ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسلّط الله عليهم بختنصر. كما سلّطه الله على أهل بيت المقدس، فلما علموا أنهم مدركون، خرجوا هاربين، فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تَرْكُضُوا إلخ. فرجعوا، فقتلهم جميعا ولم يترك فيهم عينا تطرف. فلمّا رأوا القتل فيهم أقرّوا بذنوبهم وندموا وقالوا: يا وَيْلَنا أي يا ويل، احضر فهذا وقتك، ولم ينفعهم هذا الندم كقوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) . أي وما سوّينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من العجائب، التي لا تحصر أنواعها خالية عن الحكم، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفروشهم للعب، وإنما سوّيناها لفوائد دينية، ودنيوية، ليتفكّر المتفكّرون فيها، ويستدلوا بها إلى معرفتنا، وللمنافع التي لا تحصى. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي يلعب به لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي من جهة قدرتنا مما يليق بشأننا من المجردات، لا من الأجسام المرفوعة، والأجرام الموضوعة. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة، فيستحيل اتخاذنا له قطعا، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) اتخاذ اللهو أردناه لكنا لم نرده فلم نتخذه، ويجوز أن

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 إلى 30]

تكون «إن» نافية، أي ما كنا فاعلين اتخاذ اللهو لعدم إرادتنا به. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، أي يذهبه بالكلية، كما فعلنا بأهل القرى المحكية، فَإِذا هُوَ أي الباطل زاهِقٌ أي ذاهب بالكلية وهذا انتقال من إرادة اتخاذ اللهو إلى تنزيه ذاته تعالى، كأنه تعالى قال: سبحاننا أن نريد اتخاذ اللهو، بل شأننا بمقتضى حكمتنا، أن نغلب اللعب بالجدّ، وندحض الباطل بالحق. والمقصود من هذه الآية، تقرير نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورد على منكريها، لأنه تعالى أظهر المعجزة عليه صلّى الله عليه وسلّم فإن كان محمد كاذبا كان إظهار الله المعجزة عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه تعالى، وإن كان صادقا فهو المطلوب، وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن، وَلَكُمُ الْوَيْلُ أي ولكم يا كفار مكة شدة العذاب، مِمَّا تَصِفُونَ (18) . أي من أجل قولكم بتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، إلى غير ذلك من الأباطيل. وهذه الآية دالة على أن إهلاك الله أهل القرية لتكذيبهم الرسل عدل منه تعالى، ومجازاة على ما فعلوا. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فهو تعالى منزّه عن طاعتهم، لأنه تعالى هو المالك لجميع المحدثات وَمَنْ عِنْدَهُ أي والملائكة مع كمال شرفهم، ونهاية جلالتهم، لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عن طاعته تعالى، ولا يعدّون أنفسهم كبيرا فكيف يليق بالبشر مع نهاية الضعف، التمرّد عن طاعته، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) أي لا يسأمون ولا يتعبون. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أي ينزهونه تعالى في جميع الأوقات، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام، فكذا اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) . ف «أم» بمعنى: بل، والهمزة، ومعناها إنكار انشار الأصنام للموتى، لا إنكار نفس الاتخاد فإقدامهم على عبادتها، يوجب عليهم الإقرار، بكون الآلهة قادرين على الحشر، والنشر، والثواب، فإذا كانوا عير قادرين على أن يحيوا ويميتوا، ويضرّوا وينفعوا، فأيّ عقل يجوز اتخاذهم آلهة، فقوله: مِنَ الْأَرْضِ كقولك: فلان من مكة، أي فلان مكي، فمعنى نسبة الأصنام إلى الأرض، إعلام بأن الأصنام التي تعبد إما أن تكون منحوتة من بعض الحجارة، أو معمولة من بعض جواهر الأرض. وفي قوله تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ معنى الخصوصية، وحاصل المعنى بل أعبد أهل مكة آلهة أرضية لا يقدر على إحياء الموتى من القبور إلّا هم وحدهم، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم والتجهيل. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو تولى أمور السموات والأرض إله غير الواحد الذي هو فاطرهما، لبطلتا بما فيهما جميعا، وحيث انتفى فسادهما علم انتفاء تدبير إلهين، ويدلّ العقل على ذلك، لأنّا لو قدرنا إليهن لكان أحدهما إذا انفرد صحّ منه تحريك الجسم، وإذا انفرد الثاني صحّ منه تسكينه، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كانا عليه وقت الانفراد، فيصحّ أن يحاول أحدهما التحريك، والآخر التسكين، فإما أن يحصل المرادان وهو محال لاجتماع الضدين، وإما أن يمتنعا، وهو محال أيضا لكون كل واحد منهما

عاجزا، فثبت فساد نظام العالم، فكان القول بوجود إلهين باطلا، فثبت أن مدبّر العالم إله واحد، وإذا عرفت حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم السفلي والعلوي، دليل على وحدانية الله تعالى. فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) . أي نزهوا الله عما يقول الكفار، بوجود آلهة غير الله لأجل هذه الأدلة، فالاشتغال بالتنزيه إنما ينفع بعد إقامة الأدلة على كون الله تعالى منزها فنبّه الله تعالى على نكتة خاصة بعيدة الأصنام وهي: كيف يجوز للعاقل، أن يجعل الجماد الذي لا يعقل شريكا في الألوهية لخالق العرش العظيم، وموجد السموات والأرضين، واللوح والقلم، ومدبر الخلائق، من النور والظلمة، والنباتات، وأنواع الحيوانات والذات والصفات؟ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ أي عما يحكم في عباده من إعزاز، وإذلال، وهدى، وإضلال، وإسعاد وإشقاء، لأنه المالك القاهر. وَهُمْ أي العباد يُسْئَلُونَ (23) . سؤال توبيخ يقال لهم يوم القيامة: لم فعلتم كذا؟ لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم، والله تعالى ليس له شريك في الألوهية يقول له: لم فعلت كذا؟ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل أوصفوا الله تعالى بأن له شريكا وهذا استقباح أمرهم وإظهار جهلهم قُلْ يا أكرم الرسل: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على إثبات الآلهة إما من جهة العقل أو من جهة النقل، كما أتيت أنا ببرهان النقل المؤيد بالعقل. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا إثبات وحدانية الله عظة أمتي وعظة الأمم الماضية، فهم متمسكون على التوحيد فأقيموا أنتم برهانكم على تعدّد الآلهة، ولا يمكن إثبات التعدد بالبرهان، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، ولا يميزون بين الحق والباطل، فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) عن استماع الحق، أي أن وقوعهم في المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه، بل ذلك لأن عندهم ما هو أصل الفساد، وهو عدم العلم، ثم تفرّع منه الإعراض عن طلب الحق. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) ، أي فوحّدوني فالحكمة في بعث الرسل مقصورة على المصلحتين: إثبات وحدانية الله تعالى، وعبادته بالإخلاص. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: بالنون. والباقون على صيغة الغائب، مبنيا للمفعول. وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي وقال فرق من أجناس العرب، وهم: خزاعة، وجهينة، وبنو سلمة، وبنو مليح: الملائكة بنات الله، سُبْحانَهُ أي تنزّه الله تعالى تنزيها لائقا بذاته تعالى بَلْ عِبادٌ أي ليست الملائكة كما قالوا، بل هم عباد الله تعالى. فالعبودية تنافي الولدية، كما أن الولد للإنسان لا يكون عبده. مُكْرَمُونَ (26) أي مقرّبون عنده تعالى، ومفضلون على سائر العباد بالعصمة. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، فإنهم يتبعونه في قوله تعالى ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) أي فلا يعملون عملا ما لم يؤمروا به. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما قدّموا، وما أخّروا من أعمالهم، أي لما علموا كونه

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 31 إلى 40]

تعالى عالما بكل شيء، علموا كونه تعالى عالما بظواهرهم، وبواطنهم، فكان ذلك داعيا لهم إلى نهاية الخضوع وكمال العبودية. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. أي لمن هو مرضي عند الله، وهو من قال: «لا إله إلا الله» ، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بشفاعته مهابة من الله تعالى. وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ تعالى مُشْفِقُونَ (28) ، أي مرتعدون، فلا يأمنون من مكره تعالى وهم خائفون أن يؤاخذهم الله بما قالوا، أو بما عملوا. وهذه المذكورات صفات للعبيد، لا صفات للأولاد. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ، أي الملائكة إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، أي من غير الله فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ، فلا ينفعهم ما ذكر من صفاتهم السنيّة وأفعالهم المرضية، وهذا على سبيل التقدير، إذ لم يقع من واحد من الملائكة أنه قال ما ذكر وفي ذلك دلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) . أي مثل ذلك الجزاء نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألم يتفكروا ولم يعلموا، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً أي مستوية صلبة ملتزقا بعضها على بعض، لم تنزل من السماء قطرة من مطر، ولم ينبت على الأرض شيء من النبات، فَفَتَقْناهُما أي شققنا السماء بنزول المطر منها، وشققنا الأرض بظهور النبات عليها. وقرأ ابن كثير «ألم ير» بغير واو، بين الهمزة «ولم» . وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي خلقنا من ماء الذكر والأنثى، كل حيوان. أو صيّرنا كل شيء حييّ بسبب من الماء لا بدّله من ذلك وقرئ حيا بالنصب مفعولا ثانيا أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) أي ألا يتدبرون هذه الأدلة فلا يؤمنون بتوحيدي! وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، أي كراهة أن تتحرك بهم. قال ابن عباس: إن الأرض بسطت على الماء، فكانت تتكفأ بأهلها، كما تتكفأ السفينة، فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال، وَجَعَلْنا فِيها أي في الجبال فِجاجاً أي مسالك واسعة سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) ، أي لكي يهتدوا إلى منافعهم، وإلى وحدانية الله بالاستدلال. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً على الأرض، مَحْفُوظاً من السقوط ومن الشياطين بالشهب، وَهُمْ عَنْ آياتِها أي عن الآيات الكائنة فيها، الدالة على وحدانية الله تعالى، وعلمه، وقدرته، وإرادته، مُعْرِضُونَ (32) . لا يتفكرون فيبقون على الكفر والضلال. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ، أي كل واحد منهما فِي فَلَكٍ أي طاحونة مستديرة كهيئة فلك المغزل، يَسْبَحُونَ (33) أي يسيرون في سطح الفلك كالسبح في الماء. والجملة حال من الشمس والقمر، والجمع باعتبار المطالع. وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أي البقاء في الدنيا، أَفَإِنْ مِتَّ، يا أشرف الخلق، فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) . في الدنيا أي إن متّ أنت يا خاتم الرسل، أيبقى هؤلاء حتى يشمتوا بموتك. نزلت هذه الآية في قولهم ننتظر محمدا حتى يموت فنستريح. ويحتمل أنه لما ظهر أنه صلّى الله عليه وسلّم

خاتم الأنبياء، جاز أن يقدّر أنه لا يموت، إذ لو مات لتغير شرعه، فنبه الله تعالى على أن حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، أي ذائقة مرارة مفارقتها جسدها في الدنيا، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، أي نعاملكم بالشرّ والخير معاملة المختبر اختبارا، لننظر أتصبرون عند الشر، وتشكرون عند الخير، أم لا؟ فالشرّ: هو المضار الدنيوية من الفقر والآلام، وسائر الشدائد النازلة على المكلفين، والخير: هو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور، والتمكين من المرادات. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) . أي إلى حكمنا ترجعون بعد الموت فنجزيكم بأعمالكم. وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، يقولون في حال الهزء، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، بعيب ونقصان. ف «إن» نافية، وهي وما في حيّزها جواب، «إذا» ولا يجب إتيان الفاء في جواب «إذا» منفيا ب «إن» ، أو ب «ما» . والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا كأبي جهل، وأبي سفيان، ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا قائلين: أَهذَا الَّذِي إلخ. ويحتمل أن جواب إذا محذوف القول، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وجوابه المقدّر، والتقدير، يقول بعضهم لبعض في حال السخرية: أهذا الذي إلخ. وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) . و «هم» الأول مبتدأ وخبره «كافرون» ، و «بذكر» متعلق بالخبر. و «هم» الثاني تأكيد لفظي للأول، وهذه الجملة حال من فاعل القول المقدّر. والمعنى: أنهم يعيبون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يذكر بالسوء آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع. والحال أنهم جاحدون بذكر الرحمن بما يليق به من التوحيد، وهو المنعم عليهم، الخالق، المحيي المميت، فإنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة، وهو مسيلمة الكذاب. خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق الإنسان عجولا. روي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث، حين استعجل العذاب بقوله: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر. والآية: سَأُرِيكُمْ آياتِي أي نقماتي في الآخرة، كعذاب النار، وغيره، في الدنيا، كوقعة بدر فإنها ستأتي في وقتها. فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) في طلب العذاب قبل الأجل. وَيَقُولُونَ- أي كفار مكة بطريق الاستهزاء والإنكار، لا بطريق الإلزام في تعيين وقت العذاب-: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد إراءة الآيات التي تعدنا يا محمد؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) في وعدكم بأن العذاب يأتينا. لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ أي لا يدفعون، عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) . في دفع العذاب أي لو يعلمون الوقت يسألون عنه، بقولهم متى هذا الوعد- وهو وقت صعب شديد- تحيط النار بهم فيه من كل جانب لا يقدرون على دفعها عن أنفسهم بأنفسهم، ولا يجحدون ناصرا ينصرهم في دفعها، لما استعجلوا العذاب ولما قاموا على إنكارهم ولرجعوا إلى طلب الحق فقوله حِينَ مفعول به ل «يعلم» . بَلْ تَأْتِيهِمْ، أي النار بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ أي فتحيّرهم، فَلا يَسْتَطِيعُونَ

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 41 إلى 50]

بقوتهم، رَدَّها أي دفع النار عنهم بالكلية وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين بشؤم الإنكار والاستهزاء. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، أي وبالله، لقد أستهزئ برسل أولي شأن خطير، وذوي عدد كثير، كائنين في زمان قبل زمانك، فَحاقَ أي أحاط عقب ذلك، بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ، أي من أولئك الرسل عليهم السلام، وهو متعلق ب «حاق» . ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) أي جزاء الذي كانوا به يستهزئون، فكذلك يحيق بمن استهزءوا بك وبال استهزائهم. قُلْ يا أشرف الخلق للمستهزئين بك بطريق التقريع: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، أي من يحفظكم في الليل إذا نمتم، وفي النهار إذا انصرفتم إلى معايشكم مِنَ الرَّحْمنِ- أي من عذاب الرحمن الذي تستحقونه إن نزل بكم-؟ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) . أي بل هم لا يخطرون ببالهم ذكره تعالى، مع إنعامه عليهم ليلا ونهارا بالحراسة، فضلا أن يخافوا عذابه تعالى فلو تأمّلوا في أنه لا حافظ لهم سواه تعالى، لتركوا عبادة الأصنام التي لا حظّ لها في حفظهم، ولا في الإنعام عليهم، أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، أي بل ألهم آلهة تمنعهم مما يحزنهم، كائنة من غيرنا ف «من دوننا» صفة ل «آلهة» ، لا يَسْتَطِيعُونَ أي آلهتهم نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، أي حمايتها عن الآفات، فكيف تقدر على حماية غيرها وَلا هُمْ مِنَّا أي من عذابنا يُصْحَبُونَ (43) . أي يمنعون، فكيف يمنعون غيرهم من العذاب؟ بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك، وأن ذلك بسبب ما هم عليه. أي دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم، بل ما هم فيه من الحفظ إنما هو منّا حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السّراء، لكونهم من أهل الاستدراج، والانهماك فبما يؤدّيهم إلى العذاب. أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أي ألا ينظر هؤلاء المشركون بالله، المستعجلون بالعذاب، فلا يرون أنّا نأخذ أرض الكفرة واحدا بعد واحد، ونفتح البلاد والقرى مما حول مكة لمحمد، ونميت رؤساء المشركين المتمتعين بالدنيا، وننقص من الشرك بإهلاك أهله. أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) على محمد وأصحابه؟! أما كان لهم عبرة في ذلك فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا؟ قُلْ لهم: إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الذي هو كلام ربكم، فلا تظنّوا أن ذلك من قبلي، بل الله أمرني بإنذاركم. وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) . قرأ ابن عامر: «ولا تسمع» بالتاء المضمومة، وكسر الميم، وبنصب الاسمين، أي ولا تقدر يا أشرف الرسل أن تسمع الدعاء من يتصامم. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أي وبالله لئن أصابهم شيء قليل، مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا، أي يا هلاكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) . على أنفسنا وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ، أي نقيم الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال، لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، أي فيه أو لأجل أهله، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي حقا من حقوقها بل يوفّى كل

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 60]

ذي حقّ حقّه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَإِنْ كانَ أي العمل مِثْقالَ حَبَّةٍ أي وزن حبة، مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، أي أحضرنا ذلك العمل للوزن. وقرأ نافع برفع «مثقال» على «إن كان» تامة. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) . أي محصين في كل شيء. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) . أي والله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل، وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل، لما فيه من الشرائع، وذكرا يتعظ به الناس، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، حال من الفاعل، أي يخشون عذاب ربهم حال كونهم في الخلوات منفردين عن الناس، فخشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم، لا، إن ذلك مما يظهرونه في الملأ، أو حال من المفعول، أي يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم، غير مشاهد لهم، فيعلمون له تعالى، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ أي ما يجري في يوم القيامة من الحساب، والسؤال، والميزان، مُشْفِقُونَ (49) أي خائفون، فيعدلون بسبب ذلك الخوف عن معصية الله تعالى، وَهذا أي القرآن ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير النفع غزير العلم، أَنْزَلْناهُ، على أشرف الرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم، أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) ؟ أي أبعد أن علمتم أن شأن القرآن، كشأن التوراة، في كونه منزّلا من عندنا، فأنتم يا أهل مكة جاحدون للقرآن، خاصة دون كتاب اليهود، فإنهم كانوا يراجعون اليهود فيما عنّ لهم من المشكلات. وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، أي اهتداءه لوجوه الصلاح في الدين والدنيا ونبوته، مِنْ قَبْلُ أي من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) ، أي بأنه لائق بما آتيناه، يقوم يحقه، ويجتنب ما ينفّر قومه من القبول. إِذْ قالَ إبراهيم، لِأَبِيهِ آزر، وَقَوْمِهِ: - نمروذ بن كنعان- وأصحابه: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) . أي ما هذه الصور التي أنتم عابدون لها، وكانت تلك الأصنام اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب، وبعضها من فضة، وبعضها من حديد، وبعضها من رصاص، وبعضها من نحاس، وبعضها من حجر، وبعضها من خشب، وكان كبيرها من ذهب، مكللا من جواهر. في عينيه ياقوتتان تتّقدان، تضيئان في الليل. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) ، فنحن نعبدها اقتداء بهم، فلم يجدوا في جوابه إلّا طريقة التقليد. فأجابهم إبراهيم وأبطله على طريقة التوكيد القسمي بقوله، قالَ لهم إبراهيم: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين سنّوا لكم هذه السنّة الباطلة، فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) أي في خطأ بيّن، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ذلك، والتقيّد إنما جاز لمن علم في الجملة أنه على الحق، قالُوا أَجِئْتَنا يا إبراهيم في قولك هذا بِالْحَقِّ إن بالجدّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) ؟ أي من الممازحين بنا فيه. قالَ إبراهيم: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهنّ على غير مثال سبق، وهو الذي خلقها لمنافع العباد، وهو الذي يستحق أن يعبد لأن من يقدر على ذلك، يقدر على أن يضر وينفع في الدار الآخرة بالعقاب، والثواب. وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ أي كون ربكم رب

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 61 إلى 70]

السموات والأرض فقط، مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) بذلك، فأنا قادر على إثبات الحجة في ذلك، وأني لست مثلكم أقول بغير إثبات الحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على مجرّد التقليد بآبائكم. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أي لأكسرنّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى العيد. روي أن آزر خرج في يوم عيد لهم، فبدءوا ببيت الأصنام، فدخلوا، فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، وذهب معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال: إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، ثم نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس حيث قال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ، فسمع قوله الضعفاء، فرجع إبراهيم إلى بيت الأصنام، فَجَعَلَهُمْ، أي الأصنام، جُذاذاً أي قطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لم يكسره، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى مقالة إبراهيم يَرْجِعُونَ (58) . فيبكتهم، فيعدلون عن الباطل، أي أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام، وجد قبالة الباب صنما عظيما وإلى جنبه أصغر منه، وهكذا كل صنم أصغر من الذي يليه، وكانوا وضعوا عند الأصنام طعاما يأكلون منه إذا رجعوا من عيدهم إليهم، فقال لهم إبراهيم: ألا تأكلون؟ فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلّا الكبير، ثم علّق الفأس في عنقه. قالُوا حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا: مَنْ فَعَلَ هذا أي التكسير، بِآلِهَتِنا إِنَّهُ أي من فعل، لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) . إما لجراءته على إهانة الآلهة، أو لإفراطه في الكسر، أو لتعريض نفسه للهلكة. فإنهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تماثيل الكواكب، وأنها طلسمات موضوعة، بحيث إن كل من عبدها انتفع بها، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد. قالُوا أي الذين سمعوا حلف إبراهيم وأخبروا أكابرهم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يعيب الأصنام ويسبها فلعلّه هو الذي فعل بها هذا الفعل، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) أي يطلق عليه هذا الاسم وهذه صفة ثانية ل «فتى» . قالُوا أي فيما بينهم، والقائل لذلك القول هو النمروذ: فَأْتُوا بِهِ، أي بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ، أي حال كونه ظاهرا للناس، لَعَلَّهُمْ أي بعض الناس، يَشْهَدُونَ (61) عليه بفعله فكل حاكم يحكم على جماعة بالجناية من غير بينة، أسوأ حالا، فلا يحكم بعض الكفار على أهل الجناية إلا بحضور عدول قالُوا أي قال له نمروذ بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا أي الكسر بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) ؟ قالَ إبراهيم متهكما بهم وملزما بالحجة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، أي الذي الفأس على عنقه، وهو مشير إلى الذي لم يكسره، وسلك عليه السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه عليه السلام، وهو إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء، والتضليل، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه، وعاجز عنه، وأثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم منه

انحصاره في القادر، فهذا نعت لكبيرهم، أو بدل منه. وقيل: هو خبر «لكبيرهم» ، وتم الكلام عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ، وفاعل الفعل محذوف، أي فعله من فعله. ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ، ثم يستبدي كَبِيرُهُمْ هذا. وقرأ محمد بن السميفع: «فعله كبيرهم» بتشديد اللام أي فلعل الفاعل كبيرهم هذا، فَسْئَلُوهُمْ، أي الأصنام عن كاسرهم، إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) حتى يخبروكم من كسرهم، وجواب الشرط هو ما قبله، وهذا مرتبط بقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فيكون إسناد الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين، امتنع أن يكون الكبير فاعلا. والمعنى: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فاسألوهم. وهذه التأويلات لنفي كذب سيدنا إبراهيم. والأولى هو الأول، فإن التعريض لا يسمى كذبا. وأيضا يجوز أن يكون الله تعالى قد أذن له في ذلك الكلام لقصد الصلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم، كما أذن ليوسف عليه السلام، حين نادى مناديه فقال: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ، بالتفكر فلاموها، فَقالُوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم، أو قال لهم ملكهم نمروذ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ، بعبادة الأصنام، لا من كسرها ومن قلتم في حقه أنه لمن الظالمين، فإنهم علموا بعد التفكر أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور في ذلك، أو أنتم الظالمون لأنفسكم، حيث سألتم من إبراهيم عن كاسر الأصنام، حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أي انقلبوا عن الفكرة الصالحة إلى الحالة الأولى، فأخذوا في المجادلة بالباطل قائلين: والله لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم، ما هؤُلاءِ الأصنام، يَنْطِقُونَ (65) أي لقد علمت أنه ليس من شأنهم النطق، فكيف تأمرنا بسؤالهم. وقرئ «نكّسوا» بالتشديد، و «نكسوا» بالبناء للفاعل، أي نكّسوا أنفسهم على رؤوسهم، وهي قراءة رضوان بن المعبود، قالَ إبراهيم مبكّتا لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي أتعلمون ذلك فتعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى، ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً، أي نفعا قليلا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ أي قذرا وقبحا لكم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره، واللام لبيان المتضجّر لأجله، وعائد الموصول محذوف، وهذا تضجّر من سيدنا إبراهيم من إصرارهم على الباطل البيّن. أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) . أي ألا تتفكرون، فلا تعقلون قبح صنيعكم من عبادة ما لا يضر في ترك عبادته، ولا ينفع في عبادته. قالُوا أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المجادلة وضاقت عليهم الحيل، والقائل لهم ملكهم نمروذ بن كنعان، وقيل القائل رجل من أكراد فارس اسمه هينون، خسف الله به الأرض، حَرِّقُوهُ أي إبراهيم بالنار وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ أي انتقموا منه لآلهتكم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) ، لنصرتها فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 إلى 80]

وروي أنهم لما اجتمعوا على إحراقه عليه السلام بنوا له حظيرة في قرية كوثي، فجمعوا له أصناف الحطب شهرا، وأوقدوا نارا سبعة أيام، حتى لو مرّ الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان، ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموه به في النار، فجعل الله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) أي أبردي بردا غير ضارّ ومكث إبراهيم في النار سبعة أيام. وكان عنده عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال: يا إبراهيم، إن ربك يقول أما علمت أن النار لا تضرّ أحبابي ولم تحرق النار منه إلّا وثاقه، فإن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق. وروي أنهم أوقدوا عليه النار سبعة أيام بعد إلقائه في ذلك البنيان، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق، ويعرق عرقا فقال لهم هاران- أبو لوط عليه السلام-: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا النار تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق بئر وأوقدوا النار تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته. وَأَرادُوا بِهِ أي إبراهيم كَيْداً أي مكرا عظيما في الإضرار به، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) فإنهم خسروا السعي والنفقة فلم يحصل لهم مرادهم، وهلكوا بإرسال الله عليهم البعوض، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغ نمروذ بعوضة فأهلكته وَنَجَّيْناهُ أي إبراهيم من النار. وَلُوطاً ابن أخيه هاران الأصغر من الخسف وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور، والثلاثة أولاد آزر. وأما هاران الأكبر فكان عما لإبراهيم، وكانت سارة بنت عم إبراهيم، الذي هو هاران الأكبر. إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) في الدين والدنيا أي بلغناهما من العراق، إلى الشام فنزل إبراهيم بفلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وسبب بركة في الدين، لأن أكثر الأنبياء بعثوا منها، فانتشرت شرائعهم فيها وفي الدنيا لأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر. وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أي وهبناهما لإبراهيم نافِلَةً أي عطية وفضلا من غير أن يكون جزاء مستحقا، ف «نافلة» منصوب على المصدر. وَكُلًّا أي كل واحد من هؤلاء الأربعة، جَعَلْنا صالِحِينَ (72) في الدين والدنيا فصاروا كاملين. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في أمور الدنيا، يَهْدُونَ أي يدعون الناس إلى الخيرات بِأَمْرِنا وإذننا، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، أي أن يعملوا الشرائع هم وأتباعهم، وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وهذان من عطف الخاص على العام، دلالة على إنافتهما فإن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والزكاة أفضل العبادات المالية. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) أي مخلصين في العبادة لا يخطر ببالهم غير عبادتنا. وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي فصلا بين الخصوم. قال الزجّاج: أي هذه الجملة عطف على قوله: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ. وقال أبو

مسلم عطف على قوله: آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، وآتينا لوطا. وَعِلْماً لائقا به وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ أي من أهل قرية سذوم. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، أي التي كان أهلها قبل إنجائنا له منها، يعملون الأعمال الخبائث من اللواط، ورمي المارة بالبندق، واللعب بالطيور، والتضارط في أنديتهم، وغير ذلك. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ أي قوما يحزنون الناس بأفعالهم، فاسِقِينَ (74) أي خارجين من كل خير وَأَدْخَلْناهُ أي لوطا فِي رَحْمَتِنا، بأن فتحت عليه أبواب المكاشفات، وتجلّت له أنوار الإلهية، إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) أي من المستعدّين لقبول ذلك وللدخول فيه. وَنُوحاً عطف على قوله: ولوطا وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً إِذْ نادى، أي دعا على قومه بالعذاب، بدل اشتمال من نوحا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين، فَاسْتَجَبْنا لَهُ الدعاء، فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ، أي أهل دينه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وهو الغرق وأذية قومه. وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ، أي عصمناه من مكروه القوم كما قاله المبرد. وقال أبو عبيدة: من بمعنى على، كقراءة أبيّ ابن كعب ونصرناه على القوم، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، الدالة على رسالته عليه السلام إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ لأجل تكذيبهم له، فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) بالطوفان لإصرارهم على تكذيب الحق، ولانهماكهم في الشرّ وهذا بيان للوجه الذي خلّصه الله منهم به. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي آتيناهما حكما إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ أي في حق الزرع، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي انتشرت في الزرع غنم القوم في الليل ترعى بلا راع، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ أي داود وسليمان شاهِدِينَ (78) أي إنما حكما بإرشادنا لهما وأوقع الجمع موقع التثنية مجازا، ويدل على ذلك قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية. فَفَهَّمْناها أي الفتيا سُلَيْمانَ وَكُلًّا أي كل واحد منهما، آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، كثيرا. روي أنه دخل على داود عليه السلام، رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته، وما أبقت منه شيئا. فقال داود عليه السلام: اذهب فإن الغنم لك. وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث، وقيمة الغنم تفاوت، فخرجا، فمرا على سليمان عليه السلام، وهو ابن إحدى عشرة سنة، فقال: كيف قضي بينكما؟ فأخبراه بذلك، فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا وهو أرفق بالفريقين، فأخبرا بذلك داود عليه السلام، فدعاه وقال: كيف تقضي بينهما؟ فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث، فيكون له منافعها من الدّر، والنسل، والصواف، وأدفع الحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود كهيئته يوم أكل، ثم دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه فقال داود: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك. ورأى داود قياس، كما أن العبد إذا جنى على النفس، يدفعه المولى إلى المجني عليه، أو يفديه عند أبي حنيفة ببيعه في ذلك، أو يفديه عند الشافعي. ورأى سليمان استحسان كما قال أصحاب الشافعي، فيمن غصب عبدا فأبق منه، أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه، بإزاء ما فوّته الغاصب من منافع

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 81 إلى 90]

العبد، فإذا ظهر ترادا وحكم هذه المسألة في مذهب الشافعي أن الغنم إن كانت وحدها ولو بصحراء، فأتلفت شيئا كزرع، ليلا أو نهارا ضمنه ذو يد إن فرّط في ربطها أو إرسالها كأن ربطها بطريق ولو واسعا وكأن أرسلها ولو في نهار لمرعى بوسط مزارع فأتلفتها، فإن لم يفرّط، كأن أرسلها المرعى لم تتوسطه مزارع لم يضمن. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه، عدم الضمان بالليل والنهار، إلا أن يكون معها سائق أو قائد وَسَخَّرْنا أي ذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ أي ينطقن بالتسبيح، وكان داود يسبّح وحده فالله تعالى خلق فيها الكلام، كما سبّح الحصى في كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمع الناس ذلك. وَالطَّيْرَ أي إذا ذكر داود عليه السلام ربّه، ذكرت الجبال والطير ربّها معه، وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) أي إنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم، أي مستغربا في اعتقادكم. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي درع، لَكُمْ أي لأجلكم يا أهل مكة، فإن الله تعالى ألان الحديد لداود، فكان يعمل منه بغير نار كأنه طين لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أي لتحرسكم من الجرح، والسيف، والسهم، والرمح. فقرأ شعبة: بالنون، وابن عامر وحفص بالتاء، فالضمير ل «لبوس» . والباقون بالياء التحتية، فالضمير ل «داود» ، أو ل «لبوس» ، وهذا بدل اشتمال من «لكم» مبيّن لكيفية الاختصاص والمنفعة فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) أي اشكروا الله يأهل مكة على ما يسّر عليكم من هذه الصنعة بتصديق الرسل وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً أي شديدة الهبوب، فإذا مرت بكرسيه عليه السلام، أبعدت به في مدة يسيرة أي جعلنا الريح طائعة لسليمان، فإن أرادها عاصفة كانت عاصفة، وإن أرادها ليّنة كانت ليّنة تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها. قال الكلبي: كان سليمان عليه السلام وقومه، يركبون عليها من إصطخر إلى الشام، وإلى حيث شاء، ثم يعود إلى منزله. قال وهب: كان سليمان عليه الصلاة والسلام، إذا أخرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الإنس والجن حين يجلس على سريره، وكان امرأ غازيا قلّما كان يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذلّه. وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر، ويروح على مثل ذلك، ثم عطف يمينه على مطلع الشمس على ساحل البحر، حتى أتى أرض السند وجاوزها، وخرج منها إلى مكران، وكرمان، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر ثم راح إلى الشام وكان مستقره بمدينة يؤمر. وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) ، فنجري ما سخرنا له بحسب ما تقتضيه الحكمة وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ، أي وسخرنا لسليمان من الشياطين الكافرين من يدخلون في البحار ويخرجون الجواهر منها له، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ، أي غير ذلك من بناء المدن والقصور، وصنع النورة، والطواحين، والقوارير، والصابون، والحمام، لأن

ذلك من استخراجاتهم وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) ، حتى لا يخرجوا من أمره، وحافظين من أن يفسدوا ما عملوا، فكان دأبهم أنهم يعلمون بالنهار، ثم يفسدونه في الليل، ومن أن يهيّجوا أحدا على أحد في زمانه عليه السلام. وَأَيُّوبَ أي آتيناه حكما إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) . وكان أيوب عليه السلام روميا من ولد عيص بن إسحاق، وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله تعالى قد جعله نبيا وقد أعطاه من الدنيا حظا وافرا من النعم، والدواب، والبساتين، وأعطاه ولدا من رجال ونساء. وكان رحيما بالمساكين، وكان يكفل الأيتام، والأرامل، ويكرم الضيف. فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم، وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. فإنه خرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت في جسده حكة لا يملكها، وكان يحكّ بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكّها بالمسوح الخشنة، ثم حكها بالفخار والحجار ولم يزل يحكّها حتى تقطع لحمه وأنتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له عريشا. روي أن امرأته ما خير بنت ميشا بن يوسف عليه السلام، أو رحمة بنت إفرايم بن يوسف، قالت له يوما: لو دعوت الله تعالى. فقال: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة. فقال: أستحي من الله أن أدعوه، وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي. وروي أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة فقال: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت، لأنه تركني وعبد إله السماء لو سجدت لي سجدة لرجعت المال والولد وعافيت زوجك. فرجعت إلى أيوب وكان ملقى في الكناسة، لا يقرب منه أحد، فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام: «كأنك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله تعالى لأضربنّك مائة سوط، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك، فطردها، فذهبت، فبقي طريحا في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس، فلما نظر أيوب شأنه وليس عنده طعام، ولا شراب ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خرّ ساجدا فقال: رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فقال تعالى: ارفع رأسك فقد استجبت لك، اركض برجلك، فركض برجله، فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه، ولا جراحة إلا برئت، ثم ركض برجله مرة أخرى، بعد أن مشى أربعين خطوة فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج، وعاد صحيحا، ورجع إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن، ثم كسي حلّة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والولد، والمال، إلا وقد ضاعفه الله تعالى، حتى روي أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت في نفسها: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع، لأرجعنّ إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمور، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلّة أن تأتيه وتسأله

عنه، فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: فما كان منك؟ فبكت، وقالت: بعلي فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت: وهل يخفى علي؟ فتبسّم وقال: أنا هو فعرفته بضحكه فاعتنقته. ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فردّ علي ما ترين وذلك قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ الدعاء، فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أي مرض وهزال، وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. روي أن امرأته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا. قال ابن عباس: أبدل بكل شيء ذهب منه ضعفا. وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكا فقال: إن ربك يقرئك السلام بصبرك، فاخرج إلى أندرك، وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام، فخرج إليه، فأرسل عليه جرادا من ذهب رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) أي آتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب، وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب. وَإِسْماعِيلَ ابن إبراهيم وَإِدْرِيسَ، بن شيب بن آدم وَذَا الْكِفْلِ واسمه بشر، أي أعطيناهم ثواب الصابرين، كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) على أمر الله والمرازي وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي في النبوة إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) أي الكاملين في الصلاح. فصلاحهم معصوم من كدر الفساد، فإسماعيل، قد صبر عند ذبحه، وعلى الإقامة في بلد لا زرع فيه، ولا ضرع، ولا بناء، وصبر في بناء البيت فأخرج منه خاتم النبيين. وإدريس قد صبر على دراسة الكتب وسمي إدريس لكثرة دراسته، وبعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله تعالى، فأبوا، فأهلكهم الله ورفع إلى السماء الرابعة. وذو الكفل، قد صبر على قيام الليل، وصيام النهار، وأذى الناس في الحكومة بينهم، بأن لا يغضب. ومعنى الكفل: هو النصيب، وإنما سمي ذا الكفل بذلك على سبيل التعظيم، فيكون الكفل كفل الثواب، لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه، وضعف ثوابهم، وقد كان في زمنه أنبياء عليهم السلام. وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام، إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي غضبان على قومه لما برم من طول دعوته إياهم، وشدة شكيمتهم، وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر، لأنهم لما لم يؤمنوا وعدهم بالعذاب، فلما كشف العذاب عنهم بتوبتهم، وهو لم يعرف الخالد خرج منهم غضبان من ذلك، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي ظن أنه لن نضيّق عليه، أي فإنه ظن أنه مخيّر إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره. فأتى بحر الروم فوجد قوما هيئوا سفينة فركب معهم، فلما تلجّجت السفينة تكفأت بهم، وكادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص، أو عبد آبق، لأن السفينة لا تكون هكذا من غير ريح، إلّا وفيها رجل عاص، فلا بد من أن نقترع ليظهر، فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 91 إلى 100]

البحر، فإن غرق واحد خير من أن تغرق السفينة، فاقترعوا ثلاث مرات، فوقعت القرعة فيها على يونس عليه السلام، فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في البحر، فجاء حوت فابتعله، فأوحى الله تعالى إلى ذلك الحوت لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإنه ليس رزقا لك، وإنما جعلتك له سجنا فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات بطن الحوت، والبحر، والليل، وقيل: ابتلع حوته حوت آخر، فحصل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر والليل: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه ف «أن» مخففة من «أن» المشددة أو بمعنى أي سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) بفراري من قومي بغير إذنك فكان ذلك ظلما، فعوقب على ترك الأفضل الذي هو المكث فيهم صابرا على أذاهم فإنه خرج لا على تعمّد المعصية، بل لظنه أن خروجه موسّع، يجوز أن يقدّم ويؤخّر. فقد وصف يونس عليه السلام ربه، بكمال الربوبية. ووصف نفسه بضعف البشرية، والنقص في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال ولذا قال تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له» . وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بسبب كونه في بطن خطيئته، فألقاه الحوت في الساحل من يومه أو بعد ثلاثة أيام، وَكَذلِكَ، أي كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين بهذا الدعاء. وَزَكَرِيَّا، أي واذكر خبره إِذْ نادى رَبَّهُ بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا بلا ولد يرثني إرث نبوّة وعلم، وحكمة، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) . أثنى عليه السلام على ربه لأنه ينكشف عن علمه أن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. فإنه تعالى الباقي بعد فناء الخلق. فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، نبيا حكيما عظيما وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، للولادة بعد انتهائها إلى اليأس منها بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سن زكريا مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين إِنَّهُمْ أي زكريا وولده وأهله، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في طاعة الله تعالى، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي يفزعون إلينا رغبة في ثوابنا، ورهبة من عقابنا، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) أي خائفين متواضعين في عبادتهم، حذرين عن الانبساط في الأمور. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر خبر مريم التي أحصنت فرجها إحصانا كليّا، من أن يصل إليه أحد بحلال أو حرام جميعا. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا، أي فنفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها، أي أجريناه فيه إجراء الهواء بالنفخ من جهة روحنا جبريل، وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) . أما آيات مريم فظهور الحبل فيها لا من ذكر، ورزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة، وأنها لم تلتقم ثديا يوما قط. وتكلّمت في صباها، كما تكلّم عيسى في صباه، فجعلهما الله آية للناس، فيستدلّون بما خصا به من الآيات على قدرته تعالى وحكمته. إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي

إن ملة الإسلام وهي التوحيد، هي ملتكم أيها الناس، حال كونها غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي يجب عليكم أن تكونوا عليها، لا تنحرفوا عنها. وقرأ الحسن «أمتكم» بالنصب على البدل من هذه، أو عطف بيان، و «أمة» بالرفع خبران، وبرفعهما معا خبرين. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) أي وحّدوني واعرفوني أيها الكفار أو داوموا على عبادتي أيها المؤمنون. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي تفرقوا في أمرهم بأن آمنوا بالبعض، وكفروا بالبعض، كُلٌّ، من الثابت على الدين الحق، والزائغ عنه إلى غيره، إِلَيْنا راجِعُونَ (93) . فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ أي الفرائض والنوافل، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بالله ورسله فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، أي لا حرمان لثواب عمله، وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه، كاتِبُونَ (94) أي مثبّتون في صحائف أعمالهم. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) . أي ممتنع على أهل قرية قدّرنا هلاكهم بالموت، عدم رجوعهم إلينا للجزاء، بأن يذهبوا تحت التراب باطلا من غير إحباس بالنعمة، أو بالعذاب. أو المعنى: واجب على أهل قرية أهلكناها بالموت، عدم رجوعهم عن الشرك، وعن الدنيا، فإن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب كقوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرّم. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، أي يستمرون على الهلاك، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون: يا ويلنا إلخ. أو لا يرجعون عن الكفر، حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع، ويأجوج ومأجوج، قبيلتان من الإنس، والمراد حتى إذا فتحت سدّهما وذلك بعد نزول عيسى إلى الأرض، وبين موت عيسى والنفخة الأولى، قدر اثنتي عشرة سنة من السنين المعتادة. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء. وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) أي والحال أن يأجوج ومأجوج من مكان مرتفع يخرجون. وقرأ ابن عباس «من كل جدث» أي والناس يخرجون من قبورهم، فيحشرون إلى موقف الحساب. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، أي وهو البعث والحساب والجزاء فَإِذا هِيَ، «فإذا» للمفاجأة تسد مسد الفاء، فإذا دخلتها الفاء، تعاونت على وصل الجزاء بالشرط، وتأكدت، والضمير للقصة، وما بعده خبر مقدم أي فالقصة شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، أي أن القيامة إذا قامت ارتفعت أبصار هؤلاء من شدة الأهوال، فلا تكاد تطرف من شدة ما يخافونه قائلين: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا، تعال فهذا أوان حضورك، قَدْ كُنَّا في الدنيا، فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا، أي الذي أصابنا من البعث والجزاء ولم نعلم أنه حق، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) . أي لم نكن غافلين عنه، بل كنا ظالمين أنفسنا بتعمّد الكفر والإعراض عن الإيمان حيث كذبنا الرسل وعبدنا الأوثان. إِنَّكُمْ يا اهل مكة، وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غير

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 إلى 110]

الله من الأوثان وغيرها، حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطب جهنم يرمون فيها، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) أي داخلون فيها. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين تلا هذه الآية وقال له ابن الزبعري- والد عبد الله القرشي-: خصمتك ورب الكعبة، أليست اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟ رد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «ما أجهلك بلغة قومك، أما فهمت أن «ما» لما لا يعقل؟» وقد أسلم ابن الزبعري بعد هذه القصة . لَوْ كانَ هؤُلاءِ أي أصنامهم آلِهَةً كما يزعمون ما وَرَدُوها، أي ما دخلوا النار، وَكُلٌّ من العبدة والمعبودين، فِيها خالِدُونَ (99) أي لا خلاص لهم عنها. لَهُمْ أي للعبدة فِيها زَفِيرٌ، أي أنين وتنفّس شديد، وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) أصوات المعذّبين لشدة الهول وفظاعة العذاب. وقد جرت عادة الله تعالى، أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، أي الذين سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة، أُولئِكَ عَنْها، أي جهنم مُبْعَدُونَ (101) . عن ألمها فإنهم في الجنة. وشتان بينها وبين النار. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، أي صوت جهنم وحركة تلهّبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وهذه الجملة بدل من «مبعدون» ، أو حال من ضميره، أو خبر ثان، وهي مذكورة للمبالغة في إنقاذهم منها. وَهُمْ أي من تقدم لهم الوعد بالثواب، فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ، أي تمنت نعيم الجنة، خالِدُونَ (102) أي دائمون في غاية النعم. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، حين تغلق النار على أهلها وييأسون من الخروج منها، وحين يذبح الموت في صورة كبش أملح بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل النار خلود بلا موت، فييأس أهل النار من الخروج منها، وحين يؤمر بالكافر إلى الذهاب إلى النار. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، أي الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم، على أبواب الجنة بالبشرى قائلين هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) . أي هذا الوقت وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم به في الدنيا فأبشروا بفنون المثوبات، وبجميع ما يسركم بإيمانكم وطاعاتكم. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ بنون العظمة. وقرئ «يطوي» بالياء والتاء على البناء للمفعول، فالظرف منصوب ب «أذكر» أو ب «تتلقاهم» . كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، أي يوم نطوي السماء طيا، كطيّ الطومار للمكتوبات. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بصيغة الجمع. والباقون بصيغة الإفراد، واللام متعلقة بمحذوف وهو حال من السجل، ومعنى طي الطومار للمكتوب، كون الطومار ساترا لتلك الكتابة، ومخفيا لها لأن الطيّ ضد النشر الذي يكشف. كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، أي نعيد ما خلقناه أو لا إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجادا بعد عدم، أو جمعا للأجزاء المتبددة، فهو تشبيه للإعادة بالابتداء في تناول قدرة الله تعالى لهما على السواء وَعْداً عَلَيْنا أي وعدنا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 111 إلى 112]

بالإعادة، وعدا حقا علينا إنجازه بسبب الإخبار عن ذلك، وتعلق العلم بوقوعه. إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) أي إنا سنفعل ذلك لا بد فوقوع ما علم الله وقوعه واجب. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داود بعد ما كتبنا في التوراة، أو لقد كتبنا في جميع كتب الأنبياء بعد ما أثبتنا في اللوح المحفوظ، أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) . أي أن أرض الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله بإظهار الدين، وإعزاز المسلمين. إِنَّ فِي هذا أي في المذكور هذه السورة من البراهين الدالّة على التوحيد وصحة النبوة، لَبَلاغاً أي لكفاية، لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) أي عاملين بعلومهم وهم أهل الصلوات الخمس، وشهر رمضان. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) أي وما أرسلناك يا أشرف الخلق بالشرائع، إلّا رحمة للعالمين أي إلّا لأجل رحمتنا للعالمين قاطبة في الدين والدنيا. فإن الناس في ضلالة وحيرة، فبعث الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فبيّن صلّى الله عليه وسلّم سبيل الثواب وأظهر الأحكام، وميّز الحلال من الحرام. وإن كل نبيّ قبل نبيّنا إذا كذّبه قومه، أهلكم الله بالخسف، والمسخ، والغرق فالله تعالى أخّر عذاب من كذب نبينا إلى الموت، ورفع عذاب الاستئصال عنهم به صلّى الله عليه وسلّم. قُلْ يا أكرم الرسل، إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، أي إنما يوحى إليّ وحدانية إلهكم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) أي يا أهل مكة خصّصوا العبادة بإلهكم الواحد وهو الله تعالى، فالاستفهام بمعنى الأمر. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) أي فإن أعرضوا عن توحيد المعبود، فقل يا سيّد الرسل: إني أعلمتكم بأني محارب لكم على إعلان، ولكن لا أدري متى يأذن الله لي محاربتكم. فتبيّن بهذا أن السورة مكية، فإن الأمر بالجهاد كان بعد الهجرة إِنَّهُ تعالى، يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام، وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) ، من الأحقاد للمسلمين، ومن النفاق، فيجازيكم عليه. وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) أي ما أدري لعلّ تأخير الجهاد استدراج وضرر لكم، وتمتع لكم إلى انقضاء آجالكم. قالَ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حفص بصيغة الماضي. والباقون بصيغة الأمر: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أي احكم بيننا وبين أهل مكة بالعدل المستلزم لتعجيل العذاب وقد استجيب دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم، حيث عذّبوا في بدر، وأحد، والخندق، وحنين. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ أي كثير الرحمة على عباده، الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ (112) أي تقولون: إن الشوكة تكون لهم، وإن راية الإسلام تخفق ثم تركد. فكذب الله ظنونهم وخذلهم، ونصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين.

سورة الحج

سورة الحج مختلطة بين مكي ومدني ست وسبعون آية، ألف ومائتان وإحدى وتسعون كلمة خمسة آلاف ومائة وخمسة وثلاثون حرفا يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بأن تطيعوه بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) . أي إن شدة حركة الأرض في قرب الساعة في نصف رمضان، معها طلوع الشمس من مغربها، أمر حادث، جليل، لا تدرك العقول كنهه. روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الصور: «أنه قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات، نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام، لرب العالمين، وأن عند نفخة الفزع، يسيّر الله الجبال، وتَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ «وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج، أو كالقناديل المعلّق ترجرجه الرياح» «1» . يَوْمَ تَرَوْنَها ، منصوب ب «تذهّل» ، أو بدل اشتمال من «زلزلة» ، أي وقت رؤيتكم الزلزلة تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، أي تغفل مع دهشة عن طفلها الذي ألقمته ثديها، بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها ، أي تلقي الحوامل جنينها لغير تمام، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ، فالخطاب لكلّ أحد، أي يراهم كلّ أحد برؤية الزلزلة، كأنهم سكارى، وما هم بسكارى حقيقة. وقال ابن عباس، والحسن: أي وتراهم سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. وقرأ حمزة والكسائي «سكرى» بفتح السين، وسكون الكاف. وقرئ: «ترى الناس» بالبناء للمجهول، والضمير للمخاطب، والناس بالنصب، أي تظنهم سكارى، وبالرفع نائب الفاعل على تأويله بالجماعة. وقرئ «تري» ، بضم التاء وكسر الراء، أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) أي ولكن ما أزهقهم من هول عذاب الله

_ (1) رواه الترمذي في كتاب القيامة، باب: 8، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في نفخ الصور، وأحمد في (م 2/ ص 162، 192) .

تعالى، هو الذي أذهب عقولهم وطيّر تمييزهم. وَمِنَ النَّاسِ، أي وبعض الناس، كالنضر بن الحرث، وأبي جهل، وأبيّ بن خلف، مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ، أي في دين الله وكتابه وقدرته، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ملتبسا بغير علم، فإنهم ينكرون البعث، وقالوا: إن الله لا يقدر على إحياء من صار ترابا، ويكذّبون القرآن ويقولون: ما يأتيكم به محمد، كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية، فهو أساطير الأولين. وَيَتَّبِعُ في جداله، كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) أي عات متجرد للفساد، والمراد: إما شياطين الإنس، وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده. كُتِبَ عَلَيْهِ مبني للمفعول صفة ثانية، أي قد كتب على الشيطان في أمّ الكتاب لظهور ذلك من حاله، أَنَّهُ أي الشأن، مَنْ تَوَلَّاهُ أي من اتخذه وليا وأطاعه، فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ، بفتح الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي من يقبل الشيطان بقوله فشأنه أن الشيطان يضلّه عن طريق الجنة. وَيَهْدِيهِ أي يدعوه إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) أي إلى ما يؤدي إلى عذاب النار الوقود، من السيئات. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة، إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم، فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ، أي خلقنا كلّ فرد منكم، مِنْ تُرابٍ، لأن المني ودم الطمث، يتولدان من الأغذية وهي من النبات، وهو يتولّد من الأرض والماء، ثُمَّ خلقناكم، مِنْ نُطْفَةٍ، أي مني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي دم جامد، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ، مُخَلَّقَةٍ، أي تامة الصور، والحواس، والتخاطيط، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ أي وناقصة في هذه الأمور. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، أي أخبرناكم في القرآن، بدء خلقكم لنبيّن لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء، كيف يكون عاجزا عن الإعادة وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي ونحن نقر بعد ذلك في الأرحام ما نشاء أن نقره فيها من الولد إلى وقت الوضع. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها، عند تمام الوقت المقدر بالإرادة القديمة والحكمة الأزلية، طِفْلًا أي حال كونكم صغارا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، أي ثم نسهل في تربيتكم أمورا لتبلغوا كما لكم في القوة والعقل والتمييز، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى على كماله في ذلك، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه، وهو الهرم والخرف. لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من ضعف البدن، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدّر عليه. وَتَرَى أيها المجادل الْأَرْضَ هامِدَةً أي يابسة خالية من النبات، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي ماء المطر والعيون، والأنهار، اهْتَزَّتْ أي تحرّكت في رأي العين بسبب حركة النبات، وَرَبَتْ أي انتفخت للنبات، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) أي وأخرجت بالماء كل نوع من أنواع النبات حسن، يسّر ناظره. ذلِكَ، أي الصنع البديع في الإنسان، والأرض حاصل بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي الموجود الثابت، المتحقق في

[سورة الحج (22) : الآيات 11 إلى 20]

الألوهية فهذه الموجودات دالة على وجود الصانع، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى، أي شأنه إحياء الموتى كما أحيى الأرض الميتة، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) فإذا دلّت المشاهدة على قدرته تعالى على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره تعالى على إحياء جميع الأموات، فلا بدّ وأن يكون قادرا على إعادة الموتى إلى الحياة، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) . وهذا كناية عن كونه تعالى حكيما، لأنه من روادف الحكمة، فالمعنى ذلك أي خلق الإنسان، وإحياء النبات، حاصل بسبب أنه تعالى قادر على إحياء الموتى، وأنه تعالى حكيم لا يخلف وعده وقد وعد بإتيان الساعة، والبعث، فلا بد أن يفي بما وعد. وَمِنَ النَّاسِ وهو أبو جهل بن هشام، مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أي في شأنه تعالى، بِغَيْرِ عِلْمٍ أي كائنا بغير علم ضروري، وَلا هُدىً أي نظر صحيح هاد إلى المعرفة. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) أي وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه من غير تمسّك بقياس ضروري ولا بحجة نظرية، ولا ببرهان سمعي. ثانِيَ عِطْفِهِ حال ثانية من فاعل «يجادل» ، أي معرضا بجانبه عن الحق متكبّر. وقرأ الحسن بفتح العين أي مانعا لتعطّفه قاسيا. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، متعلق ب «يجادل» أي فإن المجادل أظهر التكبّر لكي يتبعه غيره، فيضلّه عن طريق الحق بالتمويهات، فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بفتح الياء، فتكون اللام للعاقبة، أي فإن المجادل أظهر التكبّر فيستمر ضلاله عن دين الله، أو يزيد ضلاله عنه في عاقبة أمره، فلا هداية له بعده. لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والإهانة. وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) أي عذاب النار المحرقة. ذلِكَ، أي العذاب الدنيوي والأخروي، بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي بسبب ما عملته من الكفر والمعاصي، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) ومحل «أن» رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من جهتهم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين، لا في وسطه، وعلى ضعيف يقين، والجار والمجرور حال من فاعل يعبد أي متزلزلا. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ، دنيوي وهو ما يوافق الطبع، اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ذلك الدين، بسبب ذلك الخير الذي يوافق هواه، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ وهو ما يثقل على طبعه انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي رجع إلى دينه الأول، وهو الشرك بالله ولما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى: وإن أصابه شر لأن ما ينفر عنه الطبع ليس شرا في نفسه، بل هو سبب القرب بشرط التسليم والرضا بالقضاء. نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ في المدينة جسمه، ونتجت فرسه مهرا حسنا، وولدت امرأته غلاما، وكثر ماله، قال: هذا دين حسن واطمأن إليه، وإن أصابه مرض، وولدت امرأته جارية، أو أجهضت

رماكه، ولم تلد فرسه، وذهب ماله، وتأخرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين، فينقلب عن دينه، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والكلبي رضي الله عنه. خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ. قرأ العامة «خسر» فعلا ماضيا وهو استئناف أو حال من فاعل «انقلب» ، أو بدل من «انقلب» . وقرأ مجاهد «خاسر» بصيغة اسم الفاعل منصوبا على الحال. وقرئ بالرفع على الفاعلية، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، وذلك لأنه يذهب في الدنيا الكرامة، وإصابة الغنيمة، وأهلية الشهادة، والإمامة، والقضاء، وعصمة ماله ودمه، ويفوت في الآخرة الثواب الدائم، ويحصل له العقاب الدائم. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) أي الواضح إذ لا خسران مثله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ استئناف مبين لعظم الخسران، وهي واردة في المشركين الذين قدموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى وجه النفاق وهم: بنو الحلاف، منافقو بني أسد وغطفان، أي أيعبد من ذكروهم بنو الحلاف متجاوزا عبادة الله تعالى، جمادا لا يضرّه إذا لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده ذلِكَ العبادة هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) عن الصواب، وهو الكفر العظيم. يَدْعُوا بالقول لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، استئناف مذكور لبيان عاقبة عبادته المذكورة، فالدعاء بمعنى القول، واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا له، و «من» مبتدأ، و «ضره» مبتدأ ثان، خبر «أقرب» ، والجملة صلة للمبتدأ الأول. أي يقول ذلك الكافر يوم القيامة بصراخ حين يرى تضرّره بمعبوده ودخوله النار بسببه، لمن ضرّه أقرب من نفعه والله، لَبِئْسَ الْمَوْلى أي الناصر هو، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) أي الصاحب هو إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لأن عبادتهم حقيقية، ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) . أي من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته، وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه، فليطلب سببا يصل به إلى سماء الدنيا فليقطع نصر الله لنبيه، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة، وهذا زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه، فإن أعداءه صلّى الله عليه وسلّم، كانوا يتمنون أن لا ينصره الله، وأن لا يعليه على أعدائه، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أي القرآن آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فآيات حال من الهاء وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) هدايته، بأن يخلق له المعرفة ومحل الجملة، إما الجر على حذف الجار المتعلق بمحذوف مؤخر، أي ولأن الله يهدي من يريد أنزله كذلك، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والأمر أن الله يهدي

من يريد هدايته، ثم بيّن من يهديه ومن لا يهديه فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، بكل ما يجب أن يؤمن به، وَالَّذِينَ هادُوا: أي تدينوا بدين اليهودية، وَالصَّابِئِينَ: وهم شعبة من النصارى- قيل: سمّيت بذلك لنسبتها إلى صابئ عم نوح عليه السلام- وَالنَّصارى: وهم الذين انتحلوا دين النصرانية، وَالْمَجُوسَ: عبدة الشمس والنيران، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: هم عبدة الأوثان، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، في الأحوال والأماكن فيظهر المحق، من المبطل، فلا يجازيهم جزاء واحدا بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) . أي فهو عالم بما يستحقه كلّ منهم، فلا يجري في ذلك الفصل حيف، ولا يغيب عن علمه شيء. والأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء ستة، فمن الناس من يعترفون بوجود الأنبياء، ومن لا، فالمعترفون بذلك: فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا أو لمن كان متنبيا، فاتباع الأنبياء هم المسلمون، واليهود، والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى، وهم الصابئون: فهم مختلفون في نبوة محمد، وموسى، وعيسى، فاليهود: نفوا نبوّة محمد وعيسى. والنصارى: نفوا نبوّة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. والصابئون، تارة يوافقون النصارى في أصول دينهم، فتحلّ لنا مناكحتهم، وتارة يخالفونهم فلا تحلّ مناكحتهم، ويطلق الصابئون أيضا على قوم أقدم من النصارى يعبدون الكواكب السبعة، ويضيفون الآثار إليها، وينفون الصانع المختار، فهؤلاء لا تحلّ مناكحتهم وأتباع المتنبي هم المجوس، قيل: هم قوم يستعملون النجاسات. والمنكرون للأنبياء على الإطلاق: هم عبدة الأصنام، وهم المسمّون بالمشركين ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. وقال قتادة: ومقاتل الأديان ستة، واحد لله تعالى وهو الإسلام، وخمسة للشيطان، وهي ما عداه. وقرأ نافع «الصابين» بالياء التحتية بعد الباء الموحدة. وقال الزجّاج: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ خير لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كما نقول: إن أخاك إن الدين عليه لكثير، وأدخلت «إن» على واحد من جزء، أي الجملة لزيادة التأكيد. أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا أشرف الخلق بخبر الله تعالى لك أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ أي ينقاد لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ فهؤلاء ينقادون لتدبيره تعالى انقيادا تاما يقبلون لما أحدثه الله تعالى فيهم من غير امتناع وَيسجد له تعالى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سجود طاعة وعبادة وهم المؤمنون. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بامتناعه من السجود وهو من لا يوحد الله تعالى. وقرئ «حق» بالرفع، و «حقا» بالنصب أي حق عليه العذاب حقا وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بالشقاوة فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ بالسعادة أي إن الذين وجب عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم بطريق الشفاعة لهم. وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر

[سورة الحج (22) : الآيات 21 إلى 30]

ميمي أي فما له من إكرام إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) من الإكرام بالثواب والإهانة بالعقاب هذانِ خَصْمانِ أي طائفة المؤمنين وطائفة الكفار المنقسمة إلى الفرق الخمس فريقان مختصمان. وقرأ ابن كثير «هذان» بتشديد النون. وروي عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في شأنه قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في المسلمين وأهل الكتاب حيث قال أهل الكتاب: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المسلمون: نحن أحق بالله منكم آمنا بنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا، ثم تركتموه وكفرتم به حسدا. فهذه خصومتهم في ربهم فحكم الله بينهم فقال: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي قدرت على مقادير جثثهم نيران تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها. فالمراد بالثياب إحاطة النار بهم أي جعلت النار محيطة بهم كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] ، كما روي عن أنس، وقال سعيد ابن جبير: أي قطعت قمص وجباب من نحاس أذيب بالنار كقوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] . فليس شيء حمى بالنار أشد حرارة منه يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) أي الماء الحار يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) أي يذاب بالماء الحار إذا يصب على رؤوسهم ظاهرهم وباطنهم من الجلود والأمعاء. وفي الحديث الذي رواه الترمذي: «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى يخلص إلى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه- وهو الصهر- ثم يعاد كما كان» «1» . وَلَهُمْ أي للكفرة مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) أي مطارق من حديد ف «اللام» للاستحقاق كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي من النار مِنْ غَمٍّ شديد أُعِيدُوا فِيها بالمقامع. روي عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا وَقيل لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) أي عذاب الغليظ من النار لعظيم الإهلاك إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول وبتشديد اللام أي يزينون. وقرئ بسكون الحاء أي يبلسون في الجنة أي تحليهم الملائكة بأمره تعالى. وقرئ «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء أي يلبسون حليهم مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً بالجر في قراءة الجمهور عطفا على ذهب بناء على أن الأساور مركبة منهما بأن يرصع الذهب باللؤلؤ وفي سورة الكهف ليس فيها ذكر لؤلؤ وفي سورة هل أتى لم يذكر فيها اللؤلؤ ولا الذهب وهنا قد ذكرا فيجتمع لهم التزين بهذه الأمور بالذهب

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 374) .

وحده وبالفضة وحدها وبالذهب واللؤلؤ وبالنصب في قراءة نافع وعاصم عطفا على محل من أساور، لأنه يقدر ويحلون حليا من أساور ويحلون لؤلؤا فمن ذهب بيان للأساور وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (23) أي أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة فلا يمكن عراؤهم منه وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية كما قاله ابن عباس في رواية عطاء وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) أي أرشدوا إلى الطريق إلى الله تعالى وهو دين الإسلام فالحميد هو الله فهو محمود في أفعاله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون الناس عن دين الله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وعن دخوله الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ أي المقيم فِيهِ وَالْبادِ أي الطارئ. وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب «سواء» بالنصب مفعول ثان ل «جعلناه» و «العاكف» مرفوع به على الفاعلية وللناس متعلق «بسواء» ظرف له. والباقون «سواء» بالرفع على أنه خبر مقدم و «العاكف» مبتدأ والجملة مفعول ثان ل «جعلناه» . وقرئ «العاكف» بالجر على أنه بدل من الناس وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) فبإلحاد وبظلم حالان مترادفان ومفعول «يرد» متروك ليتناول كل متناول أي ومن يرد في مكة مرادا، مائلا عن الاعتدال ظالما أحدا نذقه من عذاب أليم فإن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق العدل في جميع ما يقصده. وقرئ «يرد» بفتح الياء أي من أتى فيه بإلحاد كاحتكار الطعام، وكدخول مكة بغير إحرام وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مرجعا له بأن يكون موحدا بقلبه لرب البيت عن الشريك ومشتغلا بجسده بتنظيف البيت عن الأوثان أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ف «أن» مفسرة ل «بوأنا» أي لا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت ولا تجعل في العبادة لي شريكا وكان البيت قد رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله، فبناه على أسه الأول، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان والأقذار لِلطَّائِفِينَ حوله وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) أي المصلين الجامعين بين القيام والركوع والسجود وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ أي ناد فيهم بالأمر بالحج زوي أن سيدنا إبراهيم صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأجابه يومئذ بالتلبية من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى يوم تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته يَأْتُوكَ أي يأتوا البيت الذي بنيته رِجالًا أي مشاة على أرجلهم. وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديدها. وقرئ «رجالي» كعجالي عن ابن عباس وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا على كل بعير مهزول لطول سفره يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) أي تأتي جماعة الإبل من كل طريق بعيد. وقرئ «يأتون» أي الناس لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ

لَهُمْ أي ليحضروا منافع مختصة بهذه العبادة كائنة لهم دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة كحصول المغفرة والأموال وقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا متعلق ب «يأتوك» وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي أيام عشر ذي الحجة كما اختاره الشافعي وأبو حنيفة لأنه معلوم عند الناس لحرصهم على علمه من أجل أن وقت الحج في آخره. وقال ابن عباس في رواية عطاء: إن أياما معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده، كما اختاره أبو مسلم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى. والمراد بالذكر ما وقع عند الذبح كان يقول الذابح باسم الله، والله أكبر اللهم منك وإليك، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي لأجل ما رزقهم من الإبل والبقر والغنم، قال القفال: وكأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته فَكُلُوا مِنْها أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) . تَفَثَهُمْ أي ثم بعد خروجهم من الإحرام ليقطعوا أدرانهم كالشارب والأظفار والإبط والعانة وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أي ما أوجبوه على أنفسهم ما لم يكن الحج يقتضي وجوب ذلك من الضحايا وغيرها. وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء أي ليتموا ذلك وَلْيَطَّوَّفُوا الطواف الذي يتم به التحلل بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) أي القديم، لأنه أول بيت بني وقد أعتق من غرق الطوفان زمن نوح ومن تسلط كل جبار دخل فيه ليهدمه، وهو بيت كريم لم يملك قط. وفي قراءة أبي عمر وتحريك اللامات الثلاثة بالكسر. وفي قراءة ابن ذكوان بكسر اللامين الأخيرين. وفي قراءة الباقين بإسكان الكل ذلِكَ خبر مبتدأ محذوف ويذكر للفصل بين كلامين أي الشأن، ذلك المذكور من قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا إلى هنا أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الأمر لازم لكم أو مفعول لمحذوف أي احفظوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ومن يعظم جميع تكاليف الله تعالى من مناسك الحج وغيرها بالعمل بموجبه فتعظيمه قربة عند الله يثاب عليها في الآخرة وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي رخصت لكم حال الإحرام ذبيحة الأنعام وأكل لحومها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه مما حرم منها لعارض كالميتة

[سورة الحج (22) : الآيات 31 إلى 40]

وما أهل به لغير الله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان فعبادة الأوثان قذر معنوي وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) أي القول المنحرف عن الواقع كالافتراء على الله تعالى بأنه حكم بتحريم البحائر والسوائب ونحوهما. حُنَفاءَ لِلَّهِ أي مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيئا من الأشياء وهذان حالان من واو «فاجتنبوا» فالأولى مؤسسة والثانية مؤكدة. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) أي إن بعد من أشرك بالله عن الحق كبعد من سقط من السماء فذهب كالطير حيث تشاء فإن الأهواء المردية توزع أفكاره أو قذفت به الريح في مكان بعيد، فإن الشيطان قد طرحه في وادي الضلالة. أو المعنى من أشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا شبيها باستلاب الطير لحمه وتفرق أجزائه في حواصلها أو بسقوطه في المكان البعيد بعصف الريح به ذلِكَ أي الأمر ذلك التباعد لمن أشرك بالله أو امتثلوا ذلك أمر الله وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي معالم الحج وهي الهدايا فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) أي فإن تعظيمها من أفعال دوي تقوى القلوب وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حسانا سمانا غالية الأثمان. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب. وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وسميت الهدايا شعائر لتعليمها بعلامة يعرف بها أنها هدايا كطعن حديدة في سنامها وتعليق النعال في أعناقها وتعليق آذان القرب في آذان الغنم لَكُمْ فِيها أي الشعائر واجبة أو مندوبة مَنافِعُ مع تسمية الأنعام هدايا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وتركبوها لغيركم بلا أجرة، فإن كان إركابها بأجرة حرم وإن تشربوا ألبانها الفاضلة عن ولدها إذا اضطررتم إليها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أن تنحروها ولا تسمى الأنعام شعارا قبل أن تسمى هديا، كما اختاره الشافعي. وروى أبو هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اركبها ويلك» «1» . ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) أي ثم أعظم هذه المنافع وقت وجوب نحر الهدايا منتهية إلى الحزم كله. قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل فجاج منى منحر» «2» . وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده جَعَلْنا مَنْسَكاً أي قربانا يتقربون إلى الله تعالى. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما «منسكا» بكسر السين، أي مذبحا وهو موضع ذبح القربان. وقرأ الباقون بالفتح وهو إراقة الدم لوجه الله تعالى وهو ذبح القرابين لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك، باب: ركوب البدنة وأبو داود في كتاب المناسك، باب: في ركوب البدن، والنسائي في كتاب مناسك الحج، باب: ركوب البدنة، وأحمد في (م 2/ ص 254) . (2) رواه أحمد في (م 4/ ص 82) .

أي عند ذبحها وفي هذا تنبيه على أن المقصود الأصلي من طلب الذبائح تذكر المعبود وعلى أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله وفي هذا بيان أن الله تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته لكل الخلق فَلَهُ أَسْلِمُوا أي فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له الذكر بحيث لا يشوبه إشراك ألبتة وانقادوا له تعالى في جميع تكاليفه وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) أي المتواضعين فالحج من صفات المتواضعين كالتجرد عن اللباس، وكشف الرأس، والغربة من الأوطان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكليف والمصائب، فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها. وقرأ الحسن «والمقيمي الصلاة» بنصب «الصلاة» على تقدير النون. وقرأ ابن مسعود «والمقيمين الصلاة» على الأصل وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) في وجوه الخيرات وأمر الله تعالى رسوله أن يبشر بالجنة المتواضعين المتصفين بوجل القلوب إذا أمروا بأمر من الله تعالى وبالصبر إذا أصابهم البلاء من الله تعالى وبإقامة الصلاة في وقت السفر للحج وبصدقة التطوع، أي لذلك الوجل أثران الصبر على البلايا التي من قبل الله تعالى والاشتغال بالخدمة بالنفس وبالمال وهما أعز الأشياء عند الإنسان، فالخدمة بالنفس: هي الصلاة. والخدمة بالنفس وبالمال: هي إنفاقه في وجوه الخيرات وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي أعلام دينه وهو مفعول ثان و «لكم» متعلق به «والبدن» عند الشافعي خاصة بالإبل، وعند أبي حنيفة الإبل والبقر لَكُمْ فِيها أي البدن خَيْرٌ أي منافع دينية ودنيوية هي درها ونسلها وصوفها وظهرها فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي على نحرها صَوافَّ أي قياما على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى ويد أخرى معقولة فينحرها كذلك بأن تقولوا عند الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك. وقرئ «صوافن» بضم النون. وقرئ «صوافي» أي خوالص لوجه الله تعالى، لا تشركوا بالله في التسمية أحدا على نحرها وخوالص من العيوب. وعن عمرو بن عبيد «صوافيا» بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها فَكُلُوا مِنْها إن شئتم إذا كانت الأضاحي تطوعا وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وَالْمُعْتَرَّ أي الذي يعتر بالسلام ولا يسأل بل يري نفسه للناس كالزائر كَذلِكَ مع كمال عظمها ونهاية قوتها، أي فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدنيا والدين لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالإخلاص لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي لن يصل إلى الله تعالى أي إلى مرضاته لحوم القرابين ولا دماؤها، ولكن يقبل

الله الأعمال الطاهرة منكم فمنها التصديق باللحم: وهو من عمل العبد فيرفع إلى الله وأما نفس اللحم المتصدق به: فلا يرفع إلى الله. والمعنى: إن الله لا يثيبكم على لحمها إلا إذا وقع موقعا من وجوه الخير وهو امتثال أمره تعالى وتعظيمه والإخلاص له تعالى. وروي أنهم كانوا في الجاهلية يضربون لحم الأضاحي على حائط الكعبة ويلطخونها بدمها فأراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا إلى الله تعالى فنزلت هذه الآية: كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ أي إنما سخّر الله تعالى البدن لكم هكذا لتشكروا الله تعالى على إرشادكم إلى أعلام دينكم وإلى كيفية التقرب بها، وإلى طريق تذليلها ولتقولوا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) أي المخلصين في كل ما يأتون وما يذرون في أمور دينهم إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. قرأ ابن كثير وأبو عمرو «يدفع» بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء والباقون بضم الياء وفتح الدال مع الألف وكسر الفاء أي يبالغ في دفع ضرر المشركين عن الذين آمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ في أمانات الله تعالى وهي أوامره ونواهيه كَفُورٍ (38) لنعمته وهم المشركون فإنهم أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ. قرأ أهل المدنية والبصرة وعاصم في رواية حفص «أذن» بالبناء للمجهول. والباقون بالبناء للفاعل. وقرأ أهل المدنية وعاصم «يقاتلون» بالبناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ببناء الفعلين للفاعل وأبو عمرو وأبو بكر بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل. وابن عامر عكس هذا أي أذن الله بعد الهجرة للذين يريدون قتال المشركين في أن يقاتلوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا قيل: نزلت هذه الآية في قوم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدنية فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذين يمنعونهم من الهجرة بسبب أنهم مظلمون بالإيذاء. وقيل: كان مشركو مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذى شديدا، وكانوا يأتونه صلّى الله عليه وسلّم من بين مضروب ومشجوج يشكون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ أي نصر المؤمنين الذين يقاتلهم المشركون عليهم لَقَدِيرٌ (39) وعد الله للمؤمنين بالنصر على طريق الكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ مكة المعظمة فالموصول إما نعت للموصول الأول أو الثاني، أو بيان له أو بدل منه، وإما منصوب على المدح أو مرفوع بإضمار مبتدأ على المدح بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. وهذا بدل من حق أي أنهم أخرجوا من مكة بغير سبب إلا بقولهم: ربنا الله وحده ومحمد رسوله إلينا، فالتوحيد هو الذي ينبغي أن يكون سبب التمكين في مكة لا سبب الإخراج فالإخراج به إخراج بغير حق وَلَوْلا دَفْعُ

[سورة الحج (22) : الآيات 41 إلى 50]

اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل زمان لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ للرهبانية وَبِيَعٌ للنصارى وَصَلَواتٌ أي كنائس لليهود وَمَساجِدُ للمسلمين يُذْكَرُ فِيهَا أي في هذه المواضع الأربعة اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً. قال الزجاج: أي ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين بالإذن لهم في جهادهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا مواضع عبادات المؤمنين منهم فهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلى فيه، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه. وهي المسماة بالصلوات، وهي كلمة معربة أصلها بالعبرانية: «صلوثا» بفتح الصاد والثاء المثلثة والقصر وبه قرئ في الشواذ. ومعناه في لغتهم «مصلى» ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع وهما للنصارى. لكن الصوامع هي التي يبنونها في الصحارى والبيع هي التي يبنونها في البلدان، وفي زمن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم المساجد. وقرأ نافع «دفاع» بكسر الدال وفتح الفاء مع الألف وقرأ نافع وابن كثير «لهدمت» بتخفيف الدال وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وأولياءه بأن يظفرهم بأعدائهم بالتجلد في القتال، وبإيضاح الأدلة وبالإعانة على الطاعات إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على هذه النصرة التي وعدها للمؤمنين عَزِيزٌ (40) أي لا يمنعه شيء وقد أنجز الله وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب، وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم، أرضهم وديارهم. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ أي المأذون لهم في القتال المخرجون من ديارهم هم الذين إن أعطيناهم السلطنة ونفاذ القول على الخلق أتوا بالأمور الأربعة هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذا دليل على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله تعالى لم يعط نفاذ الأمر غيرهم من المهاجرين. أما الأنصار فلم يخرجوا من ديارهم وفي هذه الآية إخبار من الله تعالى بالغيب عما تكون عليه سيرة المهاجرين إن أعطاهم السلطنة على الأرض وثناء منه تعالى عليهم قبل إحداثهم الخير وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وفي هذه إشارة إلى حضور سلطنة من أخرجهم كفار مكة ووقوع ملكه مع السيرة العادلة- وهم الخلفاء الراشدون- ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى في العاقبة فإنه تعالى هو الذي لا يزول ملكه أبدا، وفي هذا تأكيد للوعد بإعلاء دينه تعالى وإظهار أوليائه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى أي وإن تحزن يا أشرف الخلق على تكذيب قومك إياك فأنت يا أكرم الرسل لست بأوحدي في التكذيب، فتسل بهم فإنه قد كذب سائر الأمم أنبياءهم قبل تكذيب قومك إياك. كذب قوم نوح الذين هم من أشد الناس نوحا عليه السلام، وكذب قوم هود الذين هم ذوو الأبدان الشداد هودا عليه السلام، وكذب قوم صالح الذين هم أولوا الأبنية الطوال في الجبال والسهول صالحا

عليه السلام، وكذب قوم إبراهيم المتكبرون إبراهيم عليه السلام، وكذب قوم لوط الأنجاس لوطا عليه السلام، وكذب قوم شعيب أرباب الأموال المجموعة شعيبا عليه السلام، وكذب أهل مصر وهم القبط موسى عليه السلام، فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بعذاب الاستئصال فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) أي فانظر يا سيد الرسل كيف كان تغييري عليهم، فإن الله غيّر حياتهم بإهلاكهم بعذاب الاستئصال وعمارتهم بالخراب فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها. وقرأ أبو عمرو ويعقوب «أهلكتها» على وفق «فأمليت» ثم «أخذتهم» ، أي فأهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها، وَهِيَ ظالِمَةٌ أي كافرا أهلها. وهذه جملة حالية من مفعول أهلكنا فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي فهي ساقطة حيطانها على سقوفها، بأن خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، أو فهي خالية عن الناس مع بقاء عروشها، وهذه معطوفة على «أهلكناها» فلا محل لها من الاعراب إن جعلت أهلكناها مفسرة لمضمر ناصب ل «كائن» ، ومحلها رفع إن جعل خبرا ل «كأين» وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي وكم بئر عامرة كثيرة الماء متروكة لا يستسقى منها لهلاك أهلها. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أي مرفوع البنيان أو مجصص أخليناه عن ساكنه. روى أبو هريرة أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم ب «حضرموت» وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات. ثمّ وثمّ بلدة عند البئر اسمها «حاضورا» بناها قوم صالح، وأمّروا عليها حاسر بن جلاس، وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله تعالى وعطّل بئرهم، وخرّب قصورهم. وعلى هذا فالمراد بالبئر بئر بسفح جبل بحضرموت وبالقصر مشرف على قلته أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أغفل أهل مكة فلم يسافروا في تجاراتهم فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يعقل من التوحيد بسبب ما شاهدوه من مواد الاعتبار أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من أخبار الرسول فَإِنَّها الضمير للقصة يفسره ما بعده لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما هو في عقولهم، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة، والاعتماد في التقليد وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ أي تطلب قريش كالنضر بن الحرث أن تأتيهم بالعذاب عاجلا استهزاء بك وتعجيزا لك على زعمهم. وكان رسول الله يهددهم بنقمات الله دنيا وأخرى، وهم يقولون: إن ما حذرتنا به لا يقع، وإنه لا بعث، فذكر الله تعالى نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة بقوله تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ في إنزال العذاب بكم في الدنيا، وقد أنجز الله وعده يوم بدر، فقتل منهم سبعون، وأسر منهم سبعون وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) أي وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا في كثرة الآلام وشدتها، فلو عرفوا حال عذاب الآخرة أنه بهذا الوصف لما استعجلوه.

[سورة الحج (22) : الآيات 51 إلى 60]

وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء التحتية فيكون مناسبا لقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ. وقرأ الباقون بالتاء فيكون التفاتا وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ أي وكم من أهل قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخر ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) أي ثم عاقبت أهل تلك القرية في الدنيا، بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر في الآخرة فإذا رجعوا إليّ بهم ما يليق بأعمالهم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) أي إنما أنذركم إنذارا بينا بما أوحي إلي من أنباء الأمم المهلكة وليس بي تعجيل للعذاب ولا تأخير، وإنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من الذنوب الصغائر والكبائر وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) أي ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي الذين اجتهدوا في إبطال آياتنا حيث قالوا: شعر أو سحر أو أساطير الأولين، مُعاجِزِينَ أي معارضين المؤمنين، فكلما طلب المؤمنون إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله. أو ظانين عجزنا عنهم بأن لا يدركهم عذابنا! وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم بعد العين المفتوحة، أي مثبطين الناس عن الإيمان، أو طامعين في عجز الرسول بالمكايد ظانين ذلك. أُولئِكَ الموصوفون بالسعي في إبطال القرآن واعتقاد العجز لله أو للرسول، أو للمؤمنين. أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) أي ملازمو النار الموقدة. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي إذا قرأ النبي أو الرسول أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أي في قراءة ذلك النبي أو الرسول. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتّل قراءته للقرآن، فارتصد الشيطان سكتته، ونطق بقوله: «تلك الغرانيق العلا ... وإن شفاعتهن لترتجى» محاكيا نغمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بحيث يسمعه من دنا إليه، فظنها من قول النبي وأشاعها وفي هذا إخبار من الله تعالى بأن رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه محاكيا صوتهم، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول نبينا صلّى الله عليه وسلّم، لأن نبينا قاله لأنه معصوم. وفي هذه الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه قد حزن بذلك، وشبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طيور الماء، التي تعلوا في السماء، وترتفع لاعتقاد الكفار أنها تقرّبهم من الله تعالى وتشفع لهم، وإنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها، وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى به فَيَنْسَخُ اللَّهُ أي يزيل ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبت الله القرآن لنبيه لكي يعمل بها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عباده المخلصين حَكِيمٌ (52) فيما يجري عليهم من الأعمال والأحوال، ومن حكمته تعالى فيما يلقي الشيطان لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك- وهم المنافقون- وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، وهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهرا وباطنا، فيرون الباطل حقا فأثبتوه ونفوا الحق فأبعدهم الله بهذا الامتحان عن حضرته وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي هؤلاء المنافقين والمشركين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) أي عداوة شديدة.

قالت قريش: ندم محمد على ذكر منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك، وكانت الكلمتان اللتان زادهما الشيطان في قول نبينا صلّى الله عليه وسلّم قد وقعتا في فم كل مشرك، فازدادوا شرا على ما كانوا عليه، وشدة على من أسلم. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي الذين رزقوا حسن بصيرة الذين يميزون بها بين الحق والباطل، أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي أن القرآن هو الحق النازل من عند ربك فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي فيثبتوا على الإيمان بالقرآن، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي فتنقاد قلوبهم بالقبول لما في القرآن من الأوامر والنواهي. وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا في الأمور الدينية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) أي إلى نظر صحيح موصل إلى الحق الصريح وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من القرآن حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة نفسها بَغْتَةً أي فجأة من دون أن يشعروا أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) أي عذاب يوم لا يوم بعده فيستمر ذلك اليوم كاستمرار المرأة على تعطل الولادة. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ أي في يوم عقيم لِلَّهِ وحده فلا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجازا ولا صورة لأحد ولا معنى كما في الدنيا، فإنه تعالى ملك فيها الأمور غيره صورة يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، أي بين المؤمنين بالقرآن والممارين فيه، فَالَّذِينَ آمَنُوا امتثالا بما أمروا فيه فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) يكرمون بالتحف فضلا من الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي أصروا على ذلك فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) ، أي شديد بسبب معاصيهم. أما إعطاء الثواب فبفضل الله لا بأعمالهم كما هو حكمة ذكر الفاء وتركه في الجانبين وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي هاجروا إلى المدينة لنصرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وللتقرب إلى الله تعالى ثُمَّ قُتِلُوا أي قتلهم العدو. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء أَوْ ماتُوا في سفر أو حضر من غير قتل لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة لاستواء النوعين في القصد وأصل العمل. وروي أن بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك، كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك! فنزلت هذه الآية: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) فإن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والرزق الصادر منه لمحض الإحسان وإن غيره إنما يدفع الرزق من يده ليد غيره ولا يفعل نفس الرزق، ويرزق لانتفاعه إما لأجل خروجه عن الواجب أو لأجل أن يستحق بالإعطاء ثناء أو عوضا، أو لأجل الرقة الجنسية. وأما الله تعالى فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من أحد كمالا زائدا فهو يرزق بغير حساب لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ بأن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم إدخالا فوق ما يتمنونه ومدخلا فوق الذي يهوونه. وقيل: هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف مصراع. وقال ابن عباس: إنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا.

[سورة الحج (22) : الآيات 61 إلى 70]

وقرأ نافع «مدخلا» بفتح الميم أي مكانا. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بما يرضونه وبما يستحقونه فيعطيهم ذلك في الجنة ويزيدهم. حَلِيمٌ (59) فلا يعجل من عصاه بالعقوبة لتقع التوبة منه فيستحق الجنة. ذلِكَ أي الأمر ذلك الذي قصصناه عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ أي والذي قاتل من كان يقاتله من الكفار، ثم إن القاتل ظلم عليه بأن ألجئ إلى مفارقة الوطن، وابتدئ بالقتال لينصرن الله المظلوم على الظالم. قوله: بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ الباء الأولى: للآلة، والثانية: للسببية. والعقاب مأخوذ من التعاقب. وهي مجيء الشيء بعد غيره. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم. فقال بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا، وقاتلوهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم فحصل في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عن هذه الإساءة غَفُورٌ (60) لهم ما صدر عنهم من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المطلوب إليهما وإنما عفا عنهم ذلك مع كونه محرما إذ ذاك، لأنهم فعلوه دفعا للصائل فكان من نوع الواجب عليهم. وهذا تنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة، إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده ذلِكَ أي النصر بسبب أنه تعالى قادر، ومن آيات قدرته كونه خالق الليل والنهار فذلك قوله تعالى: بِأَنَّ اللَّهَ تعالى يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي بسبب أن الله تعالى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر من الساعات أو يحصل ظلمة أحدهما في مكان ضياء الآخر وعكسه، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بكل المسموعات بَصِيرٌ (61) بجميع المبصرات أي أن الله كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدوم الاتصاف بالسمع والبصر فلا يحتاج لسمعه إلى سكون الليل ولا لبصره إلى ضياء النهار ذلِكَ أي الإنصاف بكمال القدرة والعلم بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الثابت الذي يمتنع عليه التغير في ذاته وصفاته فعبادته هو الحق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ أي وأن ما يعبده المشركون من غير الله هو الباطل ألوهيته، وأنه معدوم في حد ذاته. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر، وشعبة بالتاء على خطاب المشركين. وقرئ بالبناء للمفعول على أن «الواو» عائد ل «ما» فإنه كناية عن الآلهة وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أي وأن الله هو القاهر الذي لا يغلب القادر على الضر والنفع العظيم في سلطانه الذي لا تدرك حقيقته أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي فتصير الأرض نامية بما فيه رزق العباد وعمارة البلاد إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي رحيم بعباده في إخراج النبات خَبِيرٌ (63) أي عالم بمقادير مصالحهم، وبما في قلوبهم لَهُ ما فِي

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكل ذلك منقاد له. وهو تعالى غير ممتنع من التصرف فيه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أي الغني عن الأشياء كلها، لأنه كامل لذاته والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور، ولكنه لما خلق الحيوان خلق الأشياء رحمة للحيوانات، لا لحاجة إلى ذلك وكان إنعامه تعالى خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا أَلَمْ تَرَ أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ تعالى سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعل ما فيها معدا لمنافعكم فلا أصلب من الحجر، ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مذللة لكم، وذلل لكم الحيوانات حتى تنتفعوا بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها، والانتفاع بالنظر إليها فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر والخيل لما انتفع بها أحد وَالْفُلْكَ معطوف على ما أو على اسم «أن» تَجْرِي فِي الْبَحْرِ حال من الفلك أو خبر بِأَمْرِهِ أي بإذنه فلولا أن الله سخر السفن بالماء والرياح لجريها لكانت تغوص أو تقف وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي ويمنع السماء من أن تقع على الأرض إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة، لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بإمساك السماء من السقوط، لأنه جرم ثقيل مسكن الملائكة لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) حيث هيأ لهم أسباب معاشهم، وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم نطفا، بعد أن كنتم معدومين ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم القيامة للثواب والعقاب إِنَّ الْإِنْسانَ أي المشرك كبديل بن ورقاء الخزاعي والأسود بن عبد الأسد، وأبي جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف. لَكَفُورٌ (66) أي جحود لنعم الله مع ظهورها حيث ترك توحيده تعالى لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ أي لكل أمة معينة وضعنا شريعة خاصة تلك الأمة المعينة عاملون بها، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث نبينا منسكهم الإنجيل، هم عاملون به لا غيرهم. وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي ومن بعدهم إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي يجب على أرباب الملأ أن يتبعوك وأن يتركوا مخالفتك في أمر الدين وقد استقر الأمر الآن على شرعك وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادعهم إلى شريعتك ولا تخص بالدعاء إلى توحيد ربك أمة دون أمة فكلهم أمتك. إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) أي على أدلة دين واضحة موصلة إلى الله تعالى، وَإِنْ جادَلُوكَ أي إن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريق المجادلة والتمسك بالعادة فَقُلِ لهم على سبيل التحذير من حكم يوم القيامة، الذي يتردد بين جنة لمن قبل ونار لمن أنكر: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) من المجادلة الباطلة وغيرها. اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ بالثواب والعقاب فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) من أمر الدين، فتعرفون حينئذ

[سورة الحج (22) : الآيات 71 إلى 78]

الحق من الباطل أَلَمْ تَعْلَمْ أي قد علمت يا أشرف الخلق أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء مما يقوله الكفرة وما يعملونه. إِنَّ ذلِكَ أي ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ أي لوح محفوظ إِنَّ ذلِكَ أي إن علم ما في السماء والأرض بغير الكتاب جملة وتفصيلا عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) أي هين وإن تعذر على الخلق. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أي ويعبد كفار مكة متجاوزين عبادة الله ما لم ينزل الله بجواز عبادته حجة من جهة الوحي، وما ليس لهم بجواز عبادته علم من دليل عقلي، أي أن عبادتهم لغير الله من الأصنام ليست مأخوذة من دليل سمعي ولا من دليل عقلي بل هو من تقليد أو جهل أو شبهة فوجب أن يكون ذلك باطلا وَما لِلظَّالِمِينَ أي المشركين مِنْ نَصِيرٍ (71) أي ليس لهم ناصر في مذهبهم بالحجة ولا في دفع عذاب الله عنهم، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا أي القرآن بَيِّناتٍ أي واضحات في الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة. تَعْرِفُ يا أشرف الخلق فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن الْمُنْكَرَ أي الكراهية للقرآن وأثر الغضب يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يكادون يثبون على من يقرءوا القرآن عليهم بالبطش من فرط الغضب. قُلْ ردا عليهم: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي أخاطبكم فأخبركم بأشر من غيظكم على التالين، وقهركم عليهم ومن الضجر بسبب ما تلي عليكم. النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا ماتوا على الكفر. ف «النار» إما مبتدأ وخبره ما بعده، أو خبر مبتدأ مقدر. وقرأه زيد بن علي، وابن أبي عبلة بالنصب على الاختصاص أو على أنه منصوب بفعل مقدر يفسره ما بعده. وقرأه ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن نوح بالجر بدلا من شر وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) النار. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة ضُرِبَ مَثَلٌ أي بيّن لكم حال عجيبة غريبة فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروا المثل حق تدبره إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي أن الأصنام الذين تعبدونهم لن يقدروا على خلق الذباب مع صغره وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه أي تعاونوا على خلقه فكيف يليق بالعاقل جعل الأصنام معبودا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي وإن يأخذ الذباب من الأصنام شيئا من الطيب والعسل الذي لطخوا عليها لا تسترده من الذباب. قال ابن عباس: إنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) . قال ابن عباس: أي ضعف الذباب والصنم، فالذباب طالب ما يأخذه من الذي على الصنم. وقال الضحاك: أي ضعف العابد والمعبود ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوا الله حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على خلق

الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات عن آخرها عَزِيزٌ (74) أي غالب على جميع الأشياء اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا إلى بني آدم كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة وَمِنَ النَّاسِ أي ويختار من الناس رسلا مختصين بالنفوس الزكية كإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم. نزلت هذه الآية لما قال الوليد بن المغيرة مع موافقة الباقي لم ينزل على محمد القرآن لأنه ليس بأكبرنا ولا بأشرفنا. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لمقالتهم. بَصِيرٌ (75) بأفعالهم، وبمن يستحق الرسالة يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم الله ما عملوه وما سيعملونه من أمور الدنيا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) . وهذا إشارة إلى التفرد بالإلهية والحكم، وإلى الزجر عن مباشرة المعصية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي ارجعوا من تكبر قيام الإنسانية إلى تواضع الحيوانية وذلة النباتية. قال ابن عباس: إن الناس كانوا في أول الإسلام يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما كلفكم به خالصا لوجهه وَافْعَلُوا الْخَيْرَ واجبا ومندوبا وتوجهوا إلى الله تعالى في جميع أحوالكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) أي لتظفروا بنعيم الجنة، أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الفلاح، غير متيقنين أنها مقبولة عند الله تعالى والعواقب مستورة وكل ميسر لما خلق له: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي لله أعداء دينه الظاهرة والباطنة من أهل الضلال والهوى والنفس حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا من أجل الله، حقا لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة. هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم للاشتغال بطاعته من بين سائر البريات وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ أي في أمر الدين مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بتكليف ما يشق عليكم إقامته. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ أي سهل الله عليكم الدين مثل ملة أبيكم إبراهيم، فإنه أبو رسول الله وهو كالأب لأمته، ولأن أكثر العرب كانوا من ذرية إبراهيم فغلبوا على غيرهم هُوَ أي الله. كما قرأ أبيّ بن كعب. سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي قبل هذا القرآن في كتب الأنبياء وَفِي هذا أي القرآن بقوله تعالى: ورضيت لكم الإسلام دينا. وقيل: الله سماكم المسلمين في الأزل من قبل أن خلقكم وبعد أن خلقكم لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة بأنه بلغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي الأمم الماضية، بتبليغ الرسل إليهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فلما خصكم الله بهذه الكرامة، فاعبدوه وتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكر لفضلهما. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ. قال القفال: أي اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون. وقال ابن عباس: أي سلوا الله العصمة عن كل المحرمات أي ولا تطلبوا الإعانة في كل الأمور إلا منه تعالى. هُوَ مَوْلاكُمْ أي حافظكم. فَنِعْمَ الْمَوْلى أي الحافظ. وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) بل فلا حافظ ولا ناصر في الحقيقة سواه تعالى.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكية، مائة وثمان عشرة آية عند الكوفيين، وتسع عشرة عند البصريين، ألف وثمانمائة وأربعون كلمة أربعة آلاف وثمانمائة حرف قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) أي فازوا بالمراد. وقرأ طلحة بن مصرف «أفلح» على البناء للمفعول، أي أدخلوا في الفلاح الذي هو الوصول إلى الله تعالى. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) أي خاضعون للمعبود بالقلب، غير ملتفتين بالخواطر إلى شيء سوى التعظيم ساكنون بالجوارح، مطرقون ناظرون إلى مواضع سجودهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا، ويرفعون أيديهم. والخشوع من فروض الصلاة عند الغزالي. والحضور عندنا ليس شرطا للإجزاء بل شرط للقبول كما قاله الرازي وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) أي الذين هم تاركون لما لا حاجة إليه في أمور الدين والدنيا من الأقوال والأفعال في عامة أوقاتهم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) أي مؤدّون وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) أي ممسكون فلا يرسلونها على أحد إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ أي سراريهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) على عدم حفظها منهن إذا كان إتيانهن على وجه الحلال فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي فمن طلب غير ذلك المستثنى كإتيان بهيمة أو زنا أو لواط، أو استمناء بيد، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) أي الكاملون في مجاوزة الحدود وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) أي قائمون بحفظ وإصلاح فكل ما يكون تركه داخلا في الخيانة فهو أمانة، والعهد هو ما عقده العبد على نفسه فيما يقربه إلى الله تعالى، وما أمر الله تعالى به، وذلك كالوضوء والاغتسال من الجنابة والصلاة، والصوم، والودائع، والأسرار وغير ذلك. وقرأ نافع وابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما، ولأركانها. وقرأ حمزة والكسائي «صلاتهم» بالإفراد أُولئِكَ أي المؤمنون المتصفون بتلك الصفات هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ.

روي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب، ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر، وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان. وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش» «1» . وسمى استحقاقهم الفردوس إرثا بأعمالهم بحسب وعده تعالى، لأن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديرها هُمْ فِيها أي الفردوس خالِدُونَ (11) لا يموتون ولا يخرجون منها أبدا. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي جنس الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) أي من خلاصة كائنة من طين ثُمَّ جَعَلْناهُ أي السلالة نُطْفَةً أي منيا، أربعين يوما فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) أي مكان حريز. فإن الله تعالى خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في صلب الأب فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم الأم فصار الرحم مستقرا حصينا لهذه النطفة ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي ثم صيرنا المني الأبيض دما جامدا أربعين يوما، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي ثم صيرنا الدم الجامد الأحمر لحما صغيرا، مقدار ما يمضغ أربعين يوما فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً أي فصيرنا اللحم الصغير عظاما بلا لحم بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات مخصوصة من رأس ورجلين وما بينهما. فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً وشددناها بالأعصاب والعروق. فاللحم يستر العظام كالكسوة. وقرأ ابن عامر وأبو بكر «عظما» و «العظم» بالإفراد في الموضعين. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي حولنا العظام المستورة باللحم عن صفاتها إلى صفة لا يحيط بها شرح الشارحين فإن الله جعلها حيوانا ناطقا، سميعا بصيرا، عاقلا. وأودع كل جزء من أجزائه عجائب وغرائب لا يحيط بها وصف الواصفين فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) أي فتعالى شأن الله تعالى أتقن المحولين ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي التركيب بالأمور العجيبة لَمَيِّتُونَ (15) أي لصائرون إلى الموت. وقرأ ابن أبي عبلة وابن محيص «لمائتون» . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ (16) من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب. وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي سبع سموات طرائق بعضها فوق بعض وإنما قيل للسموات: طرائق لتطارقها، أي لكون بعضها موضوعا فوق بعض طاقا فوق، كمطارقة النعل. فجعل الله في السموات موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها. وكان نزول الوحي ومقرا للملائكة وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) بل كنا حافظين لهم عن أن تسقط عليهم الطباق السبع فتهلكهم، ولسنا تاركين لهم بلا أمر ولا نهي،

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (2: 371) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 294) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3184) ، بما معناه.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 21 إلى 30]

ولا غافلين من أعمالهم ومصالحهم. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم. قال الرازي: إن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار منافعهم، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم ينزلها على قدر الحاجة إليها اه-. وفي الأحاديث: «إن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء» «1» . فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارا فيها بعضه في بطنها وبعضه على ظهرها كالأنهار والغدران والعيون وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بالإفساد أو بالتصعيد أو بالتغوير في الأرض لَقادِرُونَ (18) كما كنا قادرين على إنزاله فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ. وإنما ذكرهما الله تعالى لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي البساتين فَواكِهُ كَثِيرَةٌ من ألوان شتى وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) أي ترزقون، وتحصلون معايشكم أي تتنعمون بفوائد البستان وتتعيشون بها وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم زيتونة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل نودي منه موسى عليه السلام بين مصر وأيلة. وقيل: في فلسطين. ومن قرأ بفتح السين منع الصرف لألف التأنيث الممدودة. ومن قرأ بكسرها وهو نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقد منع الصرف للعلمية والعجمة، فإن الهمزة ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس. قيل: إن الزيتونة أول شجرة نبتت بعد الطوفان. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تخرج الدهن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء، أي تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) معطوف على الدهن أي تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يغمس الخبز فيه للائتدام وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الإبل لَعِبْرَةً تستدلون بأحوالها على تعظيم قدرة الله تعالى وسابغ رحمته وتشكرونه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره. ووجه الاعتبار في اللبن أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ويصير غذاء، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها تجده شرابا طيبا نافعا للبدن، وإذا ذبحتها لم تجد له أثرا، فمن استدل بذلك على قدرة الله تعالى وحكمته كان ذلك معدودا من النعم الدينية ومن انتفع به كان معدودا من النعم الدنيوية وَلَكُمْ فِيها أي الأنعام. مَنافِعُ كَثِيرَةٌ كالانتفاع بثمنها وأجرتها وَمِنْها أي الأنعام بعد ذبحها تَأْكُلُونَ (21) فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها عَلَيْها أي الأنعام عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) فإن الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر

_ (1) رواه العجلوني في كشف الخفاء (1: 312) ، بما معناه.

بمنزلة الانتفاع بالسفن في البحر، ولذلك جمع الله بينهما في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهم جميع أهل الأرض. فَقالَ متعطفا عليهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فلا تعبدوا سواه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع صفة ل «إله» باعتبار محله على أنه فاعل، أو مبتدأ مؤخر أو محذوف الخبر ولكم للتبيين أي ما لكم في العالم إله غيره تعالى. وقرأ الكسائي بجر غيره صفة ل «إله» على الاحتمالين الأولين باعتبار لفظه أَفَلا تَتَّقُونَ (23) أي أتعرفون انتفاء «الإله» غيره تعالى فلا تتقون أنفسكم عذابه تعالى بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامهم ما هذا أي نوح إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يريد أن يطلب الفضل عليكم، بادعاء الرسالة لتكونوا أتباعا له وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لو شاء الله إرسال الرسول إلينا لأنزل ملكا من الملائكة ما سَمِعْنا بِهذا أي بالأمر بعبادة الله خاصة وترك عبادة ما سواه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) أي الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام وذلك لكون آبائهم في زمان فترة متطاولة، وإما لغلوهم في التكذيب وانهماكهم في الضلال. ويقال: ما سمعنا بنوح أنه نبي في الذين مضوا قبلنا في زمنه عليه السلام إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي ما نوح إلا رجل فيه جنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا، فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) أي انتظروه إلى زمن موته. أو المراد أنه مجنون فاصبروا إلى زمان تظهر عاقبة أمره فيه، فإن أفاق فذاك واضح وإلا فاقتلوه، قالَ نوح لما رآهم قد أصروا على التكذيب حتى يئس من إيمانهم بالكلية: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) بالرسالة أي أبدلني من غير تكذيبهم سلوة النصر عليهم، أو أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي. فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عند ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ ف «أن» مفسرة لوقوعها بعد فعل فيه معنى القول بِأَعْيُنِنا أي بحفظنا لك عن أن تخطئ في صنعها أو يفسدها عليك غيرك فإن جبريل علمه عمل السفينة، ووصف له كيفية اتخاذها. وَوَحْيِنا أي وتعليمنا، فأوحى الله إليه جبريل فعلمه صنعة السفينة، وصنعها في عامين، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين وارتفاعها ثلاثين. وجعلها ثلاث طبقات. السفلى: للسباع والهوام. والوسطى للدواب والأنعام. والعليا: للإنس فَإِذا جاءَ أَمْرُنا أي وقت عذابنا عقب تمام الفلك وَفارَ التَّنُّورُ لآدم عليه السلام عند طلوع الفجر وكان في موضع مسجد الكوفة عن يمين الداخل من باب كندة اليوم. وقيل: كان في عين وردة من الشام فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فأدخل في الفلك من كل حيوان حضر في هذا الوقت فردين مزدوجين ذكرا وأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 إلى 40]

وقرأ حفص بتنوين «كل» ف «زوجين» مفعول به واثنين تأكيد أي من كل نوع. وقرأ الباقون بغير تنوين ف «اثنين» مفعول به وَأَهْلَكَ أي وأدخل في الفلك أهل بيتك من زوجك وأولادك. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي الوعد الأزلي من الله تعالى بالإهلاك، وهو ولده كنعان وأم كنعان فهي كافرة. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بالدعاء لإنجائهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) أي أنهم محكوم عليهم بالغرق وبالطوفان فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ أي ركبت وَمَنْ مَعَكَ من المؤمنين والدواب وغيرها عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) ومن الغرق بالالتجاء إلى السفينة. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً أي مكان نزول فيه خير كثير، وهو نفس السفينة، لأن من ركبها خلصته من الغرق. وقرأ أبو بكر «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. والباقون بضم الميم وفتح الزاي وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) في الدنيا والآخرة. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة نوح وقومه لَآياتٍ جليلة. فإن اظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلّا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين من أعظم أنواع العبر في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم مختبرين به عبادنا فيما بعد للنظر من يتذكر، ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاكهم قَرْناً آخَرِينَ (31) هم عاد. فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود عليه السلام. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وقلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا الله وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) عذابه وَقالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء مِنْ قَوْمِهِ أي الرسول الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب، وَأَتْرَفْناهُمْ أي نعمناهم بالأموال والأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يخاطبون أتباعهم مضلين لهم: ما هذا أي الرسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفات والأحوال، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) فكيف يكون رسولا وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ أي إن امتثلتم آدميا مثلكم في الخلق والحال بأوامره، إِنَّكُمْ إِذاً أي إن أطعتموه لَخاسِرُونَ (34) أي مغلوبون في عقولكم جاهلون. أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً أي وصارت أجسامكم ترابا وَعِظاماً نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) من القبور أحياء كما كنتم هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) أي بعد حصول ما توعدون من خروجكم من القبور فلا يقع هذا. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا حياتنا في الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) بعد الموت إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي ما مدعي الرسالة إلا رجل تعمّد على الله كذبا فيما يدّعيه من إرساله، وفيما يعدنا من أن الله يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) أي بمصدقين فيما يقوله من البعث بعد الموت ومن دعوى الرسالة. قالَ أي هود بعد يأسه من إيمانهم: رَبِّ انْصُرْنِي بِما

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 41 إلى 50]

كَذَّبُونِ (39) أي انتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي. قالَ تعالى عدة بالقبول عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) أي بعد زمان قليل ليصيرن نادمين على التكذيب، وذلك عند معاينتهم للعذاب فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ أي دمرهم الله تعالى بالصيحة العظيمة وبالريح العقيم، بالعدل من الله تعالى وقد روي أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار بأهله إليها، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي فجعلناهم بعد موتهم مثل ورق يابس يحمله السيل في عدم المبالاة بهم. فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) «فبعدا» مصدر منصوب بفعل لا يستعمل إظهاره لأنه بمعنى الدعاء عليهم، و «للقوم» متعلق بمحذوف واللام للبيان. فالله تعالى ذكر ذلك على وجه الإهانة لهم وهو التبعيد من الخير. وقد نزل بهم العذاب دالا على ذلك مع أن الذي ينزل بهم في الآخرة من العذاب أعظم مما نزل بهم ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم. والمعنى أهلكوا وخابوا من رحمة الله تعالى دنيا وأخرى. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ (42) هم قوم صالح، ولوط، وشعيب، ويونس، وأيوب. فالله تعالى ما أخلى الأرض من مكلفين بل أوجدهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) فلا نهلك أمة قبل مجيء أجلها، ولا يستأخرون عنه بساعة. فالله تعالى عالم الأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم والمقتول ميت بأجله، إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر وذلك ينافيه هذا النص. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي أرسلنا إلى كل قرن من القرون رسولا خاصا به تَتْرا أي واحدا بعد واحد بينهما زمان طويل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو هريرة وهي قراءة الشافعي «تترى» بالتنوين، فألفه للإلحاق بجعفر، ف «لما» نون ذهبت ألفه لالتقاء الساكنين وباقي السبعة «تترى» بألف صريحة دون تنوين، والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة، والتاء بدل من الواو، فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل وقع حالا أي متواترة أي متتابعة فرادى. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ وسلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من أهلكوا. فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً أي بالهلاك وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا، فيعتبر منهم أهل السعادة ويتغافل منهم أهل الشقاوة. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) أي بعدوا من رحمة الله تعالى بعدا، إذ لم يؤمنوا ولم يعتبروا منهم. ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا التسع، وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) أي حجة واضحة ملزمة للخصم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه، فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لهما وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) في أمور الدنيا، قاهرين بني إسرائيل بالظلم فَقالُوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ أي أننقاد لِبَشَرَيْنِ موسى وهارون مِثْلِنا في البشرية وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) أي والحال أن قومهما بني إسرائيل

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 إلى 60]

خاضعون لنا خادمون كالعبيد لنا، فَكَذَّبُوهُما بالرسالة فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) أي فصاروا من المغرقين في بحر القلزم وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) أي لكي يهتدوا إلى الطريق الحق بالعمل بما فيها من الأحكام، وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ عيسى وَأُمَّهُ آيَةً دالة على عظيم قدرتنا بولادته من غير مسيس بشر، ونطقه في الصغر وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ أي أسكناهما في أرض مرتفعة. فقال عطاء عن ابن عباس: هي بيت المقدس فهو أقرب بقاع الأرض إلى السماء، ويزيد على غيره في الارتفاع ثمانية عشر ميلا. وقال عبد الله بن سلام: هي دمشق وعليه الأكثرون. وقرأ ابن عامر، وعاصم بفتح الراء. والباقون بالضم ذاتِ قَرارٍ أي مستوية مبسوطة ذات نعيم وَمَعِينٍ (50) أي ماء ظاهر جار على وجه الأرض. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ نودي بهذا المعنى كل رسول في زمانه ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل وأمروا به حقيق أن يعمل به. والمعنى نخبرك يا محمد أنّا أمرنا الرسل المتقدمين وقلنا لهم إلخ، دالا على بطلان ما عليه الرهبان من رفض الطيبات، أي وقلنا لكل رسول: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أي الحلالات سواء كانت مستلذة أو لا، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا من فرض ونفل. والأكل إذا كان بأمر الشرع لا بأمر الطبع يكون من نتائجه الأعمال الصالحة، إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ (51) فأجازيكم عليه. وهذا تحذير لهم من الله تعالى من مخالفة ما أمرهم به، وإذا كان هذا تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذير الغير هم أولى وَإِنَّ هذِهِ أي العقائد أُمَّتُكُمْ أي دينكم أيها المخاطبون أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا، والاختلاف في الشرائع لا يسمى اختلافا في الدين. وقرأ الكوفيون بكسر همزة «إن» على الاستئناف الداخل فيما خوطب به الرسل والباقون بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن، وقيل: «العطف على «ما» ، أي إني عليم بأن هذه أمتكم. وقرأ ابن عامر «وإن» بإسكان النون، فاسمها ضمير الشأن و «هذه» مبتدأ، و «أمتكم» خبر و «أمة» حال لازمة وَأَنَا رَبُّكُمْ من غير أن يكون لي شريك في الربوبية فَاتَّقُونِ (52) أي فأطيعوني، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً أي فجعل أتباع الأنبياء أمر دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة وأديانا مختلفة بينهم ف «زبرا» جمع زبرة بمعنى قطعة كغرفة وغرف، فهو حال من «أمرهم» ، أو من واوا «تقطعوا» . كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) أي كل فريق منهم معجبون بما اتخذوه دينا فيرى كل منهم أنه المحق الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أي اترك يا أشرف الخلق كفار مكة في جهلهم إلى موتهم على الكفر أو إلى مجيء عذابهم بالقتل وغيره. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ أي أيظنون أن الذي نعطيهم إياه من المال والبنين نسارع به لهم في إكرامهم ليكونوا فارغي البال من غير اشتغال بالتكاليف. بَلْ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 61 إلى 70]

لا يَشْعُرُونَ (56) حتى يتفكروا في ذلك الإمداد أهو استدراج أم مسارعة في الخير أي فهم أشباه البهائم لا فطنة لهم. إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) أي إن الذين هم من خوف عذاب ربهم حذرون من أسباب العذاب دائمون في طاعته جادون في طلب مرضاته وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة والمنزلة يُؤْمِنُونَ (58) أي يصدقون بأن يستدلوا بهذه المخلوقات على وجود الصانع ويصدقوا بأن ما في القرآن حق من ربهم، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) بأن يكون العبد مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لطلب رضوان الله تعالى ومن الشرك ملاحظة الخلق في الرد والقبول، والفرح بمدحهم، والانكسار بذمهم، وقصور النظر في المسار والمضار على الأسباب عند انقطاع النظر عن المسبب، الذي هو الله تعالى كنظر حصول الشفاء من الدواء والشبع من الطعام، وليس المراد من عدم الإشراك هنا نفي الشريك لله تعالى، لأن ذلك داخل في ما تقدم وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أي والذين يعطون ما أعطوه من الصدقات، والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) . وقرأت عائشة وابن عباس، والحسن، والأعمش «يأتون ما أتوا» من الإتيان، أي ويفعلون ما فعلوه من الطاعات، والحال أن قلوبهم خائفة من رجوعهم إلى ربهم فلا يقبل منهم ذلك، ولا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ. وهذا مناط الوجل. وقرأ الأعمش «إنهم» بكسر الهمزة على الاستئناف أُولئِكَ أي أهل هذه الصفات الأربعة يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها أي يناولون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) أي هم فاعلون السبق لأجل الخيرات أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها وتفيد معنى الثبوت بعد ما تفيد معنى التجدد وقوله أولئك خبر عن أن الذين إلخ وقرئ يسرعون في الخيرات وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في طاقتها أي فإن الله تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم وَلَدَيْنا كِتابٌ أي صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب يَنْطِقُ بِالْحَقِّ أي يظهر المطابق للواقع، فأعمال العباد كلها مثبتة في صحائفهم فلا يضيع لعامل جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عقاب بَلْ قُلُوبُهُمْ أي الكفرة فِي غَمْرَةٍ أي غفلة مِنْ هذا الذي بيناه في القرآن من أن لدينا ديوان الحفظة الذي يظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها، وَلَهُمْ أي الكفار أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي أعمال سيئة غير كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر، وهي فنون معاصيهم كطعنهم في القرآن وإقامة إمائهم في الزنا هُمْ لَها عامِلُونَ (63) هم مستمرون على أعمال سيئة حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ أي أكابرهم الذين أمدهم الله تعالى بالمال والبنين بِالْعَذابِ أي الأخروي إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) أي يرتفع صوتهم

بالاستغاثة في كشف العذاب عنهم لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ أي لا تلتجئوا اليوم إلينا إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) أي لأنه لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما نزل بكم قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) أي فكنتم تعرضون عن تلك الآيات، وتنفرون عمن يتلوها وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه على أدباركم بدل على أعقابكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً فالجار والمجرور متعلق بقوله: مُسْتَكْبِرِينَ والباء سببية، والضمير يعود إلى الحرم أي متعظمين بالحرم أو متعلق ب «سامرا» والباء بمعنى في، والضمير يعود إلى البيت الحرام أي ساهرين في الليل المظلم يتحدثون حول البيت العتيق والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت، ويجوز أن يكون متعلقا ب «تهجرون» والضمير يعود إلى القرآن تَهْجُرُونَ (67) . قرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم، أي تسبون القرآن وتسمونه سحرا وشعرا. والباقون بفتح التاء وضم الجيم أي تتركون القرآن، وتعرضون عنه وكانوا يجتمعون حول الكعبة في الليل يتحدثون، وكان أكثر حديثهم ذكر القرآن والطعن فيه وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وكانوا يقولون: لا يعلو علينا أحد لأنا أهل الحرم وقوله: مُسْتَكْبِرِينَ وقوله: سامِراً وقوله: تَهْجُرُونَ أحوال من الواو في «تنكصون» ، أو في كل واحدة حال من ضمير ما قبلها و «سامرا» ، اسم جمع كحاج وراكب وحاضر وغائب فالكل يطلق على الجمع أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار، والهجر، فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم والإخبار بالغيب أنه الحق من ربهم، بل أجاءهم من الكتاب وبعثة الرسل ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه السلام وأعقابه من عدنان وقحطان، ومضر، وربيعة، وقس، والحرث بن كعب، وأسد بن خزيمة، وتميم بن مرة، وتبع وضبة بن أد فكلهم آمنوا بالله تعالى وكتبه ورسله. فإن مجيء الكتب من الله تعالى إلى الرسل عادة قديمة له تعالى، وإن مجيء القرآن على طريقته، فمن أين ينكرونه! بل ألم يعرفوا رسولهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالأمانة والصدق، وحسن الأخلاق، وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أي فهم جاحدون برسالة رسولهم، أي أنهم عرفوا منه صلّى الله عليه وسلّم قبل ادعاء الرسالة كونه في غاية الفرار من الكذب، فكيف كذبوه بعد اتفاق كلمتهم على تسميته صلّى الله عليه وسلّم بالأمين أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي بل أيقولون في رسولهم جنون ويقولون: إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه، مع أنه أرجح الناس عقلا وأوفرهم رزانة بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي جاءهم رسولهم

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 إلى 80]

عليه الصلاة والسلام بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ أي أيّ حق كان كارِهُونَ (70) من حيث تمسكوا بالتقليد، ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لزالت مناصبهم واختلت رئاساتهم، فلذلك كرهوه وكان منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لعدم فكرته لا لكراهة الحق. وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي ولو كان الحق الذي كرهوه موافقا لأهوائهم الباطلة لخرجت السموات والأرض ومن فيهن عن الصلاح والانتظام بالكلية، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي بل جئناهم بالقرآن الذي فيه شرفهم. وقرأ أبو عمرو في رواية «آتيناهم» بمد الهمزة، أي أعطيناهم فخرهم، فالباء مزيدة في «بذكرهم» ، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو وأبو عمرو أيضا «أتيتهم» بتاء المتكلم وحده وقرأ الجحدري وأبو رجاء آتيتهم بالتاء على خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقرأ عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث أي بوعظهم. وقرأ أبو قتادة «نذكرهم» بنون المتكلم مضارع «ذكر» مشدد الكاف، وهي جملة حالية. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم مُعْرِضُونَ (71) ، وكان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً وقرأ حمزة والكسائي بفتح الراء وبالألف والباقون بسكونها فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ، وقرأ ابن عامر بسكون الراء. والباقون بفتحها وبالألف. أي أم تسألهم على هدايتهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء ربك خير فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله صلّى الله عليه وسلّم لأجل هذه التهمة البعيدة، وهم غير معذورين ألبتة، وهم محجوجون من جميع الوجوه، فهذا توبيخ بوجه آخر كأنه قيل: أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك ولا تسألهم ذلك، فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) أي أفضل المعطين في الدنيا والآخرة خير لك من ذلك وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) تشهد العقول السليمة باستقامته وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث والثواب والعقاب عَنِ الصِّراطِ أي عن جنس الصراط لَناكِبُونَ (74) أي منحرفون فلا يطلق على ما ذهبوا إليه اسم الصراط لغاية ضلالهم وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) أي ولو كشفنا ما أصابهم من جمع وسائر مضار الدنيا لتمادوا في ضلالهم وهم متحيّرون عن الهدى لا يبصرون الحق، وقد كان الأمر كذلك. روي أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة، منع الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله تعالى بالسنين سبع سنين حتى أكلوا الجلود والجيف والعلهز «1» ، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين، ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله يكشف عنا هذا القحط، فدعا، فكشف عنهم، فأنزل الله هذه الآية وذلك بسبب

_ (1) العلهز: بالكسر، طعام من الدم والوبر، كان يتخذ في المجاعة [القاموس المحيط، مادة: العلهز] .

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 81 إلى 90]

دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ وهو ما ينالهم يوم بدر من القتل والأسر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي فما خضعوا لربهم بالتوحيد وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) أي فما يؤمنون، أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع الذي هو أشد منهما، فما رؤي منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط. وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء، وإنما هو نوع خشوع إلى أن يتم غرضه، فجاء كما قيل: إذا جاء ضغا وإذا شبع طغى، وأكثرهم مستمرون على ذلك حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُبْلِسُونَ (77) أي آيسون من كل خير وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ وخصّ الله هذه الثلاثة بالذكر، لأن الاستدلال موقوف عليها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (78) أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة يا أهل مكة. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) أي تجمعون يوم القيامة إلى موضع لا حاكم فيه سواه وجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وينقل من نعمة الحياة إلى دار الثواب والعقاب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو المؤثر في تعاقبهما واختلافهما ازديادا وانتقاصا أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) أي أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر أن الكل مناف أن قدرتنا تعم الممكنات التي من جملتها البعث بعد الموت بَلْ قالُوا أي فلم يعقل كفار مكة بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) من قوم نوح، وهود، وصالح وغيرهم في إنكار البعث مع وضوح الدلائل. قالُوا مقلدين للأولين: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) بعد ذلك لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا أي البعث مِنْ قَبْلُ أي من قبل مجيء محمد أي لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا، أي فلما لم يوجد البعث طول الزمان ظنوا أنه يكون في دار الدنيا ثم قالوا: إِنْ هذا أي ما هذا الذي تقول يا محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) أي إلا أكاذيبهم التي كتبوها قُلْ يا أشرف الرسل لكفار مكة: لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) فأخبروني بخالقهم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ لهم بعد أن تجيبوا بما ذكر توبيخا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) أي أتعلمون ذلك فلا تتذكرون أن من قدر على خلق الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادته ثانيا؟ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ: إفهاما لهم أَفَلا تَتَّقُونَ (87) أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه حيث تكفرون به، وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي من تحت قدرته ملك كل شيء من إنس وجن وغيرهما. وَهُوَ يُجِيرُ أي يغيث غيره إذا شاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ أي لا يغاث أحد منه إذا أراد هلاكه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) ذلك فأجيبوني سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 إلى 100]

وقرأ أبو عمرو «سيقولون الله» . في الأخيرتين من غير لام جر، مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله: (من) لأن المسؤول به مرفوع المحل وهو «من» فجاء جوابه مرفوعا. والباقون «لله» باللام في الأخيرين، وهو جواب على المعنى، لأن التقدير في الموضع الأول منهما، قل من له السموات السبع والعرش، وفي الثاني: قل من له ملكوت كل شيء، ف «لام» الجر مقدرة في السؤال، فظهرت في الجواب نظرا للمعنى. وأما جواب السؤال الأول لله باللام باتفاق السبعة، لأنها قد صرح بها في السؤال. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) أي فمن أين تصرفون عن الرشد إلى الغي، بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد والوعد بالبعث وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) في ادعاء الشرك وإنكار البعث مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لا من الملائكة ولا من غيرهم كما قال الكفار. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه في الألوهية كما يقوله الثنوية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ف «إذا» بمعنى لو الامتناعية أي لو كان معه آلهة كما يقولون لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه وامتاز ملكه عن ملك الآخرين، ولغلب بعضهم على بعض كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده تعالى حينئذ ملكوت كل شيء، وهو باطل لا يقول به عاقل قط سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) من إثبات الولد والشريك عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ. وقرأ نافع وشعبة وحمزة والكسائي بالرفع خبر مبتدأ محذوف. والباقون بالجر بدل من الجلالة وهذا دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرّده تعالى بذلك كأنه قيل: الله عالم الغيب والشهادة وغيره لا يعلمهما، فغيره ليس بإله فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتنزهه عن أن يكون له شريك وشبيه قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب الدنيوي المستأصل فلا تجعلني قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وأعيد لفظ الرب مبالغة في التضرع، و «في» بمعنى مع. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب المستأصل لَقادِرُونَ (95) ولكنا نؤخره للحكمة الداعية إلى التأخير وهذا يدل على صحة قدرته تعالى لا على خلاف علمه فإنه تعالى أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم، ثم لم يفعل ذلك لحكمة فصحة القدرة غير المعلوم والكافرون ينكرون التهديد بالعذاب ويضحكون به ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ أي قابل إساءتهم بما أمكن من الإحسان وتكذيبهم بالكلام الجميل وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. قيل: هذه الآية محكمة لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى وهن في الدين أو نقصان في المروءة، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) أي بما يصفونك به على خلاف ما أنت عليه وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) أي من أن يحوموا حولي في حال من الأحوال، لأنهم إنما يحضرون بقصد سوء حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ وحتى متعلقة بيصفون

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 101 إلى 110]

أي هي معمولة لمحذوف يدل عليه ذلك، أي يستمر كفار مكة على الوصف المذكور، حتى إذا جاء أحدهم وظهرت له أحوال الآخرة قال: رب، ردني إلى الدنيا لكي أعمل صالحا فيما قصرت في الإيمان، وفي العبادات البدنية والمالية والحقوق، وقوله: ارْجِعُونِ خطاب لله، وجمع الضمير تعظيما لله أو لتكرير قوله: «ارجعني» كأنه قال ارجعني، ارجعني، ارجعني ثلاث مرات كما قالوا في قوله: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] أنه بمعنى ألق، ألق، فثني الفعل للدلالة على ذلك. وقوله: رَبِّ منادى. وقيل: الخطاب للملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة، ورب للقسم، فكأنه عند معاينة مقعده من النار وملك الموت وأعوانه قال: بحق الرب ارجعون إلى الدنيا لكي أصلح ما أفسدت، وأطيع في كل ما عصيت، ومكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيما خلفت من المال كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه فعند ذلك يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت» «1» . أي لكي أصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى فيما تركت التركة. كَلَّا أي لا يرد إلى الدنيا. وهذا كالجواب لهم في المنع مما طلبوا. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله عنها: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا. فيقول: إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوما على الله تعالى. وأما الكافر فيقال له: نرجعك فيقول: ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب، إلى جمع المال، أو غرس الغراس، أو بناء البنيان، أو شق الأنهار؟ فيقول: لعلي أعمل صالحا فيما تركت. فيقول الجبار كلا» «2» . إِنَّها أي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ إلى آخره كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لتسلط الحسرة عليه، ولكنها لا تفيده. وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم بَرْزَخٌ أي حائل مانع لهم عن الرجوع إلى الدنيا، وهو مدة بين الموت والبعث وذلك قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) من قبورهم فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي فلا يتفاخرون بأنسابهم، ويتراحمون بها في ذلك اليوم وَلا يَتَساءَلُونَ (101) عنها لاشتغال كل منهم بنفسه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد إلا أن هذا فلان، فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها، أو أبيها، أو أخيها، أو ابنها، أو زوجها فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون. وعن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يراه من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء.

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 404) . (2) رواه أحمد في (م 1/ ص 34) .

والصور: آلة ينفخ فيه. وقال الحسن: الصور مجموع الصورة وكان يقرأ بفتح الواو. وقرأ أبو رزين بفتح الواو وكسر الصاد. والمعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها فلا قرابة تنفعهم لزوال التعاطف من فرط الحيرة. وأما قوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور: 25] فبعد ذلك. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي فمن كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها قدر عند الله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) أي الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي ومن لم يكن له قدر عنده تعالى من العقائد والأعمال وهم الكفار فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن صارت منازلهم من الجنان للمؤمنين فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) بدل من الصلة تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تضربها وتأكل لحومها وتحرق جلودها وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أي متقلصو الشفتين عن الأسنان من شدة الاحتراق ويقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ في الدنيا تبين لكم بالدلائل الواضحة كيفية سلوك الطريق الحق فَكُنْتُمْ بِها أي بآياتي تُكَذِّبُونَ (105) فصرتم مستحقين للعذاب الأليم؟ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا بسوء اختيارنا. وفي قراءة سبعية «شقاوتنا» بفتح الشين. وقرأ قتادة بالكسر وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ (106) عن الحق رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) أي يا ربنا أخرجنا من النار ومن هذه الدار إلى دار الدنيا فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون على أنفسنا. قالَ الله لهم بلسان مالك: اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا في النار وَلا تُكَلِّمُونِ (108) بطلب الإخراج من النار وهذا آخر كلامهم في النار فلا يسمع لهم بعد ذلك إلا الزفير، والشهيق، والنباح كنباح الكلاب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا، فيجابون: حق القول مني. فينادون ألف سنة ثانية: ربنا أمتنا اثنتين، وأحييتنا اثنتين فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم. فينادون ألف ثالثة: يا مالك ليقض علينا ربك. فيجابون: إنكم ماكثون. فينادون ألفا رابعة: ربنا أخرجنا منها. فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟ فينادون ألفا خامسة: أخرجنا نعمل صالحا. فيجابون: أولم نعمركم؟ فينادون ألفا سادسة: رب ارجعون. فيجابون اخسئوا فيها إِنَّهُ أي الشأن. وقرأ أبيّ بفتح الهمزة أي «لأنه» ، كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ في الدنيا رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) أي أنت أرحم علينا من الوالدين فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا. وقرأ نافع وأهل المدنية، وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن. وقرأ الباقون بالكسر هاهنا وفي ص. وقال الخليل وسيبويه. هما لغتان. وقال الكسائي والفراء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية والعبودية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي طاعتي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 111 إلى 118]

تَضْحَكُونَ (110) وذلك غاية الاستهزاء. والمعنى: اسكتوا عن الدعاء بقولكم: رَبَّنا أَخْرِجْنا ألخ لأنكم كنتم تستهزءون بالداعين بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا ألخ وتتشاغلون باستهزائهم حتى أنساكم الاستهزاء بهم عن توحيدي وطاعتي. قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلق كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويضحكون بالفقراء منهم مثل: بلال، وخباب، وعمار، وصهيب. إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) . وقرأ حمزة والكسائي «إنهم» بكسر الهمزة تعليل للجزاء. والباقون بالفتح ثاني مفعولي «جزيت» فمعنى الأول: فإنهم قد فازوا بسبب صبرهم على أذيتكم إياهم فجوزوا أحسن الجزاء. ومعنى الثاني: إنهم انتفعوا بأذيتكم إياهم بسبب صبرهم على أذيتكم فإني جزيتهم اليوم بفوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. قالَ أي الله لهم بلسان مالك توبيخا كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا التي تطلبون أن ترجعوا إليها عَدَدَ سِنِينَ (112) تمييز لكم. والغرض من هذا السؤال: التبكيت، لأنهم كانوا لا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا، ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت، ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم مخلدون فيها سألهم الله كم لبثتم في الأرض فإنهم فيها تمكنوا من العلم والعمل تذكيرا لهم بأن الذي ظنوه طويلا فهو قليل بالنسبة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يشكون في ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بالنسيان حيث قالوا: فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) أي الذين يحصون الأعمال وأوقات الحياة والممات، أو الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتهم، فإنا قد نسيناه. وقرئ «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة، رؤساءنا الذين أضلونا. وقرئ «العاديين» أي القدماء المعمرين. قالَ الله لهم بلسان مالك: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أي ما لبثتم في الدنيا إلا زمانا قليلا لو علمتم البعث فإن الدنيا قليل أيامها في مقابلة أيام الآخرة، ولكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدون الدنيا طويلا، ولو علمتم أن لبثكم في الآخرة لا نهاية له لأصلحتم أعمالكم في الدنيا، ولتقربتم بها إلى الله تعالى. وقرأ الأخوان «قل كم لبثتم؟» «قل: إن لبثتم» بالأمر في الموضعين خطاب للملك وابن كثير كالأخوين في الموضع الأول فقط. والباقون قال بالماضي في الموضعين: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا يا أهل مكة شيئا فحسبتم إنما خلقناكم لأجل العبث، بل لحكمة بالغة فخلقناكم بلا معنى يضركم أو ينفعكم حتى عشتم كما تعيش البهائم، فما تقربتم إلينا بالأعمال الصالحة حتى أنكرتم البعث وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فلولا القيامة لما تميّز المطيع من العاصي، والصديق من الزنديق. فخلقكم بغير بعث من نوع العبث، وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم.

وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم. فَتَعالَى اللَّهُ أي تبرأ الله عن العبث وعن خلو أفعاله عن المصالح والغايات الحميدة الْمَلِكُ أي المتصرف في كل شيء الْحَقُّ أي الثابت الذي لا يزول ملكه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) أي مالك السرير الحسن. وقرئ «الكريم» بالرفع صفة ل «رب» أي الجامع لصفات الكمال. وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وقوله: لا بُرْهانَ صفة لازمة ل «ألها» . وقوله: فَإِنَّما جواب الشرط. أي ومن يعبد إلها آخر لا حجة له بعبادته، فهو تعالى مجاز له في الآخرة بقدر ما يستحقه ويبلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) والجمهور على كسر همزة أنه على الاستئناف المفيد للعلة. وقرأ الحسن وقتادة بفتح الهمزة فيكون خبر حسابه، المعنى: حسابه في الآخرة عدم الفلاح. وَقُلْ يا أكرم الرسل: رَبِّ اغْفِرْ أي تجاوز عني وعن أمتي، وَارْحَمْ أمتي فلا تعذبهم وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) أي أرحم الراحمين. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] حتى ختم العشر» «1» . وروي: «أن أول سورة قَدْ أَفْلَحَ وآخرها: من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح» .

_ (1) رواه النسائي في كتاب الطلاق، باب: ما جاء في الخلع. [.....]

سورة النور

سورة النور مدنية، أربع وستون آية، ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، خمسة آلاف وتسعمائة وثمانون حرفا سُورَةٌ قرأ العامة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الآيات الآتي ذكرها سورة. وقرأ الحسن بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيسى الكوفي، ومجاهد، وأبو حيوة بالنصب بفعل يفسره ما بعده، أو بفعل آخر نحو «اقرءوا» أو «اتبعوا» . أَنْزَلْناها أي أعطيناها الرسول وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد الراء لكثرة المفروض عليهم وَأَنْزَلْنا فِيها أي في أثناء السورة آياتٍ نيطت بها الأحكام المفروضة. بَيِّناتٍ أي واضحة دلالتها على أحكامها كبراءة الصدّيقة ابنة الصدّيق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) أي تتذكرونها فتعلمونها. وقرأ حفص، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال وحذف، احدى التاءين. والباقون بالتشديد. الزَّانِيَةُ أي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه، وَالزَّانِي وهما بكران فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أي ضربة. وجملة «فاجلدوا» خبر المبتدأ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، إذ اللام بمعنى الموصول والتقدير. التي زنا والذي زنى وقرأ عيسى الثقفي، ويحيى بن يعمر وعمرو بن فائد، وأبو جعفر وأبو شيبة بنصب الاسمين على إضمار فعل يفسره الظاهر. وقرئ «والزان» بلا ياء وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي رحمة فِي دِينِ اللَّهِ أي في طاعة الله وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوه. وقرأ العامة «رأفة» هنا، وفي الحديد بسكون الهمزة، وابن كثير بفتحها. وقرأ ابن جرير كما روي عن ابن كثير وعاصم بمد الهمزة على وزن سحابة. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطا فيقول: رحمة لعبادك: فيقال له: أنت أرحم مني؟ فيؤمر به إلى النار. ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول: لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار» . وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) . ي وليحضر ندبا حدّهما جمع يحصل به التشهير والزجر. وعن ابن عباس هم أربعة رجلا من المصدقين بالله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً

وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وهذا كما قال القفال: المراد منه الأعم الأغلب وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من عادته الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقه، أو في مشركة والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال، وإنما يرغب فيها الفسقة والمشركون بهذا على الأعم إلا غلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي، فكذا هاهنا، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) أي إن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين أي الحصر المذكور وهو ان الزاني لا يرغب الا في الزانية محرم عليهم، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية وهذا هو المعتمد في تفسير هذه الآية. قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء، ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن، وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار ليعرف أنها زانية وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المهاجرين. وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فتقدير الآية: أولئك الزناة لا ينكحون الا تلك الزواني، وتلك الزواني لا ينكحهن إلا أولئك الزناة. وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين، فالألف واللام في قوله: الزَّانِي وفي قوله: الْمُؤْمِنِينَ وإن كانت للعموم ظاهرا لكنه هاهنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت في حقهم هذه الآية. ودليل جواز نكاح الزانية ما روي عن جابر أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس. قال: «طلقها» . قال: فإني أحبها وهي جميلة. قال: «استمتع بها» «1» ، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يقذفون الحرائر المسلمات المكلفات العفائف بالزنا ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلى الحكام بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ذكور يشهدون على صحة ما رموهن به فَاجْلِدُوهُمْ أيها الحكام ثَمانِينَ جَلْدَةً لظهور كذبهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أي لا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي أَبَداً أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا، لأن رد الشهادة منهم تتمة للحد لما فيه من معنى الزجر، لأنه مؤلم للقلب كما ان الجلد مؤلم للبدن، فإن القاذف قد آذى المقذوف بلسانه فعوقب بإهدار منافعه وفائدة قوله تعالى لهم تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي، وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام، لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل عن أهلية حدثت له بعد إسلامه فلا يتناولها الرد وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) أي المحكوم عليهم بالفسق إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد اقترافهم ذلك

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الطلاق، باب: في اللعان، وأحمد في (م 1/ ص 238) .

الذنب العظيم وَأَصْلَحُوا أعمالهم بعد التوبة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) فحينئذ لا ينظمهم في سلك الفاسقين، ومحل المستثنى نصب، لأنه من مثبت وهو راجع إلى الفسق فقط كما قال أبو حنيفة: إن الفاسق لا تقبل شهادته وإن تاب أو هذا الاستثناء راجع إلى رد الشهادة وإلى الفسق كما هو مذهب مالك والشافعي، وكما يروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وجمع من الصحابة، فمحل المستثنى حينئذ الجر على البدلية من الضمير في «لهم» ، فعند الشافعي: أن التائب تقبل شهادته ويزول فسقه، ومعنى الأبد عنده مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة. قال الشافعي: التوبة من القذف إكذابه نفسه، كما روي عن عمر بن الخطاب أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة، وهم أبو بكرة ونافع ونفيع، ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لا يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع وتابا وكان عمر يقبل شهادتهما، وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة، واتفق الأئمة الأربعة على عدم رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل من شهداء أو صفة لها على أن الا بمعنى غير، أو وجدت البينة ولكن لم يريدوا إظهارها فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) . وقرأ حفص وحمزة والكسائي برفع أربع خبر لشهادة وبالله متعلق بشهادات، والباقون بنصب «أربع» على أنه مفعول مطلق والعامل فيه شهادة وهو خبر لمبتدأ محذوف، أي فالواجب شهادة، أو مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة كل واحد منهم واجبة وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) فيما رماها به من الزنا. وقرأ نافع بسكون نون «أن» ، ورفع لعنة. والباقون بتشديد النون ونصب «لعنة» وهو خبر، و «الخامسة» أو بدل منها أو على تقدير حرف الجر أي بأن لعنة الله، ويجوز أن تكون الخامسة معطوفا على المبتدأ، فالخبر المحذوف خبر عن المعطوف والمعطوف عليه وجملة و «الخامسة أن لعنة الله» إلخ معترضة بين المبتدأ وخبره المحذوف. وقرئ و «الخامسة» بالنصب على معنى: ويشهد الخامسة كما قاله الرازي: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أي يدفع عن المقذوفة حد الزنا الذي ثبت بيمين القاذف أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ أي زوجها مِنَ الصَّادِقِينَ (9) فيما قال عليها. وقرأ حفص و «الخامسة» بالنصب، أي وتشهد الشهادة الخامسة وما بعدها بدل منها أو على تقدير حرف الجر والباقون بالرفع وما بعدها خبرها. وقرأ نافع «أن» بالسكون و «غضب الله» بكسر الضاد، وضم الجلالة على أنه فعل وفاعل، والباقون بتشديد «أن» ، وقرئ غضب بالرفع مع تخفيف «أن» . روي أن هلال بن أمية قذف امرأته بالزنا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سمحاء فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إما

[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 20]

البينة وإما إقامة الحد عليك» . فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه والذين يرمون أزواجهم حتى بلغ إن كان من الصادقين فلما سرى عنه قال صلّى الله عليه وسلّم: «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا» . قال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوها» فدعيت، فكذبت هلال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟» وأمر بالملاعنة، فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال صلّى الله عليه وسلّم عند الخامسة: «اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد الخامسة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتشهدين؟» فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها: «اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة» ، فتفكرت ساعة وهمّت بالاعتراف، ثم قالت: «والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما ثم قال: «انظروها فإن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين، فهو لهلال وإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» «1» ، فجاءت به كذلك وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) لكان ما كان أي لو لم يشرع الله لهم اللعان لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر أنه لا يفترى عليها لاشتراكهما في الفضيحة، ولأنه أعرف بحال زوجته، وإنما أوجب الله لهم أربعة شهداء للستر على من اقترف الكبائر وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل أيمانه موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها، ولو جعل أيمانها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له فجعل أيمان كل منهما دارئة للغائلة الدنيوية مع كذب أحدهما حتما، وفي ذلك آثار التفضل والرحمة، أما على الصادق فظاهر، وأما على الكاذب فهو إمهاله في الدنيا بدرء الحد عنه لعله يتوب في الدنيا فغفر له. وكما ستر الله عليهم في الدنيا ولم يفضحهم بإظهار صدقهم وكذبهم وأجلهم بالعقوبة إلى الآخرة لدرك التوبة في الدنيا، كذلك جعل سنة اللعان باقية بين المسلمين لتكون الحكمة باقية بينهم سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته، إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بأبلغ الكذب عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي جماعة من المؤمنين وهم زيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وعباد بن المطلب، وحمنة بنت جحش، وهي زوجة طلحة بن عبيد الله. و «عصبة» خبر «إن» وهي من العشرة إلى الأربعين لا تَحْسَبُوهُ الإفك شَرًّا لَكُمْ والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة وصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم، فإن قصة الإفك كانت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي حق عائشة وأبويها، وفي حق جميع الصحابة امتحانا لهم

_ (1) رواه أحمد في (م 6/ ص 369) .

وتهذيبا فإن البلاء للأولياء كاللهب للذهب كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أشد الناس بلاء: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يبتلى الرجل على قدر دينه» «2» . أي وذلك لأن الله غيور على قلوب خواص عباده المحبوبين فإذا حصلت مساكنة بعضهم إلى بعض أجرى الله تعالى ما يرد كل واحد منهم عن صاحبه، ويرده إلى حضرته، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له: أيّ الناس أحب إليك؟ قال: «عائشة» فساكنها «3» وقال: «يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة» وفي بعض الأخبار أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إني أحبك وأحب قربك اه. فأجرى الله تعالى حديث أهل الإفك حتى رد الله رسوله عن عائشة إلى الله تعالى بانحلال عقدة حبها عن قلبه، ورد عائشة عنه صلّى الله عليه وسلّم إلى الله تعالى حتى قالت لما ظهرت براءة ساحتها: بحمد الله لا بحمدك. وقصة الإفك: إن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزوة قبل غزوة بني المصطلق، فخرج فيها اسمي، فخرجت معه صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد نزول آية الحجاب، فحملت في هودج، فسرنا حتى إذا رجعنا وقربنا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمسته، وحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فحملوا هودجي، فظنوا أني في الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي فلما رجعت لم أجد في المكان أحدا فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني، فاستيقظت باسترجاعه فخمرت، وجهي بجلبابي وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فنزل حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها، فقمت إليها، فركبتها، ثم قاد البعير حتى أتينا الجيش فتفقّدني الناس حين نزلوا وماجوا في ذكري فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليها فخاض الناس في حديثي، والذي بدأ بالإفك وأذاعه بين الناس عبد الله بن أبيّ فقدمنا المدينة، فلحقني وجع ولم أر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أعرفه منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم، ثم يقول: «كيف تيكم؟» ثم ينصرف فلا أشعر بما جرى من الإفك حتى نقهت، فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح جهة المناصع، وكان متبرزنا ثم أقبلت أنا وهي قبل بيتي فعثرت، أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح. فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟! فقالت: أو ما بلغك الخبر؟ فقلت:

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 80) . (2) رواه أحمد في (م 6/ ص 103، 197) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (34358) ، والطبري في التفسير (8: 73) . (3) رواه ابن حبيب في مسند الربيع (1: 6) ، بما معناه.

وما هو؟ فقالت: أشهد أنك من المؤمنات الغافلات، ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، ثم دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال: «كيف تيكم؟» فقلت له: ائذن لي أن آتي أبوي، فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي: يا أماه ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوني عليك فو الله ما كانت امرأة وصيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، ثم قالت: ألم تكوني علمت ما قيل فيك حتى الآن، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي: ما يبكيها قالت: لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن. فأقبل يبكي، ثم قال: اسكتي يا بنية فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسلم، ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل، ثم قال: «أما بعد، يا عائشة بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت برئية فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه» . قالت: فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته فاض دمعي، ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله. فقال: والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فقالت: والله ما أدري ما أقول فقلت والله لقد علمت أنكم قد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة منه لتصدقوني، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلّا ما قال العبد الصالح أبو يوسف، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله أنا أعلم أن الله يبرئني، وكنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فو الله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه، فو الله ما سرى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس. فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها، أن قال: «أبشري يا عائشة قد برأك الله» «1» فقلت بحمد الله لا بحمدك، ولا بحمد أصحابك. فقالت: أمي قومي إليه. فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحدا إلا الله الذي أنزل براءتي قالت: ولما نزل عذري قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل ضرب الحد على عبد الله بن أبي ومسطح، وحمنة، وحسان لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي على كل امرئ من أولئك العصبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاؤه فقدر العقاب يكون مثل قدر الخوض في الإثم، وصار حسان أعمى أشل اليدين في آخر عمره، ومسطح بن أثاثة وابن خالة أبي بكر الصديق، مكفوف البصر وجلدت معهما امرأة من قريش وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ أي الذي تحمل أكثر الإفك من

_ (1) رواه أبو داود في كتاب النكاح، باب: فيما يؤمر به من غضّ البصرة وأحمد في (م 5/ ص 353، 357) .

أولئك العصبة فابتدأ به ورغب في إشاعته وهو عبد الله بن أبي لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) في الآخرة بالنار وفي الدنيا بالحد، وبالطرد، وبأنه مشهور عليه بالنفاق لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) أي هلا ظننتم بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم خيرا حين سمعتم الإفك، ولم لم تقولوا حينئذ هذا إفك ظاهر؟ فكيف بالصدّيقة ابنة الصدّيق، أم المؤمنين، حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! كما روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوءا قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي هلا أتوا على ما قالوا بأربعة شهداء عاينوا الزنا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك الخائضون في حكمه تعالى، هم الكاملون في الكذب وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) أي ولولا فضل الله عليكم أيها السامعون والمستمعون ورحمته في الدنيا بالإمهال للتوبة، وفي الآخرة بالمغفرة بعد التوبة لأصابكم عاجلا بسبب حديث الإفك الذي خضتم فيه عذاب عظيم. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي وقت أخذكم حديث الإفك من المخترعين حتى اشتهر بسبب إفاضتكم وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي تقولون بأفواهكم كلاما ليس تفسيرا عن علم في قلوبكم. وَتَحْسَبُونَهُ أي حديث الإفك هَيِّناً أي ذنبا صغيرا أو لا إثم فيه حيث سكتم عن إنكاره، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أي والحال أن حديث الإفك عنده تعالى عَظِيمٌ (15) في الوزر واستجرار العذاب وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا أي وهلا قلتم تكذيبا للمخترعين والمشيعين حين سمعتم حديث الإفك ما يليق لنا أن نتكلم بهذا القول، وأن يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه سُبْحانَكَ أي أتعجب ممن تفوه بهذا الكلام فإنه أمر عظيم وأنزه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة، هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) أي كذب عظيم عند الله تعالى لعظمة المتقول عليه ولاستحالة صدق هذا القول يَعِظُكُمُ اللَّهُ بهذه المواعظ التي تعرفون بها عظم هذا الذنب، كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي مدة حياتكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) فإن الإيمان وازع عنه. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي لأجلكم الآيات الدالة على محاسن الآداب دلالة واضحة لتتأدبوا بها، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بجميع أحوال عباده، حَكِيمٌ (18) في جميع تدابيره وأفعاله. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الذين يريدون انتشار الخصلة المفرطة في القبح فيما بين الناس، فالجار متعلق بتشيع أو متعلق بمضمر هو حال من الفاحشة، أي إن العصبة الذين يقصدون شيوع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين عائشة وصفوان. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا من الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين. ولقد ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبيّ، فظهر كفره بعد أن كتمه، وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسانا ومسطحا حد القذف، وقعد صفوان

[سورة النور (24) : الآيات 21 إلى 30]

لحسان، فضربه ضربة بالسيف فكف بصره. وَالْآخِرَةِ من عذاب القبر وعذاب النار، ومما يعلمه الله تعالى، فالحدود جوابر للذنب المحدود به، كالقذف. وأما ذنب الأقدام فلا يكفره إلا التوبة وعذاب الآخرة لعبد الله بن أبيّ خاصة، وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، ومن جملتها محبة ظهور الفاحشة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) ما يعلمه الله تعالى، لأن محبة القلب كامنة، فالله تعالى لا يخفى عليه شيء وإن بالغ العبد في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم ذلك منه، ويعلم قدر الجزاء منه، أما نحن فلا نعلم محبة القلب إلا بالأمارات وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بكم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) لهلكتم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفاحشة في المؤمنين وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ أي ومن يتبع طرق تزيين الشيطان فقد فعل القبيح، وما لا يعرف في شريعة، ولا في سنة، لأن عادته يأمر بهما. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب، وبشرع الحدود المكفّرة لها، ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً أي ما طهر أحد منكم من دنس الذنوب إلى آخر الدهر. فإن العصبة قد تابوا وطهروا غير عبد الله بن أبي فإنه استمر على الشقاوة حتى مات. وقرأ يعقوب وابن محيصن «ما زكّى» بتشديد الكاف أي ما طهر الله تعالى أحدا من أولئك العصبة من تلك الذنوب أبدا وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهره من الذنوب بحمله على التوبة وبقبولها، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما أظهروه من التوبة، ولأقوالكم في القذف، وفي إثبات البراءة لعائشة، عَلِيمٌ (21) بإخلاصكم في التوبة وبمحبة إشاعة الفاحشة وبكراهيتها. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ولا يقصر أولو الفضل في الدين والسعة في المال في أن يحسنوا إليهم- كذا قاله أبو مسلم، كما يروى عن أبي عبيدة- والمعنى عند أكثر المفسرين: ولا يحلف أولو الفضل منكم في الدين والبذل، والغنى بالمال على أن لا ينفقوا عليهم وعلى أن لا يعطوهم. وقرأ الحسن «ولا يتأل» ، وَلْيَعْفُوا أي وليتجاوزوا عن الخائضين في الإفك بالظاهر، وَلْيَصْفَحُوا أي ليعرضوا عن لومهم بالقلب بأن يتناسوا جرمهم. وقرئ الأفعال الثلاثة بتاء الخطاب. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) . قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح- وهو ابن خالته- وكان من فقراء المهاجرين وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه، وأن لا ينفق على ذوي قرابته لما خاضوا في أمر عائشة، فلما نزلت الآيات التي أبرأت عائشة من الإفك قال لهم أبو بكر: قوموا فلستم مني ولست منكم، ولا يدخلن أحد منكم علي. فقال مسطح: ننشدك الله والإسلام والقرابة أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب وإنما كنت أغشى

مجلس حسان، وأسمع ولا أقول. فقال لمسطح: إن لم تتكلم فقد ضحكت وشاركت فيما قيل فقال: قد كان ذلك تعجبا من قول حسان، فلم يقبل عذره وقال: انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا فخرجوا لا يدرون أين يذهبون، وأين يتوجهون من الأرض. وبعض الصحابة أقسموا أن لا يتصدقوا على من تكلم بشيء من الإفك فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر، وقرأ عليه الآية، فلما وصل إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» قال: بلى يا رب، إني أحب أن تغفر لي، فذهب أبو بكر إلى بيته، وأرسل إلى مسطح وأصحابه وقال: قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم، فرجع إلى مسطح نفقته، وحلف أن لا ينزعها منه أبدا وألطف بقرابته وأحسن إليهم وهذا من أعظم أنواع المجاهدات، فإن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة الكفار. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي العفائف من الفاحشة الْغافِلاتِ أي النقيات القلوب الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا وهن أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) وهو عذاب الكفر، فإن كان القذفة مؤمنين فذلك الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، وضرب الحد. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) فإن الله تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها، يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي يعطيهم الله جزاء عملهم المقطوع بحصوله لهم، وَيَعْلَمُونَ عند معاينتهم الأهوال أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) أي الثابت في ذاته وصفاته، وكلماته المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها، المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أي النساء الخبيثات مختصات بالرجال الخبيثين. وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ أي والخبيثون لائقون بالنساء الخبيثات ويقال: المقالات الخبيثة من القذف مختصة بالخبيثين من أهل الإفك من الرجال والنساء. ويقال: المقالات الخبيثة من اللعن والذم ونحو ذلك مختصة بهم وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أي والنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس. أو المعنى: والكلمات الطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال والنساء. ويقال: والطيبون من الفريقين لائقون بالكلمات الحسنة، وحيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الطيبين وأفضل الأولين والآخرين، تبين كون زوجاته أطيب الطيبات بالضرورة. أُولئِكَ أي أهل البيت مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات. فالله تعالى برأ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأكاذيب الباطلة لكيلا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمثال هذا الأمر، فلا أحد أطهر منه فأزواجه إذا لا يجوز أن يكنّ إلا طيبات. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي براءة من الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

في الآخرة. وهذه الجملة خبر ثان لأولئك ويجوز أن يكون لهم خبر أولئك ومغفرة فاعله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي التي تسكنونها حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ وحتى يؤذن لكم، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها عند الاستئذان. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن التسليم أن يقال السلام عليكم أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا رجع» . ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي التسليم مع الاستئناس خير لكم من تحية الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن وفي الحديث: «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر» . لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) أي أمرتم بهذا التأديب لكي تتذكروا به وتعملوا به. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد، وسبب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال. فنزلت هذه الآية. فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن أفلا ندخلها إلا بإذن؟! فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ [النور: 29] الآية فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي البيوت أَحَداً ممن يملك الإذن فَلا تَدْخُلُوها، واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن عند إتيانه، واستثنى ما إذا عرض فيه حرق أو غرق، أو كان فيه منكر ونحوه، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع، فارجعوا سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أو لا، ولا تلحوا بتكرير الاستئذان، ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الإذن هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أصلح لكم من الوقوف على أبواب الناس، لأنه قد يكرهه صاحب الدار. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول بإذن وبغيره عَلِيمٌ (28) فيجازيكم عليه. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم أَنْ تَدْخُلُوا بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط والخانات والحوانيت، والحمامات ونحوها، فإنها معدة لمصالح الناس فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي حق انتفاع لكم كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الأمتعة والشراء والبيع، والاغتسال وغير ذلك وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) من قصد صلاح، أو فساد، أو اطلاع على عورات في دخول هذه المواضع. قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ. ومقول القول أمر قد حذف لدلالة جوابه عليه، أي قل لهم: أن يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أي يكفوا أبصارهم عن الحرام. «من» زائدة أو للتبعيض، لأن الغالب أن الاحتراز عن النظرة الأولى لا يمكن، فوقع قصد أو لم يقصدوه، ولا يجوز أن يكرر النظر إلى الأجنبية لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» «1» . وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الحرام ذلِكَ أي غض البصر عن

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (12: 258) .

[سورة النور (24) : الآيات 31 إلى 40]

عمله وحفظ الفرج أَزْكى لَهُمْ أي أبعد لهم عن دنس الريبة، وأصلح من كل شيء نافع. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) من إجالة النظر وتحريك الجوارح للحظوظ وللحقوق. وقدم الأمر بمنع البصر على الأمر بحفظ الفرج، لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أكثر. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ بالتّصون عن الزنا، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وهي ثلاثة أمور: أحدها: الثياب. وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار والخلخال، والدملج، والقلادة، والإكليل، والوشاح، والقرط. وثالثها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها، والغمزة في خديها، والحناء في كفيها وقدميها. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل، والخضاب في اليدين، والغمزة، والثياب. والسبب في تجويز النظر إليها إن في سترها حرجا بينا، لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة، والمحاكمة والنكاح، وفي ذلك مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها كما لا يخفى. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي وليرخين قناعهن على صدورهن. وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن، فتظهر نحورهن وقلائدهن من جيوبهن، فأمرن بإرسال مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الخفية المنهية عن إبدائها للأجانب إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ فإنهن المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود، ولكنه يكره نظره أَوْ آبائِهِنَّ وإن علون من جهة الذكران والإناث، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ من غيرهن وإن سفلوا، أَوْ إِخْوانِهِنَّ في النسب أو اللبن أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ كذلك، لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن فلهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند الخدمة، وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهن، أَوْ نِسائِهِنَّ المختصة بهن من جهة الاشتراك في الحدين وهي حرائر المؤمنات أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من الإماء دون العبيد فإنهم بمنزلة الأجانب من ساداتهم. وقيل: من الإماء والعبيد فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة، وينظروا له وكذا العكس وذلك بشرط العفة، وعدم الشهوة من الجانبين أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمورهن. أو شيوخ صلحائهم قد ذهبت شهوتهم إذا كانوا معهن، غضوا أبصارهم، أو الممسوحون وهم ذاهبوا الذكر والأنثيين. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر «غير» بالنصب على الاستثناء والحال. أَوِ

الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء، ولم يدروا ما هي لعدم تمييزهم- كما قاله ابن قتيبة- أو الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء- كما قاله الفراء والزجاج- فيجوز أن يبدين للتابعين والأطفال ما عدا ما بين السرة والركبة. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن الأرض بأرجلهن ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال، ومن فعل ذلك منهن بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجا للرجال فهو حرام مذموم. وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال إن فعل ذلك عجبا حرم، فإن العجب كبيرة وإن فعل ذلك تبرجا لم يحرم. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) أي توبوا من نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة، أي فإنه وإن جب بالإسلام لكن يجب الندم عليه، والعزم على تركه كلما خطر بباله كما قال بعض العلماء: من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة، لأنه يلزم أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه. وقرأ ابن عامر هنا، وفي «الزخرف» ، وفي «الرحمن» بضم الهاء وصلا، ووجهه أن الهاء كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين استثقلت الفتحة على حرف خفي، فضمت الهاء اتباعا للرسم واتباعا لحركة ما قبلها، وقد رسمت هذه الثلاثة دون ألف، فوقف أبو عمرو والكسائي بألف. والباقون بدونها ابتاعا للرسم، فالرسم سنة متبعة. وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي زوجوا أيها الأولياء والسادات من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ لأمر النكاح مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ليحصن دينهم وهم الذين تنزلونهم منزلة الأولاد في المودة، وفي بذل المال والمنافع، وعدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر، لأن الغالب فيهم الصلاح لمساعدة الأولياء لهم، ولأنهم مستقلون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم إِنْ يَكُونُوا أي الأحرار فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، أي لا تنظروا إلى فقراء أحد الجانبين، الخاطب والمخطوبة، ففي فضل الله ما يغني عن المال، فإنه غاد ورائح، يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب، وَاللَّهُ واسِعٌ أي ذو سعة لخلقه، عَلِيمٌ (32) بمقادير ما يصلحهم من الرزق، يبسطه لمن يشاء ويضيق وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي وليجتهد في قمع الشهوة من لا يتمكنون من الوصول إلى النكاح حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي فمن لا يتمكن من المال فليطلب العفة عن الحرام ولينتظر أن يوصله الله إلى بغيته من النكاح وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي والذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم ليصيروا أحرارا فَكاتِبُوهُمْ أي فصيروهم أحرارا بعقد الكتابة، والاسم الموصول منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي وفاء بأداء مال الكتابة، وصلاحا لا يؤذي الناس بعد العتق.

وهذا لندب الكتابة وليس لشرط الصحة. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ أي حطوا أيها السادة عن المكاتبين جزءا من مال الكتابة، أو ادفعوا إليهم جزءا مما أخذ منهم. وذلك للندب عند مالك وأبي حنيفة، وللوجوب عند الشافعي. وقيل: هو أمر بإعطاء سهمهم من الزكوات، فالأمر للوجوب حتما. وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم. وروي أن غلاما لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبيح سأله أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت هذه الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ أي ولا تجبروا إماءكم على الزنا إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي تعففا عن الزنا، فالتقييد بهذا الشرط لأجل تحقق الإكراه المنهي عنه، لأنه لا يتحقق إلا عند إرادة التحصن. أما عند ميلهن للزنا فهو باختيارهن فلا يتصور الإكراه حينئذ. وفائدة الشرط بالمبالغة في النهي عن الإكراه أي إنهن إن أردن العفة فالسيد أحق بإرادتها وفي ذلك إشارة على أن السادة إكراههن على النكاح فليس للأمة أن تمتنع على السيد إذا زوجها لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتطلبوا بالإكراه الأمول بكسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ على الزنا فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) لهن لأنهن آثمات لأن الزنا لا يباح بإكراه. روي أنه كان لعبد الله بن أبيّ رئيس المنافقين ست جوار معاذة، ومسيكة، وأميمة وعمرة، وأروى، وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية وقيل: إن عبد بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة، فامتنعت لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت هذه الآية: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ. قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي بكسر الياء أي مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود، وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك. والباقون بفتحها، أي موضحات في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي وأنزلنا مثلا كائنا من نوع أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمة الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام، فتنتظم قصة عائشة لقصة يوسف وقصة مريم، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد، وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بتلك الآيات العظام. وَمَوْعِظَةً تنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات، وسائر ما يخل بمحاسن الآداب لِلْمُتَّقِينَ (34) . وهذا حث للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثار الموعظة، المقتبسون من أنوارها، ثم ذكر الله تعالى مثلين:

أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور. والثاني: في بيان أن أديان الكفرة في غاية الظلمة. أما المثل الأول فقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال ابن عباس: أي الله هادي أهل السموات والأرض، فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون، فمعنى النور هو الهداية، أي ذو نور، أي ذو هداية مَثَلُ نُورِهِ أي صفة النور الفائض من الله تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن كَمِشْكاةٍ أي كصفة كوة غير نافذة في الجدار في الإضاءة والتنوير، فِيها مِصْباحٌ أي سراج ضخم ثاقب. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي متلألئ وقّاد، شبيه بالدر في صفائه وزهرته. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على صيغة الماضي. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية، وسكون الواو على المضارع المبني للمفعول. وعن نافع وحفص بياء كذلك. وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو، وتشديد القاف و «زيتونة» بدل من «شجرة» ، و «لا شرقية» صفة لها، أي يبتدئ إيقاد المصابيح، وفتيلة الزجاج من زيت شجرة كثيرة المنافع، تبرز على جبل عال، أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب، أي تقع الشمس عليها طول النهار، لا شرقية وحدها، ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية. وكان زيتها الصفاء. وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، واختيار الفراء والزجاج. وقال ابن عباس: في الزيتون منافع يسرج بزيته وهو إدام ودهان، ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وثفله وليس فيه شيء إلا وفيه منفعة حتى الرماد يغسل به الإبريسم، وهو أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة ثبتت بعد الطوفان، ونبتت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا له سبعون نبيا بالبركة منهم إبراهيم ومنهم محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنه قال مرتين: «اللهم بارك في الزيت والزيتون» «1» . يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وهذه الجملة صفة ل «شجرة» أي يقرب زيت تلك الشجرة يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا لصفائه. قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإن الزيت إذا كان خالصا رؤي من بعيد كأن له شعاعا فإذا مسته النار إزداد ضوءا على ضوئه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب المساجد، باب: ما يكره في المساجد.

نورا على نور، وهدى على هدى كقلب إبراهيم عليه السلام من قبل أن تجيئه المعرفة، أي قبل أن يخبره أحد بأن له ربا، فإنه قال: هذا ربي، فلما أخبره الله بأنه ربه وقال له: أسلم زاد هدى وقال: أسلمت لرب العالمين. نُورٌ عَلى نُورٍ أي نور حاصل بالزيت، كائن مع نور بالنار في قنديل، فالزيت نور، والقنديل نور والمصباح نور فالمشكاة التي هي الطاقة غير النافذة أجمع للنور فيكون فيها أقوى مما لو كانت نافذة، فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كان أضوأ وأجمع لنوره بخلاف المكان المتسع، فإن الضوء ينتشر فيه، فالقنديل أعون على زيادة الإنارة، وكذلك ضوء الزيت. والمعنى: ذلك القرآن نور عظيم كائن على نور عظيم متضاعف من غير تحديد كتضاعف نور المشكاة بما ذكر يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يهدي الله لنوره المتضاعف، وهو القرآن من يشاء هدايته من عباده هداية موصلة إلى المطلوب، بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيقته من الأخبار عن الغيب، وغير ذلك من موجبات الإيمان. فالله تعالى بين الدلائل حتى بلغت في الوضوح إلى الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه. فوضوح الدلائل لا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان والعلم. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ كافة تقريبا للمعقول من المحسوس. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو خفيا. فِي بُيُوتٍ صفة ل «مشكاة» ، أي كمشكاة فيها مصباح في بيت من بيوت الله، أو صفة لزجاجة. والمعنى: ذلك القنديل معلق في مساجد أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ أي أمر الله أن نبنى رفيعة وتطهر عن الأنجاس والأقذار، وقد كره بعض العلماء تعليم الصبيان في المساجد ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة، فلو كان بغير أجرة لمنع أيضا من وجه آخر وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والأوساخ فيؤدي ذلك إلى عدم تنظيف المساجد، وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتنظيفها وتطييبها فقال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وجمروها في الجمع، واجعلوا لها على أبوابها المطاهر» «1» . وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ بجميع أذكاره تعالى. وقال ابن عباس: يتلى في المساجد كتابه تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ. وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم بالبناء للمفعول ونائب الفاعل لفظ له، و «رجال» فاعل لفعل مقدر، أو خبر مبتدأ محذوف أي يسبح له رجال أو المسبح رجال، والوقف على الآصال حسن. والباقون بالبناء للفاعل و «رجال» فاعل ولا يوقف على «الآصال» لعدم تمام الكلام والصلاة التي تؤدي في الغداة صلاة الصبح، وفي العشي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وقرئ و «الإيصال» أي الدخول في الأصيل لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا فرد من أفراد البياعات عن حضور المساجد لطاعة الله،

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8: 214) .

وعن أداء الصلاة في وقتها جماعة. روى سالم عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فقام الناس، أغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد. فقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في شأنهم. وروي عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة كان أجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى المسجد إلى تسبيح الضحى لا يقصد إلا ذلك كان أجره كأجر المعتمر» «1» . وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد يؤثره على ما سواه إلا وله عند الله نزل يعد له في الجنة» «2» . وفي رواية سهل بن سعد مرفوعا: «من غدا إلى المسجد وراح ليعلم خيرا وليتعلمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله يرجع غانما» «3» ، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي وعن إعطاء المال الذي فرض إخراجه للمستحقين. قال ابن عباس: إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) أي يخافون يوما تتقلب في ذلك اليوم القلوب بين طمع في النجاة وخوف من الهلاك وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤمر بهم أمن ناحية اليمين، أم من ناحية الشمال؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ أي فإنهم وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته، ف «يخافون» ، صفة ثانية ل «رجال» أو حال من مفعول «لا تلهيهم» و «يوما» مفعول به و «تتقلب» صفة له لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي أحسن جزاء أعمالهم بحسب وعده لهم من أن حسنة واحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وقوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بمحذوف، أي أيفعلون هذه القربات ليجزيهم الله ف «اللام» لام العاقبة والصيرورة وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقوه بأعمالهم وما لم يخطر ببالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) أي فالله يعطيهم غير جزاء أعمالهم مما لا يفي به الحساب، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أن مناط الرزق محض مشيئته تعالى، وللإعلام بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره، فإن جميع ما ذكر من أعمالهم الحسنة مقتبس من القرآن الذي هو المراد بالنور، وبذلك يتم أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ أي من أنواع البر كصدقة وعتق ووقف ونحو ذلك من كل ما لا يتوقف على نية، كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ أي في أرض منبسطة. والسراب: ما يتراءى في

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 509) بما معناه. (2) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 24) بما معناه. (3) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (8: 31) ، والطبراني في المعجم الكبير (10: 241) .

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 50]

الفلوات شبيها بالماء الجاري، وليس بماء ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جاريا. وقيل: هو لمعان الشمس على الفلوات يظن أنه ماء يجري. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ أي ويقصد الظمآن ما ظنه ماء ولا يزال جائيا إليه حتى إذا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أصلا، كما كان يراه من قبل. فالكافر الذي يأتي بأعمال البر، كصلة الرحم وسقاية الحاج، وعمارة الكعبة، وقرة الأضياف، وإغاثة الملهوفين يعتقد أن له ثوابا عند الله، فإذا مات ووافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه، بل وجد العقاب العظيم، فعظمت حسرته، وتناهى غمّه. فيشبه حاله حال العطشان الذي اشتدت حاجته إلى الماء، فإذا شاهد السراب، تعلق قلبه به ويقوى طعمه فإذا جاءه أيس مما كان يرجوه فيعظم ذلك عليه. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجدوا حكم الله عند المجيء يوم القيامة أو وجد الله بالمرصاد عليه فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه جزاء عمله كاملا بالعقاب، فتغير ظن النفع العظيم إلى تيقن الضرر العظيم وإفراد الضمير الراجع إلى الذين كفروا لإرادة الجنس، أو لإرادة كل واحد منهم. وقد قيل: نزلت هذه الآية في شأن عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) لأنه عالم بجميع المعلومات فلا يشق عليه الحساب أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وروي عن ابن كثير أنه قرأ «سحاب» و «ظلمات» بالجر على البدل من «ظلمات» كقراءة قنبل بتنوين «سحاب» وبجر «ظلمات» بجعلها بدلا من «ظلمات» الأولى. وروي عن ابن كثير أيضا على إضافة «سحاب» كقراءة البزي بجعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب. وقرأ الباقون «سحاب» و «ظلمات» كلاهما بالرفع والتنوين و «يغشاه» صفة ثانية ل «بحر» ، وجملة «من فوقه موج من» مبتدأ وخبر صفة ل «موج» وجملة «من فوقه سحاب» صفة ل «موج» الثاني و «ظلمات» خبر مبتدأ محذوف وقوله: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على ك «سراب» وأو للتقسيم أي إن عمل الكافر قسمان قسم كالسراب وهو العمل الحسن وقسم كالظلمات وهو العمل القبيح: والمعنى. أو الذين كفروا أعمالهم القبيحة كظلمات كائنة في بحر عميق يعلوه موج كائن، من فوقه موج كائن من فوق ذلك الموج سحاب ستر ضوء النجوم. وما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، وهي ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الثاني، وظلمة السحاب. وهذا بيان لكمال شدة الظلمات. كما أن قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ بيان لغاية قوة النور، إلا أن ذلك متعلق بالمشبه، وهذا بالمشبه به إِذا أَخْرَجَ أي من في هذه الظلمات يَدَهُ لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقارب أن يراها ولم يحصل له رؤيتها مع أنها قريبة من عينه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أي ومن لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن ولم يوفقه للإيمان به فما له هداية أصلا من أحد أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي قد علمت يا

أشرف الخلق بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح أن الله ينزهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه ما في السموات والأرض وتنزهه الطير تنزيها خاصا بها حال كونها باسطات أجنحتها في جو السماء، فإن كل موجود يدل على وجوب صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي كل واحد من المخلوقات قد علم هو دعاءه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر كلها عائدة على كل. وروي عن ابن ثابت قال: كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت: لا، قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وهذا دليل على أن الله يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) أي بحقيقة ما يفعلونه بالكمال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن جميع الموجودات في تصرفه تعالى إيجادا واعداما لأنه خالق لها وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أي رجوع الكل بالفناء والبعث. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً متفرقا، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي مجتمعا بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوق السحاب، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ف «من» الأولى ابتدائية، وكذا الثانية بدل اشتمال من «من» الأولى، و «من» الثانية تبعيضية، أي وينزل مبتدئا من السماء من جبال كائن في السماء بعض برد، ففي السماء جبال من برد، كما أن في الأرض جبالا من حجارة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. والباقون بفتحها وتشديد الزاي فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد مَنْ يَشاءُ أن يصيبه، فيضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ صرفه عنه فلا يسقط عليه. يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي يقرب ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) أي يسلب الأبصار الناظرة له لشدة الإضاءة وسرعة ورودها، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، وبتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما تقدم ذكره لَعِبْرَةً أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وعلمه لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) أي لكل من له بصر يرجع إلى بصيرة. وهذا يدل أن الواجب على المرء أن يتفكر في هذه الأمور، ويدل على فساد التقليد. وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أي كل حيوان يدب على الأرض من ماء، فمن صلة كل دابة لا صلة خلق، فكل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وقيل: أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثم خلق منه النار والهواء والتراب والنور. والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء.

[سورة النور (24) : الآيات 51 إلى 60]

وقرأ حمزة والكسائي «خالق» بصيغة اسم الفاعل وبالإضافة. فَمِنْهُمْ أي الدواب مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحيتان والديدان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ كما يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) فلا يمنعه مانع. لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) موصل إلى الفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا هما في الأمر والنهي ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عن طاعتهما فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما قالوا هذه الكلمة. وَما أُولئِكَ أي الذين يدعون الإيمان والطاعة بِالْمُؤْمِنِينَ (47) حقيقة. وقال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر وَإِذا دُعُوا أي الذين ادعوا الايمان والطاعة إِلَى اللَّهِ أي إلى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ الرسول بَيْنَهُمْ بكتاب الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) عن كتاب الله وحكم الرسول إن كان الحكم عليهم وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول مُذْعِنِينَ (49) أي طائعين لجزمهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم يحكم لهم فقوله إِلَيْهِ متعلق ب «يأتوا» لأنه متعد ب «إلى» أو ب «مذعنين» لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي إعراضهم لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم، أَمِ ارْتابُوا أي أم لأنهم شكوا في أمر نبوته صلّى الله عليه وسلّم بعد تقرير الإسلام في القلب، أَمِ لأنهم يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي يجورا عليهم في الحكم فإنهم بلغوا في حب الدنيا إلى حيث يتركون الدين بسببه كما قال تعالى، بَلْ أُولئِكَ أي المعرضون عن حكم الله هُمُ الظَّالِمُونَ (50) أي ليس إعراضهم عن الحكم لواحد من هذه الثلاثة، بل لأنهم هم الظالمون، أي يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، ويتم لهم جحوده، فيأبون المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يقضي عليهم بالحق. قال الضحاك: نزلت هذه الآية في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض، فتقاسما، فوقع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك. فباعها إياه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء! فقال لعلي: اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، لأنه لا ينالها الماء. فقال علي: بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها، وعرفت حالها، لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال المغيرة: أما محمد فلا آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني، وأنا أخاف أن يحيف علي فنزلت تلك الآيات: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَرَسُولِهِ أي وإلى سنة رسوله لِيَحْكُمَ أي الرسول صلّى الله عليه وسلّم بَيْنَهُمْ بحكم الله أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا أي أجبنا الدعاء، وَأَطَعْنا لأحكامهما. وقرأ الجمهور «قول المؤمنين» بالنصب على أنه خبر «كان» و «أن يقولوا» اسمها. وهذا

أقوى صناعة، لأن الأولى جعل الأعرف الاسم و «أن يقولوا» أوغل في التعريف، لأن الفعل المبتدأ بأن لا سبيل إليه للتنكير بخلاف «قول المؤمنين» ، فإنه يجوز تنكيره بعزل الإضافة عنه. والمعنى: إنما كان قول المؤمنين المخلصين عند الدعوة خصوصية قولهم المحكي عنهم. وقرأ الحسن «قول المؤمنين» بالرفع على العكس. وهذا أفيد بحسب المعنى، لأن مصب الفائدة هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر فائدة وأظهر دلالة على الحديث. والمعنى: إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا وهذا تعليم أدب الشرع بمعنى: أن ما يجب أن يسلك المؤمنون هكذا، وَأُولئِكَ المؤمنون القائلون بذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) أي الفائزون بكل مطلب، والناجون من كل غضب وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمروا به من الاحكام الشرعية، فيما سرهم وساءهم وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر هُمُ الْفائِزُونَ (52) بالنعيم الدائم في الجنة. وهذه الآية على إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء. وقالون اختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف وقصر كسرة الهاء والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أقسم المنافقون به تعالى أقصى مراتب اليمين في الوكادة: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج إلى الغزو لَيَخْرُجُنَ . نزلت هذه الآية لما قال المنافقون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا، ولئن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. قُلْ لهم إظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين في تلك اليمين: لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ وهذا خبر مبتدأ محذوف، والجملة تعليل للنهي، أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير موافقة للقلب وهي معروفة لكل أحد. وقرأ اليزيدي بالنصب على معنى تطيعون طاعة معروفة لكل أحد مشهورة في ذلك. والمعنى: أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله، وكذا المعصية لأنه ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها كما رواه الطبراني عن عثمان، وعن سعيد لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا من كان. وعن عثمان بن عفان قال: لو أن رجلا دخل بيتا في جوف بيت فأدى هناك عملا أوشك الناس أن يتحدثوا به وما من عامل عمل عملا إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) مما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها. وهو مجازيكم على ذلك. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما يدعوكم إليه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في مسلكه إلى الله تعالى،

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ أي فإن تعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فاعلموا أن ما على الرسول ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد شاهدتموه عند قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة. وعن نافع أنه قرأ «ما حمل» بفتح الحاء والميم مع التخفيف أي عليه ما حمل من أعباء الرسالة، وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به من الطاعة تَهْتَدُوا أي تصيبوا الحق وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) أي ما على الرسول إلا التبليغ عن الله الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي أقسم الله على من جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح من أصحاب محمد ليجعلنهم بدلا عن الكفار متصرفين في الأرض العرب والعجم تصرف الملوك في مماليكهم، كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كما استخلف الله تعالى بني إسرائيل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة، وكما استخلف هارون ويوشع، وداود، وسليمان. وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بضم التاء وكسر اللام فالموصول مرفوع بخلاف قراءة الجمهور من فتح التاء واللام فإن الموصول منصوب وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ أي وليثبتن الله لهم دينهم الذي اختار لهم وهو الإسلام وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً، لأنه كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكة قبل الهجرة خائفين، ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا فيها يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل منهم: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة» . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنجز وعده وفتح لهم بلاد الشرق والغرب. وقرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بسكون الباء الموحدة يَعْبُدُونَنِي حال من الموصول الأول الذي هو مفعول «وعد» أو استئناف بيان لجواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما بالهم يستخلفون ويثبتون في دين الإسلام ويأمنون فقيل: يعبدونني. لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الفاعل، أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأوثان، وَمَنْ كَفَرَ أي جحد حق هذه النعم بأن لا يقيموا حقها بَعْدَ ذلِكَ أي بعد الاستخلاف والتمكين والتبديل فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) أي العاصون الخارجون عن حريم الأمن، وأول من كفر بتلك النعم قتلة عثمان رضي الله عنه. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عطف على مقدر يطلبه نظام الكلام تقديره: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة فإنها مواصلة بينكم وبين ربكم. وَآتُوا الزَّكاةَ فإنها مواصلة بينكم وبين إخوانكم، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) أي راجين أن ترحموا لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، والخطاب لكل أحد ممن يصلح له، والموصول مفعول أول، و «معجزين» مفعول ثان و «في الأرض» ظرف له لإفادة شمول عدم الإعجاز

لجميع أجزاء الأرض أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم بالإهلاك في قطر من أقطار الأرض وإن هربوا كل مهرب. وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على الغيبة، والفاعل ضمير يعود على ما دل عليه شأن الكلام، أي لا يحسبن حاسب إلخ فإنهم مدركون وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الآخرة وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) أي والله لبئس المرجع هي، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي العبيد الصغار في الدخول. وعن ابن عباس ليس للكبير من المماليك أن ينظر إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه. وقال ابن المسيب: لا ينبغي للمرأة أن ينظر عبدها إلى قرطها. وشعرها. وشيء من محاسنها وقال الآخرون: بل للبالغ من المماليك أن ينظر إلى شعر مالكته وما شابهه وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي من الأحرار، وهم الصبيان الذين حكوا عورات النساء وميّزوا بين الجميلة وغيرها، وظاهر الآية أمر المماليك والأطفال الأحرار بالاستئذان، وفي الحقيقة أمر الأولياء بتأديبهم فإن المقصود أمر المؤمنين بأن يمنعوا هؤلاء من الدخول عليهم في هذه الأوقات الثلاث من غير إذن لو كان المقصود أمرهم للزم تكليفهم ولما كان لتخصيص النداء والخطاب بالمؤمنين وجه ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، فيكفيهم أن يستأذنوا في كل واحد من هذه الأوقات مرة واحدة فثلاث مرات منصوب على الظرف الزماني أو على المصدرية، أي ثلاثة استئذانات، ثم بين الأوقات فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنه وقت للقيام من المضاجع وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وهذا في محل نصب على أنه بدل من ثلاث مرات، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها بين الناس، لأجل القيلولة- وهي شدة الحر عند انتصاف النهار- ف «من» بيان ل «حين» ، أو تعليل ل «تضعون» ، أي من أجل حر وقت الاستواء وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ، لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والالتحاف باللحاف ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ بالرفع خبر مبتدأ مقدر و «لكم» صفة، أي هي ثلاثة انكشافات كائنة لكم، أو مبتدأ وخبر أي ثلاث عورات مخصوصة لكم بالاستئذان، وعلى هذا فالوقف على العشاء هو وقف كاف- وقرأ أهل الكوفة بالنصب على البدل من ثلاث مرات وكأنه قيل: في أوقات ثلاث عورات لكم، وعلى هذا فالوقف على لكم وهو وقف تام لَيْسَ عَلَيْكُمْ في تمكينهم من الدخول عليكم وَلا عَلَيْهِمْ في ترك الاستئذان في الدخول، جُناحٌ أي إثم بَعْدَهُنَّ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وإنما أباح الله تعالى ذلك في الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن لما في العادة أنه لا تكشف العورة فيها طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي لأنهم يكثرون التردد عليكم بالدخول والخروج للخدمة، فلو كلفتم الاستئذان في كل طوفة لضاق الأمر عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي كما أن

[سورة النور (24) : الآيات 61 إلى 64]

بعضكم طائف على بعض، طوافا، كثير اللجاجة يروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث غلاما من الأنصار يقال له: مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فوجده نائما وقد أغلق عليه الباب فدق الغلام عليه الباب، وحركه ورده ودفعه فناداه ودخل فاستيقظ عمر، فانكشف منه شيء. فقال عمر: وددت أن الله تعالى ينهى آباءنا وأبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، فحمد الله تعالى وخرّ ساجدا شكر الله تعالى فقال صلّى الله عليه وسلّم: «وما ذاك يا عمر؟» فأخبره بما فعل الغلام، فتعجب رسول الله من صنعه وقال: «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف ويبغض البذيء الجريء السائل الملحف» «1» . كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ (58) ، فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب سن نزول المنى سواء رأى منيا أو لا. فَلْيَسْتَأْذِنُوا إذا أرادوا الدخول عليكم في جميع الأوقات كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي استئذانا كاستئذان الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الآية. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي هكذا ينزل الله لكم آياته واضحة الدلالة على الأحكام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمور خلقه حَكِيمٌ (59) فيما دبره لهم، وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي والعجائز الكائنة من النساء اللاتي لا يحتجن إلى الزوج لكبرهن بحيث إذا رآهن الرجل استقذرهن، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي أن ينزعن بحضرة الرجال عنهن ثيابهن الظاهرة فوق الثياب الساترة كالملحفة. وعن ابن عباس أنه قرأ: «أن يضعن جلابيبهن» ، وعن السدي عن شيوخه أنه قرأ «أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن» . وعن بعضهم أنه قرأ «أن يضعن من ثيابهن» . غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات لمحاسنها ولزينتها الخفية، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أي استعفافهن بعدم إلقاء الجلباب خير لهن من الإلقاء لبعده من المظنة، فعند المظنة يلزمهن أن لا يلقين ذلك، كما يلزم مثله في الشابة، وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة، عَلِيمٌ (60) بمقاصدهن لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الطوائف مأثم في أكلهم مع السالمين من هذه النقائص الثلاثة، فإنهم تركوا مؤاكلة الأصحاء. فقال الأعمى: إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الأرد، أو خاف الأعرج والمريض أن يفسد الطعام على الأصحاء. وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما: كان العرجان والعميان

_ (1) رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب: الرجل يأكل من مال ولده.

والمرضى يتبعدون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم. وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي ليس عليكم مأثم في أن تأكلوا من بيوت أولادكم بغير إذن بالعدل لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» «1» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» «2» . أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ من الأب أو الأم، أو منهما بالنسب أو الرضاع أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ. قال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فيتحرج لأنه ليس ثمّ رب البيت. فأنزل الله تعالى هذه الرخصة: أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ. روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية: أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يسلمون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها وهم غائبون، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، وهذا قول عائشة رضي الله عنها أَوْ صَدِيقِكُمْ أي بيت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية، ونزل هذا في حق مالك بن زيد، والحرث بن عمار، وكانا صديقين. ونقل عن ابن عباس ومقاتل بن حبان: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو وذلك أنه خرج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى: يجوز الأكل من بيوت من ذكر إذا علم رضاه بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه وإن كانت ضعيفة، كما علم بالعادة في طيب أنفسهم فإن العادة كالإذن في ذلك، والمقصود من هذه الآية إثبات الإباحة في الجملة، لا إثبات الإباحة في جميع الأوقات. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي مأثم في أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. قيل: نزلت هذه الآية في قوم تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الآكلين في كثرة الأكل وقلته. وقال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة حيث كانوا يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يواكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحافلات، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد

_ (1) رواه النسائي في كتاب البيوع، باب: الحث على الكسب، وابن ماجة في كتاب التجارات، باب: الحث على المكاسب، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في الكسب وعمل الرجل بيده، وأحمد في (م 6/ ص 31) . [.....] (2) رواه السهمي في تاريخ جرجان (453) .

من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إذا دخلتم بيوتا من البيوت المذكورة فسلموا على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية، فالله تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقال ابن عباس: إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من قبل ربنا، وإذا دخل المسجد فليقل: السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. وقال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال القفال: وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل: السلام على من اتبع الهدى. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ منصوب على المصدر من معنى فسلموا أي فحيوا تحية ثابتة بأمره، مطلوبة من عنده. مُبارَكَةً أي مضاعفة في الثواب كما قاله الضحاك، طَيِّبَةً أي تطيب بالتحية نفس المستمع. وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين» «1» . كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي يفصل شرائعه لكم، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) ، أي لتفهموا عن الله أمره ونهيه. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي الرسول عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم، وأطاعوهما في جميع الأحكام، كما إذا كانوا معه صلّى الله عليه وسلّم على أمر موجب للاجتماع في شأنه لم يتفرقوا عنه حتى يطلبوا منه الإذن فيأذن لهم. قال الكلبي كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظرون يمينا وشمالا فإذا لم يرهم أحد خرجوا ولم يصلوا، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفا، فكان المؤمن إذا أراد أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر قام بحيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ رعاية للأدب معك وتعظيما لهذا الأمر أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي يعملون بمقتضى الإيمان. قال الضحاك ومقاتل: المراد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أنه خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فاستأذنه في الخروج إلى أهله لعلة كانت به، فأذن له وقال: ارجع إلى المدينة فلست بمنافق، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي أمرهم المهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لما علمت في ذلك من مصلحة.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 64) .

قال ابن عباس: إن عمر استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في العمرة فأذن له، ثم قال: يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك. وهذه الآية تدل على أنه تعالى فوّض إلى رسوله أمر الدين ليجتهد فيه برأيه. وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة أو أن الاستغفار في مقابلة تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ (62) بالتسهيل عليهم لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي لا تجعلوا دعاءه لكم في الاعتقاد وغيره، وأمره إياكم في أمر من الأمور كدعوة بعضكم لبعض فتستبطئون عنه، بل أجيبوه فورا، وإن كنتم في الصلاة إذ كان أمره فرضا لازما. وهذا قول المبرد والقفال، ومختار أبي العباس. وأقرب إلى نظم الآية كما قاله ابن عادل والرازي وغيره. وقيل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم فإنه قد يجاب وقد يرد، فإن دعوات الرسول مستجابة فاحذروا سخطه فإن دعاءه مجاب، ليس كدعاء غيره. وهذا كما قاله ابن عباس. وروي عنه أيضا لا تجعلوا نداءه صلّى الله عليه وسلّم كنداء بعضكم لبعض باسمه، ورفع الصوت، والنداء من وراء الحجرات، بل نادوه بغاية التوقير وبلقبه المعظّم. وذلك بمثل قولك: يا رسول لله، يا نبي الله مع التواضع وخفض الصوت، فلا تنادوه باسمه ولا بكنيته بأن تقولوا: يا محمد يا أبا القاسم. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي قد علم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية، مستترين ببعض ف «لواذا» حال، أو مصدر لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا أي يستتر بعضهم بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي يعرضون عن أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي محنة في الدنيا من تسليط جائر عليهم وإسباغ نعمه استدراجا بهم أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) في الآخرة والكناية ترجع إلى الله، لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأنه المقصود بالذكر أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا. وهذا دليل على قدرته تعالى على المجازاة بثواب وعقاب، وعلى علمه تعالى بما يخفيه المكلف ويعلنه، قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ أيها المكلفون عَلَيْهِ من المخالفة في الدين والنفاق، وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ أي ويعلم يوم يرجع المنافقون إليه تعالى للجزاء فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا في الدنيا من الأعمال- كمخالفة الأمر- فلا يعاقبهم إلا بعد إخبارهم بما عملوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية، سبع وسبعون آية، ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة، ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وستون حرفا تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ أي تعالى الله الذي نزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم في ذاته وصفاته وأفعاله، فتعالت ذاته عن جواز التغيّر والفناء. وعن مشابهة شيء من الممكنات وتعالت صفاته عن حدوث، وتعالت أفعاله عن عبث. ومن جملة أفعاله تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والإتيان بعنوان العبد إعلام بكون سيدنا محمد في أقصى مراتب العبودية، لِيَكُونَ أي ذلك العبد أو الذي نزل الفرقان لِلْعالَمِينَ أي المكلفين من الثقلين نَذِيراً (1) أي مخوفا من عذاب الله بالقرآن الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بدل من الموصول الأول أو خبر مبتدأ محذوف وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً عطف على الصلة. وهذا رد على النصارى واليهود وبعض مشركي العرب الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ أي في ملك السموات والأرض فهو المنفرد بالإلهية. وهذا معطوف على الصلة أيضا وهو رد على الثنوية وعباد الأصنام والنجوم، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) أي أحدث كل موجود إحداثا جاريا على طريق التقدير بحسب ما اقتضته إرادته وهيّأه لما أراد به مما يصلح له مثاله أنه تعالى خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المستوي الذي تراه فيقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في باب الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة، فقدره لأمر ما، ومصلحة ما موافقا لما قدر غير متأخر عنه. وَاتَّخَذُوا أي المنذرون من كفار مكة كأبي جهل وأصحابه مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي جعلوا لأنفسهم متجاوزين الله غيره آلهة لا يقدرون على خلق شيء أصلا، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدرون لأنفسهم على دفع ضرر ما وعلى جلب نفع ما فمن لا ينفع نفسه لا ينفع غيره، وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) أي ولا يقدرون على اماتة الأحياء واحياء الموتى، وبعثهم، فالا له يجب أن يكون

قادرا على جميع ذلك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي قال النضر بن الحرث: ما القرآن الا كذب مصروف عن وجهه اختلقه محمد من تلقاء نفسه، وأعانه على اختلاقه غير قومه، وهم اليهود جبر ويسار أبو فكيهة الرومي. قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث فهو الذي قال هذا القول وأعانه عليه عداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى العلاء عامر بن الحضرمي، وجبر مولى عامر، وهؤلاء كانوا من أهل الكتاب، وكانوا يقرءون التوراة، ويحدثون أحاديث منها في مكة، فلما أسلموا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتعهدهم، فزعم النضر أنهم يلقون اليه صلّى الله عليه وسلّم أخبار الأمم الماضية، وهو صلّى الله عليه وسلّم يعبر عنها بعبارات من عنده، فهذا معنى اعانتهم له فمن أجل ذلك قال النضر ما قال، فرد الله تعالى ذلك بقوله تعالى فَقَدْ جاؤُ أي قائلو هذه المقالة ظُلْماً عظيما حيث جعلوا الحق البحت إفكا مفترى من قبل البشر وَزُوراً (4) أي كذبا كبيرا حيث نسبوا إليه صلّى الله عليه وسلّم ما هو بريء منه. وَقالُوا أي النضر وأصحابه: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها أي هذا القرآن ما سطره المتقدمون من الخرافات انتسخها محمد بن عداس ويسار وجبر، أي أمرهم بكتابتها له وقراءتها عليه لأنه أمي فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) أي فتلك الأساطير تقرأ على محمد بعد طلبه منهم كتابتها غدوة وعشيا ليحفظها من أفواههم من ذلك المكتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة. وهذا على قول جمهور المفسرين فإن قوله: تُمْلى ألخ من كلام القوم الكافرين. وقال الضحاك: معنى قولهم ذلك: وما يملى على محمد بكرة يقرأه عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة خلافا للحسن حيث قال: إن ذلك من محض كلام الله تعالى ذكره جوابا عن قولهم كأنه تعالى قال: إن هذه الآيات تلقى عليه صلّى الله عليه وسلّم بالوحي مني حالا بعد حال، فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين، قُلْ لهم ردا عليهم: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ليس ذلك القرآن مما يفتعل بإعانة قوم وكتابتهم من الأحاديث الملفقة، بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء فيعلم ما تسرونه من كيدكم لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق، وما تقولونه زور، ويعلم براءة رسوله مما تتهمونه به وهو مجازيكم على ما علم منكم وما علم منه. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) أي إنما أنزل القرآن لأجل الإنذار فوجب أن يكون غير مستعجل في العقوبة. وهذا تنبيه على أنهم استحقوا بمكايدتهم هذه أن يصب الله عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفورا رحيما فيمهلهم ولا يعجل عليهم العذاب. وَقالُوا أي أبو جهل وأصحابه، والنضر وأصحابه، وأمية ابن خلف وأصحابه: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي سبب حصل لهذا الذي يدّعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله، فمن أين له

[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 إلى 20]

الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ أي هلا ينزل على صورته مَلَكٌ لا يأكل ولا يشرب فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أي فيكون معينا له في الإنذار يشهد له ويرد من خالفه أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء، فينفقه، فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها. وقرأ الأعمش وقتادة «يكون» بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل» بالنون. وَقالَ الظَّالِمُونَ أي المشركون أبو جهل، والنضر، وأمية وأصحابهم للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون أيها المؤمنون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (8) أي مختل النظر والعقل انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي انظر يا أفضل الخلق كيف اشتغل القوم بضرب هذه التي لا فائدة فيها من الأقوال العجيبة الخارجة عن العقول، فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) أي فأرادوا القدح في نبوتك، فضلوا عن طريق المحاجة، فلم يجدوا سبيلا إلى القدح في نبوتك وفي معجزاتك، وضلوا عن الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ أي تكاثر خير من الذي إن شاء جَعَلَ لَكَ في الدنيا شيئا خَيْراً لك مِنْ ذلِكَ الذي قالوه جَنَّاتٍ أي بساتين كثيرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) أي بيوتا مشيدة رفيعة في الدنيا، فقوله تعالى: جَنَّاتٍ بدل من خير. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر برفع «يجعل» على أنه معطوف على جواب الشرط، لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع، أو مستأنف بوعد ما يكون له صلّى الله عليه وسلّم في الآخرة. وقرأ الباقون بإدغام لام «يجعل» في لام «لك» إما بتقدير الجزم على أنه معطوف على محل جواب الشرط وهو جزم، أو بتقدير الرفع، وإنما سكن اللام لأجل الإدغام، فعلى الرفع حسن الوقف على «الأنهار» فإن المعنى: وسيجعل لك قصورا في الآخرة وعلى الجزم لا يحسن الوقوف على «الأنهار» فإن المعنى: إن شاء يجعل لك قصورا في الدنيا. روي عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا، وبين أن يجمعها لك في الآخرة فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل يجمعها جميعا في الآخرة» «1» فنزل قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ الآية. بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ. وهذا جواب ثالث كأنه تعالى قال: ليس ما تعلقوا به شبهة علمية في نفس المسألة لأنهم لا يعتقدون فيك كذبا بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بوجود

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 68) .

وقت الجزاء استثقالا للاستعداد له، فإنهم لا يتحملون مشقة النظر، فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) أي جعلنا نارا عظيمة شديدة الاشتعال معدة لمن كذب بوجود القيامة، إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي من مسيرة عام كما قاله الكلبي والسدي سَمِعُوا لَها أي النار تَغَيُّظاً أي صوت غليانها، وَزَفِيراً (12) أي صوتا شديدا كصوت الحمار وَإِذا أُلْقُوا مِنْها أي النار مَكاناً ضَيِّقاً. وقرأه ابن كثير بسكون الياء مُقَرَّنِينَ في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان ثُبُوراً (13) بأن يقولوا: يا ثبور هذا زمانك ويتمنوا موتا. وقال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال ابن عمر: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح. وتقول لهم: خزنة جهنم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) فإن ما أنتم فيه من العذاب مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن لغاية شدته وطول مدته قُلْ لهم تحسيرا على ما فاتهم: أَذلِكَ السعير التي هيئت لمن كذب بوجود القيامة خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ التي لا ينقطع نعيمها الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي التي وعدها من يجتنبون الكفر. وهذا يحسن في مقام التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فأبى واستكبر، فضربه ضربا وجيعا وقال له على سبيل التوبيخ، هذا أحب إليك أم ذاك كانَتْ أي تلك الجنة لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) أي مسكنا فما وعد الله به فهو كائن لا بد من وقوعه، فكأنه قد كان، ولأنه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم الله بأزمان متطاولة: أن الجنة جزاؤهم ومستقرهم. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ فكل فريق منهم مشتغل بما فيه من اللذات فلا يلتفتون إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية، وفي هذا تنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة. خالِدِينَ حال من الهاء في «لهم» فإن من شرط نعيم الجنة أن يكون دائما إذ لو انقطع لكان مخلوطا بنوع من الغم كنعيم الدنيا، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق» فقيل: وما هو يا رسول الله؟ فقال: «سرور يوم» كانَ أي ما يشاءونه عَلى رَبِّكَ يا أفضل الخلق وَعْداً مَسْؤُلًا (16) أي موعودا مطلوبا لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، فإن المكلفين سألوه بلسان الحال، لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته تعالى كان ذلك قائما مقام السؤال وما في «على» من معنى الوجوب لاستحالة الخلف في وعده تعالى، فإن تعلق إرادته تعالى بالوعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ. وقرأ ابن كثير وحفص بالياء. والباقون بالنون وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره، أي ويوم القيامة يحشر الله العابدين لغير الله ومعبوديهم فَيَقُولُ. قرأ ابن عامر بالنون. والباقون بالياء كأن يخلق في الأصنام الحياة فينطقها أو كأن جوابها بلسان الحال كما ذكره بعضهم

في تسبيح الموات وفي شهادة الأيدي والأرجل أي يقول الله للمعبودين تقريعا للعابدين أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بأن دعوتموهم لعبادتكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) أي أم هم ضلوا عن السبيل بأنفسهم بتركهم النظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد وعبدوكم بهوى أنفسهم. قالُوا أي المعبودين متبرئين عن العابدين: سُبْحانَكَ أي قالوه تعجبا مما قيل لهم أو إشعارا بأنهم منزّهون الله تعالى عما لا يليق به، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده أو قصدا لتنزيهه تعالى عن الأنداد ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فنتخذ متعد لواحد، و «من أولياء» مفعول، و «من» زائدة، و «من دونك» حال، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا. وعن أبي جعفر وابن عامر أنهما قرءا «تتخذ» بالبناء للمفعول فهو متعد لمفعولين، والمفعول الأول نائب الفاعل، و «من أولياء» مفعول ثان، و «من» للتبعيض وتنكير «أولياء» من حيث إنهم أولياء مخصوصون، وهم الجن والأصنام. ومعنى الآية: لا يستحق لنا أن يتخذ بعضنا أولياء. والحاصل إن كان معبودهم ملائكة قالت: نحن عبيدك فلا يستقيم لعبيدك أن يتخذوا من غيرك أحباء يعبدونهم فإذا كنا نعتقد أن غيرك لا يجوز أن يكون معبودا، فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا وإن كان أصناما قالت: لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا أن ندعي أننا من المعبودين فما أضللناهم. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي ولكن يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم فجعلوا ذلك ذريعة إلى ضلالهم حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي تركوا الإيمان بالقرآن وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) أي وصاروا قوما هالكين فاسدة القلوب. فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أي فقال الله تعالى عند ذلك: فقد كذبكم أيها الكفرة معبودكم في قولكم: إنهم آلهة. فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب، أي فقد كذبوا قولكم: إنهم آلهة. وانظر كيف أظهر الله صدق الأصنام وكذب الكفار، وتقولون بالتاء الفوقانية باتفاق العشرة. وقرئ شاذة بالياء، أي كذبوكم بقولهم: سُبْحانَكَ الآية. فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً. وقرأ حفص بالتاء على الخطاب، أي فما تستطيعون أيها الكفار صرف الأصنام والملائكة عن شهادتهم عليكم ولا نصر أنفسكم في إضافة الصدق إلى أنفسكم ولا تستطيعون دفع العذاب عنكم ولا منعه عنكم بأنفسكم ولا بغيركم. وقرأ الباقون بالياء على الغيبة أي فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ويحتالوا لكم، ولا أن ينصروكم بوجه من الوجوه. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) أي ومن يكفر منكم يا معشر المؤمنين، أو ومن يستمر منكم يا معشر الكفار على ما أنتم عليه من الكفر والعناد نذقه عذابا كبيرا في الدنيا والآخرة والعامة. قرءوا «نذقه» بنون العظمة. وقرئ بالياء والضمير عائد لله تعالى أو للظلم المفهوم من الفعل على سبيل المجاز بإسناد إذاقة العذاب إلى السبب وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ و «إن» مكسورة باتفاق العشرة و «اللام» لام

[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 30]

الابتداء زيدت في الخبر، والجملة الواقعة بعد إلا حالية، أي وما أرسلنا قبلك يا أشرف الخلق أحدا من المرسلين إلا وحالهم آكلون وماشون فأنت مثلهم في ذلك. وقرئ «يمشون» على البناء للمفعول، أي يمشيهم حوائجهم وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي وجعلنا كل أمة كافرة فتنة لرسولها المبعوث إليها كأن يقول بعض الكفار لبعض الأنبياء آتنا معجزة كمعجزة بني فلان أَتَصْبِرُونَ يا معشر الأنبياء على ما تسمعون من أقاويلهم الخارجة من حدود الإنصاف، فالمعنى جرت سنتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم بإيذائهم لهم لنعلم صبرهم. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) بأعمال كلهم وجزائها. وهذا وعد كريم للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالأجر الجزيل لصبره الجميل. وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي لا يؤملون وعدنا على الطاعة من الثواب فلا يخافون العقاب لكفرهم بالبعث. وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ. لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة أَوْ نَرى رَبَّنا فيخربنا بصدق محمد في رسالته. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أنهم أضمروا الاستكبار في قلوبهم واعتقدوه. وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) أي تجاوزوا الحد في الظلم حتى اجترءوا على هذا القول العظيم الشنيع. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ منصوب بعامل دل عليه «لا بشرى» أي يبغون البشرى يوم يرون ملائكة العذاب قائلين: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ أي الكافرين في كل الأوقات فإنهم يشافهون في أول الأمر بما يدل على نهاية اليأس والخيبة، فذلك هو النهاية في الإيلام وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) أي يقول الكافرون الذين طلبوا نزول الملائكة إذا رأوا الملائكة وفزعوا منهم عند الموت: ويوم القيامة حجرا محجورا وهي كلمة كانوا يقولونها عند لقاء العدو ونزول شدة، ويضعونها موضع الاستعاذة. والمعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا. وقيل: يقول الحفظة للكفار، إذا خرجوا من قبورهم: حجرا محجورا. ومعناه جعل الله الغفران والجنة والبشرى حراما عليكم. وقال الكلبي: إن الملائكة على باب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين: حجرا محجورا. وقرأ الضحاك والحسن وأبو رجاء على ضمها. وقرئ بفتحها. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم التي ظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أي أبطلناه وجعلناه مثل الهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه في عدم إمكان الانتفاع به بالكلية والهباء شبه غباريرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هم المؤمنون يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) أي موضع استراحة نصف النهار في الحر وقد أشارت الآية إلى أن كلا من أهل الجنة وأهل النار قد استقروا في وقت القيلولة. وإن كان استقرار المؤمنين في راحة، واستقرار الكافرين في عذاب فيكون الحساب لجميع الخلائق قد انقضى في هذا الوقت، لأن القائلة تكون في نصف النهار، والحساب يكون من أوله. والمراد من ذلك: بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع، كما أن موضع القيلولة يكون

كذلك، وإشارة إلى أنه مزين بفنون الزخارف وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) أي يوم القيامة تتفتح كل سماء بسبب طلوع الغمام منها، وهو سحاب أبيض فوق السموات السبع، ثخنه كثخن السموات السبع، وثقله كذلك، فينزل على السماء السابعة فيخرقها بثقله، وهكذا حتى ينزل إلى الأرض، وفيه ملائكة كل سماء، فينزل أولا ملائكة السماء الدنيا وهم أكثر من أهل الأرض من إنس وجن، ثم ينزل ملائكة السماء الثانية وهم أزيد من ملائكة سماء الدنيا، وهكذا، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، فإذا نزل ملائكة سماء الدنيا اصطفوا حول العالم المجموع في المحشر صفا، وإذا نزل ملائكة السماء الثانية اصطفوا خلف هذا الصف صفا آخر، وهكذا، أي يحيطون بمن بعدهم حتى يصيروا سبع صفوف حول العالم. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي السلطنة القاهرة الثابتة ثباتا لا يمكن زواله صورة ومعنى ثابتة للرحمن يوم إذ تشق الغمام لا يشركه فيها أحد. وَكانَ يَوْماً أي ذلك اليوم عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) أي شديدا بخلاف المؤمنين فقد جاء في الحديث أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أي يوم القيامة يأكل الكافر يديه إلى المرفق، ثم ينبتان، ثم يأكلهما وهكذا فلا يزال كذلك- كما قاله الضحاك وعطاء- وقال أهل التحقيق: هذه اللفظة كناية عن الندامة والغم. يَقُولُ حال من فاعل يعض يا لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) أي ليتني صاحبت رسول الله في اتخاذ سبيل الهدى، واستقمت على دين الرسول. يا وَيْلَتى أي يا هلاكي، تعال فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) أي صديقا وافقته في أعماله. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي والله لقد صرفني عن القرآن وموعظة الرسول بَعْدَ إِذْ جاءَنِي. قال ابن عباس: والمراد بالظالم: عقبة بن أبي معيط بن أمية، بن عبد شمس كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما يدعو إليه جيرانه من أهل مكة، ويكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويعجبه حديثه، فصنع طعاما ودعا الرسول، فلما قرب إليه الطعام قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين» فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأكل صلّى الله عليه وسلّم من طعامه. وكان أبي بن خلف الجمحي صديقه فعاتبه، فقال له: يا عقبة قد ملت إلى دين محمد! فقال عقبة: والله ما ملت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن شهدت له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له، فطعم فقال: أبيّ لا أرضى عنك أبدا حتى تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه، فأتاه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل عقبة ذلك، فعاد بزاقه على وجهه فحرقه، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» «1» فنزل قوله تعالى:

_ (1) رواه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة 2، باب: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا

[سورة الفرقان (25) : الآيات 31 إلى 40]

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ إلخ، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحرث، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده، طعنه في أحد، فرجع إلى مكة ومات. وقال الشعبي: كان عقبة خليل أمية فأسلم عقبة وقال أمية، وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا فارتد، فأنزل الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ وعلم من ذلك أن المراد بفلان أبي أو أمية وَكانَ الشَّيْطانُ أي إبليس لِلْإِنْسانِ أي الكافر خَذُولًا (29) أي مبالغا في ترك النصرة بعد المعاونة، وكان يعد الإنسان في الدنيا بأنه ينفعه في الآخرة وهذا من كلام الله تعالى، فإن آخر كلام الظالم بعد إذ جاءني، فالوقف عليه تام وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم شكاية لله مما صنع قومه وفي هذا تخويف لقومه، لأن الأنبياء إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل الله لهم العذاب. وهذا عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا. يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يتأثروا بتخويفه وفي هذا تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من تعلّم القرآن وعلّق مصحفه ولم يتعاهده ولم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب، عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» «1» . وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا، وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) أي كفاك مبلغك إلى الكمال ومالك أمرك هاديا لك إلى مصالح الدين والدنيا وناصرا لك على جميع من يعاديك. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة كأبي جعل وأصحابه لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي هلا أنزل القرآن كله جملة واحدة، كالكتب الثلاثة: التوراة والإنجيل والزبور كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي مثل ذلك التنزيل المفرّق نزلناه لنقوي بذلك فؤادك، فإن فيه تيسير الحفظ، وفهم المعاني. وهذا كلام الله ذكره جوابا لهم وردا لهذه الشبهة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) معطوف على الفعل المقدر الذي تعلق به كذلك، أي كذلك أنزلناه وآتينا بعضه بعد بعض على تؤدة وتمهل في ثلاث وعشرين سنة وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي ولا يأتي المشركون إياك يا أشرف الخلق بسؤال عجيب، يريدون به القدح في نبوتك إلا جئناك بالجواب الحق الذي يدفع قولهم، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) بيانا وبأقوى حجة الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يحشرون يوم القيامة كائنين على وجوههم يسبحون

_ منها، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: 141، والترمذي في كتاب التفسير، تفسير سورة 25، باب: 1، وأحمد في (م 1/ ص 380) . (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (7: 319) ، وأحمد في (م 5/ ص 153) .

عليها، ويجرون إلى جهنم. وهذا الموصول صفة للموصول الأول، أو بدل منه أُوْلئِكَ أي الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت شَرٌّ مَكاناً أي منزلا في الآخرة وعملا في الدنيا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) عن الحق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي أنزلنا التوراة على موسى بعد غرق فرعون وقومه، وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) يعينه في الدعوة وإعلاء الكلمة فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي آيات الإلهية وهي مصنوعات الله تعالى الدالة على انفراده بالملك والعبادة، أي فذهبا إليهم فأرياهم الآيات التسع كلها، وهي آيات النبوة، فكذبوها كما كذبوا الآيات الإلهية فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) أي أهلكناهم عقب ذلك التكذيب إهلاكا عجيبا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا ومن قبله، فإنهم اشتركوا في المجيء بالتوحيد أَغْرَقْناهُمْ. فقال الكلبي: أمطر الله عليهم السماء أربعين يوما وأخرج ماء الأرض أيضا في تلك الأربعين فصارت الأرض بحرا واحدا وَجَعَلْناهُمْ أي وجعلنا إغراقهم لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة لمن سمع قصتهم لكيلا يقتدوا بهم، وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي قوم نوح ومن سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عَذاباً أَلِيماً (37) هو عذاب الآخرة، وَعاداً عطف على المفعول الأول «لجعلنا» ، وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ، وهي بئر غير مطوية، ولهم وجوه. أحدها: هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذبوه، فبينما هم حول البئر خسف الله بهم وبديارهم. وثانيها: أن الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبي فقتلوه، فهلكوا. ثالثها: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم بطير عظيم فيها من كل لون سمي بالعنقاء فتخطف صبيانهم، وعروسا فدعا عليها حنظلة فأصابتهم الصاعقة، ثم إنهم قتلوا حنظلة عليه السلام فأهلكوا. ورابعها: أن الرس بئر في أنطاكية كذبوا حبيبا النجار وقتلوه، فدسوه في البئر. وخامسها: عن علي رضي الله عنه أنهم كانوا قوما يعبدون شجر الصنوبر وإنما سموا أصحاب الرس لأنهم رسوها في الأرض بينهم. وسادسها: هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له: الرس من بلاد المشرق فبعث الله إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب، فكذبوه، فلبث فيهم، فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا بئرا ورسوه فيها، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة، فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد، وأظلتهم سحابة سوداء، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) أي أقواما كثيرا بين الطوائف المذكورة وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي كل قرن بينا له القصص العجيبة الزاجرة عن الكفر والمعاصي بواسطة الرسل وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) أي كل

[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 إلى 50]

واحد منهم فتتنا تفتيتا لما كذبوا الرسل فإنا لم نهلكهم إلا بعد الإنذار وجواب ما أوردوه من الشبه حتى وضح لهم السبيل. وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي وبالله لقد مرّ قريش على قرية سذوم من قرى قوم لوط التي أهلكت بالحجارة من السماء في أسفارهم إلى الشام للتجارة، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها أي أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) أي بل كانوا قوما ينكرون البعث، ولا يؤمنون بالجزاء الأخروي فلا يرجون ثواب الآخرة حينئذ لا يتحملون متاعب التكاليف ومشاق الاستدلال وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أي إذا رآك يا أشرف الخلق كفار مكة قصروا معاملتهم معك على اتخاذهم إياك هزوا فقوله: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب «إذا» ، واختصت «إذا» بكون جوابها لا يحتاج إلى الفاء إذا كان منفيا بما أو إن أو لا بخلاف غيرها من أدوات الشرط. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) . وهذا محكي لقول مضمر هو حال من فاعل «يتخذونك» أي إذا رأوك يستهزئون بك قائلين: أبعث الله هذا رسولا إلينا، وهذا على سبيل الاستهزاء. والمعنى: أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها. ويروى أن هذا من قول أبي جهل و «إن» مخففة من «إن» الثقيلة، وضمير الشأن محذوف أي إن الشأن كاد هذا الرجل ليصرفنا من عبادة آلهتنا صرفا كليا لولا أن ثبتنا عليها، وهذا اعتراف منهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإقامة الحجج وإظهار المعجزات إلى حيث قاربوا أن يتركوا دينهم، لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستحقه كفرهم وعنادهم عيانا في الآخرة مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أي من أخطأ حجة فهذا وعيد شديد لهم على الإعراض عن الاستدلال والنظر أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) . وهذا أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتعجب من شناعة حالهم، أي أرأيت يا أشرف الخلق الذي جعل معبوده ما يهواه وهو النضر وأصحابه أفأنت تكون عليه حفيظا تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك. وقال سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم، فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده. أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات سماع تفكّر، أو يفهمون ما فيها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن، وهذا انتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلّى الله عليه وسلّم لهم ممن يسمع أو يعقل ف «أم» بمعنى بل والهمزة التي للاستفهام الإنكاري وإنما ذكر الأكثر لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل

والمعجزات، وإقبالهم على اللذات الحاضرة بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) من الأنعام، لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه تعالى من إساءة الشيطان ولا يطلبون الثواب ولا يتقون العقاب، ولأنها جارية إلى ما خلقت هي له فلا تقصير منها، في طلب الكمال لأنه غير ممكن منها وهؤلاء معطلون لعقولهم مستحقون بتقصيرهم أعظم العقاب، أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي ألم تعلم يا أشرف الخلق إلى حسن صنع ربك، كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ؟ أي كيف بسطه؟ فالظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص، والظلمة الخالصة، وهو فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران، وهو أطيب الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وتسد النظر والضوء الخالص من شعاع الشمس يبهر البصر ويسخن الجو، وهي مؤذية. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي دائما غير زائل بأن لا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي الظل دَلِيلًا (45) ، فالنظر إلى الجسم الملون وقت الظل لا يشاهد شيئا سوى الجسم، واللون، ولا يعرف شيئا ثالثا فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم، زال ذلك الظل، فعرف أن للظل وجودا لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها، فلولا الشمس لما عرف الظل، ولولا الظلمة لما عرف النور، فالله تعالى لما أطلع الشمس على الأرض، وأزال الظل، ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون، فلهذا قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي خلقنا الظل أولا بالمنافع واللذات، ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده باطلاع الشمس فكانت الشمس دليلا على وجود هذه النعمة، والخطاب في أَلَمْ تَرَ عام، وإن كان ظهره للرسول، لأن المقصود بيان إنعام الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في تنبههم على هذه النعمة وتوجيه الرؤية إلى الله تعالى إشارة إلى أن الذي ينبغي للعاقل أن يكون مطمح نظره معرفة شؤون الصانع الحكيم وأن يكون نظره مقصور على الآثار والصنائع، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) أي ثم أزلنا الظل يسيرا يسيرا، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل، وقبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح، فإذا غربت الشمس، فليس هناك ظل إنما ذلك بقية نور النهار وقوله تعالى: إِلَيْنا للتصريح على كون مرجع الظل إليه تعالى كما أن حدوثه منه تعالى، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي مثل اللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي جعل النوم الواقع في الليل قطعا عن الأفعال المختصة بحال اليقظة. وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) أي زمان بعث من ذلك النوم. وفي هذا إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور. وعن لقمان: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر. وقرأ ابن كثير «الريح» بالإفراد وقرأ «نشرا» نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم النون والشين أي

[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 إلى 60]

ناشرات للسحاب. وقرأه ابن عامر بضم النون وسكون الشين. وقرأه حمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل أي متفرقة. وقرأه عاصم بالباء الموحدة المضمومة وسكون الشين أي مبشرات فالرياح المبشرات هي: الصبا، والجنوب، والشمال. أما الدبور: فهي ريح العذاب التي أهلكت بها عاد. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) أي بليغا في الطهارة لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي مكانا لا نبات فيه، أي ليصير ذا نبات وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً أي بهائم وَأَناسِيَّ جمع إنسان أصله أناسين، كَثِيراً (49) . وهذا إما راجع ل «الأناسي» ، وذلك لأن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأنهار ومنابع المياه فهم في غنية في شرب الماء عن المطر، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وإما راجع إلى «ونسقيه» ، وذلك لأن الحيوان يحتاج إلى الماء حالا بعد حال ما دام حيا وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان أقرب إلى الضرر. وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ أي وبالله لقد أجرينا المطر في البلاد المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة حتى انتفعوا بالزرعات، وأنواع المعاش به، كما روي مرفوعا عن ابن مسعود قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم، ورزق معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله تعالى ذلك إلى غيرهم فما زيد لبعض نقص من غيرهم، وإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك المطر إلى الفيافي والبحار» . لِيَذَّكَّرُوا. وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف، أي ليذكروا نعمة الله به ويقوموا بشكره. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين، أي ليعتبروا بالصرف إليهم وعنهم فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (50) أي جحودا للنعمة من حيث لا يتفكرون فيها، ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه. وقيل: المعنى: وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر بين الناس المتقدمين والمتأخرين في القرآن، وسائر الكتب المنزلة على الرسل ليستدلوا به على الصانع، فأبى أكثر الناس إلا كفور النعمة القرآن والكتب، ولنعمة المطر حيث أسندوها لغير خالقها، وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) أي نبيا ينذر أهلها فيخف عليكم أعباء الرسالة، ولكنا قصرنا الأمر عليكم وفضلناك على سائر الرسل فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي فلا توافقهم فيما يأمرونك وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) أي جاهدهم بسبب كونك نذيرا كافة القرى جهادا جامعا لك مجاهدة، أو وجاهدهم ملابسا بترك طاعتهم بل بالشدة لا بالمداراة جهارا كبيرا، وذلك بتلاوة ما في القرآن من الزواجر والنواذر وتذكير أحوال الأمم المكذبة، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما في مجاريهما متلاصقين هذا عَذْبٌ أي سائغ فُراتٌ أي بالغ في العذوبة حتى يصير إلى

الحلاوة، وَهذا مِلْحٌ أي مر أُجاجٌ أي زعاق. وَجَعَلَ بَيْنَهُما أي الطيب والمالح بَرْزَخاً أي حائلا غير مرئي بقدرة الله تعالى وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) أي سترا ممنوعا به تغيير أحدهما طعم الآخر، فالعذوبة أو الملوحة، إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء، وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من ماء الذكر والأنثى بَشَراً أي خلقا كثيرا فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي فقسم البشر قسمين: ذكورا ينسب إليهم وإناثا يصاهر بهن، أي يقارب ويخالط بهن. وقيل: النسب: ما لا يحل تزويجه من القرابة، والصهر ما يحل التزويج من القرابة وغيرها. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) حيث خلق من مادة واحدة بشرا مختلفا ألوانه، وأعضاؤه وطباعه. وربما خلق من نطفة واحدة توأمين فأكثر. وَيَعْبُدُونَ أي كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ بعبادته في الدنيا والآخرة وَلا يَضُرُّهُمْ بترك عبادته فيهما، وهو الأوثان. وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) أي وكان الكافر جماعة بعضهم معاون لبعض على إطفاء نور دين الله، أو وكان الكافر معاونا للشيطان على عصيان ربه بالعداوة والشرك، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين على الطاعة وَنَذِيراً (56) للكافرين على المعصية. قُلْ يا أكرم الرسل لأهل مكة: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) أي لا أطلب على تبليغ الرسالة من أموالكم أجرأ إلا فعل من أراد أن يطلب المنزلة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة كما أدعوكم إليهما. وقيل: لا أطلب من أموالكم جعلا لنفسي عن التبليغ لكن من شاء أن ينفق أمواله لاتخاذ السبيل إلى ربه بالصدقة وغيرها فليفعل فالاستثناء على الأول متصل، وعلى الثاني منقطع. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ أي اعتمد بقلبك في كل الأمور على الله تعالى والأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها، وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي نزهه تعالى عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على كثير نعمه. وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) أي كفى الله مطلعا على ذنوب عباده ما ظهر منها وما بطن. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين. وما بينهما في يومين: الثلاثاء والأربعاء. والسموات، في يومين الخميس والجمعة وفرغ من آخر ساعة من يوم الجمعة ومحل الموصل جر على أنه صفة ثانية ل «الحي» ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فالوقف على العرش تام إن أعرب «الرحمن» على المدح خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود إلا له وهو في الحقيقة صفة ثالثة ل «الحي» كما قرأ زيد بن علي بالجر، لأن المنصوب والمرفوع على سبيل المدح وإن خرجا عن التبعية لما قبلها صورة تابعان له حقيقة ولا يوقف على العرش إن أعرب «الرحمن» بدلا من الضمير المستكن في «استوى» فحينئذ فالوقف على الرحمن، وهو وقف كاف. ومعنى «استوى على العرش» أي ارتفع خالق السموات والأرض ارتفاعا يليق بجلاله

[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 إلى 70]

وتصرف في ملكه تصرفا تاما. فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) أي فاسأل أيها الإنسان عنه تعالى عالما بصفاته من الراسخين في العلم، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ أي وإذا قيل لكفار مكة: اخضعوا للرحمن بالتوحيد والصلاة وغير ذلك. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ: وما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذب أي فإنهم اعترفوا بالله لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي للذي تأمرنا بسجوده من غير أن نعرف السجود له ماذا. وقرأ حمزة والكسائي بالياء أي أنسجد لما يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو هل هو مسيلمة الكذاب أو غيره أو كان الضمير راجعا لسيدنا محمد على أن بعضهم قال لبعض: أنسجد لأمر محمد إيانا بالسجود من غير معرفتنا للمسجود له. وَزادَهُمْ أي الأمر بسجود الرحمن نُفُوراً (60) أي تباعدا عن الإيمان تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي منازل الكواكب السبعة السيارة المنظومة في قول بعضهم: زحل شرى مريخه من شمسه ... فتزاهرت لعطارد الأقمار وأسماء البروج منظومة في قول بعضهم: حمل الثور جوزة السرطان ... ورعى الليث سنبل الميزان ورمى عقرب بقوس لجدي ... نوح الدلو بركة الحيتان وهذه البروج الإثنا عشر مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منها ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس: مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي: مثلثة أرضية. والجوزاء والميزان والدلو: مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. وَجَعَلَ فِيها أي البروج سِراجاً وهو الشمس. وقرأ حمزة والكسائي «سرجا» بضم السين والراء وهي الشمس والكواكب الكبار، وَقَمَراً مُنِيراً (61) أي مضيئا بالليل. وقرأ الحسن والأعمش و «قمرا» وهي جمع قمراء، لأن الليالي تكون قمراء بالقمر وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي يعتقبان يأتي أحدهما بعد الآخر لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. قرأ حمزة بسكون الذال وضم الكاف. والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين. وعن أبي بن كعب: ليتذكر أي لينظر الناظر في اختلافهما، فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال من صانع رحيم للعباد، أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) أي ليشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف في النهار. وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، والحسن، معنى الآية: من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار. ومن فاته بالنهار أدركه بالليل وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي هينين أي إن مشى عباد الله المقبولين في لين وسكينة وتواضع لا يضربون بأقدامهم، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء. وعن زيد بن أسلم قال: التمست

تفسير «هونا» فلم أجد، فرأيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض. و «عباد» مبتدأ خبره الموصول و «ما» عطف عليه. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بالسوء قالُوا سَلاماً (63) أي ردوا معروفا كأن يقولوا لا خير بيننا وبينكم، ولا شر فهو سلام توديع لا تحية. كقول سيدنا إبراهيم عليه السلام لأبيه سلام عليكم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) أي يحيون الليل بالصلاة، و «سجدا» خبر «يبيتون» . وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في دعائهم: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) أي هلاكا لازما أي فإنهم مع اجتهادهم في العبادة خائفون من عذاب الله إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وهذا يمكن أن يكون من كلام الله تعالى فهو مستأنف، وأن يكون حكاية لقولهم تعليل بسوء حالها في نفسها عقب تعليل بسوء حال عذابها. والمعنى: أن جهنم بئست جهنم هي حال كونها مستقرا للعصاة من أهل الإيمان فإنهم غير مقيمين فيها وحال كونها مقاما للكافرين فإنهم يخلدون ويقال: إن جهنم أحزنت داخليها من جهة موضع استقرار، ومن جهة موضع إقامة. وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يجاوزوا حد الكرام وَلَمْ يَقْتُرُوا أي ولم يضيفوا تضييق الشحيح وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) أي وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار وسطا. وقرأ نافع وابن عامر «يقتروا» بضم التحتية وكسر الفوقية، وابن كثير وأبو عمرو بفتح التحتية وكسر الفوقية، والكوفيون بفتح التحتية وضم الفوقية فالقراءات السبعية ثلاثة والقاف على كل ساكنة. وقرئ «قواما» بكسر القاف، أي ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال والزينة، ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعتهم ويعينهم على عبادة ربهم، ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد. وروي أن رجلا صنع طعاما في أملاك، فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «حق فأجيبوا» . ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال: «خلق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد» . ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال: «رياء ولا خير فيه» . وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ أي لا يعبدون مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. والمقصود من هذا تنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالردة وبالقتل قودا، وبالزنا بعد الإحصان، فالمقتضى لحرمة القتل قائم أبدا وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله تعالى: حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ إشارة إلى المعارض وَلا يَزْنُونَ. وعن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أيّ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك» قلت: ثم أيّ قال: أن «تزني بحليلة جارك» «1» . فأنزل الله تعالى هذه الآية تصديقا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (10227) .

[سورة الفرقان (25) : الآيات 71 إلى 77]

أي ما ذكر من الثلاثة كما هو دأب الكفرة المذكورين يَلْقَ أَثاماً (68) أي جزاء إثمه. وقال الحسن: الأثام اسم من أسماء جهنم. وقال مجاهد: الأثام واد في جهنم. وقرأ ابن مسعود أياما أي شدائد، لأنه يقال لليوم الصعيب يوم ذو أيام يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وقرأ ابن كثير وابن عامر يضعف بتشديد العين وإسقاط الألف وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك العذاب مُهاناً (69) أي مقرونا بالإذلال كما أن الثواب مقرون بالتعظيم. وقرأ ابن عامر وشعبة «يضاعف» و «يخلد» كلاهما بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. وقرأ حفص مع ابن كثير «فيه» بصلة الهاء بالياء إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي يغفر الله لهم تلك السيئات، ويكتب موضع كافر مؤمن وموضع عاص مطيع، ولا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» «1» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) . روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك، فلما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش فأنزل الله الا من تاب إلى رحيما وَمَنْ تابَ عن المعاصي بتركها والندم عليها، وَعَمِلَ صالِحاً يتدارك به ما فرط، ولو كان نيته وعمله كلاهما ضعيفا فَإِنَّهُ يَتُوبُ أي يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) أي رجوعا مرضيا عند الله أي ومن تاب عن المعاصي إلى الطاعة، فإن التوبة منه في الحقيقة توبة إلى الله أي فإنه قد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب، محصلة للثواب، وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليتمنين أقوام لو أنهم أكثروا من السيئات» . قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» «2» . وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يحضرون مواضع الكذب، فإن حضور مجامع الفساق مشاركة لهم في تلك المعصية ولأن النظر دليل الرضا بها أو لا يشهدون بالكذب. وقال محمد بن الحنفية: الزور الغناء وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو على سبيل الاتفاق من غير قصد مَرُّوا كِراماً (72) أي مكرمين أنفسهم عن مثل حال اللغو، وهو كل ما يجب أن يترك وإكرامهم لأنفسهم لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) أي والذين إذا وعظوا بالآيات المشتملة على

_ (1) رواه التبريزي في مشكاة المصابيح (5086) ، والبغوي في شرح السنّة (13: 86) ، وابن المبارك في الزهد (130) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (693) . (2) رواه السيوطي في جمع الجوامع (4700) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2581) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 344) ، والقرطبي في التفسير (13: 87) .

الأحكام والمواعظ أكبوا على تلك الآيات حرصا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية. لا كالذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم والعميان، كالمنافقين والكفرة- كأبي جهل والأخنس بن شريق- فالمراد من النفي نفي الحال دون الفعل وهو الخرور كقولك: لا يلقاني زيد مسلما فهو نفي للإسلام لا للقاء وذلك تعريض بما يفعله الكفرة والمنافقون، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ أي اجعل لنا ما يحصل به سرور أعين من أزواجنا وذرياتنا بأن نراهم صالحين مطيعين لك. وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم «ذرياتنا» بألف على الجمع. والباقون بغير ألف على الإفراد وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أي يقتدون بنا في أمر الدين بإفاضة العلم وبالتوفيق للعمل أُوْلئِكَ أي المتصفون بتلك الصفات الثمانية يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي يثابون أعلى منازلة الجنة بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على طاعة الله والفقر والمرازي وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) . قرأ حمزة والكسائي وشعبة «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام أي يجدون في الغرفة إكرام الله تعالى لهم بالهدايا وسلامه عليهم بالقول. والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي يجعلهم الله تعالى في الغرفة لاقين ذلك. خالِدِينَ فِيها أي في الغرفة، لا يموتون ولا يخرجون حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) ، أي حسنت الغرفة من حيث موضع الاستقرار وموضع الإقامة هي. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي أيّ اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى فإنكم وسائر البهائم سواء أو لا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، فإن مبالاة الله بشأن عباده حيث خلق السموات والأرض وما بينهما إنما هو ليعرفوا حق المنعم ويطيعوه فيما كلفهم به فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما أخبرتكم به فَسَوْفَ يَكُونُ أي جزاء التكذيب لِزاماً (77) أي ملازما لكم وهو عقاب الآخرة.

سورة الشعراء

سورة الشعراء مكية، إلا أربع آيات من قوله: وَالشُّعَراءُ إلى آخر السورة فمدنية، مائتان وسبع وعشرون آية، ألف ومائتان وسبع وستون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا طسم (1) ومحله رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف إن كان اسما للسورة وأما إن كان مسرودا على نمط التعديد بطريق التحدي فلا محل له من الإعراب وقيل: قسم أقسم الله تعالى به. وقال أهل الإشارة: هو إشارة إلى طاء طوله تعالى في كمال عظمته وإلى سين سلامته عن كل عيب ونقص وهو منفرد في تنزهه عنه وإلى ميم مجده في عزة كرم لا نهاية لها، وإشارة أيضا إلى طاء طهارة قلب نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم عن الكونيين، وإلى سين سيادته على الأنبياء والمرسلين، وإلى ميم مشاهدته لجمال رب العالمين. وإشارة أيضا إلى طاء طيران الطائرين بالله، وإلى سين سير السائرين إلى الله، وإلى ميم مشي الماشين لله، مشي العبودية لا مشي التفخر والتكبر. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون هينون لينون كالجمل الآنف إن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ» «1» . وعن البراء بن عازب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني المص مكان الإنجيل وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي» «2» . تِلْكَ أي هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي آيات القرآن الظاهر إعجازه والمبين للأحكام، فألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم، كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله، فهو دليل التوحيد من هذا الوجه، ودليل النبوة من حيث الإعجاز، ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع، وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع، لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) فلعل للإشفاق وهو بمعنى الأمر أي أشفق على نفسك أن تقتلها

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 398) . (2) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (3: 39) ، والبغوي في شرح السنّة (5: 127) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (36419) ، والطبري في التاريخ (2: 321) .

لعدم إيمان قريش بذلك الكتاب الفاصل بين الحق والباطل، أو لا تبالغ في الحزن على ما فاتك من إسلام قومك لأنك يا أكرم الرسل إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه، ثم لا ينتفع بذلك أصلا، والله تعالى نبه رسوله أن غمه على ذلك لا نفع فيه، كما أن وجود الكتاب على وضوحه لا نفع لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله بخلافه إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) أي إن نشأ ننزل عليهم من السماء علامة مخوفة لهم، قاصرة على الإيمان كرفع الجبل فوق رؤوسهم، كما وقع لبني إسرائيل فيصيروا لتلك العلامة منقادين في قبول الإيمان وذكر الأعناق لبيان موضع الخضوع، واكتسبت إضافتها إلى العقلاء حكمهم، كما اكتسبت الإضافة إلى المؤنث التأنيث كعكسه، ولذلك كان الخبر مجموعا جمع سلامة لمذكر عاقل. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) أي ما يأتي أهل مكة من موعظة من المواعظ القرآنية تنبههم عن الغفلة من جهة الله تعالى مجدد تنزيله بحسب المصلحة إلا وقد جددوا إعراضا عنه على وجه التكذيب. فَقَدْ كَذَّبُوا أي بلغوا النهاية في رد الذكر الذي يأتيهم ردا مقارنا للاستهزاء به حيث جعلوه تارة سحرا، وأخرى أساطير وأخرى شعرا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أي سيأتيهم مصداق استهزائهم من العقوبات العاجلة والآجلة أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أي أفعل كفار مكة الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها، ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا الداعية إلى الإيمان بالآيات كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) أي كثيرا من كل صنف مرضى في جماله، وفي فوائده أنبتنا في الأرض، إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة المنبت، وغاية وفور عمله وحكمته ونهاية سعة رحمته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) أي وما أكثر قومه صلّى الله عليه وسلّم مؤمنين أي مع ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم، وكان صلة عند سيبويه، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) أي إن ربك غالب على الأمور، ومع ذلك رحيم بعباده، ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات. وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أي واذكر يا أكرم الرسل لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام، وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه زجرا لهم عن التكذيب. قال أبو الحسن الأشعري: المسموع هو الكلام القديم، فكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات مع أنها مرئية في الآخرة من غير كيف ولا جهة، فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع. وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات لأنا حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت أنا نسمع الأجسام فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعا. أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) أي بالكفر والمعاصي واستعباد بني

[سورة الشعراء (26) : الآيات 11 إلى 20]

إسرائيل وذبح أبنائهم، وكان بنو إسرائيل في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا قَوْمَ فِرْعَوْنَ عطف بيان أَلا يَتَّقُونَ (11) . وهذا كلام مستأنف جيء به حملا لموسى على التعجب من حالهم في الظلم والعسف، ومن عدم خوفهم أي تعجب يا موسى من عدم تقواهم. وقرئ بكسر النون والأصل ألا يتقونني، فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة. وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات الدال على زيادة الغضب عليهم، أي قل لهم: ألا تخافون عقاب الله ف «ألا» للتنبيه وللعرض. قالَ أي موسى إظهارا لعجزه وطلبا للمعونة: رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) من أول الأمر وَيَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي بسبب ضيق القلب، وهذان الفعلان مرفوعان معطوفان على «أخاف» . وقرأ زيد بن علي، وطلحة، وعيسى، والأعمش بالنصب فيهما معطوفان على صلة «أن» و «الأعرج» بنصب الأول ورفع الثاني، فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) أي فأرسل جبريل إلى أخي هارون ليكون رسولا مصاحبا لي في دعوة فرعون وقومه: وكان هارون إذ ذاك بمصر وموسى في المناجاة في الطور وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة قتل القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) به قبل أداء الرسالة، كما ينبغي إن أتيتهم وحدي فيفوت المقصود من الرسالة. قالَ الله: كَلَّا أي ارتدع يا موسى عما تظن أو حقا لا أسلطهم عليك بالقتل، فَاذْهَبا أي اذهب أنت ومن طلبته- وهو هارون- بِآياتِنا الدالة على صدقكم، أي فإنها تدفع خوفكما إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) أي لكما ولعدوكما ناصر لكما عليه، وسامع لما يجري بينكما وبينه فأعلّيكما عليه، وأكسّر شوكته عنكماأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) إليك وإلى قومك وإفراد الرسول لاتحادهما بسبب الأخوة واتفاقهما على شريعة واحدة، أو لأن المعنى: إن كل واحد منا رسول رب العالمين. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) ، و «أن» مفسرة، أي أطلقهم وخلهم وشأنهم ليذهبوا معنا إلى الشام، فانطلقا إلى فرعون، وقالا له ما أمرا به، وروى وهب وغيره: أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود، يتفرج عليها، فخاف خدامها أن تبطش بموسى وهارون فأسرعوا إليها وأسرعت السباع إلى موسى وهارون، فأقبلت تلحس أقدامهما وتبصبص إليهما بأذنابها، وتلصق خدودها بفخذيهما، فعجب فرعون من ذلك فقال: ما أنتما؟ قالا: إنّا رسول رب العالمين فعرف هو موسى عليه السلام: قالَ عند ذلك لموسى عليه السلام أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا أي في منازلنا وَلِيداً أي صغيرا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) ثلاثين سنة، ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة، ثم بعد الغرق خمسين سنة. وقيل: مكث عليه الصلاة والسلام عند فرعون خمس عشرة سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وهي وكز القبطي حتى مات وَأَنْتَ مِنَ

[سورة الشعراء (26) : الآيات 21 إلى 30]

الْكافِرِينَ (19) أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية، وعدم اتخاذك عبدا لي كبني إسرائيل أو من الذين يكفرون في دينهم، فقد كانت لهم آلهة قالَ موسى: فَعَلْتُها أي تلك الفعلة إِذاً أي حين إذ كنت لابثا فيكم وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) أي الناسين عن معرفة ما يؤول إليه القتل، لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب. وقرئ من الجاهلين أي بأن ذلك الفعل يؤدي إلى القتل فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى ربي لَمَّا خِفْتُكُمْ أن تؤاخذوني بما لا أستحقه بجنايتي، لأني قتلت القتيل خطأ، وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافرا. وروي عن حمزة «لما خفتكم» بكسر اللام وب «ما» المصدرية، أي لتخوفي منكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي علما وفهما في الدين وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) بعد تلك الفعلة وَتِلْكَ أي التربية نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) ، ومحل «أن عبدت» رفع عطف بيان لتلك أو بدل من «نعمة» أي وتلك جعلك بني إسرائيل عبيدك وقصدك إياهم بذبح أبنائهم هو السبب في وقوعي عندك وإنفاقك علي مما أخذت من أموالهم، فلو لم يكن ذلك الظلم لكنت مستغنيا عن تربيتك، فلا نعمة لك علي بالتربية، ولا فضيلة لك في عدم استعبادي الذي مننت به علي، لأن استبعادك لغيري ظلم، كما أن عدم قتلك إياي لا يعد إنعاما، لأن قتلك غيري ظلم. وقال الزجاج: ويجوز أن يكون «أن عبدت» في محل نصب مفعولا لأجله والمعنى إنما صارت التربية نعمة علي لأجل أن عبدت بني إسرائيل فلو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي. قالَ فِرْعَوْنُ- لما سمع منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالة المتينة-: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) أي أيّ شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله؟ قالَ موسى مجيبا له بإبطال دعواه أنه إله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي خالق هذه الثلاثة، إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) باستناد هذه المحسوسات إلى موجود هو واجب الوجود، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته، فالسؤال عن الحقيقة سفه. قالَ أي فرعون: لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه كانوا خمسمائة لابسين للأساورة ولم يلبسها إلا السلاطين: أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) جوابه، فقد سألته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله؟! قالَ موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) ، جاء موسى عليه السلام بدليل يفهمونه لأنهم يعلمون أنهم قد كان لهم آباء فنوا، وأنهم كانوا بعد أن لم يكونوا، وأنهم لا بد لهم من مكون ومفن. قالَ فرعون لخاصته وعليهم أقبية الديباج، مخوصة بالذهب، وقد خاف من تأثرهم من جواب سيدنا موسى عليه السلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) لا يفهم السؤال لأني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن آخر، وأسند فرعون الرسول إلى من حوله تكبرا عن أن يكون مرسلا إلى نفسه، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء. قالَ موسى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما أي هو خالق موضع طلوع الشمس وغروبها ووقتهما وما بينهما فتشاهدون في كل يوم أنه يأتي الشمس من المشرق إلى المغرب على وجه نافع، تنتظم به أمور الكائنات وكل

[سورة الشعراء (26) : الآيات 31 إلى 40]

ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) أي إن كان لكم عقل، علمتم أن لا جواب فوق ذلك وأن الأمر كما قلته. قالَ فرعون لموسى عليه السلام لما عجز عن الحجج: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) أي لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادة اللعين أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فردا لا يبصر فيها ولا يسمع حتى يموت، فكان ذلك أشد من القتل ولذلك لم يقل تعالى: لأسجننك، لأنه لا يفيد إلا صيرورته مسجونا. وروي أن اللعين يفزع من موسى فزعا شديدا حتى كان لا يمسك بوله. قالَ موسى له: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك بأمر بيّن في باب الدلالة على وجود الله تعالى، وعلى أني رسوله أي وهل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بالمعجزات الدالة على صدق دعواي؟! قالَ فرعون له: فَأْتِ بِهِ أي بذلك الشيء إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) في دعوى الرسالة، وفي أن لك برهانا، وإنما أمره- عليه السلام- فرعون بالإتيان بالشيء الموضح لصدق دعواه عليه السلام، لظنه أنه يقدر على معارضته، ولطمعه في أن يجد موضعا للإنكار. فَأَلْقى عَصاهُ. قال ابن عباس: عصا موسى اسمها ماشا. وقيل: نبعة. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) أي حية عظيمة صفراء، ذكر تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات، وليس بتمويه كما يفعله السحرة: وَنَزَعَ يَدَهُ من إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) تضيء الوادي من شدة بيضاها من غير برص، لها شعاع كشعاع الشمس تعجب الناظرين إليها. قيل: لما رأى فرعون الآية الأولى قال هل لك غيرها فأخرج موسى يده فقال لفرعون ما هذه فقال فرعون: يدك. فما فيها فأدخلها في إبطه، ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار، ويسد الأفق، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر أمورا ثلاثة. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا الرسول لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) أي حاذق بالسحر، فإن الزمان كان زمن السحرة، وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج فرعون عليهم هذا القول، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ أي يريد هذا الرجل أن يخرجكم من مصر بما يلقيه بينكم من العداوات، فيفرق جمعكم، وهذا يجري مجرى التنفير عن موسى عليه السلام، فإن مفارقة الوطن أصعب الأمور، فنفرهم عنه بذلك فَماذا تَأْمُرُونَ (35) أي فأيّ شيء تأمرونني به في شأنه؟ فإني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم. ومثل هذا الكلام يوجب انصراف القلوب عن العدو، فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر مناظرتهما لوقت اجتماع السحرة. وقيل: احبسهما ولا تقتلهما لما روي أن فرعون أراد قتلهما، ولم يصل إليهما فقالوا له: لا تفعل فإنك إن قتلتهما أدخلت على الناس شبهة في الدين ولكن أخّر أمرهما إلى أن تجمع السحرة ليقاوموها، فلا تثبت لهما حجة عليك.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 41 إلى 50]

وقرأ قالون «ارجه» بغير همز، وباختلاس كسرة الهاء وورش والكسائي بإشباع كشرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة، وبصلة الهاء المضمومة. وأبو عمرو بضم الهاء مع الاختلاس وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء مع الاختلاس. وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) أي أنفذ إلى مدائن الساحرين شرطا يحشرهم وذلك لظنهم إذا كثر السحرة غلبوا موسى عليه السلام وكشفوا حاله. يَأْتُوكَ أي الحاشرون بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) أي فائق في فن السحر على موسى، فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) أي في زمان يوم معروف، وفي مكان معروف. وعن ابن عباس: وافق يوم السبت من أول يوم النيروز وهو أول سنتهم. وعن ابن عباس قال: كانت السحرة سبعين رجلا وسمى ابن إسحاق رؤساءهم: سابورا وغادور وخطخط ومصفى وشمعون. وعن ابن جرير كان اجتماعهم بالإسكندرية. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) . والاستفهام للحث على المبادرة إلى الاجتماع والتراجي للغلبة لا لاتباع السحرة، لأنه مقطوع به عندهم أي احضروا لتشاهدوا ما يكون من الجانبين، فإنا نرجو أن تكون الغلبة للسحرة، فنتبعهم لا نتبع موسى فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جزاء من المال والجاه إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) على موسى، فبذل فرعون لهم البذل والمنزلة. قالَ فرعون: نَعَمْ أي لكم الأجرة على عملكم السحر، وَإِنَّكُمْ إِذاً أي إذ كنتم غالبين لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) عندي في الدخول على تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج عني. وقرأ الكسائي «نعم» بكسر العين. قالَ لَهُمْ مُوسى مريدا لإبطال سحرهم، لأنه لا يمكن منه إلا بإلقائهم: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) . وهذا تهديد، أي إن فعلتم ذلك أتينا بما نبطله، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ اثنين وسبعين حبلا واثنتين وسبعين عصا وَقالُوا أي السحرة عند الإلقاء: نقسم بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) على موسى، فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) أي تبتلع بسرعة ما يغيرونه عن حاله الأول من الجمادية إلى كونه حية تسعى. روي عن ابن عباس كانت حبالهم مطلية بالزئبق، وعصيهم مجوفة مملوءة من الزئبق، فلما حميت اشتدت حركتها، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض، فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم، حتى أكلت الكل. ثم أخذ موسى عصاه، فإذا هي كما كانت، فلما رأت السحرة ذلك قالوا لفرعون: كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي، وكذلك إن غلبونا، ولكن هذا حق! فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) أي سقطوا على الأرض ساجدين عقب ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم، لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يد موسى عليه الصلاة والسلام، لتصديقه. قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) عطف بيان ل «رب»

[سورة الشعراء (26) : الآيات 51 إلى 60]

العالمين، لأن فرعون كان يدّعي الربوبية، فأرادوا عزله وإنما أسندوا الرب إلى موسى وهارون، لأنهما اللذان دعواهم إليه قالَ أي فرعون للسحرة: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي آمنتم لموسى بغير أن آذان لكم! إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي إن موسى علمكم شيئا دون شيء، فلذلك غلبكم، فإنكم فعلتم ذلك عن موافقة بينكم وبين موسى، وقصرتم في السحر لتظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل فعل موسى عليه السلام- وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله عليه السلام- فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وهو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) على شاطئ نهر مصر. وهذا تهديد شديد وليس في الإهلاك أقوى من ذلك، وليس في الآية أن فرعون فعل ذلك أو لم يفعل. قالُوا أي السحرة: لا ضَيْرَ أي لا ضرر في ذلك علينا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) ومقصودهم بالإيمان محض الوصول إلى مرضاته تعالى، والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) فإنا إلى ربنا، وإِنَّا نَطْمَعُ كلاهما تعليل لعدم الضير، وأَنْ كُنَّا تعليل لطمع غفران الخطايا، أي لا ضير علينا في قتلك إيانا لأنا نرجو أن يغفر لنا ربنا شركنا لكوننا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف من رعية فرعون. وقرئ «إن كنا» بالكسر على الشرط على طريقة قول المدل كقول العامل لمستأجر يؤخر أجرته: إن كنت عملت لك فوفني حقي. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ثلاثين سنة أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي من آمن بك من بني إسرائيل، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة. والباقون بسكون النون وقطع الهمزة. وقرئ «أن سر» ف «أن» حرف تفسير إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) تعليل للأمر بالإسراء، أي لأنه يتبعكم فرعون وجنوده فلا يدركوكم قبل وصولكم إلى البحر ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون: إن لنا في هذه الليلة عيدا، ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر. قال القرطبي: فخرج موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل سحرا فترك الطريق إلى الشام على يساره، وتوجه نحو البحر، فكان الرجل من بني إسرائيل يقول له في ترك الطريق، فيقول: هكذا أمرت. فلما أصبح فرعون وعلم بسري موسى ببني إسرائيل خرج في أثرهم، وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر وقوّى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم، ووصف قوم نفسه بصفة المدح، وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) أي شرطا جامعين للعساكر ليتبعوهم. قيل: كان له ألف مدينة واثنا عشر ألف قرية. وقال لهم: إِنَّ هؤُلاءِ أي بني إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) أي لطائفة قليلة، وكانوا ستمائة ألف مقاتل ليس فيهم من دون عشرين ولا من يبلغ ستين سوى الحشم، وفرعون يقللهم لكثرة من معه

[سورة الشعراء (26) : الآيات 61 إلى 70]

أو لإرادة ذلتهم. إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور، ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان، وعلى رأسه بيضة. وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. وروي أن فرعون خرج على حصان أدهم وفي عسكره على لون فرسه ثلاثمائة ألف، وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) أي لفاعلون أفعالا تضيق صدورنا حيث خالفوا ديننا وذهبوا بأموالنا التي استعاروها، وخرجوا من أرضنا بغير إذننا، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) أي لجماعة يستعملون الحزم في الأمور. وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء أي شاكون السلاح. وقرئ «حادرون» بالدال المهملة أي أقوياء أشداء. فَأَخْرَجْناهُمْ أي جعلنا في قلوب فرعون وقومه داعية الخروج مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتين من أسوان إلى رشيد، وَعُيُونٍ (57) أي أنهار جارية في البساتين والدور، وَكُنُوزٍ أي أموال. وسميت كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. قيل: كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام، على فرس عتيق، في عنق كل فرس طوق من ذهب وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) أي منازل حسنة قيل: كان فرعون إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء، وعليهم أقبية الديباج مرصعة بالذهب. كَذلِكَ وهو مصدر تشبيهي أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه، أو وصف لمقام أي وأخرجناهم من مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم أو خبر مبتدأ محذوف أي إخراجنا كما وصفنا. وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) أي جعلناهم متملكين لتلك النعم بعد هلاك فرعون وقومه. فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) أي فجعلوا أنفسهم تابعة لبني إسرائيل وقت طلوع الشمس. وقرئ «فاتبعوهم» أي فلحقوهم داخلين في وقت الشروق. فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي رأى كل واحد من جمع موسى وجمع فرعون الآخر. وقرئ «تراءت الفئتان» . قالَ أَصْحابُ مُوسى بنو إسرائيل وغيرهم إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) أي لملحقون. وقرئ «لمدّركون» بتشديد الدال وكسر الراء أي لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد. قالَ موسى لهم: كَلَّا أي ارتدعوا عن ذلك التوهم، أو حقا لن يدركونا، لأن الله وعدنا الخلاص منهم. إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة سَيَهْدِينِ (62) أي يدلني على طريق النجاة منهم ألبتة. روي أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه كان يدي موسى عليه السلام فقال: يا كليم الله أين أمرت؟ قال: هاهنا فحرك فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه، ثم أقحمه البحر، فارتسب في الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك، فلم يقدروا، فأوحى الله إليه بضرب البحر بعصاه، فإذا الرجل واقف على فرسه ولم يبتل سرجه وذلك قوله تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ أي انشق بقدرة الله تعالى فصار اثني عشر فرقا بعدد

[سورة الشعراء (26) : الآيات 71 إلى 80]

الأسباط بينهن مسالك. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ حاصل بالانفلاق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) أي كالجبل المرتفع في السماء فدخلوا في شعاب تلك الفرق، كل سبط في شعيب منها فقال كل سبط: قتل أصحابنا، فعند ذلك دعا موسى ربه، فجعل في تلك الجدارن المائية مناظر كالكوى، حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) أي قربنا في موضع انفلاق البحر قوم فرعون حتى دخلوا عقب قوم موسى مداخلهم. وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم، ويقول للقبط: رويدكم ليلحق آخركم أولكم. وقيل: وقربناهم إلى الموت لأنهم قربوا من أجلهم في ذلك الوقت. وقيل: المعنى: وحبسنا فرعون وقومه في الضبابة عند طلبهم موسى بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى. وقرئ و «أزلقنا» بالقاف أي أزللنا أقدامهم. والمعنى: أذهبنا عزهم، وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ من قومه وغيرهم أَجْمَعِينَ (65) بحفظ البحر على انفلاقه اثني عشر فرقا إلى أن عبروا إلى البر ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) بإطباق البحر عليهم لما تكامل دخولهم البحر. قيل: هذا البحر بحر القلزم وقيل: بحر إساف وهو بحر وراء مصر. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي حدث في البحر لَآيَةً أي عبرة عجيبة دالة على قدرته تعالى، وذلك أن الله تعالى أراد أن تكون الآية متعلقة بفعل موسى وإلا فضرب العصا ليس بفارق البحر، ولا معينا على ذلك بذاته بل بما اقترن به من اختراع الله تعالى وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) ف «كان» زائدة على رأي سيبويه، أي وما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قريش مؤمنين، لأنهم لا يتدبرون في حكايته صلّى الله عليه وسلّم لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد، ويجوز أن يجعل «كان» بمعنى صار، أي وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان، وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكرم الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) ، أي لهو القادر على إهلاك المكذبين إياك بعد مشاهدة هذه الآية العظيمة من طريق الوحي، وهو المبالغ في رحمة عباده ولذلك لا يعجل عقوبتهم بعدم إيمانهم مع كمال استحقاقهم لذلك. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي كفار مكة نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) والفعل معطوف على الفعل المقدر العامل في «إذ نادى» إلخ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ ليريهم أن ما يعبدونه ليس ممن يستحق العبادة في شيء ف «إذ» ظرف للنبأ. ما تَعْبُدُونَ (70) أي أيّ شيء تعبدونه؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) أي فنصير مديمين على عبادتها وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج بعبادة الأصنام. قالَ إبراهيم منبها على فساد مذهبهم: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أي هل يسمعون دعاءكم حين دعوتموهم وهل يجيبونه؟ وقرئ «هل يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم أي هل يسمعونكم جوابا عن دعائكم، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ في معايشكم بسبب عبادتكم لها أَوْ يَضُرُّونَ (73) في معايشكم بترككم لعبادتها إذ لا بد للعبادة من

[سورة الشعراء (26) : الآيات 81 إلى 90]

جلب نفع أو دفع ضر. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) أي فعند هذه الحجة القوية لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى قولهم: ما علمنا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا يعبدون مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد، وعلى وجوب الاستدلال. قالَ إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) أي أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه حق العلم، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أو لا؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77) فالاستثناء إما منقطع فالمعنى: فاعلموا أن معبودكم عدو لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فأعبده. أو متصل فالمعنى: فإن كل معبود عدو لي إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوي بل هو وليي ومعبودي، وصوّر سيدنا إبراهيم الأمر في نفسه تعريضا بهم فالمعنى إني تفكرت في أمري فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان فاجتنبتها. وأراهم سيدنا إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول وأبعث إلى الاستماع منه الَّذِي خَلَقَنِي من النطفة على هيئة التصوير، فَهُوَ يَهْدِينِ (78) إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) أي يرزقني بكل منافع الرزق وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وأكثر أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك. وَالَّذِي يُمِيتُنِي في الدنيا بقبض روحي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) يوم القيامة للمجازاة، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي بترك الأولى يَوْمَ الدِّينِ (82) أي الجزاء. روي أن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» . واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم ليكونوا على حذر، ثم ذكر الله تعالى مناجاة سيدنا إبراهيم بقوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي كمالا في العمل، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) أي الأنبياء المرسلين في درجات الجنة أي اجمع بيني وبينهم في الجنة، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) أي اجعل لي جاها وذكرا جميلا باقيا إلى يوم الدين، فإن من صار ممدوحا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل، فيكون له مثل أجورهم، أو اجعل من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى، وقد أجاب الله دعاءه فما من أمة إلا وهي تثني عليه، وجعله الله شجرة فرع الله منها الأنبياء، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) أي اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم، وهذا إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بكرمه تعالى وَاغْفِرْ لِأَبِي أي اهده إلى الإيمان إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) من طريق الحق وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) أي ولا تجعلني من الذليلين، ولا من المستحيين يوم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 91 إلى 100]

يبعث العباد من القبور فخزي كل واحد على حسب مقامه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين كما أن درجات الأبرار دركات المقربين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) فيوم بدل من يوم قبله وإلا من أتى مفعول لينفع أي لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه الخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء إلا أحدا سلم قلبه عن الكفر والأخلاق الرذيلة فينفعه ماله الذي أنفقه في الخير وولده الصالح بدعائه، وأما الذنوب فلا يسلم منها أحد وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) أي ويوم قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف، فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) أي ويوم جعلت النار ظاهرة للضالين عن طريق الإيمان والتقوى بحيث يرونها مع ما فيها فيتحرنون على أنهم المسوقون إليها. وَقِيلَ لَهُمْ على سبيل التوبيخ: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ أي أين آلهتهم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع عذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) أي أو ينفعون أنفسهم بامتناعهم من العذاب فإنهم وآلهتهم وقود النار، وهو قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) أي فألقي في الجحيم الأصنام والذين عبدوها، والذين أضلوهم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها، فيجتمعون في العذاب لاجتماعهم فيما يوجبه. قالُوا أي العابدون معترفين بخطئهم في انهماكهم في الضلالة، وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) أي والحال أنهم في الجحيم بصدد الاختصام مع من معهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) وهذا معمول ل «قالوا» ، وجملة «وهم فيها» إلخ في محل نصب على الحال «وإن» مخففة من الثقيلة قد حذف اسمها الذي هو ضمير الشأن، واللام فارقة بينها وبين النافية أي إن الشأن كنا في ضلال واضح لإخفاء فيه إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) ظرف لكونهم في ضلال مبين أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام برب العالمين الذي أنتم أذل مخلوقاته في استحقاق العبادة، وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) أي الذين دعونا إلى عبادة الأصنام من رؤسائنا وكبرائنا فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) كما نرى المؤمنين أن لهم شفعاء من الملائكة والنبيين، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) أي خالص مع موافقة الدين كما نرى أن المؤمنين أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون، وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض، وفي بعض الأخبار يجيء يوم القيامة عبد يحاسب فيستوي حسناته وسيئاته فيقول الله تعالى: عبدي بقيت لك حسنة إن كنت تريد أن أدخلك الجنة انظر واطلب من الناس لعل واحدا يهب منك حسنة واحدة، فيأتي العبد في الصفوف ويطلب من أبيه، ثم من أمه، ثم من أصحابه فلا يجيبه أحد وكل يقول له: أنا اليوم مفتقر إلى حسنة واحدة فيرجع إلى مكانه فيسأله الله تعالى ويقول: ماذا جئت به؟ فيقول: يا رب لم يعطني أحد حسنة واحدة من حسناته فيقول الله تعالى: يا عبدي ألم يكن لك صديق في فيذكر العبد ويقول فلان كان صديقا لي فيدله الله عليه فيأتيه فيكلمه

[سورة الشعراء (26) : الآيات 111 إلى 120]

في حاجته فيقول: بلى لي عبادات كثيرة اقبلها مني فقد وهبتها منك، فيجيء هذا العبد إلى موضعه ويخبر بذلك ربه فيقول الله تعالى: قد قبلتها منه ولم أنقص من حقه شيئا وقد غفرت لك وله. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي فليت لنا رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) منصوب في جواب التمني إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم المشتمل على بيان بطلان ما عليه أهل مكة من عبادة الأصنام لَآيَةً أي لعظة لمن أراد أن يعتبر وحجة لمن أراد أن يستبصر بها وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) أي وما أكثر هؤلاء الذين نتلو عليهم النبأ مؤمنين، بل هم مصرون على الكفر والضلال وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم بحكم رحمته الواسعة ليؤمن بعض منهم أو من ذرياتهم كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) بتكذيبهم نوحا فمن كذب واحدا من الرسل فقد كذب الكل، لأن الأخير جاء بما جاء به الأول من التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) الله حيث تعبدون غيره إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله تعالى أَمِينٌ (107) أي مشهور بالأمانة فيما بينكم فكيف تتهموني اليوم؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي وما أسألكم على هذا النصح أجرة إِنْ أَجْرِيَ أي ما ثوابي في دعائي لكم إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) . وقرأ نافع وأبو عمرو، وابن عامر وحفص بفتح الياء في «أجري» في المواضع الخمسة في هذه السورة. والباقون بالسكون. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) أي اتبعوا وصيتي، وكرر الأمر بالتقوى، لأن المعنى في الأزل ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله. وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذا منكم أجرة. فلا تكرار فيه لأن المعنى مختلف. قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) والواو للحال أي أنصدقك يا نوح لأجل قولك هذا؟ والحال أنه قد اتبعك فقراء الناس وضعفاؤهم من النسب قيل: هم من أهل الصناعات الخسيسة كالحجامة والحياكة. وقرأ يعقوب و «أتباعك الأرذلون» ! فهو مبتدأ وخبر والجملة حال والاتباع جمع تابع أو تبع كأشهاد وأبطال قالَ نوح: وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) وهذا جواب عما أشير إليه من قولهم: إنهم لم يؤمنوا عن نظر وإخلاص عمل وإنما آمنوا بالهوى والطمع في العزة والمال، وكان زائدة أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن بواطنهم ولم أكلف العلم بأعمالهم، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان فالاعتبار بالإيمان لا بالصنائع إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي ما محاسبة أعمالهم وبواطنهم إلا على ربي فإنه مطلع على السرائر لَوْ تَشْعُرُونَ (113) أي لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك فلم تقولوا ما قلتم. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) بأن لا أقبل الإيمان منهم للطمع في إيمانكم إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) أي ما أنا إلا مبعوث لإنذاركم بالبرهان الواضح ولزجر المكلفين عن الكفر والمعاصي سواء كانوا من الأعزاء أو من الأراذل وقد فعلت وليس علي

[سورة الشعراء (26) : الآيات 121 إلى 130]

استرضاء بعضكم بطرد الفقراء لأجل اتباع الأغنياء. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن مقالتك لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) أي من المقتولين كما قتلنا من آمن بك من الغرباء. وقال الكلبي ومقاتل: أي من المقتولين بالحجارة. وقال الضحاك: أي من المشتومين قالَ نوح عند حصول اليأس من فلاحهم شاكيا إلى الله تعالى: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) في الرسالة وقتلوا من آمن بي من الغرباء فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي احكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا، وافتح بابا من أبواب عدلك على مستحقيه بأن تنزل العقوبة بهم، وبابا من أبواب فضلك على مستحقيه وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) مما تعذب به الكافرين، وكان المؤمنين ثمانين أربعين من الرجال وأربعين من النساء فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) أي حال كونهم في السفينة الموقرة بالناس والحيوان والطير وبما لا بد لهم منه ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) أي أغرقنا بعد ركوب نوح والمؤمنين على السفينة والباقين على الأرض من قومه إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإنجاء والإهلاك لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) أي ما أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمنين، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) أي لهو القادر على تعجيل العقوبة لقومك، ولكنه يمهلهم لأنه رحيم ذو حكمة، كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) أي كذبت قوم هود هودا وسائر الرسل الذين ذكرهم هود، فعاد اسم قبيلة هود سميت باسم أبيها الأعلى، وكان من نسل سام بن نوح. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ- في النسب- نبيهم هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) الله، فتفعلون ما تفعلون؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) على الرسالة فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) فيما أمرتكم به من الإيمان والتوبة وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي الدعاء إلى التوحيد مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) ، وكان هود تاجرا جميل الصورة، يشبه آدم وعاش من العمر أربعمائة وأربعا وستين سنة أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) أي أتبنون بكل مكان مرتفع علامة تعبثون فيها بمن يمر بكم. وقيل: إنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخرا وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ أي حيضانا تجمعون فيها ماء المطر، فهي من نوع الصهاريج. وقيل: القصور لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) أي مؤملين أن تخلدوا في الدنيا لإنكاركم البعث فلعل للتجري وهو للتوبيخ، وقيل: للتعليل ويؤيده قراءة عبد الله «كي تخلدون» وقيل: معناها التشبيه ويؤيده ما في مصحف أبيّ «كأنكم تخلدون» وقرئ «كأنكم خالدون» . وقرئ بضم التاء مع تخفيف اللام وتشديدها وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) أي إذا أخذتم بالعقوبة على أحد بأن ضربتم أحدا بسوط أو قتلتم بالسيف فعلتم فعل الغاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب، ولا نظر في العاقبة. والحاصل أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو، وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل معصية فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأفعال وَأَطِيعُونِ (131) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) ، أي واخشوا الذي أعطاكم ما لا خفاء فيه عليكم من أنواع النعم

[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 150]

الحاصلة لكم، ثم بين هود عليه السلام ما أعطاهم الله تعالى فقال: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) فأنتم تنتفعون بذلك كله فلا تغفلوا عن تقييده بالشكر، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تقوموا بشكر هذه النعم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) في الدنيا والآخرة فإن كفران النعم مستتبع للعذاب. قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) فإنا لن نرجع عما نحن فيه لأجل وعظك إيانا إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الخاء واللام، أي ما هذا الذي جئنا به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يسطرونه أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة آبائنا الأولين يدينون به ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة والبلاء والعافية، ومن اعتقاد أن لا بعث ولا حساب، ولا جزاء إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها من قديم الدهر. وقرأ الباقون بفتح الخاء وسكون اللام، أي ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين، وما خلقنا هذا إلا خلق الأمم الماضية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) على ما نحن عليه من الأعمال كما تقول فَكَذَّبُوهُ في وعيده بالعذاب، فَأَهْلَكْناهُمْ بريح باردة شديدة الصوت إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي وما صار أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم من قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على ما يريده من انتقام المكذبين الرَّحِيمُ (140) أي المبالغ في الرحمة، ولذلك يمهلهم بعدم إيمانهم لحكمة يعلمها كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) أي كذبت جماعة صالح صالحا. فثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح، وعاش صالح من العمر مائتين وثمانين سنة وبينه وبين هود مائة سنة، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في نسب نبيهم صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (143) في جميع ما أرسلت به إليكم منه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) أي اتبعوا ديني وأمري، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما جئتكم به مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) وليعلم كافة الناس أن من عمل لله لا ينبغي أن يطلب من غير الله، وينبغي للعلماء أن يتأدبوا بآداب الأنبياء فلا يطلبوا من الناس شيئا في بث علومهم، ولا ينتفعوا منهم بالتذكير لهم، ومن انتفع من المستمعين من الدين فلا بركة فيما يأخذ منهم. أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) أي أتظنون أنكم تتركون في الدنيا آمنين من العذاب، وأنه لا دار للمجازاة أي لا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتقلبون في النعم التي في دياركم آمنين من الزوال والعذاب فلا تطمعوا في ذلك، ثم فسر المكان بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) أي لطيف لين والطلع ثمر النخل في أول ما يطلع وبعده يسمى خلالا، ثم بلحا، ثم بسرا، ثم رطبا، ثم تمرا. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) . وقرأ ابن عامر والكوفيون بألف بعد الفاء أي ماهرين في العمل ويعملون بنشاط وطيب

[سورة الشعراء (26) : الآيات 151 إلى 160]

قلب. وقرأ الباقون بغير ألف أي متكبرين لا للحاجة، فالغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية، وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة. وأما الغالب على قوم هود فهو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والتجبر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) في كل ما أمرتكم به وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) أي المستكثرين من لذات الدنيا وشهواتها بل اكتفوا واقتصروا منها بقدر الكفاف، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) . وهذا بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح، فإن حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) أي ممن يأكلون الطعام، ويشربون الشراب كما قال الفراء المسحر من له جوف، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فكيف تكون نبيا فَأْتِ بِآيَةٍ أي بعلامة تدل على صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) في دعواك أنك رسول إلينا! فقال لهم صالح: ما تريدون؟ قالوا: نريد ناقة عشراء من هذه الصخرة فتلد سقبا فأخذ صالح يتفكر. فقال له جبريل: صل ركعتين وسل ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة، وبركت بين أيديهم ونتجت سبقا مثلها في العظم. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه رأيت مبركها فإذا هو ستون ذراعا في ستين ذراعا، قالَ لهم صالح: هذِهِ ناقَةٌ دالة على نبوتي أخرجها ربي من الصخرة كما اقترحتم لَها شِرْبٌ أي نصيب من الماء تشرب منه يوما وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) أي ولكم نصيب من الماء تشربون منه يوما ولا تزاحموا على شربها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب وعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها. روي أن مصدعا ألجأها إلى مضيق، فرماها بسهم، فسقطت، ثم ضربها قدار بالسيف في ساقيها. قال مقاتل وغيره: فخرج في أبدانها خراج مثل الحمص فكان في اليوم الأول أحمر، ثم صار في الغد أصفر، ثم صار في الثالث أسود، وكان عقر الناقة يوم الأربعاء وهلاكهم يوم الأحد، انفقعت فيه تلك الخراجات، وصاح عليهم جبريل صيحة فماتوا بالأمرين، وكان ذلك ضحوة فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) أي فصاروا نادمين على قتلها ندم الخائفين من العذاب العاجل، أو ندم التائبين عند معاينة العذاب فلم ينفعهم الندم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود على عقرها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في أخذهم بالعذاب لَآيَةً أي لعبرة لمن بعدهم. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا القصة من قريش مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) حيث لا يعالجهم بالعذاب كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) فمن كذب رسولا فقد كذب الكل، إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في البلد لا في النسب نبيهم لُوطٌ فإن لوطا ابن أخي إبراهيم، وهما من بلاد المشرق من أرض بابل فلوط كان مجاورا لهم في قريتهم، أَلا تَتَّقُونَ (161) عبادة غير الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (162) على الرسالة فَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به وَأَطِيعُونِ (163) أي اتبعوا أمري وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي الدعاء إلى الله تعالى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أي جامع الخلق ومربيهم، أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) أي أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كون النساء

[سورة الشعراء (26) : الآيات 171 إلى 180]

أليق بالاستمتاع، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي وتتركون إناثا أباحها لكم ربكم هي أزواجكم لأجل استمتاعكم، أو وتتركون فروجا أحل لكم ربكم حال كونها بعض أزواجكم، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) أي متجاوزون الحد في جميع المعاصي بإتيانكم هذه الفاحشة، أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الحيوانات. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن تقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) أي من جملة من أخرجناه من بلدنا سذوم. قالَ لوط: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) أي إني لعملكم الخبيث لمبغض من المبغضين غاية البغض فلا أقف عن الإنكار عليه بالإبعاد عنكم، ثم توجه لوط إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) أي من شؤم عملهم فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بنتيه وامرأته المؤمنة ومن اتبعه في الدين أَجْمَعِينَ (170) مما عذبناهم به بإخراجهم من بينهم عند قرب حلول العذاب بهم إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط المنافقة فِي الْغابِرِينَ (171) أي إلا عجوزا مقدار كونها من الباقين في العذاب، لأنها كانت راضية بفعل القوم وقد أصابها الحجر في الطريق ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) أي أهلكنا المتأخر عن اتباع لوط بقلب قراهم عليهم وجعل أعلاها سافلها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على من كان منهم خارج القرى لسفر أو غيره مَطَراً غير معتاد حجارة من السماء فأهلكتهم، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) أي فبئس مطر جنس المنذرين مطر قوم لوط بالحجارة، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما فعلنا بهم لَآيَةً أي دلالة على عزة الله وعظمته وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر من تلوث عليهم القصة مُؤْمِنِينَ (174) فإن أكثر الخلق لئام وكرامهم قليلون كما قال الشاعر: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها أن الكرام قليل وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) فلا يهتدي إلى عديم النظير الأذلاء ويهتدي إليه برحمته الفائضة من كانت همته عالية كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) ، أي كذب أصحاب شجر ملتف بقرب مدين شعيبا، وجملة المرسلين. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر في هذه السورة وفي «ص» خاصة: «ليكة» بلام واحدة وفتح التاء وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث واللام جزء الكلمة، وهو اسم البلدة لأصحاب الحجر. وقال أبو عبيدة: إن ليكة اسم للقرية التي كانوا عليها والأيكة اسم للبلاد كلها إِذْ قالَ لَهُمْ نبيهم شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) الله الذي تفضل عليكم بنعمه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من عند الله فهو أمرني أن أقول لكم ذلك. أَمِينٌ (178) لا خيانة عندي فَاتَّقُوا اللَّهَ المحسن إليكم بهذه الغيضة وغيرها وَأَطِيعُونِ (179) لما ثبت من نصحي لكم وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على دعائي لكم إلى الإيمان بالله تعالى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أي المحسن إلى الخلائق كلهم، فإني لا أرجو أحدا سواه. أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه إذا كلتم للناس كما توفونه إذا أخذتم منهم وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) أي الناقصين لحقوق الناس. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) أي بالميزان العدل.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 191 إلى 200]

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف. والباقون بالضم وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوا شيئا من حقوق الناس في كيل ووزن أو غير ذلك وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) ولا تعملوا المعاصي في الأرض بقطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع والدعاء إلى غير عبادة الله، فإنهم كانوا يفعلون ذلك. وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) أي الخلائق الماضين الذين كانوا على خلقة عظيمة وطبيعة غليظة، كقوم هود وقوم لوط. وقرأ العامة الجبلة على كسر الجيم والباء وتشديد اللام وأبو حصين والأعمش والحسن بضمها وتشديد اللام، والسلمي بفتح الجيم أو كسرها مع سكون الباء. قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) أي المجوفين مثلنا لست بملك وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكل وتشرب كما نفعل، فلا وجه لتخصيصك بالرسالة وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) ف «إن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف أي وأنا نظنك لمن الكاذبين في دعواك أنك رسول من الله ثم إن شعيبا كان هددهم بالعذاب أن استمروا على التكذيب فقالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي فأسقط علينا قطعا من السحاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) في دعواك. وقرأ حفص بفتح السين. والباقون وإنما طلبوا ذلك لتصميمهم على التكذيب واستبعادهم وقوعه فعند ذلك فوض شعيب عليه السلام أمرهم إلى الله تعالى ف قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) وبما تستحقون بسببه من العذاب. فَكَذَّبُوهُ أي أصروا على تكذيبه بالرسالة فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وفي إضافة العذاب إلى يوم دون الظلة إعلام بأن لهم يومئذ عذابا آخر غير عذاب السحاب كما روي أن الله تعالى فتح عليه بابا من أبواب جهنم وأرسل عليهم هدة وحرا شديدا مع سكون الريح سبعة أيام بلياليها فأخذ بأنفاسهم فدخلوا بيوتهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فخرجوا هرابا، فأرسل الله تعالى سحابة فأظلتهم فوجدوا لها بردا وروحا وريحا طيبة، فنادى بعضهم بعضا فلما اجتمعوا تحت السحابة ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي فصاروا رمادا، إِنَّهُ أي ذلك العذاب كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) في الشدة والهول. قال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أمتين أصحاب الأيكة، وأهل مدين فأهلكت أصحاب الأيكة بالظلة وأهل مدين بصيحة جبريل عليه السلام، إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما فعلنا بهم لَآيَةً أي دلالة واضحة على صدق الرسل، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ أي أكثر قومك مُؤْمِنِينَ (190) مع أنك قد أتيت قومك بما لا يكون معه شك لو لم يكن لهم معرفة بك قبل ذلك، فكيف وهم عارفون بأنك كنت قبل الرسالة أصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة وأغزرهم عقلا، وأبعدهم عن كل ذي دنس؟! وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) بالإمهال. وهذا آخر القصص السبع التي ذكرها الله تعالى تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتهديدا للمكذبين له

وكل قصة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول، قد أتاهم من الله تعالى، وما كان أكثرهم مؤمنين بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة بأن لا يعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان، والزواجر عن الكفر والطغيان وبأن لا يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع شيئا منها من أحد أصلا، وصاروا كأنهم لم يسمعوا شيئا يزجرهم عن الكفر والضلال واستمروا على ذلك وَإِنَّهُ أي القرآن الذي من جملته هذه القصص لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) أي منزل من خالق المخلوقين فليس بشعر ولا أساطير الأولين، ولا غير ذلك مما قالوه فيه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) . قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص بتخفيف «الزاي» ، ورفع «الروح» . والباقون بتشديد «الزاي» ونصب «الروح» ، وذكر الله تعالى دليل التنزيل بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ إلخ، فالروح: هو جبريل عليه السلام سمي بالروح، لأنه به نجاة الخلق في باب الدين، فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة. وبالأمين، لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام، عَلى قَلْبِكَ أي جعل الله تعالى جبريل نازلا بالقرآن على قدر حفظك أي فهمك القرآن وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى. وهذا تنبيه على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى أن الإخبار عن هذه القصص ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) أي أنزل الله تعالى بالقرآن لتنذرهم بما فيه من العقوبات الهائلة، وكان إنزاله بلغة عربية واضحة المعنى لئلا يبقى لهم عذر ما له منه مناص لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا له صلّى الله عليه وسلّم: ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وقوله: لِتَكُونَ متعلق بنزل. وكذا قوله: بِلِسانٍ ويجوز أن يكون بدلا من به، وأما جعله متعلقا بالمنذرين فيفيد أن غاية الإنزال كونه لله من جملة المنذرين باللغة العربية فقط. وهذا لا ينبغي فإن سبب كونه صلّى الله عليه وسلّم من جملة المنذرين مجرد إنزال القرآن عليه صلّى الله عليه وسلّم لا إنزاله بخصوص اللسان العربي والذين أنذروا باللسان العربي خمسة فقط محمد وإسماعيل، وهود، وصالح، وشعيب عليهم الصلاة والسلام وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أي وإن معنى القرآن وصفته لفي الكتب المتقدمة، فإن الله تعالى أخبر في كتب الأولين عن القرآن وإنزاله في آخر الزمان والله تعالى بين أصول معانيه في كتبهم أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) ، أي أغفل أهل مكة عن القرآن ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزل من رب العالمين، وأنه في زبر الأولين أن يعرفه علماء بني إسرائيل بنعوته المذكورة في كتبهم، ويعرفوا من أنزل عليه، وكانوا خمسة: أسد، وأسد، وابن يامين، وثعلبة، وعبد الله بن سلام فهؤلاء الخمسة من علماء اليهود وقد حسن إسلامهم. قال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود بالمدينة فسألوهم عن محمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن هذا لزمانه وإنا لنجد نعته في التوراة، فكان ذلك آية على صدقه صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 201 إلى 210]

وقرأ ابن عامر «تكن» بالتأنيث ورفع «آية» على أنه اسمها، ولهم خبرها وأن يعلمه بدل من اسمها، أو على أنه فاعل لها ولهم حال «وأن يعلمه» بدل من الفاعل، ولا يجوز أن يكون «آية» اسمها «وأن يعلمه» خبرها، لأنه يلزم عليه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة. والباقون «يكن» بالتذكير ونصب آية على أنه خبرها «وأن يعلمه» اسمها وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) أي ولو نزلنا القرآن كما هو على رجل أعجمي فقرأه على أهل مكة قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانوا مؤمنين به مع أن الأعجمي لا يتهم باكتسابه أصلا لفقد الفصاحة فيه ولا باختراعه لكونه ليس بلغته لفرط عنادهم، وشدة شكيمتهم في المكابرة كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) ، أي مثل ذلك الإدخال أدخلنا القرآن في قلوب كفار مكة ففهموا معانيه، وعرفوا فصاحته من حيث النظم المعجز زمن حيث الإخبار عن الغيب وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتب المنزّلة قبله على البشارة بإنزاله وبعثة من أنزل عليه بأوصافه وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الإنكار لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) الملجئ للإيمان به، فيؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) بإتيان العذاب فَيَقُولُوا تأسفا على ما فات من الإيمان هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) وهو استفهام طمع في المحال وهو إمهالهم بعد مجيء العذاب، وهم في الآخرة يعلمون أن لا ملجأ لهم لكنهم يذكرون ذلك استرواحا أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم، فيستعجلون بعذابنا في الدنيا بقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك. أَفَرَأَيْتَ أي أخبرني أيها المخاطب إِنْ مَتَّعْناهُمْ في الدنيا بطول الأعمار وطيب المعاش سِنِينَ (205) متطاولة ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) من العذاب، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) أي أيّ شيء أفادهم كونهم متمتعين ذلك التمتيع المديد من دفع العذاب. وقرئ «يتمتعون» بسكون الميم وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكة إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) أي رسل قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة ذِكْرى أي لأجل تذكيرهم العواقب، وهو منصوب على أنه مفعول لأجله أو مفعول مطلق منصوب ب «منذرون» لأن التذكرة في معنى الإنذار، أو منصوب بفعل مقدر هو صفة ل «منذرون» أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى. ويجوز أن يكون «ذكرى» مفعولا له علة ل «أهلكنا» . والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم عبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم. وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) فنهلك قوما غير ظالمين وقبل الإنذار وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) . وهذا رد لقول الكفار لم لا يجوز أن يكون هذا القرآن من إلقاء الجن والشياطين إلى محمد على لسانه كسائر ما ينزل على الكهنة من أخبار السماء. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما

يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) أي أن الشياطين لممنوعون عن الاستماع للوحي كيف لا: ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلا من فنون الشرور. قال بعضهم: وهذا إشارة إلى أنه ليس للشياطين استعداد تنزيل القرآن ولا قوة حمله، وسمع فهمه، لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمنين عليها، وتقول: جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي فإذا لم يكن لهم استطاعة على حمل القرآن، ولا قوة على سمعه كيف يمكن لهم تنزيله؟ وإن وجد فيهم السمع الذي هو الإدراك لأنهم حرموا الفهم المؤدي للاستجابة لما دعوا إليه فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي فلا تعبد مع الله إلها غيره فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) . قال بعضهم: وهذا يشير إلى أن طلب غير الله من الدنيا والآخرة بتوجه القلب إليه أمارة عذاب الله وهو البعد من الله، فمن يكون أبعد من الله يكون عذابه أشد فكل طالب شيء يكون قريبا إليه بعيدا عما سواه. فطالب الدنيا قريب من الدنيا، بعيد عن الآخرة. وطالب الآخرة قريب من الآخرة بعيد عن الدنيا. ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» . فالأبرار أهل الجنة، وحسناتهم طلب الجنة والمقربون أهل الله وحسناتهم طلب الله وحده بلا شريك له وهذا الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم. والمقصود غيره كما هو شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد الخطاب لأحد وجهه إلى الرؤساء في الظاهر، ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك، فلهذا أفرده صلّى الله عليه وسلّم بالمخاطبة بقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) الأقرب منهم فالأقرب. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا بني عبد المطلب يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا» ، ثم قال: «يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمرو، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا» «1» . وروى محمد بن إسحاق عن علي رضي الله عنه أنه قال. لما نوزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية دعاني فقال: «يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لي صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع بني المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به» . ففعلت ما أمرني، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلا فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب. فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئت له، فلما وضعته تناول صلّى الله عليه وسلّم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: «كلوا باسم الله» ، فأكل القوم حتى شبعوا، ثم قال: «اسق القوم» . فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا فلما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال:

_ (1) رواه ابن حجر في فتح الباري (7: 416) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4789) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (14: 31) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 100) .

[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 227]

سحركم محمد صاحبكم! فتفرق القوم، فقال: «يا علي، إن هذا الرجل قد سبق إلى ما سمعت من القول» فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت، ففعلت، ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقدمته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا بني عبد المطلب، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيّكم يوازرني على أمري ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟» فأحجم القوم جميعا عن ذلك الكلام، فقلت: يا رسول الله أنا أكون وزيرك عليه قال: «علي» فأخذ صلّى الله عليه وسلّم برقبتي ثم قال: «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا» «1» . فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع. وروى أبو يعلى عن الزبير بن العوام أن قريشا جاءته فأنذرهم، فسألوه آيات سليمان في الريح وداود في الجبال وعيسى في إحياء الموتى ونحو ذلك. وأن يسير الجبال ويفجر الأنهار، ويجعل الصخرة ذهبا. فأوحى الله تعالى إليه وهم عنده أخبرهم بأن أعطي ما سألوه ولكن إن أراهم كفروا عوجلوا، فاختار صلّى الله عليه وسلّم الصبر عليهم ليدخلهم الله باب الرحمة. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) أي لين جانبك لهم و «من» للتبيين، لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو قرابة أو نسب فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) ولا تبرأ منهم وقل لهم، قولا بالنصح، لعلهم يرجعون إلى قبول الدعوة منك. والمعنى: فبعد إنذار عشيرتك فتواضع لمن آمن منهم، وتبرأ من عمل من خالفك منهم وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) أي فوّض أمرك إلى الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته. وقرأ نافع وابن عامر «فتوكل» بالفاء على الإبدال من جواب الشرط. والباقون بالواو على العطف على أنذر الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) من نوم أو غيره إلى الصلاة منفردا وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) أي ويرى تصرفك في الصلاة بالقيام والركوع والسجود، والقعود مع المصلين جماعة إذ كنت إماما لهم. ويقال: ويراك منتقلا في أصلاب المؤمنين، وأرحام المؤمنات، من لدن آدم وحواء إلى عبد الله وآمنة، فجميع أصول سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم رجالا ونساء مؤمنون، فلا يدخلهم الشرك ما دام النور المحمدي في الذكر وفي الأنثى. فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد غير الله، وآزر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم. وأما قبل انتقاله فلم يعبد غير الله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) فيسمع ما تقوله، ويعلم ما تنويه وتعمله. هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) ؟ أي أهل أخبركم يا كفار مكة على من تنزل الشياطين؟ أي لمّا قال الكفار. لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة،

_ (1) رواه النّسائي في كتاب الحج، باب: إنشاد الشعر في الحرم والمشي بين يدي الإمام.

وبالشعر على الشعراء؟ فرق الله تعالى بين محمد صلّى الله عليه وسلّم وبين الكهنة والشعراء فقال: تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) أي تنزل الشياطين على كل من اتصف بالكذب الكثير والإثم الكبير وهو مسيلمة الكذاب، وسطيح، وطليحة. يُلْقُونَ السَّمْعَ، وهذه الجملة إما حال من فاعل «تنزل» المستتر أي يصغي الشياطين سمعهم إلى الملائكة ليسترقوا شيئا، ويلقون الشيء المسموع إلى الكهنة. وإما صفة لكل أفاك أثيم أي يصغي الكهنة سمعهم إلى الشياطين، أو يلقون ما سمعوه منهم إلى عوام الخلق وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) فالشياطين يسمعون الكهنة ما لم يسمعوا من الملائكة، كما جاء في الحديث: «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة، والكهنة يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم» . وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أي الراوون الذين يروون هجاء المسلمين، أي وشعراء الكفار يتكلمون بالكذب منهم عبد الله بن الزبعري، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة عمرو بن عبد الله، وأمية بن أبي الصلت. وقالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد. وقالوا شعرا، واجتمع إليهم سفهاء قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ويرون عنهم قولهم. وقرأ نافع بسكون التاء وفتح الباء الموحدة. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) ؟ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الشعراء يسيرون في طرق مختلفة سير الحائرين من طرق القيل والقال؟ فإنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، لأنهم لا يطلبون بشعرهم الصدق وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) فإنهم يمدحون الجود ويحثون عليه ولا يفعلونه، ويذمون البخل ويصرون عليه، ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم، ثم أنهم لا يفعلون الفواحش وذلك يدل على الضلالة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً فلم يشغلهم الشعر عن ذكر الله، ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى، والحث على طاعته، وفي الحكمة والموعظة والزهد في الدنيا، والزجر عن الاغترار بزخارفها. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي فلا يذكرون هجو أحد إلا من يهجوهم من الكفار وذلك رد على هجو الكفار لرسول الله وأصحابه كما قال صلّى الله عليه وسلّم يوم قريظة لحسان: «اهج المشركين فإن جبريل معك» «1» وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا نبي الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله مضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهب الخليل عن خليله فقال له عمر: يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي حرم الله تقول شعرا! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (33251) . [.....]

«خل عنه يا عمر فهي أسرع فيهم من نضح النبل» «1» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اهجوا قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل» «2» . وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من الشعر لحكمة» «3» . وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر، وكان عثمان يقول الشعر، وكان علي أشعر من الثلاثة. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) أي سيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك وهجوا رسول الله وأصحابه، وبالإعراض عن تدبر هذه الآيات أنهم ينقلبون كمال انقلاب، لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العذاب، وهو أشر مرجع، فالمنقلب: هو الانتقال إلى ضد ما هو. فيه والمرجع هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا وليس كل منقلب مرجعا. وقرئ «أيّ منفلت ينفلتون» ، أي وسيعلم الظالمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات فإنهم يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى، و «أي» منصوب ب «ينقلبون» ولا يجوز أن يكون منصوبا بسيعلم، لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، لأن الاستفهام معنى، و «ما» معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب: ما جاء في الشعر، وأحمد في (م 1/ ص 269) . (2) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (125) . (3) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 301) ، والعجلوني في كشف الخفاء (1: 16) .

سورة النمل

سورة النمل مكية، وهي أربع وتسعون آية، ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون حرفا طس أي هذا مسمى بطس تِلْكَ أي تلك السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) ، أي مظهر للحكم والأحكام وأحوال الآخرة. وقرأ ابن أبي عبلة برفع «كتاب مبين» . هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) ، هما حالان من آيات، أي هادية إلى الله ومبشرة بالوصول إلى الله بهدايته للمصدقين بتلك الآيات أو بدلان منها، أو خبران آخران لتلك كما قال تعالى: «ألا من طلبني وجدني من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان» . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يأتون بالصلوات الخمس بشروطها ووضعها في حقها. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطونها بشرائطها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) أي هؤلاء هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم، لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ بأن خلقنا في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه بما فيها من المضار والآفات، فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أي ينهمكون فيها أُوْلئِكَ أي الموصوفون بعدم الإيمان بما في الآخرة وبالعمد في الأعمال الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وهو عمي القلوب وصممه وبكمه، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب، ولأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق من الله يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركهما وعدم الالتفات إليهما في طلب المولى، فربحوا المولى. فلهذا لمّا وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبّله وقال هذا رأس صوفي. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) ، أي وإنك يا أشرف الخلق لتؤتى القرآن من عند ذات مصيب في أفعاله لا يفعل شيئا إلا على وفق علمه. عليم بكل شيء سواء كان ذلك العلم مؤديا إلى العمل أو لا. وقال بعضهم: أي إنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل، والرسالات

[سورة النمل (27) : الآيات 11 إلى 20]

من لفظه وحيا وإنك تلقى حقائق القرآن من عند الله تعالى، وإن كنت تلقى القرآن بتنزيل جبريل على قلبك، فالله تعالى علمك حقائق القرآن بأن جعلك بحكمته مستعدا لقبول فيض القرآن بلا واسطة. وهو أعلم حيث يجعل رسالته إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ أي زوجته بنت شعيب حيث تحيّر في الطريق عند مسيره من مدين إلى مصر إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ يعرف به الطريق أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ. وقرأ الكوفيون بتنوين شهاب، فالقبس بدل منه أو صفة له، أي بشعلة نار مأخوذة من أصلها. والباقون بالإضافة أي بشهاب من قبس لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) أي لكي تدفئوا بها فَلَمَّا جاءَها أي تلك التي ظنها موسى نارا نُودِيَ من قبل الله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار- وهي البقعة المباركة- ومن حول مكانها، ويدل عليه قراءة أبيّ «تباركت الأرض ومن حولها» . وعنه أيضا «بوركت النار» . وقيل: المراد بمن في النار هو موسى عليه السلام لقربه منها، ومن حولها الملائكة، أي نودي ببركة من النار أي بتطهيره مما يشغل قلبه من غير الله، وتخليصه للنبوة والرسالة أي ناداه الله تعالى بأنا قدّسناك واخترناك للرسالة، وهذه تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له. وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) وهو من كلام الله مع موسى نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام وإعلاما بأن ذلك الأمر مكونه رب العالمين، ولدفع ما قد يتوهمه موسى بحسب الطبع البشري الجاري على العادة الخلقية من أن الله المتكلم به في مكان أو في جهة. ومن أن الكلام الذي يسمعه موسى في ذلك المكان بحرف وصوت حادث ككلام الخلق، وقد علم موسى عليه السلام أن النداء من الله لما دل على ذلك من أن النار كانت مشتعلة على شجرة خضراء لم تحترق. يا مُوسى إِنَّهُ أي إن مكلمك أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) أي أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حية، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة و «أنّا» خبر «إنّ» و «الله» بيان له و «العزيز الحكيم» صفتان «لله» ، ممهدتان لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه السلام من المعجزات وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على «بورك» ، فكلاهما تفسير ل «نودي» ، فألقاها فانقلبت حية كبيرة جدا تسعى، فأبصرها متحركة بسرعة واضطرب، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ أي تضطرب في تحركها كَأَنَّها أي العصا جَانٌّ أي حية صغيرة في سرعة الحركة وَلَّى مُدْبِراً أي هرب موسى منها مدبرا وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يلتفت إليها من خوفها لظنه أن ذلك لأمر أريد به ولذلك قال تعالى: يا مُوسى لا تَخَفْ منها إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) في حالة الإيحاء والإرسال، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) أي لكن من ظلم، ثم عمل حسنا بعد سوء، فإني غفور رحيم وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي. وجعل الأخفش والفراء وأبو عبيدة «إلا» حرف عطف بمنزلة الواو، وفي التشريك في اللفظ. والمعنى: وقرئ «ألا من ظلم»

بحرف التنبيه، و «من» شرطية وجوابها «فإني غفور رحيم» . وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي في إبطك- وكان له عليه السلام مدرعة صوف لا كم لها- تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها إشراق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي آفة فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وقوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير «تخرج» ، أي حال كون اليد مندرجة في جملة تسع آيات. وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل أدخل أي حال كونك مرسلا بها إلى فرعون والظاهر أن قوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل ألق وأدخل وإن قوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال من مفعولهما، أي ألق وأدخل، أي حال كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع، فإن الآيات إحدى عشرة: العصا واليد والفلق، والطوفان والجراد، والقمل والضفادع، والدم والطمسة، والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وحال كونك مبعوثا إلى فرعون والقبط. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) أي خارجين من ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا على يد موسى عليه السلام مُبْصِرَةً كل من ينظر إليها ويتأمل فيها، هادية إلى الطريق الأقوم. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم، والصاد أي مكانا يكثر فيه التبصر. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) أي هذا الذي أتى به موسى خيال لا حقيقة له، واضح في أنه خيال وَجَحَدُوا بِها أي كذبوا بتلك الآيات بألسنتهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي وقد علمتها قلوبهم علما يقينا أنها حق. ظُلْماً وَعُلُوًّا حال أخرى من الواو في جحدوا، أو علة للجحد، أي ظالمين للآيات حيث سموها سحرا وحطوها في رتبتها الرفيعة، ومترفعين عن الإيمان بها أو جحدوا بها للظلم للآيات وللتكبر عنها. وقرئ «عليا» ، و «عليا» بالضم والكسر كما قرئ «عتيا» فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) من إغراقهم في البحر على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي أعطينا كل واحد منهما جزءا من العلم لائقا به من علم الحكم والسياسة ومختصا به كعلم داود صنعة لبوس، وتسبيح الجبال، والطير، وعلم سليمان سائر نطق الطير والدواب. وَقالا شكرا لما أعطيناه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما أعطانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) ممن لم يؤت علما مثل علمنا. وفي هذا دليل على فضل العلم وشرف أهله، وتحريض للعالم بأن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من العلم، ويعتقد أنه قد فضل عليه كثير وإن فضل على كثير فلا يفتخر ولا يتكبر وإن يشكر الله تعالى في أنه ينفع بعلمه المسلمين، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ملكه بأن قام مقامه فيه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابنا، وزيد له تسخير الريح والشياطين. وداود أشد تعبدا من سليمان. وروي أن سليمان أعطي هذا الملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، أما داود فقد عاش مائة سنة. وَقالَ سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله تعالى وللتنويه بها.

يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وهذه النون يقال لها: نون الواحد المطاع، وكان سليمان عليه السلام ملكا مطاعا لا يتكبر، وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح، فيصير ذلك التعظيم واجبا. روي عن كعب الأبار رضي الله عنه أن سليمان عليه السلام أخبر عن منطق جملة من الطيور: الورشانة: تقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. والفاختة: تقول: ليت ذا الخلق لم يخلق. والطاوس: يقول: كما تدين تدان. والهدهد: يقول: من لا يرحم لا يرحم. والصرد: يقول: استغفروا الله يا مذنبين وهو الذي دل آدم على مكان البيت، ومن ثمّ نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتله. والطيطوي: يقول: كل حي ميت وكل جديد بال. والخطاف: يقول: قدموا خيرا تجدوه وهو الذي آنس الله آدم به بعد خروجه من الجنة فهي لا تفارق بني آدم أنسألهم. والحمام: يقول: سبحان ربي الأعلى. والغراب: يدعو على العشار فكان يقول: اللهم العن العشار. والحدأة: تقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاط: تقول: من سكت سلم. والبغبغان: وهي الدرة تقول: ويل لمن الدنيا همه. والقمري: يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن. والباز: يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده. والعقاب: يقول: في البعد عن الناس أنس. والديك: يقول: ذكروا الله يا غافلين. والنسر: يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي أعطينا شيئا كثيرا. وكان له عليه السلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منصته في في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وحولهم الوحش، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء

والأرض: إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود إِنَّ هذا أي التعليم والإعطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) أي الذي لا يخفى على أحد. وقصده عليه السلام بذلك القول: الشكر والحمد، أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر عساكره مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) أي يمنعون من التقدم في السير حتى يجتمعوا ليكون مسيره عليه السلام مع جنوده على ترتيب. وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان عليه السلام إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون، ويخبز الخبازون. وهو بين السماء والأرض. واتخذ ميادين الدواب فتجري بين يديه والريح تهوي، فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما وصل إليها قال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد، فجاوزه سليمان، فبكى البيت، فأوحي إليه ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يصلوا عندي، والأصنام تعبد حولي فأوحى الله تعالى إليه: لا تبك فإني سوف أملأك وجوها سجدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، أفرض عليهم فريضة يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها، والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان. ثم ساروا حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ وهو واد بالشام كثير النمل: على ما قاله مقاتل وقتادة، وبالطائف: على ما قاله كعب وهو نمل صغار على المشهور. قالَتْ نَمْلَةٌ قولا مشتملا على حروف وأصوات، وكانت عرجاء، ذات جناحين، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة؟؟؟ أم محال ويقال لها: منذرة وقيل: اسمها حرميا. وقيل: ظاخية. وقيل: عيجلوف يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ أي جحركم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) أي لا تبرزوا فيدوسنكم سليمان وجنوده في حال كونهم لا يشعرون بدوسهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وكأنهم أرادوا النزول عند الوادي، لأنه دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف دوسهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أي تعجبا من قول النملة بفصاحتها واهتدائها إلى تدبير مصالح بني نوعها، وسرورا بما آتاه الله من سمعه كلامها، وفهمه بمعناه وبشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أنواع المخلوقات. وَقالَ سليمان: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي

[سورة النمل (27) : الآيات 21 إلى 30]

اجعلني أكف شكر نعمتك عندي عن أن ينقلب عني، حتى أكون شاكرا لك أبدا أو وفقني لأن أؤدي شكر نعمتك الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ هما داود وأم سليمان، وهي في الأصل زوجة أوريا التي امتحن الله بها داود عليه السلام. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل كما قيل: إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين- كما قاله ابن عباس- لأن الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله تعالى ولا يهمّ بمعصية أثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي بحث أحوال الطير فلم ير الهدهد فيما بينها، أي نزل سليمان منزلا واحتاج إلى الماء فطلبوه، فلم يجدوه فطلب الهدهد ليدل على الماء، لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده فينقر الأرض، ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ اسمه عنبر- كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن- أي ما لي لا أراه لساتر ستره، أو لسبب آخر ثم ظهر له أنه غائب فانتقل عن ذلك الكلام فقال: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) ؟ فتقدر «أم» ب «بل» أو بالهمزة، أو بهما. روي أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل بها ليتغدى ويصلي، فلم يجد الماء فتفقد الهدهد وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء، فنزل إلى بستان بلقيس فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان: يعفور؟ وهدهد اليمن: عفير. فقال عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن. والشياطين. والطير. والوحش. والرياح. قال يعفور: ومن ملك هذه البلاد. قال عفير: امرأة يقال لها: بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها فما رجع يعفور إلا بعد العصر، فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموه فتفقد الهدهد، فلم يره فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته إلى مكان! فغضب سليمان عند ذلك وقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ بسبب غيبته فيما لم آذن فيه عَذاباً شَدِيداً بنتف ريشه، فهذا عذاب

الطير أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بالسكين ليعتبر به أبناء جنسه، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) أي إلا أن يأتيني بحجة تبيّن عذره فلا أذبح ولا أعذب، ثم دعا العقاب وهو أشد الطير طيرانا فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء، فالتفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني ولم تتعرض لي بسوء، فتركه العقاب وقال له: ويلك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك، أو يذبحك، فطارا متوجهين نحو سليمان، فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له: ويلك أين غبت في يومك هذا؟ فلقد توعدك نبي الله. وأخبروه بما قال سليمان. فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله فقالوا: بلى إنه قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال: نجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فَمَكَثَ أي الهدهد غَيْرَ بَعِيدٍ أي زمانا غير طويل حتى جاءه. وقرأ عاصم بفتح الكاف. والباقون بضمها. فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له: أن كنت لأعذبنك عذابا شديدا؟ فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأك عني؟ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلم أيها الملك، وبلغت إلى ما لم تبلغ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ. وقرأ أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة من غير تنوين، يراد به القبيلة والمدينة والأصل اسم للقبيلة، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. والباقون بالجر والتنوين اسم للحي سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) أي بخبر حق عجيب. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يقال لها: بلقيس بكسر الباء وهي بنت شراحيل بن مالك بن الريان. وأمها فارعة الجنية- كما أخرج عن زهير بن محمد- وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبا، ولم يكن له ولد غيرها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن: إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد من الجن وهم على صور الظباء، فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن، وشكره على ذلك واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الملوك وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) أي سرير حسن كبير، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون ذارعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مصنوع من الذهب والفضة، مكلل بالجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق وَجَدْتُها وَقَوْمَها أي لقيتهم مجوسا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدون الشمس

متجاوزين عبادة الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الهدى، فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) بسبب ذلك أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ مفعول له للصد أو التزيين على حذف اللام، أي فصدهم لأن لا يسجدوا له تعالى، أو زين لهم أعمالهم، لأن لا يسجدوا بتخفيف اللام. فالأحرف تنبيه واستفتاح، و «يا» بعدها حرف تنبيه أيضا، أو نداء. والمنادى محذوف تقديره: يا هؤلاء اسجدوا، و «اسجدوا» فعل أمر، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون «يا اسجدوا» ، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يا» ، وهمزة الوصل خطأ لما سقطا لفظا، ووصلوا الياء بسين «اسجدوا» فاتّحدت القراءتان لفظا وخطا، واختلفا تقديرا، وعلى هذه القراءة فالوقف على «يهتدون» تام، ولو وقف على «يا» بمعنى: ألا يا هؤلاء، ثم ابتدئ ب «اسجدوا» جاز بخلاف قراءة الباقين بإدغام النون في «لا» ، فالوقف على «لا يهتدون» جائز. وقرأ الأعمش «هلا» وهي حرف، وعبد الله بقلب الهمزة هاء. وقرأ أبي «ألا يسجدون أي لم لا يسجدون لله كما قاله ابن عباس. وعن عبد الله «هلا تسجدون» بمعنى «ألا تسجدون» على الخطاب، و «هلا» يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله تعالى، أو من سليمان عليه السلام. قال أهل التحقيق: قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا يجب أن يكون بمعنى الأمر، لأنه لو كان بمعنى المنع من السجود لم يكن معنى لوصفه تعالى باستحقاق السجود للاتصاف بكونه تعالى قادرا على إخراج الخبء عالما بكل شيء. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والجار المجرور متعلق بالخبء أي الذي يظهر المخفي فيهما من المطر والنبات، ومتعلق ب «يخرج» على أن فيه معنى «من» كما قاله الفراء وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) من الأحوال فيجازيكم بها. وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فتأويل قراءة حفص في «ألا يسجدوا» أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ والخطاب على قراءة الكسائي ظاهر. والباقون بالغيبة لتقدم ضمائر الغيبة في قوله: أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ فهم وهي غير ظاهرة. وقرئ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض، ويعلم سركم وما تعلنون» . اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) أي فعرش الله عظيم بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض وما بنيهما. وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب، ولما ذكر الهدهد قصة بلقيس لم يتغير سيدنا سليمان عليه السلام لذلك، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله، اغتاظ سيدنا سليمان وأخذته حمية الدين، وجعل يبحث عن تحقيق. قالَ سليمان للهدهد: سَنَنْظُرُ أي سنتعرف في مقالتك بالتجربة أَصَدَقْتَ فيه أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) وفي هذا دليل على أن خبر الواحد لا يثبت العلم، وعلى أن الوالي يجب أن يقبل عذر من في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده، اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى من يعبدون الشمس ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح إلى مكان

[سورة النمل (27) : الآيات 31 إلى 40]

قريب تتوارى فيه ليكون ما يقوله بسمع منك. فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) أي تعرف أي شيء يرجع بعضهم إلى بعض من القول، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس، وكانت بأرض مأرب من اليمين على ثلاث مراحل من صنعاء، فوجدها نائمة مستلقية على قفاها وقد غلّقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فألقى الكتاب على نحرها وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فعند ذلك قالَتْ لأشراف قومها: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ- أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاثمائة واثني عشر رجلا- إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) أي لأنه مكرم بختمه، ولغرابة شأنه حيث وصل إليها على غير معتاد، ولحسن ما فيه من كونه مشتملا على إثبات الصانع، الحي المريد، القادر الرحيم. وعلى النهي عن التكبر، والأمر بالانقياد، ولكونه من عند ملك كريم فقد عرفت أن المرسل أعظم ملكا منها. إِنَّهُ أي إن عنوان الكتاب مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ أي إن مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ف «أن» مفسرة، و «لا» ناهية، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك. وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) أي مؤمنين. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والآلات وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي هو موكول إليك، فَانْظُرِي أي تأملي ماذا تَأْمُرِينَ (33) ، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها، بل مالت للصلح، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج الحراب أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك، فإن ذلك عادتهم المستمرة. إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا بِهَدِيَّةٍ عظيمة فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) . روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهن الأساور والأطواق، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وبعثت العود والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت

رجلا من أشراف قومها- المنذر بن عمر- وآخر ذا رأي وعقل، وكتبت مع المنذر كتابا تذكر فيه الهدية وقالت: إن كان نبيا، ميز بين الغلمان والجواري وأخبركم بما في الحق قبل أن يفتحه، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا من غير علاج أنس وجن، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي فانطلق الرسول بالهدايا، فأقبل الهدهد إلى سليمان عليه السلام فأخبره بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر مختلفة ألوانها حتى إن لدواب البحر أجنحة وأعرافا ونواصي، فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير أن أقيموا على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لين الذهب والفضة بهتوا، وتقاصرت إليهم أنفسهم، ووضعوا ما معهم من الهدايا في ذلك الموضع فلما وقفوا بين يدي سليمان أقبل عليهم بوجه طلق وسألهم عن حالهم، فأخبره رئيس القوم بما جاءوا فيه وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال: أين الحق؟ فأتى به فحركه فجاءه جبريل فأخبره بما فيه فقال سليمان لهم: إن فيه درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة، ثم أمر بالأرضة، فأخذت شعرة في فيها ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجرة فأمر بالدودة البيضاء، فأخذت خيطا بفيها ونفذت في الجزعة، فجعل رزقها في الفواكه، وأمر الغلمان والجواري بأن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى، ثم تغسل به وجهها والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها، والغلام يصبه على ظهره، فميز عليه السلام بين الغلمان والجواري، ثم رد الهدية كما أخبر الله عنه بقوله: فَلَمَّا جاءَ أي رسول الملكة بلقيس وهو منذر سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي قال سليمان عليه السلام مخاطبا للرسول والمرسل: لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تعاونوني بالمال، لأن الله تعالى قد أعطاني منه ما لم يعط أحدا، ومع ذلك أكرمني بالنبوة والدين بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) فالمصدر إما مضاف لفاعله أي تفرحون بما تهدونه افتخارا على أمثالكم واعتدادا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله وإما مضاف لمفعوله أي تفرحون بما يهدي إليكم حبا في كثرة أموالكم وحالي خلاف حالكم، فلا أفرح بالدنيا من حاجتي. وقيل: بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون بأخذها إن ردت إليكم ثم قال للمنذر: ارْجِعْ أيها الرسول إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها بهديتهم وقيل: - الخطاب للهدهد- أي ارجع يا هدهد حاملا كتابا آخر فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي فو الله لنأتينهم بجموع لا طاقة لهم بمقاومتها.

وقرأ ابن مسعود «بهم» بضمير جمع الذكور وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم وَهُمْ صاغِرُونَ (37) أي مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد وبإغلال أيمانهم إلى أعناقهم. قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض، ثم غلقت عليه سبعة أبواب وجعلت عليها حراسا يحفظونه، ثم تجهزت للمسير، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف. فخرج سليمان يوما فجلس على سريره، فسمع رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت بهذا المكان- أي الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه السلام- فأقبل سليمان على جنوده قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها فأراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى صدقه في نبوته، وكان سليمان إذ ذلك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، لأن العرش سرير المملكة قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) أي مؤمنين، فإنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها قالَ عِفْرِيتٌ أي قوي مِنَ الْجِنِّ- كان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه. وكان مسخرا لسليمان واسمه: ذكوان. وقيل: صخر. وقيل: كوزن- أَنَا آتِيكَ بِهِ وهو اسم الفاعل، أي أنا آت بعرشها قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك للقضاء وكان مجلس قضائه إلى انتصاف النهار وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على الإتيان به لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) أي لقوي على حمله، أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة. قال ابن عباس وقتادة: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير يجدون به تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان قيل: كان الدعاء الذي دعا به يا حي يا قيوم- كما روي ذلك عن عائشة قال بعضهم: أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه. قال له: عالم من بني إسرائيل أنت النبي بن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.

[سورة النمل (27) : الآيات 41 إلى 50]

قال الرازي: وهذا القول أقرب والمخاطب به العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فغالبه أولا، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرض ما لا يتهيأ للعفريت. قيل: خرّ سليمان ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان وإنما هذا أقرب، لأن سليمان كان أعرف بالكتابة من غيره لأنه نبي وأن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف لاقتضى ذلك تفضيله على سليمان، ولو افتقر إليه في ذلك لاقتضى ذلك نقص حال سليمان في أعين الخلق، ولأن ظاهر قوله: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ يقتضي أن يكون إتيان العرش بدعاء سليمان فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي رأى سليمان العرش حاضرا لديه قالَ سليمان- شاكرا لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق: هذا أي إتيان العرش في هذه المدة القصيرة مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي من إحسانه إلي من غير استحقاق له من قبلي لِيَبْلُوَنِي أي ليختبرني أَأَشْكُرُ فأعترف بكون ذلك فضلا منه تعالى أَمْ أَكْفُرُ بأن أثبت لنفسي تصرفا في ذلك أو أترك شكرا وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ فإن نفع الشكر عائد إلى الشاكر فإنه يخرج عن علقة وجوب الشكر عليه وأنه يستحق المزيد، وأنه مشتغل بالمنعم. أما المعرض عن الشكر فهو مشتغل باللذات الحسية وَمَنْ كَفَرَ أي ترك شكر النعمة فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره لا يضره تعالى كفرانه كَرِيمٌ (40) أي لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر. قالَ سليمان: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا سريرها من هيئة، فزيدوا فيه وانقضوا منه. وروي أنه جعل أعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأخضر أحمر، وبالعكس، فأراد سليمان عليه السلام اختبار عقلها نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر. وقرئ بالرفع على الاستئناف أي نعلم أَتَهْتَدِي أي أتعرف أن ذلك العرش عرشها أو أتعرف الجواب اللائق بالمقام أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) أي لا يعرفون ذلك فَلَمَّا جاءَتْ أي بلقيس سليمان: قِيلَ لها من جهة سليمان أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك وأغلقت عليه الأبواب وجعلت عليه حراسا؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أي كأن عرشي هو هذا. وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفا من التكذيب. فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر، ولم تنكر. ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم، لمعرفتها للعرش وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها أي وأعطينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من رسولنا المنذر من الآيات الدالة على ذلك وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس كأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وهذا من كلام الله تعالى أي ومنع بلقيس عن إظهار الإسلام عبادتها القديمة للشمس ف «ما كانت تعبد» فاعل «صد»

أو أن «ما كان» مجرورا ب «عن» مقدرة، وفاعل «صد» راجع إلى «سليمان» ، أي وصرفها سليمان عن الذي كانت تعبده وهو الشمس. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) تعليل لعبادة غير الله، أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بينهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس فلا تعرف إلا عبادتها. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة بفتح الهمزة على أن هذه الجملة مجرورة بحرف العلة، أو بدل من «ما كان كانت تعبد» ، أي ومنعها عن إظهار دعواها الإسلام كونها من قوم كافرين أو وصرفها سليمان عن صيرورتها كافرة. يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ أي البلاط المتخذ من زجاج. روي أن سيدنا سليمان أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة ويجعلوا سقفها زجاجا أبيض شفافا يضعوا فيها ماء وسمكا، وضفدعا وغير ذلك من حيوانات الماء وصار الماء، وما فيه من هذا الزجاج، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح لذي تحته الماء ولا يمسه الماء، ومن لم يكن عالما بالحال يظن هذا ماء مكشوفا ليس له سقف يمنع من الخوض فيه، ووضع سيدنا سليمان عليه السلام سريره في صدر ذلك السطح، فجلس عليه. قال وهب ومحمد بن كعب: والسبب في ذلك أن الجن قالوا لسيدنا سليمان: إن في عقل بلقيس شيئا وإن رجليها كرجلي حمار، وإنها شعراء الساقين. وغرضهم في ذلك تنفيره عن تزوجها لأنهم ظنوا أنه سيتزوجها، وكرهوا ذلك لأن أمها كانت جنية، فخافوا أن تفشي له أسرار الجن، ولأنهم خافوا أن يأتي له منها أولاد فيسخّرون الجن، فيدوم عليهم الاستخدام والذل، فأراد سليمان عليه سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها فإذا فيها ما يدل على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها، وأن ينظر إلى قدميها ببناء ذلك البلاط، لأنه أراد أن ينكحها ليعلم أن ما قالت الجن في حقها صدق أو كذب. لَمَّا رَأَتْهُ أي رأت ذلك الصرح سِبَتْهُ لُجَّةً أي ماء غمرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها على عادة من أراد خوض الماء لأجل أن تصل إلى سليمان. قال وهب بن منبه فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فرفعت ثيابها عن ساقيها، فرآهما فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما سليمة مما قالت الجن فيها، إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها، فلما علم الحال صرف بصره عنهاالَ عليه السلام حين رأى منها الدهشة والرعب: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ أي إن الذي ظننته ماء سقف مملس من زجاج تحته ماء فلا تخافي واعبري عليه. الَتْ بعد أن دعاها سليمان إلى الإسلام وقد رأت حال العرش والصرح: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بالثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان. وقيل: بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللّجة أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ أي ودخلت في دين الإسلام مصاحبة له في

الدين، مقتدية به لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) . قيل: لما أراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته، فكانتا من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حبا كثيرا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها، ورزق منها بولد اسمه داود وأقرها على ملكها وأمر الجن، فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان، فسبحان من لا يزول ملكه، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) ، أي فريق مؤمن، وفريق كافر فالذي آمنوا، لأنهم عرفوا صحة حجة صالح فيكونون خصماء لمن لم يقبلها. والاختصام في باب الدين حق وإبطال للتقليد. قالَ صالح للفرقة الكافرة: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لما توعد صالح للمكذبين بالعذاب فقالوا على وجه الاستهزاء: ائتنا بعذاب الله فعند ذلك قال صالح: يا قوم قد أمكنكم التوصل إلى رحمة الله تعالى، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكانوا لجهلهم يقولون: إن صدق إيعاد صالح بنزول العذاب تبنا حينئذ، فحينئذ يدفع الله العذاب عنا وإلا فنحن على ما كنا عليه، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تطلبون غفران الله قبل نزول العذاب بتوحيد الله وبالتوبة من الشرك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) ؟ بقبوله التوبة، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، وإن قبول التوبة لا يمكن عند نزول العذاب. قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاء منا بك وبمن في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد من القحط والاختلاف مذ اخترعتم دينكم. قالَ صالح: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء شدتكم ورخاؤكم قدره تعالى إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) بزينة الدنيا فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم. وقال ابن عباس: أي أنتم تختبرون بالخير والشر. وقال محمد بن كعب: أي تعذبون وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي في الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ أي أشخاص. قال ابن عباس: أساميهم: رعمي، ورعيم، وهرمي، وهريم، وداب، وصواب، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف- عاقر الناقة- وأسماؤهم عن وهب قد نظمهم بعضهم في بيتين فقال: رباب وغنم والهذيل ومسطع ... عمير سبيط عاصم وقدار وسمعان رهط الماكرين بصالح ... إلا أن عدوان النفوس جوار يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ (48) أي لا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح قالُوا تَقاسَمُوا، أي قال بعضهم لبعض- في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام- غب ما أنذرهم بالعذاب أحلفوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) .

[سورة النمل (27) : الآيات 51 إلى 60]

وقرأ حمزة والكسائي «لتبيتنه» بتاء فوقية بعد اللام وبالرفع للجمع، و «لتقولن» بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ عاصم «مهلك» بفتح الميم، وحفص بكسر اللام. والباقون بضم الميم مع فتح اللام فقط. والمعنى: أنهم توافقوا وحلفوا بالله: لندخلن على صالح ومن- آمن به وهم أربعة آلاف ليلا- بغتة ونقتلهم جميعا، ثم لنقولن لولي دم صالح: ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه فلا ندري من قتلهم! وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم. أي لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر. وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه الكيفية وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) قيل: إنهم خرجوا إلى الشعب وقالوا: إذا جاء صالح يصلي في مسجده قتلناه، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم، فبعث الله تعالى صخرة، فطبقت فم الشعب عليهم فهلكوا، وهلك الباقون بالصيحة. وقيل: جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة، يرون الأحجار ولا يرون راميا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ بصالح أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) أي أنا أهلكنا التسعة بالحجارة، وأهلكنا قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه السلام. وقرأ الكوفيون «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة إما بدل من «عاقبة» على أنه فاعل «كان» ، و «كيف» حال، أي فتفكر في أي وجه حدث تدميرنا إياهم. إما خبر لمبتدأ محذوف، أي هي أي العاقبة تدميرنا إياهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أي خالية ساقطة. وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف بِما ظَلَمُوا أي ظلمهم بعبادتهم غير الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ أي التدمير العجيب لَآيَةً أي لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) أي يفهمون إشارات القرآن وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) أي المعاصي. وقتل الناقة وهم أربعة آلاف، وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت، ثم بنوا مدينة- يقال لها: حاضوراء- وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح، أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ- ف «إذا» ظرف للإرسال لما فارق عمه إبراهيم عليه السلام-: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في السماجة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) ، أي والحال أنكم تعلمون علما يقينا أنها قبيحة؟! أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي لأجل الشهوة فقط فهو كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف ولا قصد ولد مِنْ دُونِ النِّساءِ! أي حال كونكم متجاوزين، النساء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا وريثا وزوجته المؤمنة مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) أي يتنزهون عن الأقذار- قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء- فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) أي قدرنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب.

[سورة النمل (27) : الآيات 61 إلى 70]

وقرأ شعبة بتخفيف الدال. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على كل من كان منهم خارج المدينة مَطَراً هو طين محرق فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) مطرهم قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك الكفار وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أي اصطفاهم الله بالإسلام من السابقين واللاحقين آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) . وقرأ أبو عمرو وعاصم بالياء التحتية أي أالله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم ما يشركون به تعالى من الأصنام-؟ والباقون بالتاء على الخطاب أي أالله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة؟ وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» «1» . أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي بل من خلقهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً أي وأنزل لأجل منفعتكم من السماء نوعا من الماء- هو المطر- فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أي بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ أي حسن يفرح به الناظر؟ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي ما كان لم مقدرة أن تنبتوا شجر البساتين أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض شؤونه. وقرئ أإلها مع الله. أي أتعبدون إلها آخر من الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور. وقيل: قوم يماثلون بالله غيره أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي بل من جعل الأرض مسكنا فيستقر عليها الإنسان والدواب، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي صيّر أوساطها أنهار جارية ينتفعون بها، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والمالح، حاجِزاً أي برزخا معنويا مانعا الممازجة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في إبداع هذه البدائع؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) كمال قدرته تعالى وحكمته، واستغنائه عن الشريك. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أي بل من يجيب الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة إلى التضرع إلى الله تعالى، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، أي يدفع ما يحزن الإنسان مما يطرأ عليه وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ! أي متوارثين سكناها ممن قبلكم فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في فعل ذلك؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (62) . قرأ أبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالخطاب، وعلى كل من القراءتين ف «الذال» مفتوحة مشددة لإدغام التاء فيها، و «ما» مزيدة، و «القلة» كناية عن العدم، أي أنكم ما تتعظون لا كثيرا ولا قليلا. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بل من يهديكم إلى مقاصدكم في ظلمات الليالي فيهما، أو مشتبهات الطرق فيهما؟ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ! أي قدام المطر.

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (5871) ، وابن سعد في الطبقات (1: 1: 79) .

وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «الريح» بالإفراد. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «نشرا» بضم النون والشين، وابن عامر بضم النون وسكون الشين، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين أي تجمع السحاب. وقرأ عاصم بالموحدة المضمومة وبسكون الشين أي طيبة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي ليس مع الله إله فعل ذلك تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) . أي تنزه الله عن وجود ما يشركونه بالله تعالى بعنوان كونه إلها. أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بل من يبتدئ الخلق من النطفة، ثم يعيده بعد الموت بالبعث و «أم» في الجمل الخمس انتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام بجهة من الجهات وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أي بأسباب سماوية وأرضية كالمطر والحر والبرد والنبات، والمعادن والحيوان أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ أي إله آخر موجود مع الله حق يجعل شريكا له في العبادة. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي قل يا أشرف الخلق للمشركين: هاتوا برهانكم عقليا أو نقليا يدل على أن معه إلها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) في دعواكم أن مع الله آلهة شتى. قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين الذين سألوك عن وقت قيام الساعة: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. ف «من» في محل نصب مفعول، والغيب بدل منها، و «الله» فاعل، أي لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى، وإن جعل «من» فاعلا ل «يعلم» و «الغيب» مفعوله كان اسم الجلالة مبتدأ خبره محذوف والاستثناء منقطع، أي لا يعلم الذي ثبت في السموات والأرض- وهم الملائكة والإنس الغائب- كوقت الساعة ونزول العذاب لكن الله يعلمه. قال بعضهم: وللغيب خمس مراتب. أحدها: غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين: الأول: ما غاب في الأرض الصورية وسمائها، فالغائب في الأرض مثل غيبة شخص عنك، أو غيبة أمر من الأمور فلك إمكان إحضار الشخص، والاطلاع على ذلك الأمر. والغائب في السماء مثل علم النجوم والهيئة، فلك إمكان تحصيله بالتعلم. والثاني: ما غاب في أرض المعنى وهي أرض النفس، فإن فيها مخبآت من الأوصاف والأخلاق فلك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة، والرياضة، والذكر، والفكر. وما غاب في سماء القلب فإن فيها مخبآت من العلوم والحكم والمعاني فلك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس في مقامات القلب. وثانيها: غيب أهل الأرض في الأرض والسماء وليس للإنسان إمكان الوصول إليه بإرادة الله تعالى كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. وثالثها: غيب أهل السماء في السماء والأرض وليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعظيم الله تعالى مثل الأسماء فإن الله تعالى كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها.

[سورة النمل (27) : الآيات 71 إلى 80]

ورابعها: سبيل غيب لا سبيل لأهل السموات والأرض إلى علمه إلا من ارتضى له الله تعالى كما قال تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26، 27] وبهذا يستدل على فضيلة الرسل على الملائكة، لأن الله تعالى اختصهم بإظهاره تعالى إياهم على غيبه دون الملائكة، ولهذا أسجدهم لآدم كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم فتجلى فيه» . وخامسها: غيب انفرد الله بعلمه وهو قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله تعالى كما قال تعالى: وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) أي متى ينشرون من القبور. وقرئ بكسر الهمزة. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بل أدرك» بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الدال على وزن «أكرم» . والباقون بكسر اللام ووصل الهمزة وتشديد الدال وبعدها ألف، وأصله «تدارك» وبه قرأ أبيّ. قال ابن عباس: أي بل اجتمع علمهم على أن الآخرة لا تكون، أي فلم يعتقدوها بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من نفس الآخرة كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) أي لا يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم والله تعالى وصف المشركين أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم وصفهم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم وصفهم بأنهم يخبطون في شك، ثم وصفهم بأن قلوبهم عمي فهم كالبهائم لا يخطرون ببالهم حقا ولا باطلا ويستقر همهم على البطون والفروج. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) أي أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا رميما ترابا؟ لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ، أي من قبل مجيء وعد محمد إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) ! أي ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها أيها الجاهلون، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) أي كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي، لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يا أكرم الرسل فيما مضى لإصرارهم على الكفر. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) أي ولا تكن في ضيق قلب من مكرهم في المستقبل. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) في إخباركم بمجيء العذاب؟ قُلْ لهم يا سيد الرسل: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) ف «عسى ولعل، وسوف» بمنزلة الجزم في مواعيد الملوك، أي لا بد أن يكون بعض الذي تستعجلونه حلوله لحقكم، وهو عذاب يوم بدر واللام مزيدة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي إنه متفضل عليهم بتأخير عقوبتهم على ما يفعلونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) بتأخير العذاب لأنهم لا يعرفون حق النعمة فيه وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ

[سورة النمل (27) : الآيات 81 إلى 90]

صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم عليه تعالى. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع، وحميد «تكن» بفتح التاء وضم الكاف، وَما يُعْلِنُونَ (74) من الأفعال والأقوال وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي تقرأ عليهم يا سيد الرسل يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي يبين لليهود والنصارى أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) - كالتشبيه والتنزيه وشأن عزير والمسيح- وَإِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً من الضلالة، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) ، وذلك لأن بعض الناس لما تأمل القرآن فوجد فيه من الدلائل العقلية على التوحيد، والنبوة، والحشر، وبيان نعوت جلال الله تعالى. ووجد ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول، ووجده مبرأ عن التناقض، ووجد القوى البشرية عاجزة عن جمع كتاب على هذا الوجه علم أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزا من هذه الجهة، وكان هدى ورحمة من هذه الجهات. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين اليهود والنصارى، أي بين المصيب والمخطئ منهم بِحُكْمِهِ أي بالحق لأنه تعالى لا يحكم إلا بالعدل، أو بحكمته كما يدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) أي هو القادر الذي لا يمنع فلا يرد حكمه، العالم بالحكم فلا يكون إلا الحق. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله الذي هذه أوصافه فإنها توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) أي الدين الظاهر، فالمحق حقيق بنصرة الله تعالى، ثم قطع الله تعالى طمع سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن بني إسرائيل بتبيين أحوالهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، فإن قطع الطمع عنهم يقوي القلب على إظهار المخالفة وعلى إظهار الدين كما ينبغي فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) أي إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت لا سبيل إلى إسماعه، وكالأصم الذي لا يسمع برفع الصوت ولا يفهم بالإشارة. وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان. وقرأ ابن كثير «ولا يسمع الصم» بالتحتية وفتحها وبفتح الميم ورفع «الصم» . وقرأ حمزة «تهدي العمي» بالمضارع المفيد للخطاب وبنصب «العمي» إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع إلا من هو في علم الله أنهم يصدقون بالقرآن، لأنهم منقادون للحق وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي وإذا ثبت نزول العذاب على الكفار وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وهو يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ من جبل الصفا بمكة- وهي فصيل ناقة صالح عليه السلام- فإنه لما عقرت أمه هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي رضي الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا

يخرج كل يوم إلا ثلثها. وعن الحسن رضي الله عنه: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام وفي الحديث: «إن طولها ستون ذراعا بذراع آدم عليه السلام لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب» . تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) . قرأ الكوفيون بفتح أن بتقدير الباء، كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود ب «أن» بتصريح الباء أي تحدثهم بأن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها. وقرأ أبيّ «تنبئهم» ، وإضافة الآيات إلى نون العظمة، لأنها حكاية من الله تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف، فعلى هذا فالوقف على تكلمهم تام وعليه أيضا يجوز أن يكون بمعنى تجرحهم مع إفادة معنى التكثير ويدل عليه قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وابن زرعة، والجحدري «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام. والمراد بالجرح: الوسم بالعصا والخاتم. روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه، وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، ثم تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنة، وأنت يا فلان من أهل النار. وَيَوْمَ نَحْشُرُ للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) أي واذكر لهم وقت جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أي قال الله تعالى موبخا لهم على التكذيب: أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقتها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) ؟ أي بل أيّ شيء كنتم تعملون في الكفر؟ والمعنى: لم يكن لكم عمل غير الكفر. وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي نزل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب تكذيبهم بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) بحجة واعتذار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ أي ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلما ليستريحوا فيه بالقرار والنوم والنهار مضيئا ليطلبوا فيه معايشهم، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعل الليل والنهار كما ذكر لَآياتٍ أي دلالات ظاهرة على التوحيد والبعث والنبوة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) أما وجه دلالته على التوحيد، فلأن التقلب من النور إلى الظلمة وعكسه لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية، وأما وجه دلالته على الحشر، فلأنه لما ثبت قدرة القادر على هذا التقليب ثبت قدرته على التقليب من الحياة إلى الموت مرة، ومن الموت إلى الحياة مرة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأن هذا

التقليب لمنافع الخلق وأن في بعثة الأنبياء إلى الخلق منافع عظيمة فقد ثبت أن هذه الكلمة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة. وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، أي واذكر لهم وقت نفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، فإذا سمع الخلق شدة صوت ذلك النفخ بحيث لا تتحمله طبائعهم يفزعون عنده ويموت كل من كان حيا ذلك الوقت لم يسبق له موت أو كان ميتا، لكنه حي في قبره كالأنبياء والشهداء. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع. قيل: هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش، فإنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وقيل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام. وقيل: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وقيل: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرة. وقال القشيري: والأنبياء داخلون في الشهداء لأن لهم الشهادة. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروا الموقف للسؤال والجواب، والحساب ذليلين مطيعين. وقرأ حفص وحمزة «أتوه» بصيغة الفعل الماضي وهو بقصر الهمزة وفتح التاء. والباقون بصيغة اسم الفاعل فهو بمد الهمزة وضم التاء. وقرئ «أتاه» باعتباره لفظ كل. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتبصر الجبال وقت النفخة تظنها ثابتة في أماكنها. والحال أنها تمرمر السحاب التي تسيّرها الرياح سيرا سريعا، فسير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي صنع الله الذي أحسن خلقه، وأتى به على الحكمة ذلك النفخ في الصور وما تفرغ منه من الأمور صنعا و «صنع» منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال، إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) أي إنه تعالى عالم بما يعمله أهل السعادة والشقاوة من الخير والشر. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالفوقية على الخطاب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي من جاء يوم القيامة بكلمة الشهادة فله من الجزاء ما هو خير منها، باعتبار أن الثواب دائم، وأنه من فعل الله، وأنه حاصل من جهة الله تعالى، فإن المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا جزاؤها المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النطر إلى وجه الله تعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) . وقرأ الكوفيون «فزع» بالتنوين فحينئذ كان «يومئذ» ظرفا ل «آمنون» ، أو المحذوف هو صفة ل «فزع» أي والذين جاءوا بالحسنات آمنون من فزع كائن، يوم إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة، وعلى هذا فالفزع على نوعين فزع من خوف العقاب، وفزع شديد مفرط الشدة لخوف النار أما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد. وقرأ الباقون بإضافة «فزع» ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح الميم من «يومئذ» وهو فتحة بناء لإضافة «يوم» المبني.

[سورة النمل (27) : الآيات 91 إلى 93]

والباقون بكسرها وهو كسرة إعراب. وهذا يقتضي الأمن جميع فزع ذلك اليوم. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالشرك بالله فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي ألقوا في النار على وجوههم، وتقول لهم خزنة جهنم وقت كبهم على وجوههم في النار: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) ؟ أي ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا، ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لأهل مكة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما لا يسفك فيها دم إنسان، ولا يصاد صيدها، ولا يقطع حشيشها الرطب. قرأ الجمهور «الذي» صفة ل «رب» . وقرأ ابن عباس وابن مسعود «التي» صفة ل «البلدة» وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) أي بأن أثبت على ملة الإسلام، وبأن أكون من المنقادين لها. وهذا إشارة إلى أن المسلم الحقيقي من يستعمل الشريعة مثل استعمال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أقرأ عليكم القرآن بطريق تكرير الدعوة، وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتذى باتباعه إياي في العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه راجعة إليه لا إلي، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) ، أي ومن ضل بمخالفتي فيما ذكر فقل في حقه: إنما أنا من المنذرين فلا علي شيء من وبال ضلاله. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة. وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي سيريكم الله تعالى في الدنيا آياته الباهرة- كخروج الدابة وسائر أشراط الساعة- فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) . وقرأ نافع وابن عامر، وحفص بالتاء على الخطاب أي وما ربك بغافل عما تعلم أنت من الحسنات، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله. والباقون بالياء على الغيبة أن وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم المسببة للعذاب.

سورة القصص

سورة القصص وتسمى أيضا سورة موسى، مكية، وقيل: إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فإنها نزلت بالجحفة- بين مكة والمدينة، ثمان وثمانون آية، ألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، خمسة آلاف وثمانمائة حرف طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي إن آيات هذه السورة آيات الكتاب الذي بيّن بفصاحته أنه من كلام الله، وبيّن صدق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيّن خبر الأولين والآخرين وبيّن كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) ، أي نقرأ عليك بواسطة جبريل بعض خبر موسى وفرعون ملتبسا بالحق لأجل قوم يصدقون بك وبالقرآن، فإنهم المنتفعون به. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي تجبّر في مملكته أرض مصر، وَجَعَلَ أَهْلَها أي أهل مملكته شِيَعاً أي أصنافا في استخدامه، يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرث وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل. قال ابن عباس: إن بني إسرائيل لمّا كثروا بمصر استطالوا على الناس وعملوا المعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه موسى عليه. يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ كثيرا صغارا. وذلك لأن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه عليه السلام، وفرعون كان قد سمع ذلك، فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل عند الولادة. وهذا الوجه أولى بالقبول. قال وهب: قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفا من بني إسرائيل. قوله: يَسْتَضْعِفُ حال من فاعل «علا» أو خبر ثان لأن «أو» بدل اشتمال من «علا» . وقوله: يُذَبِّحُ بدل اشتمال من «يستضعف» . وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ قيل: أي يستخدمهن كبارا إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) في كفره بدعائه إلى غير عبادة الله وقتل خلق كثير من أولاد الأنبياء وَنُرِيدُ بإرسال موسى أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، أي أن نتفضل على من قهروا في أرض مصر- وهم بنو إسرائيل- بإنجائهم من بأس

فرعون. وقوله تعالى: وَنُرِيدُ إلخ معطوف على قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لأنهما وقعا تفسيرين لنبأ موسى وفرعون أو حال من «طائفة» بتقدير المبتدأ، أي ونحن نريد وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً أي قادة إلى الخير متقدمين في أمور الدين بعد أن كانوا أتباعا مسخرين لآخرين، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) لملك فرعون وأرضه وما في يده، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ننفذ أمرهم في أرض مصر والشام يتصرفون فيها ما يشاءون، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) أي ونري، رؤية بصرية، فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يخافونه من المستضعفين من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود من بني إسرائيل. وقرأ حمزة والكسائي «ويرى» بالياء المفتوحة وبفتح الراء مع الإمالة ورفع ما بعده. وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ أي ألهمنا أم موسى يوحانذ بنت لاوى بن يعقوب أن أرضعي هذا الصبي، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي اشتد خوفك عليه من الذبح بأن يفطن بن جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي بحر النيل وَلا تَخافِي من هلاكه بالغرق ونحوه. وَلا تَحْزَنِي بسبب فراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب لتكوني أنت المرتضعة له وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) إلى أهل مصر والشام. قال ابن عباس: إن أم موسى لما تقاربت ولادتها بأن أحست بالطلق أرسلت إلى- قابلة وكانت مصافية لأم موسى- وقالت لها: لينفعني اليوم حبك إياي، فجلست القابلة تعالجها، فلما نزل موسى إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها، ودخل حب موسى قلبها فقالت: يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حبا شديدا، فاحفظي ابنك، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحارس بالباب فلفته بخرقة ووضعته في تنور مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، فدخل، فإذا التنور مسجور، ورأى أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقال: لم دخلت القابلة عليك؟! قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة، فخرج من عندها فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى: أين الصبي؟ قالت: لا أدري! فسمعت بكاء في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فأخذته، ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت جد فرعون في طلب الولد خافت على ابنها، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتا، ثم تقذف التابوت في النيل، فذهبت إلى نجار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها: ما تصنعين به؟ فقالت: لي ابن أخبؤه فيه، فلما انصرفت ذهب النجار إلى الذباحين ليخبرهم بذلك، فلما جاءهم، أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده، فضربوه وطردوه، فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم، فأخذ الله لسانه وبصره فجعل لله تعالى إنه إن رد عليه بصره ولسانه لا يدلهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق، فرد الله عليه ذلك وانطلقت أم موسى وألقته في

النيل، وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان بها برص شديد، وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها، فقالوا: أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها، فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس، فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس له كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة، فقال فرعون: ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب، فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها، فعالجته، ففتحته، فإذا هي بصبي صغير، وإذا نور بين عينيه، فألقى الله محبته في قلوب آسية وفرعون، فأخرجوه من التابوت وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت في الحال، فقبلته وضمته إلى صدرها، فقالت الغواة من قوم فرعون: أيها الملك، إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك، فهمّ فرعون بقتله، فاستوهبته آسية من فرعون، فوهبه لها، فترك قتله، وتبنته فقيل لآسية: سميه فقالت: سميته موشى بالشين المعجمة لأنا وجدناه في الماء والشجر فإن معنى مو ماء ومعنى شا شجر فأصل موسى بالمهملة موشى بالمعجمة وذلك قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي أخذت موسى جواري فرعون من بين الماء والشجر يوم الإثنين، وذهبن به إلى امرأة فرعون لِيَكُونَ أي موسى لَهُمْ عَدُوًّا من بعد ما يجيء إليهم بالرسالة وَحَزَناً بذهاب ملكهم. وقرأ حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزي. والباقون بفتحهما. إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) فيما كانوا عليه من الكفر والظلم، فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم. وقال الحسن: معنى «كانوا خاطئين» أي كانوا لا يشعرون أن موسى هو الذي يذهب بمكلهم. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ وهي آسية- لفرعون حين أخرجته من التابوت وهمّ فرعون بقتله لقول الغواة: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هذا الغلام قرة عين لي ولك يا فرعون. قال ابن عباس: لما قالت آسية ذلك قال فرعون: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. قال ابن إسحاق: إن الله تعالى ألقى محبته عليه السلام في قلبه لأنه كان في وجهه ملاحة فكل من رآه أحبه، ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور، ولأنها لما فتحته رأته يمتص إصبعه، ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال. لا تَقْتُلُوهُ خاطبته بلفظ الجمع تعظيما لأجل أن يعاونها فيما تريده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فنصيب منه خيرا لو كان له أبوان معروفان أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، إذا لم يعرف له أبوان وكانت آسية لا تلد وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) . وهذا ابتداء كلام من الله تعالى أي وهم لا يشعرون أن هلاكهم في يده وبسببه. وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل.

[سورة القصص (28) : الآيات 11 إلى 20]

وقال ابن عباس: أي هم لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام. وقال آخرون: هذا من تمام كلام امرأة فرعون، أي بنو إسرائيل وأهل مصر لا يشعرون أنا التقطناه وأنه ليس منا. وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً، أي وصار قلب يوحانذ صفرا من العقل لفرط الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد فرعون. وقيل: أي خاليا من الحزن لغاية وثوقها بوعد الله تعالى أو لسماعها أن فرعون تبناه، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي إنها كادت لتظهر بأمر موسى من فرط الدهشة أو من شدة الفرح بتبني امرأة فرعون. وقال ابن عباس: كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني بعد أن نسب إلى فرعون، وقال أيضا في رواية عكرمة كادت تقول: وا ابناه من شدة حزنها عليه حين رأت الموج يرفع ويضع. وقال الكلبي: ذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شب أنه ابن فرعون لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي لولا حفظنا قلبها بإلهام الصبر لأبدت قصة موسى، لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) أي من المصدقين بوعد الله تعالى برده إليها بأن يكون من المرسلين، أو من الواثقين بحفظ الله تعالى لا بتبني امرأة فرعون وتعطفها وَقالَتْ أم موسى لِأُخْتِهِ الشقيقة مريم- وقال الضحاك: اسمها كلثمة. وقال السهيلي: اسمها كلثوم-: قُصِّيهِ أي فتشي خبره وانظري إلى أين وقع، فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي فأبصرت مريم ذلك الغلام كائنة من مكان بعيد اختفاء عن الناس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) بغرضها وبأنها أخت موسى. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ أي منعناه أن يرتضع من المرضعات التي أحضرها فرعون من قبل مجيء أمه. قال الضحاك: كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها. وروي أن موسى مكث ثمان ليال لا يقبل ثديا وهو يصبح، فقالوا لأخت موسى بعد نظرها له وقربها منه هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها؟ فَقالَتْ، أي أخت موسى لآل فرعون- عند عدم قبوله ثدي أحد من المرضعات- هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه يقومون بجميع مصالحه لأجلكم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) أي وهم لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه، ولا يخونكم فيه. قال السدي: لما قالت مريم ذلك أخذوها وقالوا: إنك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله. فقالت: ما أعرفه! وقالت: إنما أردت أنهم للملك ناصحون فتخلصت منهم بذلك. وقيل: قالوا لها: من هم؟ قالت أمي. قالوا: أو لأمك ابن؟ قالت: نعم هارون. قالوا: صدقت، فأتينا بها فانطلقت إلى أمها وأخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم، فلما وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها، وجعل يمصه حتى امتلأت جنباه ريا. فقالوا: أقيمي عندنا، فقالت: لا أقدر على فراق بيتي إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي به وأظهرت عدم الرغبة فيه نفيا للتهمة، فرضوا بذلك، فرجعت به إلى بيتها.

قال الضحاك: لما قبل ثديها قال هامان: إنك لأمه! قالت: لا، قال: فما حالك قبل ثديك من بين النسوة! قالت: أيها الملك، إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي. قالوا: صدقت، لم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر. فَرَدَدْناهُ أي موسى إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها أي تطيب نفسها بوصول موسى إليها وتربيتها له في بيتها، وَلا تَحْزَنَ على موسى بفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ في رده إليها وجعله من المرسلين حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) ، أن المقصود الأصلي من رده إليها علمها بأن وعد الله حق لا خلف فيه بمشاهدة بعضه، وقياس بعضه عليه، فهذا هو الغرض الديني وما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع، فمكث موسى عند أمه إلى أن فطمته، وأمر فرعون بإجراء أجرتها لكل يوم دينار، فأتت به فرعون واستمر عنده يأكل من مأكوله ويشرب من مائه ويلبس من ملبوسه إلى أن كمل، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي كمال قوته الجسمانية وَاسْتَوى أي تكامل عقله آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً أي أعطيناه علم الحكماء والعلماء، وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الذي أعطينا موسى من الحكم والعلم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) أي الصالحين بالعلم والحكمة، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى مدينة منف في وقت اشتغال أهلها عند نصف النهار. ومنف: بفتح الميم وسكون النون أصلها مآفة، ومعناها بلغة القبط ثلاثون، لأنها أول مدينة عمرت بعد الطوفان نزلها مصر بن حام في ثلاثين رجلا فسميت مافت، ثم عربت منف. قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده وآتاه الله العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن خافوه، وخافهم. وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفا، فدخلها يوما وقت كونهم قائلين فَوَجَدَ فِيها أي المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يلازمان مقدمات القتل من الضرب والخنق هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابع موسى على دينه وهم بنو إسرائيل وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أي ممن خالف موسى في دينه- وهم القبط- فالقبطي: الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه واسمه: فليثون أوفاتون: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على القبطي وأن يخلصه منه، فَوَكَزَهُ مُوسى أي دفعه بأطراف الأصابع. وقيل: بقبضها. وقرأ ابن مسعود فلكزه موسى وقال بعضهم الوكز: في الصدر، واللكز: في الظهر. فَقَضى عَلَيْهِ أي أنهى موسى حياة القبطي وخفي هذا على الناس فلم يعرف به أحد لما هم فيه من الغفلة فندم موسى عليه السلام عليه فدفنه في الرمل قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي هذا القتل من عمل الشيطان لأني لم أومر به أو هذا المقتول من جند الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) أي

[سورة القصص (28) : الآيات 21 إلى 30]

ظاهر العداوة والإضلال قالَ مناجيا مع الله تعالى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل القبطي من غير أمر، فإن فرعون إذا عرف ذلك قتلني به فَاغْفِرْ لِي أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي فستره عن الوصول إلى فرعون إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) أي المبالغ في ستر ذنوب عباده وفي رحمتهم قالَ موسى: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) أي أقسم بإنعامك علي بالقوة والمعرفة فلن أكون معينا لأحد من المشركين، بل أكون معاونا للمسلمين أي إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، ونصرة المؤمن واجبة في جميع الشرائع. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله فلا تجعلني ظهيرا للمجرمين فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فصار موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب بذلك القتل يترقب أي ينتظر نصرة الله إياه، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ أي فإذا الإسرائيلي الذي استعان بموسى على القبطي يَسْتَصْرِخُهُ أي يطلب من موسى نصرته بصياح على قبطي آخر يريد أن يستخدم الإسرائيلي قالَ لَهُ أي للقبطي: مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) في تسخير هذا الإسرائيلي فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما أي فلما أراد موسى أن يأخذ عدوه وعدو الإسرائيلي بسطوة لخلاصة من عدوهما، لأن القبطي لم يكن على دينهما، ولأن القبط أعداء بني إسرائيل قالَ أي القبطي، وكان عرف القصة من الإسرائيلي أو كان توهم من زجر موسى للإسرائيلي أنه هو الذي قتل الرجل بالأمس: يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي اليوم كَما قَتَلْتَ نَفْساً قبطيا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ أي ما تريد يا موسى إلا أن تفعل ما تريده في أرض مصر من ضرب وقتل، من غير نظر في العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) أي المتورعين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانتشر حديث هذه الواقعة في المدينة، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن من آل فرعون اسمه: سمعان، وكان ابن عم فرعون مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من آخرها يَسْعى أي يسرع في مشيه قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ أي أولياء المقتول يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أي يأمر بعضهم بعضا بقتلك فاتفقوا على أن يحتالوا فيك ليهلوك فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) أي المشفقين فَخَرَجَ موسى عليه السلام مِنْها أي المدينة خائِفاً على نفسه من آل فرعون يَتَرَقَّبُ أي ينتظر لحوق الطالبين ويكثر الالتفات وينظر هل يلحقه أحد يطلبه قالَ عند ذلك رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) أي خلصني منهم واحفظي من لحوقهم. وهذا يدل على أن قتله عليه السلام لذلك القبطي لم يكن ذنبا وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي لما قصد الذهاب إلى مدين لأنها ليست تحت ملك فرعون ولأنه وقع في نفسه أن بينه وبين أهل مدين قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو منهم ولم يكن له علم بالطريق، بل اعتمد على فضل الله تعالى قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) ، وهي من إضافة الصفة للموصوف

أي الطريق الوسط، وكان لمدين ثلاث طرق، فأخذ موسى الطريق الوسطي، وأخذ الطلاب الآخريين. وقال ابن إسحاق: خرج موسى من مصر إلى مدين بغير زاد ولا مركوب وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر ونبات الأرض وما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي لما وصل إلى بئر مدين وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيرها أُمَّةً أي جماعة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وكانوا أربعين رجلا وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تحبسان غنمهما عن الماء من ضعفهما حتى يفرغ القوم. وقال ابن إسحاق اسم الكبرى صفوراء والصغرى ليا. قالَ موسى لهما: ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما لا تسقيان غنمكما؟ قالَتا لا نَسْقِي أي لا نقدر أن نسقي غنمنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ. قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال، أي حتى يرجعوا من سقيهم. والباقون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) لا يستطيع أن يسقي، وليس له أحد يعينه غيرنا، فَسَقى لَهُما أي فسقى موسى غنمهما لأجلهما. قيل: عمد موسى إلى بئر على رأسه صخرة لا يرفعها إلا عشرة رجال فنحاها بنفسه، واستقى الماء من ذلك البئر ثُمَّ تَوَلَّى أي انصرف موسى إِلَى الظِّلِّ أي ظل سمرة فجلس فيه ليستريح من حر الشمس، وهو جائع لم يذق طعاما في سبعة أيام فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) أي رب إني بسبب ما أنزلت إلي خير الدين، صرت فقيرا في الدنيا وذلك لأن موسى كان عند فرعون في ثروة، فقال ذلك رضا بهذا البدل وفرحا به، وشكرا له. روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي- وهي الكبرى عند الأكثرين- فَجاءَتْهُ إِحْداهُما واسمها صفوراء تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ أي مائلة عن الرجال رافعة كمها على وجهها قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا مواشينا. روي أن موسى عليه السلام أجابها، فانطلقا وهي أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام. فَلَمَّا جاءَهُ أي جاء موسى شعيبا وَقَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي فراره من فرعون. قالَ شعيب له: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) من أهل مصر فإن فرعون لا سلطان له في أرضنا. قال الضحاك: لما دخل على شعيب قال له: من أنت يا عبد الله؟ فقال: أنا موسى بن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب. وذكر له جميع أمره من لدن ولادته، وأمر

القوابل والمراضع والقذف في اليم، وقتل القبطي، وأنهم يطلبونه ليقتلوه. فقال شعيب: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، أي لأنا لسنا في مملكة فرعون. وروي أن موسى لما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع، فقال شعيب: تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام: أعوذ بالله. قال شعيب: ولم ذلك؟ قال: لأنا من أهل البيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف عوضا. فقال شعيب: عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف، فجلس موسى فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله. قالَتْ إِحْداهُما- وهي التي دعته إلى أبيها، وهي التي تزوجها موسى- يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتخذه أجيرا لرعي أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) . روي أن شعيبا أخذته الغيرة فقال: وما أعلمك بقوته وأمانته؟ فذكرت ما شاهدته منه عليه السلام من كيفية السقي ورفع الصخرة من فم البئر، ومن غض بصره حال ذودهما الماشية، وحال سقيه لهما، وحال مشيه أمامها إلى أبيها. قالَ أي شعيب لموسى عند ذلك: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ أي الحاضرتين عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أي مشروطا على أن تأجرني نفسك في رعي غنمي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً من السنين في العمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فالتمام من عندك بطريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام عليك، وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام أتم الأجلين، ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي بل أساهلك فيها بقدر الإمكان، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) في حسن المعاملة وغيره، وإنما قال شعيب: إن شاء الله، للتبرك ولتفويض أمره إلى معونته تعالى، لا لتعليق صالحه بمشيته تعالى. قالَ موسى: ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي ذلك الشرط ثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا، أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي أيّ أحد الوقتين وفيتكه بأداء الخدمة فيه فلا إثم علي فكما لا إثم علي في قضاء الأكثر لا إثم علي في قضاء الأقصر فقط. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشرط الجاري بيننا وَكِيلٌ (28) ، أي شاهد، ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه وفي بعض الأخبار أن موسى لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغدو أراد الرعي، قال له شعيب عليه السلام: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق، فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنينا عظيما فأخشى عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى، فقاتلته حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى، رأى العصا دامية والتنين مقتولا فارتاح لذلك، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا آية، وعاد إلى شعيب وكان ضريرا فمس الأغنام، فإذا هي أحسن حالا مما

[سورة القصص (28) : الآيات 31 إلى 40]

كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى بالقصة، ففرح بذلك وعلم أن لموسى وعصاه شأنا، فأراد أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال: إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء التي تسقي الغنم منه، ففعل، ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه، فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وَسارَ نحو مصر لصلة رحمه، وزيارة أمه وأخيه بِأَهْلِهِ أي بزوجته وابنه منها والخادم بإذن من شعيب عليه السلام، آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أي رأى من جهة جبل الطور عن يسار الطريق نارا ولما عزم على السير. قال لزوجته: اطلبي من أبيك أن يعطينا بعض الغنم فطلبت من أبيها ذلك قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي انزلوا هاهنا إِنِّي آنَسْتُ ناراً. وقرأ حمزة «لأهله» في الوصل بضم الهاء. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي من عند النار بخبر الطريق، وقد كان موسى تحيّر في الطريق أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ مِنَ النَّارِ. وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها. والباقون بالكسر لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) أي لكي تدفئوا بها. روي أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة، فرقت ماشيته وأصابهم مطر، فوجدوا بردا شديدا، فعند ذلك أبصرنا بعيدة، فسار إليها يطلب من يد له على الطريق فَلَمَّا أَتاها أي النار التي أبصرها، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الشاطئ الأيمن بالنسبة إلى موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ فإنه حصل لموسى عليه السلام في تلك البقعة ابتداء الرسالة، وتكليم الله تعالى إياه والجار والمجرور متعلق ب «نودي» مِنَ الشَّجَرَةِ أي من جهة الشجرة، وهي شجرة عناب أو شوك. وهذا بدل اشتمال من شاطئ أَنْ يا مُوسى ف «أن» مفسرة إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) والعامة على كسر همزة إني على تضمين النداء معنى القول. وقرئ بالفتح فهي معمولة لفعل مضمر تقديره أي يا موسى اعلم أني أنا الله، وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ من يدك. وهذا معطوف على «أن يا موسى» مفسر أيضا ل «نودي» ، فألقاها فصارت ثعبانا، فتحركت رافعة رأسها فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ أي شبيهة بالحية الصغيرة في سرعة حركتها مع غاية عظم جئتها ولم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعت حتى إن موسى سمع صرير أسنانها، وقعقعة الشجر، والصخر في جوفها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ أي لم يرجع، ولم يلتفت إليها قال الله: يا مُوسى أَقْبِلْ إليها وَلا تَخَفْ منها إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) من شرها، فأخذها موسى فإذا هي عصا كما كانت قال الله له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخل كفك اليمين في طوق قميصك وأخرجها تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها ضوء كضوء

الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي أدخل الكف اليمين التي حصل فيها البياض في جيبك، فتعود إلى حالتها، فيزول عنك الفزع الذي حصل لك. وقيل: من أجل الخوف إذا أرهبت بها الناس. وقال ابن عباس: إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الخوف عند معاينة الحية، فمعنى من أجل الرهب، أي إذا أصابك الخوف فافعل ذلك تجلدا وضبطا لنفسك. وقال مجاهد: وكل من فزع فضم جناحه إليه ذهب عنه الفزع. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي فالعصا واليد حجتان نيرتان، كائنتان من الله تعالى، واصلتان إلى فرعون وقومه، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) أي خارجين عن عبودية الله، فكانوا أحقاء بأن نرسلك إليهم بهاتين المعجزتين الباهرتين. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً- هو القبطي- فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) بمقابلتها، فيفوت المقصود بقتلي وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً أي أبين مني كلاما، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي معينا. وقرأ نافع «ردا» بتنوين الدال وحذف الهمزة، يُصَدِّقُنِي أي أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة فربما حصل المقصود من تصديق فرعون. والمراد بتصديق هارون تلخيصه بلسان فصيح وجوه الدلائل. وجوابه عن الشبهات، ومجادلته الكفار. وقرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة ل «ردأ» . ويروى عن أبي عمرو أيضا. والباقون بالجزم وهو المشهور عن أبي عمرو إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) بالرسالة، لأن لساني لا يطاوعني عند المحاجة بسبب العقدة التي حصلت بسبب الجمرة. قالَ الله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ أي سنقوي ظهرك بهارون ونعين أمرك به. وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي غلبة بالحجة في الحال، وغلبة في المملكة في ثاني الحال. فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا. فالآية التي هي قلب العصاحية تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهارون عليهما السلام، لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة، وإن أراد إرسالها إليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما بسوء فصارت مانعة من وصولهم إليهما بالقتل وغيره. أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) على فرعون وقومه بالبرهان: والدولة. وقوله: بِآياتِنا متعلق ب «لا يصلون» أو ب «الغالبون» فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا وهي العصا واليد، ففي كل منهما آيات عديدة بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على صحة رسالة موسى من الله تعالى. قالُوا ما هذا أي الذي جئتنا به، إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، أو سحر كذب هو من تلقاء نفسك، لا إن الذي أظهرته معجزة صادرة من الله تعالى وإنما أنت تفتري على الله تعالى. وَما سَمِعْنا بِهذا أي الذي تدعو إليه من التوحيد والذي تدعيه من الرسالة عن الله تعالى واقعا فِي آبائِنَا

الْأَوَّلِينَ (36) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام. وَقالَ لهم مُوسى - وقرأ ابن كثير بغير واو-: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل: فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب وَقالَ فِرْعَوْنُ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي أنظر إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ (38) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله. واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه، وهي قوله: لا دليل على وجود إله غيري، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله: ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه السلام فرعون بقوله: رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال: إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل: لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وسبك المسامير، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين، فأمر بنشابة، فضرب نحو السماء، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل، وقطعة وقعت في البحر، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ملتبسين بغير استحقاق، وَظَنُّوا أي فرعون وجموعه القبط أَنَّهُمْ إِلَيْنا أي إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ (39) بالنشور.

[سورة القصص (28) : الآيات 41 إلى 50]

وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم فهو من الرجوع. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم فهو من الرجع فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ عقب ما بلغوا أقصى الغايات في العتو، وفي هذا استحقار لهم واستقلال لعددهم، وإن كانوا كبيرا كثيرا وتعظيم لشأن الأخذ فشبههم الله تعالى بحصيات أخذهن آخذ في كفه، فطرحهن في البحر وذلك قوله تعالى: فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي فألقيناهم في البحر. قيل: هو بحر يسمى أسافا من وراء مصر- حكاه ابن عساكر- فَانْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) أي كيف صار آخر أمر المشركين وبينه لقومك ليعتبروا به. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً أي رؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والمعاصي. وقرأ أبو عمر ونافع وابن كثير «أيمة» ، بإبدال الهمزة الثانية ياء وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) فلا يمكن التخلص من العقاب الذي سينزل بهم، لأنهم بلغوا أقصى النهايات في باب المعاصي حتى صاروا قدوة للضلال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا من الرحمة، ولا تزال تلعنهم الملائكة والمؤمنون خلفا عن سلف، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) أي من المطرودين عن الرحمة ومن الموسومين بعلامة منكرة كزرقة العيون وسواد الوجوه وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى هم أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام بَصائِرَ لِلنَّاسِ، أي حال كون الكتاب أنوارا لقلوب الناس، فإنه يستبصر به في باب الدين وَهُدىً إلى كل خير، فإن الكتاب يستدل به والمتمسك به يفوز بمطلوبه من الثواب وَرَحْمَةً لأن الكتاب من نعم الله تعالى على من تعبد به فكل من عمل به ينال رحمة الله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) أي ليكونوا على حال يرجى منه التذكر. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أهلك الله تعالى قرنا من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة» . وَما كُنْتَ يا أفضل الخلق بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي في المكان في شق الغرب من جبل الطور، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام الذي رأى فيه النار، إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي حين أوحينا إلى موسى أمر الرسالة حيث أمرنا بالإتيان إلى فرعون وقومه، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) لموسى وما جرى عليه وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى أمما كثيرة، فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فتغيرت الأحكام، وخفيت عليهم الأخبار لا سيما على آخرهم، فاقتضى الحال إظهار الأحكام الجديدة، فأوحينا إليك، فإخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور لها دلالة ظاهرة على نبوتك، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ أي وما كنت

يا سيد الرسل مقيما في أهل مدين من شعيب والمؤمنين به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أي تقرأ على أهل مدين آياتنا الناطقة بالقصة على طريق التعلم منهم. ويقال: وما كنت مقيما في أهل مدين وقت تلاوتك القرآن على قومك أهل مكة، تخبرهم قصة أهل مدين مع موسى، ومع شعيب حتى تنقلها بطريق المشافهة، وإنما أتتك بطريق الوحي الإلهي فإخبارك لأهل مكة إنما هو عن وحي لا عن مشاهدة للمخبر عنه، وذلك قوله تعالى: وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) إياك، وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وما كنت يا سيد الخلق بجانب جبل زبير حين نادينا موسى ليلة المناجاة والتكليم لما أتى الميقات مع السبعين لأخذ التوراة. ويقال: إذ نادينا أمتك. قال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: رب أرنيهم. قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم، فأسمعه الله تعالى أصواتهم، ثم قال: أجبتكم قبل أن تدعوني، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلنا بالقرآن لرحمة عظيمة كائنة منا لك وللناس. وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي لكن هي رحمة. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي لكي تخوف بالقرآن من العقاب على المعصية قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك لوجودهم في فترة بينك وبين عيسى، وهي خمسمائة وخمسون سنة أو بينك وبين إسماعيل بناء على القول بأن دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) أي يتعظون بإنذارك وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) أي ولولا أنهم قائلون بلسان الحال إذا عوقبوا يوم القيامة بسبب اكتسابهم في كفرهم أنواع المعاصي، لم لم ترسل إلينا رسولا مع الكتاب قبل هذا العذاب، فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع كتابك، ونصدق بكل ما أتى به رسولك؟ ما أرسلناك إليهم وإنما أرسلنا الرسول قطعا لمعاذيرهم بالكلية، أي لكي لا يكون لهم حجة علينا، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي فلما جاء الرسول بالكتاب المعجز أهل مكة قالُوا- أي كفار مكة- تعنتا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أي هلا أعطي محمد مثل ما أعطي موسى من الكتاب المنزّل جملة واحدة ومن قلب العصا حية، ومن اليد البيضاء وغير ذلك قال تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أي ألم يكفر كفار مكة من قبل القول بما أعطى موسى من الكتاب كما كفروا بهذا القرآن، فإن كفار قريش كانوا منكرين لجميع النبوات، فلما طلبوا من سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم معجزات سيدنا موسى عليه السلام رد الله تعالى عليهم بذلك القول، لأنه لا غرض لهم من هذا الاقتراح إلا التعنت قالُوا أي كفار مكة: سِحْرانِ تَظاهَرا. وقرأ الكوفيون بكسر السين وسكون الحاء والمعنى: أن ما أوتي محمد وما أتي موسى

[سورة القصص (28) : الآيات 51 إلى 60]

سحران تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر. وقرأ الباقون «ساحران» بصيغة اسم الفاعل، أي محمد وموسى ساحران أعان كل منهما صاحبه على سحره. روي أن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة ليسألهم عن شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فسألوهم عنهم فقالوا: إنا نجده في التوراة بصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا: إن موسى كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال تعالى في حقهم: أولم يكفروا بما أوتي موسى وَقالُوا أي كفار مكة إِنَّا بِكُلٍّ من التوراة والقرآن أو من محمد وموسى كافِرُونَ (48) غير مصدقين قُلْ لهم تعجيزا لهم وتوبيخا: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما، أي إذا لم تؤمنوا بهذين الكتابين وقلتم فيهما ما قلتم فأتوا بكتاب من عند الله هو أوضح في هداية لخلق منهما، أَتَّبِعْهُ أي فإن أتيتم به أتبعه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) . أي في قولهم أن التوراة والقرآن سحران مختلفان فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما فاعلم أنهم ليس لهم مستند وإنما لهم محض هواهم الفاسد. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي لا أضل منه لأنه أضل من كل ضال، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) لأنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والأعراض عن الآيات الهادية إلى الحق، وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أي أنزلنا القرآن منجما يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى تنبيه كفار مكة، فإنهم كل يوم يطلعون على فائدة، فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر أو جعلنا القرآن أنواعا من المعاني من قصص وعبر ونصائح، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) فيؤمنون بما في القرآن. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل مجيء القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وهم مؤمنو أهل الكتاب وَإِذا يُتْلى، أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ أي القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ، أي من قبل قراءة القرآن علينا مُسْلِمِينَ (53) ، أي مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بمحمد قبل بعثته وبعد بعثته بِما صَبَرُوا على طعن الكفار وأذاهم متى بينوا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم ودخلوا في دينه. قال مقاتل: هؤلاء لما آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران: أجر على الصفح، وأجر على الإيمان. وقال السدي: إن اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي ويدفعون بالطاعة المعصية وبالعفو الأذى، وبالامتناع من المعاصي فإن نفس الامتناع حسنة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) . وقال سعيد بن جبير: وهم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له: يا نبي الله، إن لنا أموالا فإن أذنت انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا بها المسلمين، فأذن لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فنزلت هذه الآيات الثلاث وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أي ما لا ينفع في دين ودنيا أَعْرَضُوا عَنْهُ أي اللغو

وَقالُوا للاغين: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لنا ديننا ولكم دينكم، سَلامٌ عَلَيْكُمْ وهو سلام إعراض وفراق، لا سلام تحية فلا نقابلكم بمثل ما فعلتم بنا، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) . أي لا نطلب صحبتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم فإن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم. إِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) . عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فاتبعوه وأعينوه ترشدوا، وأنه قال: ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا رسولا كموسى صح ذلك في الكتب، وأنه قال عند قرب موته مخاطبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت قبل أمينا ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا واعلم أنه لو ترك شخص النطق بالشهادتين بعد المطالبة لا لإباء عن الإسلام ولا لعناد له، بل لخوف من ظالم أو من ملامة، أو مسبة عند من يعظم ذلك، وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يكون كافرا بينه وبين الله، بل لو تكلم بالكفر والحالة هذه لا يضره.

وقال الحليمي: لا خلاف أن الإيمان ينعقد بغير كلمة لا إله إلا الله حتى لو قال: لا إله غير الله ولا إله ما عدا الله، أو ما سوى الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن إلا الله أو إلا البارئ فهو كقوله: لا إله الا الله اه. وكذا قال: محمد نبي الله أو مبعوثه أو نحو ذلك، أو ما يؤدي إلى ذلك باللغات العجمية صح إسلامه وحكم بكونه مسلما وفي الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: «آدم ومن دون تحت لوائي وإن عبد المطلب يعطي نور الأنبياء وجمال الملوك» «1» . وعن جعفر بن محمد الصادق قال: ويحشر عبد المطلب له نور الأنبياء وجمال الملوك، ويحشر أبو طالب في زمرته، أي إنما يعطى عبد المطلب نور الأنبياء، لأنه كان على التوحيد، ولأنه مستقل لا تابع، وهو من أهل الفترة وإنما يعطى جمال الملوك، لأنه كان سيد قريش في زمانه فهو في ذلك ملحق بالملوك الذين عدلوا وما ظلموا ، ومما يدل على أن أبا طالب مؤمن ما روي عن إسحاق بن عبد الله بن الحرث قال: قال العباس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أترجو لأبي طالب خيرا؟ قال: «كل الخير أرجو من ربي» «2» رجاؤه صلّى الله عليه وسلّم محقق ولا يرجو كل الخير إلا لمؤمن. وما روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ كان لي في الجاهلية» «3» . أورده المحب الطبري أي وهو الأخ من الرضاعة. وفي الحديث: «إني ادخرت شفاعتي جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا» . اه. وما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أن أبا طالب أخرج من طمطام النار وغمراتها إلى ضحضاح، منها وخفف عنه من عذابها وجعل أخف أهل النار عذابا ألبس نعلين من النار، فما مست النار إلا تحت قدميه، ولو كان كافرا لكان عذاب الكفر فوق عذاب الكبائر قطعا، ولو وجد مؤمن من عاص أخف عذابا من أبي طالب لزم الخلف في قوله صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله أخف أهل النار على الإطلاق فوجب أن يكون عذابه كعذاب عصاة المؤمنين في مقابلة كبيرة كذا في رسالة السيد رسول البر زنجي. وَقالُوا أي أهل مكة: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي إن نوحد الله معك يا محمد نطرد من مكة. روي أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا، أي أن يجتمعوا على

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (133) . (2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (10: 378) . (3) رواه الحاكم في المستدرك (4: 306) ، والبغوي في شرح السنّة (14: 224) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 151) .

[سورة القصص (28) : الآيات 61 إلى 70]

أي ألم نجعل مكانهم حرما ذا أمن يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي يحمل إليه من كل ناحية ألوان كل شيء من الثمرات. وقرأ نافع بالتاء الفوقية. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان حالهم ما ذكر مع كونهم عبدة أصنام، فكيف يخافون أن نسلط عليهم الكفار إن ضموا إلى حرمة!؟ البيت، حرمة الإيمان ف «رزقا» إما مصدر مؤكد ل «يجبي» أو مفعول له، أو حال من «ثمرات» بمعنى مرزوق. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) إنا جعلنا الحرم آمنا وإنا سقنا إليه الرزق من كل جهة وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثير من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في إدرار الرزق حتى طعنوا بالنعمة في زمن حياتها فأهلكناهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا في زمن قليل يسكنها المسافرون ومارو. الطريق وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) أي المالكين لها بعد هلاك أهلها، وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي مهلك أهل القرى، حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أعظمها رَسُولًا. فعاد الله أن يبعث الرسل في المدن، لأن أهل أفطن وغيرهم يتبعهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على الحق والداعية إليه بالترغيب والترهيب، وذلك لقطع المعذرة وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أشرافهم رسولا يدعوهم إلى الحق في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا، وبالكفر بآياتنا. وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها أي وما أعطيتم يا معشر قريش من أسباب الدنيا كالمال والخدم، فهو شيء عادته أن ينتفع به ويتزين به أيام حياتكم. وقرئ «فمتاعا الحياة» بنصب الكلمتين على المصدر، وعلى الظرف أي يتمتعون متاعا في الحياة الدنيا. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أي فمنافع الآخر لمن آمن بالله وبرسوله أعظم وأدوم مما لكم في الدنيا، فنصيب كل أحد في الآخرة بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فكيف قلتم تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا. أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الدنيا فانية والآخرة باقية! أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ؟ أي أفمن وعدنا وعدا بالجنة فهو مدرك الموعود به من غير شك كمن أعطيناه المال والخدم في الدنيا، ثم هو يوم القيامة نحضره للعذاب؟ قال محمد بن كعب: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي، وفي أبي جهل. وقال غيره: في حمزة أو عثمان بن عفان وفي أبي جهل. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ معطوف على يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) ؟ أي ويوم ينادي الله المشركين فيقول توبيخا لهم: أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة، تزعمون أنهم يشفعون لكم، أين هم لينصروكم من هذا الذي نزل بكم؟! قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي الذين ثبت عليهم مدلول

قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا. قال أبو علي: «الذين أغوينا» خبر لاسم الإشارة، و «أغويناهم» مستأنف. والمعنى: هؤلاء هم الذين أضللناهم فصاروا أتباعا آثروا الكفر على الإيمان، فضلوا باختيارهم ضلالا مثل ضلالنا باختيارنا وكنا سببا في كفرهم فقبلوا منا وما أكرهناهم عليه تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) أي ما كانوا يطيعوننا، وإنما كانوا يطيعون أهواءهم، وَقِيلَ للكفار تبكيتا لهم: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولا انتفعوا بهم وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) أي أبصر المشركون العذاب لو أنهم يبصرون شيئا، فإنهم لما خاطبهم الله تعالى بقوله: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ اشتد الخوف عليهم حتى يصيروا بحيث لا يبصرون شيئا. أو المعنى: لما قيل: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ دعوا الأصنام مرارا كثيرة حتى كان الأصنام يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين. أو المعنى: وعلم الكفار حقيقة هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون. قال الرازي: وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب «لو» محذوف. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف ما قبله سئلوا أولا: عن إشراكهم. وثانيا: عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك فَيَقُولُ الله تعالى: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) إليكم بما دعوكم فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أي فخفيت عليهم الأخبار يوم إذ سئلوا عن ذلك فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب النافع، لأنهم يتساوون جميعا في العجز عن الجواب المنجي لفرط الدهشة، فلا نطق ولا عقل. فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وَعَمِلَ صالِحاً أي خالصا فيما بينه وبين الله فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) أي فليطمع في الفلاح والنجاة من العذاب وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ أن يخلقه وَيَخْتارُ ما يشاء اختياره. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي ليس لهم الاختيار المؤثر عنهم، وليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل. قال العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقوم على أمر من أمور الدنيا إلا حتى يسأل الله تعالى الخيرة في ذلك بأن يصلي صلاة الاستخارة بالكيفية المشهورة، وأهل الرضا حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، فلا يرضيهم، إلا ما يرضيه ولا يريدون إلا ما يريده، فيمضيه، وروي أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة حين قال: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ويقصد بذلك الوليد بن المغيرة، أو أبا مسعود الثقفي، فأجاب الله تعالى عنه بقوله تعالى: وَرَبُّكَ إلخ، والمعنى: لا يبعث الله تعالى الرسل باختيار

[سورة القصص (28) : الآيات 71 إلى 80]

المرسل إليهم. سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) أي تنزيها له تعالى عن أن يزاحم اختياره تعالى اختيار. والمقصود أن يعلم العبد أن الإعزاز والإذلال مفوّض إليه تعالى ليس لأحد في الخلق، والاختيار شركة له تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما يُعْلِنُونَ (69) من الطعن في الرسول بألسنتهم وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي وهو المستحق للعبادة لا أحد يستحقها إلا الله. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لأن الثواب غير واجب عليه، بل هو تعالى، يعطيه فضلا وإحسانا منه تعالى، فله الحمد في الدنيا والآخرة لأنه معطي النعم كلها، فيحمده المؤمنون في الآخرة فرحا بفضله، والتذاذا بحمده بقولهم: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، الحمد لله الذي صدقنا وعده وَلَهُ الْحُكْمُ النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغير في الدنيا والآخرة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) بالخروج من القبور. قُلْ يا أفضل الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق غير المرئي مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يخرجكم من مشقة الظلام؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) هذا الكلام الحق سماع تفهم تطيعون من يفعل ذلك! قُلْ لهم: أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، استراحة عن متاعب الأشغال؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) ، هذه المنفعة الظاهرة ولا تنتظرون بقلوبكم ما أنتم عليه من الخطأ! وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي نعمته تعالى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لأغراض ثلاثة لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في أحدهما وهو الليل، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في الآخر، وهو النهار بأنواع المكاسب. ففي هذا مدح للسعي في طلب الرزق كما ورد في الحديث: «الكاسب حبيب الله وهو لا ينافي التوكل» . وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) أي لكي تشكروا على المنفعتين معا. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي أذكر يوم ينادي الله المشركين يوم القيامة فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) ؟ أي أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصهم من الهلاك؟ وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي أخرجنا من كل أمة نبيا يشهد عليهم بما كانوا عليه في كل زمان، فيدخل فيه الأحوال التي في أزمنة الفترات، وفي الأزمنة التي حصلت بعد سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْنا لهم: هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا أي كل أمة يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ أي أن حقيقة الإلهية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) أي زال عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا بالكذب إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى. وروى أبو إمامة الباهلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان قارون من السبعين المختارين الذين سمعوا كلام الله تعالى» - قيل هو ابن عم موسى- وعن ابن عباس كان ابن خالته، ثم قيل: إنه

كان يسمى المنور ولحسن صورته وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، إلا أنه نافق كما نافق السامري فَبَغى عَلَيْهِمْ، أي طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره، كما قاله القفال، وقال ابن عباس: تكبر عليهم اه-، ثم حسد موسى على رسالته، وهارون على إمامته في الذبح فكفر بعد ما آمن بهما بسبب كثرة ماله. ويروى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر جعل الحبورة والقربان لهارون فقال قارون: يا موسى لك الرسالة، ولهارون الحبورة- وهي إمامة الذبح- ولست في شيء ولا أصبر أنا على هذا. فقال موسى عليه السلام: والله ما صنعت ذلك لهارون، ولكن جعله الله له. فقال: لا والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية أعرف بها أن الله جعل ذلك لهارون فأمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصا، فجاءوا بها، فحزمها موسى، فألقاها في قبة له، فباتوا يحرسون عصيهم، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر، وكانت من شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون أما ترى ما صنع الله لهارون. فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فاعتزل قارون ومعه ناس كثير من أتباعه من بني إسرائيل، فما كان يأتي موسى عليه السلام ولا يجالسه وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي وأعطينا قارون من الأموال المدخرة الذي أن مفاتيح صناديقه لتثقل الجماعة الكثيرة الأقوياء وأخرج الدينوري عن خيثمة قال: قرأت في الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون وقر ستين بغلا كل مفتاح منها على قدر إصبع، لكل مفتاح منها كنز إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ أي المؤمنون من بني إسرائيل لا تَفْرَحْ بكثرة المال فالفرح بالدنيا من حيث إنها دنيا مذموم مطلقا. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) بزخارف الدنيا وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي اطلب ثواب الله تعالى بسبب المال بأن تصرفه إلى ما يؤديك إلى الجنة كصدقة وصلة رحم، وإطعام جائع، وكسوة عار ونفقة على محتاج وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تترك العمل في الدنيا للآخرة، وخذ ما تحتاجه من الدنيا وأخرج الباقي كما في الحديث: «اغتنم خمسا: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» «1» . وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي وأحسن إلى عباد الله تعالى إحسانا كإحسان الله تعالى إليك فيما أنعم إليك، فيدخل في الإحسان الإعانة بالمال والجاه، وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر. وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ أي لا تطلب الفساد بعمل المعاصي في الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) أي أنه تعالى يعاقب المفسدين بسوء أفعالهم. قالَ قارون مجيبا لناصحه: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أي أنما أعطيت هذا المال حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي، وفضلت به على الناس

_ (1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10: 163) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 147) .

[سورة القصص (28) : الآيات 81 إلى 88]

بالمال والجاه، فكان ذلك لفضل علمي بالتوراة، واستحقاقي لذلك، أي لأنه أقرأ بني إسرائيل للتوراة كما قاله قتادة ومقاتل والكلبي اه-. وقال سعيد بن المسيب والضحاك: كان موسى عليه السلام أنزل عليه علم الكيمياء من السماء، فعلّم قارون ثلث العلم، ويوشع ثلثه، وكالب ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص فيجعله فضة، والنحاس فيجعله ذهبا، وكان ذلك سبب كثرة أمواله. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً أي أعلم قارون ما ادعاه، ولم يعلم أن الله قد أهلك من هو أقوى منه، وأغنى، وأكثر جماعة حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته؟! وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) ، أي لا يسأل الله عن صفة ذنوب المجرمين وعددها إذا أراد أن يعاقبهم لأنه تعالى عالم بكل المعلومات، فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ أي فخرج قارون يوم السبت متزينا مع أتباعه كانوا أربعة آلاف على زيه، وكان عن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج، وكانت بغلته شهباء سرجها من ذهب وكان على سرجها الأرجوان- بضم الهمزة والجيم، وهو قطيفة حمراء- وكانت خيولهم وبغالهم متحلية بالديباج الأحمر، ومعهم ألوان السلاح. وقال ابن زيد: خرج في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رؤي فيه المعصفر. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا من المؤمنين جريا على طريقه الجبلة البشرية من الرغبة في السعة يا للتنبيه لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ من هذه الأموال وهذه الزينة إِنَّهُ أي قارون لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) . أي لذو بخت وافر من الدنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا والآخرة للراغبين في الدنيا: وَيْلَكُمْ أي ضيق الله عليكم الدنيا. وهذا زجر عن ذلك التمني ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً من هذه النعم، لأن الثواب منافع عظيمة وخالصة عن شوائب المضار، ودائمة، وهذه النعم العاجلة على الضد من هذه الصفات الثلاثة. وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) أي ولا يعطى هذه الطريقة التي هي الإيمان والعمل الصالح إلا الصابرون على أمر الله، والمرازي. أو ولا يعطى الجنة التي هي الثواب إلا الصابرون على مخالفات النفس وموافقات الشريعة. فَخَسَفْنا بِهِ أي بقارون وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. روي أن قارون كان يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وكذلك سائر الأشياء، ثم رجع إلى بيته فحسبه، فوجده شيئا كثيرا، فلم تسمح نفسه بذلك، فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت سيدنا وكبيرنا، فمرنا بما شئت. قال: نبرطل فلانة البغي كي تقذف موسى بنفسها فإذا فعلت ذلك رفضه بنو إسرائيل، فدعوها، فجعل قارون لها طشتا من ذهب مملوءا ذهبا، فلما كان يوم عيد قام

موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن كان محصنا رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا قال: إن بني إسرائيل يقولون: إنك فجرت بفلانة قال موسى: ادعوها فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة ألا تصدقين فتداركها الله بالتوفيق، فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخرّ موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب، إن كنت رسولك فاغضب لي. فأوحى الله تعالى إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فمرها بما شئت. فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل عنه، فاعتزلوا جميعا غير رجلين، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل ذلك يتضرعون إلى موسى ويقول له: قارون بالله والرحم، وموسى عليه السلام لا يلتفت إليه لشدة غضبه، ثم قال: يا أرض خذيهم. فانطبقت الأرض عليهم، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. فَما كانَ لَهُ أي لقارون مِنْ فِئَةٍ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره بدفع العذاب عنه وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) أي من الممتنعين بأنفسهم من عذاب الله تعالى، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ أي وصار الذين تمنوا مثل رتبة قارون من الدنيا من زمان قريب، يَقُولُونَ متنبهين على خطأهم في تمنيهم لمّا شاهدوا الخسف وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي أعجب أنا، لأن الله يوسع المال على من يشاء من عباده وهو مكر منه تعالى- كما كان لقارون- ويقتر على من يشاء وهو نظر منه تعالى فإن القوم لما شاهدوا ما نزل بقارون من الخسف تندموا على تمنيهم حيث علموا أن بسط الرزق لا يكون لكرامة الرجل على الله، ولا تضييقه لهوانه عنده فتعجبوا من أنفسهم كيف وقعوا في مثل هذا الخطأ و «وي» اسم فعل بمعنى: أعجب أنا، والكاف للتعليل. وقال أبو الحسن و «وي» اسم فعل، والكاف حرف خطاب و «أن» على إضمار اللام. وقيل: «وي» اسم فعل، و «كأن» للتحقيق أي أعجب أنا وقد علمت أن كلا من البسط والقبض بمقتضى مشيئته تعالى، وليس البسط للكرامة والقبض للهوان لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالإيمان والرحمة لَخَسَفَ بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) . وقيل «وي» كلمة للزجر، والكاف حرف خطاب، و «أن» معمولة لمحذوف أي انزجر عن تمنيك. واعلم أنه لا ينجو المكذبون برسول الله من عذاب الله تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي نعطيها لمن لا يريدون غلبة وتكبرا وَلا فَساداً أي

ظلما على العباد كدأب فرعون وقارون، وَالْعاقِبَةُ الحميدة- وهي الجنة- لِلْمُتَّقِينَ (83) أي الذين يتقون ما لا يرضاه الله تعالى من الأفعال والأقوال. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ أي من جاء يوم القيامة متصفا بالحسنة، المقبولة، الأصلية، المعمولة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فله بمقابلتها ثواب خير منها ذاتا، وصفة، وقدرا بالمضاعفة. ومثل المعمولة ما في حكمها كما لو تصدق عن غيره، فخرج بالمعمولة ما لو همّ بحسنة فلم يعملها لمانع، فإنها يجازى عليها من غير تضعيف، وخرجت الحسنة المأخوذة في نظير الظلامة فلا تضاعف له، وخرج بالأصلية الحسنات الحاصلة بالتضعيف فلا تضاعف وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهي ما يذم فاعلها شرعا فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) أي الإجزاء مثل ما كانوا يعملون إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن والعمل بما فيه من الأحكام لرادك إلى مكة. فإنه صلّى الله عليه وسلّم خرج من الغار ليلا وسار في غير الطريق مخافة الطلب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل وقال له: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم» . فقال جبريل: إن الله تعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي مكة غالبا عليهم قُلْ يا أشرف الخلق للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والإعزاز بالإعادة إلى مكة وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وما يستحقونه من العقاب والإذلال في بلدهم يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك نفسه والمشركين، وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وما كنت قبل مجيء الرسالة إليك ترجو إنزال القرآن عليك، وكونك نبيا فإنزاله عليك ليس عن ميعاد وكونك نبيا ليس عن تطلب سابق منك ولكن أنزل إليك القرآن وتجعل نبيا لأجل الترحم من ربك فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) أي معينا لهم بالإجابة إلى طلبتهم وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي لا تركن إلى أقوال الكافرين فيصدوك عن اتباع آيات الله بعد وقت إنزالها عليك وإيجاب العمل بها وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى دين ربك وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) بإعانتهم في الأمور، لأن من رضي بطريقتهم أو مال إليهم كان منهم، وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا تعتمد على غير الله ولا تتخذ غيره وكيلا في أمورك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا نافع ولا ضار ولا معطي ولا مانع إلا هو كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ أي معدوم في حد ذاته فإن وجوده كلا وجود، لأن وجوده ليس ذاتيا إِلَّا وَجْهَهُ أي ذاته تعالى. وقيل: معنى كونه هالكا: كونه قابلا للهلاك والمستثنى من الهلاك والفناء ثمانية أشياء نظمها السيوطي في قوله: ثمانية حكم البقاء يعمها ... من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة ... وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم لَهُ الْحُكْمُ النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ أي إلى جزائه بالعدل عند البعث تُرْجَعُونَ (88) .

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية، تسع وستون آية، وألف وتسعمائة واحدى وثمانون كلمة، وأربعة آلاف وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) أي أظن الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين بمجرد ذلك النطق، لا بل يمتحنون ليتميز الراسخ في الدين من غيره. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد، وسلمة بن هشام. وكانوا يعذبون بمكة، فكانت صدورهم تضيق بذلك. والمقصود: الأقصى من الخلق العبادة والمقصد الأعلى في العبادة حصول محبة الله وكل من كان قلبه أشد امتلاء من محبة الله فهو أعظم درجة عند الله، لكن القلب ترجمان وهو اللسان وله مصدقات، هي الأعضاء ولها مزكيات فإذا قال الإنسان باللسان: آمنت فقد ادعى محبة الله في الجنان فلا بد له من شهود، فإذا استعمل الأركان في الإتيان بما عليه من أركان الإسلام حصل له على دعواه شهود مصدقات، فإذا بدل نفسه وماله في سبيل الله وزكى أعماله بترك ما سوى الله زكى شهوده الذين صدقوه فيما قاله، فحينئذ يحرر اسمه في جرائد المحبين ويقرر قسمه في أقسام المقربين وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي ابتلينا الماضين كسيدنا إبراهيم ألقى في النار وكقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أي فليظهرن الصادقين في قولهم آمنا من الكاذبين في ذلك، فمن الناس من لا يصبر في البلاء ولا يشكر في النعماء، فهو من الكاذبين، ومنهم من يصبر في حال البلاء ويشكر في حال النعماء، فهذه صفة الصادقين، ومنهم من لا يستمتع في العطاء بل يؤثر في حال الرخاء، ويستريح إلى البلاء، ويستعذب مقاساة العناء، وهذا أجل الكبراء أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أي بل أحسب المشركون أنهم يفرون منا ويفوتون عذابنا فلا نقدر على مجازاتهم بعصيانهم. ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) أي بئس الذين يحكمونه حكمهم ذلك مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ، أي من كان يطمع في ثواب الله فليعمل عملا صالحا، فإن الوقت المضروب له لجاء لا شك في مجيئه وَهُوَ السَّمِيعُ

الْعَلِيمُ (5) ، فيسمع ما قالوه، ويعلم ما يعملونه، فللعبد أمور ثلاثة من أصناف حسناته عمل قبله، فهو لا يرى ولا يسمع وإنما يعلم، وعمل لسانه فهو يسمع، وعمل أعضائه وهو يرى فإذا أتى بهذه الأشياء يجعل الله لمسموعه ما لا أذن سمعت، ولمرئيه ما لا عين رأت، ولعمل قلبه ما لا خطر على قلب أحد، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي ومن صبر على الشدة في محاربة الكفار وفي مخالفة النفس فإن منفعة صبره له لا لله تعالى. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) فلا حاجة له إلى طاعتهم، وإنما أمرهم بطاعة الله توجيها لهم للثواب بمقتضى رحمته وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) ، أي بأحسن جزاء أعمالهم فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، فالمؤمن يدخل الجنة بإيمانه، وتكفر سيئاته به فلا يخلد في النار فحينئذ يكون الجزاء الأحسن غير الجنة، وهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أن يكون هو رؤية الله تعالى. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرنا الإنسان بالبر بوالديه والعطف عليهما لأنهما سبب وجود الولد وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي وإن أمراك أن تشرك بي ما ليس لك بإلهيته علم فلا تطعهما في الإشراك فقوله: ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى أن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم بطلانه؟! روي أن حمية بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس لما سمعت بإسلام ولدها سعد بن أبي وقاص الزهري، وهو من السابقين إلى الإسلام قالت له: يا سعد بلغني إنك قد صبأت فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، فأبى سعد وكان أحب أولادها إليها ولبثت هي ثلاثة أيام لا تنتقل من الضح، ولا تأكل، ولا تشرب حتى غشي عليها وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد عليه السلام! فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت، ثم جاء سعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما كان من أمرها فأنزل الله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ الآية. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي عاقبتكم إلى، وإن كان اليوم مجالستكم بالآباء والأولاد والأقارب. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) فلا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون، فتوافقون الحاضرين في الحال فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه فأجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) أي لنجعلهم في عداد المجردين الذين لا فساد لهم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي في دين الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ مع ضعفها وانقطاعها كَعَذابِ اللَّهِ الأليم الدائم في الآخرة حتى كفر. نزلت هذه الآية في المنافقين- كعياش بن أبي ربيعة المخزومي- فإنهم قالوا للمؤمنين: إيماننا كإيمانكم فإذا همّ الكفار بالضرب بالسياط جعلوا ذلك الأذى صارفا لهم عن الإيمان كما أن عذاب الله في النار دائما

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 11 إلى 20]

صارف للمؤمنين عن الكفر وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ وهو فتح مكة وغنيمتها لَيَقُولُنَّ أي عياش وأصحابه، إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي في الإيمان وإنما أكرهنا حتى قلنا ما قلنا فأشركونا في الغنيمة، لأننا على دينكم قال تعالى تكذيبا لهم في قولهم: أنا على دينكم. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) من الإخلاص في الإيمان والنفاق فيه، ثم أسلم عياش وأصحابه بعد ذلك وحسن إسلامهم وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص، فثبتوا على الإسلام عند البلاء وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) بترك الإيمان عند البلاء، أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- وهو الوليد ابن المغيرة، وأبو جهل وأصحابهما- لِلَّذِينَ آمَنُوا- كعلي وسلمان وأصحابهما-: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي ديننا في عبادة الأوثان وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي ذنوبكم عنكم يوم القيامة. وقرأ الحسن وعيسى بكسر لام الأمر، وهو لغة الحجاز وليس هذا أمرا في الحقيقة وردّ الله عليهم بقوله: وَما هُمْ أي الكفار بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ أي من ذنوب المؤمنين مِنْ شَيْءٍ يوم القيامة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) في مقالتهم وَلَيَحْمِلُنَّ أي الكفرة أَثْقالَهُمْ أي أوزار ما اقترفته أنفسهم كاملة، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي وأوزار الذين يضلونهم مع أوزارهم، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) في قولهم ولنحمل خطاياكم فإنه صادر من اعتقادهم أن لا خطيئة في الكفر، ومن اعتقادهم أن لا حشر، ويقال لهم: أما قلتم أن لا حشر؟ ويقال لهم: احملوا خطاياهم فلا يحملون فيسألون. ويقال لهم: لم افتريتم؟ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً يدعوهم إلى التوحيد فلم يجيبوه. قال ابن عباس: كما عمر نوح عليه السلام ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين سنة، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان ستين سنة فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي الماء الكثير المحيط بهم والمرتفع على أعلى جبل أربعين ذراعا، وَهُمْ ظالِمُونَ (14) أي والحال أنهم مصرون على كفرهم. فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي ومن ركب في السفينة معه عليه السلام، من أولاده وأتباعه- وكانوا ثمانين- وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) أي علامة دالة على قدرة الله تعالى وعلمه، ووحدته ليتعظوا بها وذلك أن السفينة اتخذت قبل ظهور الماء ولولا إعلام الله نوحا بذلك لما اشتغل بها، فلا تحصل لهم النجاة، وأن الله أمر نوحا بأخذ قوم معه وأقواتهم، ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل لهم النجاة. قال أبو السعود: عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا ومائتين وأربعين سنة وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وأرسلناه حين تكامل عقله وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن

تشركوا به شيئا فقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ إشارة إلى إثبات الإله الواحد. وقوله: وَاتَّقُوهُ إشارة إلى نفي عيره وأيضا ف «اعبدوا الله» إشارة إلى الإتيان بالواجبات فيدخل فيه الاعتراف بالله، واتقوه إشارة إلى الامتناع عن المحرمات، فيدخل فيه الامتناع من الشرك ذلِكُمْ أي عبادة الله وتقواه خَيْرٌ لَكُمْ عقلا واعتبارا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) الدلائل والاعتبارات، فإن ضد عبادة الله تعطيل، وضد تقواه تشريك، وكلاهما شر عقلا واعتبارا أما عقلا: فلأن الممكن لا بد له من مؤثر واجب الوجود، ثم إن شريك الواجب إن لم يكن واجب الوجود فكيف يكون شريكا، وإن كان كذلك لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويختلفان في الإلهية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين، فيلزم التعطيل. وأما اعتبارا: فلأن الشرف إما أن يكون ملكا أو قريب ملك، فالإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين، فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك فلا يكون قربه إلا بعبادة، فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتباره بوجود ملك فلا مرتبة له أصلا، ثم من يكون سيده لا نظير له يكون أعلا رتبة ممن يكون لسيده شركاء خسيسة، فإن من يقول: إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول: سيدي صنم منحوت. فثبت أن عبادة الله وتقواه خير للناس. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أي أحجارا لا تستحق العبادة. وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة، وتدعون أنها شفعاؤكم. وقرئ «تخلقون» بتشديد اللام للتكثير في الخلق الذي بمعنى الكذب. وقرئ «تخلقون» بحذف إحدى التاءين من «تخلق» بمعنى: تكذب. وذكر سيدنا إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ الوجوه، وذلك لأن المعبود إنما يعبد لأحد أمور أربعة: إما لكونه مستحقا للعبادة بذاته كالعبد يخدم سيده الذي اشتراه. وإما لكونه نافعا في الحال كمن يخدم غيره لخير يوصله إليه كالمستخدم بأجرة. وإما لكونه نافعا في المستقبل كمن يخدم غيره راجيا منه أمرا في المستقبل. وإما لكونه خائفا منه. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي فاطلبوا من الله تعالى كل الرزق وَاعْبُدُوهُ لكونه مستحقا للعبادة لذاته، وَاشْكُرُوا لَهُ لكونه سابق النعم بالخلق ومعطي النعم بالرزق إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) فيرجى الخير منه لا من غيره. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فلا تضرونني بتكذيبكم، فإن من قبلكم من الأمم قد كذبوا من قبلي من الرسل- وهم شيث، وإدريس، ونوح عليهم السلام- فلم يضرهم تكذيبهم شيئا. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) ، أي إلا ذكر

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 21 إلى 30]

المسائل وإقامة البرهان عليه. أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظر هؤلاء القوم ولم يعلموا علما جاريا مجرى الرؤية في الظهور؟ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ أي يخلقهم، ولم يكونوا شيئا مذكورا، ويخلقهم من نطفة من غذاء هو ماء وتراب وهذا القدر كاف في حصول العلم بإمكان الإعادة، فإن الإعادة، مثل البدء ثُمَّ يُعِيدُهُ؟ أي الخلق كما بدأهم إِنَّ ذلِكَ أي الإعادة عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) إذ لا يفتقر فعله تعالى إلى شيء أصلا قُلْ يا إبراهيم لقومك: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سيّروا فكركم في الأرض، وأجيلوا ذهنكم في الحوادث الخارجة عن أنفسكم، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ أي فانظروا إلى الأشياء المخلوقة ليحصل لكم علم بأن الله بدأ خلقا، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ، فإن من علم قدرته تعالى على جميع الأشياء لا يتصور أن يتردد في وقوع الإعادة بعد ما أخبر الله به، يُعَذِّبُ بعد النشأة الآخرة مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم المنكرون لها، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ أن يرحمه وهم المصدقون بها وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) ، أي فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات إليه تعالى إيابكم وعليه حسابكم، وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ بممتنعين منه تعالى أي لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله. وهذا خطاب لقوم فيهم النمروذ الذي حاول الصعود إلى السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم، وَلا نَصِيرٍ (22) أي مانع يمنعكم من عذاب الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته، وصفاته، وأفعاله وَلِقائِهِ أي بالبعث بعد الموت، أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) . وذلك لأن الله تعالى في كل شيء آية دالة على وحدانيته، فإذا أشرك أحد كفر بآيات الله، وإذا أنكر الحشر كفر بلقاء الله وأخرج نفسه عن محل رحمة الله، وإذا جعل له آلهة لم يقر بالحاجة إلى طريق متعين فييأس من رحمة الله، ولما أنكر الحشر وقال: لا عذاب عذبه الله تحقيقا للأمر عليه فعدم الرحمة يناسب الإشراك، والعذاب الأليم يناسب إنكار الحشر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ، أي قال بعضهم لبعض: لا تجيبوا إبراهيم عن براهينه الدالة على التوحيد والنبوة والحشر، واقتلوه بسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلا، أو حرقوه بالنار، فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصرّ على دينه، فقذفوه في النار فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي بجعلها بردا. روي أنه في ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) أي في إنجاء الله تعالى إبراهيم من النار لعبرات لقوم يصدقون بقدرة الله، فإن الله حفظ إبراهيم من حرها، وجعلها خامدة في زمان يسير فلا تؤذيه، ولكن أحرقت وثاقه، وأنشأ في وسطها بستانا. وَقالَ

إبراهيم بعد إنجائه من النار إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي برفع «مودة» غير منونة، وجر «بينكم» ، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب «مودة» منونة ونصب «بينكم» ، وحمزة وحفص بنصب «مودة» غير منونة، وجر «بينكم» . ونقل عن عاصم أنه رفع «مودة» غير منونة، ونصب «بينكم» لإضافته إلى المبني فالرفع خبر «إن» أي إنّ الذين اتخذتموهم أوثانا صلة بينكم، والنصب مفعول له، وخبر «إن» محذوف أي إن الذين اتخذتموه أوثانا معبودة لكم لأجل المودة لا ينفعونكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. والمعنى: إن اتخاذكم أصناما مودة بينكم ليس إلا في الحياة الدنيا، وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتم لي ما فعلتم لأجل مودتكم له انتصارا مني، أي لما خرج إبراهيم من النار عاد إلى عذل الكفار، وقال: إذا بينت لكم فساد مذهبكم وما كان لكم جواب فليس هذا إلا تقليدا، فإن بين بعضكم محبة طبيعية فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في الأحوال، وبينكم وبين آبائكم صلة فورثتموهم، وأخذتم مقالتهم، ولزمتم ضلالتهم. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ فيقول العابد: ما هذا معبودي! ويقول المعبود: ما هؤلاء عبدتي! وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فيقول المعبود لذاك: أنت أوقعتني في العذاب حيث عبدتني ويقول العابد: لهذا أنت أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادتك ويريد كل واحد أن يبعد صاحبه باللعن ولا يتباعدون، بل هم مجتمعون في النار كما هم مجتمعون في هذه الدار كما قال تعالى: وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم فلا ترجعون منه أبدا وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) يخلصونكم من تلك النار، كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه لوط في جميع مقالاته فقال لإبراهيم: صدقت يا إبراهيم- ولوط هو ابن أخيه هاران- وَقالَ إبراهيم: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي إني خارج من قومي إلى مكان أمرني ربي بالتوجه إليه. روي أنه هاجر من كوثي سواد الكوفة مع لوط وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام، فنزل فلسطين، ونزل لوط سذوم. وكان عمر إبراهيم إذ ذاك خمسا وسبعين سنة. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) فيمنع أعدائي عن إيذائي ولا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إِسْحاقَ من عجوز عاقر، وَيَعْقُوبَ نافلة، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ أي ذرية إبراهيم النُّبُوَّةَ فكل الأنبياء بعده من ذريته، وَالْكِتابَ، فلم ينزل بعده كتاب إلا على أولاده، وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) . فإن الله بدل جميع أحواله في الدنيا بأضدادها فبدل وحدته في النار بكثرة ذريته حتى ملأت الدنيا، وبدل أقاربه الضالين المضلين بأقارب مهتدين هادين، وبدل ذلته وخموله بالجاه، وكثرة المال حتى قيل: إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب، وكانت الصلاة عليه مقرونة بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة، فصار معروفا بشيخ المرسلين،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 إلى 40]

وكان في الآخرة باقيا على ما ينبغي، وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطا إلى قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي اللواطة، ما سَبَقَكُمْ بِها أي بتلك الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) كلهم من الإنس والجن، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي أدبار الرجال، وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي سبيل الولد بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث- ويقال: وتقطعون على من مر بكم من الغرباء- وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ! أي وتعملون في مجلسكم الجامع لأصحابكم المنكر: كالجماع، والضراط، وحل الإزار، والحذف بالبندق، ومضغ العلك والفرقعة. قيل: إنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان يأخذ ما معه ويلوطه، ويغرمه ثلاثة دراهم قاض بذلك. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) في قولك: بمجيء عذاب الله علينا إن لم نؤمن، أي إن لوطا كان مداوما على إرشاد قومه فقالوا أولا استهزاء: ائتنا بعذاب الله. ثم لمّا كثر منه ذلك ولم يسكت عن فعلهم قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة من الله قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) أي بإنزال العذاب على هؤلاء المفسدين- وهم الذين ابتدعوا الفاحشة وأصروها، واستعجلوا العذاب بطريق الاستهزاء- وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي لما جاء جبريل ومن معه من الملائكة إلى إبراهيم بالبشارة بالولد والنافلة قالُوا لإبراهيم: إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ- أي قرية سذوم- إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) بإصرارهم على أنواع المعاصي. قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها أي في تلك القرى لُوطاً فكيف تهلكونها؟ قالُوا أي الرسل من الملائكة: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي من لوط وغيره لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة واعلة «1» كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) أي من المنغمسين في العذاب بسبب أن للدال على الشر نصيبا كفاعله، وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي جاءه ما أحزنه بمجيئهم على صورة البشر بأحسن صورة خلق الله فخاف عليهم من قومه، وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي ضاق بتدبير أمرهم طاقته، وعجز عن مدافعة قومه، وَقالُوا للوط: لا تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ لأجلنا فإنا ملائكة، إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب. ونصب «أهلك» معطوف على محل الكاف إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) أي من الباقين في الهلاك ومن الرائحين الماضي ذكرهم، إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ هي سذوم رِجْزاً أي عذابا مزعجا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) أي بسبب فسقهم المستمر.

_ (1) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (2: 133) .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 إلى 50]

وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاي وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي القرية آيَةً بَيِّنَةً أي علامة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وهي آثار ديارهم الخربة وظهور الماء الأسود على وجه الأرض، وهي بين القدس والكرك، وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إلى مدين نبيهم شعيبا. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي اعملوا لليوم الآخر وإنما قال شعيب بلفظ الرجاء، لأن عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) أي لا تعملوا المعاصي في الأرض. ويمكن أن يقال نصب «مفسدين» على المصدر كما يقال: قم قائما، أي قياما فَكَذَّبُوهُ فيما أخبرهم به، لأن شعيبا كأنه قال: الله واحدا فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه. وهذه الأشياء فيها إخبارات. فالتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي التي ترجف الأرض والأفئدة إذ قيل: إن جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ورجفت قلوبهم منها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) أي فصاروا في مجمعهم ميتين لا يتحركون، وَعاداً وَثَمُودَ أي وأهلكنا قوم هود وقوم صالح. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي وقد ظهر لكم يا أهل مكة إهلاكنا إياهم من جهة منازلهم الكائنة في الحجر واليمن إذا نظرتم إليها عند مروركم عليها. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي عبادتهم غير الله فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن عبادة الله، وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) أي عاقلين، ألبّاء، صحيحي النظر. وَقارُونَ أي وأهلكناه- وهو ابن عم موسى- وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ- وزير فرعون- وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، أي بالحجج الظاهرات، فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ عن الإيمان بالآيات، وعن عبادة الله وَما كانُوا سابِقِينَ (39) أي فارين من عذاب الله، فَكُلًّا أي كل واحد من المذكورين أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، أي عاقبناه بسبب ذنبه، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي حجارة محمّاة يقع على واحد منهم وينفذ من الجانب الآخر- وهم قوم لوط وعاد- وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ هو هواء متموج، فإن الصوت سببه وصول الهواء المتموج إلى الصماخ- وهم قوم شعيب وصالح- وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ أي غمرناه في التراب- وهو قارون ومن معه- وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا بالماء- وهم قوم نوح وفرعون وقومه- فحصل العذاب بالعناصر الأربعة: النار والريح والتراب والماء. والإنسان مركب منها وبسببها بقاؤه فإذا أراد الله هلاك الإنسان جعل ما منه وجوده سببا لعدمه وما به بقاؤه سببا لفنائه، وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بالهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) ، بالإشراك، أي وما كان الله يضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة لكنهم ظلموا أنفسهم حيث وضعوها مع شرفهم في عبادة الوثن مع خسته، مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ فإن أدنى مراتب البيت أن لا يصير سبب افتراق، فبيت العنكبوت: يصير سبب

انزعاج العنكبوت، فإنه إذا داوم في زاوية لا يخرج منها، فإذا نسج على نفسه بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه، ويمسحه بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت، فكذلك العابد ينبغي أن يستحق الثواب بسبب العبادة أو لا يستحق العذاب به، والكافر يستحق العذاب بسبب عبادته، وأن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا، فكذلك أعمالهم للأوثان. وهذا إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا فإن من عبد الله رياء فقد اتخذ وليا غير الله فمثله مثل العنكبوت تتخذ نسجها بيتا فلا يقيها من حر ولا برد، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) شيئا من الأشياء لجزموا أن مثلهم كمثل العنكبوت وأن أضعف ما يعتمد به في الدين دينهم. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ أي إن الله يعلم الذين يعبدونهم من غير الله من شيء: صنم، أو إنسي، أو جني، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) أي وهو قادر على إهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة. تذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام، ومحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق. وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي دوام على إقامتها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، أي تنهى عن التعطيل والإشراك، فالتعطيل هو إنكار وجود الله والإشراك إثبات ألوهية لغير الله. فالعبد أول ما يشرع في الصلاة يقول: الله أكبر. فبقوله: الله، ينفي التعطيل. وبقوله: أكبر، ينفي التشريك. لأن الشرك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك فإذا قال: بِسْمِ اللَّهِ [الفاتحة: 1] ، نفى التعطيل، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1] ، لأن الحرمن من يعطي الوجود بالخلق، والرحيم من يعطي البقاء بالرزق، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة: 2] أثبت خلاف التعطيل، وإذا قال: رب العالمين أثبت خلاف الإشراك، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] نفى التعطيل والإشراك، وكذا إذا قال: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب الصراط له مقصد، والمعطل لا مقصد له. وإذا قال: الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] نفى التعطيل لأن طالب المستقيم هو الأقرب، والمشرك يعبد الأصنام، ويظنون أنهم يشفعون لهم وعبادة الله من غير واسطة أقرب وعلى هذا إلى آخر الصلاة، فإذا قال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فقد نفى الإشراك، والتعطيل. ومعنى نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر أنها سبب للانتهاء عنهما، لأنها مناجاة الله

تعالى فلا بد أن تكون مع إقبال تام على طاعته وإعراض كلي عن معاصيه. وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي ذكر الله إياكم بالمغفرة والثواب أكبر من ذكركم إياه بالصلاة. وقيل: ذكركم الله بسائر أنواعه أفضل من الطاعات التي ليس فيها ذكر الله. وقيل: المراد بالذكر نفس الصلاة أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) من الذكر ومن سائر الطاعات فيجازيكم به أحسن المجازاة، وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي ولا تخاصموا اليهود والنصارى إلا بالأحسن أي بعدم استخفاف آرائهم، وبعدم نسبة آبائهم إلى الضلال لأنهم جاءوا بكل حسن غير الاعتراف بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم آمنوا بإنزال بالكتب وإرسال الرسل، وبالحشر، ففي مقابلة إحسانهم يجادلون بالأحسن إلا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله وبالقول بثالث ثلاثة، فتجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم وتبيين جهالتهم كالمشرك الذي جاء بالمنكر من غيرهم. فاللائق أن يجادل بالأخشن ويبالغ في تهجين مذهبه وتوهين شبهه. وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من التوراة والإنجيل. روي أنه كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الآية» «1» وفي رواية: «وقولوا: آمنا بالله وبكتبه وبرسله. فإن قالوا باطلا لم تصدقوهم وإن قالوا حقا لم تكذبوهم» «2» . وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) أي مطيعون لا لغيره وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي كما أنزلنا سائر الكتب على من تقدمك أنزلنا عليك القرآن فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم الأنبياء يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن، وَمِنْ هؤُلاءِ أي من أهل الكتاب- كعبد الله بن سلام وأصحابه- مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي بالقرآن الذي ظهرت دلالته على المعاني، وعلى كونه من عند الله تعالى إِلَّا الْكافِرُونَ (47) - ككعب بن الأشرف وأصحابه، وأبي جهل وأصحابه- وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ أي وما كنت يا أشرف الخلق تقرأ كتابا قبل إنزالنا القرآن إليك، ولا تكتب الكتاب بيدك. والأصح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يحسن الخط والشعر، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) أي لو كنت قارئا أو كاتبا لشك اليهود والنصارى، لأن في كتابهم أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بل القرآن آيات واضحات ثابتة في قلوب الذين أعطوا العلم بالقرآن،

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 151) ، والسيوطي في جمع الجوامع (10307) . (2) رواه ابن حبان في المجروحين (1: 33) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (3: 1133) .

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 51 إلى 60]

فليس مما يشك فيه لكونه محفوظا من غير أن يلتقط من كتاب بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب، فإنه لا يقرأ إلا في المصاحف. والمعنى: إن المؤمنين يقرءون القرآن بالحفظ عن قلب تلقيا منك، وبعضهم من بعض وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ، فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) أي المتجاوزون للحدود في الشر من اليهود والنصارى، والمشركين. وَقالُوا أي الظالمون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي هلا أنزل على محمد آيات، مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى عليهم السلام. وقرأ نافع وأبو عمر، وابن عامر، وحفص «آيات» بالجمع. والباقون بالإفراد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها أو لا ينزلها فلا تتعلق بي وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أي لست إلا رسولا مخوفا لأهل المعصية بالنار بلغة تعلمونها، وليس لي عليه تعالى حكم بشيء أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الدال على نبوتك يُتْلى عَلَيْهِمْ في كل زمان ومكان، فهو معجزة ظاهرة باقية أتم من كل معجزة، وقد وصل إلى المشرق والمغرب، وسمعه كل أحد بخلاف قلب العصا ثعبانا فإنه لم يبق لنا منه أثر، ولم يره من لم يكن في ذلك المكان إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب، لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) أي فإن الكتاب رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، فإن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله فلو لم يظهر الكتاب لبقي الخلق في ورطة تكذيب الصادق، أو تصديق الكاذب، لأنه لو لم تكن هذه المعجزة لزم أن لا يتميز النبي عن المتنبي وبهذا الكتاب يتذكر كل من يكون من المؤمنين ما بقي الزمان قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً بأني رسلوه. روي أن كعب بن الأشرف وغيره، قالوا: يا محمد من يشهد لك أنك رسول الله. فنزلت هذه الآية. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور التي منها شأني وشأنكم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ، وهو ما سوى الله، وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) لأنهم ضيعوا الأدلة السمعية الموجبة للإيمان. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء بقولهم: متى هذا الوعد؟ ونحو ذلك. نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث حين قال: فأمطر علينا حجارة من السماء إن كنت من الصادقين. وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لوقت عذابهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وقت استعجالهم وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فإتيان العذاب بغتة حكمة، لأنه لو كان وقته معلوما عندهم لكان كل أحد يعتمد على علمه بوقته فيفجر معتمدا على التوبة قبل الموت، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) بإتيانه، ويظنون أنه لا يأتيهم أصلا. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) ، أي يستعجلونك بالعذاب في الدنيا، والحال أن العذاب سيحيط بهم يوم يأتيهم، يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي يوم يلحقهم العذاب من جميع جهاتهم، فنار جهنم تنزل من فوق

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 69]

ولا تنطفئ بالدوس عليها بوضع القدم وَيَقُولُ- قرأ نافع والكوفيون بالياء- أي الله تعالى أو بعض ملائكته بأمره، والباقون بالنون: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا. قال تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) أي إن تعذرت العبادة عليكم في بعض الأرض فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال. وقرأ بفتح الياء ابن عامر والباقون بتسكينها، كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت، فراجعة إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالها لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الأخوان فقال لهم: إن ما تكرهون لا بد من وقوعه، فإن كل نفس ذائقة مشاق الموت، والموت مفرق الأحباب، فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله، فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الوطن، أو المعنى: إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار» . وقرأ أبو بكر بالياء التحتية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي لننزلنهم بيوتا عالية من الجنة. وقرأ حمزة والكسائي «لنثوينهم» بالمثلثة، أي لنقيمنهم في علال من الجنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي ففي موضع الأنهار بساتين كبار، وزروع، ورياض، وأزهار فيشرفون عليها من تلك العلالي. خالِدِينَ فِيها أي في الغرف نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) أي نعم أجر العاملين الأعمال الصالحة، هذا الأجر الَّذِينَ صَبَرُوا على شدائد المهاجرة، وعلى أمر الله والمرازي وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) أي الذين لم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي وكثيرا من الدواب لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تدخر شيئا لساعة أخرى. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت هذه الآية اللَّهُ يَرْزُقُها أي الدابة على ضعفها، وهي لا تدخر وَإِيَّاكُمْ مع قوتكم، لأن رزق الكل بأسباب هو تعالى وحده المسبب لها فلا تخافوا الفقر بالمهاجرة وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) فيسمع قولكم هذا، ويعلم ضمائركم وحاجتكم، ويسمع إذا طلبتم الرزق، ويعلم مقدار حاجتكم إذا سكتم، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على هذا النظام وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإصلاح الأقوات، ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكار ذلك فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) أي فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده تعالى في الإلهية مع إقرارهم بتفرده تعالى في الخلق والتسخير. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي الله يوسع المال ويقتر على من يشاء في أي وقت يوافق الحكمة، فيفعل كلا من البسط والتضييق في وقته ومحله. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)

فيعلم مقادير الأرزاق ومقادير الحاجات، ألا ترى أن الملوك يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم بكل شيء. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها، أي يبوستها؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه تعالى الموجد للممكنات بأسرها، ثم إنهم يشركون به تعالى بعض مخلوقاته قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على أن أظهر حجتك عليهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) شيئا من الأشياء فلذلك لا يعلمون بمقتضى قولهم، هذا فيشركون به تعالى أخس مخلوقاته ولا يعرفون فساد هذا التناقض، وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي إن الدنيا سريعة الزوال، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم، فإنهم يجتمعون عليه، ويفرحون به ساعة، ثم يتفرقون عنه، فالإعراض عن الحق لهو، والإقبال على الباطل لعب. وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي إن الحياة الثانية لهي الحياة الدائمة التي لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) أن الحياة المعتبرة هي حياة الآخرة لما آثروا عليها الدنيا فَإِذا رَكِبُوا أي كفار مكة فِي الْفُلْكِ في البحر ولقوا شدة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ صورة حيث لا يدعون غير الله تعالى بالنجاة، وألقوا الأصنام التي حملوها معهم في البحر وقالوا: يا رب، لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد عنهم إلا الله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ من البحر إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) أي عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدّنيا وأشركوا بالله الأوثان لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من عرض الدنيا وَلِيَتَمَتَّعُوا أي وليتلذذوا بمتاع الدنيا. وقرأ ورش، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم بكسر اللام وهي إما لام العاقبة والمال، وإما لام الأمر على سبيل التهديد. والباقون بالتسكين فهي لام الأمر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) فساد عملهم حين يرون العذاب أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) ، أي ألم ينظر كفار مكة ولم يشاهدوا أنا جعلنا بلدهم مكة حرما مصونا من النهب. والحال أنه يختلس من حولهم قتلا وسبيا مع كون أهل مكة قليلين قارين في مكان، غير ذي زرع أبعد ظهور الحق بالباطل خاصة من الأديان يصدقون! وبنعمة الله التي أعطاهموها يكفرون! والمعنى: إنكم يا أهل مكة في أخوف ما كنتم دعوتم الله تعالى، وفي آمن ما حصلتهم عليه كفرتم بالله وهذا متناقض، لأن دعائكم في وقت الخوف على سبيل الإخلاص لم يكن إلا لقطعكم بأن النعمة من الله لا غير، وقد اعترفتم بأن تلك النعمة العظيمة من الله، كيف تكفرون بها وقد قطعتم في حال الخوف إنه لا أمن من الأصنام حيث ألقيتموها في البحر كيف آمنتم بها في حال الأمن؟ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ فالله تعالى لا يمكن أن يكون له شريك فمن جعل الشريك لملك مستقل في الملك كان ظالما يستحق العقاب منه، فكيف إذا جعل الشريك لمن لا يمكن أن يكون له شريك؟ ومن كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان

ظالما، فكيف من كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب؟ فإذا ليس أحد أظلم ممن يكذب على الله بالشرك، ويكذب الله في تصديقه نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويكذب النبي في رسالة ربه، ويكذب القرآن المنزّل من الله إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) أي ألا يستحقون الإقامة في جهنم، وقد فعلوا افتراء على الله تعالى، وتكذيبا بالحق الصريح أو يقال: ألم يعلموا أن في جهنم منزلا للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، أي والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا. ويقال: والذين نظروا في دلائلنا لنحصل فيهم العلم بنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) أي لمعينهم في القول والفعل بالتوفيق والعصمة. وهذا إشارة إلى درجة أعلى من الاستدلال كأن الله تعالى يقول: من الناس من يكون بعيدا لا يتقرب- وهم الكفار- ومنهم من يتقرب بالنظر والسلوك فيهديهم الله تعالى ويقربهم، ومنهم من يكون الله معه ويكون قريبا منه تعالى يعلم الأشياء منه تعالى ولا يعلمه من الأشياء فقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ إشارة إلى الأول. وقوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا إشارة إلى الثاني. وقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى الثالث.

سورة الروم

سورة الروم مكية، ستون آية، ثمانمائة وثماني عشرة كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي في أقرب أرض العرب منهم- وهي أطراف الشام- فالروم: اسم قبيلة وسميت باسم جدها، وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وسمي عيصو: لأنه كان مع يعقوب في بطن فعند خروجهما تزاحما، وأراد كل أن يخرج قبل أخيه فقال عيصو ليعقوب: إن لم أخرج قبلك خرجت من جنب أمي فتأخر يعقوب شفقة لها، فلذا كان أبا الأنبياء، وعيصو أبا الجبارين. وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي من بعد مغلوبهم سَيَغْلِبُونَ (3) فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ، وسبب نزول هذه الآية أنه كان بين فارس والروم قتال، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم، لأن فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل الكتاب، فبعث كسرى جيشا إلى الروم، واستعمل عليهم رجلا يقال له: شهريار، وجعل قيصر جيشا، واستعمل عليهم رجلا يدعى: بخنس فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أقرب الشام إلى أرض العرب، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك المسلمين بمكة، فشق عليهم، وفرح به كفار مكة، وقالوا للمسلمين: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون، وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم. فنزلت هذه الآية، فخرج أبو بكر الصدّيق إلى كفار مكة، فقال: فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا، فو الله لتظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم. فقال له أبيّ بن خلف الجمحي: كذبت يا أبا فضيل. فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله. فقال له: اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه، فناحبه على عشر قلائص، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر به أبو بكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البضع ما بين الثلاث إلى التسع» «1» . فزايده في الخطر ومادده في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه في أحد بعد

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (133) .

رجوعه إلى مكة، ثم أقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي إلى الفرس، وظهرت الروم على فارس عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، ومات كسرى وذلك يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «تصدق به» - وكان ذلك قبل تحريم القمار- وهذه الآيات تدل على علم النبي صلّى الله عليه وسلّم بوقت الغلبة، لكن لم يأذن الله تعالى في إظهاره، لأن الكفار كانوا معاندين، فالمعاند يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في الكلام، والوقت يمكن فيه الاختلاف. وقرئ «غلبت» على البناء للفاعل و «سيغلبون» على البناء للمفعول. والمعنى: أن الروم غلبت على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ففتحوا بعض بلادهم، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل غلبة الروم على فارس ومن بعدها فكل من كون الروم مغلوبين أولا وغالبين آخرا، ليس إلا بأمر الله تعالى وقضائه. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ أي ويوم إذ يغلب الروم على فارس يفرح المؤمنون بتغليب الله من له كتاب على من لا كتاب له، ويفرحون بغلبتهم المشركين ببدر. قال السدي: فرح النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك. والجار والمجرور متعلق ب «يفرح» يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي ينصر من عباده على عدوه من ضعيف وقوي. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) أي وهو تعالى المبالغ في الغلبة والمبالغ في الرحمة وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه، أي وعدهم الله بالنصر وبالفرج وعدا، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أيّ وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لاستحالة الكذب عليه تعالى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (6) وعده تعالى بنصرهم ووعد الله لا خلف فيه، يَعْلَمُونَ أي أكثرهم ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم، ولا يعلمون باطنها، وهي مضارها ومتاعبها وفناؤها، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أي وهم جاهلون بأمر الآخرة تاركون لعملها ولا يعلمون أن الدنيا مجاز إلى الآخرة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ! فلو تكفروا في أنفسهم لعلموا وحدانية الله، وصدقوا بالحشر. أما دلالة الإنسان على الوحدانية، فلأن الله خلقهم على أحسن تقويم ولنذكر من حسن خلقهم جزءا من ألف جزء، وهو أن الله تعالى خلق للإنسان معدة فيها غذاؤه لتقوى به أعضاؤه ولها منفذان أحدهما لدخول الطعام فيه. والآخر: لخروجه منه، فإذا دخل الطعام فيها انطبق المنفذ الآخر بعضه على بعض بحيث لا يخرج منه ذرة، وتمسكه الماسكة إلى أن ينضج نضجا صالحا، ثم يخرج من المنفذ الآخر، وخلق تحت المعدة عروقا دقاقا، صلابا كالمصفاة، فينزل منها الصافي إلى الكبد، وبنصب الثفل إلى الأمعاء ويكون مع الغذاء المتوجه من المعدة إلى الكبد فضل ماء مشروب ليرقق، وينذرف في العروق الدقاق المذكورة، وفي الكبد يستغنى عن ذلك الماء فيتميز

[سورة الروم (30) : الآيات 11 إلى 20]

عنه ذلك الماء وينصب من جانب حدبة الكبد إلى الكلية، ومعه دم يسير تغتذي به الكلية وغيرها، ويخرج الدم الخالص من الكبد في عرق كبير، ثم يتشعب ذلك النهر إلى جداول، والجداول إلى سواق والسواقي إلى رواضع، ويصل فيها إلى جميع البدن فهذه حكمة واحدة في خلق الإنسان، وهذه كفاية معرفة كون الله فاعلا مختارا، قادرا عالما، ومن يكون كذلك يكون واحدا، وإلا لكان عاجزا عند إرادة شريكه ضد ما أراده، وأما دلالة الإنسان على الحشر فذلك لأنه إذا تفكر في نفسه يرى قواه صائرة إلى الزوال، وأجزاءه مائلة إلى الانحلال، فله فناء ضروري فلو لم يكن له حياة أخرى لكان خلقه تعالى على هذا الوجه للفناء عبثا، لأن من يفعل شيئا للعبث لو بالغ في إتقانه يضحك منه فإذا خلق الله الإنسان للبقاء ولا بقاء دون اللقاء فالآخرة لا بد منها. ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي ما خلقها عبثا بغير حكمة بالغة، وإنما خلقها مقرونة بالحق، مصحوبة بالحكمة الدالة على وجود صانعها، ووحدته، وقدرته، وعلمه بأجل معين قدره الله تعالى لبقائها إلى أن تنتهي إليه، وهو وقت قيام الساعة وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ إشارة إلى وجه دلالتها على الوحدانية. وقوله: وَأَجَلٍ مُسَمًّى إشارة إلى معاد الإنسان فإن مجازاته بما عمل من الإساءة والإحسان هو المقصود بالذات وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أي وإن كفار مكة لمنكرون بلقاء حسابه تعالى وجزائه بالبعث. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسيروا في أقطار الأرض فيشاهدوا كيف كان جزاء الأمم الذين كذبوا رسلهم كعاد وثمود، كانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً في الجسم، وأقدر منهم على التمتع بالحياة وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي قلبوها للزراعة والغرس أكثر مما حرث أهل مكة وَعَمَرُوها بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي أكثر مما عمر أهل مكة كما وكيفا وزمانا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرات وبالمعجزات فكذبوهم، فأهلكهم الله. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكه إياهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) بتكذيب الرسل ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنها اسم «كان» ، و «السوأى» خبرها، وهي جهنم، أي ثم كان آخر أمر الذين عملوا السيئات نار جهنم. وقرأ الباقون بنصب «عاقبة» على أنها خبر «كان» ، واسمها «السوأى» تأنيث الأسوأ، أو أن كذبوا أي ثم كان تكذيبهم واستهزاؤهم آخر أمر الذين أشركوا بالله وعملوا الفعلة السوأى، وهي اسم النار- كما تقدم- أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) بدل من «السوأى» . وقيل: «كذبوا» إلخ تفسير ل «أساءوا» اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم من النطفة، ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) إلى موقف الحساب والجزاء. وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة. والباقون

على الخطاب للمبالغة في الترهيب وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) أي وقت رجعهم إليه تعالى يسكت المشركون متحيرين وييأسون من كل خير، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمونه، وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) أي وكان عبدة الأصنام بآلهتهم متبرئين منهم يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ بعد تمام الحساب يَتَفَرَّقُونَ (14) أي جميع الخلق فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) أي فهم في جنة يسرّون بكل مسرة. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم، وفي آخر القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هل في الجنة من سماع؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «يا أعرابي إن في الجنة نهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» «1» . وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع، بعث الله تعالى ريحا تحت العرش فتقع في تلك الأشجار، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ بالبعث بعد الموت فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) أي لا غيبة لهم عن العذاب ولا فتور له عنهم، أما من يؤمن ويعمل السيئات فليس دائم الحضور في العذاب، وليس من المحبورين غاية الحبور في رياض بل له منزلة بين المنزلتين، فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) أي نزهوه تعالى عن صفات النقص، وصفوه بصفات الكمال في هذه الأوقات، واحمدوه وإنما خصّ بعض الأوقات بالأمر بالتسبيح، لأن الإنسان لا يمكنه أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لكونه محتاجا إلى تحصيل مأكول ومشروب، وملبوس، ومركوب، وكما أن العبد ينزه الله في أول النهار، وآخره، ووسطه فإن الله يطهره في أوله- وهو دنياه- وفي آخره- وهو عقباه- وفي وسطه- وهو حالة كونه في قبره- وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلام معترضين بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه لطيفة، وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه بيّن لهم أن تسبيحهم الله لنفعهم لا لنفع يعود على الله، فعليهم أن يحمدوا الله إذا سبحوه، ثم إن التنزيه المأمور به يشمل التنزيه بالقلب، وهو الاعتقاد الجازم واللسان- وهو الذكر- الحسن، وبالأركان- وهو العمل الصالح- فالإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحواله، وأفعاله، واللسان، ترجمان الجنان، والأركان، برهان اللسان، لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان، وهي مشتملة على الذكر باللسان، والقصد بالجنان: وهو تنزيه في التحقيق، فيجب حمل التسبيح على كل ما هو تنزيه،

_ (1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4: 291) .

[سورة الروم (30) : الآيات 21 إلى 30]

فيكون هذا أيضا أمرا بالصلاح. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان من نطفة والطير من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي يخرج النطفة والبيضة من الحيوان. وقال بعضهم: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ويقال: يخرج اليقظان من النائم، والنائم من اليقظان، فإحياء الميت عنده تعالى كتنبيه النائم، وإماتة الحي كتنويم المنتبه. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ (19) من قبوركم. وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أنكم تبعثون أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فإنا خلقنا من نطفة وهي من الغذاء، وهو من النبات، وهو من التراب. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) أي ثم بعد أطوار كثيرة فاجأتم وقت كونكم بشرا تتمتعون على وجه الأرض. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث والجزاء: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أَزْواجاً أي إناثا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها، وتطمئنوا بها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين المرأة والزوج مَوَدَّةً أي محبة وَرَحْمَةً أي شفقة ويقال: مودة للصغير على الكبير ورحمة للكبير على الصغير. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلقهم من تراب، وخلق أزواجهم من جنسهم وإلقاء المودة والرحمة بينهم لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) فيما خلق الله. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على أمر البعث: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من حيث إن خلقهما وما فيهما ليس إلا لمعاش البشر ومعاده، وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم العربية، والفارسية، وغير ذلك. والأصح أنه اختلاف كلامكم، فإن الأخوين إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر وَأَلْوانِكُمْ ببياض الجلد وسواده، وتوسطه. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) . وقرأ حفص وحده بكسر اللام، أي لآيات عظيمة في أنفسها، كثيرة في عددها للمتصفين بالعلم. والباقون بفتح اللام في ذلك دلالة على كمال وضوح الآيات على أحد من الخلق كافة. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على القدرة والعلم: مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ فالنوم بالنهار مما تعدّه العرب نعمة من الله، ولا سيما في أوقات القيلولة في البلاد الحارة وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ فيهما. وهذا إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الليل والنهار لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) سماع تفهم حيث يستدلون بذلك على شؤونه تعالى. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ، أي ومن آياته الدالة على عظيم قدرته تعالى: إراءتكم للبرق خَوْفاً للمسافر من المطر أن يبل ثيابه وَطَمَعاً للمقيم في المطر أن يسقي حروثه، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. فَيُحْيِي بِهِ أي بذلك الماء الْأَرْضَ بالنبات

بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها إِنَّ فِي ذلِكَ أي المطر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) أي لدلالات على الفاعل المختار لمن له عقل، وإن لم يتفكر تفكر تاما. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي ومن آياته الدالة على القدرة استمرار السماء والأرض على ما هما عليه بإرادته تعالى له، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) أي ثم إذا دعاكم الله على لسان إسرافيل بعد انقضاء الأجل من الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال: أيها الموتى اخرجوا فاجأتم الخروج منها وقول: مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب «دعاكم» . وَلَهُ خاصة مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين خلقا، وملكا، وتصرفا، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) أي منقادون لفعله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موتهم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ بالقياس على قوانينكم من أن الإعادة للشيء أهون من ابتدائه، وإلا فالأفعال كلها بالنسبة إلى قدرته تعالى متساوية في السهولة، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي وله تعالى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ، أي وهو كامل القدرة على الممكنات، شامل العلم بجميع الموجودات، فيجري الأفعال على سنن الحكمة. ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي بيّن الله لكم يا معشر الكفار مثلا مأخوذا من أحوال أنفسكم هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ أي هل لكم شركاء فيما رزقناكم من الأموال كائنون بالنوع الذي ملكت أيمانكم، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي فأنتم وعبيدكم فيما رزقناكم مستوون في التصرف تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي تخافون أن تنفردوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من الأحرار المشاركين لكم فيما ذكر أي أنتم لا ترضون بأن يشارككم مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية فكيف تشركون به تعالى في المعبودية مخلوقة تعالى؟ كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها بالدلائل القطعية والأمثلة والمحاكيات الإقناعية لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) أي يستعملون عقولهم في تدبر الأمور، بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي لا يجوز أن يشرك بالمالك مملوكه، ولكن الذين أشركوا اتبعوا أهواءهم الزائغة من غير علم، وأثبتوا شركاء من غير دليل فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي لا يقدر أحد على هداية من خلق الله فيه الضلال، وَما لَهُمْ أي لمن أضله الله تعالى مِنْ ناصِرِينَ (29) يخلصونهم من الضلال فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي أقبل بكلك على الدين غير ملتفت يمينا وشمالا حَنِيفاً أي مائلا عن كل ما عدا الدين فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها أي الزم دين الله- وهو التوحيد- فإن الله خلق الناس عليه في بطون أمهاتهم، وحيث أخذهم الله من ظهر آدم، وسألهم ألست بربكم؟ فقالوا: بلى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لا تبدلوا دين الله- كما قاله مجاهد وإبراهيم- وقيل: أي لا تغير للوحدانية حتى إن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون: الله. لكن الإيمان الفطري غير كاف. ذلِكَ أي لزوم دين الله الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحق الذي لا عوج فيه وَلكِنَّ

[سورة الروم (30) : الآيات 31 إلى 40]

أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (30) أن ذلك هو الدين الحق، فيصدون عنه صدودا مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي أقيموا وجوهكم للدين مقبلين عليه، وَاتَّقُوهُ من مخالفة أمره بل داوموا على العبادة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) ، أي ولا تشركوا بعد الإيمان وهاهنا وجه آخر وهو أن الله أثبت التوحيد الذي هو خروج عن الإشراك الظاهر بقوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وأراد الله إخراج العبد عن الشرك الخفي بقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لا تقصدوا بعملكم إلا وجه الله، ولا تطلبوا إلا رضا الله، ثم أبدل الله قوله: مِنَ الْمُشْرِكِينَ قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي اختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم. وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» بألف، أي تركوا دينهم الذي أمروا به، وَكانُوا شِيَعاً أي وصاروا فرقا فيما يعبدونه، كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) أي وإذا أصاب كفار مكة شدة دعوا ربهم برفع الشدة مقبلين إليه بالدعاء، ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ أي من الضر رَحْمَةً أي خلاصا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي الكفار بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) ويقول: تخلصت بسبب اتصال الكوكب الفلاني بفلان وبسبب الصنم الفلاني، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فاللام للعاقبة فَتَمَتَّعُوا يا أهل مكة: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) عاقبة تمتعكم. وقرئ بالياء على أن «تمتعوا» فعل ماض وقرئ وليتمتعوا أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) أي هل أنزلنا على أهل مكة كتابا، فذلك الكتاب يدل على الأمر الذي بسببه يشركون ف «أم» بمعنى الهمزة فقط عند الكوفيين، وبمعنى بل والهمزة عند البصريين كما هو شأن «أم» المنقطعة. وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً من صحة وسعة فَرِحُوا بِها بطرا لا شكرا، فإن قيل لك: الفرح بالرحمة مأمور به في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] ، وهاهنا ذمهم الله على الفرح بالرحمة، فكيف ذلك؟ قلت: هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وهاهنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم بما إذا كان من الله، وهو كما أن الملك لو حطّ عند أمير رغيفا على السماط، أو أمر غلمانه بأن يحطوه عنده، ففرح ذلك الأمير به ولو أعطى الملك فقيرا غير ملتفت إليه رغيفا فرح به، ففرح الأمير بكون ذلك الرغيف من الملك، وفرح الفقير بكون ذلك رغيفا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شدة ضيق بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أي ييأسون من رحمة الله غير صابرين بها. وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر، ويضيقه لمن يشاء اختبارا هل يصبر أم يجزع؟ إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوسيع والتضييق لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من الصلة والصدقة وسائر

[سورة الروم (30) : الآيات 41 إلى 50]

المبرات وَالْمِسْكِينَ سواء كان ذا قرابة أم لا. وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر من صدقة التطوع ذلِكَ أي المذكور من الصلة والعطية والإكرام خَيْرٌ أي ثواب في الآخرة، لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي يقصدون بمعروفهم جهة التقرب إليه تعالى لا جهة أخرى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) أي الناجون من السخط وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، أي وما أعطيتم من عطية خالية من العوض ليزيد في أموال الناس بأن تعطوا شيئا، وتطلبوا ما هو أفضل منه فليس لكم فيه أجر، وليس عليكم فيه إثم. وقرأ نافع «لتربوا» بتاء الخطاب وسكون الواو، أي لتصيروا ذوي زيادة. وقرأ ابن كثير «وما أتيتم» بقصر الهمزة، أي وما جئتم به من إعطاء عطية. واختلف العلماء فيمن وهب وهبة يطلب عوضها وقال: إنما أردت العوض، فإن كان مثله ممن يطلب العوض من الموهوب له، فله ذلك عند مالك رضي الله عنه وذلك كهبة الفقير للغني، وهبة الخادم لصاحبه، وهبة الشخص لمن فوقه ولأميره. وقال أبو حنيفة: لا يكون له عوض إذا لم يشترط. وهذان القولان جاريان للشافعي رضي الله عنهم. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) أي وما أعطيتم من صدقة تطوع إلى المساكين تبتغون وجهه تعالى، فأولئك هم الذين أضعفت صدقاتهم في الآخرة بكثرة الثواب، ويحفظ أموالهم في الدنيا وبالبركة لها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ نسما في بطون أمهاتكم، ثم أخرجكم وفيكم الروح ثُمَّ رَزَقَكُمْ إلى الموت ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء مدتكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث بعد الموت، هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ أي هل من آلهتكم يا أهل مكة من يقدر أن يفعل من ذلك شيئا؟ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) أي لا تصفوه تعالى بالإشراك. وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي تبين الفساد في البر والبحر كالجدب وكثرة الحرق، والغرق، وموت دواب البر والبحر، وقلة اللؤلؤ بسبب كسب الناس المعاصي. قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذبا، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار، وصار ماء البحر ملحا زعاقا «1» ، وقصد الحيوانات بعضها بعضا، لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي بعض جزاء الذين عملوا، فإن تمامه في الآخرة. وقرأ قنبل «لنذيقهم» بالنون لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) عما كانوا عليه قُلْ يا محمد لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كقوم ونوح وعاد وثمود ليشاهدوا

_ (1) الزعاق: بضم الزاي: الماء المرّ والكثير الملح الذي لا يطاق شربه [القاموس المحيط، مادة: زعق. [.....]

آثارهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) ، وكان بعض الهلاك بغير الشرك كالفسق ومخالفة الأمر فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ. قال الزجاج: أي أقم صدرك واجعل وجهك اتباع دين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ متعلق ب «يأتي» أو ب «مرد» ، أي لا يقدر أحد على رده من الله تعالى، ولا يرده الله تعالى لتعلق إرادته تعالى بمجيئه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم يتفرقون: فريق في الجنة، وفريق في السعير. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي من كفر بالله فعليه عقوبة كفره وهو خلوده في النار وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) أي ومن عمل صالحا في الإيمان فيفرشون منازلهم في الجنة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ، والجار والمجرور متعلق ب «يمهدون» أو ب «يصدعون» ، أي يتفرقون بتفريق الله تعالى فريقين ليجزي الله كلا منهما بحسب أعمالهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) أي يعاقبهم. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ لخلقه بالمطر وبصلاح الأهوية، والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد، فرياح الرحمة: هي الشمال، والصبا، والجنوب. وأما الدبور فهي ريح العذاب وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وهي المنافع التابعة للرياح وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ أي السفن بسوقها بِأَمْرِهِ أي بمشيئته في البحر وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) نعمة الله فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل سُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي جاء كل رسول قومه بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك فكذبوهم، انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي أهلكنا الذين كذبوهم، كانَ حَقًّا أي واجبالَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) أي وكان الانتقام حقا، فلم يكن ظلما، ثم استأنف الله بقوله تعالى: لَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ، وهذا بشارة لمن آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقال نصر المؤمنين: كان واجبا علينا وهذا تأكيدا لبشارة، لأن كلمة «على» تفيد معنى اللزوم فإذا قال حقا أكد ذلك المعنى، والنصر: هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة والكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي فترفع سحابا ثقالا بالمطر الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ أي فينشر الله السحاب كمال الانتشار متصلا بعضه ببعض تارة في جو السماء كيف يشاء، سائرا، وواقفا، ومطبقا، وغير مطبق وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي ويجعل الله السحاب قطعا تارة أخرى فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من خلال السحاب فَإِذا أَصابَ أي الله بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أراضيهم، إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) أي يفرحون بمجيء الخصب وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) ، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبل الاستبشار لآيسين من المطر، فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ من النبات والأشجار والثمار، فالرحمة: هي المطر، وأثرها هو النبات.

[سورة الروم (30) : الآيات 51 إلى 60]

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص «آثار» بالألف، والباقون بغير ألف. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فانظر إلى إحياء الله تعالى للأرض بإخراج النبات بعد يبوستها إِنَّ ذلِكَ أي الذي يحيي الأرض لَمُحْيِ الْمَوْتى أي لقادر على إحيائهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) أي مبالغ في القدرة على جميع الأشياء وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) ، أي وبالله لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفا، فرأوا الزرع مصفرا بعد خضرته لصاروا من بعد صفرته يكفرون بنعمته تعالى السالفة، فَإِنَّكَ يا أشرف الخلق لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي لا تجزع ولا تحزن على عدم إيمانهم، فإنهم موتى صم عمي. ومن كان كذلك لا يهتدي، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) أي إذا أعرضوا مدبرين عن الحق وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ليس شغلك هداية العميان إلى الحق. قبوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) أي مطيعون اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي من أصل ضعيف هو النطفة، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ أي من بعد كونه جنينا وطفلا مولودا، ورضيعا، ومفطوما قُوَّةً أي حالة البلوغ والشباب، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً للكهولة وَشَيْبَةً- وهو بياض الشعر الأسود- أي فإن ذلك الضعف والقوة والشباب والشيبة ليس طبعا بل هو بمشيئة الله تعالى وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) فالترديد في الأطوار المختلفة من أوضح دلائل العلم والقدرة، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي توجد القيامة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ أي يحلف الكافرون بالله ما لَبِثُوا في القبور غَيْرَ ساعَةٍ، أي غير قدر ساعة كَذلِكَ أي مثل ذلك الصرف كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) ، أي يصرفون من الحق إلى الباطل، ومن الصدق إلى الكذب. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ من الملائكة والإنس: لَقَدْ لَبِثْتُمْ في القبور فِي كِتابِ اللَّهِ أي بحسب ما علمه الله وقدره إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ من القبور فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم توعدون في الدنيا والذي أنكرتموه، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) أنه حق ولا تقرون بوقوعه فتستعجلون به استهزاء، وتطلبون الآن تأخير الساعة، فصار مصيركم إلى النار فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا. وقرأ الكوفيون «لا ينفع» بالياء التحتية، أي فيوم القيامة لا ينفع الذين أشركوا اعتذارهم في إنكارهم له وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) ، أي لا يطلب منهم إزالة العتب من التوبة كما طلبت منهم في الدنيا لأنها لا تقبل منهم وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وبالله لقد بينا لهم في هذا القرآن كل حال وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كأنها في غرابتها مثل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أشرف الخلق بِآيَةٍ من آيات القرآن الناطقة بأمثال ذلك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) أي ما أنتم يا معشر المؤمنين إلا كاذبون ويقال: ولئن

جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل. يقولون: أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مزورون كَذلِكَ، أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) أي لا يطلبون العلم ولا يقصدون الحق، فَاصْبِرْ على ما تشاهد منهم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك بالنصرة وإظهار الدين وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) ، أي لا يحملنك على الخفة وترك الصبر الذين لا يصدقون بالآيات. وهذا إشارة إلى وجوب مداومة النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر: إنه منقلب الرأي لا ثبات له، والله أعلم بالصواب.

سورة لقمان

سورة لقمان مكية، أربع وثلاثون آية، خمسمائة وثمان وأربعون كلمة، ألفان ومائة وعشرة أحرف الم (1) قيل: قسم أقسم الله به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) ، أي هذه السورة آيات القرآن ذي الحكمة هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من الآيات، وبالرفع على قراءة حمزة خبران آخران لاسم الإشارة لِلْمُحْسِنِينَ (3) أي العاملين للحسنات. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يتقنون جميع ما أمروا به فيها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ كلها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) ، أي وهم يصدقون بالبعث بعد الموت، فالصلاة ترك التشبه بالسيد، فالله تعالى تجب له العبادة، ولا تجوز عليه العبادة والزكاة تشبه بالسيد، فإنها دفع حاجة الغير والله دافع الحاجات والتشبه لازم على العبد في أمور، كما أن ترك التشبه لازم على العبد في أمور فلا يجلس العبد عند جلوس السيد ولا يتكئ عند اتكائه، وعبد العالم لا يتلبس بلباس الأجناد، وعبد الجندي لا يتلبس بلباس الزهاد، وبهما تتم العبودية. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أي الناجون من كل مهروب والفائزون بكل مطلوب وَمِنَ النَّاسِ وهو النضر بن الحرث مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي أباطيل الحديث لِيُضِلَّ بذلك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي على دينه الحق الموصل إليه تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، أي ليستمر على ضلاله عن قراءة كتاب الله تعالى الهادي إليه بِغَيْرِ عِلْمٍ أي يشتري بغير علم بحال ما يشتريه وَيَتَّخِذَها هُزُواً. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب عطفا على «يضل» . والباقون بالرفع عطفا على «يشتري» ، والضمير البارز للسبيل وهو دين الإسلام أو للقرآن. أُولئِكَ أي من يشتري ذلك لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) أي ذو إهانة لإهانتهم الحق، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ أي المشتري آياتُنا أي التي هي آيات الكتاب الحكيم وَلَّى مُسْتَكْبِراً أي أعرض عنها مبالغا في التكبر عن الإيمان بها، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي كأنه لم يسمع الآيات كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي مشبها حاله حالا من في أذنيه ثقل مانع من السماع، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) أي فأعلمه يا أشرف الخلق بأن العذاب المفرط في الإيلام لا حق به لا محالة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) أي نعيم جنات ف «لهم» خبر إن، و «جنات» مرفوع على الفاعلية. خالِدِينَ فِيها حال من «جنات النعيم» ، أو من ضمير

[سورة لقمان (31) : الآيات 11 إلى 20]

«لهم» ، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم الله جنات النعيم وعدا وحق ذل حقا فهما مصدران مؤكدان الأول: لنفسه، والثاني: لغيره، لأن قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ في معنى وعدهم الله جنات النعيم، فأكد معنى الوعد بالوعد. وأما حقا فدل على معنى الثبات أكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنات النعيم. وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، الْحَكِيمُ (9) الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير دعائم تَرَوْنَها. فهذا إما راجع للسموات وهو استئناف جيء به للاستشهاد على خلقه تعالى لها، غير معمودة بمشاهدتهم لها كذلك، أي ليست هي بعمد وأنتم ترونها كذلك وإما راجع للعمد وهو صفة له أي بغير عمد مرئية، وإن كان هناك عمد غير مرئية فهي قدرة الله وإرادته وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت. قال ابن عباس: هي الجبال الشامخات من أوتاد الأرض، وهي سبعة عشر جبلا منها: قاف، وأبو قبيس، والجودي، ولبنان، وطور سينين، وثبير، وطور سيناء أخرجه ابن جرير أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميل الأرض بكم وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي فرق الله في الأرض من كل نوع من أنواع ذي روح، وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً وهو المطر فَأَنْبَتْنا فِيها، أي في الأرض بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) أي من كل جنس حسن فتحت كل جنس نوعان لأن النبات إما شجر أو غير شجر، فالشجر إما مثمر أو غير مثمر. هذا أي الأشياء المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي فأخبروني يا أهل مكة، ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مما تعبدونه فكيف تتركون عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق؟! بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) أي بل المشركون في خطأ بيّن وأنتم يا أهل مكة منهم وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ وهو توفيق العمل بالعلم فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة، فمن تعلم شيئا ولا يعلم مصالحه ومفاسده لا يسمى حكيما وإنما يكون مبخوتا ألا ترى أن من يلقي نفسه من مكان عال ووقع على موضع، فانخسف به وظهر له كنز وسلم لا يقال: إنه حكيم لعدم علمه به أولا، بل هو يعلم أن الإلقاء فيه إهلاك النفس والإنسان إذ علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة وأن الأهم كان مخالفا للعلم، ولم يكن من الحكمة في شيء قيل: ولقمان هو ابن باعوراء من أولاد آزر، ابن أخت أيوب عليه السلام، وعاش حتى أدرك داود عليه السلام، وأخذ عنه العلم وكان يفتي قبل مبعثه وروي أنه كان نائما في نصف النهار فنودي: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء وإن عزم على فسمعا وطاعة فإني أعلم أن الله تعالى إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني. فقالت الملائكة بصوت وهو لا يراهم: يا لقمان هل لك في الحكمة؟ قال: فإن الحاكم يغشاه المظلوم من كل مكان إن عدل نجا وإن أخطأ الطريق

أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلا خير من أن يكون شريفا ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولم يصب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطى الحكمة، فانتبه وهو يتكلم بها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ف «أن» مفسرة فإن إيتاء الحكمة في معنى القول، فإن شكر الله تعالى أهم الأشياء وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن منفعته مقصورة عليها، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) أي ومن كفر النعمة فالله غير محتاج إلى شكره حتى يتضرر بكفران الكافر، وهو تعالى في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ ثاران. وقيل: أنعم. وقيل: مشكم. وَهُوَ يَعِظُهُ ويبدأ في الوعظ بالأهم يا بُنَيَّ تصغير محبة. وقرأ حفص بفتح الياء وسكنها ابن كثير، وكسرها الباقون. لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى أسلم، ومن وقف على تشرك جعل بالله قسما إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) ، لأن الشرك وضع للنفس الشريف، ولأنه وضع العبادة في غير موضعها وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، أي أمرناه بالبر بهما حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي حملته أمه في بطنها تضعف ضعفا فوق ضعف، كلما كبر الولد في بطنها كان أشد عليها وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي وفطامه في تمام عامين- وهي مدة الرضاع عند الشافعي، ومدة الرضاع عند أبي حنيفة ثلاثون شهرا- أَنِ اشْكُرْ لِي بالطاعة لأني المنعم في الحقيقة وَلِوالِدَيْكَ بالتربية، لأنهما سبب لوجودك. قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر للوالدين إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) أي إلى الرجوع فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما أي أن خدمتهما واجبة وطاعتهما لازمة ما لم يكن فيها ترك طاعة الله، أما إذا أفضى إليه فلا تطعهما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع وتقتضيه المروءة، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص في الطاعة وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وقيل: هو أبو بكر الصديق، وذلك أنه حين أسلم أتاه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف. وقالوا له: قد صدقت هذا الرجل وآمنت به قال: نعم هو صادق فآمنوا، ثم حملهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلموا فهؤلاء لهم سابقة الإسلام بإرشاد أبي بكر رضي الله عنه، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجعك أيها الإنسان، ومرجع والديك، ومرجع من أناب فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) بأن أجازي كلا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. يا بُنَيَّ، روى أن ابن لقمان قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال: يا بني إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي أن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تلك مثلا في الصغر كحبة الخردل.

[سورة لقمان (31) : الآيات 21 إلى 30]

وقرأ نافع مثقال بالرفع وكان تامة وضمير «إنها» للقصة، أي إن الشأن أن يوجد وزن حبة الخردل، فَتَكُنْ أي تلك الخصلة فِي صَخْرَةٍ تحت الأرضين وهي التي عليها الثور، وهي لا في الأرض ولا في السماء أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها ويحاسب عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ (16) بكنهه يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ بجميع حدودها وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإحسان، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي القبيح من القول والعمل، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن، لا سيما بسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ أي الصبر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) أي من الأمور الواجبة المقطوعة، فلم يرخص في تركه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض وجهك من الناس تكبرا. ويقال: لا تحقر فقراء المسلمين وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي اختيالا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) فالمختال من يكون به خيلاء، وهو الذي يري الناس عظمة نفسه، وهو التكبر والفخور، من يكون مفتخرا بنفسه، وهو الذي يرى عظمة نفسه وهو التكبر والفخور من يكون مفتخرا بنفسه وهو الذي يرى عظمة لنفسه في عينه. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي توسط في المشي بين الدبيب والإسراع وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي وانقص منه، وهذا إشارة إلى التوسط في الأقوال إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أي إن أقبح أصوات الحيوانات صوت الحمير، أوله صوت قوي وآخره صوت ضعيف. أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تعلموا أيها المشركون أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أن الله جعل لأجلكم ما في السموات من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والمطر، وما في الأرض من الشجر والدواب منقادا للأمر فإن الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق. وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي وأتم عليكم نعمة محسوسة معقولة، معروفة لكم، وغير معروفة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص «نعمة» بفتح العين وبالهاء آخره. والباقون بسكون العين وبتاء منونة آخره. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث، وأبيّ بن خلف وأمية بن خلف وأشباههم كانوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الله تعالى وفي صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل وَلا هُدىً من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) أنزله الله تعالى بل بمجرد التقليد، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يخاصم اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من القرآن، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي قالوا: نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل من آبائنا، وهو عباد الأصنام أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي قال الله تعالى أيتبعون آباءهم ولو كان الشيطان يدعو آباءهم فيما هم عليه من الشرك إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) فهم يقتدون بهم وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، أي ومن يفوض إليه تعالى مجامع أموره، ويقبل عليه تعالى بكليته وهو آت بأعماله جامعة بين الحسن الذاتي والوصفي فقد تمسك بحبل لا انقطاع له، وترقى بسببه إلى أعلا المقامات، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) فيجازيه أحسن الجزاء، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي لا تحزن إذا كفر كافر إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا في

الدنيا من الكفر والمعاصي بالعقاب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) فلا يخفي عليه سرهم وعلانيتهم فينبئهم بما أضمرته صدورهم نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا مدة حياتهم، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) ثم نردهم في الآخرة إلى عذاب شديد، أي فإنهم لما كذبوا الرسل، ثم تبين لهم الأمر وقع عليهم من الخجالة ما يدخلون ولا يختارون الوقوف بين يدي ربهم بمحضر الأنبياء. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وهذا يصدقك في دعوى الواحدانية، ويبين كذبهم في الإشراك قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور صدقك وكذب مكذبيك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ، أي ليس لهم علم يمنعك من تكذيبك مع اعترافهم بما يوجب تصديقك لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يستحق العبادة فيهما غيره تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) ، أي الغني عن العالمين، المستحق للحمد، وإن لم يحمده أحد. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، أي ولو كانت الأشجار أقلاما والبحار السبعة من بعد نفاذ البحر المحيط مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، فإن العجائب بقوله تعالى: (كن) و «كن» كلمة، وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز كما يقول الشجاع لمن يبارزه: أنا موتك وكما يقال للدواء في حق المريض هذا شفاؤك، ودليل صحة هذا هو أن الله تعالى سمى المسيح: كلمة، لأنه كان أمرا عجيبا لوجوده من غير أب، ولذا قلنا بأن عجائب الله لا نهاية لها دخل فيها كلامه تعالى، فالمخلوق هو الحرف والتركيب هو عجيب. أما الكلمات فهي من صفات الله تعالى، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي كامل القدرة فلا يعجزه شيء حَكِيمٌ (27) أي كامل العلم فلا يخرج عن علمه أمر ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي ما خلقكم وبعثكم إلا كخلق نفس واحدة بعثها في سهولة الحصول، إذ لا يشغله تعالى شأن، لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أي سميع لما يقولون كيف يبعثنا بصير بما يعملون أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم يا أيها الغافل أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منهما في الآخر ويضمه إليه، فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذللهما كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة لهما، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ في كل وقت من الخير والشر خَبِيرٌ (29) . فمن شاهد مثل ذلك الصنع لا يغفل عن كون صانعه محيطا بجلائل أعماله ودقائقه ذلِكَ أي ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع، بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي الثابت الوجود وألوهيته، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وبسبب بيان بطلان إلهية ما يعبدونه من غيره تعالى. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص «يدعون» بالغيبة. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أي وبيان أنه تعالى هو العلي في صفاته، الكبير في ذاته، أكبر من كل ما يتصور،

[سورة لقمان (31) : الآيات 31 إلى 34]

فلا يكون جسما في مكان أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ أي بالريح التي هي بأمر الله، وبإحسانه تعالى في تهيئة أسباب الجري لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي ليريكم بإجراء السفينة بنعمته بعض دلائل وحدته وعلمه وقدرته إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة في ذاتها، كثيرة في عددها لِكُلِّ صَبَّارٍ في الشدة شَكُورٍ (31) في الرخاء، فالتكاليف أفعال وتروك، فالتروك: صبر عن المألوف. والأفعال: شكر على المعروف وَإِذا غَشِيَهُمْ أي أحاط بهم مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، أي كالجبال في الارتفاع دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي مفردين له تعالى بالدعوة بأن ينجيهم، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، أي مقيم على الطريق المستقيم الذي هو التوحيد، ومنهم من يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ أي كثير الغدر، ولا يكون الغدر إلا من قلة الصبر كَفُورٍ (32) أي مبالغ في كفران نعم الله تعالى. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي يا أهل مكة أطيعوا ربكم وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يقضي فيه والد عن ولده في دفع الآلام، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في دفع الإهانة، ف «مولود» مبتدأ، و «هو» مبتدأ ثان، و «جاز» خبره. والجملة خبر «مولود» . وقرئ «لا يجزئ» بضم الياء ورفع الهمزة أي لا يغني. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب حَقٌّ أي لا يمكن إخلافه أصلا فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فإنها زائلة لوقوع اليوم الذي لا مجازاة بين الوالد وولده بالوعد الحق وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ أي بسبب حلم الله الْغَرُورُ (33) أي الشيطان، أو الدنيا فمن الناس من تدعوه الدنيا إلى نفسها فيميل إليها، ومنهم من يوسوس في صدره الشيطان ويزين في عينه الدنيا ويقول: إنك تحصل بها الآخرة، أو تلتذ بها، ثم تتوب فتجتمع لك الدنيا والآخرة، أي كونوا من الذين لا يلتفتون إلى الدنيا ولا إلى من يحسن الدنيا في الأعين، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيام القيامة وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ إلى محله في إبانه. وقرأ نافع، وابن عامر، وعصام بفتح النون وتشديد الزاي. وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ من ذكر أو أنثى، تام أو ناقص وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أي وقت تموت. روي أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال ملك الموت. فقال: كأنه يريدني! فمر الريح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند، ففعل، ثم قال الملك لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بكل شيء خَبِيرٌ (34) أي عالم ببواطن الأشياء كما يعلم ظواهرها.

سورة السجدة

سورة السجدة وتسمى سورة المضاجع، مكية عند أكثرهم، تسع وعشرون آية، ستمائة وثمانون كلمة، ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) ف «تنزيل» خبر عن «ألم» ، أي هذه السورة المسماة «ألم» منزل الكتاب و «لا ريب فيه» حال من «الكتاب» ، و «من رب» متعلق ب «تنزيل» . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقول كفار مكة اختلق محمد القرآن من تلقاء نفسه! بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي بل القرآن هو الثابت من ربك نزل به جبريل عليك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) أي لكي تخوف بالقرآن قوما لم يأتهم رسول مخوف قبلك راجيا أنت لاهتدائهم، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها أحد وآخرها جمعة، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي ثم استقام الله على ملكه وتصرف فيه تصرفا تاما، والعرش موجود قبل السموات والأرض ما لَكُمْ يا أهل مكة مِنْ دُونِهِ أي من غير الله مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعكم، وَلا شَفِيعٍ ينصركم من عذاب الله فعبادتكم لهذه الأصنام ضائعة لا هم خالقوكم ولا ناصروكم، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) أي أتستمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ، أي يدبر أمر الدنيا من السماء على عباده، ويصعد إليه آثار الأمر وهي أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر، فإن نزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون عليهم أي على غير الملائكة، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في مسيرة خمسمائة سنة، فهو مقدار ألف سنة. قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل عليهم السلام. فأما جبريل: فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل: فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت: فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل: فهو ينزل بالأمر عليهم وقد قيل: إن العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل، قال الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، وما دون السموات موضع التصريف ذلِكَ أي المدبر عالِمُ الْغَيْبِ

[سورة السجده (32) : الآيات 11 إلى 20]

وَالشَّهادَةِ أي عالم ما غاب عن العباد وما يكون وما علمه العباد، وما كان فيدبر أمرهما. الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) فهو قادر على الانتقام من الكفرة واسع الرحمة على البررة الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن، وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) أي بدأ آدم عليه السلام من أديم الأرض على فطرة عجيبة ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي من نطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ، أي من ماء ضعيف مخلوط من ماء الرجل والمرأة، ثُمَّ سَوَّاهُ أي عدله بتكميل أعضائه في الرحم وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أي جعل الروح فيه، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ على مقتضى الحكمة وذلك لأن الإنسان يسمع أولا من الناس أمورا فيفهمها، ثم يحصل له بسبب ذلك بصيرة فيبصر الأمور ويجربها، ثم يحصل له بسبب ذلك إدراك تام وذهن كامل فيستخرج الأشياء من قلبه، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) أي فتشكرون شكرا قليلا، وَقالُوا أي أبو جهل وأصحابه: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي أإذا غبنا في الأرض بالدفن بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه، أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي أإنا يجدد خلقنا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) أي ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانيا، بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، أي قل يا أشرف الخلق: يقبض أرواحكم ملك الموت الذي وكّل بكم بقبض أرواحكم. وذلك دليل على بقاء الأرواح، فلا بد من الحياة بعد الموت لا كما تزعمون أن الموت من الأحوال الطبيعية العارضة للحيوان بموجب الجبلة، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) بالبعث للحساب والجزاء، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا أي ولو ترى أيها المخاطب إذ المشركون خافضوا رؤوسهم عند ربهم من الحياء والخزي عند ظهور قبائحهم يقولون: ربنا أبصرنا قبح أعمالنا وكنا نراها في الدنيا حسنة، وأبصرنا الحشر وَسَمِعْنا قول الرسول، وإن مردنا إلى النار، فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) أي إنا آمنا في الحال، أي لو ترى حالهم وتشاهد استخجالهم لترى عجبا وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي قال تعالى جوابا عن قولهم ذلك إني لو أرجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم تبين إني ما شئت إيمانكم فلا أردكم إلى الدنيا. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي سبقت كلمتي حيث قلت لإبليس فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. وهو المراد بقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) أي من كفارهم فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي لا رجع لكم إلى الدنيا فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه. إِنَّا نَسِيناكُمْ أي إنا تركناكم بالكلية غير ملتفت إليكم قطعا لرجائكم، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الدائم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) في الكفر إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي بتلك الآيات

[سورة السجده (32) : الآيات 21 إلى 30]

خَرُّوا سُجَّداً أي انقادت أعضاؤهم للسجود، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، أي وتحرك ألسنتهم بتنزيهه تعالى عن الشرك وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) ، عن الخرور والتسبيح والتحميد تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي تتنحى جنوبهم عن مواضع المنام. قال أنس: نزلت هذه الآية فينا، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وعن أنس أيضا قال: نزلت في أناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهي صلاة الأوابين وهو قول ابن حازم ومحمد بن المنكدر، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والمشهور أن المراد منه صلاة الليل وهو قول الحسن، ومجاهد، ومالك، والأوزاعي وجماعة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» «1» يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً من عدم قبول عبادته ومن سخطه تعالى وعذابه، وَطَمَعاً في رحمته وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من المال يُنْفِقُونَ (16) في وجوه البر والحسنات، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي فلا تعلم نفس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ما ذخر لهم، مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي ما يحصل به الفرح والسرور جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أي للجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة، أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ أي أفبعد ظهور التباين بين المؤمن والكافر يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالكافر الذي ذكرت أحواله الشنيعة، لا يَسْتَوُونَ (18) ، أي المؤمنون كعلي رضي الله عنه، والكافرون كالوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه كان بينهما تنازع يوم بدر فقال الوليد بن عبقة لعلي: اسكت فإنك صبي وأنا والله أبسط منك لسانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال علي: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى هذه الآية . أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا أي حالة كونها ثوابا معدا لهم كما يعد ما يحصل به الإكرام للضيف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) أي بسبب أعمالهم الصالحة في الدنيا. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن دائرة الإيمان فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها، أي النار أُعِيدُوا فِيها بمقامع الحديد. وَقِيلَ لَهُمْ أي قالت الزبانية زيادة في غيظهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) أي الذي كنتم في الدنيا تكذبون بعذاب النار وقلتم: إنه لا يكون وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ، أي ولنصيبن كفار مكة من عذاب الدنيا بالقحط سبع سنين، والقتل والأسر يوم بدر قبل عذاب الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) يتوبون عن الكفر، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها أي لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا والنقم ثانيا، ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا

_ (1) رواه ابن ماجة في المقدّمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

منتقم منهم بالعذاب الأكبر. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ أي فلا تكن يا أشرف الخلق في شك من لقاء الكتاب الذي هو القرآن، أي إنا آتينا موسى مثل ما أتيناك من الكتاب فلا تكن في شك من أنك لقيت نظيره، وَجَعَلْناهُ أي الكتاب الذي آتيناه موسى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) كما جعلنا كتابك هاديا للأمة وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ إلى دين الله بِأَمْرِنا إياهم بذلك، كما جعلنا من أمتك صحابة يهدون لَمَّا صَبَرُوا أي حين صبروا على مشاق الطاعات ومقاساة الشدائد في نصرة الدين. وقرأ حمزة والكسائي بكسر اللام وتخفيف الميم، أي لصبرهم على ذلك. وَكانُوا بِآياتِنا- التي في تضاعيف الكتاب يُوقِنُونَ (24) لإمعانهم فيها النظر إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ أي بين المبتدع والمتبع كما يفصل بين المؤمن والكافر، أو يفصل بين المختلفين من أمة واحدة كما يفصل بين المختلفين من الأمم الكثيرة يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) من أمور الدين. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم كثرة إهلاكنا وقد جوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على الله، كما يدل عليه قراءة «نهد» بنون العظمة فيكون «كم أهلكنا» إلخ استئنافا مبينا لكيفية هدايته تعالى مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ مثل عاد وثمود، وقوم ولوط. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرون في أسفارهم إلى التجارة على ديارهم وبلادهم، ويشاهدون آثار هلاكهم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في كثرة إهلاكنا الأمم الخالية العاتية لَآياتٍ عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي التي أزيل نباتها بالمرة. قال ابن عباس هي أرض اليمن والشام. وقال قوم: هي مصر فَنُخْرِجُ بِهِ أي بذلك الماء من تلك الأرض زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ قدم الأنعام في الأكل لأن الزرع أول ما ينبت يصلح للدواب، ولأن الزرع غذاء الدواب، وهو لا بد منه أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) ؟ أي ألا ينظرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى، وعلى فضله؟ وَيَقُولُونَ أي المشركون للمؤمنين بطريق الاستعجال تكذيبا واستهزاء: مَتى هذَا الْفَتْحُ أي النصر؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) ! وكان المسلمون يقولون: إن الله سيفتح لنا على المشركين وإن الله ينصرنا عليكم. قُلْ يا أشرف الخلق لبني خزيمة وبني كنانة يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ إذا جاءهم العذاب وقتلوا لأن إيمانهم حال القتل إيمان اضطرار، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) أي يمهلون بتأخير العذاب عنهم، ولما فتحت مكة هربت قوم من بني كنانة فلحقهم خالد بن الوليد، فأظهروا الإسلام، فلم يقبله منهم خالد وقتلهم، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن بني خزيمة ولا تبال بتكذيبهم وَانْتَظِرْ هلاكهم يوم فتح مكة إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) هلاكك. ويقال: وانتظر النصر من الله فإنهم ينتظرون النصر من آلهتهم. ويقال: وانتظر عذابهم بنفسك فإنهم ينتظرونه بلفظهم استهزاء.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية بالإجماع، ثلاث وسبعون آية، ألف ومائتان وثمانون كلمة، خمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهرين بالكفر، وَالْمُنْفِقِينَ المضمرين له. نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي. وذلك أنهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، رأس المنافقين، بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم- وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه- ارفض ذكر آلهتنا اللات، والعزى، ومناة وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فسق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال: «إني أعطيتهم الأمان» فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) أي مبالغا في العلم والحكمة، فيعلم جميع الأشياء من المصالح والمفاسد، فلا يأمرك إلا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلا عن ما فيه مفسدة، ولا يحكم إلا بما يقتضيه الحكمة البالغة، وَاتَّبِعْ في كل ما تأتي وما تذر من أمور الدين ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) فلا تهتم بشأنهم فإن الله تعالى كافيكه. وقرأ أبو عمرو «بما يعملون» بالغيبة، فالواو ضمير يعود على الكفرة والمنافقين وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) أي حافظا موكولا إليه كل الأمور. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت هذه الآية في أبي معمر جميل بن أسد الفهري، كان رجلا لبيبا، حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا من أجل أن له قلبين، وكان هو يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله المشركين بوم بدر انهزم أبو معمر، فلقيه أبو سفيان وإحدى نعليه بيده والأخرى برجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ فقال: انهزموا. فقال: ما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى

في رجلك؟ فقال أبو معمر: ما شعرت إلا أنهما في رجلي. فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ أي كأمهاتكم في الحرام. نزلت هذه الآية في أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت وامرأته خولة. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ الذين تبنيتم أَبْناءَكُمْ أي كأبنائكم من النسب. وقرأ عاصم «تظاهرون» بضم التاء وفتح الظاء مع المد وكسر الهاء، وحمزة والكسائي بفتح التاء والظاء مع المد والتخفيف وفتح الهاء، وابن عامر كذلك، إلا أنه يشدد الظاء. والباقون بفتح التاء والظاء والهاء المشددتين ولا ألف بعد الظاء. روى الأئمة عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، وكان زيد فيما روى عن أنس بن مالك وغيره مسبيا من الشام بستة خيل من تهامة، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعتقه، وتبناه، فأقام عنده مدة، ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خيّراه، فإن اختاركما فهو لكما دون فداء» . فاختار الرق مع رسول الله على حريته وقومه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك: «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه» . وكان يطوف على حلق قريش يشهدهم، فرضي بذلك عمه وأبوه وانصرفا ، ذلِكُمْ أي دعاؤكم بقولكم: هذا ابني قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط فهو قول لا حقيقة له، ولا يخرج من قلب ولا يدخل في قلب فهو قول بالفم مثل أصوات البهائم وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ فإن العاقل ينبغي أن يكون قومه له، إما عن عقل أو عن شرع، فإذا قال: فلان ابن فلان ينبغي أن يكون عن حقيقة أو عن شرع بأن يكون ابنه شرعا وإن لم يعلم الحقيقة كمن تزوج بامرأة فولدت لستة أشهر ولدا، وكان الزوجة من قبل زوجة شخص آخر يحتمل أن يكون الولد منه فإنا نلحقه بالزوج الثاني لقيام الفراش ونقول: إنه ابنه وفي الدعي لم توجد الحقيقة ولا ورد الشرع به، لأن أباه ظاهر مشهور. ومن قال: إن تزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بزينب لم يكن حسنا، لأنها زوجة الابن يكون قد ترك قول الله الحق هي حلال لك وقد أخذ بقول خرج من الفم. وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) أي سبيل الحق فدعوا أقوالكم وخذوا بقول تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي الدعاء لآبائهم بالغ في العدل في حكم الله تعالى فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي بنو عمكم، أي فإن لم تعرفوا أبا شخص تنسبونه إليه وأردتم خطابه فقولوا له: يا أخي، ويا ابن عمي. ويقال: فادعوهم باسم إخوانكم في الدين كأن تقولوا: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم، وعبد الرزاق وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ بالسهو أو سبق اللسان فقول القائل لغيره: يا ابني، بطريق الشفقة أو يا أبي، بطريق التعظيم فإنه مثل الخطأ، ألا ترى أن اللغو في اليمين مثل الخطأ وسبق اللسان. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فيه جناح وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 11 إلى 20]

رَحِيماً (5) يغفر الذنوب ويرحم المذنب فالمغفرة هو أن يستر القادر القبيح، الصادر ممن تحت قدرته والرحمة هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض. النَّبِيُّ أَوْلى أي أشفق بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كل أمر من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وهو صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في استحقاق التعظيم، وفي تحريم نكاحهن تحريما مؤبدا لا في غير ذلك سواء دخل صلّى الله عليه وسلّم بها أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في التوارث بحق القرابة من الإرث بحق الإيمان، وبحق الهجرة في القرآن وهو آية المواريث والوصية، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إلى أصدقائكم وصية من الثلث أي إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم كانَ ذلِكَ أي الميراث للقرابة والوصية للأجانب بالموادة فِي الْكِتابِ أي القرآن مَسْطُوراً (6) أي مكتوبا. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) ، أي عهدا مؤكدا وهو الإخبار بأنهم مسؤلون عما فعلوا في الإرسال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي ليسأل الرسل عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا لمن أرسلوا إليهم، وليسأل الوافين عن وفائهم، والمؤمنين عن إيمانهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين بالرسل عذابا أليما. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، أي أحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وهي ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام، وكانوا ألفا ولم يقاتلوا يومئذ، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من التجائكم إليه ورجائكم فضله بَصِيراً (9) ، فنصركم على الأعداء عند الاستعداد. وقرئ «بما يعملون» بالياء، أي الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ أي الأحزاب مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان، وأسد قائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، ومعهم اليهود من قريظة والنضير. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وهم قريش وبنو كنانة، وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف. وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي واذكروا حين مالت أبصار المنافقين عن موضعها عن طريقها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي بلغت قلوب المنافقين بأن انتفخت عند منتهى الحلقوم من الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) أي ظن المخلصون أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل هُنالِكَ أي في ذلك الزمن الهائل والمكان الدحض ابْتُلِيَ

الْمُؤْمِنُونَ ، أي امتحنهم الله فتميز الصادق عن المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) ، أي حركوا تحريكا شديدا من الهول والفزع، وكانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم منهم سيدهم حيي بن أخطب إلى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان، وقيس، وغيلان، فطلبوهم لحرب محمد، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقبالهم شرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فلما فرغوا من حفرة أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا، فنزلوا حول المدينة حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره والخندق بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام، فلما رأت قريش الخندق قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف فبعث الله عليهم ريحا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة، فزلزلتهم ولم تقاتل بل نفثت في قلوبهم الرعب، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح قام فقال: يا معشر قريش ليستعرف كل منكم جليسه واحذروا الجواسيس. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا، فإني مرتحل. ووثب على جمله وشرع القوم يقولون الرحيل الرحيل والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة ولم تجاوز عسكرهم ورحلوا وتركوا ما استثقلوه من متاعهم وحين انجلى الأحزاب قال صلّى الله عليه وسلّم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا» . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً (12) ، أي إلا وعد غرور أي قال معتب بن قشير وأصحابه: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر والحال أننا لا نقدر أن نخرج للغائط خوفا، وما هذا إلا وعد غرور. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظي من رؤساء المنافقين وأتباعه. وقال السدي: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المطهرة لا مُقامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد فَارْجِعُوا عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي يستأذن النبي في الرجوع إلى المدينة فريق من

المنافقين أوس بن قيظي، وأبو عرابة بن أوس من بني حارثة يَقُولُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لنا يا نبي الله بالرجوع إلى المدينة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، أي غير حصينة نخاف عليها سرق السراق وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي والحال أن البيوت ليس فيها خلل إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) أي ما يريدون بالاستئذان إلا فرار من القتل، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً (14) أي ولو دخل الأحزاب بيوتهم من جميع جوانبها، ثم سألهم الداخلون أو غيرهم الرجعة إلى الكفر لجاءوها. وقرأ نافع وابن كثير «لأتوها» بقصر الهمزة، أي لفعلوها. والباقون بالمد، أي لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم وما أخروا الردة إلا قدر ما يسع السؤال والجواب، أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة نفوسهم به وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي منهزمين من المشركين فإن بني حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثل ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) أي وكان ناقض عهد الله مسؤولا يوم القيامة عن نقضه قُلْ يا أشرف الخلق لبني حارثة: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لأنه لا بد لكل إنسان من الموت في وقت معين سبق به قضاء الله تعالى وجرى عليه القلم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) ، أي ولو فررتم من الموت في يومكم مثلا لما دمتم ولما متعتم بعد الفرار إلا تمتيعا قليلا قُلْ يا أكرم الرسل لبني حارثة: مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي من يمنعكم من مراد الله إن أراد بكم عذابا بالقتل أو أراد بكم نجاة من القتل وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير يدفع عنكم السوء إذا أتاكم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، أي قد علم الله المانعين من الرجوع إلى الخندق والقائلين لأصحابهم المنافقين: قربوا أنفسكم إلينا أي وهم عند هذا القول خارجون من المعسكر، متوجهون نحو المدينة، وكان هؤلاء عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أي وهم لا يأتون القتال إلا زمانا قليلا رياء وسمعة، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بأبدانهم فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أي فإذا جاء خوف العدو رأيت المنافقين في الخندق يا أشرف الخلق ينظرون إليك، تدور أعينهم في أحداقهم نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي غلبوكم بألسنة ذربة، وآذوكم بكلامهم يقولون: نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو، وقهرتم، ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالأياب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي حرصا على المال، ويقال: إنهم قليلو الخير في الحالتين كثير والشر في الوقتين، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر لَمْ يُؤْمِنُوا بقلوبهم وإن

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 إلى 30]

أظهروا الإيمان لفظا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر الله بطلان أعمالهم التي كانوا يأتون بها مع المسلمين وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) أي هينا يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هؤلاء المنافقون لجبنهم يظنون قريشا وغطفان واليهود، لم ينهزموا عند ذهابهم، ففروا إلى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) أي وإن يأت الكفار بعد ما ذهبوا كرة ثانية تمنى هؤلاء المنافقون أن لو كانوا ساكنين خارج المدينة بين الأعراب، بعداء عن تلك الكفار، يسألون كل قادم من جانب المدينة عما جرى عليكم مع الكفار. والحال أن هؤلاء المنافقين لو كانوا فيكم هذه الكرة ولم يرجعوا إلى المدينة ووقع قتال آخر: ما قاتلوا معكم إلا قليلا رياء وخوفا من التعبير لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، أي خصلة حسنة حقها أن يقتدي بها على سبيل الإيجاب في أمور الدين، وعلى سبيل الاستحباب في أمور الدنيا لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يرجو ثواب الله واليوم الآخر خصوصا وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) باللسان والقلب وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ أي الكفار الكثيرة الأجناس قالُوا هذا أي المرئي ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء إلى قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم» وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الأحزاب سائرون إليكم بعد تسع ليال أو عشر» «1» . وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في النصرة والثواب كما صدقا في البلاء وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) ، أي وما زادهم الوعد إلا إيمانا بوقوعه وتسليما عند وجوده، ويقال: وما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وبمواعيده، وتسليما لأوامره ومقاديره. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع، ويعود للأحزاب، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم أن الأحزاب تأتيهم بعد تسع أو عشر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أي أتوا بالصدق في عهدهم من الثبات مع الرسول، أي من الصحابة رجال نذورا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا، وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد وعمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر وغيرهم. وأخرج الترمذي عن معاوية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلحة ممن قضى نحبه» «2» . وقد روي أن طلحة ثبت مع رسول الله يوم أحد حتى أصيبت يده فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة» «3» وعنه صلّى الله عليه وسلّم في رواية

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 165) . (2) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (126) . (3) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (4: 122) .

عائشة: «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» «1» . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاء نحبه لكونه موقنا، كعثمان وطلحة وغيرهما ممن استشهد بعد ذلك فإنهم مستمرون على نذورهم وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) أي وما غيروا العهد تغييرا بالنقض لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ أي بصدق ما وعدهم بالقول والفعل في الدنيا والآخرة وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ الذين كذبوا وأخلفوا بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية إِنْ شاءَ تعذيبهم فيمنعهم من الإيمان فماتوا على النفاق أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا قيل: الموت إن أراد ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لمن تاب حيث ستر ذنوبهم رَحِيماً (24) حيث رزقهم الإيمان وَرَدَّ اللَّهُ أي صرف الله الَّذِينَ كَفَرُوا- وهم الأحزاب- بِغَيْظِهِمْ أي ملتبسين به لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي غير ظافرين يخير من دين ودنيا. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي رفع الله مؤنة القتال عن المؤمنين بالريح والملائكة، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على نصر المؤمنين فلم يحوجهم إلى قتال الكفار، عَزِيزاً (25) أي قادرا على إهلاك الكافرين وإذلالهم. روى البخاري عن سلمان بن صرد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انجلى الأحزاب يقول: «الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم» وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا كفار مكة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة والنضير كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب وأصحابهما، مِنْ صَياصِيهِمْ أي حصونهم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال، كانوا ستمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وهم النساء والذراري، وكانوا سبعمائة وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ من الحدائق والمزارع وَدِيارَهُمْ، أي منازلهم وَأَمْوالَهُمْ من النقد والماشية، والسلاح، والأثاث وغيرها، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها أي لم تقبضوها الآن، وهي خيبر فإنها فتحت بعد بني قريظة بسنتين- كما قاله السدي ومقاتل- أو هي أرض الروم- وفارس كما قاله الحسن- وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) ويملككم غيرها. روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا السلاح وهو على فرسه الحيزوم، والغبار على وجه الفرس، والسرج فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا جبريل؟» فقال: من متابعة قريش. فجعل رسول الله يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح منذ

_ (1) رواه مسلم في كتاب الطلاق، باب: 35، والنسائي في كتاب الطلاق، باب: التوقيت في الخيار، وابن ماجة في كتاب الطلاق، باب: الرجل يخيّر امرأته، وأحمد في (م 6: 212) .

أربعين ليلة، إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فانهض إليهم فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال، وألقيت الرعب في قلوبهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي: إن من كان مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم المسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتنزلون على حكمي فأبوا فقال: أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به» فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «1» . فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار بنت الحرث من نساء بني النجار، ثم خرج إلى سوق المدينة- الذي هو سوقها اليوم- فخندق فيه خندقا، ثم بعث إليهم، فأتى بهم إليه، وفيهم حيي بن أخطب رئيس بني النضير، وكعب بن أسد رئيس بني قريظة، وكانوا ستمائة، فأمر عليا والزبير بضرب أعناقهم، وطرحهم في ذلك الخندق، فلما فرغ من قتلهم وانقضى شأنهم توفي سعد المذكور بالجرح الذي أصابه في وقعة الأحزاب وحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعمر. قالت عائشة: فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني في حجرتي. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ قال عكرمة كان تحته صلّى الله عليه وسلّم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية ثم صفية بنت حي الخيرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث من بني المصطلق. وروي أنهن سألنه صلّى الله عليه وسلّم ثياب الزينة وزيادة النفقة فنزلت هذه الآية: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي التنعم فيها وَزِينَتَها أي زخارفها فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطاكن المتعة وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (28) ، أي أخرجكن من البيوت من غير ضرار بعد إعطاء المتعة وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي تردن طاعة الله وطاعة رسوله وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، أي الجنة فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أي لمن عمل الصالحات منكن أَجْراً عَظِيماً (29) وهو الكبير في الذات، الحسن في الصفات، الباقي في الأوقات. وروي عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لأبي بكر فدخل، ثم جاء عمر، فأستأذن، فأذن له، فدخل، فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا واجما ساكتا وحوله نساؤه قال عمر: فقلت: والله لأقولن شيئا أضحك به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول صلّى الله عليه وسلّم لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» . فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ

_ (1) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: 32، وأحمد في (م 1/ ص 185) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 إلى 40]

عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول: لا تسألن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما ليس عنده. فقلن: والله لا نسأل رسول الله أبدا شيئا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا، ثم نزلت هذه الآية. فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» «1» . قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر لهن ذلك، يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ أي بكبيرة مُبَيِّنَةٍ أي ظاهرة القبح. وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء التحتية، أي بين الله قبحها يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، أي يعذبن ضعفي غيرهن. وقرأ أبو عمرو «يضعف» بتشديد العين على البناء للمفعول. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نضعف» بنون العظمة وتشديد العين على البناء للفاعل ونصب «العذاب» . وَكانَ ذلِكَ أي التضعيف عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) لا يمنعه تعالى عن التضعيف كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس أمر الله كأمر الخلق حيث يتعذر عليهم تعذيب الأعزة بسبب كثرة شفعائهم، وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أي من يطع الله ورسوله منكن وَتَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا فيما بينها وبين ربها نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ، أي نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها من النساء، فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله بالقناعة، وحسن المعاشرة، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في «يعمل» ، و «يؤتها» . وَأَعْتَدْنا لَها أي هيأنا لها رِزْقاً كَرِيماً (31) أي مرضيا في الجنة، زيادة على أجرها المضاعف، يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ أي اتصفتن بالتقوى، لأن فيكن أمرا لا يوجد في غيركن وهو كونكن أمهات جميع المؤمنين، وزوجات خير المرسلين، كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس كأحد من الرجال، فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي فلا ترفقن بالقول عند الرجال فَيَطْمَعَ في الخيانة الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي شهوة الزنا، وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) أي قولا حسنا مع كونه خشنا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي امكثن في بيوتكن، وليكن عليكن حسن الهيئة. وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف فهو أمر من قر يقر من باب علم أو من قار يقار إذا اجتمع. وقرأ غيرهما بكسر القاف من وقر يقر وقارا. وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي ولا تتزين بزينة الكفار في الثياب الرقاق الملونة. والمراد بالجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ أي أتممن الصلوات الخمس. وَآتِينَ الزَّكاةَ أي أعطين زكاة أموالكن وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما تأتين وما تذرن إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ، أي عمل

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (14: 19) .

الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن- كما قاله ابن عباس- أو الذنب المدنس بعرضكم، أَهْلَ الْبَيْتِ، أي يا أهل بيت النبوة. وأخرج الترمذي حديثا أنه لما نزلت هذه الآية دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة، وحسنا، وحسينا، وعليا، وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي» «1» . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: نولت هذه الآية في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) أي يلبسكم خلع الكرامة، فذهاب الرجس كناية عن زوال عين النجاسة، والتطهير كناية عن تطهير المحل. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ أي اذكرن للناس بطريق العظة ما يتلى في بيوتكن من القرآن، وكلمات النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) يعلم ويدبر ما يصلح في الدين، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي إن المنقادين لحكم الله تعالى من الذكور والإناث، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي المصدّقين بما يجب تصديقه من الفريقين وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ، أي المداومين على الطاعات، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في القول والعمل، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على الطاعات وعن المعاصي، وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ أي المتواضعين لله بقلوبهم وجوارحهم، وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المفروض، وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عن الحرام، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بقلوبهم وألسنتهم، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ما عملوا من تلك الحسنات المذكورة مَغْفِرَةً للصغائر وَأَجْراً عَظِيماً (35) على الطاعات. نزلت هذه الآية في قول أم سلمة، ونسيبة بنت كعب الأحبار: يا رسول الله ما ترى الله يذكر النساء في شيء من الخير، إنما ذكر الرجال، ثم نزلت في زينب بنت جحش بنت عمة رسول الله، وأميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله، وكانت بيضاء جميلة، وزيد أسود وقالت: أنا بنت عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي. وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأخيها، وكانت وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم فزوجها من زيد بعد ما طلق زينب بنت جحش، فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أي وما صح لكل مؤمن وكل مؤمنة إذا أراد رسول الله أمرا أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختياره صلّى الله عليه وسلّم، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور كأن يعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً (36) ، أي بين الانحراف عن سنن الصواب، فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب وأخوها، وجعلا الأمر بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنكحها زيدا، وساق إليها رسول الله عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا، وملحفة

_ (1) رواه مسلم في كتاب الحيض، باب: 18، وأحمد في (م 2/ ص 315) .

وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي واذكر وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه، بالاعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب، أي لا تطلقها وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أبصرها قائمة في درع وحمار بعد ما أنكحها إياه، فوقعت في نفسه حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر. فقال: «سبحان الله مقلب القلوب» » وسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد ففطن لذلك ووقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أريد أن أفارق صاحبتي. فقال: ما لك أرابك منها شيء؟ فقال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنها تتعاظم علي بشرفها. فقال له: أمسك عليك زوجك أي لا تفارقها. وَاتَّقِ اللَّهَ في أمرها فلا تطلقها تعللا بتكبرها عليك بسبب النسب وعدم الكفاءة، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أي والحال أنك تخفي في نفسك ما أعلمك الله أنها ستصير من أزواجك بعد طلاق زيد، وَتَخْشَى النَّاسَ وتستحي من تعيير الناس إياك بأن يقولوا: أخذ محمد زوجة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، أي والحال أن الله وحده أحق أن تستحي منه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي فلما وطئها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها أي جعلنا زينب زوجتك بلا واسطة عقد، فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بغير إذن ولا تجديد عقد، ولا تقرير صداق، ولا شيء مما يكون شرطا في حقوقنا، وأ ولم عليها بشاة، وأطعم الناس خبزا ولحما حتى تركوه. وعن أنس قال: ما أولم النبي صلّى الله عليه وسلّم على أحد من نسائه كما أولم على زينب. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، أي لكيلا يكون على المؤمنين ضيق في تزوج نساء من تبنوهم إذا قضوا منهن حاجة بالدخول بهن، ثم الطلاق وانقضاء العدة، فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة. والمعنى: زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتنبي حلال للمتبني ولو بعد الدخول بها، وفي هذا التعليل إشارة إلى أن التزوج من النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن لقضاء شهوته بل لبيان الشريعة بفعله، فإن الشرع يستفاد من فعل النبي وقوله: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) أي وكان مراد الله موجودا في الخارج لا محالة، ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، أي ليس على النبي مأثم فيما رخص الله له من التزوج سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي سن الله ذلك سنة في الذين مضوا من قبل محمد، فإن داود عليه السلام افتتن بامرأة أوريا، وسليمان عليه السلام تزوج بلقيس، ولقد كانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية، ولسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية فإن اليهود عابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بكثرة النساء، فرد الله عليهم بقوله: سنة الله، أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل محمد. وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) أي وكان قضاء الله حكما مبتوتا، والقضاء ما كان مقصودا في الأصل، والقدر ما

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 265) ، والبغوي في شرح السنّة (2: 322) .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 إلى 50]

يكون تابعا له مثاله من كان يقصد مدينة، فنزل بطريق تلك المدينة في قرية يصح منه في العرف أن يقول في جواب من يقول: لم جئت إلى هذه القرية؟ إني جئت إلى هذه القرية، وإنما قصدت المدينة الفلانية، وهذه وقعت في طريقي، وإن كان قد جاءها ودخلها إذا عرفت هذا فإن الخير كله بقضاء، وما في العالم من الضرر بقدر. ثم وصف الله تعالى الذين خلوا بقوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ في تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ أي الذين هم كانوا رسلا مثل محمد وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ، أي كافيا للمخاوف، فينبغي أن لا يخشى غيره، أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يكون حق الخشية منه تعالى. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها، فليس محمد أبا زيد وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ، أي ولكن كان محمد رسولا لله والعامة على تخفيف «لكن» ، ونصب «رسول» على إضمار «كان» . وقرأ أبو عمرو وفي رواية بتشديدها على أن «رسول» اسمها، والخبر محذوف، أي ولكن رسول الله. هو وقرأ زيد بن علي، وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع رسول على الابتداء وخبره مقدر، أي هو، أو بالعكس، أو ولكن هو رسول الله. وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي وكان آخرهم الذين ختموا به. وقرأ عاصم بفتح التاء. والباقون بكسرها، أي فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه وفي التعظيم من طرفهم، بل أقوى، فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم إن النبي الذي يكون بعده، نبي إن ترك شيئا من النصيحة يستدركه من يأتي بعده وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته، وأهدى لهم إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) . ومن جملته الحكم الذي بيّنه لكم وكنتم منه في شك، والحكمة في تزوجه صلّى الله عليه وسلّم بزوجة من تبناه إكمال شرعه، وذلك أن قول النبي يفيد شرعا لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة، ألا ترى أنه صلّى الله عليه وسلّم أحل أكل الضب، ثم لما لم يأكله بقي في النفوس شيء، ولما أكل لحم الجمل طاب أكله عندها مع أنه في بعض الملل لا يؤكل، وكذلك الأرنب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو أهله من التهليل، والتحميد باللسان والقلب، ذِكْراً كَثِيراً (41) يعمّ الأوقات والأحوال أي بالليل والنهار، والبر والبحر، والصحة والسقم، في السر والعلانية عند المعصية والطاعة. وَسَبِّحُوهُ أي نزهوه عما لا يليق به. بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) . وهذا إشارة إلى المداومة وذلك، لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ أي فالله تعالى وملائكته يعتنون بما فيه خيركم وصلاح أمركم، فالله يهديكم برحمته والملائكة يستغفرون لكم لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، أي يخرجكم بذلك من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) أي وكان

الله بكافة المؤمنين رحيما. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ، أي ما يحيون به يوم لقاء الله عند الموت، أو عند الخروج من القبور، أو عند دخول الجنة تسليم عليهم من الله تعالى، تعظيما لهم. أو من الملائكة بشارة لهم بالجنة، أو تكرمة لهم. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) أي ثوابا حسنا في الجنة. وهذا ترغيب ببيان أن الأجر الذي هو المقصد الأقصى موجود بالفعل مهيّأ لهم. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم، تشاهد أعمالهم. فالنبي بعث في الدنيا متحملا للشهادة، ويكون في الآخرة مؤديا لما تحمله. وَمُبَشِّراً للمؤمنين بالجنة، وَنَذِيراً (45) للكافرين بالنار، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى دينه، بِإِذْنِهِ. وهذا راجع إلى «داعيا» . وذلك كما إذا قال شخص: من يطع الملك يسعد، ومن يعصه يشقى، فيكون مبشرا ونذيرا ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من الملك، وأما إذا قال: تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه فيحتاج في ذلك إلى إذنه. وَسِراجاً مُنِيراً (46) يستضاء به في ظلمات الجهل ويهتدي بأنواره إلى مناهج الرشد. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) على سائر الأمم المؤمنين في الزيادة على أجور أعمالهم قوله: وَبَشِّرِ عطف على مفهوم. والتقدير: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا، فاشهد وبشر. وقيل: لما نزل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] قال المؤمنون: هنيئا لك يا رسول الله بالمغفرة، فما لنا عند الله تعالى؟ فقال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الآية. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي ولا تطع الكافرين من أهل مكة، أبا سفيان وأصحابه. والمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أبي وأصحابه، أي لا تترك إبلاغ شيء مما أمرت، وَدَعْ أَذاهُمْ أي دع أذيتهم إياك إلى الله، فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار، أو لا تبال بأذيتهم لك بسبب تصلبك في الدعوة والإنذار، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وما تذر فإنه تعالى يكفيكهم، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) أي موكولا إليه الأمور في كل الأحوال. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ أو الكتابيات، ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ. وقرأ حمزة والكسائي «تماسوهن» بضم التاء ومد الميم، أي من قبل أن تجامعوهن. فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ بالشهور أو الحيض تَعْتَدُّونَها أي تستوفون أنتم عددها، فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يتمتعن به وهو المتعة الواجبة للمفارقة في الحياة، إذا كانت مدخولا بها، أو غير مدخول بها، وكانت مفوضة ولم يفرض لها شيء قبل الفراق، وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) أي أخرجوهن من منازلكم من غير ضرار ولا منع حق. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي أعطيت مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ، أي مما فتح الله عليك مثل: صفية بنت حيي النضرية، وريحانة القرظية، وجويرية بنت الحرث الخزاعية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من بني عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من بني عبد مناف بن زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ، ذكر للنبي ما هو الأولى، فإن الزوجة التي أوتيت مهرها أطيب قلبا من

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 51 إلى 60]

التي لم تؤت، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أطهر من التي اشتراها الرجل، فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها، ومن هاجرت من أقارب النبي صلّى الله عليه وسلّم معه من مكة إلى المدينة أشرف ممن لم تهاجر، وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وهي أم شريك بنت جابر العامرية، وخولة بنت حكيم، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وميمونة بنت الحرث إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ، أي إن ملكته بعضها بأي عبارة كانت بلا مهر، فتصير كالمستوفية مهرها، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي أن يتملك بضعها بلا مهر، فإرادة النكاح جارية منه صلّى الله عليه وسلّم مجرى القبول، خالِصَةً لَكَ أي حال كون المرأة خصوصية لك، أو هبة مرخصة لك ف «خالصة» إما حال أو نعت مصدر مقدم. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. قال الشافعي: والمعنى إن إباحة الوطء بالهبة وحصول التزوج بلفظها من خواصك. وقرئ «خالصة» بالرفع على أنه مبتدأ محذوف، أي تلك المرأة، أو تلك الهبة رخصة لك وخصوصية لك، لا تتجاوز المؤمنين حيث لا تحل المرأة لهم بغير مهر ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ أي ما أوجبنا على المؤمنين في حق أزواجهم بأن لا يزيدوا على أربع نسوة، ولا يتزوجوا إلّا بولي وشهود ومهر، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بأن تكون الأمة ممن تحل لمالكها، كالكتابية وأن تستبرأ قبل الوطء، لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي ضيق، ف «اللام» متعلق بأحللنا. والمعنى أحللنا أزواجك وما ملكت يمينك، والموهبة لك لتكون في فسحة من الأمر، فلا يبقى لك شغل قلب، فينزل جبريل بالآيات على قلبك الفارغ، وتبلغ رسالات ربك بجدك، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) ، فيغفر الذنوب مما يعسر التحرز عنه، ويرحم العبيد بتوسعة الأمر في مواضع الضيق، تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تترك مضاجعتها، وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ أي وتضم إليك من تشاء مضاجعتها، فالله أحل له صلّى الله عليه وسلّم وجوه المعاشرة بهن كيف يشاء، ولا يجب عليه القسم، فإن شاء أن يقسم قسم، وإن شاء أن يترك القسم ترك. وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى أمته نسبة السيد المطاع. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم أرجأ منهن، سودة، وجويرة، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة فكان يقسم لهن ما يشاء كما شاء. وكانت مما آوى إليه صلّى الله عليه وسلّم: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، فأرجأ خمسا، وآوى أربعا. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي «ترجى» بياء ساكنة. والباقون بهمزة مضمومة وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي إذا طلبت رد من كنت تركتها إلى فراشك، فلا جناح عليك في شيء من ذلك ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ من تقريب وإرجاء، وعزل وإيواء، أي تفويض الأمر لي مشيئتك أقرب إلى طيب نفوسهن، وإلى قلة

حزنهن، وإلى رضاهن جميعا، لأنه حكم كلهن فيه سواء، ثم إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك إن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من الرضا والسخط، فاجتهدوا في إحسان الخواطر، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) أي إن أضمرن خلاف ما أظهرن فإنه يعلم ضمائر القلوب، فإن لم يعاتبهن في الحال فلا يغتررن، فإنه حليم لا يعجل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد اختيارهن الله ورسوله، ورضاهن بما يؤتيهن الرسول من الوصل والهجران، والنقص والحرمان. وقرأ أبو عمرو «لا تحل» بالفوقية، أو لا يحل لك النساء غير اللاتي ذكرنا لك من المؤمنات المهاجرات، من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك. وأما غيرهن من الكتابيات فلا يحل لك التزوج بهن، وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. وهذا نهي عن شغل الجاهلية فإنهم كانوا يبادلون زوجة بزوجة، فينزل أحدهم عن زوجته، ويأخذ زوجة صديقه، ويعطيه زوجته. روى الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، وأزيدك، فأنزل الله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ فتحل لك، وقد ملك مارية القبطية وولدت له إبراهيم، ومات في حياته صلّى الله عليه وسلّم، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) أي حافظا شاهدا فاحذروا مجاوزة حدوده، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، أي لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلّا حال كونكم مأذونا لكم بالدخول إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، أي منتظرين نضجه. نزلت هذه الآية في قوم كانوا يدخلون في بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم غدوة وعشية، فيجلسون وينتظرون وقت الطعام حتى يأكلوا، ثم يتحدثون مع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاغتمّ بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستحيا أن يأمرهم بالخروج، وينهاهم عن الدخول، فنهاهم الله عند ذلك بهذه الآيات. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا، أي فتفرقوا ولا تلبثوا، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي وغير مستأنسين لحديث بعضكم بعضا، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له، إِنَّ ذلِكُمْ أي الدخول والمكث لحديث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضييق المنزل عليه وعلى أهله، فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك الأمر بخروجكم، ولا يترك النهي عن الدخول بعير إذن، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي وإذا سألتم نساء النبي شيئا ينتفع به فاسألوهن من خلف ستر. قيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة رضي الله عنها، فكره النبي ذلك، فنزلت هذه الآية. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ أي إن عدم الدخول بغير

إذن، وعدم الاستئناس للحديث بعد الدخول بالإذن، وسؤال المتاع من وراءه حجاب أطهر للخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء، وَقُلُوبِهِنَّ أي وأطهر للخواطر التي تعرض للنساء في أمر الرجال، أي فإن ذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة، وأقوى في الحماية. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، أي وما صحّ لكم أن تفعلوا في حياته صلّى الله عليه وسلّم ما يكرهه ويتأذى به، كالدخول عليه بغير إذنه، والحديث مع أزواجه، وما صحّ لكم أن تنكحوا أزواجه صلّى الله عليه وسلّم أبدا من بعد فراقه صلّى الله عليه وسلّم بموت أو طلاق سواء، أدخل بها أم لا. ونزلت هذه الآية في رجل من الصحابة قال في نفسه: إذا قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نكحت عائشة، وندم هذا الرجل على ما حدّث به نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا فكفّر الله عنه. قيل: هذا الرجل هو طلحة بن عبيد الله. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) أي إن إيذاء الرسول بنكاح زوجته أو غيره كان عند الله ذنبا عظيما إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) أي إن تظهروا شيئا مما لا خير فيه كنكاحهن على ألسنتكم، أو تعزموا على إيذائه صلّى الله عليه وسلّم، أو نكاح أزواجه بعده في قلوبكم فالله يجازيكم على ذلك. لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ أي لا إثم على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في عدم الاحتجاب عن محارمهن. وهذا استئناف لبيان من لا يجب الاحتجاب عنهم. روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نكلمهن أيضا من وراء الحجاب؟! فنزلت هذه الآية. وَلا نِسائِهِنَّ أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن النساء المسلمات، ويجب عليهن الاحتجاب عن النساء الكافرات ما عدا ما يبدو عند المهنة. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء. وقيل: من الإيماء خاصة. وقيل: من كان دون البلوغ من العبيد. وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وما تذرن. وقال الرازي: واتقين الله عند المماليك. وذلك دليل على أن التكشف لهم مشروط بالسلامة والعلم بعدم المحذور. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) فهو شاهد عند اختلاء بعضكم ببعض فخلوتكم مثل ملئكم، فاتقوا شهادة الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، أي إن الله يرحم النبي والملائكة يدعون له صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ ابن عباس وكذا أبو عمرو في رواية «وملائكته» بالرفع عطفا على محل «إن» ، واسمها عند الكوفيين، ومبتدأ محذوف الخبر عند البصريين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) . وهذا دليل على وجوب الصلاة والسلام عند الشافعي، لأن الأمر للوجوب، ولا

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 61 إلى 70]

يجبان إلّا في الصلاة، فيجبان في التشهد، وهما قولنا فيه: سلام عليك أيها النبي. وقولنا: اللهم صلّ على محمد، وإنما أمرنا الله بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع أنه يكفيه صلّى الله عليه وسلّم صلاته تعالى لإظهار تعظيمه صلّى الله عليه وسلّم منا شفقة علينا ليثيبنا عليه كما أن الله تعالى أوجب علينا ذكر نفسه تعالى ولا حاجة له إليه. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها. وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً (57) يصيبهم في الآخرة خاصة وإذاية الله تكون بالكفر كإنكار وجوده تعالى ووصفه تعالى بما لا يليق به كقول اليهود: يد الله مغلولة، وإن الله فقير، وعزير ابن الله. وقول النصارى: ثالث ثلاثة، والمسيح ابن الله، وقول المشركين: الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه، وإذاية الرسول كسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وطعنهم في نكاح صفية، وقولهم له صلّى الله عليه وسلّم: هو شاعر ساحر كاهن مجنون. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بقول أو فعل بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جناية يستحقون بها الأذية فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي زورا وَإِثْماً مُبِيناً (58) ، أي ذنبا ظاهرا موجبا للعقاب في الآخرة. قيل: إن هذه الآية نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا، ويسمونه ما لا خير فيه. وقيل: نزلت في أهل الإفك في شأن عائشة وصفوان. وقيل: في زناة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، وكانوا لا يتعرضون إلّا للإماء، ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر أيضا، لأن زي الكل كان واحدا لأنهن، يخرجن في درع وخمار، فشكون ذلك إلى أزواجهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم نهى الله تعالى الحرائر أن يتشبهن بالإماء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ أي يرخين على نحورهن وجيوبهن مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي ثيابهن التي يلتحفن بها، ذلِكَ أي تغطي الأبدان أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أي أحق بأن يعرفن أنهن حرائر، وأنهن مستورات لا يمكن طلب الزنا منهن، لأن من تستر وجهها لا يطمع فيها أن تكشف عورتها، فَلا يُؤْذَيْنَ بالتعرض لهن من جهة من يتعرض للإماء، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من التفريط رَحِيماً (59) بعباده حيث يراعي مصالحهم لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عبد الله بن أبيّ وأصحابه عن المكر والخيانة، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شهوة الزنا الذي يؤذي المؤمن باتباع نسائه، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بقولهم: غلب محمد وسيخرج من المدينة، وسيؤخذ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لنأمرنك بإخراجهم من المدينة أو بقتالهم، ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها أي لا يساكنون معك في المدينة وتخلو المدينة منهم بالإخراج أو بالموت إِلَّا قَلِيلًا (60) أي إلّا زمانا يسيرا، مَلْعُونِينَ أي مطرودين من باب الله ومن بابك، وهو نصب على الشتم، ويجوز عند الكسائي والفراء منصوبا ب «أخذوا» الذي هو جواب الشرط، وعلى الوقف ملعونين وقف كاف، أي على غير هذا الإعراب أَيْنَما ثُقِفُوا أي في أي مكان

وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) . وهذه الآية خبر بمعنى الأمر، أي خذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أي سن الله ذلك في الأمم الذين من قبلهم سنة وهي أن يقتل الذين نافقوا الأنبياء عليهم السلام، وسعوا في توهين أمرهم بالإرجاف ونحوه أينما وجدوا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) ، أي هذه السنة ليست مثل الحكم الذي ينسخ، فإن النسخ يكون في الأحكام، أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ، يَسْئَلُكَ النَّاسُ أي كفار مكة واليهود عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيام القيامة- فإن المشركين يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء، واليهود سألوا عنه امتحانا- قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ أي أيّ شيء يعلمك بوقت قيامها أي لا يعلمك به شيء أصلا، لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) ، وهذا تخويف أي هي في علم الله فلا تستبطئوها، فربما تقع عن زمان قريب إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة، وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) أي نارا شديدة الاتقاد، خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا أي حافظا يحفظهم من عذاب الله وَلا نَصِيراً (65) ، يخلصهم منه، يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ وهو ظرف ب «لا يجدون» يَقُولُونَ حال من ضمير «وجوههم» . يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقالُوا عطف على «يقولون» : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) أي فصرفونا عن الدين. وقرأ ابن عامر «ساداتنا» بألف بعد الدال، وبالنصب بالكسرة الظاهرة، أي إن الكافرين يقولون يوم تصرف أبدانهم في النار من جهة، إلى جهة كلحم يشوى في النار، أو يطبخ في القدور في الدنيا فلا تبتلي بهذا العذاب، فيتحسرون ويندمون حيث لا تنفعهم الندامة والحسرة، ثم يقولون: أطعنا السادة بدل طاعة الله تعالى، وأطعنا الكبراء بدل طاعة الرسول، وتركنا طاعة سادة السادات، وأكبر الأكابر، فبدلنا الخير بالشر، ففاتنا خير الجنات، وأعطينا شر النيران، ثم إنهم يطلبون بعض التشفي بتعذيب المضلين ويقولون: رَبَّنا آتِهِمْ أي أعط الرؤساء ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي العذاب الذي أعطيتناه، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) أي شديدا. وقرأ عاصم بالباء الموحدة أي لعنا عظيما. والباقون بالثاء المثلثة أي كثير العدد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا في إيذاء نبيكم كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بأنواع الأذية كنسبته إلى عيب في بدنه من أدرة أو برص، وكإغراء مومسة على قذفه عليه السلام بنفسها بدفع مال عظيم إليها وكغير ذلك. فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي أظهر الله براءته عليه السلام من قولهم. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 71 إلى 73]

يغتسل معنا إلّا أنه آدر، فذهب يوما يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه، فجعل موسى يجري عقبه ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فوقف الحجر فأخذ موسى ثوبه فاستتر به وضرب الحجر حتى ظهر فيه ستة جروح» «1» اه. وَكانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ، أي معظما رفيع القدرة. قال ابن عباس: كان عظيما عند الله تعالى لا يسأله شيئا إلّا أعطاه. وقال الحسن: كان مجاب الدعوة. وقيل: كان محببا مقبولا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) أي صوابا. والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب المائل عن العدل يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ. قال ابن عباس: أي يتقبل حسناتكم، وقال مقاتل: يزكي أعمالكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ باستقامتكم في القول والعمل، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً (71) أي نال جميع مراداته، إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ. والمراد بالأمانة: الفرائض التي فرضها الله تعالى على عباده فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها أي خفن من حملها أن لا يؤدينها فيلحقهن من العقاب أي فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن. قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك، لا نريد ثوابا ولا عقابا. وقلن ذلك خوفا وتعظيما لدين الله تعالى لا مخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي آدم قال الله تعالى لآدم: إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فحملها آدم فقال: بين أذني وعاتقي الله تعالى أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فارخ عليه حجابا، واجعل للسانك لحيين وغلافا فإذا خشيت فأغلق عليه واجعل لفرجك لباسا، فلا تكشفه على ما حرمت عليه. إِنَّهُ أي الإنسان كانَ ظَلُوماً أي متعبا لنفسه بحملها. وهذا الظلم ممدوح من الأنبياء جَهُولًا (72) بعاقبته، وإن النفس لا تطيق الدوام على حملها لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ ف «اللام» للعاقبة متعلق ب «حمل» ، أي حملها الإنسان وكان عاقبة حمله لها أن يعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يقبل توبتهم، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للظلوم رَحِيماً (73) على الجهول، لأن الله تعالى وعد عباده بأنه يغفر الظلم جميعا إلّا الظلم العظيم الذي هو الشرك.

_ (1) رواه البغوي في شرح السنّة (6: 12) ، وابن كثير في التفسير (6: 570) ، وكنز العمال (39339) .

سورة سبأ

سورة سبأ مكية، أربع وخمسون آية، ثمانمائة وثلاث وثمانون كلمة، ألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، أي له تعالى خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد، والإعدام، والإحياء، والإماتة جميع ما وجد فيهما، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ أي له المنّة على أهل الجنة فيحمدونه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) . فالحكيم هو الفاعل على وفق العلم فإن من يعلم أمرا، ولم يأت بما يناسب علمه لا يقال له: حكيم. ومن يأت بأمر عجيب على سبيل الاتفاق من غير علم لا يقال له: حكيم. والخبير: هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فهو حكيم في الابتداء، يخلق كما ينبغي، وخبير بالانتهاء يعلم ماذا يصدر من المخلوق، وما لا يصدر، ومصير كل أحد. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من الغيث والكنوز والدفائن والأموات ونحوها. وَما يَخْرُجُ مِنْها كالحيوان والنبات وماء العيون ونحوها. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة والكتب والمقادير ونحوها. وَما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة وأعمال العباد، والأبخرة، والأدخنة. وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) ، أي الرحيم بإنزال الرزق وللحامدين عليه، والغفور عند ما تعرج إليه الأرواح والأعمال، وللمفرطين في الحمد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا- أبو جهل وأصحابه-: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ أي الساعة عالِمِ الْغَيْبِ. قرأ نافع وابن عامر بالرفع على المدح فالوقف على «لتأتينكم» حينئذ كاف، وابن كثير وأبو عمرو وعاصم بالجر نعت ل «ربي» ، أو بدل منه. وقرأ حمزة والكسائي «علام» ، بالجر والوقف حينئذ على «بلى» ، وهو كاف كالوقف على الغيب. لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ أي لا يغيب عن الله وزن نملة حمراء صغيرة. وقرأ الكسائي بكسر الزاي فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فقوله: فِي السَّماواتِ إشارة إلى علمه تعالى بالأرواح، لأنها في السماء وقوله: وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى علمه تعالى بالأجساد، لأن أجزاءها في الأرض، وإذا علم الله الأرواح والأشباح وقدر على جمعها لا يبقى استبعاد في المعاد وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي من مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) ، أي إلّا مكتوب في اللوح المحفوظ، وجملة «ولا أصغر» إلى آخرها

من مبتدأ وخبر مؤكدة لنفي العزوب، أما على قراءة الفتح في «أصغر» و «أكبر» فهو اسم «لا» ، والخبر إلّا في كتاب لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وهذا علة لقوله تعالى: لَتَأْتِيَنَّكُمْ. أُولئِكَ الموصوفون بالصفات الجليلة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) فإن الرزق يأتي من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه ما لم يتسبب فيه لا يأتي، ثم إن المغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور كما في حديث البخاري: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان والرزق الكريم جزاء العمل الصالح» . وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالإبطال أي كذبوها مُعاجِزِينَ أي متأخرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «معجزين» بتشديد الجيم، وبغير ألف بعد العين أي مريدين التعجيز، أو ظانين أنهم يفوتون الله، أو مثبطين عن الإيمان من أراده أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ، أي من جنس سوء العذاب أَلِيمٌ (5) أي شديد. وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع صفة ل «عذاب» والباقون بالجر صفة ل «رجز» . وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله ومن علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وكعب وأضرابهما. الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ الْحَقَّ بالنصب على أنه مفعول ثان، وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) الذي هو التوحيد. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو سفيان وأصحابه للسفلة: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ أي يحدثكم بعجب عجاب إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أي إنكم تنشأون خلقا جديدا بعد أن تفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث تصير ترابا، ويقصدون بذلك الرجل سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي أهو الرجل تعمد على الله كذبا، إن كان يعتقد خلاف أخباره بأنهم يبعثون أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي إما فيه جنون إن كان لا يعتقد خلافه وهذا إما من تمام القائل أو لا أو من كلام السامع المجيب لذلك القائل. قال الله تعالى جوابا بالتردد مناديا عليهم بسوء حالهم: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) ، لأن من يسمي المهتدي ضالا يكون هو الضال، ومن يسمي الهادي ضالا يكون أضل أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي أفعلوا ما فعلوا من المنكر فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم فذلك يدل على وحدانية الله وكمال قدرته، وذلك دليل على الإعادة إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفناها بقارون وأصحابه أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً، أي قطعا مِنَ السَّماءِ كما أسقطناها على أصحاب الأيكة لاستحقاقهم ذلك. وقرأ حفص بفتح السين. والباقون بسكونها. وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف» ، «أو يسقط» بالياء في الثلاثة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المحيط بالناظر من جميع الجوانب لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) ، أي لكل من يرجع إلى الله ويترك التعصب تدل على قدرة الله على إحياء الموتى،

[سورة سبإ (34) : الآيات 11 إلى 20]

وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي أعطيناه لصحة توبته نوعا من الفضل على سائر الأنبياء عليهم السلام، وهو ما ذكر بعد يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي رجّعي مع داود النوحة على الذنب، وَالطَّيْرَ بالنصب عطفا على فضلا بمعنى: وسخّرنا له الطير، لأن إيتاءها إياه تسخيرها له وقيل: كان داود ينوح على ذنبه بترجيع وتحزن، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائدها، والطير بأصواتها، وقوله: يا جِبالُ إلخ بدل من «آتينا» بإضمار «قلنا» أو من «فضلا» بإضمار «قولنا» . وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أي جعلناه لينا في نفسه كالشمع يصرفه في يده كيف يشاء من غير حماء بنار ولا ضرب بمطرقة. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أي أمرناه بأن اعمل دروعا واسعات، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي توسط في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها، أو لا تصرف جميع أوقاتك إلى النسج بل مقدار ما يحصل به القوت، وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة، وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم مخلوقين إلّا للعمل الصالح، فأكثروا منه وقدروا في الكسب إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) فمن يعمل لملك شغلا ويعلم أنه بمرأى من الملك يحسن العمل ويتقنه ويجتهد فيه وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخر له الريح عوضا عن الخيل التي عقرها الله تعالى. وقرأ شعبة برفع «الريح» على الابتداء والخبر مجرور قبله، لأن الريح كانت لسليمان كالمملوك المختص به يأمرها بما يريد حيث يريد. غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر ويروح من إصطخر فيبيت ببابل. وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب يعمل به ما يشاء كما يعمل بالطين، وكان ذلك بأرض اليمن. وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالسخرة من البنيان وغيرها بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بأمره تعالى، وَمَنْ يَزِغْ أي يمل مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) أي عذاب النار الوقود في الآخرة يَعْمَلُونَ لَهُ، أي في أيّ وقت يشاء ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ أي أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج، وَتَماثِيلَ أي صور من نحاس وزجاج ورخام ونحو ذلك. وقيل: هي صور الملائكة والأنبياء، والعباد، كانت تصور في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة، ويعبدوا ربهم على مثالهم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد على الكرسي بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا جلس أظله النسران بأجنحتهما. وَجِفانٍ كَالْجَوابِ أي قصاع كالحياض الكبار. وقيل: كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل. وقرأ ورش وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف. وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا. والباقون بالحذف وقفا ووصلا. وَقُدُورٍ راسِياتٍ أي ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها

لعظمها، وكان يصعد عليها بالسلالم، وكانت باليمن اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ف «آل» منادى، و «شكرا» مفعول به. وروي أن سليمان عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ أي سليمان الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ أي آله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ- وهي الأرضة- تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه فَلَمَّا خَرَّ أي وقع سليمان على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت الجن علما بيّنا أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) ، أي أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كموت سليمان، ما لبثوا في العذاب المهين وحينئذ يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، بل كانوا يسترقون السمع ويموهون على الناس أنهم يعلمون الغيب. وقال سليمان لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال: أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة، فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض الله روحه وهو متكئ عليها، وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، وكان للمحراب كوي بين يديه وخلفه، فكانت الجن تعمل الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته، وينظرون إلى سليمان عليه السلام فيرونه قائما متكئا على عصاه، فيحسبونه حيا فلا ينكرون خروجه إلى الناس لطول صلاته، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصا سليمان، فخرّ ميتا، فعلموا بموته حينئذ، فشكروا ذلك للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء والطين وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب لأتيناك بهما. وحكي أن سليمان عليه السلام ابتدأ بناء بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وكان عمره سبعا وستين سنة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان ملكه خمسين سنة، وقرّب بعد فراغه منه اثني عشر ألف ثور، ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا وقام على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء، وقال: اللهم أنت وهبت لي هذا السلطان، وقوّيتني على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت وتوفني على ملتك، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني اسألك لمن دخل المسجد خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلّا غفرت له وتبت عليه، ولا خائف إلّا أمنته، ولا سقيم إلّا شفيته، ولا فقيرا إلّا أغنيته، والخامسة: أن لا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا أو ظلما يا رب العالمين. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي علامة دالة على قدرتنا. وقرأ حمزة وحفص بسكون السين، وفتح الكاف، والكسائي بكسرها. والباقون «مساكنهم» بلفظ الجمع، أي عند مواضع سكناهم- وهي باليمن يقال لها: مأرب، بينها وبين

صنعاء مسيرة ثلاثة أيام آية- دالة على وجود الصانع المختار القادر على كل ما يشاء. جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أي عن يمين بلدهم وشمالها جماعتان من الجنات، وكان سبأ ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فقال لهم الأنبياء: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ من الثمار ونحوها، وَاشْكُرُوا لَهُ بالتوحيد ليديم لكم النعمة بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) ، أي بلدتكم بلدة طاهرة عن المؤذيات، لا حية فيها، ولا عقرب، ولا وباء، ولا وخم. وربكم الذي رزقكم الطيبات وطلب منكم الشكر، رب غفور لفرطات ممن يشكره. فَأَعْرَضُوا عن الإيمان ولم يشكروا. قال وهب: أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعم الله عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة، فقولوا لربكم: فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي سلّطنا عليهم سيل الوادي- والعرم: واد في اليمن يقال له، وادي الشجر، وكان فيه مسناة يحسبون الماء في الوادي، وكان لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض، فكانوا يسقون من الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث على قدر حاجاتهم، فأخصبوا، وكثرت أموالهم- فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأرة فنقبت الردم، فهدم الله تلك المسناة وأهلكهم بذلك الماء، وأهلك ما كان لهم من البساتين والبيوت وغير ذلك. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ أي أذهبنا جنتيهم، وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ثمر بشع. وقرأ أبو عمرو «أكل» بغير تنوين، أي ثمر أراك وَأَثْلٍ أي طرفاء، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) أي قليل ثمره كثير شوكه، له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلا، ولا ينتفع بورقه في غسل اليد، وهو سدر بري، وهذان معطوفان على «أكل» لا على «خمط» . وقرئ «وأثلا وشيئا» عطفا على «جنتين» . ذلِكَ أي التبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) ، أي وما نجازي هذا الجزاء إلّا المبالغ في الكفران. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بنون العظمة. والباقون بالياء على البناء للمفعول «الكفور» . وقرئ على البناء للفاعل- وهو الله تعالى- وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والشجر قُرىً ظاهِرَةً أي وجعلنا بين أهل سبأ- وهم باليمن- وبين أهل الأردن وفلسطين- وهم بالشام- قرى يرى بعضها من بعض لتقاربها، يرى سواد القرية من القرية الأخرى. قيل: كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا السير بين قراهم والشام سيرا مقدرا من قرية إلى قرية، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، فلا يحتاجون في السفر إلى حمل زاد وماء وقلنا لهم: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) وهو أمر بمعنى الخبر، أي تسيرون في تلك القرى إن شئتم

[سورة سبإ (34) : الآيات 21 إلى 30]

ليالي، وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوّفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرها، وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان غير مجاهر بالقصد والعداوة. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جائعين، ولا ظامئين كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أماكن لا يحرك بعضهم بعضا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه، فَقالُوا على وجه الدعاء: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أي باعد بين المنازل التي تنزل فيها بأن يكون بين كل واحد والآخر مسافة بعيدة، أي سألوا أن يجعل الله تعالى بينهم وبين الشام قفارا ليركبوا فيها الرواحل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعد» بتشديد العين من غير ألف. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عدوا النعمة نقمة والإحسان إساءة، وتركوا شكر تلك النعم فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ بمن بعدهم، فيتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم، ويضربون مثلا فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ- والأيدي: بمعنى الأنفس أو الأولاد- وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق، أي فلما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فغسان لحقوا بالشام والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة، والأوس والخزرج بيثرب. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التمزيق والإهلاك لَآياتٍ أي لعبرات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات، شَكُورٍ (19) على النعم وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي وجد إبليس ظنه صادقا أنه يغوي بني آدم، أو في أنه خير منهم، فالمتبوع خير من التابع، فإبليس امتنع من عبادة غير الله، والمشركون يعبدون غير الله، فإبليس كفر بأمر أقرب إلى التوحيد، والمشركون كفروا بالإشراك. وقرأ الكوفيون «صدق» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف أي صدق في ظنه، أو جعل ظنه صادقا. وقرئ بنصب «إبليس» ، ورفع «ظن» مع تشديد «صدق» بمعنى: وجد ظنه صادقا، ومع التخفيف بمعنى: قال له الصدق حين خيل له إغوائهم وبرفعها مع التخفيف على الإبدال فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) أي إلا فريقا هم المؤمنون، فإن المؤمنين كلهم لم يتبعون في أصل الدين، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين فإن المخلصين لم يتبعوه في العصيان وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أي وما كان تسلط إبليس على بني آدم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هم في شك منها فنجازي كلا منهما، وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) أي الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع، قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي قل يا أشرف الخلق لكفار مكة بني مليح، وكانوا يعبدون الجن، ويظنون أنهم الملائكة: ادعوا الذين زعمتموهم آلهة من دون الله ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سني الجوع. قال الله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

الْأَرْضِ أي لا يملك آلهتهم وزن ذرة من نفع وضر في أمر من الأمور، وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي وما لآلهتهم في السموات والأرض من شركة مع الله لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا، وَما لَهُ تعالى مِنْهُمْ أي من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ (22) ، أي معين في تدبير أمرهما، وفي خلق شيء بل الله تعالى هو المنفرد بالإيجاد، فهو الذي يجب أن يكون معبودا، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي ولا تقع الشفاعة عنده تعالى في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن الله له في الشفاعة من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن له» مبنيا للمجهول حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أي حتى إذا أزيل الفزع الذي عند الوحي أي حين انحدر عليهم جبريل فإن الله عند ما يوحي يفزع من في السموات، ثم يزيل الله عنهم الفزع فرفعوا رؤوسهم، فحتى غاية متعلقة بقوله تعالى قل: قالُوا أي الملائكة السائلون من جبريل: ماذا قالَ رَبُّكُمْ يا جبريل؟ قالُوا أي جبريل ومن تبعه: الْحَقَّ أي قال ربنا القول الحق وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها. وقرئ «الحق» بالرفع أي ما قاله الحق، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) أي هو المنفرد بالعلو والكبرياء ليس لأحد من أشراف الخلائق أن يتكلم إلا بإذنه قُلْ يا أشرف الخلق لكفار مكة: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات؟ قُلِ اللَّهُ أي فإن أجابوك وقالوا: الله، فذلك ظاهر، وإن لم يقولوا ذلك فقل: الله يرزق إذ لا جواب سواه. وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى، ومنه تعالى فإذا إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعلوه وكبريائه سواء دفع عنكم ضررا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير، أو لم ينفع فإن لم تكونوا كذلك فاعبدوه لدفع الضر وجر النفع. وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) أي وإن أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق بالعبادة، والذين يشركون به في العبادة الجماد الذي لا يوصف بالقدرة لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال المبين، واختلاف الجارين للإعلام بأن المهتدي كمن استعلى منارا ينظر الأشياء والضال، كأنه منغمس في ظلام لا يرى شيئا. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا أي أذنبنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) في كفركم لأنا بريئون منكم. وهذا أبعد من الجدل، وأبلغ في التواضع حيث أسندوا الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ أي يحكم بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل بأن يدخل المحقّين الجنة والمبطلين النار، وَهُوَ الْفَتَّاحُ أي البليغ الفتح لما انغلق، الْعَلِيمُ (26) بما ينبغي أن يحكم به. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ تعالى شُرَكاءَ، لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله في استحقاق العبادة هل يخلقون أو يرزقون؟ كَلَّا أي حقا لم يخلقوا شيئا، ولم يرزقوا بشيء أو لا تشركوا بالله شيئا، بَلْ هُوَ أي الله الذي ألحقتم به شركاء اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) أي الله الموصوف بالغلبة القاهرة وبالحكمة الباهرة، فأين شركاؤهم التي هي

[سورة سبإ (34) : الآيات 31 إلى 40]

أخس الأشياء؟ وَما أَرْسَلْناكَ يا أشرف الخلق إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ أي عامة لجميع الناس تكف الناس عن الكفر، بَشِيراً بالجنة لمن آمن بالله، وَنَذِيراً من النار لمن كفر به، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) عموم رسالته وكونه بشيرا، وكونه نذيرا لغفلتهم لا لخفاء ذلك، وَيَقُولُونَ بطريق الاستهزاء: مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا أن يجمع بيننا ثم يقضي بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) ؟ مخاطبين لرسول الله والمؤمنين به. قُلْ لهم يا أكرم الرسل: لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أي وعد يوم لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إن طلبتم التأخير عنه وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) أي إن طلبتم الاستعجال والإضافة في ميعاد يوم للتبيين. وقرئ «ميعاد يوم» برفع الاسمين مع التنوين على البدل. وقرئ برفع «ميعاد» ، ونصب «يوم» مع التنوين فيهما أي أعني يوما، وذلك يفيد التعظيم والتهويل. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أبو جهل بن هشام وأصحابه: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ الذي يقرؤه علينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ولا بالذي قبل القرآن من التوراة والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب الدالة على البعث. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي ولو ترى إذ المنكرون للبعث محبوسون في موقف المحاسبة، راجعا بعضهم القول إلى بعض لرأيت أمرا عجيبا، ثم فسر قوله تعالى: يَرْجِعُ إلخ بقوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي قهروا وهم السفلة، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا عن الإيمان وهم القادة: لَوْلا أَنْتُمْ مضلون إيانا وصادون إيانا عن الإيمان لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) باتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤوسائهم لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا وهم الأتباع: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) . أي بل أنتم الصادون بأنفسكم بسبب كونكم راسخين في الإجرام. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إبطالا لإنكارهم الصد: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بل صدنا مكركم بنا بالليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ قبل إتيان الرسل، وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً أي أعدالا، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفى كل من الفريقين الندامة عن الآخر مخافة التعبير. ويقال: أظهر القادة والسفلة الندامة على ترك الإيمان بالله لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين رأوه، وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا الأتباع والمتبوعين جميعا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) ؟ أي لا يجزون إلا بما كانوا يعملونه في الدنيا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي أغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) أي جاحدون. وَقالُوا للرسل: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم بسبب لزومنا لديننا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) في الآخرة بديننا هذا، كأنهم قالوا: حالنا عاجلا خير من حالكم، ولا نعذب آجلا. قالوا ذلك إنكارا منهم للعذاب بالكلية، أو اعتقادا لحسن حالهم أيضا، قياسا على حالهم في الدنيا. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ أي يقتر على من يشاء، فسعة

[سورة سبإ (34) : الآيات 41 إلى 50]

الرزق لا تدل عن حال المحق، كما أن ضيقه لا يدل على حال المبطل، فلا يقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (36) أن ضنك العيش وخصبها بالمشيئة من غير اختصاص بالفاسق والصالح. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، أي وما الأموال والأولاد تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله تعالى، وعلّم أولاده الخير، وربّاهم على الصلاح فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ في الحسنات بِما عَمِلُوا من الصالحات، وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي غرفات الجنة آمِنُونَ (37) من جميع المكاره. وقرأ حمزة «الغرفة» على التوحيد على إرادة الجنس. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا أي يكذبونها مُعاجِزِينَ أي متأخرين عنها، وفي قراءة «معجزين» أي معتقدين عجزنا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) أي يخرجون منه، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله، فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي يعوضه في الدنيا بالمال أو بالقناعة، وفي الآخرة بالحسنات وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) أي الواهبين للرزق، وأفضل المعوضين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي بني مليح والملائكة جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إهانة لهؤلاء الكفار- وقرأ حفص «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء-: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) بأمركم؟ قالُوا أي الملائكة متبرئين منهم: سُبْحانَكَ أي ننزهك عن أن يكون غيرك معبودا وأنت معبودنا، ومعبود كل خلق أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت الذي نواليك أي نتقرب منك بالعبادة مِنْ دُونِهِمْ أي لم يكن لنا دخل في عبادتهم لنا. وقال الرازي: معنى «أنت ولينا من دونهم» ، أي كونك ولينا بالمعبودية أحب إلينا من كون هؤلاء الضالين أولياء بالعبادة لنا، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي كانوا ينقادون لأمر الشياطين، فهم في الحقيقة كانوا يعبدون الشياطين، وكنا نحن كالقبلة لهم أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) ، أي كل المشركين مصدقون للشياطين. وهذا محض كلام الله تعالى والوقف على الجن تام، وأما إذا قلنا: إن هذا من كلام الملائكة فمعنى أكثرهم على أصله وإنما قالوا ذلك لئلا يكونوا مدعين اطلاعهم على ما في القلوب، أو على من في جميع الوجود، فَالْيَوْمَ أي يوم الحشر لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا يقدر المعبودون- وهم الملائكة- على نفع العابدين- وهم الكفار- بالثواب ولا على دفع ضررهم، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا معطوف على قوله تعالى: يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أي ونقول: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها أي بالنار تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ، أي كفار مكة بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم آياتُنا الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك بَيِّناتٍ، أي واضحات قالُوا ما هذا أي التالي إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ من الآلهة وَقالُوا ما هذا أي القول بالوحدانية إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه،

مُفْتَرىً بإسناده إلى الله تعالى، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي للقرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير تأمل فيه إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ أي خيال مُبِينٌ (43) ، أي ظاهر سحريته. قال الرازي: وإن أعيد اسم الإشارة الثاني إلى القرآن كان اسم الإشارة هذا عائد إلى المعجزات، فإنكار التوحيد كان مختصا بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزات كان متفقا عليه بين المشركين، وأهل الكتاب. ولذلك قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ على وجه العموم وهو بدل عن قوله تعالى: وقالوا للحق وَما آتَيْناهُمْ أي ما أعطينا كفار مكة مِنْ كُتُبٍ دالة على صحة الإشراك يَدْرُسُونَها أي يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) أي رسول يدعوهم إلى الإشراك وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأمم المتقدمة وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، أي وما بلغ هؤلاء المشركون معشار ما آتينا المتقدمين من القوة وكثرة المال وطول العمر، فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) أي تغييري عليهم بالتدمير، وما نفعتهم قوتهم وما لهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ ويقال: وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما أعطينا قوم محمد من البيان والبرهان فإن محمدا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب، وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذبوا الكتب والرسل أنكر عليهم وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. قُلْ يا أكرم الرسل لكفار مكة: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا بدل من «واحدة» فإن الازدحام يشوش الأفهام ويخلط الأفكار بالأوهام، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به أما الاثنان فيتفكرون، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه، وأما الواحد فيفكر في نفسه بعدل فيقول: هل رأينا من هذا الرجل جنونا أو جربنا عليه كذبا، وقد علمتم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما به من جنون بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأوزنهم حلما، وأحدّهم ذهنا، وأرضاهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، وإذا علمتهم بذلك كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها تبين أنه نبي صادق فيما جاء به، ثم نبه الله تعالى على طريقة النظر بقوله تعالى: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ نفي مستأنف، فالوقف على «تتفكروا» تام عند أبي حاتم أي ما بصاحبكم محمد من جنون، ويجوز أن يكون تتفكروا معلقا عن الجملة المنفية فهي في موضع نصب على إسقاط في، أي ثم تتفكروا في عدم الجنون في صاحبكم، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية على معنى «ثم تتفكروا» ، أي شيء بمحمد من آثار الجنون، وعلى هذين الاحتمالين لا وقف على «تتفكروا» . إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) أي ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة، إن لم تؤمنوا به. قُلْ لهم يا أشرف الخلق: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ

[سورة سبإ (34) : الآيات 51 إلى 54]

أَجْرٍ أي أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ. والمراد نفي السؤال بالكلية أي لا أسألكم على إنذاركم أجرا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فلا أطلب شيئا إلا عنده تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) يعلم صدقي وخلوص نيتي. قُلْ لمن أنكر التوحيد والرسالة: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي يلقيه في قلوب المحقين فإن الأمر بيده تعالى أو يقذف بالحق على الباطل فهو إشارة إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) أي ما غاب في السموات والأرض عن خلقه وقُلْ لهؤلاء: جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) ، أي يزهق الشرك بحيث لم يبق له إبداء ولا إعادة ف «ما» نافية، وهذا جعل مثلا في الهلاك بالمرة. قُلْ للكفار الذين قالوا لك يا محمد، تركت دين آبائك فضللت: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي ضلالي على نفسي كضلالكم، وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المبين. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) يسمع قول كل من المهتدي والضال، وفعله، وإن بالغ في إخفائهما، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي ولو ترى حالهم وقت فزعهم بخسف البيداء لرأيت أمرا هائلا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة في آخر الزمان ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم الأرض وماتوا. فَلا فَوْتَ أي فلا يفوت منهم أحد وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) أي من تحت أقدامهم وخسف بهم الأرض، وَقالُوا عند ما خسف بهم الأرض: آمَنَّا بِهِ بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ، أي ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) . أي بعد الموت فلا يكون الإيمان إلا في الدنيا وهم في الآخرة، فالدنيا من الآخرة بعيد وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ أي بمحمد أو بالعذاب الذي أنذرهم إياه مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول العذاب، وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) أي ويقولون ما لا يعلمون من وهمهم الفاسد، وظنهم الخاطئ فإنهم قالوا في حق النبي ساحر شاعر كاهن، وفي حق القرآن سحر شعر كهانة. ويقال: أي يسألون الرجعة إلى الدنيا بعد الموت. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من العود إلى الدنيا أو من لذات الدنيا، كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم في الكفر مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم من الكفار فكل من جاءه الملك طلب التأخير، ولم يعط وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل الإيمان منهم إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) أي ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار.

سورة فاطر

سورة فاطر وتسمى سورة الملائكة أيضا، مكية، خمس وأربعون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما من غير مثال سبق، جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي وسائط بين الله وبين أنبيائه، والصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والإلهام والرؤيا الصالحة، أو بينه تعالى وبين خلقه حيث يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه- وهم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل وملك الموت والرعد والحفظة- أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد، فمنهم من له جناحان يطير بهما ومن له ثلاثة أجنحة، ومن له أربعة أجنحة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ، أي خلق الملائكة ما يَشاءُ. ويروى أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان منها يلفون بهما أجسادهم وجناحان منها للطيران يطيرون بهما فيما أمروا به من جهته تعالى، وجناحان منها مرخيان على وجوههم حياء من الله تعالى. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الزيادة والنقصان قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها أي أيّ شيء يرسل الله للناس من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة، وأمن وعلم، وحكمة إلى غير ذلك، فلا أحد يقدر على إمساكها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ، أي أيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) أي كامل القدرة في الإرسال والإمساك، وكامل العلم في ذلك. يا أَيُّهَا النَّاسُ أي يا أهل مكة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعام الله عليكم بنعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي هل خالق مغاير له تعالى موجود. وقرأ حمزة والكسائي بجر «غير» نعت ل «خالق» على اللفظ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وغيره، وَالْأَرْضِ بالنبات وغيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فهو الخالق الرازق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) أي فمن أين تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟ فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت، وبأي سبب تعبدون غيره تعالى، فإنه لا يقدر على خلق ولا على رزق ولا على غيرهما. وَإِنْ

يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، أي وإن استمروا على أن يكذبوك يا أشرف الخلق فيما بلغت إليهم من التوحيد والبعث، والحساب والجزاء وغير ذلك بعد ما أقمت عليهم الحجة فتأس بأولئك الرسل في المصابرة على ما أصابهم من قبل قومهم، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) في الآخرة، فيجازي المكذبين والصابرين. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي يا أهل مكة إن وعد الله بالبعث بعد الموت والجزاء ثابت من غير خلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها، ويلهيكم التلهي بزخارفها عن الطاعة لله وعن تدارك ما يهمكم يوم حلول الميعاد، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) بفتح الغين، أي ولا يغرنكم سبب حلم الله وإمهاله المبالغ في الغرور- وهو الشيطان- بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعاصي قائلا: اعملوا ما شئتم إن الله غفور يغفر الذنوب جميعا، فتعاطي الذنوب بهذا التمني مثل تناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عظيم، فإن عداوته عداوة قديمة لا تكاد تزول، فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بمخالفتكم له في عقائدكم وأفعالكم، وكونوا على حذر منه في جميع أحوالكم، فإذا فعلتم فعلا فتنبهوا له، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء ويزين لكم القبائح، إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أتباعه في الضلال لِيَكُونُوا أي تلك الأتباع مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) ، أي النار الموقدة الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدنيا بفوات مطلوبهم، وفي الآخرة بالسعير. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر لذنوبهم في الدنيا وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) في الآخرة. أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً أي أبعد كون حالي الفريقين- كما ذكر- يكون من زين الكفر له الشيطان، ونفسه الأمارة، وهواه القبيح فرآه صوابا فانهمك فيه كمن عرف الحق فاختار الإيمان أو العمل الصالح؟! نزلت هذه الآية في أبي جهل ومشركي مكة، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ أن يضله لاستحبابه الضلال، وصرف اختياره إليه فيرده أسفل سافلين، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أن يهديه بصرف اختياره إلى الهدى فيرفعه إلى أعلى عليين فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أي فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لكثرة التحزن. وقرأ أبو جعفر، وقتادة، والأشهب بضم التاء وكسر اللام مسند الضمير المخاطب «نفسك» مفعول به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) من القبائح فيجازيهم عليه وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» بالتوحيد، أي أوجدها من العدم فهبوبها دليل ظاهر على الفاعل المختار، وذلك لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك، وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب، وقد لا ينشئ، فهذه الاختلافات دليل على تسخير مدبر ومؤثر مقدر، فَتُثِيرُ سَحاباً أي فتحركه وترفعه فَسُقْناهُ أي السحاب إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء فَأَحْيَيْنا بِهِ أي بماء السحاب الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبسها، وأسند الله تعالى الإرسال إلى الغائب والسوق والإحياء إلى المتكلم،

[سورة فاطر (35) : الآيات 11 إلى 20]

لأن في الأول تعريفا بالفعل العجيب وهو الإرسال والإثارة، وفي الثاني تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء كَذلِكَ النُّشُورُ (9) ، أي إحياء الأموات في سهولة الحصول، فإن الأرض الميتة لما قبلت الحياة، اللائقة بها كذلك الأعضاء الميتة تقبل الحياة، وكما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت، وكما أنا نجمع القطع السحابية بالريح كذلك نجمع أجزاء الأعضاء المتفرقة بالروح. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي من كان يريد يد العزة فليطلبها من عند الله بطاعته، لأنه لا عزة إلّا لله، فإن المشركين كانوا يتعززون بعبادة الأصنام، ومن اعتز بالعبيد أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ الذي يطلب به العزة وهي كلمة: «لا إله إلّا الله» ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ والضمير المستكن عائد ل «الكلم» فإن مدار قبول العمل هو التوحيد، ويؤيده القراءة بنصب «العمل» أو عائد ل «العمل» فإنه لا يقوى الإيمان بلا عمل، فإذا رجع الضمير البارز للعمل كانت الضمير المستكن عائدا ل «الكلم» كما تقدم أو لله تعالى. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ أي والذين يكسبون أصناف المكرات السيئات لهم عذاب شديد، وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) أي صنع أولئك هو يفسد ويهلك. قيل: هي مكرات قريش بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة في إحدى ثلاث: حبسه، وقتله، وإخراجه من مكة. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أهل الربا. وقال مقاتل: في أهل الشرك بالله. وقال الكلبي: المعنى يعملون السيئات وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وهو إشارة إلى بقاء العمل الصالح. وقوله: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ إشارة إلى فناء العمل السيئ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، فكل أولاد آدم من تراب ومن نطفة، لأن كلهم من نطفة، والنطفة من غذاء، والغذاء ينتهي إلى الماء والتراب ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ في وقته ونوعه وغير ذلك. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ، أي وما يمد في عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي عمر أحد إِلَّا فِي كِتابٍ، أي لوح محفوظ. وعن سعيد: يكتب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل ذلك، ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي إلى آخره. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو كتاب والله تعالى بيّن كمال قدرته بقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وكمال علمه بقوله تعالى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق وما في البطن بعده لا يعلم أحد حاله كيف، والأم الحامل لا تعلم منه شيئا، ونفوذ إرادته بقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ فبين الله إنه هو القادر العالم، المريد، والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة فكيف يستحق واحد منها العبادة؟! إِنَّ ذلِكَ أي الخلق من تراب وكتابة الآجال عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) لاستغنائه عن الأسباب فكذلك البعث، وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا

عَذْبٌ أي لذيذ فُراتٌ أي يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي يسهل انحداره إلى الخلق وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي مر زعاق لا يستطيع شربه وَمِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي سمكا شهي المطعم، وَتَسْتَخْرِجُونَ من الملح خاصة حِلْيَةً، أي زينة وهي اللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها. وقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته، وهو دليل آخر على القدرة والوحدانية وَتَرَى الْفُلْكَ أي وترى السفن أيها الناس فِيهِ أي في كل منهما مَواخِرَ، أي شواق للماء بجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة وغيرها واللام متعلقة بمواخر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) ، أي ولتشكروا الله على نعمه، يُولِجُ اللَّيْلَ أي يدخل زيادته فِي النَّهارِ فيكون النهار أطول من الليل بقدر نقصانه، وَيُولِجُ النَّهارَ أي يدخل زيادته فِي اللَّيْلِ فيكون الليل أطول من النهار بقدر نقصانه، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلل ضوء الشمس والقمر لبني آدم، كُلٌّ منهما يَجْرِي في فلكه لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى وقت معلوم في منازل معروفة، ومدة الجريان للشمس سنة، وللقمر شهر. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي الذي فعل هذه الأفعال هو الله الموجد لكم من العدم، المربي بجميع النعم. لَهُ الْمُلْكُ كله، وهو مالك كل شيء. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدون مِنْ دُونِهِ تعالى- وهم الأصنام- ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) أي لا يقدرون أن يفعلوا من ذلك قدر الشيء الذي تعلق به النواة مع القمع، وقيل: القطمير هو القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة. وهذا استدلال على تفرده تعالى بالألوهية. إِنْ تَدْعُوهُمْ أي المعبودات من غير الله لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، لأنها جمادات وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل التقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم بجلب نفع ودفع ضرر لعجزهم عن الأفعال بالمرة، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي حين ينطقهم الله ينكرون عبادتكم إياهم بقولهم: ما كنتم إيانا تعبدون. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) أي ولا يخبرك أيها السامع أحد مثلي، لأني عالم بالأشياء وغيري لا يعلمها. يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ أي إلى مغفرته ورحمته ورزقه في الدنيا، وإلى جنته في الآخرة. وهذا يوجب عبادته وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) أي والله مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء يقضي في الدنيا حوائجكم، وإن آمنتم به يقضي في الآخرة حوائجكم فهو المستوجب للحمد. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم يا أهل مكة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) أي بقوم آخرين مستمرين على الطاعة، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه، وَما ذلِكَ أي الإذهاب بهم والإتيان بآخرين عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) أي بمتعسر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل كل منهما إثمها، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ أي وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا إلى حمل بعض ذنوبها لم تجب تلك النفس المدعوة بحمل شيء من تلك الأوزار، ويروى عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء الفوقية وكسر الميم

[سورة فاطر (35) : الآيات 21 إلى 30]

شيئا، أي لا تحمل تلك النفس المدعوة شيئا من الوزر، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المدعو ذا قرابة من الداعي. قال ابن عباس: يلقى الأب والأم الابن فيقولان له: يا بني احمل عنا بعض ذنوبنا. فيقول: لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي إنما ينفع إنذارك يا أشرف الرسل بهذه الإنذارات الذين يخشون عذاب ربهم وهو غائب عنهم وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وَمَنْ تَزَكَّى أي تطهر من المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أي فتطهره لنفسه إذ نفعه لها كما أن من تدنس بالأوزار لا يتدنس إلا على نفسه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فالمتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا، فهي تظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، كما إن الوازر إن لم تظهره تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة، إذ المرجع إلى الله وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) ، أي الكافر والمؤمن وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (20) أي ولا الباطل والحق، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) أي ولا الثواب والعقاب، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أي وما يستوي المؤمنون والكفار، أو العلماء والجهلة، إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي إن الله يفهم من يشاء ممن كان أهلا لفهم آياته تعالى. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) أي وما أنت يا أشرف الخلق بمفهم من هو مثل الميت في القبور، شبه الله الكفار بالموتى في عدم التأثر بدعوته صلّى الله عليه وسلّم إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) أي ما أنت إلّا رسول منذر وليس لك من الهدى شيء، إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي إرسالا مصحوبا بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً، ويجوز أن يتعلق بالحق بما بعده، أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) أي ما من أمة إلّا مضى فيها نبي أو عالم ينذرهم، وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي وإن يكذبك أهل مكة فلا تبال بتكذيبهم، لأنه قد كذب الذين من قبلهم من الأمم العاتية رسلهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الظاهرة الدالة على نبوتهم، وَبِالزُّبُرِ أي بخبر الأولين كصحف إبراهيم، وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) أي الموضح لطريق الخير والشر كالتوراة والإنجيل والزبور، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالكتب والرسل بأنواع العذاب، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أي إنكاري بالعقوبة، أَلَمْ تَرَ أي ألم تعلم أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ، أي بذلك الماء ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها من الصفرة والخضرة والحمرة وغيرها، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي طرائق تخالف لون الجبل بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها، ف «مختلف» صفة ل «جدد» أيضا و «ألوانها» فاعل. وقال الرازي: الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها، وحمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، وقد يكون على لون التراب الأبيض، وكذلك الأحمر، وَغَرابِيبُ أي شديدة السواد سُودٌ (27) وهو بدل من غرابيب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أي ألوان ذلك البعض كَذلِكَ، أي اختلافا كائنا

[سورة فاطر (35) : الآيات 31 إلى 40]

كاختلاف الثمار والجبال، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالخشية بقدر معرفته المخشي والعالم يعرف الله، فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد. ومعنى الآية في قراءة من قرأ بنصب «العلماء» ، ورفع اسم الجلالة إنما يعظم الله العلماء. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) فكونه تعالى عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه تعالى غفورا للتائب عن العصيان يوجب الرجاء البالغ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءة القرآن، وَأَقامُوا الصَّلاةَ كيفما اتفق من غير قصد إليهما يَرْجُونَ تِجارَةً أي تحصيل ثواب الطاعة لَنْ تَبُورَ (29) ، أي لن تهلك بالخسران أصلا. وقوله تعالى: سِرًّا وَعَلانِيَةً حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سرا فذاك وإلّا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه: إنه مراء، هو عين الرياء. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق ب «لن تبور» ، أي تنفق التجارة عند الله ليوفيهم الله أجور أعمالهم ما يرجونه وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، إِنَّهُ غَفُورٌ عند إعطاء الأجور، شَكُورٌ (30) عند إعطاء الزيادة وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ، أي هو القرآن هُوَ الْحَقُّ أي الصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي مصدقا لما قبله من الكتب السماوية فيوافقه في العقائد وأصول الأحكام إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ، أي عالم بالبواطن بَصِيرٌ (31) ، أي عالم بالظواهر فلا يكون الكتاب باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، أي ثم أعطينا القرآن أمتك الذين اخترناهم على سائر الأمم، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي راجع سيئاته وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ أي تساوت سيئاته وحسناته، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ وهو الذي ترجحت حسناته بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتوفيق الله وهو متعلق بسابق ذلِكَ أي السبق بالخيرات، هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) من الله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها خبر ل «جنات» ، أي هؤلاء الثلاثة أصناف يدخلون جنات عدن، ومن دخلها لم يخرج منها. وقرأ أبو عمرو بالبناء للمفعول يُحَلَّوْنَ فِيها أي يلبسون على سبيل التزين في الجنة مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ف «من» الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين. وَلُؤْلُؤاً قرأه عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور. والباقون بالجر عطفا على ذهب. وَلِباسُهُمْ فِيها أي الجنة حَرِيرٌ (33) وإكثار الزينة يدل على الغنى، فلا يعجر عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة، ويدل على الفراغ. وَقالُوا أي ويقول أهل الجنة في الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أي كل حزن بحصول كل مطلوبه إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ (34) للمطيعين الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا مِنْ فَضْلِهِ من غير أن يوجبه شيء من جهتنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب، وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) أي فتورنا شيء عن التعب، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يحكم عليه بموت ثان، فَيَمُوتُوا

[سورة فاطر (35) : الآيات 41 إلى 45]

أي لا يستريحون بالموت بل عذابهم دائم، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، أي جهنم طرفة عين كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء، نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) . وقرأ أبو عمر «يجزى» بالبناء للمفعول، و «كل» بالرفع. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي يصيحون في جهنم بقولهم: رَبَّنا أَخْرِجْنا منها نَعْمَلْ صالِحاً أي خالصا في الإيمان غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدنيا من الشرك فيقول الله لهم توبيخا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أي ألم نمهلكم يا معشر الكفار ولم نطل أعماركم زمانا يتعظ فيه من أراد أن يتعظ، وهو ستون سنة- كما قاله ابن عباس- أو أربعون سنة- كما قاله الحسن- وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي رسول من الله تعالى أو عقل، أو شيب، أو حمى، أو موت الأقارب، فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت. والمراد: أي رسول كان، لأن هذا الكلام مع الكفار على الإطلاق قال تعالى فَذُوقُوا ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) أي لأنه ليس للذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها. وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مانع من عذاب الله، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد لما أطاع الله، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم تعلمون أحوال الماضين ممن كذب الرسل، فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي عقوبة كفره، وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) ، أي إن الكفر لا ينفع عند الله فلا يزيدهم إلّا بغضه الشديد ولا ينفعهم في أنفسهم بل لا يفيدهم إلّا الخسار، فإن العمر كرأس المال، فمن اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ. وجملة قوله: أَرُونِي بدل اشتمال من «أرأيتم» ، أي أخبروني عن آلهتكم التي زعمتم أنها شركاء الله تعالى الذين تعبدونها من غير الله، أروني أيّ جزء خلقوا من الأرض، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع الله في خلق السموات ليستحقوا بذلك شركة ذاتية في الألوهية؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً، أي بل أعطينا الشركاء كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء؟ فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. وقرأ أبو عمرو وحمزة، وابن كثير، وحفص «بينة» بالإفراد. والباقون «بينات» بالجمع، أي فالشركاء على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) ، أي بل ما يعد الأسلاف للأخلاف والرؤساء للسفلة في الدنيا بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى المنزلة، وبأنها تشفع لهم في الآخرة فتضر وتنفع إلّا باطلا. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي إن الله يمنعهما من أن تزولا عن مكانهما لأن مقتضى شركهم زوالهما، وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي والله لئن زالتا عن مكانهما ما يمسكهما أحد من بعد زوالهم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً إذا أمسكهما فما ترك الله تعذيب المشركين إلّا حلما منه

تعالى، وإلّا فكانوا يستحقون إسقاط السموات وانطباق الأرض عليهم غَفُوراً (41) أي محّاء لذنوب من تاب. وإن استحق العقاب وَأَقْسَمُوا أي كفار مكة بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، أي غاية اجتهادهم في الإيمان لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، أي لما بلغ قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أسرع إجابة من كل الأمم، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ أي فما صح لهم مجيء رسول وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأكرمهم خلقا ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (42) ، أي تباعدا عن الحق اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ، إعراضا عن الإيمان وهو بدل من «نفورا» . وَمَكْرَ السَّيِّئِ وهو معطوف على «نفورا» ، وهو جميع ما صدر منهم من القصد إلى الإيذاء به صلّى الله عليه وسلّم، ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي ولا يحيط المكر السيئ إلّا بفاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي ما ينتظرون إلا عادة الله في الأولين من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم، فإن سنة الله الإهلاك بالشرك والإكرام على الإسلام فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنه سنة من سنن الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) فإن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا ينقل عن مستحقه إلى غيره، فبهذا يتم تهديد المسيء. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي اقعدوا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أي من قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وقد كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم، وأملهم كان فوق أملهم لطول أعمارهم، وشدة اقتدارهم، وعملهم كان دون عملهم، لأنهم لم يكذبوا محمدا، ولا مثل محمد، وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه من الرسل. فأهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم فما نفعهم طول المدى، وما دفع عنهم شدة القوى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي إن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله، فهؤلاء أولى بأن لا يعجزوه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بأفعالهم وأقوالهم قَدِيراً (44) على إهلاكهم واستئصالهم وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من السيئات كما فعل بأولئك الأولين ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من ذوى روح تدب عليها وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، أي إلى وقت معلوم عند الله تعالى، فللعذاب أجل، والله لا يؤاخذ الناس بنفس الظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار على المعاصي وحصول يأس الناس عن إيمانهم، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك الله المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) ، أي فإذا جاء أجلهم وهو يوم القيامة، أو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو يوم القتل والأسر، فإن الله يجازيهم عند ذلك بأعمالهم، لأن الله تعالى كان بصيرا بعباده. وهذا تسلية للمؤمنين، وذلك لأن الله تعالى لما قال ما ترك على ظهرها من دابة قال فإذا جاء الهلاك في الدنيا فالله بصير بالعباد، إما أن ينجي المؤمنين أو يميتهم تقريبا من الله لا تعذيبا.

سورة يس

سورة يس وتسمى أيضا: القلب، والدافعة، والقاضية، والمعممة. مكية، ثلاث وثمانون آية، سبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف يس (1) أي وهذه يس، أو اقرأ يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) أي المتضمن للحكمة. اعلم أن العبادة قلبية ولسانية وجارحية، وكل واحدة منها قسمان قسم علم معناه، وقسم لم يعلم. أما القلبية: فمنها ما لم يعلم دليله عقلا، وإنما وجب الإيمان به كالصراط الذي هو أرق من الشعرة، وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر، وكيفيات الجنة والنار، لأن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها، ووقوعها مقطوع به بالسمع، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم، كمقادير النصب وعدد الركعات فالعبد. إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان به إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي للفائدة فقط، وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده: انقل هذه الحجارة من هاهنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال: انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها، وإن لم يؤمن، فكذلك العبادات اللسانية، فمنها ما لا يفهم معناه فإذا تكلم به العبد علم أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي، فإذا قال: يس، حم، الم، طس، علم الله أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل هو يتلفظ به إقامة لما أمر به إِنَّكَ يا أشرف الخلق لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) أي ثابت على شريعة شريفة، فإن شريعته صلّى الله عليه وسلّم أقوم الشرائع، وقوله: عَلى صِراطٍ خبر ثان ل «إن» . تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) . وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة والكسائي بالنصب على الحال أو على المدح بإضمار أعني أي حال كون القرآن تنزيل المانع عن أشياء المطلق لأشياء، أو المنتقم لمن لا يؤمن، الرحيم لمن آمن. والباقون بالرفع أي هذا تكليم العزيز. وقرئ بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه تعالى قال: والقرآن الحكيم، تنزيل العزيز الرحيم، إنك لمن المرسلين، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ

آباؤُهُمْ أي لم ينذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ف «ما» نافية، والجملة صفة ل «قوما» ويصح كونها موصولة أي الذين أنذر آباؤهم الأقدمون ويصح كونها مصدرية فيكون نعتا لمصدر مؤكد، أي لتنذر قوما إنذارا كائنا مثل إنذار آبائهم الأقدمين من العذاب فَهُمْ أي القوم وآباؤهم الأقربون غافِلُونَ (6) عن أمر الآخرة، جاحدون بها، أو فهؤلاء القوم غافلون عما أنذر آباؤهم الأقدمون لامتداد المدة لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ، أي لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثر أهل مكة أبي جهل وأصحابه، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) أي في علم الله وقتلوا يوم بدر على الكفر إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أي فالأغلال منتهية إلى أذقانهم فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم، له فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) ، أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم بحيث لا يكادون يرون الحق وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا، أي وجعلنا مع ما ذكر من أمامهم سدا عظيما، ومن ورائهم كذلك فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) أي فغطينا بهذين السدين أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا، وقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلخ كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء، وهو تمثيل حالهم بحال من غلت أعناقهم، وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فلا يبصرون الحق لمكان السد، ولا ينقادون لك لمكان الغل. وقيل: نزلت هذه الآيات في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزومين وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه يصلي ذهب إليه فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجفت يداه إلى عنقه، والتصق الحجر بيده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى قال الوليد بن المغيرة، أنا أرضخ رأسه فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته! فقال الرجل الثالث: والله لأشدخن رأسه، ثم أخذ الحجر وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه، فقيل له: ما شأنك؟ قال: شأني عظيم رأيت الرجل، فلما دنوت منه فإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت قط فحلا أعظم منه، حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ أي إنا جمعنا أيمانهم إلى الأذقان حين أرادوا أن يرجموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة وهو في الصلاة فها هم مغلولون من كل خير، محرومون، وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أي وجعلنا من أمامهم سترا حيث أرادوا أن يرجموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة وهو في الصلاة، فلم يبصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن خلفهم سدا حتى لا يبصروا أصحابه، فغطينا أبصارهم فهم لا يبصرون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيؤذوه.

[سورة يس (36) : الآيات 11 إلى 20]

وقرأ حمزة والكسائي، وحفص «سدا» بفتح السين. والباقون بالضم في الموضعين. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أي مستو عند بني مخزوم، أبي جهل وأصحابه إنذارك بالقرآن إياهم وعدمه. وأما الإنذار بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو سبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته، آجلا لا يُؤْمِنُونَ (10) في علم الله إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي إنما ينفع إنذارك يا سيد الرسل من آمن بالقرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف عقابه، وهو تعالى غائب عنه، أي عمل صالحا، فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية، فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر، فالخوف منه أتم أن يقطع عنه النعم المتواترة، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ عظيمة وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) أي ثواب حسن في الجنة فالغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل الصالح، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي نبعثهم بعد مماتهم. وعن الحسن: إنا نخرجهم من الشرك إلى الإيمان وَنَكْتُبُ في صحف الملائكة ما قَدَّمُوا أي ما أسلفوا من الأعمال، صالحة كانت أو فاسدة وَآثارَهُمْ أي التي أبقوها من السنن الحسنة كالكتب المصنفة، والقناطر المبنية والحبائس التي وقفوها من المساجد والرباطات، ومن السنن السيئة كوظيفة وظفها بعض الظّلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، وآلات الملاهي، وأدوات المناهي المعمولة الباقية وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) أي كتبناه في أصل مظهر لجميع الأشياء مما كان وما سيكون، وهو اللوح المحفوظ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أي بين لأهل مكة صفة أهل أنطاكية كيف أهلكناهم، إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) وهم رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها، فرسول رسول الله بإذن الله رسول الله، وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه، وينعزل إذا عزله الموكل الأول، إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ أي رسولين وهما: يوحنا وبولس. وقيل: سمعان وثومان فَكَذَّبُوهُما، أي فأتياهم، فدعواهم إلى الحق فكذبوهما في الرسالة، فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قويناهما برسول ثالث هو شمعون. وقرأ شعبة بتخفيف الزاي فَقالُوا أي جميعا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا أي أهل أنطاكية مخاطبين للثلاثة: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا يجوز رجحانكم علينا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ أي فما نزلتم من عند الله، وما أنزل الله إليكم أحدا فكيف صرتم رسلا لله. أو يقال: إن الله ليس بمنزل شيئا في هذا العالم فإن تصرفه في العالم العلوي، وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) أي ما أنتم إلّا كاذبون في دعوى رسالته تعالى. قالُوا أي الرسل: رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم مع تحذيرهم معارضة

[سورة يس (36) : الآيات 21 إلى 30]

علم الله تعالى وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) أي وما علينا من جهة ربنا إلّا تبليغ رسالته تبليغا ظاهرا بلغة تعلمونها بالآيات الشاهدة بالصحة، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. قالُوا للرسل لما ضاقت عليهم الحيل، وعيت بهم العلل: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاء منا بكم بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، إن لم يؤمنوا، فكانوا ينفرون عنه. وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم من أن كل نبي إذا دعا قومه فلم يجيبوه كان عاقبتهم الهلاك لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن مقالتكم هذه لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) ، أي وليصيبنكم منا بسبب الرجم عذاب أليم، أي نديم الرجم عليكم إلى الموت قالُوا أي الرسل: طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي سبب شؤمكم معكم لا من قبلنا وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ أي إن وعظتم بما فيه سعادتكم تطيرتم، وتوعدتم بالرجم والتعذيب بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) أي ليس التذكير سببا للشؤم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان فلذلك أتاكم الشؤم. وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ وهو حبيب النجار، وهو ينحت أصنامهم، وهو ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به صلّى الله عليه وسلّم تبع وورقة بن نوفل وغيرهما. وقيل: إنه كان إسكافا وقيل: إنه كان قصارا يَسْعى أي يسرع في المشي حيث سمع بالرسل قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) الذي أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً فإنهم لو كانوا متهمين بعدم الصدق لسألوكم المال وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) أي عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، قالوا له: تبرأت منا ومن ديننا، ودخلت في دين عدونا فقال لهم: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي خلقني اختراعا وهو مالكي، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) بعد الموت فكيف لا تعبدونه. والعابد على أقسام ثلاثة: عابد يعبد الله لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، وعابد يعبد الله للنعم الواصلة، إليه وعابد يعبد الله خوفا. فجعل القائل نفسه من القسم الأول وهو الأعلى أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ أي من غير الذي خلقني آلِهَةً أي لا أعبد آلهة من غيره تعالى إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) أي إن يصبني الرحمن بعذاب لا تنفعني تلك الأصنام نفعا ولا تدفع عني ذلك العذاب إِنِّي إِذاً أي إذا اتخذت من دونه آلهة لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) أي خطأ ظاهر، إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) . وهذا خطاب من حبيب للرسل، وذلك لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين وقال: إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي بالإيمان عند الله تعالى. وقيل: الخطاب للكفرة خاطبهم بذلك إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بالقتل ففيه بيان للتوحيد وذلك لأنه لما قال: أعبد الذي فطرني، ثم قال: آمنت بربكم فهم أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني، وهو الذي بعينه ربكم بخلاف ما لو قال: آمنت بربي فيقول: الكافر وأنا آمنت بربي أيضا، وعلى هذا فمعنى الآية آمنت بربكم فاسمعوا ما

قلته لكم وأطيعوني بالإيمان، فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه، ووطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره وألقي في بئر- وهي الرس- وهم أصحاب الرس. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ أي إنه قتل ثم قيل له بعد القتل: ادخل الجنة إكراما له بدخولها حينئذ كسائر الشهداء. قالَ بعد موته: يا حرف تنبيه يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي أي الذي غفر لي ربي وهو التوحيد، أو بمغفرة ربي لي. ويقال: قيل: ادْخُلِ الْجَنَّةَ عقب قوله: آمَنْتُ إلخ قال في حياته كأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم: يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت بأي شيء غفر لي ربي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) ، فإن الإيمان والعمل الصالح يوجبان الغفران والإكرام. وحاصل هذه القصة أن عيسى عليه السلام بعث رسولين من الحوارين إلى أهل أنطاكية، فلما قربا إلى المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له- وهو حبيب بن إسرائيل النجار- فسلما عليه فقال: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المريض، ونبرئ الأكمه والأبرص، بإذن الله تعالى فقال: إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا: فانطلق بنا ننظر حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا، فآمن من حبيب، وفشا الخبر في المدينة وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك اسمه أنطيخا، وكان من ملوك الروم، فانتهى خبرهما إليه فدعا بهما فقال لهما: من أنتما؟ فقالا: رسولا عيسى عليه السلام. وفيم جئتما؟ قالا: ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. قال لهما: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم، من أوجدك وآلهتك. فقال لهما: قوما حتى أنظر في أمركما، وأمر بحبسهما، وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، ثم بعث عيسى عليه السلام رأس الحوارين شمعون لينصرهما، فدخل البلد متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوه خبره إلى الملك فدعاه وأنس به وأكرمه فقال يوما للملك: بلغني أنك حبست رجلين في السجن، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال: لا، فقد حال الغضب بيني وبين ذلك قال: إنا رأيي أيها الملك أن تدعوهما حتى تطّلع على ما عندهما، فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء، وليس له شريك. فقال: صفاه وأوجزا. قالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال لهما شمعون: وما آيتكما قالا: ما يتمنى الملك. فدعا الملك بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من طين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين ينظر بهما، فتعجب الملك فقال شمعون له: أيها الملك إن شئت أن تغلبهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك. قال الملك: لا يخفى عليك أنها لا تبصر، ولا تسمع، ولا تقدر، ولا تعلم. فقال شمعون: فإذا ظهر الحق من جانبهم فآمن الملك وقوم وكفر آخرون، وكانت الغلبة للمكذبين،

[سورة يس (36) : الآيات 31 إلى 40]

وأجمعوا على قتل الرسل وقومهم، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين ولما قتلوه غضب الله له فجعل لهم العقوبة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم فذلك قوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أي قوم ذلك الرجل الذي هو حبيب وهم أصحاب القرية الذين رجموه مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله، مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لإهلاكهم وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) أي إنا لم ننزل ملائكة لإهلاك الكفار في الأزمنة الماضية، بل نهلكهم بغير الملائكة إما بالحاصب أو بالصيحة، أو بالخسف، أو بالإغراق وإنما جعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار من قومك تعظيما لشأنك، إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة من جبريل، أخذ جبريل الباب فصاح فيهم صيحة واحدة وذلك لحقارة أمرهم عندنا. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) أي ميتون لا يتحركون. يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، وهذا ما من كلام الملائكة، أو من كلام المؤمنين، أي يا شدة التحزن على العباد تعالى هذا وقتك فاحضري، وهو وقت الاستهزاء بالرسل، فالمستهزئون بالناصحين أحقاء بأن يتحزنوا ويتحزن عليهم المتحزنون. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ أي بذلك الرسول يَسْتَهْزِؤُنَ (30) وهذا سبب الندامة أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم أهل مكة الذي أنكروا رسالتك كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الأمم الماضية، أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) أي أنهم أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا يقال: إن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم، والوجه الأول أشهر نقلا، والثاني أظهر عقلا. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) . وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لمّا» بتشديد الميم إلّا أي ما كلهم إلّا مجموعون عندنا، محضرون للحساب. والجزاء، والباقون بالتخفيف، والمعنى عند الكوفيين كما تقدم، وعند البصريين وإن كلهم لمجموعون عندنا محضرون للحساب وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها، أي وعلامة عظيمة لهم على قدرتنا على البعث، وعلى وحدانيتنا الأرض الميتة أحييناها بأنواع النبات فيها، فالذي أحيا الأرض إحياء كاملا، منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا وَأَخْرَجْنا مِنْها أي الأرض حَبًّا أي جنس الحب، كالحنطة والشعير والأرز، فَمِنْهُ أي من ذلك الحب يَأْكُلُونَ (33) فهو أكثر ما يعاش به وَجَعَلْنا فِيها، أي الأرض جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي من أنواع النخل والعنب وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) ، أي فتحنا في الأرض بعضا من العيون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي من ثمر، ما ذكر من الجنات، أو من ثمر الله لأنه الذي خلقه. وقرأ حمزة والكسائي بضم الثاء والميم وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ وهو ما يتخذ من ذلك الثمر

من العصير والدبس ونحوهما ف «ما» موصولة عطف على ثمره، ويؤيد هذا قراءة حمزة والكسائي وشعبة بحذف الهاء من «عملته» ، فإن حذف العائد من الصلة أحسن من الحذف من غيرها. وقيل: «ما» نافية، ومحل الجملة نصب على الحالية. والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم، أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) أي أيتنعمون بهذه النعم فلا يشكرونها فيرجعون عن عبادة غير الله، وفي ذلك استدلال على وحدته تعالى وتعديد للنعم، فالأرض مكان لهم لا بد لهم منها، فهي نعمة، ثم إحياؤها بالنبات نعمة ثانية، فإنها تصير أنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة، فإن قوتهم يصير في مكانهم، ثم جعل الجنان فيها نعمة رابعة، لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة وكل ذلك مفيد إلى بيان إحياء الموتى، فيقول الله تعالى: كما فعلنا في موت الأرض، كذلك نفعل في الأموات في الأرض، فنحييهم ونعطيهم ما لا بد منه في بقاءهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والأذن وغير ذلك، ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل، فكأنه تعالى قال: نحيي الموتى إحياء تاما، كما أحيينا الأرض إحياء تاما. سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي تنزيها للذي خلق الأنواع كلها. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من نجم وشجر ومعدن وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ من ذكر وأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) ما في أقطار السموات وتخوم الأرضين وغيره تعالى، لم يخلق شيئا وإنما ذكر الله تعالى كون الكل مخلوقا لينزه الله تعالى عن الشريك، فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخالق والتوحيد الحقيقي لا يحصل إلّا بالاعتراف بأن لا إله إلّا الله، فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون، ومما لا تعلمون وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي وعلامة عظيمة لأهل مكة على قدرتنا على البعث الليل نزيل عنه النهار الذي هو كالساتر له، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) أي داخلون في الظلام، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحد معين ينتهي إليه دورها فتقف في مستقرها، ولا تنتقل عنه ومستقرها هو مكان تحت العرش تسجد فيه كل ليلة عند غروبها، فتستمر ساجدة فيه فيطول الليل، فعند طلوع النهار يؤذن لها في أن تطلع من مطلعها أولا فإذا كان آخر الزمان لا يؤذن لها في الطلوع من المشرق، بل يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من المغرب. وقرئ «إلى مستقر لها» . وعن ابن عباس لا مستقر لها أي لا سكون لها ولا وقوف، فإنها جارية أبدا إلى يوم القيامة. وقرئ «لا مستقر لها» على أن «لا» بمعنى ليس. ذلِكَ أي جري الشمس تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) أي تدبيره وتسخيره إياها، وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ أي جعلنا له منازل ثمانية وعشرين منزلة في ثمانية وعشرين ليلة من كل شهر، ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، ويستتر ليلة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما، حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) أي حتى يصير في رأى العين كالعذق المقوس اليابس إذا حال عليه الحول، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ

[سورة يس (36) : الآيات 41 إلى 50]

تُدْرِكَ الْقَمَرَ أي فالشمس لم تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر، وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي ولا الليل يطلع سلطان النهار فيذهب ضوءه ولكن يعاقبه وَكُلٌّ من الشمس والقمر فِي فَلَكٍ أي دائرة يَسْبَحُونَ (40) ، أي يدورون ولفظ «كل» يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا، وللشمس فلكان أحدهما: مركزه العالم، وثانيهما: مركزه فوق مركز العالم، وهو مثل بياض البيض بين صفرته والقيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة، فإذا حصلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال: إنها في الأوج وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض، وللقمر فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه، وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة، وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس، وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مفرق فيها، ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل المائل، والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير وَآيَةٌ لَهُمْ، أي لأهل مكة على قدرتنا على البعث أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ. وقرأ نافع وابن عامر «ذرياتهم» على الجمع، أي أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجارتهم، أو صبيانهم ونسائهم الذين يستصحبونهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) أي المملوء، ومع ذلك نجاه الله من الغرق. وقال علي بن أبي طالب: حمل الله تعالى النطف في بطون النساء تشبيه بالفلك المشحون ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مما يماثل الفلك ما يَرْكَبُونَ (42) في البر من الإبل ونحوها وفي البحر من الزواريق ونحوها، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ مع ركوبهم في الفلك ونحوه، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ، أي فلا مغيث لهم من الغرق وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) ، أي ولا ينجون من الغرق بعد وقوعه، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) فالإنقاذ ينقسم إلى قسمين إما أن ينقذه الله لرحمة منه فيمن علم الله منه أنه يؤمن أو ينقذه للتمتيع باللذات زمانا إلى انقضاء أجله، وليزداد إثما فيمن علم الله أنه لا يؤمن، فالإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لأهل مكة بطريق الإنذار: اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما أمامكم من أمر الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وَما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا فإنهم تاركون لها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) أي راجين أن ترحموا فإن الله لا يجب عليه شيء أعرضوا حسب ما اعتادوه، ويقال: اتقوا ما بين أيديكم من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما، وما خلفكم من الموت الطالب لكم، فإنكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه، وَما تَأْتِيهِمْ أي كفار مكة مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها، أي تلك الآية مُعْرِضِينَ (46) على وجه التكذيب والاستهزاء، فلا تنفعهم الآيات ومن كذب بالبعض هان عليه

[سورة يس (36) : الآيات 51 إلى 60]

التكذيب بالكل وقوله تعالى: مِنْ آيَةٍ ف «من» زائدة، وقوله: مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ تبعيضية وقوله: إِلَّا كانُوا إلخ جملة حالية وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق النصيحة. أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين، فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا استهزاء بهم أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) حيث تأمروننا بما يخالف مشيئته تعالى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكة زنادقة من قريش إذا أمروا بالتصدق على المسكين. قالوا: لا والله أيفقره تالله ونطعمه نحن وكانوا يسمعون من المؤمنين، يعلقون أفعال الله بمشيئته يقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو شاء لأعز، ولو شاء لكان كذا، فاخرجوا هذا الجواب استهزاء بالمؤمنين، وما كانوا يقولون بتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: إن المؤمنين لما قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين ما زعمتم من أموالكم إنه لله تعالى، وهو ما جعلوه لله من حرثهم وأنعامهم قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه: لكنا ننظره تعالى لا يشاء ذلك فإنه لم يطعمهم مما نرى من فقرهم، فنحن أيضا لا نشاء ذلك موافقة لمراد الله تعالى فيه، وَيَقُولُونَ أي كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ بقيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) فيما تعدونا به منه؟ قال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما ينتظر قومك إذ كذبوك إلّا النفخة الأولى الميتة تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) ، أي يتخاصمون في السوق. قرأه حمزة بسكون الخاء وكسر الصاد، والمعنى: يخصم بعضهم بعضا. والباقون بحركة الخاء وتشديد الصاد وأصله «يختصمون» فأدغمت التاء في الصاد بعد قلبها صادا. فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة الصاد إلى الساكن قبلها نقلا كاملا، وأبو عمرو، وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخطأ أصلها. والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان، لذلك فكسروا أولهما، لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شيء من أمورهم إن كانوا فيما بين أهليهم، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) إن كانوا خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتوا حيثما كانوا، وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» «1» . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي وينفخ في القرن النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون سنة،

_ (1) رواه البخاري في كتاب صلاة الخوف، باب: التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب، وسلم في كتاب الجهاد، باب: 120، والترمذي في كتاب السير، باب: 3، النّسائي في كتاب النكاح، باب: البناء في السفر، والموطأ في كتاب الجهاد، باب: ما

فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ أي إلى مالك أمرهم يَنْسِلُونَ (51) أي مخرجون بسرعة بطريق الإجبار دون الاختيار. قالُوا أي الكفار بعد ما خرجوا من القبور: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا، احضر فهذا أوانك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا. وقرئ «من أهبنا» ، وقرأ ابن عباس والضحاك وغيرهما من بعثنا على أنها جار ومجرور متعلق ب «ويل» . وقرئ «من هبنا» ب «من» الجارة والمصدر هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث ما وعدنا به الرحمن، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) أي صدقونا فيه. وقيل: الوقف على هذا بجعله بدلا من مرقدنا، وجعل ما وعد الرحمن خبر المبتدأ محذوف أي هو ما وعدنا الرحمن به في الدنيا من البعث، وعلى ذلك التفسير فهذا إلخ من كلام الكافرين حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسل عليهم السلام فيجيبون به أنفسهم، أو يجيب بعضهم بعضا وقيل: قالت لهم الحفظة تذكيرا لكفرهم: هذا ما وعد الرحمن على ألسنة الرسل في الدنيا وصدق المرسلون فيما أخبروكم به البعث بعد الموت، إِنْ كانَتْ أي ما كانت نفخة البعث إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً حصلت من نفخ إسرافيل في الصور، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا أي مجموع عندنا مُحْضَرُونَ (53) للحساب، فَالْيَوْمَ وهو يوم القيامة لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي لا ينقص من حسنات أحد ولا يزاد على سيئات أحد، وَلا تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) أي إلّا بسبب ما كنتم تعملونه في الدنيا، إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أهل الجنة الْيَوْمَ وهو يوم القيامة، فِي شُغُلٍ أي شأن يشغلهم عما سواه، فاكِهُونَ (55) أي متلذذون في النعمة، كالتزاور وضيافة الله وافتضاض الأبكار، وضرب الأوتار وسماعه هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد عَلَى الْأَرائِكِ أي السر والمزينة بالثياب والستور التي هي داخل الحجال، مُتَّكِؤُنَ (56) أي جالسون مع التمكن، أو الميل على شق وفي هذا إشارة إلى الفراغ لَهُمْ فِيها أي الجنة فاكِهَةٌ كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه، وَلَهُمْ فيها ما يَدَّعُونَ (57) أي يشتهون. وقال الزجاج: أي ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم. وعلى هذا فيكون الافتعال بمعنى الفعل، ويعضده القراءة بسكون الدال سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) أي سلام عليهم أخص قولا من رب رحيم، وعلى هذا فيكون حكاية لما سيقال لهم من جهته تعالى يومئذ كما في قوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فيكون الله تعالى أحسن من عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم

_ جاء في الخيل والمسابقة بينها، والنفقة في الغزو، وأحمد في (م 3/ ص 102) .

[سورة يس (36) : الآيات 61 إلى 70]

نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» «1» . وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أي ويقال للمشركين: انفردوا اليوم أيها المجرمون عن المؤمنين حين يسار بهم إلى الجنة إذ لا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ أي ألم أوص إليكم يا بَنِي آدَمَ على لسان رسلي أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) أي ظاهر العداوة، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء فانظر إما أن يكون ذلك موافقا لأمر الله أولا، فإن لم يكن موافقا له فذلك الشخص معه الشيطان يأمرك بما يأمرك به، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان، وإن دعتك نفسك إلى فعل، فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أولا، فإن لم يكن مأذونا فيه فنفسك هي الشيطان أو معها الشيطان يدعوك فإن اتبعته فقد عبدته، ثم إن الشيطان يأمر أولا بمخالفة الله ظاهرا فمن أطاعه فقد عبده، ومن لم يطعه فيقول له: اعبد الله كي لا تهان وليرتفع شأنك عند الناس وينتفع بك إخوانك، فإن أجاب إليه فقد عبده، وَأَنِ اعْبُدُونِي، أي أطيعوني موحدين بي هذا أي التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي طريق قريب آمن فاسلكوه وفي ضمن قوله تعالى: هذا صِراطٌ إشارة إلى أم الإنسان مار في الدنيا لا مقيم فيها. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أي وبالله لقد أضل الشيطان منكم يا بني آدم خلقا كثيرا قبلكم عن ذلك الصراط المستقيم الذي أمرتكم بالثبات عليه، فأصابهم لأجل ذلك ما أصابهم من العقوبات الهائلة. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) ، أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم، أو أفلم تكونوا تعلمون ما صنع الشيطان بهم. وقرأ نافع وعاصم «جبلا» بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وأبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة. والباقون بضمهما واللام مخففة هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) أي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام بمقابلة عبادة الشيطان، وبهذا يخاطب الكفار بعد تمام التوبيخ عند أشرافهم على شفير جهنم، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) أي ادخلوا جهنم من فوق، وقاسوا فنون عذابها اليوم بكفركم المستمر في الدنيا الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) أي يعلمون من الشر، ورأى أنهم حين يسمعون قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ينكرون كفركم فيشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم، فيحلفون ما كانوا مشركين، فيختم الله على أفواههم وينطق الله

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 38) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3858) ، وابن سعد في الطبقات (1: 1: 135) ، والقرطبي في التفسير (15: 76) .

غير لسانهم من الجوارح، فيقرون بذنوبهم ولا يقدرون على الإنكار فكل عضو ينطق بما صدر منه فشهادتهم هو إقرارهم، وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ، أي ولو نشاء أن نطمس على أعينهم لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) ، أي فلو أرادوا سلوك الطريق الواضح المألوف لهم لا يقدرون عليه. والمراد أن قدرتنا إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد في الطريق لمصالحهم ولكن أبقينا عليهم نعمة البصر فضلا وكرما، فحقهم أن يشكروا عليها ولا يكفروا فهذا توبيخ، لهم كمال توبيخ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ. وقرأ شعبة «مكاناتهم» على الجمع، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) ، أي ولو نشاء لحولنا صورهم وأبطلنا قواهم في منازلهم فلا يقدرون أن يبرحوا مكانهم بإقبال ولا إدبار ولا يرجعون إلى الحال الأول. وعن ابن عباس: أي حولناهم قردة وخنازير. وقيل: أي حولناهم حجارة وعن قتادة لأقعدناهم على أرجلهم وأزمناهم، وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أي ومن نطل عمره إطالة كثيرة نقلبه في خلق جسده وقواه الباطنية، فكل منهما ينقلب حاله فيرجع من القوة إلى الضعف حتى صار كأنه طفل. وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى، وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة، والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على الطمس والمسخ، وإن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما. وقرأ نافع وابن ذكوان «تعلقون» بالخطاب وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، أي وما علمنا محمدا الشعر وليس القرآن بشعر، وهذا رد لما كانوا يقولون في حقه صلّى الله عليه وسلّم من أن محمدا شاعر وما يقوله شعر، وَما يَنْبَغِي لَهُ أي وما كان الشعر يليق به صلّى الله عليه وسلّم، ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى، والشاعر يكون المعنى منه تبعا للفظ، لأنه يقصد لفظا يصح به وزن الشعر أو قافيته، فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ، ولو صدر من النبي صلّى الله عليه وسلّم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعرا لعدم قصده اللفظ، وإنما قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين، وَقُرْآنٌ أي كتاب جامع للأحكام كلها مُبِينٌ (69) أي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لِيُنْذِرَ، أي محمد كما يدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء على الخطاب أو القرآن، مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا منهما أو مؤمنا في علم الله تعالى وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) ، أي ولتثبت كلمة العذاب على المصرين على

[سورة يس (36) : الآيات 71 إلى 80]

الكفر، أو وليثبت المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل الدينية على كفار مكة فإن في القرآن ذكر الدلائل التي ثبتت بها المطالب. أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكروا، ولم يعلموه علما يقينا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أي لأجل انتفاعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي ما عملناه بقدرتنا وإرادتنا أَنْعاماً هي الإبل والبقر والغنم، وهو مفعول خلقنا لَها مالِكُونَ (71) بتمليكنا إياهم لها بحيث يتصرفون فيها بوجوه التصرفات وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي صيرناها منقادة لهم بحيث لا تستعصي عليهم في شيء مما يريدون بها فَمِنْها رَكُوبُهُمْ أي فبعض منها مركوبهم، وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) ، أي وبعض منها يأكلون لحمه. وَلَهُمْ فِيها أي الأنعام مَنافِعُ غير المركوب والأكل كالجلود، والأصواف، والأوبار، والنسل، والحرث عليها والحمل، وَمَشارِبُ من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) ؟ أي أيشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها فيعبدونه. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) أي وعبد كفار مكة من غير الله أصناما راجين أن ينصروهم من عذاب الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ، أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) أي والمشركون لآلهتهم بمنزلة الجند، فهم قائمون بين أيديهم كالعبيد ويخدمونها، ويغضبون لها في الدنيا، أو المعنى وآلهتهم وهي الأصنام، جند للعابدين محضرون معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض، ويقال: والمشركون جند لآلهتهم يشيعونها عند مساقها إلى النار. فَلا يَحْزُنْكَ يا أشرف الخلق قَوْلُهُمْ، أي تكذيبهم إياك. وقرئ «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي وهو لغة بني تميم. أما القراءة المشهورة التي هي بفتح الياء وضم الزاي فهي لغة قريش. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من النفاق أو من المكر بك أو من العقائد الفاسدة، وَما يُعْلِنُونَ (76) من الشرك أو من الكفر بك، أو من الأفعال القبيحة أي إنا نجازيهم بجميع جناياتهم الخافية والبادية أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم علما يقينا أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ قذرة خسيسة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ أي ناطق بالباطل مُبِينٌ (77) أي مبين النطق في نفي البعث وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا أي أورد الإنسان في شأننا أمرا عجيبا وهو إنكاره قدرتنا على إحياء الموتى مع شهادة العقل والنقل في ذلك، وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي وترك الإنسان ذكر بدء خلقه من المنى، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) أي بالية أشد البلاء بعيدة عن الحياة غاية البعد، ونزلت هذه الآيات في العاصي بن وائل كما نقل عن مجاهد أو في أبي بن خلف كما قاله عكرمة والسدي، أو في عبد الله بن أبي كما نقل عن ابن عباس أو أمية بن خلف كما حكاه ابن عساكر. وروي أن جماعة من كفار قريش تكلموا فقال لهم أبي بن خلف: ألا ترون إلى ما يقول محمد أن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزى لأذهبن إليه ولأخصمنه، فأخذ عظما باليا،

[سورة يس (36) : الآيات 81 إلى 83]

فجعل يفتته بيده، وأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنك يا محمد تقول: إن إلهك يحيي هذه العظام فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» . قُلْ له يا أكرم الرسل: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي يحيي العظام من خلقها من العدم أول مرة من النطفة، فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده، وإن لم يبق شيئا مذكورا وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) أي فيعلم الله أجزاء الأشخاص المفتتنة في المشارق والمغارب والتي بعضها في أبدان السباع، وبعضها في جدران الرباع سواء كانت أجزاء أصلية، أو فضلية، للآكل، أو للمأكول فيعيد الله كلا من ذلك النمط السابق مع القوى التي كانت قبل ويجمعه وينفخ روحه، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً والموصول بدل من الموصول الأول، أي الذي خلق لأجل منفعتكم نارا من المرخ والعفار، فالمرخ شجر سريع القدح، والعفار بفتح العين شجر تقدح منه النار فمن أراد النار قطع منهما غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار، فتخرج منهما النار بإذن الله تعالى وهذا قول ابن عباس. وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا العناب فَإِذا أَنْتُمْ يا أهل مكة مِنْهُ أي من الشجر الأخضر تُوقِدُونَ (80) فمن قدر على أحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة، لها كان أقدر على إعادة الأجساد بعد فنائها. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي أليس الذي أنشأ العظام أول مرة، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما يقدر على أن يخلق مثل الأناسي في الصغر، ثم أجاب الله نفسه بقوله: بَلى هو قادر على ذلك وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) ، أي وهو كامل القدرة وشامل العلم إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه إِذا أَرادَ شَيْئاً من الأشياء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) ، أي أن يعلق بذلك الشيء قدرته تعالى فَيَكُونُ (83) ، أي فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلا. وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على «يقول» . فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ أي تنزه عن الشريك والعجز من في قبضته مملكة كل شيء وخزائنه، وَإِلَيْهِ لا إلى غيره تُرْجَعُونَ (83) بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم وقرأ زيد بن علي بالبناء للفاعل.

سورة الصافات

سورة الصافات مكية، مائة واثنان وثمانون آية، ثمانمائة وستون كلمة، ثلاثة آلاف وثمانمائة وتسعة وعشرون حرفا وَالصَّافَّاتِ أي والملائكة الناظمات لأنفسها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة، أو الصافات أقدامها في السماء لأداء العبادات، أو الباسطات أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد صَفًّا (1) بديعا، فَالزَّاجِراتِ أي الملائكة التي تزجر السحاب، أي يأتون بها من موضع، إلى موضع أو الزاجرات لبني آدم عن المعاصي بالإلهامات، أو الزاجرات للشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وعن استراق السمع زَجْراً (2) بليغا. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) أي الملائكة التاليات الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس، والتحميد، والتمجيد. إِنَّ إِلهَكُمْ يا أهل مكة لَواحِدٌ (4) بلا شريك، إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة، فكان غير حكيم. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مالكهما وَما بَيْنَهُما من الموجودات، وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) أي مشارق الشمس فإنها ثلاثمائة وستون مشرقا تشرق الشمس كل يوم من مشرق منها وبحسبها تختلف المغارب وتغرب كل يوم في مغرب منها إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربى من أهل الأرض بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) . قرأ أبو بكر عن عاصم بتنوين «زينة» ، ونصب «الكواكب» ، أي بتزييننا الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها، وحمزة وحفص كذلك إلّا أنهما خفضا «الكواكب» بدل من «زينة» . والباقون بإضافة «زينة» إلى «الكواكب» ، أي بتزيين ضوء الكواكب السماء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوين «زينة» ، ورفع «الكواكب» ، أي بزينة في الكواكب أو بتزيين الكواكب فالأول في قوة البدل والثاني في قوة المضاف للفاعل وَحِفْظاً عطف على زينة باعتبار المعنى، أي إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) أي عال على الله عن طاعته برمي الشهب، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم

[سورة الصافات (37) : الآيات 11 إلى 20]

بفتح السين وتشديدها، وتشديد الميم أي كيلا يتطلب الشياطين السماع إلى كلام أشرف الملائكة. والباقون بسكون السين، وَيُقْذَفُونَ أي يرمون بالشهب مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) أي من جميع جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها دُحُوراً أي للطرد وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) أي دائم بالشهب في الدنيا إلى النفخة الأولى وبالنار في الآخرة، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ، و «من» في محل رفع بدل من الواو في «لا يسمعون» أي لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الذي اختلس الكلمة من كلام الملائكة على وجه المسارقة فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) ، أي لحقه شهاب مضيء يحرقه، أو يخبله أو يقتله فَاسْتَفْتِهِمْ، أي سل يا أشرف الخلق هؤلاء المنكرين للبعث من مشركي مكة، أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أصعب خلقا وأشق إيجادا، أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي أم التي خلقناها من هذه الأشياء أصعب وهي السموات والأرض، وما بينهما والمشارق والمغارب، والشياطين الذي يصعدون الفلك والملائكة، والكواكب والشهب الثواقب، إِنَّا خَلَقْناهُمْ أي كل إنسان مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) أي لاصق لشدة اختلاط بعضه ببعض، فإن الحيوان إنما يتولد من المني وهو يتولد من الغذاء، ثم النبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) ، أي بل عجبت يا أشرف الرسل من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ومن تقريرك للبعث، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي. وقرأ حمزة والكسائي «عجبت» بضم التاء وهو قراءة ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم، ويحيى بن وثاب، والأعمش. والمعنى: عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفاعيله وممن كثرت مخلوقاته وكملت قدرته، ويسخروا ممن يجوز البعث. وقال بعض الائمة: معنى قوله: بَلْ عَجِبْتَ بالضم بل جازيتهم على عجبهم، أي إن هؤلاء المنكرين أقروا بأن الله تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على الأسهل الأيسر، ومع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء القوم مصرّين على إنكار البعث والقيامة، وهذا في موضع التعجب الشديد، وَإِذا ذُكِّرُوا أي إذا وعظوا بشيء من المواعظ لا يَذْكُرُونَ (13) أي لا يتعظون، ولا ينتفعون بذكر دلائل صحة البعث لغاية بلادتهم وقصور فكرهم، وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق القائل بالبعث كانشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (14) يبالغون في السخرية. وَقالُوا إِنْ هذا أي ما هذا الذي يرونه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أي ظاهر سحريته أي إن الرسول أثبت جهة رسالته بالمعجزات، ثم قال لما ثبت بهذه المعجزة: كوني رسولا من عند الله صادقا فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق، ثم إن هؤلاء المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة باهرة حملوها على كونها سحرا واستهزءوا منها. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 21 إلى 30]

وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو على أنها معطوفة على الضمير في «مبعوثون» . والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، فالمعنى أو تبعث آباؤنا ويقال أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا، أي أن القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون: من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه، وبلغوا هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يستسخرون ممن سلك هذا المذهب الحق. قُلْ لهم تبكيتا: نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) أي نعم تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون حال كونهم وهم ذليلين حقيرين، فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي لا تستبعدوا البعث، لأنه إنما هي صيحة واحدة فَإِذا هُمْ أي الخلائق قائمون من مراقدهم أحياء يَنْظُرُونَ (19) أي يبصرون كما كانوا، وينتظرون ما يفعل بهم وَقالُوا أي الكفار إذا قاموا من القبور: يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر، فهذا أوان حضورك. هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) أي هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا هذا يَوْمُ الْفَصْلِ أي يوم القضاء بينكم وبين المؤمنين الَّذِي كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ أي بهذا اليوم تُكَذِّبُونَ (21) . والوقف على «ويلنا» تام إن جعل هذا يوم الدين من كلام الملائكة جوابا لهم، فالمعنى: هذا يوم جزاء الأعمام وإن جعل من كلام الكفار، لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم، فالوقف التام على يوم الدين لأن هذا يوم الفصل إلى آخره من كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ. وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض فيقول الله للملائكة: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي رؤساء الكفار من مقامهم إلى الموقف وَأَزْواجَهُمْ أي أحزابهم ونظراءهم من الكفرة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من غيره من الأصنام ونحوها، فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) أي سوقوهم إلى طريق جهنم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف أو على النار، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) عن عقائدهم وأعمالهم. وقيل: المراد سألتهم خزنة النار بنحو قولهم: ألم يأتكم رسل منكم بالبينات. قالوا: بلى. وقرئ بفتح الهمزة على حذف لام العلة، أي قفوهم لأجل سؤال الله إياهم وتقول لهم خزنة جهنم: ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) أي أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا- كما قاله ابن عباس- وذلك لأن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر. فيقال لهم يوم القيامة: ما لكم غير متناصرين كما كنتم تزعمون في الدنيا، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) أي منقادون خاضعون لظهور عجزهم وانسداد باب الحيل عليهم في دفع تلك المضار، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) أي يتخاصمون. يقول الأتباع: غررتمونا، ويقول الرؤساء: لم قبلتم منا. قالُوا أي الاتباع للرؤساء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ (28) أي عن القوة والقهر وتقصدوننا عن الغلبة حتى تحملونا على الضلال، أو عن الحلف فإن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم. قالُوا أي الرؤساء للأتباع:

[سورة الصافات (37) : الآيات 31 إلى 40]

بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) أي لم نمنعكم من الإيمان بل لم تؤمنوا باختياركم، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر. والمعنى: فلا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم على متابعتنا بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) أي غالين في معصية الله تعالى فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) أي فثبت وعيد ربنا إنا لذائقوا العذاب. والمعنى: إن الله تعالى لما أخبر عن وقوعنا في العذاب فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا، ولما كان خبر الله أمرا ثابتا كان الوقوع في العذاب الأليم لازما، ولما حق علينا وعيد ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) أي إنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية فلا لوم علينا، فَإِنَّهُمْ أي الأتباع والمتبوعين يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ أي في وقوعهم في العذاب مُشْتَرِكُونَ (33) كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية، إِنَّا كَذلِكَ أي كما نفعل بعبدة الأوثان نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) ، أي المشركين غير هؤلاء كالنصارى واليهود إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) ، أي عبدة الأوثان كانوا إذا قيل لهم: قولوا لا إله إلّا الله، يتعاظمون عن النطق بكلمة التوحيد وعلى من يدعوهم إليها، وَيَقُولُونَ في تكذيب النبوة أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) أي أإنا لتاركوا عبادة آلهتنا لأجل قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ أي بل جاء محمد بالدين الحق، لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الشريك وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) أي وصدق محمد المرسلين في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشرك، فإن التوحيد دين كل الأنبياء إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) . وقرئ بنصب «العذاب» على تقدير النون. وقرئ «لذائقون العذاب» على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) أي إلا بما كنتم تعملونه من السيئات، وكأنه قيل: فكيف يليق بالرحيم الكريم المتنزه عن النفع والضر أن يعذب عباده، فأجاب الله عن ذلك بقوله: وَما تُجْزَوْنَ إلخ. والمعنى: أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والنهي عن القبيح ولا يكمل المقصود منهما إلّا بالترغيب في الثواب، وبالترهيب بالعقاب، وإذا وقع الإخبار عن ذلك وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب، فلهذا السبب وقعوا في العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) . بقدر أعمالهم دون عباد الله المخلصين فإنهم يجزون أضعافا مضاعفة اه. أُولئِكَ أي المخلصون لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) ، أي معروف الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة، ولذة طعم،

[سورة الصافات (37) : الآيات 51 إلى 60]

وحسن منظر. وقيل: معنى المعلوم إنهم يتيقنون دوام الرزق لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل، ومتى ينقطع. وقيل: معناه أن الرزق على قدر يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، فَواكِهُ وهو ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات، لأنهم مستغنون عن القوت، وهو بدل كل من رزق فالفواكه مساوية للرزق فتشمل الخبز واللحم، لأنهما يؤكلان في الجنة تلذذا، وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) عند الله تعالى لا يلحقهم هوان، لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) أي في جنات ليس فيها إلّا التنعيم، عَلى سُرُرٍ مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، مُتَقابِلِينَ (44) أي متواجهين في الزيارة لا يرى بعضهم قفا بعض، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ أي بخمر أو بإناء فيه خمر، فالكأس يطلق عليهما مِنْ مَعِينٍ (45) أي من نهر جار على وجه الأرض خارج من العيون، بَيْضاءَ مثل اللبن لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ أي ليس في شربها صداع في الرأس- كما قاله ابن عباس والليث- ولا وجع البطن- كما قاله قتادة- ولا أثم- كما قاله الكلبي-، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) . قرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر الزاي أي يسكرون. والباقون بفتح الزاي أي يذهب عقولهم. وعن سببية أي بسبب الخمر وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حور قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم عِينٌ (48) أي كبار الأعين حسانها، كَأَنَّهُنَّ في الصفاء بَيْضٌ للنعام مَكْنُونٌ (49) أي مصون عن القترة، شبههن ببيض النعام المصون من الغبار ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإن ذلك أحسن ألوان الأبدان فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) . وهذا معطوف على «يطاف» ، أي يشربون ويتحادثون على الشراب فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم، وعن المعارف. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة في تضاعف محاوراتهم وهو يهوذا: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) أي مصاحب في الدنيا يقال له: نطروس- وهما شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن وهو يهوذا، والآخر كافر وهو نطروس- يَقُولُ لي يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة: أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) بالبعث ويقول تعجبا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) ! أي لمحاسبون ومجاوزون. وقرئ «المصدقين» بتشديد الصاد. وقيل: كان رجل تصدق بماله لوجه الله تعالى فافتقر، فاستجدى بعض إخوانه فقال: أين مالك؟ قال: تصدقت به ليعوضني الله تعالى في الآخرة خيرا منه. فقال: أإنك لمن المصدقين بيوم الدين أو من المتصدقين لطلب الثواب والله لا أعطيك شيئا، فيكون التعرض لذكر موتهم وكونهم ترابا وعظاما حينئذ لتأكيد إنكار الجزاء المبني على إنكار البعث. قالَ ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة لجلسائه: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين؟

[سورة الصافات (37) : الآيات 61 إلى 70]

فذهب إلى بعض أطراف الجنة فَاطَّلَعَ عندها إلى النار فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) أي فرأى ذلك الرجل قرينه في وسط النار. قالَ له موبخا: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) أي إنه، أي الشأن قاربت لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة. وقرئ «لتغوين» ، أي لتضلني عن الدين، وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) في النار مثلك، ثم عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال: أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) أي أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) . وهذا استفهام تلذذ فهو من سؤال بعضهم لبعض، لأن الذي تتكامل سعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول: أيدوم هذا لي أيبقى هذا لي، وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: إِنَّ هذا أي الذي نحن فيه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) . والوقف هنا تام. وقيل: هو من قول الله تعالى تصديقا لقولهم. وقرئ «إن هذا» أي الذي ذكر لأهل الجنة لهو الرزق العظيم. قال الله تعالى ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أي لطلب مثل هذه السعادات المحكية يجب أن يعمل العاملون فليجتهد المجتهدون بالعلم والعبادة. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير حاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، أمر الله ورسوله أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر والمعنى أن الرزق المعلوم ضيافة أهل الجنة، وأهل النار ضيافتهم شجرة الزقوم فأيهما خير في كونه ضيافة. وهذا الكلام جيء به على سبيل السخرية بهم، لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية. إِنَّا جَعَلْناها أي شجرة الزقوم فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) أي شبهة في قلوبهم حتى صارت سببا لتماديهم في الكفر، فإنهم لما سمعوا أن شجرة الزقوم في النار قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في النار مع أنها تحرق الشجر ولم يعلموا أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر، لأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثل ذلك في هذه الشجرة؟ إِنَّها أي الزقوم شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وقرئ «نابتة في أصل الجحيم» . طَلْعُها أي ثمرها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) في القبح والهول، وهو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق في الحسن بالملك في قوله تعالى حكاية لقول النساء: إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ وذلك أن الناس اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة، واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح في الصورة والسيرة، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال، حسن التشبيه برءوس الشياطين في قبح النظر كأنه قيل: إن أقبح الأشياء في الخيال هو رؤوس الشياطين. وقيل: إن الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأعراف، وهي من

[سورة الصافات (37) : الآيات 71 إلى 80]

أقبح الحيات، والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق، دفرة، مرة، كريهة الرائحة تكون في تهامة، فَإِنَّهُمْ أي الكفار لَآكِلُونَ مِنْها أي من الزقوم فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) لغلبة الجوع أو للقسر على أكلها تكميلا لعذابهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي الزقوم بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ، أي لمخلوطا بماء متناه في الحرارة. والمعنى: إذا غلبهم العطش الشديد سقوا من الماء الحار، فحينئذ يخلط الزقوم بماء حميم فيقطع أمعاءهم، نعوذ بالله من ذلك ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) فإن الزقوم والحميم ضيافة تقدم إليهم قبل دخولها. وقرئ «إن مصيرهم» أي منقلبهم. إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) أي إنهم وجدوهم ضالين في نفس الأمر فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) أي فهم يتبعون آباءهم على دينهم اتباعا في سرعة من غير تدبر أي إنما استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين، وترك اتباع الدليل، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) من الأمم السالفة، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) أي أنبياء أولي عدد كثير، وذوي شأن خطير بينوا لهم بطلان ما عليهم، فلم يؤمنوا بهم. وهذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم في كفر قومه وتكذيبهم له ليكون له أسوة بمن تقدم من الرسل ليصبر كما صبروا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) . والمقصود من هذا الخطاب خطاب الكفار وإن كان في الظاهر خطابا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل وبكسرها، أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى. وهذا استثناء من قوله تعالى: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فإنها كانت أقبح العواقب، فإنا أهلكناهم إلّا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة لأنا لم نهلكهم، أو استثناء من قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وقوله: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أي فإنهم لم يضلوا لأنهم لم يكذبوا رسلهم. وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ في أن ننجيه من الغرق أو في إيذاء قومه وقصدهم لقتله فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) أي فو الله لنعم المجيبون نحن، وَنَجَّيْناهُ أي نوحا وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) أي الحاصل بسبب الخوف من الغرق، أو الحاصل من أذى قومه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) إلى يوم القيامة، وكان له ثلاث بنين: سام، وحام، ويافث. فسام: أبو العرب، وفارس، والروم. وحام: أبو الحبش، والبربر، والسند ويافث: أبو الترك والتتار ويأجوج. ومأجوج وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) أي وتركنا على نوح في الباقين بعد من الأمم، هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين أي يسلمون عليه تسليما ويدعون له بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعا على الدوام، أي أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين، فيسلمون عليه بكليتهم إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) أي إنا مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) . والمقصود من

[سورة الصافات (37) : الآيات 91 إلى 100]

هذا بيان أن أعظم الدرجات الإيمان بالله والانقياد لطاعته، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وهم كفار قومه أجمعين وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن تابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ (83) وإن اختلفت فروع شرائعها، وما كان بينهما إلّا نبيان: هود وصالح عليهم السلام، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) ، أي إذ أقبل إبراهيم إلى طاعة ربه بقلب خالص من كل عيب. وقال الأصوليون: المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس المعاصي، فيكون سليما عن الشرك، والغش، والحقد، والحسد. وعن ابن عباس: أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه وسلم جميع الناس من غشه وظلمه. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف ل «جاء» أو ل «سليم» ، وأما العامل في «إذا» الأولى فهو ما دلّ عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من معنى المتابعة. ماذا تَعْبُدُونَ (85) أي أيّ شيء تعبدونه أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) ! أي أتعبدون آلهة من غير الله لأجل الكذب؟ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية أو أنه جوّز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) ، أي في علم النجوم وأراد أن يتخلف عنهم في عيد يخرجون إليه ليبقى خاليا في بيت الأصنام، فيقدر على كسرها ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان قومه يتعاملون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا يتعاملون به ليتركوه ويعذروه في التخلف عنهم. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) أي سأسقم سقم الموت، لأن من كتب الله عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت- كما قاله الضحاك- أو سقيم القلب عليكم لعبادتكم الأصنام، وذلك تورية ليتركوه وقيل: إنه نظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وأشار لهم إلى مرض يعدي كالطاعون وكانوا يهربون من الطاعون، فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) أي فارين مخافة العدوى وتركوه، وعذروه في أن لا يخرج اليوم ذاهبين إلى عيدهم، فكان ذلك مراده، وكانوا في قرية بين الكوفة والبصرة يقال لها: هرمز فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ أي ذهب إلى الأصنام في خفية، فَقالَ استهزاء بها: أَلا تَأْكُلُونَ (91) ؟ أي من الطعام لذي كانوا يصنعونه عندها لتبرك عليه ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) بجواب كلامي؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا ضربا شديدا قويا، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) أي إنهم لما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام وجدوها مكسرة، فسألوا عن المكسر، فظنوا أنه إبراهيم عليه السلام، فأتوا به يسرعون المشي. وقرأ حمزة «يزفون» بضم الياء، أي يحملون غيرهم على الإسراع في المشي. قالَ لهم إبراهيم، أي بعد أن أتوا به عليه السلام وعاتبوه على كسر الأصنام: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) بأيديكم من العيدان والحجارة! وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) ؟ أي والحال أن الله تعالى خلقكم، وخلق معمولكم، فإن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك. قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) أي في النار الشديدة الاتقاد.

[سورة الصافات (37) : الآيات 101 إلى 110]

قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا، وملئوه نارا، فطرحوا سيدنا إبراهيم فيها فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً أي شرا حرقا بالنار، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) أي الأذلين بإبطال كيدهم بجعل النار عليه بردا وسلاما، أي أن إبراهيم عليه السلام في وقت المحاجة حصلت الغلبة له وعند ما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار فصار هو الغالب عليهم. وَقالَ إبراهيم لما انقضت هذه الواقعة: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي أي إلى مواضع دين ربي وهي أرض الشام. فالمراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، سَيَهْدِينِ (99) إلى ما فيه صلاح ديني، فلما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) أي ولدا من المرسلين، فاستجبنا له، فَبَشَّرْناهُ على لسان الملائكة بِغُلامٍ، أي بولد ذكر حَلِيمٍ (101) ، أي ذي حلم كثير وهو إسماعيل عليه السلام فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي فوهبنا له فنشأ، فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه. قالَ إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ أي إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك في اليقظة. روي أن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله، فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. فَانْظُرْ ماذا تَرى بفتح التاء والراء أي أيّ شيء تشير إلي برأيك. وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، أي أيّ الذي ترى من نفسك الصبر والتسليم. وقرئ مبنيا للمفعول أي ما تظن ذلك الرؤيا. قالَ أي ذلك الغلام: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما أمرت به، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) على قضاء الله وعلى الذبح فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا لأمر الله تعالى واتفقا. وقال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه وإسماعيل نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) أي أضجعه على جنبه، وجواب «لما» محذوف، أي نادته الملائكة من الجبل: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. حكي أن إبراهيم لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما توسطا شعب ثبير أخبره بما أمر به فقال: يا أبت اشدد رباطي في كي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك كي لا ينضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون علي، فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي. وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها. فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه، وهما يبكيان، ثم وضع السكين على حلقه، فلم تؤثر شيئا فقال الابن: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة

[سورة الصافات (37) : الآيات 111 إلى 120]

تحول بينك وبين أمر الله، ففعل، ثم وضع السكين على قفاه، فانقلبت، فعند ذلك نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فذلك قوله تعالى: وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) ف «أن» مفسرة، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي قد أتيت ما أمرت به في المنام وقد حصل المقصود من تلك الرؤيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) أي كما جزيناهم إبراهيم وابنه بتفريج الكرب، نجزي كل محسن بامتثال الأمر، إِنَّ هذا أي الذبح لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) أي لهو الجنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) أي وفدينا إسماعيل بكبش سمين اسمه جرير، وهو الكبش الذي تقرب به هابيل إلى الله تعالى، فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل. وقال السدي: نودي إبراهيم، فالتفت، فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عند إبراهيم، فأخذه. فذبحه، ثم اعتنق ابنه، وقال: يا بني اليوم وهبت لي. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل عليه السلام الله أكبر، الله أكبر فقال الذبيح: لا إله إلّا الله والله أكبر فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي ذلك سنة، والفادي في الحقيقة هو إبراهيم، فالله هو المعطي له والآمر به وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) ، أي وتركنا على إبراهيم في الباقين من الأمم هذه الكلمة والمعنى: أثبت الله التسليم على إبراهيم وأدامه في الآخرين، فيسلمون عليه أي يدعون له بثبوت هذه التحية كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) ، أي مثل ذكره الجميل فيما بين الأمم نجزي المحسنين بالثناء الحسن، إِنَّهُ أي إبراهيم، مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) ، أي الراسخين في الإيمان وَبَشَّرْناهُ أي إبراهيم بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) أي مقضيا بنبوته، مقدرا كونه من الصالحين فالصلاح غاية للنبوة، وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ أي أبقينا الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى قيام القيامة وأخرجنا جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ بالإيمان والطاعة، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (113) أي ظاهر ظلمه. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) أي أنعمنا عليهما بمنافع الدنيا، كالحياة، والعقل، والصحة: وبمنافع الدين كالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات: النبوة، وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما وهم بنو إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) من الغرق الذي أغرق الله به فرعون وقومه، ومن إيذاء فرعون، وَنَصَرْناهُمْ على فرعون وقومه فَكانُوا بسبب ذلك هُمُ الْغالِبِينَ (116) عليهم بظهور الحجة، ثم بالرفعة، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) أي البليغ في البيان- وهو التوراة- فإنه كتاب مشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) ، أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا، ومددناهما بالتوفيق والعصمة، وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) ، أي وتركنا عليهما في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قولهم: سلام على موسى

[سورة الصافات (37) : الآيات 121 إلى 130]

وهارون، أي دعاءهم لهما بثبوت هذه التحية، إِنَّا كَذلِكَ أي مثل الجزاء الكامل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) . وهذا تنبيه على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أعلى من كل الفضائل، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل المرسلين بكونهم من المؤمنين، وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) ، وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل. قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع عليهما السلام. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) عذاب الله أَتَدْعُونَ بَعْلًا، أي أتعبدون بعلا- وهو اسم صنم لأهل بك- قيل: كان من ذهب طوله عشرون ذراعا، وله أربعة وجوه، وكانوا عظموه حتى جعلوا له أربعمائة سادن، وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل، ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وببعلبك سميت مدينتهم. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) أي وتتركون عبادة أعظم المصورين اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) . قرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم بالنصب على البدل. والباقون بالرفع على الاستئناف فَكَذَّبُوهُ أي إلياس فَإِنَّهُمْ بسبب تكذيبهم لَمُحْضَرُونَ (127) النار غدا، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) في التوحيد والعبادة. وهذا استثناء من الواو في فكذبوه، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) ، أي وتركنا عليه في الآخرين دعاءهم له بثبوت التسليم. قرأ نافع، وابن عامر، ويعقوب بفتح الهمزة ممدودة، وكسر اللام على إضافة لفظ «آل» إلى لفظ «ياسين» . والمراد به إلياس ابن ياسين كأن إلياس آل ياسين. والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام، كما يقال: ميكال، وميكائيل، وميكالين، فكذا هاهنا يقال: إلياس وإلياسين- كذا قال الزجاج- إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إلى قومه إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ ابنتيه زاعورا ورينا، أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) أي إلّا امرأته المنافقة تخلفت مع المتخلفين بالهلاك، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) أي أهلكنا من بقي بعد لوط وابنتيه، وَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ أي على قريات قوم لوط، سذوم، وعمورا، وصبورا، ودادوما مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ ، فإن أهل مكة كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار، فلهذا السبب عين الله تعالى هذين الوقتين، أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) أي أتشاهدون ذلك فليس فيكم عقول تعتبرون به وتخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ أي هرب من قومه بغير إذن ربه، إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) أي إلى السفينة الموقرة، فَساهَمَ أي قارع في السفينة، فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) أي فصار من المغلوبين بالقرعة فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ- يقال له: لخم- وَهُوَ مُلِيمٌ (142) أي مستحق اللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) أي كان يقول في بطن الحوت: لا

[سورة الصافات (37) : الآيات 151 إلى 160]

إله إلّا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، أو كان قبل أن التقمه الحوت من المصلين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ أي ذلك الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ أي أمرنا الحوت بلفظه بالمكان الخالي، عما يغطيه من شجر أو نبت. قال جعفر: بشاطئ دجلة. وقيل: بأرض اليمن. حكاه ابن كثير. روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس عليه السلام ويسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالما لم يتغير منه شيء، فأسلموا وَهُوَ سَقِيمٌ (145) أي مريض صار بدنه كبدن الطفل حين يولد، وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) أي من قرع وخص الله القرع، لأنه يجمع برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه، فإن جسد يونس حين ألقي على الأرض الواسعة لم يكن يتحمل الذباب. قال مقاتل بن حبان: كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تتردد إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشيا حتى اشتد لحمه ونبت شعره، وَأَرْسَلْناهُ إلى قوم بنينوى، وهي قرية من أرض الموصل إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) . قال ابن عباس: إن أو بمعنى الواو، وقد قرئ بالواو. فَآمَنُوا بعد ما شاهدوا علائم حلول العذاب إيمانا خالصا فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة الدنيا إِلى حِينٍ (148) أي إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم، أي إن أولئك القوم لما آمنوا، أزال الله عنهم الخوف وأمنهم من العذاب، فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل بعض أجناس العرب ممن قالوا: الملائكة بنات الله كبني مليح، وبني سلمة وجهينة وخزاعة، أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ اللاتي هي أوضع الجنسين وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) ؟ الذين هم أرفعهما، فإن ذلك مما لا يقول به من له أدنى شيء من العقل، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) ؟ أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ أي كذبهم لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ فعل وفاعل حيث قالوا: الملائكة بنات الله. وقرئ «ولد الله» ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الملائكة ولد الله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) في مقالتهم ذلك كذبا بينا. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) بفتح الهمزة، وهي استفهام إنكار وتقريع، أي اختار الله الإناث على الذكور ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) بهذا الحكم الجائر، وهو أنهم نسبوا أخس الجنسين إلى الله تعالى وأحسنهما إليهم، فالأول استفهام إنكار عما استقر لهم، والثاني استفهام تعجب من هذا الحكم، أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أي ألا تلاحظون ذلك فلا تتعظون به! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) أي بل ألكم حجة واضحة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله، فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الذي دل على صحة دعواكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) في دعواكم. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ تعالى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً أي إن قوما من الزنادقة يقولون: الله تعالى وإبليس إخوان، فالله

[سورة الصافات (37) : الآيات 161 إلى 170]

تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم. ويقولون: إبليس مع الله شريك، فالله خالق الخير، وإبليس خالق الشر- وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن- وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) أي ولقد علمت الشياطين أن الله تعالى يحضرهم النار، ويعذبهم بها ولو كانوا شركاء لله في استحقاق العبادة لما عذبهم، ثم نزّه الله نفسه عما قالوا من الكذب فقال: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) أي عما يقولون من الكذب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) أي لكن عباد الله المخلصين لله بالاعتقاد والعبادة، فإنهم لا يكذبون على الله، وينزهون الله تعالى عما يصفه به تعالى الكاذبون، وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة مناسبة فهو عند الله مخلص ممن الشرك، فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) ، أي فإنكم ومعبوديكم أيها المشركون لستم بفاتنين عليه تعالى بإفساد عباده وإضلالهم، إلا أصحاب النار الذي سبق في علم الله كونهم من أهل النار، فإنهم يصرون على الكفر بسوء اختيارهم. وهذا استثناء مفرغ. وقرأ العامة «صال الجحيم» بكسر اللام، لأنه منقوص حذفت منه لام كلمته لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن بضم اللام وسقوط الواو لالتقاء الساكنين ومن موحد اللفظ مجموع المعنى، وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) ، أنزل الله تعالى هذه الآية حكاية عن قول الملائكة وهي حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم، أي وما منا ملك إلا له مكان معلوم في العبادة- قاله ابن مسعود وابن جبير- وقالت عائشة رضي الله عنها: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما في السماء موضع قدم إلّا عليه ملك ساجد أو قائم» وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) أي المنزهون لله تعالى عما لا يليق به تعالى وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) أي إن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون: لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الشاهد على كل الكتب وهو القرآن، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) عاقبة هذا الكفر والتكذيب، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) ، أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم وهو إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) بالحجة إِنَّ جُنْدَنا وهم أتباع المرسلين هُمُ الْغالِبُونَ (173) على أعدائهم في الدنيا والآخرة، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المشاهد، فإن أساس أمرهم النصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من المحنة، والحكم للغالب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. وقرئ «على عبادنا» بتضمين «سبقت» معنى حقت. وقرئ «كلماتنا» . فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) ، أي أعرض عن كفار مكة إلى مدة يسيرة تؤمر فيها بجهادهم، وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا ومن العذاب في الآخرة فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) ما يقع عليهم من الأمور، أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) .

[سورة الصافات (37) : الآيات 181 إلى 182]

روي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا على سبيل الاستهزاء: متى هذا الموعود، فنزل: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) أي فإذا نزل العذاب بقربهم فبئس صباح المنذرين صباحهم. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أتى خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا: محمد والخميس، ورجعوا إلى حصنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر، خربت خبير إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» «1» . والصباح: هو وقت نزول العذاب وإن وقع ليلا. وقرئ «نزل» بتشديد الزاي وبالبناء للمفعول. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) أي أعرض عنهم إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) ، أي يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) . وهذه كلمات محتوية على أقصى الدرجات في معرفة إله العالم، فلفظة سبحان تنزيهه عما لا يليق بصفات الإلهية والربوبية دالة على كمال الرحمة، والحكمة والعزة إشارة إلى كمال القدرة وهي دالة على أنه تعالى قادر على جميع الحوادث ومنزه عن الشريك والنظير في الإلهية وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) . وهذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم، فيجب على كل من سواهم الاقتداء بهم، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) على نجاة الرسل وسلامة الحال بعد الموت، فالله تعالى غني رحيم، والغني الرحيم لا يعذب.

_ (1) رواه البيهقي في الأسماء والصفات (168) . [.....]

سورة ص

سورة ص ويقال لها سورة داود، مكية، ست وثمانون آية، سبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وتسعة وتسعون حرفا ص قيل: إنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد كقولنا: صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد. وقيل: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله تعالى، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) أي ذي الشرف، أو ذي البيان ففيه قصص الأولين والآخرين، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء قريش فِي عِزَّةٍ أي استكبار وامتناع من متابعة الغير وَشِقاقٍ (2) أي إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف. وقرئ «في غرة» ، أي في غفلة عما يجب عليه التنبيه له من دواعي الإيمان. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ أي قريش مِنْ قَرْنٍ أي أمة ماضية، فَنادَوْا بالاستغاثة عند نزول عذاب لينجوا من ذلك، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) أي والحال أنه ليس الحين حين منجى وغوث، وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي وعجب قريش من أن جاءهم رسول من جنسهم، وأنكروه أشد الإنكار فقالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي؟! وَقالَ الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر: هذا أي محمد ساحِرٌ فيما يظهره من الخوارق، كَذَّابٌ (4) فيما يسنده إلى الله تعالى من الإرسال والإنزال، أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفى الألوهية عنهم وقصرها على واحد، إِنَّ هذا أي القول بالوحدانية لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) ، أي بليغ في التعجب. روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا، وشق ذلك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال، فلا تمل كل الميل على قومك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ماذا يسألونني؟ قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك» فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيتم

[سورة ص (38) : الآيات 11 إلى 20]

إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» . قالوا نعم. فقال: «قولوا لا إله إلّا الله» «1» . فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا كيف يكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد إن هذا الشيء عجاب . وقرئ «عجاب» بالتشديد. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي انطلق الرؤساء من قريش عتبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب، أَنِ امْشُوا. وقرأ ابن أبي عبلة بحذف «أن» ، أي قال بعضهم لبعض: اذهبوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادة آلهتكم إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) أي إن نفي آلهتنا لشيء يراد من جهة محمد ليستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد، أو إن الصبر على عبادة الآلهة شيء يراد أن لا ننفك عنه، ما سَمِعْنا بِهذا أي التوحيد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، أي في ملة عيسى عليه السلام- كما قاله ابن عباس ومحمد بن كعب- أو في ملة قريش- كما قاله مجاهد- أي ما سمعناه عن أسلافنا القول بالتوحيد، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (7) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا اختلاق من عند نفسه، أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل على محمد القرآن، ونحن رؤساء الناس وأشرافهم، فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية؟! بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أي إنكار كفار مكة للقرآن ليس عن علم بل هم في شك منه، وسببه أنهم لم يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن، وآمنوا به وتصديقهم لا ينفعهم حينئذ لأنهم صدقوا مضطرين، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) ؟ أي بل أعندهم خزائن رحمة ربك من النبوة والكتاب فيعطونهما من شاءوا بمقتضى آرائهم. والمعنى: أن النبوة منصب عظيم عطية من الله تعالى، فالقادر على هبتها يجب أن يكون كامل القدرة عظيم الجود، فلم تتوقف هبته لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا، أو فقيرا، ولم يختلف ذلك بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه، فهو تعالى الغالب الذي لا يغلب، وهو الوهاب، فله أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ أي بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتحكموا في التدابير الإلهية التي ينفرد بها رب العزة، فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) أي إن كان لهم ذلك الملك فليصعدوا في طرق السموات التي يتوصل بها إلى العرش حتى يدبروا أمر العالم وينزلوا الوحي على من يختارون، جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) ، و «جند» خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للتحقير، أو صفة له، و «هنالك» ظرف ل «مهزوم» و «مهزوم» ، وصفة ثانية ل «جند» ، و «من الأحزاب» صفة ثالثة ل «جند» ، أي هم جند ضعيفون من المتحزبين على رسول الله سيصيرون منهزمين في

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: القناعة، وأحمد في (م 2/ ص 285) ، وفيه «أموالكم» بدل «أقوالكم» .

الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات، وذلك الموضع هو مكة، وذلك الانهزام يوم فتح مكة فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية؟ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك يا أكرم الرسل قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) ، كان ينصب الخشب في الهواء، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا ويتركه في الهواء إلى أن يموت. وقال مجاهد: كان يمد المعذب مستليقا بين أربعة أوتاد في الأرض يشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. قال السدي: ويرسل عليه العقارب والحيات. وقيل: إن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري الأهبة، عظيمي النعم. وكانوا يكثرون من الأوتاد لأجل الخيام، فعرف بها. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي الأشجار المجتمعة من قوم شعيب عليه السلام، أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) أي الذين تحزبوا على أنبيائهم عليهم السلام، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ أي ما كل حزب منهم إلّا كذب الرسل كما كذبك قومك، فَحَقَّ عِقابِ (14) أي فوقع على كل منهم عقابي، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان، وقوم هود بالريح، وفرعون مع قومه بالغرق، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي وما ينتظر كفار مكة إن كذبوك إلا نفخة ثانية، ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) أي من توقف. وقرأ حمزة والكسائي بضم الفاء. وَقالُوا رَبَّنا بطريق الاستهزاء عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أي حظنا من العذاب الذي توعدنا به، قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه النفخة الثانية. وقيل: إنهم قالوا ذلك حين ذكر الله في كتابه فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله. فالمعنى: عجل لنا صحيفة أعمالنا قبل يوم الحساب لننظر ما فيها ولنعلمه. وقيل: لما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعد الله تعالى المؤمنين بالجنة فقالوا ذلك على سبيل السخرية. فالمعنى: عجل لنا نصيبنا من الجنة التي تقول في الدنيا، وذلك لأنهم كانوا في غاية الإنكار للقول بالنشر والحشر. ولما بلغوا في السفاهة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره الله تعالى بالصبر على سفاهتهم فقال: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من أمثال هذه المقالات الباطلة والوقف هنا تام. وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة على أداء الطاعة وعلى الاحتراز عن المعاصي، إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) أي رجاع في أموره كلها إلى طاعتنا، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى، يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) أي يقدسن الله تعالى بخلق الله تعالى فيها الكلام، فكان داود يسبح عقب صلاته عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، أي وسخرنا الطير محشورة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان داود إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه

[سورة ص (38) : الآيات 21 إلى 30]

الطير، فسبحت معه. واجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو الله. وقرئ و «الطير محشورة» بالرفع على الابتداء والخبرية. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود رجاع إلى التسبيح، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة، وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالهيبة، وكثرة الجنود. عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه، فقال داود: للمدعي أقم البينة فلم يقمها. فرأى داود في منامه أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه، فتأخر داود وقال: هو منام، فأتاه الوحي بعد ذلك في اليقظة، فأحضر المدعى عليه وأعلمه ان الله أمره بقتله. فقال: صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه، فهابوه، وعظمت هيبته في القلوب، فهذه الواقعة شدت ملكه. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أي النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ أي خبر خصمي داود، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) ، أي إذا أتوا البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه من أعلاه، أي تصعدوا حائطه المرتفع، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ. روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم، وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عند أقواما يمنعونه منهم، فخافوا، فوضعوا كذبا فقالوا: خصمان أي نحن فريقان إلى آخر القصة، فعلم عليه السلام غرضهم فهمّ بأن ينتقم منهم بَغى بَعْضُنا أي تطاول عَلى بَعْضٍ جئناك لتقضي بيننا، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالأمر الذي يطابق الحق وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر في الحكومة، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) أي دلنا إلى وسط طريق الحق، إِنَّ هذا أَخِي في الدين، أو في الصحبة، لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أي أنثى من الضأن، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها، أي اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) أي غلبني في الكلام، بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده. وقرئ و «عازني» أي غالبني. قالَ داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي والله لقد ظلمك أخوك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ أي ليعتدي بعضهم عَلى بَعْضٍ، فلم يراع حق الصحبة والشركة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فإنهم يتحامون على الظلم وَقَلِيلٌ ما هُمْ، أي وهم قليل، و «ما» مزيدة للتعجب من قلتهم. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ و «ما» كافة زائدة، أي وظن داود

أنا فتناه بهذه الواقعة، لأنها جارية مجرى الامتحان فتنبه عليه السلام لذلك، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مما همّ به من الانتقام منهم. وقيل: إن دخولهم على داود كان فتنة له إلّا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله. وقيل: إن أوريا كان قد خطب المرأة، فأجابوه، ثم خطبها داود في حال غيبة أوريا في غزاته، فزوجت نفسها منه عليه السلام لجلالته، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب» ، أي غلبني في خطبة المرأة. وقيل: كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه السلام، ففعل، فتزوجها، وهي أم سلمان، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس، غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطينها، فعوتب داود بشيئين: أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن. والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه وَخَرَّ راكِعاً، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار، وَأَنابَ (24) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له- يقال له: ايشا- على ملكه، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه. قال الحسن: وكان داود عليه السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله، وقام الليل كله. وقال ثابت: كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ (25) أي حسن مرجع في الجنة، يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ

خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أي نبيا ملكا على بني إسرائيل نافذ الحكم عليهم، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي بالعدل، لأن الأحكام إذا كانت مطابقة للشريعة الحقية الإلهية انتظمت مصالح العالم واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه، ولطلب مصالح دنياه، عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي إلى هلاك الملك. وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، وهو يوجب سوء العذاب، لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، وهو يمنع الاشتغال في طلب السعادات الروحانية، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي عن الإيمان بالله، وعن طاعة الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) أي بنسيانهم يوم الحساب، أي بتركهم الإيمان بذلك اليوم وتركهم العمل لذلك اليوم، وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي عبثا جزافا بلا أمر ولا نهي. وهذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا للأعمال، لأنها حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها. وهذه الآية تدل أيضا على الحشر والنشر والقيامة. وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم، فإما أن يقال: إنه تعالى خلقهم لا للانتفاع ولا للإضرار، فهذا باطل، لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين أو للإضرار، فهذا باطل، لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، أو للانتفاع وذلك إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة فإن كان الانتفاع في حياة الدنيا فهو باطل، لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة، لا يليق بالحكمة، فثبت القول بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيوية، وذلك هو القول بالحشر والقيامة فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض، وما بينهما باطلا وإذا لم بكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر، لازما، وكل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض، وهذا هو المراد من قوله تعالى: ذلِكَ أي خلق ما ذكر لا لأجل الأمر والنهي، ولا لأجل الثواب والعقاب ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بأمر البعث والجزاء فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أي فشدة العذاب للذين كفروا بالبعث بعد الموت بسبب النار المترتبة على ظنهم أن لا بعث ولا حساب، وذلك نفي لحكمة الله تعالى في خلق السماء والأرض وفي أمره تعالى ونهيه، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض كما يقتضيه عدم البعث والجزاء لاستواء الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا، بل الكفرة أوفر حظا منها من المؤمنين لكن ذلك الجعل محال فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين، ورد الآخرين إلى أسفل سافلين. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) أي بل أنجعل أتقياء المؤمنين كعلي بن أبي طالب، وحمزة بن المطلب، وعبيدة بن الحرث

[سورة ص (38) : الآيات 31 إلى 40]

كأشقياء الكفرة كعتبة وشيبة- ابني ربيعة- والوليد بن عتبة، وهم الذين بارزوا يوم بدر عليا وحمزة، وعبيدة فقتل على الوليد بن عتبة، وقتل حمزة عتبة بن ربيعة، وقتل عبيدة شيبة بن ربيعة. قيل: نزلت هذه الآية لما قال كفار مكة للمؤمنين، إنا نعطي في الآخرة من الخير مثل ما تعطون وتقرير هذه الآية: إنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر، والزمانة، وأنواع البلاء، ونرى الكفرة، والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر، ومعاد كان حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة ثبت أن إنكار الحشر والنشر، يوجب إنكار حكمة الله تعالى كِتابٌ أي هذا قرآن أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة لكتاب مُبارَكٌ، أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر مبتدأ مضمر. وقرئ «مباركا» على الحال اللازمة، لأن البركة لا تفارقه، لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ أي ليتفكروا في معانيها اللطيفة، وفي أسرارها العجيبة، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) أي وليتعظ به ذوو العقول السليمة، فإن من يتدبر ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ من المرأة التي أخذها من أوريا، نِعْمَ الْعَبْدُ أي سليمان إِنَّهُ أي سليمان أَوَّابٌ (30) أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة، مقبل إلى طاعة الله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ، أي بعد الظهر الصَّافِناتُ، أي الخيل التي تقوم على طرف سنبك يد أو رجل الْجِيادُ (31) ، أي سراع الجري. وعن إبراهيم التيمي أنها عشرون ألف فرس. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي إني ألزمت حب الخيل لأجل كتاب ربي وهو التوراة فإن معنى الخير هو المال الكثير. والمراد به هنا الخيل، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) أي استترت الصافنات عن النظر رُدُّوها أي الصافنات عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) ، أي فردوها عليه، فأخذ سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، وذلك أن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه. وهو المراد من قوله عن ذكر ربي، ثم إنه عليه السلام أمر بتسييرها حتى غابت عن بصره، وهو معنى قوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ثم إنه أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه شرع يمسح سوقها وأعناقها تشريفا لها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، ولأنه أراد أن يظهر أنه يتضع حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، وأنه يضبط السياسة والملك، ولأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل: إن شاء الله فطاف عليهن، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 50]

بشق رجل، فجيء به على كرسيه، فوضع في حجره فو الذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» . قال العلماء: والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه وهي محنته. وقيل: إن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك، فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في السحاب، فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله. وقيل: إنه أصابه مرض شديد فصار يجلس على كرسيه وهو مريض وفتنته هو مرضه، ولشدة المرض ألقاه الله على كرسيه والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ولما توفي سليمان بعث بختنصر فأخذ الكرسي، فحمله إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم كيف يصعد عليه فلما وضع رجله ضرب الأسد رجله، فكسرها، وكان سليمان إذا صعد وضع قدميه جميعا، ومات بختنصر، وحمل الكرسي إلى بيت المقدس فلم يستطع قط ملك أن يجلس عليه، ثُمَّ أَنابَ (34) أي رجع إلى حال الصحة أو تاب من خطئه، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي أي ما صدر عني من الزلة، وهو ترك الأفضل والأولى لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وطلب المغفرة دأب الأنبياء والصالحين هضما للنفس وإظهارا للذل والخشوع، وطلبا للترقي في المقامات، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي غيري بحيث لا يقدر أحد على معارضته ليكون معجزة لي، لأن المعجزة أن لا يقدر أحد على معارضتها فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري ألبتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) بالملك والنبوة لمن شئت، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ إياها رُخاءً أي لينة في أثناء سيرها، أما في أوله فهي عاصفة، حَيْثُ أَصابَ (36) إلى أي موضع قصده وأراده وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ يبنون له ما شاء من الأبنية وهو بدل من الشياطين، وَغَوَّاصٍ (37) في قعر البحر فيستخرجون اللؤلؤ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) أي مسلسلين في أغلال الحديد، وهم المردة من الشياطين الذين لا يبعثهم إلى عمل إلّا انقلبوا، هذا أي الملك عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) لكثرته. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت، أي غير محاسب علي منك وإمساكك أي ليس عليك حرج فيما أعطيت، وفيما أمسكت من الأمر الذي أعطيناكه. وقيل: المعنى هذا أي تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فخل سبيلهم من الغل، أو احبس من شئت في الغل من غير أن تحاسب وتأثم بذلك وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا في الآخرة لَزُلْفى أي قربى عظيمة وَحُسْنَ مَآبٍ (40) - وهو الجنة- وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ بن عيصن بن إسحاق عليه السلام، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ اسمه معيط بِنُصْبٍ أي بلاء وَعَذابٍ (41) ، أي وسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة.

روي أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله: نعم، عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا، ولا يلتفت إليه. فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، فكان الشيطان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا فيقول: الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله تعالى. فقال الشيطان: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده فجاء إليه وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، وأخبره به فلم يلتفت إليه. فقال: يا رب أيوب لا يبالي بولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، فحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء، وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته ليا بنت يعقوب عليه السلام، وقال: إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة، وحين كان الألم على الجسد لم يذكر أيوب شيئا، فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين، فتضرع، ومن الوساوس أن الشيطان كان يذكره النعم التي كانت، والآفات التي حصلت ومنها: أنه كان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع، فشق ذلك عليه عليه السلام فتضرع إلى الله تعالى وقال: إني مسني الشيطان بنصب وعذاب فإنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أكثر، فأجاب الله دعاءه وأوحى إليه بقوله تعالى: ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض، فضربها، فنبعت عين فقيل له: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي ماء تغتسل به فيبرأ ظاهرك وَشَرابٌ (42) ، أي وتشرب منه فيبرأ باطنك أي إن الله تعالى أظهر من تحت رجل أيوب عينا باردة طيبة، فاغتسل وشرب منها، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه ورد عليه أهله وماله كما قال تعالى وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بإحيائهم بعد هلاكهم كما قاله الحسن أو بجمعهم بعد تفرقهم كما قيل وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل رَحْمَةً مِنَّا أي لأجل رحمة عظيمة عليه على سبيل الفضل منا، لا على سبيل اللزوم وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) ، أي ولتذكير أصحاب العقول بحاله عليه السلام ليصبروا على الشدائد كما صبروا، ويلجئوا إلى الله تعالى كما لجأ ليظفروا كما ظفر، وَخُذْ بِيَدِكَ يا أيوب ضِغْثاً أي قبضة من سنبل فيها مائة سنبلة مختلطة الرطب باليابس فَاضْرِبْ بِهِ، أي امرأتك رحمة بنت يوسف الصديق. لأنه قد حلف ليضربنها مائة ضربة، لأنه لقيها إبليس في صورة طبيب فدعته إلى مداواة أيوب فقال: أداويه على أنه إذا برىء قالت: أنت شفيتني لا أريد جزاء سواه قالت: نعم، فأشارت على أيوب بذلك، فحلف ليضربنها وقال: ويحك ذلك الشيطان كذا حكاه ابن عباس. وَلا تَحْنَثْ أي لا تأثم في يمينك بترك ضربها، ولقد شرع الله تعالى هذه الرخصة رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، فيما أصابه في النفس والأهل والمال، وليس في شكواه إلى الله تعالى إخلال بذلك الصبر، فإنه يسمى جزعا كتمني العافية، وطلب الشفاء على

[سورة ص (38) : الآيات 51 إلى 60]

أنه عليه السلام قال ذلك خيفة الفتنة في الدين حيث كان الشيطان يوسوس إلى قومه، بأنه لو كان نبيا لما ابتلى بمثل ما ابتلي به. ويروى أنه عليه السلام قال في مناجاته إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري ولم يهنني ما ملكت يميني ولم آكل إلّا ومعي يتيم ولم أبت شبعان، ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان، فكشف الله تعالى عنه نِعْمَ الْعَبْدُ أي أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) أي مقبل إلى طاعة الله، وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) أي أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين فقوله تعالى: أُولِي الْأَيْدِي إشارة إلى القوة العاملة، فأشرف ما يصدر عنها طاعة لله. وقوله: وَالْأَبْصارِ إشارة إلى القوة العالمة، فأشرف ما يصدر عنها معرفة الله وما سوى هذين القسمين باطل. وقرأ ابن كثير «عبدنا» على التوحيد إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) ، أي إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة، وهي استغراقهم في ذكر الدار الآخرة حتى نسوا الدنيا، وقرأ نافع وهشام بإضافة خالصة، أي إنا اختصصناهم بإخلاصهم ذكر الآخرة وتناسيهم عند ذكرها ذكر الدنيا، وقد جاء المصدر على فاعلة كالعاقبة، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) أي لمن المختارين من أبناء جنسهم المستعلين عليهم في الخير، وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ بن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ وهو ابن عم إلياس واللام زائدة. وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء وَذَا الْكِفْلِ وهو ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب وَكُلٌّ أي كل المتقدمين من داود إلى هنا مِنَ الْأَخْيارِ (48) أي وكلهم من المشهورين بالخيرية وهم أنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى، هذا أي ما تقدم من ذكر محاسنهم ذِكْرٌ أي شرف لهم وثناء جميل في الدنيا، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) أي مرجع في الآخرة جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) منها، ف «جنات» عطف بيان و «مفتحة» حال منها، وقرئتا مرفوعتين هي جنات عدن مفتحة، مُتَّكِئِينَ فِيها أي جالسين على السرر في الحجال ناعمين في الجنة، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) ، أي يسألون في الجنة بألوان الفاكهة وألوان الشراب، وَعِنْدَهُمْ في الجنة قاصِراتُ الطَّرْفِ أي جوار حابسات العين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أَتْرابٌ (52) أي مستويات في السن والحسن، هذا أي المذكور ما تُوعَدُونَ في الدنيا لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) أي لأجل وقوعه في يوم القيامة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة، إِنَّ هذا أي ما ذكر من ألوان النعم لَرِزْقُنا أعطيناكموه ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) ، أي فناء هذا أي الأمر هذا المذكور وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ أي للكافرين لَشَرَّ مَآبٍ (55) أي مرجع في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) أي المفرش هذا أي عذاب جهنم، فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) فالحميم ماء حار يحرقهم بحره والغساق ماء بارد منتن يحرقهم ببرده.

[سورة ص (38) : الآيات 61 إلى 70]

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين والوقف على «فليذوقوه» كاف إن جعل خبرا لهذا، أو جعل هذا مفعولا لفعل محذوف يفسره «فليذوقوه» ويكون «حميم» خبر مبتدأ محذوف، وإن جعل هذا حميم مبتدأ وخبر وما بينهما اعتراض، فالوقف على غساق وهو كاف. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) أي ومذوق آخر من مثل هذا المذوق أجناس. وقرأ أبو عمرو و «أخر» بضم الهمزة، أي ومذوقات أخر من مثل هذا المذوق في الشدة والفظاعة أنواع مختلفة و «آخر» مبتدأ و «أزواج» خبره قال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم إذا دخلوا النار، هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي هذا جمع كثيف قد دخل معكم النار كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال فقال هؤلاء الرؤساء: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) ، أي داخلون فيها كما دخلنا فيها. قالُوا أي الأتباع عند سماعهم ما قيل في حقهم خطابا بالرؤساء: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي لا وسع الله عليكم في منازلكم في النار، أي أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي أنتم قدمتم الطغيان الذي هذا العذاب جزاؤه فاقتدينا بكم فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) أي بئس المسكن لنا ولكم جهنم. قالُوا أي الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله تعالى: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) ، أي يا ربنا من شرع لنا هذا الطغيان من الرؤساء فزده عذابا مضاعفا في النار. قال ابن مسعود: والمراد بالضعف الحيات والأفاعي وَقالُوا أي الطاعون: ما لَنا لا نَرى رِجالًا من فقراء المؤمنين، كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أي يقول أبو جهل: ما لنا لا نرى في النار عمارا وبلالا، وصهيبا وخبابا كنا نعدهم من السفلة أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا. قرأه نافع بضم السين أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) . وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع، وعاصم وابن عامر «أتخذناهم» بقطع الهمزة على الاستفهام للتوبيخ والتعجب فيوقف على الأشرار وهو كاف والمعنى: الأجل إنا قد اتخذناهم سخريا في الدنيا، فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، فلذلك لا نراهم أم لأجل أنه زاغت عنهم أبصارنا ولم نعلم مكانهم وهم فيها. وقرأ ابن كثير والأعمش، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي «اتخذناهم» بوصل الهمزة فلا يوقف على الأشرار، لأن اتخذناهم صفة أخرى لرجالا. والمعنى: ما لنا لا نرى في النار رجالا سخرناهم وحقرناهم في الدنيا بل مالت أبصارنا عنهم فلا نعدهم شيئا إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكيناه عنهم لَحَقٌّ، أي واجب وقوعه فلا بد وأن يتكلموا به تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) ، أي وهو كلام أهل النار في النار بخصومة بعضهم مع بعض. وقرئ «تخاصم» بالنصب على أنه بدل من ذلك. قُلْ يا أفضل الخلق لكفار مكة: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي مخوف بعذاب الله لمن عصى، وَما مِنْ إِلهٍ موجود إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا

[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 80]

يقبل الشركة الْقَهَّارُ (65) لخلقه، رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا أي خالقهما، الْعَزِيزُ أي الغالب فلا يغلب في أمر من الأمور، الْغَفَّارُ (66) لمن تاب قُلْ هُوَ، أي ما أنبأتكم به نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) وارد من الله تعالى أَنْتُمْ عَنْهُ أي عن ذلك النبأ مُعْرِضُونَ (68) ، أي تاركون له. وهذه الجملة صفة ثانية ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) ، أي ما كان لي من علم بكلام الملائكة وقت اختصامهم في أمر آدم عليه السلام، إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) أي ما يوحى إلي حال الملائكة إلّا كوني نذيرا مبينا، أي أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلّا بالوحي وإنما أوحى الله إلي هذه القصة لأنذركم بها، ولتصير هذه القصة حاضة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد، إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً أي آدم مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي جمعت أجزاء بدنه وصورته بالصورة الإنسانية، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي أفضت عليه الروح، وهي عرض صار البدن بوجودها حيا وهي جوهر يسري في البدن سريان الضوء في الفضاء، وسريان النار في الفحم، فَقَعُوا لَهُ أي اسقطوا له ساجِدِينَ (72) تحية له وتكريما، فخلقه إنسانا فسواه فجعل الروح فيه، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) أي فسجد الملائكة كلهم بطريق المعية لآدم بحيث لم يبق منهم أحد إلّا سجد له، ولم يتأخر في ذلك السجود أحد منهم عن أحد، إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أي تعظم عن السجود لآدم، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) أي وصار إبليس من الكافرين بإبائه عن أمر الله بعد أن كان مسلما عابدا فإنه عبد الله ثمانين ألف عام. قالَ الله له: يا إِبْلِيسُ أي يا خبيث ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي لما خلقته بقدرتي، وإرادتي من غير توسط أب وأم، أَسْتَكْبَرْتَ أي أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق، أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) أي من المستحقين للتفوق؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) والنار أفضل من الطين، لأن النار تأكل الطين فلذلك لم أسجد له. قالَ الله له: فَاخْرُجْ مِنْها أي من الخلقة التي كنت عليها فإنه كان يفتخر بخلقته، فغير الله خلقته فاسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا، فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) أي مطرود من كل خير وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي أي سخطي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) أي يوم الحساب. قالَ إبليس: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) من القبور، أي إذا جعلتني رجيما فلا تمتني إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور للجزاء بعد فنائهم، وأراد الخبيث بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم وأن لا يذوق الموت. قالَ الله: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث الذي هو المسؤول. قالَ إبليس: فَبِعِزَّتِكَ أي فاقسم بعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ، أي لأضلن ذرية آدم عن دينك بتزيين المعاصي لهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) أي المعصومين من الغواية، أو المخلصين قلوبهم وأعمالهم لله. قالَ الله: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) .

قرأ عاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، أي فأنا الحق، أو فالحق قسمي ولا أقول إلّا الحق. وقرأ الباقون بنصبهما أي فبالحق أي أقسم بالحق. وقرئ بجرهما على أن الثاني حكاية لفظ المقسم به على أن معنى الحق نقيض الباطل. وقرئ بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ، ومن جنسك من الشياطين، وَمِمَّنْ تَبِعَكَ في الغواية مِنْهُمْ أي من ذرية آدم أَجْمَعِينَ (85) تأكيدا للكاف و «ما» عطف عليه. قُلْ يا أشرف الرسل: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على هذه الدعوة مِنْ أَجْرٍ أي دنيوي وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) أي الحاملين للمشقة في الشريعة على الناس، أي إن هذا الذي أدعوكم إليه دين لا يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد العقل بصحته، فإني أدعوكم أولا إلى الإقرار بوجود الله، ثم أدعوكم ثانيا إلى تنزيهه تعالى عن كل ما لا يليق به تعالى، ثم أدعوكم ثالثا إلى الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعا إلى الإقرار بكونه تعالى منزها عن الشركاء، ثم أدعوكم خامسا إلى الامتناع عن عبادة الأوثان، ثم أدعوكم سادسا إلى تعظيم الملائكة والأنبياء، ثم أدعوكم سابعا إلى الإقرار بالبعث والقيامة، ثم أدعوكم ثامنا إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة. فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعوا الخلق إليها، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد. وهو المراد من قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) أي ما هذا القرآن إلا عظة من الله تعالى للثقلين كافة، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) أي إنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البينات التي ذكرناها في القرآن فستعلمون بعد الموت أنكم كنتم مصيبين في إعراضكم عنه أو مخطئين.

سورة الزمر

سورة الزمر ويقال لها سورة الغرف مكية، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة إحداهما: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ والأخرى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية، خمس وسبعون آية، ألف ومائة واثنتان وتسعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) ، أي هذه السورة تنزيل الكتاب من الله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بكل ما فيه حق لا ريب فيه موجب للعمل به حتما، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) ، أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء. وقرأ ابن أبي عبلة برفع الدين على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي يجب أن يخص بإخلاص الطاعة له لأنه المنفرد بصفات الألوهية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، والموصول مبتدأ وهو عبارة عن المشركين وخبره محذوف، والوقف على «زلفى» كاف، كما قاله أبو عمرو. وقيل: تام أي والمشركون الذي عبدوا من غير الله أربابا ملائكة وعيسى وعزيرا، والأصنام، والشمس، والقمر، والنجوم يقولون: ما نعبدهم إلّا ليقربونا إلى الله في المنزلة، إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وقرئ «ما نعبدكم إلّا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا له آلهتهم، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يوفق للاهتداء إلى الحق مَنْ هُوَ كاذِبٌ في وصفهم لغير الله بأنهم آلهة مستحقة للعبادة كَفَّارٌ (3) لاعتقادهم في غير الله بالإلهية ولكفرانهم نعمة المنعم، وهو الله تعالى فإن العبادة نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلّا بمن يصدر عنه غاية الإنعام لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً من الملائكة والآدميين كما قالت اليهود والنصارى، وبنو مليح لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذ كل موجود سواه مخلوق له، لكن اتخاذ الولد من خلقه باطل لاستحالة كون المخلوق من جنس الخالق، ولأن كونه منه يستلزم حدوث الخالق، وهو ممتنع عقلا ونقلا سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن اتخاذ الولد هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) ، أي إن كون الله إلها واجب الوجود لذاته يوجب

كونه واحدا في حقيقته وكونه واحدا في حقيقته يمنع من ثبوت الولد فثبت أن كونه واحدا يمنع من ثبوت الولد، ثم إن كونه تعالى قهار يمنع من ثبوت الولد له فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت ويحتاج إلى من يقوم مقامه، لأنه يكون مقهورا بالموت، أما الذي يكون قاهرا لا يموت كان الولد في حقه محالا. وقوله: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أي ملتبسة بالصواب مشتملة على الحكم والمصالح يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، أي يغشى كل واحد منهما الآخر ويزيد كل واحد منهما بقدر ما ينقص الآخر، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي جعلهما منقادين لأمره تعالى، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي كل منهما يجري في فلكه لمنتهى دورته، أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) أي إن خلق هذه الإجرام العظيمة دليل على كمال القدرة فهو يوجب الخوف والرهبة إلّا أنه تعالى غفار، فكونه تعالى غفارا دليل على كثرة رحمته فهي توجب الرجاء والرغبة، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلقها وهي نفس آدم وحدها، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها أي من تلك النفس، زَوْجَها حواء خلقها من ضلع من أضلاعه القصرى وَأَنْزَلَ لَكُمْ أي أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء، كالأمطار وأشعة الكواكب مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أي أفراد من الإبل، اثنين ذكر وأنثى. ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين، يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، أي حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف، فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ البطن والرحم والمشيمة، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله المربي لكم، بالخلق والرزق، فهو المستحق لعبادتكم، لَهُ الْمُلْكُ في الدنيا والآخرة ليس لغيره شركة في ذلك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أي لا معبود للخلق أجمعين إلّا الله، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) أي فكيف تصرفون عن عبادة الله تعالى مع وفور دواعيها إلى عبادة غيره تعالى من غير داع إليها، إِنْ تَكْفُرُوا به تعالى فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، أي فاعلموا أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة، أو ليدفع عن نفسه مضرة، لأن الله تعالى غني عن إيمانكم وشرككم، وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أي وإن كان لا ينفعه تعالى إيمان ولا يضره كفر، إلّا أنه لا يرضى بالكفر وَإِنْ تَشْكُرُوا بأن تقروا باللسان بحصول النعمة، وتعتقدوا صدور النعمة من الله تعالى، وتعملوا الصالحات بجوارحكم يَرْضَهُ لَكُمْ أي يرضى الشكر لأجل منفعتكم، لأنه سبب لفوزكم بسعادة الدارين لا لانتفاعه تعالى به. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر، وعاصم، وحمزة بضم الهاء مختلسة. وقرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات ساكنة الهاء للتخفيف. وقرأ نافع في بعض الروايات وابن عامر والكسائي، وابن ذكوان، والدوري مضمومة الهاء مشبعة. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، فكل مأخوذ بذنبه. وهذا بيان

لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره أصلا ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ بالبعث بعد الموت. فأهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان وأن يعرف ما يضره وما ينفعه وأن يعرف أحواله بعد الموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أي يجازيكم بأعمال الكفر والإيمان في الدنيا ثوابا وعقابا. وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» «1» . وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ، أي الكافر كعتبة بن ربيعة وأبي جهل ضُرٌّ في جسمه، أو ماله، أو أهله، أو ولده دَعا رَبَّهُ أي استجار به مُنِيباً إِلَيْهِ أي مقبلا إليه بالنداء في إزالة ذلك الضر، ولم يؤمل فيه سواه، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أي أعطاه نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، أي ترك دعاء ربه الذي يتضرع إليه من قبل إعطاء النعمة، كأنه لم يفزع إليه ونسي أن لا إله سواه، فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله تعالى كما قال تعالى: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي أعدالا في العبادة لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد لام العاقبة، أي ليثبت على الضلال عن دين الإسلام والباقون بضمها أي ليضل غيره عنه. قُلْ للكافر: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي عش في كفرك في هذه الدنيا بقية عمرك وهذا الأمر زجر عن الكفر وتعريف لقلة تمتعه في الدنيا. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أي من المعذبين في النار على الدوام، وفي هذا إقناط للكافر من النجاة أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «أمن» بتخفيف الميم والهمزة «إما» للاستفهام التقريري ومقابله محذوف تقديره «أمن» هو قائم بما يجب عليه من الطاعة في ساعات الليل حالتي السراء والضراء، كمن جعل لله أندادا ودعا عند مساس الضر فقط، أو للنداء، أي يا من هو قائم في ساعات الليل قل: كيت وكيت أنت من أهل الجنة. وقرأ الباقون بتشديد الميم ف «أم» داخلة على «من» الموصولة وهي إما متصلة ومعادلها محذوف تقديره الكافر خير، أم من هو قائم بأداء وظائف العبادات. أو منفصلة تقدر ب «بل» والهمزة، أي بل أمن هو مطيع لله كالكافر المقول له تمتع بكفرك ساجِداً وَقائِماً حال من ضمير قانت. وقرئ بالرفع على أنه خبر بعد خبر، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي يخاف عذاب الآخرة وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، أي جنة ربه فينجو مما يخافه، ويفوز بما يرجوه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ توحيد الله وأمره ونهيه وهو أبو بكر وأصحابه، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك- وهو أبو جهل وأصحابه- ويجوز أن يراد هذا سبيل التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون

_ (1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (115) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 11 إلى 20]

والعاصون، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الصافية، ولا يعرف التفاوت الحاصل بين العلماء والجهال إلّا أصحاب القلوب النيرة. وقيل لبعض العلماء: إنكم تقولون: العلم أفضل من المال، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أي قل لهم ربكم يقول: أطيعوا ربكم في الصغير والكبير من الأمور لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، والجار والمجرور إما صلة لأحسنوا والمعنى للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة في الآخرة، وهي الجنة. وإما صلة لحسنة. والمعنى: الذين أحسنوا في هذه الدنيا أمن وصحة وكفاية وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، أي فإن لم يتمكنوا من صرف الهمم إلى الإحسان في بلادهم فقل لهم: فإن أرض الله واسعة فلتهاجروا من تلك البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا طاعة إلى طاعتهم، لأنه لا عذر ألبتة للمقصرين في الإحسان إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) ، أي بغير نهاية بهنداز ونحوه. قُلْ يا أشرف الرسل لكفار قريش- حيث قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما حملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا أنتظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فتأخذ بها-: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) أي العبادة عن شوائب الشرك والرياء وغير ذلك، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) أي وأمرت بأن أكون أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، فإني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه، وأكثرهم مداومة عليه، والعبادة لها ركنان: عمل القلب، وعمل الجوارح. فعمل القلب: هو الإخلاص، وعمل الجوارح: هو الإسلام. وهذا فائدة إتيان الأمر مرتين، ثم بيّن الله أن هذا الأمر للوجوب فقال: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) ومعنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) ، أي لا أعبد أحدا سوى الله. والأول إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة وإخلاص القلب له تعالى. وهذا إخبار بأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر أن لا يعبد أحدا غير الله، وإخبار بامتثاله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر على أبلغ وجه، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ تعالى. وفي هذا دلالة على شدة الغضب عليهم. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أي حين يدخلون النار حيث أوقعوهما في هلكة لا هلكة وراءها، أَلا أي تنبهوا لهذه الخسرة العظيمة، ذلِكَ أي الأمر العظيم هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) ، فلا خسران وراءه، فكل خسران يصير في مقابلته كلا خسران،

لَهُمْ أي لهؤلاء الخاسرين مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أي قطع كبار مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ، أي فراش من النار. والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، وإنما سمي ما تحتهم بالظلل، لأن التي تكون تحتهم تكون ظللا لآخرين تحتهم، لأن النار دركات وأيضا إن الظلة التحتانية تشابه الفوقانية في الحرارة والإحراق ذلِكَ العذاب هو الذي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين ليخلصوا في الطاعة، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) أي يا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر، وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أي الشيطان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أي أقبلوا إليه بالطاعات لَهُمُ الْبُشْرى بنوع من الخير عند قرب الموت، وعند الوضع في القبر، وعند الخروج منه، وعند الوقوف في عرصة القيامة وعلى باب الجنة. وقوله تعالى: أَنْ يَعْبُدُوها بدل الاشتمال. والمعنى: والذين تركوا عبادة الشيطان إلخ، فإن عبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها، فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. وعن ابن عباس أن المراد من هذا الرجل يجلس مع القوم، ويسمع الحديث في ذلك المجلس محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن ما سمع، ويترك ما سواه. وقرأ السوسي «عبادي» بياء مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف. والباقون بغير الياء. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ للصواب ولمحاسن الأمور وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أي هم ذوو العقول السليمة عن منازعة الهوى، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) أي أفمن ثبت عليه كلمة العذاب أفأنت تهدي من هو منغمس في الضلال بدعائك له إلى الإيمان فتنقذه من النار. وهذا تنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرص على إيمان قوم، وقد سبقت لهم من الله الشقاوة، فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: نزلت في حق أبي لهب وولده ومن تخلف من عشيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإيمان. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن أطاعوه لَهُمْ غُرَفٌ أي منازل في الجنة رفيعة مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ أي من فوق تلك المنازل منازل أرفع منها مَبْنِيَّةٌ أي قوية كبناء المنازل المبنية على الأرض في الأحكام بخلاف منازل الدنيا، فالفوقاني فضيلته الارتفاع ونقصانه السخافة، والتحتاني فضيلته القوة ونقصانه التسفل. أما منازل الجنة فهي مستجمعة للفضائل، فهي مرتفعة قوية وقوله تعالى: لكِنِ إضراب عن قصة إلى قصة مخالفة للأولى، وليست للاستدراك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت تلك الغرف الفوقانية والتحتانية الأنهار المختلفة من غير تفاوت بين العلو والسفل وَعْدَ اللَّهِ أي وعدهم الله بذلك وعدا، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة أن الله لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أي وعده للمؤمنين. وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى لم يذكر في آيات الوعيد ألبتة مثل هذا التأكيد، وذلك يدل على أن جانب الوعد من جانب الوعيد. أما قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو كلام

[سورة الزمر (39) : الآيات 21 إلى 30]

عام يتناول الوعد والوعيد، فثبت أن ترجيح الوعد حق خلافا للمعتزلة. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم أن الله أنزل من السماء مطرا إلى بعض المواضع، ثم يقسمه فيدخله في مجاري في خلال الأرض كالعروق في الأجساد. ويقال: فيدخل ذلك المطر في خلال الأرض حال كونه مياها نابعة في الأرض، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي ينبت بالمطر زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه من بر وشعير وسمسم وغيرها، وصفاته من طعوم وألوان خضرة، وحمرة، وصفرة، وبياض وغير ذلك. ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد خضرته. وقرئ مصفارا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي منكسرة إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الأفعال الخمسة لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) ، أي لتذكيرا عظيما لأصحاب العقول الصافية يتذكرون بذلك أن حال الحياة الدنيا في سرعة الانصرام كما يشاهدونه من حال الحطام كل عام، فلا يغترون ببهجتها، ويجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء وإجرائه في عيون الأرض قادر على إجراء الأنهار من تحت الغرف في الجنة، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ! أي أكل الناس سواء فمن جعله مستعدا للإسلام فهو على هداية من ربه ف «من» شرطية وخبرها ما بعدها. وقيل: اسم موصول مبتدأ خبره محذوف والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى فهو على لطف إلهي فائض عليه كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته! فَوَيْلٌ، أي عذاب وخسران لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أي من أجل ذكر الله، فإذا سمعوه نفروا وازدادوا قسوة، ولما نزل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر، فلما انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] قال كل واحد من القوم فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب فهكذا أنزلت» «1» . فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر. وقرئ «عن ذكر الله» ، أي عن قبول ذكر الله أُولئِكَ أي الذين قست قلوبهم فِي ضَلالٍ أي بعد عن الحق مُبِينٍ (22) ، أي ظاهر كونه ضلالا لكل أحد قيل: نزلت هذه الآية في حمزة وعلي رضي الله عنهما، وأبي لهب وولده. وقيل: في عمار بن ياسر، وأبي جهل وأصحابه. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ بحسب لفظه لفصاحته وجزالته وبحسب معناه لاشتماله

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنّة، باب: ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الدنيا، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب: ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وأحمد في (م 2/ ص 61) .

على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل، ولأن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا، كِتاباً مُتَشابِهاً أي يشبه بعضه بعضا- كما قاله ابن عباس- فإن كل ما فيه من الآيات يقوي بعضها بعضا. والمقصود منها بأسرها الدعوى إلى الدين وتقرير عظمة الله، مَثانِيَ فإنه أكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين: آية الرحمة والعذاب، وآية الوعد والوعيد، وآية الأمر والنهي، وآية القصص والأحكام وغير ذلك. تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فإن الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة فههنا يقشعر جلده، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج عنه، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود، وإذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون الله تعالى فردا أحدا، وثبت أن كل متحيز منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله، و «عدي» و «تلين» ب «إلى» ، لأن تقدير الكلام: تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله، وهو لا يحسن بالإدراك ويقال: إنهم إذا سمعوا القرآن وذكر آيات العذاب أصابتهم خشية أو ذكر آيات الرحمة اطمأنت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وإنما قال الله إلى ذكر الله، ولم يقل إلى ذكر رحمة الله، لأن المحب المحق الذي في الدرجة العالية هو من أحب الله لا لشيء سواه، وأما من أحب الله لأجل رحمته، فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئا غيره ذلِكَ أي الكتاب الذي هو أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وهو الذي شرح صدره لقبول هذه الهداية، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي ومن جعل الله قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم، منافيا لقبول هذه الهداية فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) ، يخلصه من ورطة الضلال. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في الوقف. أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) ! والهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة على جملة مقدر، و «من» اسم موصول مبتدأ وخبره محذوف. وقيل: معطوف على «يتقي» . وتقدير الكلام: أكل الناس سواء فمن يجعل وجهه قائما مقام الدرقة يقي به وجهه العذاب الشديد يوم القيامة وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذاب ما كنتم تكسبونه في الدنيا، كمن هو آمن من العذاب! قيل: يلقى الكافر في النار مغلوبة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشتعل النار فيها وهي في عنقه فحرها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه. قيل: نزلت هذه الآية في حق أبي جهل وأصحابه. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قومك من الأمم السالفة، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة منهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) ، أي من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ، أي فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أعظم من ذلك الذي وقع، لَوْ كانُوا

[سورة الزمر (39) : الآيات 31 إلى 40]

يَعْلَمُونَ (26) عذاب الآخرة ما كذبوا رسلهم، ولكن لا علم لهم أصلا، وَلَقَدْ ضَرَبْنا بيّنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وجه يحتاج إليه الناظر في أمور دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) ، أي كي يتعظوا به قُرْآناً عَرَبِيًّا، أي أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي بريئا عن التناقض. وقيل: أي غير مخالف لسائر الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد. وقال السدي: أي غير مخلوق. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) أي لكي يتقوا بالقرآن عما نهاهم الله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا ف «مثلا» . مفعول ثان ل «ضرب» و «رجلا» مفعوله الأول. فِيهِ شُرَكاءُ أي سادات مُتَشاكِسُونَ أي متخالفون، سيئة أخلاقهم وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، أي ورجلا خالصا لسيد واحد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو «سالما» بالألف وكسر اللام. والباقون بفتح السين واللام بغير الألف. وقرئ «سلما» بفتح السين وكسرها مع سكون اللام. وقرئ «ورجل سالم» بالرفع على الابتداء، أي وهناك رجل سالم لرجل هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي صفة، أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. والمعنى اضرب يا أشرف الرسل لقومك مثلا وقل: ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع، فكل واحد منهم يدّعي أنه عبده، فهم يتجاذبون في حوائجهم، وهو متحيّر في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم، فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته فهو بهذا السبب يلقى منهم التعب العظيم، وفي رجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعينه على حاجاته، فإن أطاعه عرف له وإن أخطأ صفح عن خطأه فأيّ هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، وأقل تعبا وهذا مثل ضربه الله الكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي يعبد الله وحده. الْحَمْدُ لِلَّهِ أي لما بطل القول بإثبات الشركاء وثبت أنه لا إله إلّا الله الواحد الأحد ثبت أن الحمد له لا لغيره، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) أن الحمد له تعالى لا لغيره وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره، ويقال: لا يعلمون أمثال القرآن إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ أي كفار مكة مَيِّتُونَ (30) أي إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء في أعداد الموتى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) أي تتكلمون أنتم ورؤساء الكفار بالحجة. والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا أشرف الرسل بهذا، فإنك ستموت وهم سيموتون أيضا، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى، والعادل الحق يحكم بينكم، فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه وحينئذ يتميز الحق من الباطل، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ أي لا أحد أظلم ممن أثبتوا لله ولدا.

وشركاء. و «كذب» بتخفيف الذال، وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو نفس الصدق وهو ما جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: من لا إله إلّا الله والقرآن وغير ذلك. إِذْ جاءَهُ أي في أول مجيء ذلك الأمر من غير تدبر فيه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) ، أي لهؤلاء الذين افتروا على الله وسارعوا إلى تكذيب الصدق من أول الأمر، وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ أي بعين الحق وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) ، أي المنعوتون بالتقوى، والموصول عبارة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي صدّق بنفس الصدق هو أبو بكر. وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب، وجماعة من المفسرين. وقيل: المراد من الموصول كل من جاء بالصدق، وهم الأنبياء والذي صدق به الأتباع، ويؤيد هذا القول قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به. وقرئ «وصدق به» بتخفيف الدال، أي صدق الرسول بذلك الصدق الذي هو بمعنى القرآن الناس، ولم يكذبهم بأن أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار الرسول صادقا بسبب الصدق الذي هو القرآن، لأنه معجزة، وهي تصديق من الله تعالى، فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة. وقرئ وصدق به على البناء للمفعول، أي صدق الرسول بالقرآن، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي لهم كل ما يشاءونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاءونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة، ذلِكَ أي حصول ما يشاءونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) أي الذين أحسنوا أعمالهم لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا أي أقبح أعمالهم دفعا لمضارهم وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أي بإحسانهم، إعطاء لمنافعهم. والمراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم السلام فيما أتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم- وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان- ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب. وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ بمتعلق بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ، باعتبار فحواه حيث كان إخبارا بما سيثبت لهم فيما سيأتي، وهو في معنى الوعد كأنه قيل وعدهم الله جميع ما يشاءونه من زوال المضار وحصول المسار، ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم- كما قال السدي- ويقال: هو خالد بن الوليد مما يريدون به. وقرأ حمزة والكسائي «عباده» ، وهم الأنبياء عليهم السلام، فإن قومهم قصدوهم بسوء لقوله تعالى: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: 5] ودخول همزة الإنكار على كلمة النفي تفيد معنى إثبات الكفاية، أي هو كاف عبده وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ تعالى، وهم اللات والعزى ومناة أي إن قريشا يقولون لك: يا محمد لا تشتمها ولا تعبها فتخبلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

[سورة الزمر (39) : الآيات 41 إلى 50]

وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها. لا تدركها أحذركها يا خالد إن لها شدة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها، فهشم أنفها، فنزلت هذه الآية وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه حتى غفل عن كفاية الله لعبده محمد وخوفه بما لا ينفع ولا يضر فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) ، أي مرشدا إلى دينه وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ لدينه فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ عن دينه، أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ أي غالب على أمره ذِي انْتِقامٍ (37) من أعدائه لأوليائه. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقهما لوضوح الدليل على تفرده تعالى بكونه خالقا لهما. قُلْ تبكيتا لهم: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ! أي إذا لم يكن خالق سوى الله تعالى وقد أقررتم بأن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى، فأخبروني بأن ما تعبدون من غير الله وهي اللات والعزى ومناة، إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي بلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أي رافعات بلائه تعالى عني، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ، أي مانعات نعمته عني حتى تأمروني بعبادتها وتخوفوني معرتها وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ متعد لاثنين: أولهما: «ما تدعون» . والثاني: الجملة الاستفهامية. وقرأ أبو عمرو بتنوين «كاشفات» و «ممسكات» ونصب «ضره» و «رحمته» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما سألهم قالوا: لا، أي لا تكشف ولا تمسك فنزل قوله تعالى: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) . أي قل لهم: إذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا، فثقتي في جميع أموري من إصابة الخير، ودفع الشر بالله تعالى، وبه تعالى يثق الواثقون لا على غيره أصلا، لعلمهم بأن كل ما سواه تعالى تحت ملكوته تعالى. قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على حالتكم، وهي الكفر والعناد. وقرأ شعبة «مكاناتكم» بالجمع. وهو مروي عن عاصم أيضا إِنِّي عامِلٌ على حالتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يهلكه في الدنيا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) ، أي ومن ينزل عليه عذاب دائم هو عذاب النار، و «من» موصولة مفعول «تعلمون» ، والأمر للتهديد أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة، فاجتهدوا في أنواع كيدكم، فإني عامل في تقرير ديني، فسوف تعلمون أن الخزي في الدنيا بالجوع والسيف، والعذاب الدائم في الآخرة يصيبني أو يصيبكم. إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ أي لنفع الناس ولاهتدائهم به، بِالْحَقِّ أي مقرونا بالحق، وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ أي فمن عمل بما فيه فنفعه يعود إلى نفسه، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن لم يعمل بما فيه فضير ضلاله يعود إلى نفسه، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) أي إنك لست مأمورا بأن تجبرهم على الإيمان والهدى، وما وظيفتك إلّا البلاغ، فالهداية والضلال لا يحصلان إلّا من الله تعالى، ومن عرف هذه الحقيقة فقد عرف سر الله في القدر ومن عرف سر الله في القدر هانت

عليه المصائب. اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي الله يقبض الأرواح من الأبدان حين موت أجسادها بخلق الموت، وإزالة الحس بالكلية، ويقبض الأرواح التي لم تمت حين تنام بإزالة الإدراك وخلق الغفلة في محل الإدراك، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ فلا يردها إلى البدن. وقرأ حمزة والكسائي «قضى» على البناء للمفعول ورفع الموت، وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي يزيل الحابس عن النائمة، فتعود عند التيقظ كما كانت إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت النفخة الثانية في الممسوكة، ووقت الموت في المرسلة، فالجار والمجرور متعلق بكل من «يمسك» و «يرسل» . قال ابن عباس وغيره من المفسرين: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال علي رضي الله عنه: فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فهي الرؤيا الكاذبة، لأنها من إلقاء الشيطان. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التوفي على الوجهين والإمساك في أحدهما والإرسال في الآخر لَآياتٍ عجيبة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته، لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) في كيفية تعلق الأرواح بالأبدان، وقبضها عنها تارة بالكلية كما عند الموت، وحبسها عن التصرف تارة أخرى كما عند النوم، وإزالة حبسها عنه حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أي إن الكفار قالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله تعالى، فأجاب الله تعالى بقوله: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عنده تعالى قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) أي قل لهم أيشفعون في حال كونهم لا يملكون شيئا من الأشياء، وفي حال كونهم لا يعقلونه؟ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا في تلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم، فهذه الأصنام لا تملك شيئا ولا تعقله، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها ولا يملك أحد من العلماء وغيرهم شيئا؟ ولا يقدر أحد على الشفاعة إلّا بإذن الله؟! فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله لأنه الذي يأذن في الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له ملكها، وما فيهما من المخلوقات، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه تعالى ورضاه، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) يوم القيامة فيفعل يومئذ ما يريد وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ

[سورة الزمر (39) : الآيات 51 إلى 60]

وَحْدَهُ دون الآلهة اشْمَأَزَّتْ أي انقبضت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، أي بالبعث بعد الموت حتى يظهر أثر ذلك الانقباض في أديم الوجه، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي فرادى، أو مع ذكر الله إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة الوجه. قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي يا عالم ما غاب عن العباد وما علموه، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ من أمر الدين. وعن أبي سلمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها بم كان يفتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاته بالليل؟ قالت: كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» «1» . أي فما دفع عنهم ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا، ويجمعون منه شيئا من عذاب الله، فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي بل أصابهم جزاء أعمالهم من العذاب، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو مِنْ هؤُلاءِ أي من مشركي قومك سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي عقوبات ما عملوا كما أصاب الأمم، وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أي هم لا يعجزونني في الدنيا

_ (1) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (3040) ، والعقيلي في الضعفاء (4: 231) ، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (1: 45) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (1: 192) .

والآخرة. أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أي أقالوا ذلك ولم يعلموا أن الله يوسع الرزق لمن يشاء، وإن كان لا قوة له ويضيق الرزق لمن يشاء، وإن كان قويا شديد الحيلة، وليس ذلك لأجل الطبائع والأنجم لأن الساعة التي ولد فيها السلطان قد ولد فيها أنواع الناس، وأنوع الحيوانات، وأنواع النباتات، وحدوث هذه الأشياء الكثيرة في الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة دليل على أن المؤثر فيه هو الله تعالى وحده دون الطوالع قال الشاعر: فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل ولكنه حكم رب السما ... وقاضي القضاة تعالى وجل إِنَّ فِي ذلِكَ أي البسط والتضييق لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كلها من الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، أي أفرطوا في الجناية عليها بالمعاصي. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي بسكون الياء وسقوطها في الوصل. والباقون بفتحها وكلهم يقفون بإثبات الياء إلا في بعض روايات أبي بكر عن عاصم، فإنه يقف بغير ياء. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرة الله وتفضله، أي واقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، أي بالتوبة إذا صحت توبته، ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فيه، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه، ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته. فالتوبة واجبة في كل واحد وخوف العقاب قائم. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) لمن تاب من الكفر وآمن بالله. قيل: إن هذه الآية نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وعن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نرى ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتى نزلت: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: 33] فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا: الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئا خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئا رجونا له. فأنزل الله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ، أي أقبلوا إلى ربكم بالتوبة من الكفر، وَأَسْلِمُوا لَهُ أي أطيعوا الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ إن لم تتوبوا، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) أي لا تمنعون من عذاب الله- نزلت هذه الآية في وحشي وأصحابه- وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن لقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً.

[سورة الزمر (39) : الآيات 61 إلى 70]

وقال الحسن معناه: والتزموا إطاعة الله واجتنبوا معصية الله فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه ذكر القبيح ليتجنب عنه، والأدون لئلا يرغب فيه. والأحسن ليتبع وليتقوّى به. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) بمجيئه لتتأهبوا له، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ مفعول لأجله، أي أنيبوا إلخ كراهة أن تقول نفس: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ أي يا ندامتا على تفريطي في حق الله وأمره وطاعته، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أي والحال إني كنت لمن المستهزئين بدين الله وأهله، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي أي بيّن لي الإيمان لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أي من الموحدين أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجعة إلى دار الدنيا، فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) في العقيدة والعمل. فيقول الله تعالى ردا على ذلك: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي وهي القرآن، مرشدة لك فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ أي تكبرت عن الإيمان بها وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) . فبيّن الله تعالى أن الحجة عليهم لله لا أن الحجة لهم على الله. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه تعالى كاتخاذه تعالى الولد. وكقولهم: إن الله تعالى حرم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وبأن وصفوا الأصنام بالآلهة. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ سوادا مخالفا لسائر أنواع السواد وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) ؟ أي منزل للمتكبرين عن الإيمان والطاعة. وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «بمفازاتهم» بالجمع، أي ينجي الله الذين بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه تعالى من منزل المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم الذي هو الجنة، فكما وقاهم الله في الدنيا من المخالفات حماهم في الآخرة من العقوبات، لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي العذاب، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) على فائت، لأنه لا يفوت لهم شيء أصلا. وقيل: المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، ثم فسرت تلك النجاة بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ إلخ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة الكاسب لأسبابها، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) أي إن الأشياء كلها موكولة إليه تعالى، فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، فيتولى التصرف فيها كيفما يشاء لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي له تعالى مفاتيحها لا يتمكن من التصرف فيها غيره. وقيل: سأل عثمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلّا الله، والله أكبر، سبحان الله، وبحمده، أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، بيده

الخير، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير» «1» . والمعنى أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد بيده وهي مفاتيح خير السموات والأرض، من تكلم بها من المتقين أصابه. وقال قتادة ومقاتل: له مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة. وقال الكلبي: له خزائن المطر والنبات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي الناطقة بكونه تعالى خالقا للأشياء كلها وكونه مالكا مقاليد السموات والأرض بأسرها، أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) خسرانا لا خسار وراءه. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة- حيث قالوا له: أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك-: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) ؟! أي بعد مشاهدة الآيات الدالة على انفراده تعالى أعبد غيره تعالى بأمركم. و «غير الله» منصوب ب «أعبد» ، و «تأمروني» اعتراض. وقيل: «أن أعبد» معمول ل «تأمروني» على إضمار «أن» المصدرية، فلما حذفت بطل عملها وجاز تقديم معمول صلة «أن» على الموصول ب «أن» المحذوفة، والأصل: أتأمروني بأن أعبد غير الله ويؤيد هذا القول قراءة «أعبد» بالنصب. وقرأ نافع «تأمروني» بنون واحدة مخففة مع فتح الياء، وهي نون الرفع كسرت للمناسبة. وابن كثير بنون مشددة وفتح الياء وابن عامر بنونين ساكنة الياء والباقون بنون واحدة مشددة وسكون الياء. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الرسل عليهم السلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) . وهذه قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ، ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ. وهذا رد لما أمروه صلّى الله عليه وسلّم به من الإسلام ببعض آلهتهم كأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلّا غير الله، وكأنه تعالى قال: فلا تعبد إلّا الله. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) لله على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلّا عبادة الإله القادر العليم الحكيم، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله تعالى، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ أي وما عظموا الله حق تعظيمه، أي تعظيما لائقا به تعالى بل أنزلوه عن قدره ومنزلته، إذ زعموا أن له شركاء، وأنه لا يقدر على إحياء الموتى. والحال أن الأرض جميعا مقدورته تعالى يوم القيامة والسموات مطويات بقدرته تعالى، أو ما عرفوا الله حق معرفته حيث وصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة، حيث قالوا: يد الله مغلولة. وقالوا: إن الله فقير يطلب منا القرض إلخ، ومقصود هذه الآية إشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإيجاد والإعدام، فإذا حاول تخريب الأرض يزيلها، فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها، وذلك يدل على كمال الاستغناء.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (5: 346) .

[سورة الزمر (39) : الآيات 71 إلى 75]

وقرئ «قبضة» بالنصب على الظرف، أي في ملكه تعالى وقدرته. وقرئ «مطويات» بالنصب على الحال و «السموات» معطوفة على الأرض. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) أي إن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول في وصف عظمته، تنزه عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية وأن يكون تعالى عاجزا ومحتاجا إلى شيء، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ نفخة الموت فَصَعِقَ أي مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. قال كعب الأحبار: هم اثنا عشر جبريل وميكائيل وإسرافيل، وملك الموت، وحملة العرش، وهم ثمانية. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي الصور بعد أربعين سنة نفخة أُخْرى - وهي نفخة البعث- تمطر السماء كنطف الرجال، فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم يَنْظُرُونَ (68) ، أي يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، و «ينظرون» حال من ضمير «قيام» وقرئ «قياما» بالنصب على الحال من ضمير «ينظرون» ، فهو حينئذ خبر المبتدأ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها أي وأضاءت الأرض الجديدة التي يوجدها الله في ذلك الوقت لتحشر الناس فيها بعدل ربها، وَوُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال وهي ديوان الحفظة في أيدي العمال، وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ، أي الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الملائكة الحفظة، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين العباد بِالْحَقِّ أي بالعدل، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) أي لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم، وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ، أي وفيت كل نفس برة وفاجرة جزاء ما عملته من خير وشر، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) ولا حاجة به تعالى إلى كتاب ولا إلى شاهد ومع ذلك تشهد الكتب والشهود إلزاما للحجة. وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ بالعنف والدفع، زُمَراً أي أفواجا متفرقة بعضها عقب بعض على حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، حَتَّى إِذا جاؤُها أي جهنم فُتِحَتْ أَبْوابُها أي طرقها لهم ولم تكن قبل ذلك مفتوحة، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها- وهم الزبانية- تقريعا وتوبيخا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم؟ وقرئ «نذر منكم» ؟ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ من القرآن وغيره، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، أي لقاء وقتكم هذا هو وقت دخولهم النار؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) أي بلى قد أتونا وتلوا علينا وأنذرونا، ولكن ثبتت علينا كلمة العذاب، ومن وجبت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب؟ قِيلَ ادْخُلُوا أي ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا لهم: ادخلوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودكم فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) أي على الأنبياء جهنم، أي أنهم دخلوا النار، لأنهم تعظموا عن الإيمان بالرسل ولم يقبلوا قولهم، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ مساق إعزاز وتشريف للإسراع بهم إلى دار الكرامة، ولأن بعضهم قالوا: لا ندخلها حتى يدخلها

أحبائي وأصدقائي، ولأن بعضهم استغرقوا في مشاهدة مواقف الجلال والجمال، وهي مانعة لهم عن الرغبة في الجنة وكلهم راكبون فتساق مراكبهم زُمَراً، أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل وعلو الطبقة حَتَّى إِذا جاؤُها أي الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها- «الواو» للحال- أي وقد فتحت أبوابها قبل وصولهم إليها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على باب الجنان: سَلامٌ عَلَيْكُمْ من كل الآفات طِبْتُمْ، أي صلحتم لسكناها، لأنكم نظفتم من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا، فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وجواب «إذا» محذوف تقديره: اطمأنوا وسعدوا. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ في قوله تعالى: لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ، أي أورثنا الله أرض الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي ينزل كل واحد في أي مكان أراده من جنته الواسعة، فهو يتخير في منازل قسمه فلا يختار أحد مكان غيره مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) الجنة. وهذا من كلام الله تعالى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محدقين بالعرش، أي كما أن دار ثواب المتقين هي الجنة، فكذلك دار ثواب الملائكة هو جوانب العرش وأطرافه، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح، وأعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي إن الملائكة على مراتب متفاوتة فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) ، أي قال الملائكة: الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق، وهم ما حمدوه تعالى لأجل ذلك القضاء بل حمدوه تعالى بصفته تعالى الواجبة له، وهي كونه تعالى ربا للعالمين، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم، وإنما حمد الإنعام ويقال: إن هذا من بقية شرح ثواب المؤمنين فيقال: في التقرير كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، فالمؤمنون والملائكة يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتمجيده وتسبيحه، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم. وقال تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين البشر بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي إنهم يقدمون التسبيح، فالتسبيح عبارة عن إقرارهم بتنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال والتحميد عبارة عن إقرارهم بكونه تعالى موصوفا بصفات الإكرام، ثم إن الله تعالى لم يبين ذلك القائل. والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة ذي الجلال والكبرياء ليس إلّا أن يقولوا الحمد لله رب العالمين.

سورة المؤمن

سورة المؤمن وتسمى صورة الطول وسورة غافر، مكية، خمس وثمانون آية، ألف ومائة وتسع وتسعون كلمة، أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ أي هذه السورة المسماة ب «حم» تنزيل الكتاب، مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي الذي لا يوجد له مثل الْعَلِيمِ (2) بوجوه المصالح والمفاسد، غافِرِ الذَّنْبِ أي غافر للذنوب الكبار، قبل التوبة ممن قال: لا إله إلّا الله، وَقابِلِ التَّوْبِ لمن تاب من الشرك شَدِيدِ الْعِقابِ لمن مات على الشرك ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل على من آمن به بترك العقاب المستحق، وذي الغنى على من لم يؤمن به لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه، إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) أي مرجع من آمن به ومن لم يؤمن به، ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ بالجدال الباطل، إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بها وهو أن يقال في حق القرآن: إنه سحر، أو إنه شعر، أو إنه قول الكهنة، أو إنه أساطير الأولين، أو إنما يعلمه بشر أو أشباه ذلك مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن جدالا في القرآن كفر» . «1» وقال: «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر» . فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) أي لا ينبغي أن تغتر بأني أتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارات وطلب المعاش، وإني سآخذهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ أي الأمم المتفرقة مِنْ بَعْدِهِمْ، أي من بعد قوم نوح كقوم عاد وثمود، وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي وعزمت كل أمة من هؤلاء المكذبين أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويهلكوه، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي خاصموا رسلهم بإيراد الشبهات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، أي ليزيلوا بإيراد تلك الشبهات الصدق فَأَخَذْتُهُمْ بسبب ذلك فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) ، أي عقابي إياهم أليس كان مهلكا مهيبا في السماع؟ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 170) .

النَّارِ (6) ، أي كما ثبت حكمه تعالى بالتعذيب على أولئك الأمم الكاذبة على رسلهم، ثبت على الذين كفروا وتحزبوا عليك كونهم مستحقي أشد العقوبات التي هي عذاب النار. فقوله تعالى: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في محل رفع بدل من قوله تعالى: كَلِمَةُ رَبِّكَ أو في محل نصب بحذف لام التعليل، أي لأنهم ملازمو النار أبدا. وقرأ نافع وابن عامر «كلمات» بالجمع. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهم في الدنيا أربعة، وفي يوم القيامة ثمانية، أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وَمَنْ حَوْلَهُ وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ. قال شهر بن حوشب: وحملة العرش يوم القيامة ثمانية: فأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على علمك وحلمك. وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك اهـ. ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم. روي في الحديث: «أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة» «1» . وَيُؤْمِنُونَ بِهِ. وهذا تنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حوله يشاهدونه ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح، لأن الإقرار بوجود شيء حاضر معاين لا يوجب الثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والتعظيم علم أنهم آمنوا به من غير أن يشاهدوه تعالى حاضرا هناك، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا شفقة على خلق الله، وقد ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله. ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة لخلق الله، فالتسبيح مشعر بالتعظيم لله والدعاء للمؤمنين مشعر بالشفقة عليهم. وقيل: هذا الاستغفار في مقابلة قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] . فلما صدر هذا منهم أولا تداركوه بالاستغفار لمن تكلموا فيهم، وهو كالتنبيه لغيرهم على أنه يجب على من تكلم في أحد بشيء يكرهه أن يستغفر له، وعلى من آذى غيره أن يجبره بإيصال نفع إليه. رَبَّنا وهذا معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل «يستغفرون» أي قائلين رَبَّنا إلخ. وهذا دليل على أن السنة في الدعاء أن يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى، ثم يدعو عقبه فإن الملائكة لما زعموا على الدعاء للمؤمنين بدءوا

_ (1) رواه ابن كثير في التفسير (1: 87) ، والقرطبي في التفسير (2: 209) ، وابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (144) .

[سورة غافر (40) : الآيات 11 إلى 20]

بالثناء فقالوا ربنا: وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً، أي وسعت رحمتك وعلمك، فكل موجود نال من رحمة الله نصيبا، لأن وجود الممكن بإيجاده تعالى، فذلك رحمة فلا موجود غير الله إلّا وقد وصل إليه نصيب من رحمة الله، وعلمه تعالى محيط بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات، فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا من الكفر، وإن أصروا على الفسق بأن تقسط العقاب عنهم، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ في الشريعة وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) أي ادفع عنهم عذاب النار رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إياها. وقرئ «جنة عدن» وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ و «من» معطوف على مفعول «أدخل» ، أي وأدخل معهم في الجنة من آمن من هؤلاء الطوائف الثلاثة ليتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير: يدخل المؤمن الجنة فيقول: أين أبي أين زوجتي أين ولدي؟ فيقال له: إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول: إني كنت أعمل لي ولهم فيقال: أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل في سروره ولذته. وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام. وقرأ عيسى «وذريتهم» بالإفراد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أي القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة الْحَكِيمُ (8) أي الذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي ادفع عنهم العقوبات عند موقف القيامة، وعند الحساب والسؤال أو صنهم في الدنيا عن العقائد الفاسدة. والأعمال الفاسدة وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي ومن تدفع عنه العقوبات، أو من تصنه في الدنيا عن المعاصي، فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي عصمته وعظمته، وَذلِكَ أي الرحمة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه عظمته. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) . أي إن الذين كفروا يناديهم خزنة جهنم لإنكار الله لكم في الدنيا حين تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر اتباعا لأنفسكم الأمارة بالسوء، أو اقتداء بأخلائكم المضلين أكبر من إنكاركم أنفسكم الأمارة بالسوء الآن، أو من إنكار بعضهم بعضا اليوم، وذلك أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على تكذيب هذه الأشياء في الدنيا، أو أن الأتباع يشتد مقتهم الآن للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء يشتد إنكارهم للأتباع الآن أيضا، و «إذ» ظرف ل «المقت» الأول. وقيل: يناديهم المتقون في الآخرة من مكان بعيد وهم في النار، وإذ تدعون تعليل لما بين الظرف والسبب. والمعنى: لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقتكم أنفسكم الآن لما كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون. قالُوا أي الكفار: رَبَّنا

أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ أي إماتتين، مرة بقبض أرواحنا، ومرة بعد ما سألنا منكر ونكير في القبور. وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ أي إحياءتين، مرة عند سؤال منكر ونكير في القبور، ومرة عند البعث. وهذا أنسب بحالهم فإن مقصودهم تعديد أوقات البلاء، وهي أربعة: الموتة الأولى، والحيلة في القبر. والموتة الثانية، والحياة في القيامة فهذه الأربعة أوقات المحنة. فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء، فلهذا السبب لم يذكروها، فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أي بشركنا وجحدونا بالبعث، فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ؟ أي فهل إلى خروج من النار ورجوع إلى الدنيا لنصلح أعمالنا من سبيل، أي طريق فأجاب الله تعالى لهم بقوله: ذلِكُمْ أي العذاب في النار والمقت بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي إذا عبد الله منفردا كفرتم بتوحيده، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا أي إن يجعل له شريك تصدقوا بالإشراك. ويقال: ذلكم، أي عدم سبيل خروج لكم إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى وإيمانكم بالإشراك به فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) فالله أعلى كل شيء وأكبر كل شيء بحسب القدرة والإلهية، وذلك حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ، أي علامات وحدانيته وقدرته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي سبب رزق وهو المطر، فالله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار الآيات وراعي مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء. فالآيات لحياة الأديان والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يكمل الأنعام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وَما يَتَذَكَّرُ، أي وما يتعظ بتلك الآيات الباهرة إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) ، أي إلا من يقبل على الله بالكلية ويعرض عن غير الله فَادْعُوا اللَّهَ، أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك ومن الالتفات إلى غير الله، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) إخلاص العبادة منكم، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ أي الله العظيم الصفات فهو تعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الجلال والكمال، لأنه واجب الوجود لذاته، وهو أول وآخر لكل ما سواه، وليس له أول وآخر، وهو عالم بجميع الذوات والصفات، والكليات والجزئيات، وهو غني عن كل ما سواه، وهو واحد يمتنع أن يحصل له ضد وند، وشريك ونظير. وقرئ «رفيع الدرجات» بالنصب على المدح. ذُو الْعَرْشِ أي مالكه ومدبره وخالقه، وهذان خبران آخران ل «هو» . يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ أي ينزل الوحي الجاري من القلوب منزلة الروح من الأجساد هو أمره تعالى، عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) ، والفاعل يعود إلى «من يشاء» وهو الملقى عليه. وقرئ لتنذر على أن الفاعل هو الروح، لأنها قد تؤنث وهذا الفعل ينصب مفعولين محذوفين، أي لينذر من يختاره الله الناس العذاب يوم القيامة أو إن المفعول الثاني هو يوم التلاق

[سورة غافر (40) : الآيات 21 إلى 30]

بدليل قراءة لينذر يوم التلاق على البناء للمفعول، ورفع «يوم» وسمي يوم القيامة بيوم التلاق، لأن الأرواح متلاقية للأجساد، ولأن الخلائق يتلاقون فيه، فيقف بعضهم على حال بعض، ولأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، ولأن كل أحد يصل إلى جزاء عمله ويلتقي فيه العابدون والمعبودون ويلتقي فيه الظالم والمظلوم، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ أي خارجون عن بواطن القبور، وظاهرون لا يسترهم شيء من جبل وغيره، وليس عليهم ثياب، وتظهر أعمالهم وتنكشف أسرارهم، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ فيعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا منهم بحسبه إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشر، وينادي مناد: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيجيبه أهل المحشر: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) ، أي الذي قهر الخلق بالموت، فالمؤمنون يقولونه تلذذا بهذا الكلام حيث نالوا المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه على وجه التحسر والندامة على ما فاتهم في الدنيا، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ برة أو فاجرة، بِما كَسَبَتْ من خير أو شر لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص ثواب، أو زيادة عذاب، أي يقال لهم: إذا أقروا بالملك يومئذ لله وحده الْيَوْمَ تُجْزى إلخ. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) ، إذ لا يشغله شأن عن شأن، فيحاسب الخلائق قاطبة في أقرب زمان وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، ف «إذ» بدل من يوم الآزفة، أي وأنذرهم يوم القرب من العذاب، ومشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم من أماكنها، فتلتصق بحلوقهم من شدة الخوف، كاظِمِينَ أي مغمومين يتردد الغيظ في أجوافهم، فلا يمكنهم أن ينطقوا ويبينوا خوفهم، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب مشفق، وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) أي ولا شفيع مقبول شفاعته، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي استراق النظر إلى ما لا يحل، وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) أي مضمرات القلوب، وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ إذا علم المذنب أن الله لا يحكم إلّا بالحق في كل ما دق وجل، كان خوف المذنب من الله في الغاية القصوى. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ أي والذين يعبدونهم من دون الله تعالى من الأوثان، لا يصنعون شيئا من الشفاعة يوم القيامة، ولا يأمرون بخير في الدنيا، فإن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام، فلذلك بيّن الله تعالى أنه لا فائدة فيها ألبتة بهذه الآية. وقرأ نافع وهشام «تدعون» بتاء الخطاب إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ويبصر سجودهم لهم ولا يسمع منهم ثناءهم على الله، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أغفلوا ولم يسافروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة لرسلهم كانُوا هُمْ أي الذين مضوا من الكفار أَشَدَّ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الحاضرين من الكفار قُوَّةً، أي قدرة على التصرفات.

وقرأ ابن عامر وحده «منكم» بكاف وَآثاراً فِي الْأَرْضِ أي قصورا للسكنى وحصونا للقتال ومصانع للمياه فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، أي أهلكهم الله بسبب تكذيبهم الرسل بضروب الهلاك وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ، أي لم يجدوا من يمنعهم من الله ومن يخلصهم من عذاب الله. وقرأ ابن كثير بالياء في الوقف. ذلِكَ العذاب في الدنيا بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالأحكام الظاهرة، وبالمعجزات الباهرة، فَكَفَرُوا بذلك، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أخذا وبيلا، إِنَّهُ قَوِيٌّ بأخذه شَدِيدُ الْعِقابِ (22) لمن عاقبه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا، وهي معجزاته وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) ، أي حجة مبينة إِلى فِرْعَوْنَ- ملك مصر- وَهامانَ- وزير فرعون- وَقارُونَ- ابن عم موسى- فَقالُوا لموسى فيما أظهره من المعجزات: هذا ساحِرٌ وفيما ادعاه من رسالة رب العالمين: هذا كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أي بتلك المعجزات الباهرة مِنْ عِنْدِنا قالُوا أي- فرعون وأتباعه- اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ، أي لا تقتلوا بناتهم للخدمة. وهذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام، لأن فرعون قد كف عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، لئلا ينشئوا على دين موسى، فيقوى بهم، زعما منه أن القتل يمنع الناس من الإيمان وظنا منهم أن موسى هو الذي حكم المنجمون والكهنة بزوال ملكهم على يده. وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (25) ، أي بطلان. لأن الله تعالى شغلهم عن ذلك القتل بما أنزل إليهم من أنواع العذاب: كالضفادع، والقمل، والدم، والطوفان إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله تعالى، ولأن الناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم مثل هذا. وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وغرض فرعون من هذا الكلام إخفاء خوفه لأن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى، وقد كان فرعون استيقن أن موسى نبي وأن ما جاء به آيات باهرة، وما هو بسحر، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك، ويخاف من أنه لو حاول قتله لظهرت منه معجزات قاهرة تمنعه من قتله، فيفتضح، وكان من دهائه ووقاحته قال هذا تمويها لقومه: أنه إذا امتنع من قتله رعاية لقلوبهم ربما ظنوا أن موسى كان محقا، وعجزوا عن جوابه، فقتلوه إيهاما أنهم هم الكافّون له عن قتله ولولاهم لقتله وما كان الذي يكفه إلّا ما في نفسه من الفزع الهائل. وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعم أنه أرسله إلي حتى يخلصه مني. وهذا على سبيل الاستهزاء في إظهار عدم المبالاة بدعائه، إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ الذي أنتم عليه من عبادة فرعون والأصنام، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) من قتل أبنائكم واستخدام نسائكم.

وقرأ نافع وأبو عمرو «وأن يظهر» بالواو الجامعة بين أمرين. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أو يظهر» بفتح الياء والهاء ورفع «الفساد» فالقراءات السبعية أربعة: ثنتان مع «أو» وهما: نصب «الفساد» ورفعه. وثنتان مع «الواو» . كذلك، وقرئ «يظهر» بتشديد الظاء والهاء أي يتتابع وَقالَ مُوسى لقومه حين سمع ما يقوله اللعين من حديث قتله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) ، وموسى عليه السلام ولم يأت في دفع شر فرعون إلّا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله، فصانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية، والمسلم إذا قال عند القراءة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن، فكذلك إذا قال المسلم: أعوذ بالله عند توجه الآفات والمخافات، فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات من شياطين الإنس. وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وكان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا، أو غريبا موحدا، أو اسمه حزقيل أو شمعان، يَكْتُمُ إِيمانَهُ من فرعون وملئه خوفا على نفسه مائة سنة، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي أتقصدون قتل رجل لأجل أن يقول: ربي الله وحده من غير تأمل في أمره، وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرات مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ! أي وإن كان هذا الرجل كاذبا كان ضرر كذبه عائدا عليه فاتركوه، وَإِنْ يَكُ صادِقاً وقد كذبتموه، يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب في الدنيا. فكان الأولى على كلا التقديرين إبقاءه حيا. والحاصل أن المقصود بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) . وهذا كلام ذو وجهين أي لو كان موسى مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى الأحكام، ولما قواه بعلامات النبوة. وإن كان كذلك أهلكه الله فلا حاجة لكم إلى قتله. وهذا إشارة إلى علو شأن موسى على طريق الرمز، وإلى التعريض لفرعون بأن الله لا يهديه منهاج النجاة، لأنه مسرف في عزمه على قتل موسى، كذاب في جرأته على ادّعاء الإلهية، والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه، بل يهدم أمره، ولما أقام مؤمن آل فرعون أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال: يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي عالين الناس في أرض مصر فلا يقاومكم أحد في هذا الوجه، فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لعذاب الله بقتل موسى فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام. قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي لا أشير إليكم برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة، ولا أسر عنكم غير ما أظهره. ولقد كذب فرعون حيث كان مضمرا للخوف الشديد، ولكنه كان يتجلد ولولاه لما استشار أحد أبدا وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (29) أي ما أدعوكم بهذا الرأي إلّا إلى طريق الصواب والصلاح.

[سورة غافر (40) : الآيات 31 إلى 40]

وقرئ بتشديد الشين للمبالغة وَقالَ الَّذِي آمَنَ رادا لهذا الكلام على فرعون، مخاطبا لقومه: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) أي مثل أيام الأمم الماضية المتفرّقة فكل أمة كان لها يوم معين في البلاء، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوط لوط، أي مثل جزاء دأبهم من الكفر، وإيذاء الرسل. والحاصل أن حزقيل خوّفهم بهلاك معجل في الدنيا، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) أي أن تدمير الله أولئك الأحزاب كان عدلا منه تعالى، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، فتلك العلة قائمة هاهنا فوجب حصول الحكم هاهنا وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) ، أي يوم القيامة فإن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، ويناديهم أصحاب الأعراف وينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور فيقولون: يا ويلنا وينادى باللعنة عليهم وينادى بالسعادة والشقاوة: ألا إن فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وفلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا. وقرأ ابن عباس «يوم التناد» بتشديد الدال، أي يوم فرار بعضهم من بعض يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ، أي منصرفين عن الموقف، لأنهم إذا سمعوا زفير النار ندوا هاربين، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فبينما هم يموج بعضهم في بعض إذ سمعوا مناديا أقبلوا إلى الحساب فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لكم مانع من عذاب الله. والجملة حال أخرى من «ضمير تولون» وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه، فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) أي مرشد، وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب عليهما السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى، فإن وفاة يوسف قبل مولد موسى بأربع وستين سنة، وفرعون أدرك يوسف بن يعقوب وكان عمره أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل: إن يوسف هذا هو يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب، أرسله الله تعالى إلى القبط. فأقام فيهم عشرين سنة نبيا- وهذا من تمام وعظ حزقيل- بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ يوسف من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ، أي مات يوسف قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد موت يوسف رَسُولًا وهذا تكذيب لرسالة من هو بعده مضموما إلى تكذيب رسالته، كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) أي مثل هذا الإضلال يضل الله من هو متغال في عصيانه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الانهماك في التقليد، الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ، أي حجة أَتاهُمْ من الله كَبُرَ مَقْتاً أي عظم بغضا والوقف على «مرتاب» صالح، وعلى «أتاهم» كاف. وهذا إذا جعل «الذين» بدلا من «من» فهو في محل نصب، أو بدلا من مسرف فهو في محل رفع، وعلى هذا فهذا من كلام الرجل المؤمن أيضا، وإن جعل الذين مبتدأ خبره كبر كان الوقف على «مرتاب» تاما، ولا يوقف على «أتاهم» لتأخر الخبر عنه، وعلى هذا فهذا ابتداء كلام الله تعالى، وفاعل «كبر» ضمير يعود

إلى «من» على الاحتمال الأول، وإلى «الجدال» على الاحتمال الثاني، أي كبر من ذكر أو كبر جدالهم بغير حجة، بل بالبناء على التقليد أو بالبناء على الشكوك الخسيسة مقتا، عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فمقت الله إظهار خزيهم وإحلال العذاب بهم، ومقت المؤمنين لهم كراهتهم أشد الكراهة، كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عن الإيمان جَبَّارٍ (35) عن قبول الحق. قرأ ابن عامر وأبو عمرو، وقتيبة عن الكسائي بتنوين «قلب» . والباقون بغير تنوين على الإضافة، ويشهد لهذه القراءة قراءة عبد الله «على قلب كل متكبر» وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً أي بناء عاليا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) ، أي أصعد الطرق أَسْبابَ السَّماواتِ، أي طرقها الموصلة إليها فَأَطَّلِعَ أي أنظر إِلى إِلهِ مُوسى. وقرأ حفص عن عاصم «أطلع» بالنصب على أنه جواب الأمر، أو منصوب على التوهم كما قاله أبو حيان، لأن خبر «لعل» قد يجيء مقرونا بأن، أو على أنه جواب الترجي. والباقون بالرفع عطفا على «أبلغ» . والمقصود: أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع، كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحسن ممتنعا، فحينئذ لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً فيما يدعيه من الرسالة، وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا لا يكف عنه بحال وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالبناء للمفعول أي صرف فرعون عن الحق. والباقون بالبناء للفاعل أي منع فرعون الناس عن الطريق الموصلة إلى الله. وقرئ «وصد» بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليه. وقرئ «وصد» بالرفع على أنه معطوف على «سوء عمله» . وقرئ «وصدوا» أي هو وقومه. وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ (37) ، أي وما صنع فرعون في إبطال آيات موسى إلا في هلاك. وَقالَ الَّذِي آمَنَ وهو حزقيل يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دعوتكم إليه، أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) أي أدلكم على سبيل يؤدي سالكه إلى الخير، وفي هذا تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الضلال. يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، أي منفعة قليلة لسرعة زوالها، فهي كمتاع البيت لا يبقى. وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) ، أي الثبات، فلا تحول عنها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً، في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها أي إلا ما يقابلها في الاستحقاق، فالكافر يعتقد في كفره كونه طاعة، فكان عقابه في النار مؤبدا، لأنه على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا بخلاف الفاسق، فإن عقابه منقطع فإنه يعتقد في فسقه كونه خيانة، فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فالآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات، وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة.

[سورة غافر (40) : الآيات 41 إلى 50]

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة «يدخلون» بالبناء للمفعول يُرْزَقُونَ فِيها أي الجنة بِغَيْرِ حِسابٍ (40) أي بلا هنداز في الكثرة والسعة. بدلا منه، وإن جعل خبر مبتدأ محذوف. فالوقف على «سوء العذاب» حسن، وكذا إن قرئ «النار» منصوبا على الاختصاص، أو نحوه، وإن جعل «النار» مبتدأ وخبره ما بعده فالوقف على «العذاب» تام، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) . قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح الهمزة، وكسر الخاء، أي ويوم القيامة يقول الله لخزنة جهنم أدخلوا آل فرعون في أشد العذاب. والباقون بهمزة الوصل وضم الخاء، والمعنى: ويوم القيامة يقال لهؤلاء الكفار: ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم. وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ أي واذكر يا أشرف الخلق لقومك وقت تخاصم بعضهم بعضا في

[سورة غافر (40) : الآيات 51 إلى 60]

النار، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ أي السفلة من الكفار لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، أي للقادة الذين تعظموا عن الإيمان: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أي أتباعا في دينكم، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) ، أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا جزءا من العذاب. والمقصود من هذا الكلام: المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة للسفلة: إِنَّا كُلٌّ فِيها أي نحن وأنتم واقعون في هذا العذاب، فلو قدرت على إزالة العذاب عنكم لدفعته عن أنفسنا ف «كل» مبتدأ و «فيها» خبره والجملة خبران. وقرئ «كلا» بالنصب على التأكيد لاسم «إن» ، أي إن كلنا واقعون في النار، ثم يقولون: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) أي يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم، أو من العذاب فلا معقب لحكمه، فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزية جهنم، وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ من الضعفاء والمستكبرين إذا اشتدت عليهم النار، وقل صبرهم لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ، أي للملائكة الموكلين بعذاب أهل النار، ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) أي يخفف عنا شيئا من العذاب في وقت من الأوقات. قالُوا أي الخزنة: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ أي ألم تنتبهوا عن هذا، ولم تكن تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء الكفر والمعاصي قالُوا بَلى أي أتونا بها فكذبناهم، قالُوا أي الخزنة استهزاء بهم وإظهارا لخيبتهم: فَادْعُوا أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على الدعاء ولا نشفع إلا بالإذن في الشفاعة وإلا لمن كان مؤمنا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ (50) ، أي ضياع. وهذا من كلام الله إخبارا لنبيه، فالوقف على «ادعوا» تام أو من كلام الخزنة- كما قاله الرازي وأبو السعود- قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بالرسل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بانتقام الكفرة، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) أي يوم يقوم كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك، ونبي، ومؤمن بالحجة والاعتذار، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ من الكفر. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «لا تنفع» بالتاء الفوقية. والباقون بالياء التحتية وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي الإهانة وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وهو العقاب الشديد. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى أي التوراة والمعجزات، وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) ، أي وتركنا عليهم من بعد موسى التوراة هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) أي لأجل الهداية من الضلالة، ولأجل التذكرة لذوي العقول السليمة، فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين، بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة، فَاصْبِرْ يا أكرم الرسل على أذى اليهود والنصارى والمشركين، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، فالله ناصرك ومنجز وعده في حقك، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي تب من ترك الأولى، والأفضل في بعض الأحايين، فإنه

تعالى كافيك في نصرة دينك، وإظهاره على الدين كله، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) ، أي ودم على التسبيح ملتبسا بحمده تعالى. والمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله باللسان، وبأن لا يغفل القلب عنه، إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ، وجملة «إن في صدورهم» إلخ خبر ل «إن» ، وجملة «ما هم» إلخ صفة ل «كبر» ، أي إن الذين يجحدون بآيات الله بغير برهان أتاهم في ذلك من الله تعالى ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق ما هم ببالغي كبره، أي الذين يناصبون الجدال معك بغير حجة إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدورهم، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا بنبوّتك لزمهم أن يكونوا تحت تصرفك، لأن النبوة تحتها كل رئاسة وملك، وهم لا يرضون أن يكونوا في خدمتك وإنما هم يريدون أن تكون تحت يدهم ولا يصلون إلى هذا المراد، بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجئ إليه تعالى من كيد من يجادلك، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْبَصِيرُ (56) بأعمالهم، لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، أي فالذي قدر على ابتداء خلق السموات والأرض مع عظمها، قادر على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) أي أن هذا البرهان مع قوته صار بحيث لا يعرفه من ينكرون الحشر والنشر، فظهر أن هؤلاء يجادلون في آيات الله بغير حجة، بل بمجرد الحسد والكبر، وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي لا يستوي الجاهل المقلد المستدل، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ أي ولا يستوي الآتي بالأعمال الصالحة، والآتي بالأعمال الفاسدة. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ (58) أي أن المجادلين وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنهم ما يتعظون اتعاظا قليلا من أمثال القرآن، فإن الحسد يعمي قلوبهم فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة، وفي الحسد والكبر أنه محض الطاعة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تتذكرون» على الخطاب. والباقون بالغيبة. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي لا شك في مجيئها بإجماع الرسل على الوعد بوقوعها. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الذين ينكرون البعث، لا يُؤْمِنُونَ (59) بمجيء الساعة، وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني أثبكم وأغفر لكم، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) أي أذلاء. ويقال: إن الدعاء هو السؤال، أي ادعوني أقبل إليكم، فالدعاء اعتراف بالعبودية والذلة فكأنه قيل: إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية، وكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه، واجتهاده وأقاربه وأصدقائه، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما قلبه فهو معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا ما دعا الله في

[سورة غافر (40) : الآيات 61 إلى 70]

الحقيقة في وقت. أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فإنه تحصل الاستجابة وانقطاع القلب بالكلية، عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى. وقرأ ابن كثير وشعبة «سيدخلون» على صيغة المبني للمفعول. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ باردا مظلما لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لتستريحوا فيه بالنوم وبالعبادة وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا. وهذا إعلام بوجود الإله القادر، فإن الاشتغال بالدعاء لا بدّ وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة، وبأن من أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ كافة باختلاف الليل والنهار، وما يحتويان عليه من المنافع وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) . إما لكونه حريصا على الدنيا محبا للمال والجاه، فإذا فاته وقع في كفران هذه النعم العظيمة، أو لأنها لما دامت واستمرت نسيها الإنسان، أو لاعتقاده أن هذه النعم ليست من الله تعالى، بأن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الدوران لذواتها. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، أي ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وهذه أخبار أربعة عن اسم الإشارة. صَوَّرَكُمْ أي أحدث صورتكم على غير نظام واحد، فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ولم يخلق الله تعالى حيوانا أحسن صورة من الإنسان، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ لا كرزق الدواب، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي ذلكم الذي نعت بالنعوت الجليلة هو الله المحسن إليكم، فَتَبارَكَ اللَّهُ أي ثبت الله مع كثرة الخيرات رَبُّ الْعالَمِينَ (64) أي مالكهم هُوَ الْحَيُّ، أي المنفرد بالحياة الذاتية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله، فَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) . قال الفراء: هو خبره وفيه إضمار الأمر أي فادعوه واحمدوه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما من قال: لا إله إلا الله فليقل بعدها الحمد لله رب العالمين، أي ولما كان تعالى موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له: الحمد لله رب العالمين. قُلْ لأهل مكة يا أكرم الرسل- حين قالوا لك: ارجع إلى دين آبائك-: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ

[سورة غافر (40) : الآيات 71 إلى 80]

اللَّهِ أي الذين تعبدون من الأوثان لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ أي الدلائل مِنْ رَبِّي، وهي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) أي أن أنقاد له وأخلص توحيدي له، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ فكل إنسان مخلوق من مني وهو مخلوق من الدم، وهو يتولد من الأغذية، وهي منتهية إلى النباتية، والنبات إنما يكون من التراب والماء، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي دم عبيط ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا ثُمَّ يبقيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، أي كمالكم في القوة والعقل، ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً. وقرأ نافع وأبو عمرو، وهشام، وحفص بضم الشين. والباقون بكسرها وقرئ «شيخا» ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ، أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد، أو قبله أو قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا يفعل ذلك لتعيشوا، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وهو وقت الموت وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) ، أي ولكي تعقلوا ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل، فإن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما من دلائل الآفاق، وهي: الليل، والنهار، والأرض والسماء. أو من دلائل الأنفس وهي: التصوير وحسن الصورة، ورزق الطيبات. أو من عمر الإنسان وهو على ثلاث مراتب: كونه طفلا وهو في التزايد شيئا فشيئا وبلوغه كمال النشوء وظهوره في النقص. هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى يدل على الإله القادر كذلك الانتقال من الحياة إلى الموت، وبالعكس يدل على الإله القادر. فَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد أيّ أمر كان، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) فعبّر الله عن نفاذ قدرته في الكائنات من غير معارض بما إذا قال: كن فيكون. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أي انظر إلى هؤلاء المجادلين في آياته تعالى، الواضحة، الموجبة للإيمان بها أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) أي كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بالقرآن، وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ، والوقف هنا تام أو كاف- كما قاله أبو عمرو- و «إذ» بمعنى إذا، وهو ظرف ليعلمون، والسلاسل عطف على الأغلال. والمعنى فسوف يعلمون وقت أن يكون الإغلال والسلاسل في أعناقهم يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ، أي وهم يجرون بتلك السلاسل في الماء المسخن بنار جهنم. وقرئ «والسلاسل يسحبون» بنصب «السلاسل» على أنه مفعول مقدم ل «يسحبون» بفتح الياء. وقرئ «والسلاسل» بالجر على إضمار الباء كما يدل عليه القراءة به. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) أي يحرقون، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ بعد أن يعذبوا بأنواع العذاب: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مع الله قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل لم نكن نعبد من قبل هذه الإعادة شيئا يضر ولا ينفع، ولا يبصر، ولا يسمع. وهذا اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة أو يقال: بل لم نكن نعبد

[سورة غافر (40) : الآيات 81 إلى 85]

من قبل هذا الوقت شيئا من دون الله. وهذا إنكار لعبادة الصنم كَذلِكَ أي مثل ذلك الإضلال يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) عن طريق الجنة ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ، أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية، وعبادة الأصنام، وبكثرة المال والأتباع والصحة، ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي السبعة المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها، فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) عن الحق، جهنم. فَاصْبِرْ على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصرة لك، وبإنزال العذاب على أعدائك حَقٌّ أي كائن بلا شك، فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي فإن نرك بعض الذي نعد أولئك الكفار من أنواع العذاب، فذلك هو المطلوب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إنزال العذاب عليهم، فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام، ويجوز أن يكون هذا جوابا للشرطين. فالمعنى: أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فيها فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي أنت يا أشرف الرسل كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك، ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله معجزات إلا وقد جادله قومه فيها، وكذبوه فيها، وجرى عليهم من الهم مثل ما جرى عليك وصبروا، وكان قومهم يقترحون عليهم إظهار المعجزة الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت، ثم إن كان الصلاح في إظهارها أظهرناها وإلا لم نظهرها، ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة، فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي جاءكم الله بنزول العذاب على الأمم الماضية، قُضِيَ بِالْحَقِّ أي نفذ حكم الله بالعدل، وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) ، أي وهلك في وقت مجيء العذاب من يقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ أي الإبل- كما قاله الزجاج- لِتَرْكَبُوا مِنْها أي الإبل وَمِنْها أي من لحوم الإبل، تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، كألبانها وأوبارها وجلودها، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وَعَلَيْها أي الإبل بالهودج في البر، وَعَلَى الْفُلْكِ أي السفن في البحر تُحْمَلُونَ (80) وتسافرون، يُرِيكُمْ آياتِهِ أي دلائله الدالة على كمال قدرته ووفور رحمته، أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أي ليس في شيء من هذه الدلائل ما يمكن إنكاره، لأنها كلها ظاهرة باهرة، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا، فلم يسيروا في أقطار الأرض؟ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية المتكبرين؟ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ أي من أهل مكة في العدد- يعرف في الأخبار- وَأَشَدَّ قُوَّةً بالبدن وَآثاراً فِي الْأَرْضِ قد بقيت بعدهم بحصون عظيمة مثل الأهرام الموجودة بمصر فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) ، أي فلم ينفعهم الذي كانوا

يكسبونه أو فأي شيء نفعهم مكسو بهم، فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. أي علم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة، أو علمهم بأمور الدنيا وهو علمهم بالطبائع والصنائع يقال أي استهزاء الكفار بالبينات، وبما جاء الرسل به من علم الوحي، إذ لم يأخذوه بالقبول، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) ، أي دار بالكافرين جزاء استهزائهم بالرسل، فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي شدة عذابنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) أي بالأصنام التي كنا مشركين بها مع الله تعالى لأنا علمنا أنها لا تدفع عنا شيئا من عذاب الله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، أي فلم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند رؤية عذابنا لعدم قبوله حينئذ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سنّ الله ذلك المذكور من التعذيب عند التكذيب، ومن رد الإيمان عند معاينة العذاب أي إن عدم قبول الإيمان حال البأس سنة الله مطردة في كل الأمم، ويجوز أن يكون سنة منصوبا على التحذير، أي احذروا سيرة الله في المكذبين التي قد مضت على عباده، وَخَسِرَ هُنالِكَ أي في تلك المواضع الْكافِرُونَ (85) بالله تعالى.

سورة السجدة

سورة السجدة وتسمى سورة فصلت، وسورة حم السجدة، وسورة المصابيح. مكية، أربع وخمسون آية، سبعمائة وتسعة وتسعون كلمة، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا حم (1) أي هذا حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي جعلت آيات الكتاب تفاصيل في معادن مختلفة فبعضها: في ذات الله وصفاته، وفي عجائب أفعاله. وبعضها: في أحوال التكاليف. وبعضها: في الوعد والوعيد، ودرجات أهل الجنة، ودركات أهل النار. وبعضها: في المواعظ والنصائح. وبعضها: في تهذيب الأخلاق. وبعضها: في قصص الأولين. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الاختصاص والمدح، أو على الحالية من «كتاب» ، أو من «آياته» . لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) أي كائنا لقوم عرب ف «اللام» متعلقة بمحذوف صفة ثانية ل «قرآنا» بَشِيراً للمطيعين بالثواب وَنَذِيراً للمجرمين بالعقاب. وقرأ زيد بن علي برفع الاسمين فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبر هذا الكتاب مع كونهم بلغتهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) سماع طاعة ولا يلتفتون إليه، فكون الكتاب نازلا من عند الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع، وأجل المطالب، وكونه قرآنا عربيا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه بشيرا ونذيرا يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات وإعراضهم عنه يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من من أضله الله. وَقالُوا أي كفار مكة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن-: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، أي ستر غليظ يمنعنا عن مواصلتنا إياك فَاعْمَلْ، أي استمر على دينك وهو التوحيد، إِنَّنا عامِلُونَ (5) أي مستمرون على ديننا وهو الإشراك قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ، أي قل يا أشرف الخلق: إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلّا بمجرد أن الله تعالى أوحى إلي دونكم، فأنا أبلغ هذا الوحي إليكم، فإن شرفكم الله قبلتموه، وإن خذلكم رددتموه. وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي، وذلك الوحي يرجع

إلى أمرين: العلم والعمل. فالعلم رئيسه معرفة أن الله واحد، وهو المراد من قوله تعالى: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإذا كان الحق ذلك التوحيد وجب علينا أن نعترف به. وهو المراد من قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ أي استقيموا في أفعالكم متوجهين إلى الإله الواحد، ثم أمر الله تعالى بوظيفة العمل ورئيسه الاستغفار، فلهذا السبب قال: وَاسْتَغْفِرُوهُ لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل المأتي به، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) فالله تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة: الشرك، والامتناع من الزكاة، وإنكار القيامة. فإن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله، وأفضل أبوابه الإقرار بكون الله واحدا، وإذا كان التوحيد أعظم الطاعات كان الشرك أخسها، لأنه ضد التوحيد، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق الله. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر لا يؤتون الزكاة بقوله: أي لا يقولون لا إله إلّا الله فإنها زكاة الأنفس. والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم: لا إله إلا الله. وقال الحسن وقتادة: أي لا يعتقدون إعطاء الزكاة واجبا. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) أي غير مقطوع. قيل: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملونه. ويقال يكتب ثواب أعمالهم بعد الهرم أو الموت إلى يوم القيامة غير منقوض. وقيل: لا يمنون بذلك الأجر. قُلْ يا أشرف الخلق: أَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أي لتكفرون بالعظيم الشأن الذي حكم بأن الأرض ستوجد في مقدار يومين، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً. أي نظراء والحال أنه لا يمكن له نظير واحد، أي أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية! ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) أي ذلك العظيم الشأن الذي علمت من صفته أنه خالق جميع الموجودات فكيف أثبتم له أنداد من الخشب والحجر؟! وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وهو عطف على «خلق الأرض» ، أي وخلق في الأرض جبالا ثوابت مِنْ فَوْقِها، أي كائنة من فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه وليتفكر أن الجبال أثقال، على أثقال وكلها مفتقرة إلى ممسك، وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلّا الله تعالى، ولو جعل في الأرض رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، وَبارَكَ فِيها أي الأرض بشق الأنهار، وخلق الأشجار والثمار، وأصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بأن يوجد لأهل الأرض من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة. وقرئ «وقسم فيها أقواتها» . فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين الذين خلق فيهما الأرض سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) .

[سورة فصلت (41) : الآيات 11 إلى 20]

قرئ «سواء» بالحركات الثلاثة: النصب: على مصدر مؤكد لمضمر، هو صفة لأربعة: أي استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص. والجر: على الوصف، أي مساويات غير مختلفة في المقادير. والرفع: على تقدير هي سواء، ولمن قرأه بالرفع أن يقف على أربعة أيام. وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ إما متعلق ب «سواء» أي مستويات لمن سأل الرزق، ولمن لم يسأل، أو متعلق بقدر- كما قاله الزجاج- أي وقدر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيام، لأجل الطالبين للأقوات المحتاجين إليها، أو متعلق بمحذوف والتقدير: هذا الحصر بيان للسائلين عن مدة خلق الأرض، وما فيها. في كم يوم خلقت الأرض وما فيها ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي ثم قصد إلى خلق السماء، أي ثم دعاه داعي الحكمة إلى خالق السماء بعد خلق الأرض، وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك، وَهِيَ دُخانٌ أي أمر ظلماني، أو دخان مرتفع من الماء. فَقالَ لَها- أي للسماء- وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلى الوجود والحصول أي كوننا على وجه معين، وفي وقت مقدر لكل منكما. وهذا عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعتين أو كارهتين، أي شئتما ذلك أو أبيتما. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) أي أتينا أمرك منقادين لا على الكره. وهذا تمثيل لكمال تأثرهما بالذات العلية عن القدرة الربانية. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا قالتا آتينا» . بالمد في الفعلين، أي وافقا على مرادي منكما. قالتا: توافقنا على ذلك أو أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما. قالتا: أعطينا الطاعة. ويقال: إن الله تعالى قال للسماء والأرض بعد ما فرغ منهما: أعطيا ما فيكما أو جيئا بما خلقت فيكما من المنافع والمصالح وأخرجاها لخلقي. أي قال لهما: افعلا ما أمرتكما طوعا وإلّا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ، أي أتم السماء حال كونها سبع سموات في يومين. ذكر أهل الأثر أن الله تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين. وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وأن الذي خلق أولا هو الدخان الذي هو أصل السماء، ثم بعده الأرض، غير مدحوة، ثم خلقت السماء مبسوطة متفاصلة طباقا بعضها فوق بعض، ثم دحيت الأرض، وخلق ما فيها من الأرزاق وغيرها. وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. قال مقاتل: أمر في كل سماء بما أراد. وقال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم: خلق في كل سماء ما فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ويقال: ولله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام من أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون، ومنهم سجود لا يرفعون، وذلك الأمر مختص بأهل السماء. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- وهي

النبرات التي خلقها في السموات وخصّ كل واحد بضوء معين، وطبيعة معينة، وسر معين، لا يعلمها إلّا الله تعالى- وَحِفْظاً أي وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع. وقيل: إن «حفظا» مفعول له على المعنى كأنه قيل: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا، فبعض النجوم زينة السماء لا يتحرك وبعضها يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وبعضها رجوم للشياطين. ذلِكَ أي هذه التفاصيل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) لأنها لا تمكن إلّا بقدرة كاملة وعلم محيط، فَإِنْ أَعْرَضُوا عن قبول هذه الحجة القاهرة وأصروا على التقليد، فَقُلْ لهم: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً أي خوفتكم عذابا هائلا، كأنه نار معها رعد شديد مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) . وقرأ ابن الزبير، والنخعي، والسلمي، وابن محيصن: «صعقة» مثل صعقة عاد وثمود، وهي المرة من صيحة العذاب. روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة، وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي، فأتاه، فقال: يا محمد أنت خيرا أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب أنت خير أم عبد الله؟ فلم تشتم آلهتنا وتضللنا، فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا اللواء، فكنت رئيسنا وإن كنت أردت الباه زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله ساكت، فلما فرغ عتبة قال صلّى الله عليه وسلّم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إلى قوله تعالى: صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فأمسك عتبة على فيه صلّى الله عليه وسلّم وناشده بالرحم ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فلما احتبس عنهم قالوا: لا نرى عتبة إلّا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا: يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت، فغضب عتبة، وأقسم لا يكلم محمدا أبدا وقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا سحر، ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب، وإنما خص هاتين القبيلتين، لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم، إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من صاعقة عاد، أو ظرف منها منصوب بها، لأنها بمعنى عذاب، فالمعنى صعقة عاد وثمود وقت مجيء رسلهم إليهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي أتوهم من جميع جوانبهم، وأتوهم بجميع وجوه الحيل، فلم يروا منهم إلّا الأعراض، أي جاءتهم الرسل من قبلهم، ومن بعدهم، أي جاءهم هود وصالح داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وخاطبوهم بقوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ف «أن» مفسرة بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا أي بأن الحديث قولهم لهم لا تعبدوا إلّا الله، «أو» مصدرية، والجملة بعدها صلتها وصلت بالنهي، كما توصل بالأمر، أي جاءوهم بكونهم نهوهم

عن الشرك، ويجوز «أن» تكون أن نافية على هذا الوجه أي جاءوهم بأمرهم بالتوحيد ونفي الشرك. قالُوا أي عاد وثمود مخاطبين لهود وصالح: لَوْ شاءَ رَبُّنا أي إرسال الرسل إلى البشر، لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم بطريق الإنزال فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) أي فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وقوله تعالى بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ حكاية لكلامهم على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي فأما قوم هود فتعظموا في الأرض على أهلها بغير استحقاق للتعظيم. وَقالُوا لهود لما هددهم بالعذاب: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أي نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا ذلك لأن أطولهم كما قال ابن عباس كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم: أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يعلموا علما جليا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً أي قدرة يقدر على إهلاكهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) أي إنهم كانوا يعرفون أن الآيات المنزلة على الرسل حق، ولكنهم أنكروها كما ينكر المودع الوديعة، فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردا شديدا، يحرق ببرده كما تحرق النار بحرها، أو ريحا يصوت في هبوبه. وعن ابن عباس: أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي والمراد. أنه مع قلته أهلك الكل وذلك دليل على كمال قدرته تعالى فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ أي مشؤومات. روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء. قال ابن عباس: وما عذب قوم إلّا في يوم الأربعاء. وقرأ نافع ابن كثير وأبو عمرو «نحسات» بسكون الحاء. والباقون بكسرها لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب أنهم استكبروا فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل إليهم. وقرئ «لتذيقهم» بالتاء على إسناد الإذاقة إلى الريح أو إلى الأيام وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى أي أشد إهانة مما كان لهم في الدنيا وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) بدفع العذاب عنهم، وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى، أي وأما قوم صالح فبيّنا لهم طريق الخير والشر، فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. وقرأ الجمهور برفع «ثمود» ممنوعا من الصرف. وقرئ بالنصب بفعل يفسره ما بعده، وقرأه الأعمش وابن وثاب منونا في الحالين والرفع أفصح لوقوع ثمود بعد حرف الابتداء. وقرئ «ثمود» بضم الثاء، فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي داهية العذاب الذي يهينهم بشدته، بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) من اختيار الضلالة، وهي شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا من الفريقين وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) الأعمال التي أتى بها قوم عاد وثمود، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ، أي واذكر يا أشرف الخلق لقريش المعاندين لك حال الكفار في القيامة يوم يجمع بكره الكفار الأولون والآخرون إلى موقف الحساب والتعبير عنه بالنار الإعلام

[سورة فصلت (41) : الآيات 21 إلى 30]

بأنها آخر حشرهم، أو لأن حسابهم يكون على شفيرها ويحشر بالبناء للمفعول وأعداء بالرفع على قراءة الجمهور. وقرأ نافع «نحشر» بنون العظمة وضم الشين ونصب أعداء. وقرئ «ويحشر» بالبناء للفاعل ونصب أعداء. وقرئ بكسر الشين مع البناء للفاعل في الحالين، فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي حتى إذا حضروا موقف الحساب، شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) في الدنيا من فنون الكفر والمعاصي، بأن ينطقها الله تعالى كإنطاق اللسان فتشهد. وقال ابن عباس: المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ أي لأعضائهم أو لفروجهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وكنا نحابس عنكم بالجدال. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول من يتكلم من الآدمي فخده وكفه» . اه. وذلك لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ونهاية الأمر إنما تحصل بالفخذ قالُوا أي الجلود: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) ، أي أنطقنا الله الذي أنطق كل ناطق، وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم بواسطتنا من القبائح، وما كتمناها، فإن القادر على إنشائكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال ما كنتم في الدنيا وعلى إعادتكم بعد الموت أحياء قادر على إنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة فكيف يستبعد منه إنطاق الأعضاء؟ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) ، أي وما كنتم تستترون بنحو الحيطان في الدنيا عند الإقدام على الأفعال القبيحة مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، لأنكم غير عالمين بشهادتهم عليكم، ولأنكم منكرون للبعث والجزاء، ولكن استتاركم لأجل أنكم ظننتم أن الله لا يعلم الأعمال التي أقدمتم عليها من القبائح المخيفة فلا يظهرها في الآخرة، ولذلك اجترأتم على ما فعلتم وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ، فاسم الإشارة مبتدأ «وظنكم» خبر، والموصول نعت أو بدل و «أرداكم» حال، أي ذلكم الظن المذكور ظنكم الذي ظننتم بربكم مهلكا إياكم، ويجوز أن يكون ظنكم والموصول وجملة «أرداكم» إخبارا فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) ، أي فصرتم بسبب ذلك الظن المردي من الهالكين بالعقوبة. قال أهل التحقيق: الظن قسمان: حسن، وفاسد. فالظن الحسن: أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال صلّى الله عليه وسلّم حكاية عن الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي» . والظن الفاسد: أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة: الظن نوعان: ظن منج، وظن مرد. فالمنجي: هو المحكي بقوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: 20] والمردي هو المحكي بقوله تعالى: ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ. فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، أي فإن أمسكوا عن الاستغاثة لأجل فرج ينتظرونه لم

يجدوا ذلك الفرج وتكون النار محل إقامة أبدية لهم، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) أي وإن طلبوا الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه لم يعطوه ولم يجابوا إليه. وقرئ و «إن يستعتبوا» بصيغة المفعول، «فما هم من المعتبين» بصيغة اسم الفاعل، أي وإن يطلبوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون، إذ لا سبيل لهم إلى ذلك، وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي بعثنا لهم شركاء من الشياطين يلازمونهم، فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي فزينوا لهم أمر الآخرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جنة، ولا نار، وأمر الدنيا بأنها قديمة باقية لا تفنى، ولا صانع إلّا الطبائع والأفلاك. ويقال: فزينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة، وما تبقى من أعمالهم الخسيسة، وهو ما يزعمون أنهم يعملونه. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) أي وثبت عليهم كلمة العذاب حال كونهم كائنين في جملة أم من المتقدمين من الجن والإنس، لأنهم كانوا هالكين بالعقوبة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفار مكة أبو جهل وأصحابه عند قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ لأنه مقلب القلوب، وكل من استمع له صبا إليه، وَالْغَوْا فِيهِ أي تشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة، والكلمات الباطلة حتى تخلطوا على القارئ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) أي لكي تغلبوا محمدا على قراءته فيسكت، فهددهم الله بالعذاب الشديد بقوله: فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً في الدنيا بالحرمان وفنون الهوان، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) أي سيئات أعمالهم بحسب تفاوت السيئات في الإثم، ولا يجازيهم على محاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقري الأضياف، لأنها محبطة بالكفر، وفي هذا تهديد شديد لمن يصدر عنه عند سماعه ما يشوش على القارئ، ويخلط عليه القراءة، وتعريض بمن لا يكون عند كلام الله خاضعا خاشعا. ذلِكَ أي جزاء أقبح أعمالهم جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ أي جزاء معد لهم النَّارُ عطف بيان لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي لهم في دركات النار دار معينة، وهي دار العذاب المخلد لهم، جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) و «جزاء» منصوب ب «جزاء» ، فإن المصدر ينصب بمثله أي بسبب ما كانوا يلغون في قراءة آياتنا وإنما سمي اللغو جحودا، لأنهم علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به. فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون في عذاب النار: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا عن الحق مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي الشياطين ورؤساء الإنس. وقال علي بن أبي طالب: أي من إبليس وقابيل، لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل. وقرأ ابن كثير والسوسي، وابن عامر، وشعبة بسكون الراء من «أرنا» ، أي أعطناهما، واختلس الدوري كسر الراء، وشدد ابن كثير النون من الذين نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا، أي ندوسهما ليكونا وقاية بيننا وبين النار، فتخف عنا حرارتها نوع خفة، لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) أي ليكونا ممن هو أذل منا مكانا، وأشد منا عذابا كما جعلانا في الدنيا تحت أمرهما، إِنَّ

[سورة فصلت (41) : الآيات 31 إلى 40]

الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ قولا مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية، ثُمَّ اسْتَقامُوا أي ثبتوا على الأعمال الصالحة، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت في القبر وعند البعث بالبشرى: أَلَّا تَخافُوا و «أن» مفسرة، أو مخففة من الثقيلة، و «لا» ناهية، أي بأنه لا تخافوا على ما أمامكم، أو مصدرية و «لا» إما ناهية، أو نافية. وقرئ «لا تخافوا» على أنه حال من الملائكة، أي يقولون: لا تخافوا وَلا تَحْزَنُوا على ما تركتم من خلفكم، فالله تعالى أخبر أن الملائكة يخبرون في أول الأمر بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا فإن المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا، ولهذا قال الشاعر: فلا زال ما نهواه أقرب من غد ... ولا زال ما نخشاه أبعد من أمس وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ من ذلك الإخبار، يبشرون بحصول المنافع، لأن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة. وذلك قوله تعالى: وَأَبْشِرُوا أي املئوا صدوركم سرورا، بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) في الدنيا على ألسنة الرسل، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أي نحن أقرباء الأقرباء إليكم فنوقظكم من المنام، ونحملكم على الصلاة والصيام، ونبعدكم عن الآثام في الحياة الدنيا، وندفع عنكم المضرات، ونجلب لكم المسرات في الآخرة بالشفاعة حيث يتعادى الكفرة وقرناؤهم، وَلَكُمْ فِيها أي الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ، لأنكم منعتموها في الدنيا من الشهوات، وَلَكُمْ فِيها أي الآخرة ما تَدَّعُونَ (31) أي تطلبون، نُزُلًا حال من «ما تدعون» ، أي حال كون هذا رزقا مهيأ كما يهيأ للضيف مستقرا لكم مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) . قال العارفون: هذه الآية تدل على أن هذه الأشياء جارية مجرى المهيأ للضيف، والكريم جل وعلا إذا أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها، وتلك الخلع ليست إلا السعادات الحاصلة عند رؤيته تعالى، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي لا أحد أحسن من جهة القول ممن دعا إلى الطاعة الله وَعَمِلَ صالِحاً، أي والحال أنه قد عمل صالحا في نفسه، وللدعوة إلى الله مراتب: الأولى: دعوة الأنبياء بالمعجزات وبالحجج وبالسيف. والثانية: دعوة العلماء إلى الله تعالى بالبراهين، فهم نواب الأنبياء في العلم، أما الملوك فهم نواب الأنبياء في القدرة. الثالثة: دعوة المجاهدين إلى الله تعالى بالسيف. الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة فهم دعاة إلى طاعة الله تعالى. وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) أي ابتهاجا بأنه منهم فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة:

الأولى: الإقرار باللسان، وهو الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية. والثانية: الأعمال الصالحة بالجوارح. والثالثة: الاعتقاد الحق بالقلب وهاتان داخلتان في قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً. والرابعة: الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله تعالى والموصوف بهذه الخصال الأربعة أفضل الناس وهو سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ ابن أبي عبلة «إني» بنون واحدة. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ أي لا تستوي الدعوة إلى دين الحق والصبر على جهالة الكفار، ولا قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، ولا تسمعوا لهذا القرآن. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع جهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطرق، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) . و «إذا» التي هي للمفاجأة ظرف مكان لمعنى التشبيه والموصول مبتدأ، والجملة بعد خبره، و «إذا» معمولة لمعنى التشبيه، والظرف يتقدم على عامله المعنوي أي فالذي بينك وبينه عداوة مشبه في المحبة للصديق في الدين، القريب في النسب الذي لم تسبق منه عداوة إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، والمعنى: فإذا قابلت أفعال أعدائك القبيحة بالأفعال الحسنة ولم تقابل سفاهتهم بالغضب والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة. قيل: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلم وصار وليا مصافيا له صلّى الله عليه وسلّم: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي وما يعطى هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إلّا الذين شأنهم الصبر على تحمل المكاره، وتجرع الشدائد، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) أي وما يوفق على هذه الفعلة- أي التي هي دفع السيئة بالحسنة- إلّا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة أو من الخلق الحسن. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك ما أمرت به، بأن صرفك صارف عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن فاستجر بالله من شره يدفعه عنك، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) لقولك وأفعالك. وَمِنْ آياتِهِ الدالة على وجود الله وقدرته اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كل منها مخلوق له تعالى، مسخر لأمره تعالى، لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنهما عبدان مخلوقان مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ أي الأربعة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) أي إن كنتم تريدون بعبادة الشمس والقمر عبادة الله فلا تعبدوهما فإن عبادة الله في ترك عبادتهما فإن الذين يعبدونهما يقولون: نحن أذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى، ولكنا عبيد للشمس والقمر وهما عبدان لله. فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر، فدعهم وشأنهم فإن لله عبادا يعبدونه من الملائكة، أي والله لا يعدم عابدا له أبدا بل يكون من خلقه من يعبده على

[سورة فصلت (41) : الآيات 41 إلى 50]

الدوام. وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) أي لا يملّون عن عبادة الله تعالى ولا يفترون وموضع السجود عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. وهو قول ابن مسعود والحسن حكاه الرافعي عن أبي حنيفة، وأحمد لذكر السجود قبيله، وعند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب، وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة، لأن الكلام إنما يتم عنده، وعند الشافعي عند قوله تعالى: إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ لكن قال الشربيني والصحيح عند الشافعي عند قوله تعالى: لا يَسْأَمُونَ، وَمِنْ آياتِهِ الدالة على قدرته تعالى ووحدانيته. أَنَّكَ أيها الإنسان تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً أي منكسرة ميتة فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ أي تحركت بالنبات وَرَبَتْ أي انفتحت، ثم تصدعت عن النبات. وقرئ «ربأت» أي ارتفعت، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى أي إن القادر على احياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) أي أنه تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والحياة والقدرة والعقل إلى تلك الأجزاء المتفرقة، إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الحق في أدلتنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا في وقت من الأوقات. وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء. أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي الذين يميلون عن الاستقامة في آياتنا بالطعن والتأويل الباطل، فيلقون في النار خير أم الذين يؤمنون بآيتنا فيأتون آمنين من العذاب يوم القيامة؟ اعْمَلُوا يا أهل مكة ما شِئْتُمْ من الأعمال المؤدية إلى الإلقاء في النار والإتيان آمنا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فيجازيكم بحسب أعمالكم- وفي ذلك تهديد- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ لهم في الآخرة نار جهنم أو يجازون بكفرهم، وَإِنَّهُ أي القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) أي غالب عديم النظير، لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، ولأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ أي لا تكذبه الكتب المتقدمة عليه كالتوراة والإنجيل والزبور، وسائر الكتب. ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ في أمره حَمِيدٍ (42) في أفعاله ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ، أي ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة، إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين، وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) للمبطلين، ففوض هذا الأمر إلى الله تعالى، واشتغل بما أمرت به- وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى- وَلَوْ جَعَلْناهُ أي هذا الذكر قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا أي كفار مكة: لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي لولا بيّنت آياته بلسان نفهمه؟ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي. والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا: قلوبنا في أكنة تدعونا إليه، أي من هذا الكلام. وفي آذاننا وقر منه لا نفهمه، ولا نحيط

بمعناه، ولما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب وأنتم من أهل هذه اللغة فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها. وقرئ «أعجمي» على الأخيار بأن القرآن أعجمي، والمتكلم والمخاطب عربي، ويجوز أن يراد: هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب. قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً، لأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وَشِفاءٌ لأنه إذا أمكنهم الاهتداء فقد حصل لهم الهدى، فذلك الهدى شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، أي والذين لا يؤمنون هو حال كونه كائنا في آذانهم صمم ف «وقر» خبر للضمير المقدر، والجملة خبر الموصول، وفي آذانهم متعلق بمحذوف، وقع حالا من «وقر» ، وَهُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى. قرأ الجمهور على صيغة المصدر. وقرأ ابن عباس «عم» على صيغة النعت. أُولئِكَ الموصوفون بالصمم عن الحق والعمى عن الآيات الظاهرة يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) ، أي هم مثل البهيمة التي لا تفهم إلا نداء. وقيل: هم كمن ينادون من مكان بعيد لم يسمعوا، وإن سمعوا لم يفهموا. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ فقبله بعضهم ورده الآخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم، وهم أصحابك، ورده آخرون، وهم الذين يقولون: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي لولا عدة سبقت بتأخير العذاب في حق أمتك المكذبة إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أي بين المكذبين والمصدقين بالعذاب الواقع بالمكذبين في الدنيا، وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، أي من كتابك مُرِيبٍ (45) ، أي موقع في شك ظاهر فلا ينبغي أن يستعظم استيحاشك من قولهم: قلوبنا في أكنة ما تدعونا إليه. مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها، أي خفف يا أكرم الرسل على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) وهو يوصل إلى كل أحد ما يليق بعلمه من الجزاء في يوم القيامة، إِلَيْهِ أي إلى ربك يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلّا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلّا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله تعالى، ثم ذكر الله تعالى من أمثلة هذا الباب مثالين بقوله: وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي أوعيتها، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حملها إِلَّا بِعِلْمِهِ أي إلا ملابسا بعلمه المحيط، أما أصحاب الكشف فهو من إلهام الله تعالى، وأما أصحاب علم الرمل وعلم التعبير فلا يمكنهم الجزم في شيء من المطالب ألبتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف، وما نافية، ومن في ثمرات، وفي أنثى زائدة للاستغراق. وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم «من ثمرات» بالجمع. والباقون «من ثمرة» بالإفراد. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي يوم ينادي الله المشركين أَيْنَ شُرَكائِي بحسب اعتقادكم؟

[سورة فصلت (41) : الآيات 51 إلى 54]

قالُوا أي يقولون متبرئين من إثبات الشريك لله تعالى: آذَنَّاكَ أي أخبرناك وأسمعناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) أي ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وظهر لهم عدم نفعها حالتئذ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) ، أي أيقنوا أنه ليس لهم مهرب من النار لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ، أي من طلب السعة في أسباب المعيشة، وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) أي أصابته ضيقة فهو مبالغ في قطع الرجاء من فضل الله، ومن رحمته حتى تظهر آثاره في الأحوال الظاهرة. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ أي الإنسان رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي من بعد شدة أصابته، لَيَقُولَنَّ هذا لِي، أي هذه الخيرات إنما حصلت لي بسبب استحقاقي لما حصل عندي من الفضائل وأعمال القربة من الله، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي أن الإنسان يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول: وما أظن الساعة تقوم. وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ أي في الآخرة لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة وقوله: إِنَّ لِي إلخ جواب القسم لسبقه الشرط، فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي فلنظهرن لهم أن الأمر على عكس ما تصوروه، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) أي شديد وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وَنَأى بِجانِبِهِ، أي تباعد عن الشكر بكليته تعظما، وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه فقر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) ، أي أقبل على دوام الدعاء، وأخذ في التضرع قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) أي قل لهم يا أشرف الخلق: أخبروني إن كان هذا القرآن من الله، ثم كفرتم به من أضل منكم، فإن حالكم في معاداة شديدة مع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه، وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ أي سنرى أهل مكة علامات وحدانيتنا وقدرتنا في أطراف الأرض من خراب مساكن الأمم الماضية، كعاد وثمود، وسنريهم ذلك في أنفسهم من الأمراض والمصائب وغير ذلك. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ أي أن هذا القرآن هو الحق المنزل من الله، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) و «بربك» فاعل، والباء مزيدة، و «أنه» بدل منه، أي أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، ولم يغنهم أخباره للأمم الماضية أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي إن أهل مكة في شك عظيم من البعث والقيامة، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) أي إن الله عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

سورة الشورى

سورة الشورى وتسمى سورة حم عسق، وسورة حم سق، مكية ثلاث وخمسون آية، ثمانمائة وست وثمانون كلمة، ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا حم (1) عسق (2) اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق» ، وهما خبران لمبتدأ محذوف. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) أي مثل ما في السورة من المعاني أوحى الله القادر على ما لا نهاية له، العالم بجميع المعلومات الغني عن جميع الحاجات إليك في سائر السور وإلى من قبلك من الرسل في كتبهم. وقرأ ابن كثير «يوحي» بالبناء للمفعول. ويروى أيضا عن أبي عمرو على أن «كذلك» مبتدأ و «يوحي» خبره المسند إلى ضمير عائد عليه واسم الجلالة مرفوع بما دل عليه «يوحي» ، أي الموحي الله. وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان «نوحي» بنون العظمة، فاسم الجلالة مبتدأ، وعلى هاتين القراءتين فالوقف على من قبلك كاف بخلاف قراءة الجمهور فلا يوقف عليه، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكل من كان موجودا في السموات فهو عبد الله، فوجب أن يكون الله منزها عن الكون في المكان والجهة، والعرش والكرسي، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) أي هو المتعالي عن مشابهة الممكنات، ومناسبة المحدثات، العظيم بالقدرة وكمال الإلهية فهو تعالى أعلى كل شيء وأعظم كل شيء، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يتشققن من هيبة الله تعالى وعظمته، ويبتدئ التشقق من جهتهن الفوقانية. قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بنون ساكنة بعد الياء، وابن كثير وابن عامر وحمزة، وحفص عن عاصم «تكاد» بالتاء «يتفطرن» بالتاء المفتوحة بعد الياء، ونافع والكسائي «يكاد يتفطرن» بالتاء، ومن قرأ «تكاد» بالتاء الفوقية يجوز الوجهين في ينفطرن، ومن قرأ «يكاد» بالياء التحتية لا يقرأ «يتفطرن» إلا بالتاء الفوقية. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي والملائكة ينزهون الله تعالى عمّا لا ينبغي ملتبسين بوصفه تعالى بكونه مفيضا لكل الخيرات، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يطلبون تجاوز الذنوب عن المؤمنين وتأخير العقوبة عن

[سورة الشورى (42) : الآيات 11 إلى 20]

الكافرين والفاسقين طمعا في إيمانهم وتوبتهم، ويطلبون الرزق لهم وحيث لم يذكر الله تعالى عن الملائكة استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرأون عن كل الذنوب أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) فإن الله تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها، ويزيدهم على ما طلبوه رحمة كاملة، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي أربابا يعبدونهم من الأصنام اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ أي رقيب على أعمالهم فيجازيهم عليها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) ، أي ما أنت يا أشرف الرسل بموكول إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان إنما أنت منذر فقط، وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها أي كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لأهل أم القرى، ولمن حولها من سائر الناس، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم القيامة فيجتمع فيه أهل السموات مع أهل الأرض لا رَيْبَ فِيهِ والوقف هنا كاف فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) أي بعد جمعهم في الموقف، ف «فريق» مبتدأ خبره الظرف بعده. وقرئ بالنصب على الحالية وتنذر يوم جمعهم متفرقين في داري الثواب والعقاب. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ في الدنيا أُمَّةً واحِدَةً أي على دين واحد وهو إما الإسلام أو الكفر، ولكن الله جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا، وهو معنى قوله تعالى: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي يدخل الله في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، ويدخل في عذابه من يشاء أن يدخله فيه، وَالظَّالِمُونَ أي الكافرون ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ أي قريب ينفعهم، وَلا نَصِيرٍ (8) أي مانع يمنعهم من عذاب الله تعالى، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي بل اتخذوا متجاوزين الله أولياء من الأصنام وغيرها، هيهات فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي إن أرادوا وليا بحق، فالله هو الولي بحق لا ولي سواه، لأنه يحيي الموتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) فهو حقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم، فَحُكْمُهُ راجع إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي أي ذلكم الحاكم بينكم هو الله مالكي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في دفع كيد الأعداء، وفي طلب كل خير، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) أي وإليه تعالى أرجع في كل المهمات لا إلى أحد سواه فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بالرفع خبر خامس ل «ذلكم» ، أو مبتدأ خبره ما بعده. وقرئ بالجر على أنه بدل من الضمير، أو وصف لاسم الجلالة المجرور ب «إلى» . جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم من الناس أَزْواجاً أي نساء وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وجعل للأنعام من جنسها أصنافا، ذكرا وأنثى يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ، أي يكثركم بسبب هذا الجعل، لأن الناس والأنعام يتوالدون به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، أي ليس كذاته تعالى ذوات، وليس كصفاته تعالى صفات، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) للمسموعات والمرئيات، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له تعالى مفاتيح الرزق من السموات والأرض، وهي الأمطار والنباتات يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ

وَيَقْدِرُ أي يوسعه لمن يشاء ويقتر، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، أي اختار الله لكم يا أمة محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا، وإبراهيم وموسى وعيسى، فهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة، و «أن» تفسيرية بمعنى أي، أو مصدرية في محل نصب بدل من الموصول، أو في محل جر بدل من «الدين» ، أو في محل رفع خبر مبتدأ مضمر تقديره هو أن أقيموا دين الإسلام، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ أي لا تختلفوا في أصل الدين الذي لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد والصلاة، والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح العمل، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل والزنا والإذاية للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدنا آت، وما يعود بخرم المروعات، فهذا كله لم يختلف على ألسنة الأنبياء، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي شق عليهم ما تدعوهم إليه من إقامة دين الله تعالى، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ أي الله يقرب إلى ما تدعوهم إليه من يشاء وهو من ولد في الإسلام ويميت عليه وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) أي ويرشد إليه من يميل إليه من أهل الكفر، وَما تَفَرَّقُوا أي المشركون في الدين الذي دعوا إليه، إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقته بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم، وطلبا للرئاسة، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أي ولولا عدة ثبتت في الأزل من ربك بتأخير عذاب هذه الأمة إلى وقت معلوم- وهو يوم القيامة- لأوقع القضاء بينهم من هلاكهم بالاستئصال في الدنيا، وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) أي وإن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين أعطوا كتابهم، الذي هو التوراة والإنجيل من بعد المختلفين في الحق لفي الشك من كتابهم موقع في قلق النفس، لا يؤمنون به حق الإيمان، فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي فلأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع الناس كافة إلى الاتفاق على الملّة الإسلامية، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله تعالى ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي وقل يا أكرم الرسل: آمنت بما أنزل الله على الأنبياء من كتاب صح أن الله أنزله، وهو الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي وأمرت بأن أعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، وأسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله تعالى، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) أي إن إله الكل واحد وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، لا خصومة بيننا وبينكم في الدين، لأن الحق قد ظهر ولم يبق للمخاصمة مجال، ولا للمخالفة محل سوى العناد، وبعده لا جدال، فإن الله يجمع

بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله، لأن مرجع الكل إليه تعالى فيظهر هناك حالنا وحالكم، وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي والذين يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين ودخلوا فيه حجتهم باطلة عند ربهم، وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا: ألستم تقولون: إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فنبوة موسى وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد ليست متفقا عليها فحينئذ وجب الأخذ باليهودية، فبيّن الله تعالى أن هذه الحجة فاسدة، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام، لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله عليه السلام، وقد ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلّى الله عليه وسلّم، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على صدق صاحبها وجب الاعتراف بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان لا يدل على صدقه وجب أن لا يقروا بنبوة موسى عليه السلام، والإقرار بنبوة موسى مع الإنكار بنبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزات باطل، لأنه متناقض وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمكابرتهم الحق بعد ظهوره، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) في الآخرة اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي القرآن وسائر الكتب المنزلة قبلك بِالْحَقِّ، أي بالصدق وَالْمِيزانَ، أي الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوى بين الناس، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) أي أيّ شيء يجعلك عالما بأن الساعة التي يخبر بمجيئها الكتاب شيء قريب، فوجب على العاقل أن يجتهد في النظر ويترك طريقة أهل التقليد، ولمّا كان الرسول يهددهم بنزول القيامة قالوا على سبيل السخرية: متى تقوم القيامة، وليتها قامت، فيظهر لنا أن الحق ما نحن عليه، أو ما عليه محمد وأصحابه، فدفع الله ذلك فقال: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون من قيامها وأهوالها لعلمهم أن التوبة تمتنع عندها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أي الكائنة بلا شك أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) أي إن الّذين يدخلهم الشك في وقوع الساعة فيجادلون فيها لفي ضلال بعيد عن الصواب، لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل، فلو لم يحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا محال. فكان إنكار القيامة ضلالا بعيدا، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ أي كثير الإحسان بهم بالحياة والعقل ودفع أكثر البليات عنهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، وتأخير العذاب عمن يستحقون العذاب، يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كيفما يشاء وَهُوَ الْقَوِيُّ أي القادر على ما يشاء، الْعَزِيزُ (19) أي الذي لا يغالب فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده، مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة، نزد له ثوابه بالتضعيف إلى ما نشاء، ونزد له في تسهيل سبيل الطاعات، ونعطه من الدنيا ما كتبناه له، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أي ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا نعطه بعض ما يطلبه حسب ما قسمنا له، وما له

[سورة الشورى (42) : الآيات 21 إلى 30]

في الآخرة ثواب، لأنه عمل للدنيا، أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي: الكفار مكة شياطينهم الذين زينوا لهم ما لم يأمر الله تعالى من الشرك، وإنكار البعث، والعمل للدنيا؟! فإنها على ضد دين الله، وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافر والمؤمنين في الدنيا، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الذين اختاروا ما لم يأذن به الله لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) . وقرأ بعضهم «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كلمة الفصل، أي ولولا الوعد بأن الفصل بينهم يكون يوم القيامة، وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، تَرَى الظَّالِمِينَ يوم القيامة مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا أي خائفين خوفا شديدا من جزاء ما عملوا في الدنيا من السيئات، وَهُوَ جزاؤه واقِعٌ بِهِمْ يوم القيامة فلا ينفعهم الحذر، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاع الجنات، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل عند ربهم، فإن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة، ذلِكَ أي جزاء الإيمان والعمل الصالح هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ، أي فإن الثواب غير واجب على الله وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق، ذلِكَ أي الفضل الكبير الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ في الدنيا عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. قرأ نافع وابن عامر، وعاصم بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين والباقون بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي قل يا أشرف الخلق لأهل مكة: لا أسألكم أجرا قط على التبليغ ببشارة ونذارة، ولكن أسألكم المودة متمكنة في أهل القرابة، وحب آل محمد واجب. قال الشافعي رضي الله عنه: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كما نظم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً أي ومن يكتب أي حسنة كانت- كالمودة للقربى- نزد له في تلك الحسنة تضعيف ثوابها. وقرئ «يزد» بالياء أي يزد الله. وقرئ «حسنى» . إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أي أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي التفضل عليهم بزيادة أنواع كثيرة على ذلك الثواب. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي بل يقولون: اختلق محمد على الله كذبا بدعوى النبوة، وتلاوة القرآن، فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال الله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، أي لو كان القرآن افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك، وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه، ولم تنطق بحرف من حروفه، وحيث تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله، ومن عادة الله ابطال الباطل

وتقرير الحق بوحيه فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) فيجري عليها أحكامها اللائقة بها من المحو والإثبات، وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ. وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، فتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة، فقال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب: الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء، بدل كل ضحك ضحكته ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، فتارة يعفو عن الذنوب بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) من خير وشر، فيجازي التائب ويتجاوز عن غير التائب. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على المخاطبة. والباقون بالياء على المغايبة. وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يجيب الله دعاءهم وَيَزِيدُهُمْ على ما طلبوه بالدعاء مِنْ فَضْلِهِ. وقال عطاء عن ابن عباس والمعنى: ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلا منه. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) بدل ما للمؤمنين من الثواب، والفضل المزيد. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي ولو سوى الله الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض، ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم، وتعطّلت المصالح. وقال ابن عباس: ولو وسع الله المال على عباده لطلبوا منزلة بعد منزلة، ودابة بعد دابة، ومركبا بعد مركب، وملبسا بعد ملبس، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي بتقدير ما يَشاءُ أن ينزله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) أي إنه عالم بأحوال الناس وبعواقب أمورهم، فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر الذي يغيثهم من الجدب مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أي من بعد يأسهم من نزوله. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ينزل» بتشديد الزاي. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسر نون «قنطوا» . وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وما يحصل به من الخصب، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) أي وهو الّذي يتولى عباده بإحسانه، المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة، وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ، و «ما» معطوف على «السموات» ، أي وخلق ما نشر الله فيهما من حي. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) أي وهو تعالى على جمع العقلاء للمحاسبة في أي وقت يشاء قدير، وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فهي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، ف «ما» متضمنة لمعنى الشرط، ولذلك جاءت الفاء في جوابها. وقرأ نافع وابن عامر «بما كسبت» بغير فاء، ف «ما» بمعنى الذي، و «بما كسبت» خبره. والمعنى: والّذي

[سورة الشورى (42) : الآيات 31 إلى 40]

أصابكم من الأحوال المكروهة وقع بما كسبت أيديكم، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) من الذنوب فإن الذنوب قسمان: قسم يعجل العقوبة عليه في الدنيا بالمصائب، وقسم يعفو عنه وهو أكثر. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بفائتين ما قضي عليكم من المصائب، وإن هربتم من أقطارها كل مهرب، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحميكم منها وَلا نَصِيرٍ (31) يدفعها عنكم، وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) أي كالجبال. وقرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا، وابن كثير وهشام بها وقفا. والباقون بحذفها للتخفيف. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها السفن. وقرأ نافع وحده «الرياح» على الجمع. فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي يصرن ثوابت على ظهر البحر، أي غير جاريات، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) فإن كان المؤمن في البلاء كان من الصابرين، وإن كان في النعماء كان من الشاكرين، فلا يكون من الغافلين عن دلائل معرفة الله ألبتة، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا. والمعنى: أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين إما أن يسكن الريح فتقف الجواري على متن البحر، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق بمعصيتهم وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) أي إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. وقرأ الأخفش «ويعفو» بالواو. وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار «أن» بعد الواو، وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) . وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف. والباقون بالنصب عطف على علة مقدرة تقديره: لينتقم منهم وليعلم إلخ. وقرئ بالجزم عطفا على «يعف» فيكون المعنى: وإن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم، وإنجاء قوم، وتحذير قوم، وعلى هذا فلا يوقف على كثير بخلاف القراءتين الأوليين، فالوقف عليه تام، فمعنى الآية: وليعلم الّذين ينازعون في آياتنا على وجه التكذيب أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلّا الله، فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فما أعطيتم مما تتنافسون فيه من أثاث فهو ما تتمتعون به مدة حياتكم وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب خَيْرٌ ما عندكم وَأَبْقى زمانا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) . وعن علي رضي الله: أنه تصدّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع من المسلمين فنزلت هذه الآية. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ كالغيبة والنميمة، وَالْفَواحِشَ كالقتل والزنا والسرقة. وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد والموصول معطوف على الذين آمنوا، وكذا ما بعده، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) . «وإذا» منصوبة ب «يغفرون» ، و «يغفرون» خبر ل «هم» ، والجملة بأسرها عطف على «يجتنبون» ، والتقدير: والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ أي أجابوا لربهم بالتوحيد والطاعة وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي أدوا

[سورة الشورى (42) : الآيات 41 إلى 50]

الصلوات الخمس بشروطها وهيئاتها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، أي إذا أرادوا أمرا تشاوروا فيما بينهم فيه، ثم عملوا به ولا يعجلون في أمورهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ، أي أعطيناهم من المال يُنْفِقُونَ (38) أي في سبيل الخير وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ أي المظلمة هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) ، أي ينصفون بالقصاص لا بالمكابرة، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أي جزاء جناية مثل تلك الجناية فَمَنْ عَفا عن المسيء إليه، وَأَصْلَحَ بينه وبين خصمه بترك المكافأة فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) أي البادئين بالسيئة، والمتعدين في الانتقام. واعلم أن العفو على قسمين: أحدهما: أن يصير العفو سببا لتسكين الفتنة ولرجوعه عن جنايته، فآيات العفو محمولة على هذا القسم. وثانيهما: أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غضبه، فآية الانتقام محمولة على هذا. وَلَمَنِ انْتَصَرَ أي سعى في نصر نفسه بطاقته وانتصف بالقصاص بَعْدَ ظُلْمِهِ أي بعد ظلم الظالم إياه. وقرئ «بعد ما ظلم» . فَأُولئِكَ أي المنتصرون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) أي من مأثم وعقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ أي المأثم عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أي يبدءون بالظلم أو يجاوزون في الانتقام، وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون في الأرض بلا حق، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) بسبب ظلمهم وتطاولهم، وَلَمَنْ صَبَرَ على الأذى بأن لا يقتص، وَغَفَرَ لمن ظلمه وفوض أمره إلى الله تعالى، إِنَّ ذلِكَ، أي الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) أي من مطلوبات الله تعالى في الأمور. قيل: نزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ إلى قوله تعالى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ في شأن أبي بكر الصدّيق وعمرو بن غزية الأنصاري في تنازع بينهما، فشتم الأنصاري أبا بكر الصديق، فأنزل الله تعالى في شأنهما هذه الآيات. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي من أضله الله تعالى عن هذه الأشياء فليس له من هاد يهديه من بعد إضلال الله إياه، وَتَرَى الظَّالِمِينَ أي المشركين يوم القيامة لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين يرونه يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) ، أي هل إلى رجوع إلى الدنيا من حيلة، وَتَراهُمْ في ذلك اليوم يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي النار والخطاب في الموضعين لكل من تتأتى منه الرؤية خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ، أي حال كونهم حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم، ضعيف كما ينظر المقتول إلى السيف. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا على سبيل التعبير للكافرين: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باستغراقها في العذاب وَأَهْلِيهِمْ بمفارقتهم لهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل «قال» ، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، أي يقولون يوم القيامة- إذا رأوهم على تلك

[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]

الصفة-: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ أي المشركين فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) ، أي دائم- وهذا من كلام الله تصديقا للمؤمنين، أو من تمام كلامهم- وَما كانَ لَهُمْ أي المشركين مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن دينه فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) أي دين اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إذ دعاكم إلى الإيمان على لسان نبيه، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ وقوله: مِنَ اللَّهِ إما صلة للأمر أي لا يرده الله بعد ما حكم به وإما صلة ليأتي أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ ينفع في التخلص من العذاب يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم، وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الأعمال، لأنه مدون في صحائف أعمالكم وتشهد عليكم جوارحكم، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً، أي فإن لم يقبل هؤلاء هذا الأمر فإنا لم نرسلك لتقهرهم على امتثال ما أرسلناك به، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ لما أرسلناك به وقد فعلت، وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة من الصحة والغنى والأمن، فَرِحَ بِها وأعجب بها غير شاكر لها، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي بلاء من مرض وفقر وخوف بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما عملوه من المعاصي فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) أي فيظهر منه الكفر ونسيان النعمة، وذكر البلية من غير تأمل لسببها لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيتصرف فيهما وما فيهما كيفما يشاء ويقسم النعمة والبلية حسبما يريده، يَخْلُقُ ما يَشاءُ كيف يشاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً من الأولاد وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) منهم، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي يخلطهم ذكرانا وإناثا، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي بلا ولد، إِنَّهُ عَلِيمٌ بما خلق قَدِيرٌ (50) على ما يشاء أن يخلقه وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ، أي وما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلّا على أحد ثلاثة أوجه: إما أن الله يلهمه في قلبه لا بواسطة شخص آخر ولا بسمع عين كلام الله كما في أم موسى، وكما في رؤية إبراهيم عليه السلام في المنام بذبح ولده. وإما أن الله يوصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه يسمع عين كلام الله من غير رؤية ذاته تعالى، كما وقع لموسى عليه السلام. وإما أن الله يوصل إليه الوحي بواسطة شخص آخر وهو جبريل. وهذا هو الّذي يجري بينه وبين الأنبياء في أكثر الأوقات من الكلام. روي أن اليهود قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن حتى تفعل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت هذه الآية. وقرأ نافع برفع «يرسل» بإضمار المبتدأ أي، أو هو يرسل، أو بالعطف على ما يتعلق به من وراء إذ التقدير، أو بسمع من وراء حجاب و «وحيا» في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل، والتقدير: إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسل رسول، وكذلك «فيوحي»

فسكنت ياؤه، وأما على قراءة الجمهور بنصب «يرسل» و «يوحي» فهو معطوف على المضمر الذي يتعلق به «من وراء حجاب» ، هذا الفعل المقدر على «وحيا» ، والمعنى: إلا بوحي أو إسماع للكلام من وراء حجاب أو إرسال رسول. ويقال: التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي إليه وحيا، أو يسمع إسماعا من وراء حجاب، أو يرسل رسولا إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ (51) يجري أفعاله على موجب الحكمة، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام. وثانيا بإسماع الكلام. وثالثا: بتوسيط الملائكة الكرام. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإيحاء أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا أي حال كون الروح وهو القرآن بعض ما نوحيه إليك، لأن الموحى إليه لا ينحصر في القرآن وسمي القرآن روحا، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل والكفر. ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ أي أي شيء هو القرآن والإيمان بتفصيل ما في القرآن من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول، وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح الذي أوحينا إليك نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا، وهو الذي يصرف اختياره إلى جهة الاهتداء به، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي بذلك النور من تشاء هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، أي دين حق. وقرئ «التهدي» بالبناء للمفعول أي ليهديك الله. وقرئ «لتدعو» . صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي فالذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) أي أمور الخلائق في الآخرة فلا حاكم سواه، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية، تسع وثمانون آية، ثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) أي والكتاب المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة، الموضح لكل ما يحتاج إليه في أبواب الديانة. إِنَّا جَعَلْناهُ أي إنا صيّرنا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا أي بلغة العرب، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) أي لكي تفهموه وتعرفوا حق النعمة في ذلك، وَإِنَّهُ أي الكتاب فِي أُمِّ الْكِتابِ أي مثبت في أصل الكتب السماوية، وهو اللوح المحفوظ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر همزة «أم الكتاب» . لَدَيْنا أي محفوظ عندنا من التغيير لَعَلِيٌّ أي رفيع الشأن حَكِيمٌ (4) أي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أي أنترككم فنبعد عنكم المواعظ إبعادا، وهذا استفهام على سبيل الإنكار أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) ، وقرأ حمزة والكسائي ونافع بكسر الهمزة على أنها شرطية لقصد تجهيل المخاطب، والباقون بالفتح على التعليل أي إنا لا نترك هذا الإنذار بسبب كونكم منهمكين في الإسراف، وهذا الكلام يحتمل الرحمة والمبالغة في التغليظ، فالمعنى على الأول: إنا لا نترككم مع سوء اختياركم، بل نذكركم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق، وعلى الثاني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون؟ كلا، بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح. قال قتادة: لو أن هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ قبلك يا أكرم الرسل فِي الْأَوَّلِينَ (6) أي في الأمم الماضية وَما يَأْتِيهِمْ أي والحال أنه ما يأتي الأولين يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) أي أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب لأن المصيبة إذا عمّت خفت، فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنّا أهلكنا أشد قوة من أهل مكة الذين يستهزئون بك، وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) أي سبق في القرآن مرارا ذكر صفة الأولين في

[سورة الزخرف (43) : الآيات 11 إلى 20]

الإهلاك، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) فهم مقرون بأن خالقهن وما فيهن هو الله ذو العزة في سلطانه، والعلم في تدبيره، ومع هذا الإقرار يعبدون معه تعالى غيره وينكرون قدرته على البعث. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا ثابتة ولو شاء لجعلها متحركة، فلا يمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية. وقرأ الكوفيون مهدا والباقون مهادا وهذا الموصول ابتداء الكلام من الله تعالى دالا على نفسه بذكر مصنوعاته أي هو الذي إلخ. وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها أي الأرض سُبُلًا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، ولتهتدوا بالتفكير فيها إلى التوحيد والدين الحق وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم، لا كما أنزل على قوم نوح حتى أغرقهم فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي فأحيينا بذلك الماء مكانا خاليا من النبات. كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) أي مثل إخراج النبات من الأرض تخرجون من قبوركم أحياء فهذا الدليل كما يدل على قدرته تعالى وحكمته، فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي أصناف المخلوقات كُلَّها وقيل كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت، واليمين واليسار، والقدّام والخلف، والماضي والمستقبل، والذوات والصفات، والصيف والشتاء، والربيع والخريف، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ أي الإبل ما تَرْكَبُونَ (12) أي ما تركبونه لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي لتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ أي ركبتم عَلَيْهِ بأن تعرفوا أن الله تعالى خلق البحر، والرياح، والسفن، والإبل، وتعرفوا أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى، وتشتغلوا بالشكر للنعم التي لا نهاية لها، وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) أي ليس لنا من القوة أن نضبط هذه الدابة والفلك، وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) أي راجعون من الدنيا إلى دار البقاء كما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله تعالى: لَمُنْقَلِبُونَ» . وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما رأى رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال له: ما بهذا أمرت. أمرت أن تقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا سافر وركب راحلته كبر ثلاثا، ثم يقول: «سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» ثم قال: «اللهم إني أسألك في سفري البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا السفر وأطوعنا بعد الأرض اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة على

الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا» . وكان إذا رجع إلى أهله يقول: «آئبون تائبون لربنا حامدون» «1» . وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي أثبتوا أي بنو مليح له تعالى ولدا هو عبد من عباده إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أي لمبالغ في الكفر ظاهر الكفر أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) أي بل اتخذ من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما، وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أي وإذا أخبر أحد بني مليح بالبنت التي جعلها للرحمن شبها صار وجهه أسود من أحزان ما أخبر به، والحال أنه مغموم. أفيرضون لله ما لا يرضون لأنفسهم؟ وقرئ «مسود» و «مسواد» واسم «ظل» إما ضمير يعود إلى أحد وجملة وجهه مسود من المبتدأ والخبر، خبرها وإما وجهه فسمود خبر مبتدأ مقدر أي هو مسود فتقع هذه الجملة موقع خبر ظل. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) أي أو جعلوا من عاداتها أن تربى في الزينة من الذهب والفضة ولدا لله، فالتي تتربى في الزينة تكون ناقصة الذات إذ لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت في تكميل نفسها إلى الزينة، والحال أنها إذا احتاجت إلى المخاصمة عجزت عن إقامة الحجة لضعف لسانها، وقلة عقلها، وبلادة طبعها، وهي النساء، فكيف يليق أن يكن بنات الله تعالى؟ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بضم الياء وفتح النون والباقون بفتح الياء وسكون النون. وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي حكموا بأن الملائكة أكرم العباد على الله أنقصهم رأيا وأخسهم صنفا، فالقول بأن الملائكة إناث كفر. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر «عند الرحمن» أي وحكموا بأن الملائكة الذين يكونون عند الرحمن لا عند هؤلاء الكفار إناث فكيف عرفوا كونهم إناثا؟ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم، فشاهدوهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم. وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزتين مفتوحة ومضمومة وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفا أي أأحضروا خلقهم. أي حين خلقهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ في ديوان أعمالهم وهي قولهم: «إن لله جزءا وان له بنات وإنها الملائكة. وَيُسْئَلُونَ (19) عنها يوم القيامة، وَقالُوا أي بنو مليح لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي لو شاء الله عدم عبادتنا للملائكة مشيئة ارتضاء ما عبدناهم فما فعلناه من عبادتنا إياهم حق مرضي عنده تعالى، ما لَهُمْ بِذلِكَ أي القول

_ (1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: ما يقول الرجل إذا سافر، وأحمد في (م 1/ ص 115) .

[سورة الزخرف (43) : الآيات 21 إلى 30]

مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أي ما هم إلا يكذبون في ذلك القول، وهو قولهم: الملائكة بنات الله، وأن الله قد شاء منا عبادتنا إياهم بمشيئة الارتضاء أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) أي هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يتمسكوا به، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) أي لم يأتوا بحجة عقلية، أو نقلية، بل اعترفوا بتقليد آبائهم الجهلة، وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على حالة عظيمة تقصد، وإنا مهتدون على أعمالهم وَكَذلِكَ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة وتمسكهم بالتقليد. ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي ما أرسلنا نبيا مخوفا من قبلك إلى أهل قرية إلا قال من يحبون الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق قولا مثل قول قومك: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على طريقة تستحق أن تقصد، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ أي أعمالهم مُقْتَدُونَ (23) قل: يا أشرف الرسل لقومك، قال أبو السعود صيغة الأمر أمر ماض متعلق بالنذير السابق، حكاه الله لنبيه على تقدير «فقلنا له قل» لا أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويدل على ذلك أنه قرأ ابن عامر وحفص «قال» بصيغة الماضي أي قال كل نذير لأممهم: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدين أوضح في الدلالة من دين آبائكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) أي قال: إنّا كل أمة لنذيرها ثابتون على دين آبائنا وان جئتنا بما هو أصوب، فإنّا بما أرسلت به منكرون وإن كان ما جئتنا به أوضح مما كنا عليه. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) بالرسل من الأمم الماضية فلا تكترث بتكذيب قومك، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أي أنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي خلقني، وبراء مصدر، نعت به مبالغة وقرأ الزعفراني، وابن المنادي بضم الباء، وقرأ الأعمش إني بريء بنون واحدة وبصيغة اسم الفاعل. فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) أي يثبتني على الهداية، والسين للتأكيد، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها كلمة باقية في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده، فقوله عليه السلام: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ جار مجرى لا إله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جار مجرى إلّا الله، فكان مجموع قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي جاريا مجرى قوله: لا إله إلّا الله، وعلى هذا لا يوقف على قوله: مِمَّا تَعْبُدُونَ وقرئ «كلمة» و «في عقبه» بسكون اللام وسكون القاف. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم، بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي بل متعت منهم أهل مكة، وَآباءَهُمْ بطول العمر وسعة الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ أي القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) أي ظاهر الرسالة يوضحها بما معه من الآيات والمعجزات فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولذا قال تعالى: وَلَمَّا

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 إلى 40]

جاءَهُمُ الْحَقُ أي القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ أي خيال وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) فكفروا بالقرآن واستحقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين مكة، والطائف عَظِيمٍ (31) في المال والجاه فالذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي نبوة ربك لمن شاءوا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الرزق دَرَجاتٍ أي متفاوتة لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي نحن أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة، والضعف، والعلم، والجهل، والحذاقة، والبلاهة، والشهرة، والخمول فلو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحدا، وحينئذ يفضى ذلك إلى فساد نظام الدنيا، وخراب العالم، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا في أحوال الدنيا مع دناءتها فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا في تخصيص بعض العباد بمنصب النبوة، فكما فضلنا بعضهم كما شئنا كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ من النبوة وسعادة الدارين خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) من الأموال، فالعظيم من حاز النبوة لا من حاز الأموال الكثيرة وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر- إذا رأوا أهل الكفر في سعة من الرزق لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه- لأعطينا الكافرين أكثر الأسباب المفيدة للتنعم ولجعلنا سقف بيوتهم من فضة، ومصاعد من فضة يرتقون عليها، وأبواب بيوتهم من فضة، وسررا من فضة ينامون عليها وَزُخْرُفاً أي زينة من كل شيء في كل شيء، وهو معطوف على «سقفنا» ، ويجوز أن يكون معطوفا على محل فضة، أي جعلنا بعض هذه الأشياء فضة، وبعضها ذهبا. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «سقفنا» بفتح السين وسكون القاف، والباقون بضمهما، وقرئ معاريج وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة «لما» بتشديد الميم، فهو بمعنى إلا و «إن» نافية كما في قراءة أبي وما ذلك أي وما كل ما ذكر إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا، والباقون بالتخفيف ف «ما» زائدة و «إن» مخففة من الثقيلة، واللام فارقة أي وأنه كل ذلك متاع الحياة. وقرئ بكسر اللام وهي تعليل و «ما» موصولة قد حذف عائدها أي للّذي هو متاع الحياة وَالْآخِرَةُ أي ما فيها من فنون النعم عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) أي عن الكفر والمعاصي، فإن العظيم هو العظيم في الآخرة ولا في الدنيا وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ بضم الشين أي ومن يعرض عن القرآن وقرئ «يعش» بفتح الشين أي يعم، وبالكسر أي يميل وقرئ «يعشو» على أن «من» موصولة غير مضمنة معنى الشرط، والمعنى ومن يعرف أن القرآن حق وهو يتجاهل نُقَيِّضْ لَهُ أي نضم إليه شَيْطاناً فَهُوَ أي الشيطان لَهُ قَرِينٌ (36) في الدنيا وفي النار.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 41 إلى 50]

روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار وقرئ «يقيض» بالياء، والفاعل يعود إلى الرحمن ومن قرأ «يعشو» فحقه أن يرفع «يقيض» وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي وأن الشياطين ليصرفون قرناءهم عن سبيل الحق، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) أي والحال أن الكفار المعرضين عن القرآن يعتقدون أنهم على هدى حَتَّى إِذا جاءَنا أي جاءنا كل واحد من العاشين مع قرينه الشيطان يوم القيامة في سلسلة واحدة وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر، «جاءانا» على صيغة التثنية أي جاءنا العاشي والشيطان. قالَ أي العاشي مخاطبا لشيطانه يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي ليت حصل بيني وبينك في الدنيا مثل بعد ما بين المشرق والمغرب. فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) أنت فكثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا فظهر أن قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ كلام فاسد، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) وفاعل ينفع أما «أنكم» ومدخولها و «إذ ظلمتم» أما بدل من اليوم والمعنى «ولن ينفعكم اليوم» إذ تبين الآن عندكم وعند الناس جميعا أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بالإشراك بالله كونكم مشتركين في العذاب، بمعنى لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68] ، وأما مضمر يعود إلى التمني و «إذ ظلمتم» تعليل لنفي النفع وكذلك «أنكم» بفتح الهمزة ويؤيد هذا الاحتمال قراءة ابن عامر في رواية إنكم بكسر الهمزة، والمعنى ولن ينفعكم يوم القيامة تمنيكم لمباعدتهم لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر والمعاصي لأن حقكم أن تشركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) أي أفأنت وحدك من غير إرادتنا تسمع الصم الحق وتهدي من تمرنوا في الضلال إلى الهدى أي انهم بلغوا في النفرة عن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمين فإن صممهم وعماهم كانا بسبب كونهم في كفر بيّن فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أي فإن قبضناك قبل نزول النقمة بهم فإنّا منتقمون منهم بعد موتك في الدنيا والآخرة، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) أي أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فلا يعوقنا عائق لأنّا قادرون على عذابهم قبل موتك وبعده، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه، وقرئ أوحي بالبناء للفاعل وهو الله تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) لا يميل عنه إلا ضال في الدين، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ أي وأن الّذي أوحي إليك لموجب شرفا عظيما لك، ولقريش حيث يقال: إن هذا الكتاب أنزله الله تعالى على رجل متهم، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) هل أديتم شكر أنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ

[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 إلى 60]

الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) أي واسأل مؤمني أهل التوراة والإنجيل هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم بأمرنا فإنهم يخبرونك عن كتب الرسل فإذا سألتهم فكأنك سألت الأنبياء فما جاءت الرسل إلّا بالتوحيد فلم يسألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان موقنا بذلك، وإذا كان التوحيد متفقا عليه بين الرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا، وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي قومه فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) إليكم فقالوا له: ائت بآية فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) أي استهزءوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي إلّا وهي أعظم من الآية التي كانت قبلها في زعم الناظر وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ أي بأنواع العذاب كالدم، والقمل، والضفادع، والبرد الكبار ملتهبا بالنار، وموت الأبكار لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) أي لكي يرجعوا عن كفرهم إلى الإيمان وَقالُوا لموسى لما رأوا العذاب يا أَيُّهَا السَّاحِرُ أي العالم الماهر- يوقرونه عليه السلام بذلك القول لاستعظامهم على السحر- ادْعُ لَنا رَبَّكَ ليكشف عنّا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بالّذي عهد لك وكان عهده لموسى إن آمنوا كشفنا عنهم العذاب إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) أي لمؤمنون بك وبما جئت به، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعوته عليه السلام إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) عهدهم في كل مرة من مرات العذاب أي فكانوا يتوبون في كل واحدة من العذاب فإذا انكشف عنهم نقضوا العهد بالإيمان، وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ أي فيما بينهم بعد أن كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمنوا قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ أربعين فرسخا في أربعين فرسخا؟ قال: مجاهد هي الاسكندرية، وَهذِهِ الْأَنْهارُ التي فصلت من النيل ومعظمها أربعة أنهر نهر: الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي من تحت قصري أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) ذلك، فقد احتج فرعون على فضيلة نفسه بكثرة أمواله وقوة جاهه أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي بل أنا خير من موسى الذي هو فقير ضعيف الحال لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) أي يظهر حجته التي تدل على صدقة فيما يدعي فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي فهل ألقي على موسى من عند مرسله مقاليد الملك إن كان صادقا في دعواه لأن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا رئيسا ألبسوه سوارا من ذهب وطوقا من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة. وقرأ حفص أسورة، والباقون أساورة، وقرئ ألقى عليه اسورة وأساورة على البناء للفاعل، وهو الله تعالى أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) أي أو هلا جاء الملائكة ماشين مع موسى فيدلون على صحة نبوته فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي فطلب فرعون من قومه الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به، فَأَطاعُوهُ فيه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) حيث سارعوا إلى طاعة ذلك الجاهل الفاسق، فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما أغضبوا نبيّنا موسى، ومالوا إلى إرادة عقابنا بالإفراط في العصيان عاقبناهم،

فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) في البحر، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين ليتعظ بهم كفار أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام والباقون بفتحهما، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) أي عظة لمن بقي بعدهم، وقصة عجيبة لهم، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي لما جعل عيسى مشابها للأصنام في كونه معبودا إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ أي من ذلك المثل يَصِدُّونَ (57) أي يضحكون وترتفع أصواتهم فرحا بما سمعوا من ابن الزبعري لظنهم أن محمدا صار مغلوبا بهذا الجدال. روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال عبد الله بن الزبعري: هذا خاصة لنا ولآلهتنا، أو لجميع الأمم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله: خصمتك ورب الكعبة، أليس النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية. وعبد الله هذا صحابي مشهور، وهذه القصة كانت قبل إسلامه، وقرأ نافع وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة. فقولهم: أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح، قالوا: إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا: يجب عبادة هذه الأصنام، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أ عبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج، فإن قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام. إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) أي ولو

[سورة الزخرف (43) : الآيات 61 إلى 70]

نشاء لجعلنا من رجالكم ملائكة مستقرين في الأرض بطريق التوليد من غير واسطة نساء يخلفونكم كما تخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى بلا فحل، فهذا أمر سهل علينا مع أنه أعجب من حال عيسى الذي تستغربونه، فإنه بواسطة أمّ، وشأن الأم الولادة، وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي وأن عيسى لشرط من أشراط الساعة، والمعنى: وأن نزول عيسى من السماء علامة على قرب الساعة. وقرأ ابن عباس «لعلم» بفتح العين واللام أي علامة، وقرئ «للعلم» ، وقرأ أبي «لذكر» وفي الحديث: أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس صلاة الصبح، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلّي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم يقتل الخنازير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع، والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أي فلا تشكن في وقوع الساعة وَاتَّبِعُونِ أي واتبعوا هداي أو رسولي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي الّذي أدعوكم إليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) أي موصل إلى الحق وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) أي أنه قد بانت عداوته لكم لأجل أنه هو الّذي أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور، وَلَمَّا جاءَ عِيسى إلى بني إسرائيل بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات وبالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي بأصول الدين لأعلمكم إياها وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وهي فرع الدين، فإن قوم موسى قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكليف، واتفقوا على أشياء، فجاء عيسى ليبين لهم الحق في المسائل الخلافية. أما اختلافهم في الأشياء التي لا حاجة بهم إلى معرفتها فلا يجب على الرسول بيانها فَاتَّقُوا اللَّهَ في الإعراض عن دينه وَأَطِيعُونِ (63) فيما أبلغه إليكم من التكاليف. إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بالشرائع واعتقدوا وحدانيته تعالى أي التوحيد والتعبد بالشرائع هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) لا يضل سالكه، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ أي فاختلف الطوائف في عيسى بعد رفعه إلى السماء اختلافا ناشئا منهم، فقال اليعقوبية: هو الله. وقال النسطورية: هو ابن الله. وقال الملكانية: هو شريك الله. وقال المرقوسية: هو ثالث ثلاثة. وقال اليهود: هو ابن زنا. فَوَيْلٌ أي شدة عذاب لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من هؤلاء المختلفين الذين وضعوا القول في غير موضعه مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) ف «إن تأتيهم» بدل من الساعة أي ما ينتظر الناس إلا إتيان الساعة فجأة غافلين عنها مشتغلين بأمور الدنيا. الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) أي المتحابون في الدنيا بعضهم عدو لبعض يوم إذ تأتيهم الساعة إلّا الموحّدين الذين يتحاب بعضهم بعضا على التقوى فإن مودتهم لا تصير عداوة، فإن الذين حصلت بينهم محبة في الدنيا إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا ولذاتها فهذه المطالب لا

[سورة الزخرف (43) : الآيات 71 إلى 80]

تبقى في القيامة، بل تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة في القيامة وإن كان حصول المحبة في الدنيا لأجل الاشتراك في محبة الله وفي طاعته كانت هذه المحبة باقية في القيامة، بل كأنها تصير أصفى ما كانت في الدنيا، ويقول الله لهم: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) أي مخلصين لنا بالعبادة، وقد روي في هذا الحديث: أن المنادي ينادي يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرفع الخلائق رؤوسهم، فيقولون: نحن عباد الله، ثم ينادي الثانية: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ، فينكس الكفار رؤوسهم، ويبقى الموحدون رافعين رؤوسهم، ثم ينادي الثالثة: الَّذِينَ آمَنُوا وكانوا يتقون، فينكس أهل الكبائر رؤوسهم، ويبقى أهل التقوى رافعين رؤوسهم قد زال عنهم الخوف والحزن كما وعدهم الله لأنه أكرم الأكرمين والموصول صفة للمنادى، أو نصب للمدح، وعلى هذا لا يوقف على «تحزنون» . أما إن جعل مبتدأ أو خبره مضمر فالوقف على «تحزنون» تام والتقدير يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) أي تكرمون بالتحف إكراما على سبيل المبالغة يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ أي لهم في الجنة أطعمة وأشربة يطاف بها عليهم في قصاع من ذهب وكيزان من ذهب، وَفِيها أي الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من الأشياء المعقولة، والمسموعة، والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ من الأشياء المبصرة جزاء ما لا تحملوه من منع أعينهم من نظر ما لا يجوز شرعا. وقرأ نافع وابن عامر وحفص «تشتهيه» بإثبات العائد على الموصول، والباقون بحذفه وقرئ و «تلذه» بالهاء. وَأَنْتُمْ فِيها أي الجنة خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) أي أعطيتموها جزاء على عملكم الصالح في الدنيا لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) فلا تنفد أبدا. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) خبر «إن» و «في عذاب» متعلقة به لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا ينقص العذاب عنهم وَهُمْ فِيهِ أي العذاب مُبْلِسُونَ (75) أي آيسون من النجاة. وقرأ عبد الله «وهم فيها» أي في جهنم وهذه جملة حالية، وَما ظَلَمْناهُمْ بعذابهم، وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) لا، قبال أنفسهم للعذاب الخالد بقصدهم عدم الانفكاك عن الكفر ما بقوا في الدنيا، ف «الظالمين» خبر كان، وقرأ عبد الله وأبو زيد «الظالمون» على أنه خبر ل «هم» والجملة خبر كان، وَنادَوْا خازن النار يا مالِكُ. قرأ ابن مسعود «يا مال» بحذف الكاف، وهذا دليل على أنهم بلغوا في الضعف إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلّا بعضها لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، والمعنى: سل ربك أن يميتنا لنستريح من العذاب، وهذا تمن للموت لشدة عذابهم. قالَ أي مالك بعد أربعين سنة كما قاله عبد الله بن عمر، وقيل: الضمير يعود

[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 89]

إلى الله إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا بغيره. قال الله تعالى مقررا لجواب مالك ومبينا لسبب مكثهم لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ أي بالدين الحق في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أي ينفرون عنه ويبغضونه أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أي أأتقن مشركو مكة أمرا في كيدهم برسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنّا متقنون كيدنا حقيقة، وكانوا يتشاورون في أموره صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أي بل يحسبون أنّا لا نسمع ما حدّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال وما تكلموا فيما بينهم بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) أي بلى نسمعهما ونطلع عليهما، والحال أن رسلنا وهم الحفظة الذين يلازمونهم أينما كانوا يكتبون عليهم كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) لذلك الولد، فإن السلطان إذا كان له ولد يجب على عبده أن يخدمه كما يجب عليه أن يخدم السلطان والمعنى إن قام الدليل على ثبوت الولد له تعالى كنت مقرا بوجوب خدمته، لكن لم يوجد الدليل على ثبوته، بل الدليل القاطع قائم على عدمه، فكيف أقر بوجوده؟ قال بعضهم: إن كلمة «إن» هاهنا نافية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول المقرين من أهل مكة بأن ليس لله ولد وأنا أول الموحدين منهم أن لا شريك له تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «ولد» بضم الواو وإسكان اللام، والباقون بفتحهما سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) من أن له ولدا فَذَرْهُمْ أي فاتركهم في ذلك الباطل حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي فَذَرْهُمْ أي يفعلوا في أباطيلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) أي حتى يصلوا إلى اليوم الّذي يوعدون فيه بالعذاب، وهو يوم القيامة، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي وهو الّذي هو معبود في السماء، ومعبود في الأرض، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) فكونه بليغ الحكمة في تدبير خلقه وبالغا في العلم بمصالحهم ينافي حصول الولد له، وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي دام الذي له ملكها وكثرت خيراته، فعيسى ليس ولد الله تعالى لأنه حدث بعد أن لم يكن، ثم إنه مات ولأنه محتاج إلى الطعام فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما؟! ولا مجانسة بين عيسى والباقي الغني عن كل شيء، فامتنع كونه ولدا له تعالى، وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم وقت قيامها ومن كان كاملا في الذات والعلم والقدرة امتنع أن يكون له ولد عاجز وعديم العلم في أحوال العالم بالحد الّذي وصفه النصارى، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) . وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد، وقرئ «تحشرون» بالتاء. وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ أي أن الملائكة وعيسى عزيرا الذين كانوا يعبدهم الكفار من دون الله لا يشفعون إلّا لمن شهد بالحق، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) بقلوبهم ما يشهدون به بألسنتهم.

روي أن النضر بن الحرث ونفرا معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نعبد الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه الآية، ويقال: إن كل معبود من دون الله لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد أنه لا إله إلّا الله وهم الملائكة وعيسى وعزيرا فإن لهم شفاعة عند الله، وهم يعلمون أن الله خلقهم وأنهم عباده، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي الكفار الذين ادعوا الشريك لله مَنْ خَلَقَهُمْ أي العابدين والمعبودين معا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) أي فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره مع اعترافهم بكون الكل مخلوقا له تعالى، ولم يكذبون على الله؟ حيث قالوا: إن الله أمرنا بعبادة الأصنام وَقِيلِهِ قرأ الأكثرون بالنصب على المصدر أي قال النبي قوله، أو عطف على «سرهم» ، أو على محل الساعة، وقرأ عاصم، وحمزة بالجر عطف على «الساعة» أو أن الواو للقسم، وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن بالرفع عطف على «علم الساعة» ، أو مبتدأ وخبره ما بعده يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) بك وبرسولك قال تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ أي فأعرض عنهم بغير التبليغ، وبالدعاء عليهم بالعذاب، وَقُلْ سَلامٌ أي شأني الآن متاركة بسلامتكم مني، وسلامتي منكم، فهذا تباعد منهم، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) ما يفعل بهم. وقرأ نافع، وابن عامر بتاء الخطاب على الالتفات لزيادة التهديد، والتقريع، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون. وهذه الآية غير منسوخة لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة، فإذا أتي به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ.

سورة الدخان

سورة الدخان مكية، تسع وخمسون آية، ثلاثمائة وست وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفا حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) يجوز أن يكون المراد بالكتاب هاهنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن يكون المراد به اللوح المحفوظ، وأن يكون المراد به القرآن، وهذا يدل على غاية تعظيم القرآن. إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي القرآن فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قال الأكثرون: إنها ليلة القدر. وقال عكرمة، وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان، ونقل محمد بن جرير الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة مضت منه، والإنجيل لثمان عشرة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر، وقد قيل: إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة مباركة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل، والصواعق، والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل صاحب سماء الدنيا، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) أي مخوفين بالقرآن فِيها أي ليلة مباركة يُفْرَقُ أي يظهر للملائكة الموكلين بالتصرف في العالم كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أي مبرم لا يحصل فيه تغيير ولا نقص، بل لا بد من وقوعه في تلك السنة، وقال الرازي: معنى الحكيم ذو حكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر، والرزق، والأجل، والسعادة، والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة. وقرئ «يفرق» بالتشديد، وقرئ «يفرق» على البناء للفاعل، ونصب «كل» والفارق هو الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نفرق» بالنون أَمْراً مِنْ عِنْدِنا حال من فاعل «أنزلنا» أو من مفعوله. أي في حال كون القرآن أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل، أو من أمر حكيم، أو مفعول له

وناصبه إما «أنزلناه» وإما «منذرين» وإما «يفرق» أي أو مصدر من معنى «يفرق» أي فرقا كائنا من عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) أي أنّا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل أنا كنا مرسلين الأنبياء رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له أي لأجل إفاضة رحمتنا على العباد، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لاقتضاء رحمتنا السابقة إرسالهم، أو بدل من «أمرا» فيجيء في «رحمة» ما تقدم من الأوجه في «أمرا» . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) ، فإن المحتاجين للرحمة إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم وإما أن لا يذكروها، فإن ذكروها فإنه تعالى سميع لكلامهم، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بحاجاتهم، رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالجر بدل من ربك أو بيان عليه، والباقون بالرفع عطف بيان على قوله: «السميع العليم» ، أو خبر آخر، أو استئناف على إضمار مبتدأ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) أي إن كنتم تريدون اليقين فاعرفوا أن الأمر كما قلنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهذا تنبيه على تمام دلائل التوحيد رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بالرفع بدل، أو بيان، أو النعت ل «ربّ» السموات» . وقرأ ابن محيصن، وابن أبي اسحق، وأبو حيوة، والحسن بالجر على البدل، أو البيان، أو النعت ل «رب» السموات» وقرأ الأنطاكي بالنصب على المدح، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي ليسوا على يقين في إقرارهم بأن للسموات والأرض ربا وخالقا هو الله تعالى وإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم فهم في شك يَلْعَبُونَ (9) في دينهم بما يظهر لهم من غير حجة، فَارْتَقِبْ أي انتظر يا أكرم الرسل عذابهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) وهو ما أصابهم من شدة الجوع، فإنهم لظلمة أبصارهم كأنهم يرون دخانا بين السماء والأرض، فالمراد بالدخان هنا- ما قاله ابن عباس في بعض الروايات، وابن مسعود، ومقاتل، ومجاهد واختاره الفراء، والزجاج- هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه لما كذبه قومه بمكة دعا عليهم، فقال: «اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف» «1» فارتفع المطر، وأجدبت الأرض، وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام، والكلاب، والجيف فكان الرجل يرى بينه وبين السماء كالدخان لما به الجوع. ونقل عن علي، وابن عباس، وابن عمرو، وأبي هريرة، وزيد بن علي، والحسن أن المراد بالدخان هنا دخان يظهر في العالم في آخر الزمان يكون علامة على قرب الساعة يملأ ما بين المشرق والمغرب وما بين السماء والأرض. يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 470) ، وابن حجر في فتح الباري (2: 492) ، والسيوطي في الدر المنثور (2: 71) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1: 96) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 11 إلى 20]

كالزكام، وأما الكافر فيصير كالسكران فيملأ جوفه ويخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقدت فيه النار، وقال عبد الرحمن الأعرج أن المراد بالدخان هو الغبار الذي ظهر يوم فتح مكة من ازدحام جنود الإسلام حتى حجب الأبصار عن رؤية السماء يَغْشَى النَّاسَ أي يشملهم وهو محل جر صفة لدخان. هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) فإن قلنا التقدير يقولون هذا عذاب أليم رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ، فالعذاب هو: القحط الشديد، وإن قلنا التقدير: يقولون ربنا اكشف عنّا العذاب، فالعذاب: هو الدخان المهلك الذي يدخل في أسماع الكفرة حتى يصير رأسهم كالرأس الحنيذ «1» . إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) أي كيف يتعظون بهذه الحالة، والحال أنهم قد شاهدوا ما ظهر على رسول الله من المعجزات القاهرة وهي أعظم موجبات الاتعاظ، ثم لم يلتفتوا إليه، وقالوا: إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من جبر- غلام عامر بن الحضري، وهو قين نصراني، أو غلام لحويطب بن عبد العزى قد أسلم- وقالوا: إن الجن يلقون على محمد هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي، وما مثلهم إلّا كمثل الكلب إذا جاع ضغا وإذا شبع طغى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) أي إنا نكشف العذاب عنكم كشفا قليلا أو زمانا قليلا، بدعاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك والمعنى: أنهم لا يفون بعهدهم وانهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) و «يوم» منصوب بما دل عليه «منتقمون» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيها قبلها أي يوم نأخذ بشدة أخذا قويا بإيصال الآلام المتتابعة ننتقم «إنا منتقمون» وهو يوم بدر كما قاله ابن مسعود، ومجاهد، ومقاتل، وأبو العالية. وروي عكرمة عن ابن عباس هو يوم القيامة، وقرأ الحسن البصري، وأبو جعفر المدني نبطش بضم النون فإن الله أمر الملائكة بأن يعاقبهم العقوبة العظمى وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي ولقد عاملنا قوم فرعون قبل هؤلاء العرب معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) على ربه، وهو موسى عليه السلام إذ اختصه بالنبوة وإسماع الكلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أي بأن الحديث أرسلوا بني إسرائيل إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله أَمِينٌ (18) أي قد ائتمنني الله تعالى على وحيه ورسالته وصدقني بالمعجزات القاهرة وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ أي وبأن الشأن لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) أي آتيكم

_ (1) الحنيذ: الشاة يحنذها حنذا أي شواها وجعل فوقها حجارة محمّاة لتنضجها فهي حنيذ. [القاموس المحيط، مادة: حنذ] .

[سورة الدخان (44) : الآيات 21 إلى 30]

من جهة الله تعالى بحجة واضحة يعترف بصحتها كل عاقل، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) أي وإني اعتصمت بربي وربكم من أن تقتلون. قيل: لما قال موسى: «وأن لا تعلوا على الله» توعدوه بالقتل وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة فخلوا سبيلي لا لي ولا علي فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) أي أنهم كفروا ولم يؤمنوا، فدعا موسى ربه بأن هؤلاء مشركون اكتسبوا الهلاك على أنفسهم فافعل بهم يا رب ما يليق بهم. وقرأ ابن أبي اسحق، وعيسى، والحسن بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين وعلى إجراء دعا مجرى القول عند الكوفيين (ف) قال ربه: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي سر ليلا ببني إسرائيل قرأ نافع، وابن كثير بالوصل، والباقون بالقطع. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) أي يتبعكم فرعون وجنوده بعد ما علموا بخروجكم ويصير ذلك سببا لهلاكهم، وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي اجعل البحر طرقا واسعة حتى يدخله القبط فيغرقوا كما قال تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) في البحر. وقرئ بفتح الهمزة أي لأنهم وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ بفتح النون فأغرقهم الله وتركوا أمورا كثيرة من بساتين ومياه ظاهرة في البساتين، وحروث، ومنازل محسنة، ومجالس مزينة، وأمور يتمتعون بها كالملابس، والمراكب كانُوا فِيها أي في هذه الأشياء فَكِهِينَ (27) بالألف أي طيبين الأنفس معجبين. وقرأ الحسن، وأبو رجاء «فكهين» بدون الألف أي مستهزئين بنعمة الله تعالى كَذلِكَ أي مثل ذلك السلب سلبنا هذه الأشياء منهم وَأَوْرَثْناها أي تلك الأشياء قَوْماً آخَرِينَ (28) أي جعلناها من بعدهم ميراثا لبني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ روى أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد إلّا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه» . وروي في الأخبار أن المؤمن ليبكي عليه مصلاه، ومحل عبادته، ومصعد عمله، ومهبط رزقه أي ولم تبك السماء والأرض على فرعون وقومه لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب، ولا عمل صالح وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير، وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ أي من العذاب الشديد الصادر من فرعون، وهو قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة. وقرئ «من عذاب المهين» أي وهو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين، وقرأ ابن عباس «من فرعون» بمعنى الاستفهام والمعنى: هل تعرفونه من هو في عتوة وشيطنته؟ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) أي كان عالي الدرجة في طبقة المسرفين، أو يقال: إنه متكبرا مسرفا

فإنه مع حقارته ادعى الإلهية فقوله: «من المسرفين» حال من الضمير في عاليا، أو خبر ثان لكان. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) أي ولقد اخترنا بني إسرائيل على العالمين جميعا عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم لكثرة الأنبياء فيهم، ويقال: «ولقد اخترناهم على عالمي زمانهم» مع علمنا بأنهم قد يزيغون في بعض الأوقات، ويصدر عنهم الفرطات «1» في بعض الأحوال وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) أي وأعطينا بني إسرائيل ما فيه نعمة ظاهرة من الآيات التي لم يظهر الله مثلها أحد سواهم مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن، والسلوى وغيرها، فإنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو بالنعمة أيضا اختبارا ظاهرا ليتميز الصديق عن الزنديق. إِنَّ هؤُلاءِ أي إن كفار قريش لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما نهاية الأمر إلّا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) أي بمحيون بعد الموت فَأْتُوا بِآبائِنا أي فعجلوا لنا- أيها القائلون بأننا نبعث بعد الموت أحياء- من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك حتى يصير دليلا عندنا على صدق دعواكم في البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) فيما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى ليظهر أنه حق. قال تعالى مقتصرا على الوعيد: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم «تبع» كمدين، وأصحاب الأيكة، والرس، وثمود، وعاد وسمي تبعا لكثرة تبعه واسمه أسعد بن ملكيكرب وكنيته أبو كرب، وهو نبي كما قاله ابن عباس، أو رجل صالح كما قالته عائشة، وكان قومه كافرين وأراد خراب المدينة فلما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه أحمد انصرف عنها وقال شعرا أودعه عند أهلها وكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعوه إليه وكان من اليوم الذي مات فيه «تبع» إلى اليوم الّذي بعث فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف سنة لا يزيد ولا ينقص ويقال كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب خالد بن زيد وفيه: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارى النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) ف «أهلكناهم» مستأنف لبيان عاقبة أمرهم و «إنهم» تعليل لإهلاكهم أي إن أولئك الكفار أهلكوا بسبب إجرامهم مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء، أفلا يخافون من هلاكهم وهم شركاء لأولئك في الإجرام؟! وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) أي لاهين ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق عبثا لأن الله تعالى خلق نوع الإنسان ثم كلّفهم بالإيمان والطاعة، فاقتضى ذلك أن يتميز المطيع من العاصي فيتعلق فضله

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (16: 154) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (2: 38) ، وابن الجوزي في الموضوعات (3: 254) .

[سورة الدخان (44) : الآيات 41 إلى 50]

تعالى للمطيع، ويتعلق عدله، وعقابه للعاصي. فلا بد من البعث لتجزى كل نفس بما كسبت. وقرأ عمرو بن عبيد و «ما بينهن» وقرأ الجمهور «بينهما» باعتبار النوعين ما خَلَقْناهُما وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب الحق الّذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (39) انا خلقنا الخلق بسبب إقامة الحق عليهم إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) أي أن يوم تمييز المحق من المبطل وقت موعد الناس أجمعين. وقرئ «ميقاتهم» بالنصب على إنه اسم و «يوم» خبرها أي إن ميعادهم جزاؤهم البر والفاجر في يوم فصل الله بين عباده يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب عن قريب شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) أي يمنعون من العذاب إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ أي إلا المؤمنين فإنهم يمنعون من العذاب أو فإنهم يؤذون لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم وتشفع لهم الملائكة والأنبياء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) أي أن الله هو الغالب بتعذيب الكافرين الرحيم بالمؤمنين إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) أي الكثير الآثام وهو الكافر كَالْمُهْلِ وهو دردى الزيت، وعكر القطران، ومذاب النحاس، وسائر الفلزات يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . وقرأ حفص وابن كثير «يغلي» بالياء التحتية فهو حال من طعام، أو الزقوم، والباقون بالتاء الفوقية فهو خبر ثالث لأن أي «تغلي» الشجرة في البطون غليانا كغلي الماء الشديد الحرارة. يقول الله للزبانية: خُذُوهُ أي الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي جروه بعنف وقوده إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) أي إلى وسط النار العظيمة. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، بضم التاء، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) أي صبوا على رأسه عذابا شديدا يشبه الماء الحار بعد ما يضرب رأسه بمقامع الحديد، فقد شبه العذاب، ثم خيّل له بالصب، ويقال له على سبيل الاستهزاء: ذُقْ يا أبا جهل إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) . وقرأ الكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى العلة أي لأنك، أو على تقدير مضاف أي «ذق» عذابا إنك أنت المتعزز في قومك المتكرم عليهم. روي ان أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بين جبليها أي مكة أعز ولا أكرم مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) أي تشكون في الدنيا. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) أي مكان مأمون من الزوال والآفات، وقرأ نافع، وابن عامر «مقام» بضم الميم أي موضع الإقامةي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) أي أنهار الخمر، والماء، واللبن، والعسل يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والسندس ما رق من الحرير، والإستبرق ما ثخن منه مُتَقابِلِينَ (53) في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي أتيناهم مثل ذلك، أو هكذا مقام المؤمنين في الجنة وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) أي قرناهم في الجنة بجوار بيض حسان الوجوه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز وعهن أبي قرصافة سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور

العين» «1» ، وعن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنس المساجد مهور الحور العين» يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ أي يأمرون الخدم في الجنة بإحضار ما يشتهونه ويتناولون فيها بألوان كل فاكهة آمِنِينَ (55) من التخم والأمراض لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت إلّا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة التي في الدنيا بعد حياتهم فيها، أو يقال: لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) أي وقى الله المتقين في أول الأمر من عذاب الجحيم، ورفع الله العذاب عن عصاة المؤمنين بعد دخولهم النار، وقرئ «ووقاهم» بتشديد القاف فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي تفضل ربك بذلك الثواب تفضلا، وقرئ «فضل» بالرفع أي ذلك فضل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فإن الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي إنما أنزلنا الكتاب المبين بلغتك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) أي لكي يتعظوا به فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) أي فانتظر هلاكهم إنهم منتظرون هلاكك.

_ (1) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7: 71) .

سورة الجاثية

سورة الجاثية مكية، سبع وثلاثون آية، أربعمائة وثمان وثمانون كلمة، ألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا حم (1) أي هذه السورة مسماة بحم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) أي تنزيل هذا الكتاب واقع من الله العزيز في ملكه الحكيم في أمره وقضائه إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) لأنه حصل في ذوات السموات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، ولأن الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والبحار موجودة في السموات والأرض وهي دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار. وَفِي خَلْقِكُمْ من نطفة، ثم من علقة متقلبة في أطوار مختلفة إلى تمام الخلق وَما يَبُثُّ أي وفيما ينشره مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) فإن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء لا بد وأن يكون بتخصيص القادر المختار، وكذا انتقاله من حال إلى حال آخر. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي وفي تعاقبهما وتفاوتهما طولا وقصرا وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ أي وفيما أنزله من السحاب من مطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي بعد يبوستها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي وفي تقليبها من جهة إلى أخرى، ومن حال إلى حال آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) . وقرأ حمزة والكسائي «آيات لقوم» في الموضعين بالنصب بالكسرة معطوف على «آيات» الأول الذي هو اسم «إن» والباقون بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف المقدم، وقرئ «آية» بالتوحيد، وقرأ حمزة والكسائي و «تصريف الريح» بالتوحيد. وحاصل ما ذكر هنا من الدلائل ستة على ثلاث فواصل، الأولى: للمؤمنين، الثانية: يوقنون، الثالثة: يعقلون. وسبب هذا الترتيب أنه قيل: إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين، بل أنتم من طلاب اليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فكونوا من العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل. وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفا فقال: إن المصنفين إذا نظروا في السموات والأرض، وإنه لا بد لهما من صانع، آمنوا. وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيمانا فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا. تِلْكَ أي الآيات

[سورة الجاثية (45) : الآيات 11 إلى 20]

المذكورة آياتُ اللَّهِ أي حججه الدالة على وحدانيته نَتْلُوها أي نقصها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وهذا من أعظم الدلائل على الترغيب في تقرير المباحث العقلية فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) أي إن من لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعدها يجوز أن ينتفع به. وقرأ ابن عامر، وشعبة، والكسائي بتاء الخطاب مناسبة لقوله تعالى: و «في خلقكم» وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أي كذاب أَثِيمٍ (7) أي مبالغ في اقتراف الآثام وهو النضر بن الحرث يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ أي القرآن تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ أي يقيم على كفره إقامة بقوة مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بآيات الله معجبا بما عنده- كان النضر يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن- كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي حال كونه مثل غير السامع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) على إصراره، واستكباره، وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أي أنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من آياتنا بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما سمعه فقط. أُولئِكَ أي كل أفاك أثيم لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) أي ذو إهانة مِنْ وَرائِهِمْ أي قدامهم بعد الموت جَهَنَّمُ فإنهم متوجهون إلى ما أعد لهم أو من خلفهم جهنم لأنهم مقبلون على الدنيا معرضون عما أعد لهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي ولا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا، ولا أصنامهم التي عبدوها وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) إلى أقصى الغايات في كونه ضررا. هذا أي القرآن هُدىً أي في غاية الكمال في الهداية وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) . وقرأ ابن كثير وحفص بالرفع أي لهم عذاب أليم من تجرع ماء صديد، والباقون بالجر أي لهم عذاب شديد الإيلام. اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ أي بإذنه وأنتم راكبوها فجريان السفن على وجه البحر لا يحصل إلّا بسبب ثلاثة أشياء، أحدها: الرياح التي توافق المراد، وثانيها: الماء، وثالثها: خشبة طافية لا تغوص في الماء، وهذه الثلاثة لا يقدر عليها أحد من البشر فلا بد من موجود قادر عليها وهو الله تعالى، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ. إما بسبب التجارة، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو باستخراج اللحم الطري وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) أي ولكي تشكروا نعمته تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي وسخر الله لكم الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والشجر، والدواب، والجبال، والبحار كائنة منه تعالى وحاصلة من عنده، فإنه تعالى موجدها بقدرته وحكمته، ثم مسخرها لخلقه. وقرأ سلمة بن محارب «منه» على أنه فاعل «سخر» أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه، وقرئ «منه» على أنه مفعول له. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ كثيرة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) في بدائع صنع الله تعالى فإنهم يطلعون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها

[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 إلى 30]

ويوفقون لشكرها قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اغفروا للكفار يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يرجون ثواب الله، ولا يخافون عقابه، ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية كما قاله ابن عباس، وهذا محمول على ترك المنازعة في المحقرات وعلى التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، والأفعال الموحشة، وقال المهدوي، والنحاس، ومقاتل: شتم رجل من كفار قريش عمر بن الخطاب بمكة قبل الهجرة، فأراد أن يبطش به، فأمره [رسول] الله بالعفو والتجاوز، وأنزل هذه الآية لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي لكي يجازي الله يوم القيامة قوما يعملون الخير، وقيل ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم والمعنى: لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن، وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي «لنجزي» بالنون، وقرئ «ليجزي قوم» و «ليجزي قوما» أي وليجزي الجزاء قوما مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها أي أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله، وهذا ترغيب منه تعالى في العمل الصالح، وزجر عن العمل الباطل، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) فيجازيكم على أعمالكم خيرا كان، أو شرا، وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ أي التوراة، وَالْحُكْمَ أي معرفة أحكام الله تعالى وفصل الحكومات بين الناس، وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر الله فيهم الأنبياء وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فإنه تعالى وسع عليهم في الدنيا فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم، ثم أنزل عليهم المن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما، وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي أدلة على أمور الدنيا وعلى أمور الدين فَمَا اخْتَلَفُوا في الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، ومجيء العلم لهم كان ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي حسدا منهم إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) من أمر الدين بالجزاء ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) أي ثم اخترناك على طريقة واضحة من أمر الدين فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال، وأديانهم المبنية على الأهواء. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك، وأسن فانزل الله تعالى هذه الآية إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي أنك لو ملت إلى أديانهم الباطلة صرت مستحقا للعذاب فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي أن الكافرين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فلأولى لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) أي والله ناصر المهتدين هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم الدين بمنزلة البصائر في القلوب وَهُدىً من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أي يطلبون اليقين أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي أظن هؤلاء المكتسبون للسيئات أن

نصيرهم في الحكم والاعتبار وهم على مساوئ الأحوال أمثال المؤمنين وهم في محاسن الأعمال سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص بنصب «سواء» فهو حال من الضمير المستتر في كالذين و «محياهم ومماتهم» مرتفعان على الفاعلية، والمعنى: أحسب الكفار أن نجعل المؤمنين كائنين مثلهم حال كون الكل مستويا محياهم ومماتهم. كلا، لا يستوون في شيء منهما فإن هؤلاء في شرف الإيمان والطاعة في المحيا، وفي رضوان الله تعالى في الممات، وأولئك في ذل الكفر والمعاصي في المحيا، وفي العذاب الخالد في الممات. وقرئ «محياهم ومماتهم» بالنصب على انهما ظرفان أي حال كون كل الفريقين مستويين في محياهم ومماتهم، وقيل: إنهما بدلان من الضمير المنصوب في «نجعلهم» فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء، وقرأ الباقون برفع «سواء» على أنه خبر و «محياهم» مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب هو بدل من المفعول الثاني وهو الكاف. ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) قال الكلبي: إن عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر عليا، وحمزة، وعبيدة بن الحرث، فقتلوا أولئك وقالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا فأنكر الله عليهم هذا الكلام وأنزل الله هذه الآية وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لأجل إظهار الحق وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) بنقص ثواب، أو بزيادة عقاب، والمعنى: أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلّا إذا حصل البعث والقيامة، وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين والمبطلين، وقوله: «لتجزي» معطوف على «بالحق» لأن معنى الباء هنا للتعليل أو معطوف على علة محذوفة، والتقدير خلقها بالحق ليدل بها على قدرته ولتجزى إلخ، وجوز ابن عطية أن تكون هذه اللام لام الصيرورة أي وصار الأمر من حيث اهتدى بها قوم وضل بها آخرون، ولا وقف على قوله تعالى: «بالحق» . وعند أبي حاتم فالوقف عليه تام بجعل لام «لتجزي» لام قسم أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي أنظرت يا أشرف الخلق فرأيت من ترك متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى فكان يعبد الهوى فذلك من العجب، وقرئ «آلهته هواه» لأنه كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها. روي عن أبي رجاء العطاردي انه أدرك الجاهلية، وهو ثقة- مات سنة خمس ومائة وعمره مائة وعشرون سنة- قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجرا جمعنا حشوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وهذا إما حال من الفاعل أي عالما بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح أو من المفعول والمعنى وأضله وهو عالم بالحق وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ فلا يقبل المواعظ ولا يتفكر في النذر وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً أي غطاء مانعا عن الاعتبار.

وقرأ حمزة، والكسائي «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، والأعمش، وابن مصرف بكسر الغين، والباقون «غشاوة» بكسر الغين، وابن مسعود، والأعمش أيضا بفتحها وعبد الله بضمها، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلال الله إياه وهذه الجملة مفعول ثان ل «رأيت» أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرئ «تتذكرون» بالتاءين على الأصل، وَقالُوا من غاية ضلالهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا الحياة التي نحن فيها نَمُوتُ وَنَحْيا أي يصيبنا الموت والحياة في الدنيا، وليس وراء ذلك حياة وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي إلا مرور الزمان، والمعنى: أن تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله والقيامة وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) أي ما لهم باقتصار الحياة على ما في الدنيا واستناد الحياة والموت إلى الدهر مستند إلى نقل، أو عقل صحيح ما هم الأقوم أمرهم الظن والتقليد وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على قدرتنا بَيِّناتٍ أي مبيّنات لما يخالف معتقدهم ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) في أنّا نبعث بعد الموت «وحجتهم» بالنصب خبر «كان» وإلا قالوا اسمها، فالمعنى: ما كان متمسكا لهم على إنكار البعث شيء من الأشياء إلّا هذا القول الباطل، وهو قولهم: لو صح ذلك البعث، فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث. وقرئ برفع «حجتهم» على أنه اسم «كان» فالمعنى: ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلّا هذا القول الباطل. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ أحياء بعد الموت إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ للجزاء لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم، فإن من قدر على البدء قدر على الإعادة، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم القائلون ما ذكر لا يَعْلَمُونَ (26) دلالة حدوث الإنسان وغيره على وجود الإله الحكيم، وإن الله تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله التصرف فيهما كما أراد وله القدرة على جميع الممكنات فيلزم كونه تعالى قادرا على الإحياء في المرة الثانية، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) أي ولله ملك يوم قيام الساعة يومئذ يظهر غبن المبطلين لأن الحياة والعقل، والصحة كلها رأس المال، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلّا الحرمان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وَتَرى أيها المخاطب كُلَّ أُمَّةٍ أي كل أهل دين جاثِيَةً أي مجتمعين لا يخالطهم غيرهم، وهو حال.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 31 إلى 37]

وقرئ «جاذية» أي جالسة على أطراف الأصابع فالوقف هنا حسن، كالوقف على «كتابها» . كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي إلى قراءة صحائف أعمالها والعامة على رفع كل على الابتداء، وقرأ يعقوب ككل بالنصب على البدل من كل الأولى وتدعى حال أو صفة وعلى هذا فلا وقف على «جاثية» ، ويقال لهم حالة الدعاء: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) من خير أو شر هذا كِتابُنا أي كتاب الملائكة الذي أمرناهم بكتبه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ خبر ثان أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ونقصان. إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) أي إنا كنا فيما قبل نأمر الملائكة بإثبات أعمالكم في الكتابة وورد في الحديث: «أن الملك إذا صعد بالعمل يؤمر بالمقابلة على ما في اللوح» «1» فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ في ذلك اليوم رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ أي في جنته ذلِكَ أي الإدخال في رحمته هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) أي الظاهر لخلوص الجنة من الأكدار وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم بطريق التوبيخ: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي ألم تأتكم رسلي في الدنيا فلم تكن آياتي تقرأ عليكم، فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بتلك الآيات وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) أي مذنبين بإصرار الكفر وَإِذا قِيلَ لكم أي وكنتم إذا قيل لكم أيها الكفار من أي قائل كان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب والعقاب حَقٌّ أي واقع بلا شك، وقرأ الأعرج وعمرو بن فائد بفتح الهمزة على اجراء القول مجرى الظن، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها وقرأ حمزة بالنصب عطف على «وعد الله» أي وإن الساعة آتية لا شك في وقوعها، والباقون بالرفع على الابتداء والمعنى: وقيل «والساعة لا ريب فيها» . قال الأخفش: والرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب إذا جاء بعد خبران لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الأول بتمامه. قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي إنكارا لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أي ما نقول في أمر الساعة كما قلتم إلّا بالظن لإمكانه وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) بقيام الساعة والقوم كانوا في أمر البعث فرقتين: فرقة جازمة بنفيه. وهم المذكورون في قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وفرقة كانت تشك وتتحير فيه لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته، وهم المذكورون في هذه الآية وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي ظهر لهم في الآخرة سيئات أعمالهم في الدنيا فتصورت لهم بصورة هائلة فيعرفوا مقدار جزائها وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) أي أحاط بهم عقوبة استهزائهم بالرسل وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي قيل لهم اليوم نترككم في العذاب كما تركتم الإقرار بهذا اليوم والعدة للقائه وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي ومستقركم نار جهنم وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) أي وما لكم أحد يخلصكم منها

_ (1) رواه البخاري في (9: 73) ، وابن حجر في فتح الباري (13: 79) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5447) ، وابن أبي شيبة في المصنف (14: 128) .

ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي ذلكم العذاب العظيم بسبب استهزائكم بآيات الله وغروركم بما في الحياة الدنيا وحسبناكم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي من النار. وقرأ حمزة، والكسائي بفتح الياء وضم الراء والباقون بضم الياء وفتح الراء، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) أي ولا يطلب منهم أن يرضوا بهم التوبة لفوات أوانه فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) أي فاحمدوا الله الذي هو خالق كل العالمين من الأجسام، والأرواح، والذوات، والصفات. فإن هذه الربوبية توجب الحمد على كل أحد من المخلوقين، وقرأ العامة «رب» في الثلاثة بالجر، وقرئ بالرفع على المدح بإضمار هو وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهذا إشارة إلى أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد، وإشارة إلى وجوب كون الحامدين أن يعرفوا أنه تعالى أكبر من حمد الحامدين وأن عطاياه أجل من شكر الشاكرين، وأن الكبرياء له تعالى لا لغيره تعالى، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) أي هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية، إلا قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الآية وإلا ثلاث آيات من قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ- إلى قوله تعالى- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أربع وثلاثون آية ستمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ أي القوي بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (2) أي المتقن للأمور ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلّا لأجل الفضل والرحمة والإحسان وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي وإلا لأجل مسمى أي إلا لوقت معين لإفناء الدنيا، فإن إله العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلدا سرمدا، بل إنما خلقه ليكون دارا للعمل فيقع الجزاء في الدار الآخرة ولو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به مما في يوم القيامة مُعْرِضُونَ (3) فلا يؤمنون به ولا يستعدون له قُلْ توبيخا لهم: أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أخبروني ما تعبدون من الأوثان. وقرئ «أرأيتكم» أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي أخبروني أي شيء خلقه الأوثان مما في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ف «أم» بمعنى الهمزة أي ألهم شركة مع الله تعالى فِي السَّماواتِ أي في خلقها، أو ملكها ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب دال على صحة دينكم كائن من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك، أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي أو بمنقولة عن الأنبياء من علم سوى ما جاء في الكتب، وقرأ علي، وابن عباس، وزيد بن علي، وعكرمة «أثرة» دون ألف، وقرأ الكسائي «أثرة» بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء، وقتادة، والسلمي بفتح فسكون أي أو ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) في دعواكم، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي لا امرأ أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يعبد الأصنام، وهي إذا دعيت لا تصح منها الإجابة لا في الحال ولا بعده إلى يوم القيامة، وإنما جعل غاية لأنه قيل: إن الله تعالى يحييها يوم القيامة وتقع بينها وبين من يعبدها مخاطبة، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) أي والأصنام عن دعاء من يعبدهم لا يسمعون وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي وإذا قامت القيامة، وحشر الناس كانت

هذه الأصنام تعادي هؤلاء العابدين، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) أي وكانت الأصنام مكذبين بكونهم معبودين يقولون: إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أي وإذا يتلى على كفار أهل مكة القرآن واضحا قالوا من غير تأمل في شأن القرآن حين جاءهم هذا المتلو خيال ظاهر بطلانه أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون افترى محمد القرآن من عند نفسه. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي قل لهم يا أشرف الخلق: إن اختلقت القرآن من تلقاء نفسي كما تقولون فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة حينئذ، وأنتم لا تقدرون على دفعه عن معالجته إياي بالعقوبة، فكيف أجترئ على هذه الفرية وأعرض نفسي للعقوبة هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي أعلم بما تتكلمون فيه من التكذيب بالقرآن وتسميته سحرا تارة وفرية تارة أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالكذب والإنكار، أو كفى بالقرآن شهيدا بيني وبينكم وقد شهد بصدقي وبعجزكم عن معارضة شيء منه، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن رجع عن الكفر الرَّحِيمُ (8) بعباده فلم يعالجكم بالعقوبة مع عظم ما ارتكبتوه من الذنوب قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي قل يا أكرم الرسل لهم لست أول الرسل فلا ينبغي أن تنكروا أخباري بأني رسول الله إليكم مع أن صفتي كصفة من سبق من الرسل، ولا أن تنكروا دعائي لكم إلى التوحيد ونهي لكم عن عبادة الأصنام، فإن كل الرسل إنما بعثوا بهذا الطريق. وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، وابن عبلة «بدعا» بفتح الدال، وقرأ أبو حيوة أيضا ومجاهد بفتح الباء وكسر الدال وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي ما أدرى ما يفعل بي أأموت، أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلي ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء، أم يخسف بكم، أم يفعل بكم ما فعل بسائر الأمم كالمكذبين قبلكم إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي وهو جواب عن اقتراحهم الأخبار عما لم يوح إليه من الغيوب، وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا أن ذلك فرج مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وهو شيء رأيته في المنام وأنا لا أتبع الا ما أوحاه الله إليّ اه. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي ما يفعل مبنيا للفاعل أي الله تعالى، وقرئ ما يوحي على البناء للفاعل وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) أي أنهم كانوا يطالبونه صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات العجيبة وبالأخبار عن الغيوب فقال تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ عقاب الله تعالى حسب ما يوحى إلي من الإنذار وليس القادر على الأعمال الخارجة عن قدرة البشر والعالم بالغيوب إلّا الله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 11 إلى 20]

وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي قل يا أشرف الخلق لليهود أخبروني يا معشر اليهود إن كان القرآن من عند الله، وكفرتم به. وشهد شاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام على صفة القرآن من كونه من عند الله وكونه معجزا للخلق عن معارضته فآمن هذا الشاهد بالقرآن، وتكبرتم يا معشر اليهود عن الإيمان به ألستم كنتم ظالمين أنفسكم؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) روي أنس أنه لما سمع عبد الله بن سلام بمجيء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أتاه فنظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلّا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو أمه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزع له، وإذا سبق ماء المرأة نزع لها» «1» فقال: أشهد أنك لرسول الله حقا، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله فيكم» فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: «أرأيتم ان أسلم عبد الله» «2» فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أإن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وانتقصوه، فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ على مثله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنو عامر، وغطفان، وأسد، وأشجع لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجل إسلام من أسلم وهم جهينة، ومزينة، وأسلم، وغفار لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين وقالوا لهم زعما منهم أن الرئاسة الدينية ما ينال بأسباب دنيوية: لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه أولئك الأراذل، فإن أكثرهم فقراء وموال ورعاة وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن وظهر عنادهم فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ولم يكتفوا بنفي خيريته، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي قالوا ذلك والحال أنه كان كتاب موسى من قبل القرآن أي كيف يصح كون القرآن إفكا قديما وقد رجعوا إلى حكم كتاب موسى. وقرئ «ومن قبله كتاب

_ (1) رواه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (5: 167) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (2: 531) ، وابن حجر في فتح الباري (7: 250) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 211) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة 114. [.....] (2) رواه الألباني في السلسلة الصحيحة (3: 14) .

موسى» أي وآتينا من قبل محمد التوراة إِماماً أي قدوة يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه، وَرَحْمَةً من الله تعالى لمن آمن به وعمل بما فيه. وَهذا أي القرآن كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى في أن محمدا رسول الله لِساناً عَرَبِيًّا حال من «كتاب» . وقيل: مفعول ل «مصدق» على حذف مضاف، أي مصدق ذا لسان عربي، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لينذر ذلك الكتاب مشركي مكة. وقرأ نافع وابن عامر بالتاء لخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) أي المؤمنين بأن لهم الجنة، و «هو» في محل نصب معطوف على محل «لينذر» ، لأنه مفعول له، أو في محل رفع معطوف على «مصدق» ، أو «كتاب» ، ولا يوقف على «ظلموا» ، أما إذا جعل مبتدأ وخبره للمحسنين فالوقف على «ظلموا» كاف. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ وحده ثُمَّ اسْتَقامُوا على أداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) ، من فوات محبوب، أي إن الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة في أمور الدين فهم يوم القيامة آمنون من الأهوال، وزائل عنهم خوف العقاب، أما خوف الجلال والهيبة فلا يزول عن العبد ألبتة، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) في الدنيا، وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحسانا» ، وهي قراءة ابن عباس أي أمرناه بأن يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة، والباقون «حسنا» بضم فسكون، أي أمرناه بأن يوصل إليهما فعلا حسنا، وهو ضد القبح فعلا ذا حسن. وقرئ بضم الحاء والسين. وقرأ عيسى والسلمي بفتحهما، نزلت هذه الآية في عبد الرحمن، وفي أبيه وأمه، وهما أبو بكر الصديق وأم رومان. وقالت عائشة. نزلت في خلال بن قلال حَمَلَتْهُ أُمُّهُ في بطنها كُرْهاً أي على مشقة وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي في مشقة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر، وابن ذكوان بضم الكاف. والباقون بالفتح وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي ومدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا، فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن مدة إتمام الرضاع أربعة وعشرون شهرا، ولما كان الرضاع يليه الفصال، لأنه يتم به سمي فصالا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ. وقرئ «إذا استوى وبلغ أشده» . وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. والأصح أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه عثمان بن عامر وأمه أم الخير سلمى بنت صخر. وذلك أن أبا بكر صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بالنبوة، واختصه بالرسالة، فآمن به أبو بكر الصدّيق وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، ثم أسلم أبواه وأسلم ابنه عبد الرحمن، ثم ابنه محمد كلهم أدركوا النبي، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم، إلّا أبو بكر ووالده أبو قحافة، وأمه سلمى بنت صخر، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة دعا به وقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي، أي ألهمني ووفقني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بها عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ، وهي نعمة

الدين. قال الذين قالوا: إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق أن أبا بكر أسلم والداه ولم يتفق لأحد من الصحابة والمهاجرين إسلام الأبوين إلّا له، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ. قال ابن عباس: فأجاب الله دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله ولم يترك شيئا من الخير إلّا أعانه الله عليه، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي واجعل الصلاح راسخا في ذريتي. قال ابن عباس: لم يبق لأبي بكر ولد من الذكور والإناث إلا وقد آمنوا إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما يشغلني عن ذكرك وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الذين أخلصوا لك أنفسهم، أُولئِكَ أي أهل هذا القول الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات، فالمباح حسن لا يثاب عليه وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ. وقرأ الأخوان وحفص الفعلين بفتح النون. والباقون بياء مضمومة ببنائهما للمفعول، ورفع «أحسن» . وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بياء مفتوحة فيهما، والفاعل الله تعالى. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي كائنين في جملتهم وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) أي وعدهم الله وعدا صادقا في الدنيا على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما له إلى الإيمان: أُفٍّ لَكُما أي قذرا لكما. وقرئ «أف» بفتح الفاء وكسرها بغير تنوين وبالحركات الثلاث مع التنوين لكن القراءات السبعية ثلاثة: كسر الفاء مع التنوين وتركه وفتحها من غير تنوين وهو صوت إذا صوت الإنسان به علم أنه متضجر كما إذا قال: أوه، علم أنه متوجع واللام في لكما لبيان المؤفف له معناه هذا التأفيف لأجلكما خاصة دون غير كما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي أن أبعث من القبر. وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية. وقرأ بعضهم بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين، والياء ففتح الأولى تحريا للتخفيف. وقرئ «أن أخرج» بفتح الهمزة وضم الراء. وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي وقد مضت الأمم من قبلي ولم يبعث منهم أحد، وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي ووالداه يدعوان الله أو يستغيثان بالله من كفره وإنكاره للبعث قائلين له: وَيْلَكَ وهو دعاء بالهلاك. والمراد به التحريض على الإيمان آمِنْ أي صدق بالبعث إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث بعد الموت حَقٌّ أي كائن. وقرئ «أن» بفتح الهمزة، أي آمن بأن وعد الله حق فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) ، أي ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلّا أكاذيب الأولين التي كتبوها في كتبهم من غير أن يكون لها حقيقة، أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبتت عليهم كلمة العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ أي مع أمم قد مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي من كفارهم، إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) أي قد ضيّعوا أعمارهم في الضلال. قال ابن عباس والسدي: نزل قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ إلخ في عبد الله ابن أبي. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فأبى وقال: أف لكما إلخ، ثم أسلم وحسن إسلامه وصار من أفاضل المسلمين فالّذين قالوا: والمراد بقوله تعالى: والّذي قال لوالديه: أف كل عاق لوالديه فأجر لربه قالوا: إن الوعيد في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 30]

عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ الآية مختص بهم فاسم الإشارة عائد إلى القائلين هذه المقالات الباطلة أما من قال المراد بنزول الآية سيدنا عبد الرحمن ابن سيّدنا أبي بكر فيقولون: إن اسم الإشارة عائد إلى القرون التي قبله، فالمراد أجداده والوعيد عليهم كان له جدان ماتا في الجاهلية جدعان، وعثمان ابنا عمرو، وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي ولكل واحد من الفريقين درجات من الإيمان، والطاعة، والكفر، والمعصية قال ابن زيد: درج أهل الجنة يذهب علوا ودرج أهل النار ينزل هبوطا، وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام، وعاصم بالياء التحتية أي وجازاهم الله بذلك ليوفيهم أجزية أعمالهم، والباقون بالنون أي ونجازيهم «لنوفيهم» جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين قدر الله جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَذْهَبْتُمْ قرأ ابن كثير بهمزة ومدة، وابن عامر بهمزتين بلا مد، وهشام بهمزتين ومد بينهما، والباقون بهمزة محققة طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها أي قد أخذتم ما قدر لكم من الراحات في الدنيا، وتمتعتم بالّلذات، واتبعتم الشهوات، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم في الدنيا شيء منها في الآخرة فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي بالعذاب الشديد. وقرئ «عذاب الهوان» بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) أي بسبب استكباركم بغير استحقاق لذلك، أو بسبب خروجكم عن طاعة الله تعالى فالترفع ذنب القلب، والفسق ذنب الجوارح وَاذْكُرْ يا أكرم الرسل لكفار مكة أَخا عادٍ هود بن عبد الله بن رباح إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال أي وقت حذرهم عقاب الله إن لم يؤمنوا بِالْأَحْقافِ أي نازلين على رمال مشرفة على البحر في أرض الشحر من بلاد اليمن، وقال ابن عباس: هو واد بين عمان ومهرة. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهذا تفسير للإنذار وإنما كان هذا إنذار لأن النهي عن الشيء تخويف من مضرته أي صورة إنذار هود أن قال: لا تعبدون إلخ ف «أن» مخففة من الثقيلة وباء التصوير مقدرة معها ولا ناهية. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) أي هائل بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا يا هود لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معالجة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) في وعدك بنزول العذاب بنا قالَ لهم هود إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي لا علم لي بوقت عذابكم إنما علم وقت إتيان العذاب عند الله تعالى، وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من التحذير عن العذاب، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إلي، وأما الإتيان بالعذاب فليس بمقدوري، بل هو من مقدورات الله تعالى وقرأ أبو عمرو بسكون الباء وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) حيث تصرون على طلب العذاب فإن لم يظهر لكم كوني صادقا لم يظهر لكم كوني كاذبا، فالإقدام على طلب العذاب جهل عظيم، فَلَمَّا رَأَوْهُ أي رأوا ما

يوعدون به عارِضاً أي سحابا يعرض في أفق السماء، وهو بدل من الضمير العائد على ما في «بما تعدنا» . مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي سائر إلى أوديتهم استبشروا وقالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي هذا المرئي سحاب يأتينا بالمطر. قال هود: ليس الأمر كذلك، بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها أي تهلك كل شيء من الناس، والحيوان، والنبات بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم. وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحا لينة هادئة طيبة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض، وروي أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأحال الله عليهم الرمال، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفتها الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي فصاروا بعد الهلاك لا ترى إلّا آثار مساكنهم، وقرأ حمزة، وعاصم يرى بضم الياء التحتية ورفع «مساكنهم» ، والباقون «لا ترى» بفتح تاء الخطاب، ونصب «مساكنهم» أي لا ترى أنت أيها المخاطب، وقرأ الجحدري، والأعمش، وابن أبي اسحق، والسلمي، وأبو رجاء بضم التاء الفوقية ورفع «مساكنهم» . كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الهائل نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وهذا تخويف لكفار مكة، وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي ولقد قررنا عادا في أمر عظيم لم نقرركم يا أهل مكة فيه من قوة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، ومع ذلك ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي وأعطيناهم سمعا فما استعملوه في سماع الدلائل، وأبصارا فما استعملوها في تأمل العبر وأفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها فما دفع عنهم هذه القوى شيئا من عذاب الله تعالى إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي لأجل أنهم كانوا ينكرون دلائل الله تعالى، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه بطريق الاستهزاء، وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود، وعاد أرض سذوم، وسبأ، ومدين، والأيكة، وقوم لوط، وفرعون، وأصحاب الرس وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) أي لكي يرجعوا عن الكفر والمعاصي فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي فهلا خلصهم من العذاب الأصنام التي اتخذوها آلهة حال كونها متقربا بها إلى الله تعالى، بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي بل غابوا عنهم فنصرة آلهتهم لهم أمر ممتنع، وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وذلك أي امتناع نصرهم أثر كذبهم الذي هو اتخاذهم الأصنام آلهة وأثر افترائهم الكذب على الله تعالى إثبات

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 31 إلى 35]

الشركاء له تعالى، وقرأ ابن عباس «أفكهم» بفتح الهمزة وسكون الفاء، وقرأ عكرمة، والصباح «أفكهم» على صيغة الماضي أي، وذلك الاتخاذ الذي هو ضياع آلهتهم عنهم ثمرته صرفهم عن الحق، وقرأ أبو عياض، وعكرمة أيضا «أفكهم» بتشديد الفاء، وابن الزبير، وابن عباس أيضا «آفكهم» بمد الهمزة أي جعلهم آفكين، وقرأ ابن عباس أيضا «آفكهم» على صيغة اسم الفاعل بمعنى صارفهم وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي واذكر لقومك إذ وجهنا إليك جماعة كائنة من جن نصيبين في الجزيرة، وهي بين الشام والعراق يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا أي اسكتوا لنسمعه. روي أن الجن كانت تسترق السمع، فلما حرست السماء، ورجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلّا لنبأ حدث، فنهض سبعة من نفر من أشراف جن نصيبين منهم: زوبعة، فسافروا حتى بلغوا تهامة، ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم في جوف الليل يصلي، فاستمعوا لقراءته وذلك عند رجوعه من الطائف وذلك في السنة الحادية عشرة من النبوة، فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من تلاوة القرآن، وقرأ أبو مجلز، وأبو حبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل أي أتم الرسول قراءته، وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) . روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس: أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم. قالُوا عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أي قرآنا يقرأ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى. روي عن عطاء، والحسن: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهودا، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى عليه السلام مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبله من كتب الأنبياء يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) أي موصل إلى المقصود وهي الأعمال الصالحة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلّى الله عليه وسلّم أو كتابه، وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يغفر الله بعض ذنوبكم، وهو حق الله تعالى، وحق الحربيين، فهو يغفر بمجرد إسلام الظالم ولا يتوقف على الاستحلال من المظلوم الحربي، أما مظالم العباد غير الحربيين فلا تغفر إلّا برضا أصحابها وهذه الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس. قال مقاتل: ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس، والجن قبله صلّى الله عليه وسلّم، وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) أي ويمنعكم الله من عذاب أليم معد للكفرة. قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجن، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ محمدا أو من يبلغ عنه فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ له تعالى فِي الْأَرْضِ بهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها، أو دخل في أعماقها، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أي من غير الله أَوْلِياءُ أي أنصار يدفعون عنه العذاب بالاستشفاع له، أو الافتداء به أُولئِكَ أي من لا يجيبون داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أي ظاهر، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن،

أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يتفكر كفار مكة ولم يعلموا علما جازما أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ابتداء من غير مثال وَلَمْ يَعْيَ أي لم يتعب بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وإنما جاز إدخال الباء على خبر «أن» لأنه في تأويل خبر «ليس» فكأنه قيل أليس الله بقادر؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى هو قادر على إحياء الموتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) فإن تعلّق الروح بالجسد أمر ممكن إذ لو لم يكن ممكنا في نفسه لما وقع أولا، والله تعالى قادر على جميع الممكنات، فوجب كونه تعالى قادرا على إعادة الروح إلى الجسد، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يوم يعذبون بالنار يقال لهم: أَلَيْسَ هذا أي العذاب بِالْحَقِّ أي بالعدل. قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه الحق أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقيقة عذاب النار كما في الدنيا، وأنّى لهم ذلك. قالَ الله لهم: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) أي بسبب كفركم في الدنيا فَاصْبِرْ أي إذا كان عاقبة أمر الكفار ما ذكر، فاصبر على أذى قومك كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي كما صبر أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تقريرها، وصبروا على تحمل مشاق معاداة الطاعنين فيها، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكرهم الله على التعيين في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لكفار مكة بالعذاب فإنه نازل بهم لا محالة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي وعند نزول العذاب بهم في الآخرة يستقرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار، لطول مدة العذاب ولهول ما عاينوه من شدة العذاب، والمعنى: أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة يسيرة من النهار، أو كأنه لم يكن (بلغ) أي هذا الّذي وعظمتم به كفاية في الموعظة، أو هذا القرآن كفاية فيها. وقرأ زيد بن علي، والحسن، وعيسى «بلاغا» نصبا إما على المصدر أي بلّغ أيها الرسول بلاغا، كما يؤيده قراءة أبي مجلز بلغ أمرا وإما على النعت «لساعة» ، وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه وصف «لنهار» على حذف مضاف أي ذي بلاغ أي أجل، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) أي فلا يهلك بالعذاب إلّا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه، وقرأ ابن محيصن «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وبفتحهما، وقرأ زيد بن ثابت «يهلك» بضم الياء وكسر اللام، والفاعل الله وبنصب «الفاسقين» و «نهلك» بنون العظمة، ونصب «القوم» ووصفه، قال ابن عباس: إذا عسر على المرأة ولدها تكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صفحة، ثم تغسل وتسقى منها وهي: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلّا الله العظيم الحليم الكريم سبحان الله، ورب السموات، ورب الأرض، ورب العرش العظيم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلّا عشية، أو ضحاها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ الآية والله أعلم.

سورة القتال

سورة القتال وتسمى سورة محمد وسورة الّذين كفروا، مكية، تسع وثلاثون آية، خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة، ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام ومنعوا عقولهم من اتباع الدليل كالمطعمين الجيش يوم بدر منهم: أبو جهل، والحرث ابنا هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه وغيرهم أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) أي أبطل الله أعمالهم فلم يبق لهم عمل بر لأنها لم تكن لله، ولا بأمره إنما فعلوها من عند أنفسهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله واليوم الآخر وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربهم وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ أي بجميع الأشياء الواردة في كلام الله ورسوله وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ أي الحق النازل من ربهم، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) أي حالهم ونياتهم، وذلك حيث يأتي المؤمن بسيئة، ثم يتنبه، ويندم، ويقف بين يدي ربه معترفا بذنبه مستحقرا لنفسه، فصار الذنب شرطا للندم، والثواب ليس على السيئة وإنما هو على الندم ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك إضلال الأعمال، وتكفير السيئات، وإصلاح البال كائن بسبب أن الكفار اتبعوا الشيطان، وبسبب أن المؤمنين اتبعوا أمر الله، وقوله: مِنْ رَبِّهِمْ أما متعلق ب «اتبعوا» الأخير أي من فضل ربهم أو من هدايته، أو متعلق بالأمرين جميعا أي اتبع هؤلاء الحق من حكم ربهم. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) أي مثل هذا البيان يبين الله للناس أحوالهم العجيبة بإحباط الأعمال للكفر، ويغفر الذنوب بالإيمان والفعلان قد يتحدان صورة وحقيقة، وأحدهما يورث إبطال الأعمال والآخر يورث تكفير السيئات بسبب أن أحدهما يكون فيه اتباع الباطل، والآخر يكون فيه اتباع الحق كإطعام الطعام، وقد يختلفان في الظاهر والباطن كمن يؤمن ظاهرا وهو يسر الكفر، ومن يكفر ظاهرا بالإكراه وقلبه مطمئن بالإيمان فإبطال الأعمال لمن أظهر الإيمان بسبب الباطل من جانبه فكأنه تعالى قال الكفر والإيمان مثلان يثبت فيهما حكمان، وقد علم سبب ثبوت الحكم، وهو اتباع الحق والباطل فكل أمر اتبع فيه الحق كان مقبولا مثابا عليه،

[سورة محمد (47) : الآيات 11 إلى 20]

وكل أمر اتبع فيه الباطل كان مردودا معاقبا عليه، فصار هذا عاما في الأمثال فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ أي فإذا لقيتم الكفار في المحاربة يوم بدر، فاضربوا أعناقهم أي فاقتلوهم بأي طريق أمكنكم حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي حتى إذا أضعفتموهم بالجراح فاستوثقوا الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا عليهم بإرسالهم من غير فداء بعد أسرهم وشد وثاقهم، وإما تفدون فداء بمال، أو أسرى مسلمين حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي حتى تضع أهل الحرب آلات الحرب أي حتى تنقرض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر يحارب حزبا من أحزاب الإسلام ذلِكَ أي ذلك المذكور واجب وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي لانتقم من الكفار من غير قتالكم ببعض أسباب الهلكة كالخسف، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي ولكن لم يشأ ذلك، بل يكلفهم بالقتال ليحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر، ويختبركم بالكفار لتجاهدوهم لاستحقاق العظيم، وليختبرهم بكم ليعالجهم ببعض العذاب على أيديكم كي يرتدع بعضهم عن الكفر، وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) ، قرأ أبو عمرو، وحفص «قتلوا» مبينا للمجهول أي والذين استشهدوا في طاعة الله يوم بدر فلن يضيع الله أعمالهم أي لا تخافوا القتل، فإن من يقتل في سبيل الله له من الأجر ما لا يمنع المقاتل من القتال، بل يحثه عليه، وقرأ الباقون قاتلوا أي جاهدوا لإعلاء دين الله سواء قتلوا أو لم يقتلوا، سَيَهْدِيهِمْ في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) أي حالهم في الدنيا والآخرة بأن يقبل الله أعمالهم ويرضي خصماءهم يوم القيامة، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) أي إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وقال ابن عباس: أي طيبها لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي إن تنصروا دين الله وحزب الله يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) أي يثبتكم في مواضع الحرب وعلى محجة الإسلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ أي فألزمهم الله هلاكا وعثارهم واجب لأن آلهتهم جمادات لا قدرة لها على النصرة، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) أي أبطل نفقاتهم يوم بدر ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي ذلك الهلاك وإبطال الأعمال بسبب أنهم كرهوا القرآن لما فيه من بيان التوحيد وبيان أمر الآخرة فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أي فأبطل حسناتهم فلو عملوها مع الإيمان لأثبتوا عليها أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعد كفار مكة في أماكنهم ولم يسافروا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلك الله ما يختص بهم من أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) أي ولقوم محمد أمثال تلك العاقبة، فأهلكوا بأيدي أمثالهم الذين كانوا لا يرضون بمجالستهم وأسروا بأيدي من كانوا يستضعفونهم، وذلك الألم من الهلاك بسبب عام ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ثبوت هلاك أمة محمد كالأمم السالفة بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين على

أعدائهم. وقرئ «ولي الذين» إلخ وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) أي وأن الكافرين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر وتركوا الله فلا ناصر لهم إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فالأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار يتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم والمؤمنون ينظرون إليه وينتفعون به، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون في الدنيا بمتاعها وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فلا يهمهم إلا أكل الملاذ ولا يستدلون بالمأكولات على خالقها ولا يعلمون عاقبة أمرهم كالأنعام، فإنها لا تعلم أنها كلما كانت أسمن كانت أقرب إلى الذبح وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) فيتقلبون في النار ويتضررون بها وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية كذبوا رسلهم أهلكناهم وهم أشد قوة من أهل قريتك الّذين كانوا سببا لخروجك من بينهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) من إهلاكنا كذلك نفعل بأهل مكة فاصبر كما صبر رسل أولئك أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) أي أليس الأمر كما ذكر؟ فمن كان مستقرا على حجة ظاهرة من مالك أمره وهو القرآن وسائر الحجج العقلية كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا واتبعوا أهواءهم الزائغة وانهمكوا في فنون الضلالات مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ و «مثل» مبتدأ وخبره «فيها أنهار» ، وهو عين المبتدأ لأن اشتمال الجنة على أنهار من كذا وكذا صفة لها، وقيل: والخبر مقدر والتقدير: وفيما نقص عليكم مثل الجنة، وعلى هذا فالوقف على «المتقون» كاف والجملة بعده مفسرة لمثل مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغيّر ريحه وطعمه حتى في البطون، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة والباقون بمدها، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فلا يعود حامضا ولا قارصا ولا ما يكره من الطعوم، فلو أراد تغيره من أصل خلقته لشهوة اشتهوها تغير، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ بأسرهم فليس فيها كراهة الطعم لهم وهي لمجرد الالتذاذ فقط وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى من شمع وغيره. روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر، نهر خمرهم، ونهر سيحان وجيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي ولأهل الجنة في الجنة زوجان من كل الثمرات، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي ولهم فيها رفع تكليف عنهم فيأكلون، ويشربون من غير حساب، ولا عقاب، ورفع قبيح، ومكروه فلا يحتاجون إلى غائط، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات بخلاف الدنيا، فإن للأكل توابع ولوازم لا بد منها كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ أي أمن هو خالد في هذه الجنة حسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً أي حارا فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) أي مباعرهم لحدة تكون في ذلك الماء من فرط الحرارة، وقوله تعالى: عَلى بَيِّنَةٍ في مقابلة زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِ في مقابلة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ والْجَنَّةِ في مقابلة النار والثمار في الجنة في مقابلة الزقوم في

النار والماء الحميم في مقابلة الأنهار وقطع الأمعاء في مقابلة المغفرة لأن المغفرة التي في الجنة على أحد الوجوه هي تعرية أكل الثمرات عما يلزمه من قضاء الحاجة، والأمراض كأنه تعالى قال للمؤمن: أكل وشرب لا يجتمع في جوفهم، فيؤذيهم ويحوجهم إلى قضاء الحاجة، وللكافر ماء حميم. ففي أول ما يصل إلى جوفهم يقطع مصارينهم ويشتهون خروجه من جوفهم فخرجت المصارين من أدبارهم، ثم الوجه في توحيد الضمير العائد إلى «من» وجمعه أن يقال المسند إلى «من» إذا كان متصلا فرعاية اللفظ أولى لأنه مسموع، وإذا كان مع انفصال فرعاية المعنى أولى لأنه لا يسمع، بل يبقى في ذهن السامع فالحمل في الانفصال على المعنى، وهو جمع الضمير أولى، وحمل الاتصال على اللفظ، وهو إفراد الضمير أولى. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أي ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إلى خطبتك يوم الجمعة فإذا خرجوا من المسجد قالوا للعلماء من الصحابة منهم ابن مسعود، وابن عباس استهزاء بما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أي شيء قال محمد على المنبر الساعة الماضية القريبة منّا لا نعمل بقوله لأنه قول ساقط لا يعتد به، وقرأ البزي بخلاف عنه بقصر الهمزة أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) أي أولئك التاركون اتباع الحق هم الذين أمات الله قلوبهم فلم تفهم فعند ذلك اتبعوا أهواءهم في الباطل وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) أي والذين اهتدوا بالإيمان زادهم الله تعالى على الاهتداء هدى حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين، وخلق الله فيهم كمال التقوى فلا يخافون معها لومة لائم ويتنزه العارفون عما يشتغل أسرارهم عن الحق ويتبتلون إليه، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) و «أن» تأتيهم بدل اشتمال من «الساعة» و «أني» خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر والمعنى: أنهم لا يتذكرون بذكر أهوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وعظائم الأهوال فيها فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة فجأة إذ قد جاءت علاماتها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا مجالة فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة، أي لا تنفعهم الذكرى إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الايمان حينئذ. وقرئ «إن تأتيهم» على أن «إن» شرط مستأنف جزاؤه فإني لهم إلخ والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة لأنه قد ظهرت أماراتها كرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وانشقاق القمر ونحوهما فكيف لهم اتعاظهم إذا جاءتهم، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي إذا علمت أن مدار السعادة هو التوحيد والطاعة. ومناط الشقاوة هو الإشراك والعصيان فاثبت على العلم بالوحدانية والعمل بموجبه، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وهو ترك الأفضل أو ضرب اليهودي زيد بن السمين، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاث حالات: حال مع الله، وحال مع نفسه، وحال مع غيره، والمعنى: فوحد الله، واطلب العصمة من الله لنفسك، واطلب الغفران من الله للمؤمنين والمؤمنات، ومعنى

[سورة محمد (47) : الآيات 21 إلى 30]

طلب الغفران طلب عدم الافتضاح، ولذلك قد يكون بالعصمة من القبيح كما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد يكون بالستر على القبيح بعد وجوده كما هو في حق المؤمنين والمؤمنات وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) أي يعلم أحوالكم في الدنيا ومواطن إقامتكم في الآخرة إما في الجنة أو في النار وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إذ تأخر عنهم التكليف خوفا من أن لا يؤهلوا للعبادة لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نزلت سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي لم تنسخ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي وذكر فيها الأمر بالقتال فإنه أشق تكليف، وقرئ و «ذكر فيها القتال» على بناء الفعل للفاعل وهو الله تعالى، وعلى نصب «القتال» ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي تشخص أبصارهم نحوك عند ذكرك للقتال شخوصا مثل شخوص من أصابته غشية الموت من كراهية قتالهم مع العدو، فَأَوْلى لَهُمْ (20) أي قاربهم ما يهلكهم، أو فالهلاك لهم وهذا تهديد لهم من عذاب الله تعالى، أو يقال فالموت أولى لهم، فإن الموت خير من الحياة التي ليست في طاعة الله ورسوله طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي طاعة مخلصة وقول حسن خير لهم، وقيل: هذا حكاية لقولهم ويدل عليه قراءة أبيّ «يقولون طاعة وقول معروف» أي يقول المنافقون أمرنا طاعة وكلام حسن لمحمد عليه الصلاة والسلام فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي فإذا جد الأمر خالفوا موعدهم وتأخروا عنه فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) أي فلو صدقوا الله تعالى في إيمانهم واتباعهم الرسول لكان الصدق خيرا لهم، أو فلو صدقوا الله في ذلك القول، وأطاعوا الله ورسوله لكان الصدق خيرا لهم، وقيل: إن جملة «فلو صدقوا الله» إلخ جواب إذا مثل قولك: إذا حضرني طعام، فلو جئتني لأطعمتك. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أي إن كنتم تتركون القتال وتعرضون عنه وتقولون: إن في القتال إفسادا وقطع الأرحام لكون الكفار أقاربنا فلا يقع منكم إلّا ذلك حيث تقاتلون على أدنى شيء هو عادة العرب، وهذه الآية إشارة إلى فساد قولهم: كيف نقاتل والقتال إفساد، العرب من ذوي أرحامنا، فقال تعالى: إن أعرضتم عن القتال فلا يقع منكم إلّا الفساد في الأرض، فإنكم تقتلون من تقدرون عليه وتنبهونه، والقتال واقع بينكم أليس قتلكم البنات إفسادا وقطعا للرحم، فلا يصح تعللكم بذلك مع أنه خلاف ما أمر الله به وهذا القتال مع الكفار طاعة، وقيل: إن توليتم من الولاية، والمعنى: فلعلكم يا معشر المنافقين تتمنون إن صرتم أمراء على الناس وصاروا بأمركم أفسدتم في الأرض بالقتل والمعاصي، وقطعتم الأرحام بإظهار الكفر ويؤكد هذا القول قراءة من قرأ «وليتم» على البناء للمفعول أي وإن جعلتم ولاة ظلمتم بأخذ الرشا، ونحوه، وقراءة علي رضي الله عنه «توليتم» والمعنى ان تولاكم والمعنى: إن تولاكم ولاة ظلمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وساعدتموهم في الإفساد وقطيعة الرحم. وقرئ تقطعوا بحذف إحدى التاءين من التقطع فانتصاب أرحامكم، حينئذ على نزع الجار

أي في أرحامكم وقرئ و «تقطعوا» من القطع أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم الله عن الخير فَأَصَمَّهُمْ فلا يسمعون الكرم المستبين وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) فلا يتبعون الصراط المستقيم، فمن حيث إنهم استمعوا الكلام العلمي ولم يفهموه فهم صم وعند الأمر بالعمل تركوه وعللوا بكونه إفسادا وقطعا للرحم، وهم كانوا يتعاطونه عند النهي فتركوا اتباع النبي الّذي يأمرهم بالإصلاح وصلة الأرحام ولو دعاهم من يأمر بالإفساد وقطيعة الرحم لاتبعوه فهم عمي أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) أي فلا يتدبرون القرآن لكونهم مبعدين منه، ومن كل خير أم على قلوب أقفال فيتدبرون ولا يفهمون فلا تدخل معانيه في قلوبهم إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي أن الذين رجعوا إلى الكفر من بعد ما ظهرت لهم الدلائل وسمعها، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، الشيطان زيّن لهم الرجوع إلى دينهم، وسهل لهم اقتراف الكبائر. وقرئ «سول» مبنيا للمفعول على حذف المضاف أي كيد الشيطان زيّن لهم وَأَمْلى لَهُمْ (25) أي ومد الشيطان لهم في الآمال فيقول لهم: إن في آجالكم فسحة فتمتعوا بدنياكم ورئاستكم إلى آخر أعماركم، وقيل: أمهلهم الله تعالى، ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقرأ أبو عمرو «وأملى لهم» على البناء للمفعول أي أمهلوا ومد في أعمارهم، والباقون على البناء للفاعل، والفاعل إما الشيطان، فإن الله قدر على لسانه ويده ذلك التزيين، أو الله تعالى كما تقدم. وقرئ «وأملى لهم» على صيغة المتكلم فالمعنى أن الشيطان يغويهم، وأنا أنظرهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي ذلك الارتداد بسبب أن المنافقين قالوا سرا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله عليهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معكم عن الديار إن خرجتم منها، ولا نطيعكم في إظهار الكفر قبل قتالكم، وإخراجكم من دياركم، وهذا عبارة عما حكى عنهم بقوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وهم بنو قريظة والنضير الذين كان المنافقون يوادونهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) ، قرأ حمزة، والكسائي، وحفص بكسر الهمزة أي إخفاءهم لما يقولونه، والباقون بفتحها أي جميع أسرارهم، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) أي فكيف يصنعون إذا قبضتهم الملائكة في حال أنهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، فإنهم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل، وقرأ الأعمش «توفاهم» على أنه ماض أو مضارع حذف إحدى تاءيه ذلِكَ أي الضرب بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ من الإيمان والطاعة أي تضرب وجوههم لأنهم أقبلوا على سخط الله كإنكار الرسول

[سورة محمد (47) : الآيات 31 إلى 38]

وإدبارهم لأنهم تولوا عما فيه رضا الله كالإقرار بالرسول وبدين الإسلام وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره» . فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أي فأبطل الله حسناتهم يقال: نزلت الآيات من قوله تعالى: الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ إلى هاهنا في شأن المنافقين الذين رجعوا من المدينة إلى مكة مرتدين عن دينهم، ويقال نزلت في شأن الحكم بن أبي العاص المنافق وأصحابه الذين شاوروا فيما بينهم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم، يخطب يوم الجمعة في أمر الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا إن ولينا أمر هذه الأمة نفعل كذا وكذا ولا يستمعون إلى خطبته صلّى الله عليه وسلّم حتى قالوا بعد ذلك لعبد الله بن مسعود: ماذا قال محمد الآن على المنبر استهزاء منهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) أي أحسب المنافقون أنه لن يعلم الله أسرارهم أم حسبوا أنه لن يظهر الله أحقادهم على المؤمنين لرسوله، وللمؤمنين فتبقى أمورهم مستورة ف «أم» استفهامية والمعنى: أن ذلك الإظهار ما لا يكاد يدخل تحت الشك، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ أي ولو أردنا لعرفناكهم تعريفا معه المعرفة فتعرفهم بعلامتهم القبيحة، وعن أنس رضي الله عنه قال: ما خفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كل واحد منهم مكتوب هذا منافق، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أي والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول فيفهمه النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يفهمه غيره، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى في إظهار أمرهم وفي المنع من الصلاة على جنائزهم والقيام على قبورهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) فيجازيكم بحسب قصدكم، وهذا وعد للمؤمنين، وبيان لكون حالهم على خلاف حال المنافقين، فكان للمنافق قول بلا عمل، وللمؤمن عمل ولا يقول به، وكان المؤمن يعمل الصالحات ويتكلم في السيئات مستغفرا، وكان المنافق يتكلم في الصالحات ويعمل السيء والله تعالى يسمع الأقوال الفارغة من المنافقين ويعلم الأعمال الصالحة منكم ولا يضيع، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد والتكاليف الشاقة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ أي حتى نعلم المقدمين على الجهاد وَالصَّابِرِينَ على مشاق الجهاد أي الذين لا يولون الأدبار وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) أي ونظهر أخباركم من حسن أعمالكم وقبحها. وقرأ شعبة في الأفعال الثلاثة بالياء التحتية مسندا لضمير راجع إلى الله، وقرئ ونبلو بسكون الواو على تقدير ونحن نبلو. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب قريظة والنضير أو من كفار قريش وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن دين الله وصرفوا الناس عن طاعة الله وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه وعادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وهو نعت محمد في التوراة وما ظهر على يديه من المعجزات، وما نزل عليه من الآيات لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تنزه الله تعالى عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) أي مكايدهم في القتال وفي إبطال دين الله

تعالى فيكون النصر للمؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم من الفرائض والصدقة، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمركم من الجهاد والسنة وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) بالكفر، والنفاق، والعجب، والرياء، والسمعة، والمن، والأذى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) أي إن الله لا يغفر الشرك ويغفر غيره إن شاء فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي إذا علمتم وجوب الجهاد فلا تضعفوا بالقتال مع العدو ولا تدعوا الكفار إلى الصلح وأنتم الأعلون أي الغالبون وهذه جملة حالية فتدعوا إما معطوف على المجزوم، أو جواب النهي منصوب بإضمار أن، وقرأ حمزة، وشعبة «السلم» بكسر السين، وَاللَّهُ مَعَكُمْ وهذا إرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه وذلك لأن الله تعالى لما قال: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ كان ذلك سبب الافتخار، فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ليس ذلك العلو على الكفار من أنفسكم، بل من الله تعالى وأيضا لما كان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم وشوكة الكفار وكثرتهم قال تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وما كان الأمر بما يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي والله ناصركم فلا يبقى لكم شك في أن الغلبة لكم، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي ولن يضيعها والمعنى: أن الله ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا أي فكأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك النصر فيعطيكم أجوركم بالتمام. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أي أن الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة ومشغلة عن طاعة الله تعالى وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم وثواب كل أعمالكم وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) أي ولا يطلب منكم إخراج أموالكم كلها بحيث يخل الإخراج بمعاشكم، بل يطلب منكم إنفاق القليل من الأموال في طاعته تعالى ليرجع ثوابه إليكم إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) أي لو طلب الله جميع أموالكم وألح عليكم في الطلب لما تعطونها، وأخرج الله أو الطلب أو البخل أحقادكم كيف وأنتم تبخلون باليسير لا فكيف لا تبخلون بالكثير ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرها. وقرئ «ونخرج» بنون العظمة، وقرئ «ويخرج» بالياء والتاء وفاعله «أضغانكم» أي ويخرج بسبب البخل الضغائن فيفضي إلى قتال الطالبين، وهم النبي وأصحابه ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي أنتم الذين تطلبون لتنفقوا في طاعة الله من الزكاة ونفقة الغزو وغيرهما فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي فمنكم ناس يبخلون، ومنكم من يجود، وَمَنْ يَبْخَلْ بالإنفاق في طاعة الله فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي فإنما يمسك الثواب عن نفسه فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب، وبثمن الدواء فلا يبخل إلا على نفسه، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ فلا يحتاج إلى مالكم، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ فلا تقولون: نحن أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء فإنهم لا غنى لهم عن ذلك، لأنهم لولا القتال لقتلهم الكفار، ولولا دفع حاجة الفقراء لقصدوهم بسوء وكيف

لا يكونون فقراء وهم يوم القيامة موقوفون مسؤولون؟! وَإِنْ تَتَوَلَّوْا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يخلق الله قوما آخرين بدلكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء؟ فضرب صلّى الله عليه وسلّم بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله الرجال من الفرس» «1» . وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هي أحب إلي من الدنيا» . والله أعلم.

_ (1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (4: 158) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14: 501) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 17) .

سورة الفتح

سورة الفتح مدنية، تسع وعشرون آية، خمسمائة وستون كلمة، ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا وسبب نزول هذه السورة أنه صلّى الله عليه وسلّم في السنة السادسة خرج بألف وأربعمائة من أصحابه قاصدين مكة للاعتمار فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة، وساق صلّى الله عليه وسلّم سبعين بدنة هديا للحرم، وساق القوم سبعمائة، فلما وصلوا الحديبية- وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة- منعه المشركون من دخول مكة، وصالحوه على أن يأتي في العام القابل ويدخلها، ويقيم فيها ثلاثة أيام، فتحلل هو وأصحابه هناك بالحلق، وذبح ما ساقوه من الهدى ثم رجعوا يخالطهم الحزن، فأراد الله إذهاب الحزن عنهم فأنزل الله تعالى عليه صلّى الله عليه وسلّم هذه السورة، وهو سائر ليلا في رجوعه، وهو بكراع الغميم (وهو واد أمام عسفان بين مكة والمدينة) فبشر بفتح مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه عند انصرافه من الحديبية وقال صلّى الله عليه وسلّم: «نزلت عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» «1» . فلما تلاها قال المسلمون: هنيئا مريئا لك يا رسول الله لقد بيّن الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى عليه : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً [الفتح: 5] . إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) أي ظاهر الأمر فارقا بين الحق والباطل، أي إن الله فتح مكة عنوة وصلحا، وفتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف والسنان، فإن أسفل مكة فتحها خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحا، ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم من جهته رضي الله عنه فصار الحكم له صلّى الله عليه وسلّم. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي لكي يغفر الله لك ما سلف من ترك الأفضل قبل الوحي وما يكون بعد الوحي إلى الموت، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين، وضمّ الملك إلى النبوة بإخلاء مكة عن معانديك، وباستجابة دعائك في طلب الفتح، وبقبول شفاعتك في الذنوب في

_ (1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (4: 158) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14: 501) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 17) .

الآخرة، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) في تبليغ الرسالة، وإقامة علامات الرياسة، فلا يبقى من يقدر على الإكراه على الكفر وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) أي نفيسا قليل النظير، وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه، فإن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان، وسببا لتطهير العباد من العصيان، وبالفتح يحصل الحج، ثم بالحج يحصل الغفران. وقال الشعبي: المراد من هذا الفتح صلح الحديبية. لقد أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة غيرها، حيث بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبلغ الهدى محله، وأطعموه نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «صلح الحديبية أعظم الفتوح» . هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي الله وحده هو الذي أنزل الطمأنينة في يوم الحديبية وغيره في قلوب الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بسبب ذكرهم الله تعالى تحقيقا للنصر، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي ليزدادوا إيمانا بشرائع الدين مع ايمانهم بالله ورسوله، وليزدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله، وأن الله واحد، والحشر كائن، وآمنوا بأن كل ما يأمر الله به واجب، وبأن كل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم صدق، وهو الّذي قد قال لهم: «لا بد من أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت» . وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة أو الأسباب، كالصاعقة والزلازل. فكان تعالى قادرا على إهلاك عدوه بجنوده، ولكن لم يفعل ذلك بل أنزل على المؤمنين ثبات قلوبهم ويقينها مع الله ورسوله ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأمور حَكِيماً (4) في تدبيره تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يخرجون منها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، أي يغطيها ولا يظهرها وَكانَ ذلِكَ أي المذكور من الإدخال والتفكير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) . والظرف حال من فوزا أي كائنا في علم الله تعالى، فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول حين سمع بكرامة الله للمؤمنين فقال: يا رسول الله، والله ما نحن إلّا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ فأنزل الله تعالى قوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، أي ظن الأمر السوء فإنهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حين خرجوا إلى الحديبية لا يرجعون إلى المدينة وأن المشركين يستأصلونهم، والتعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين كأن الله تعالى يقول: بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الله جنات في الآخرة ويعذب الكافرين والمنافقين بأيديكم في الدنيا يكون تعذيبهم بإيصال الله الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبتسليط النبي وأصحابه عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم دائرة الفساد، فيحيط بهم حيث لا خروج لهم منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهذا إشارة إلى أن الّذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب، فإن من كان به بلاء قد يكون مصابا على وجه

الامتحان ليصير مثابا، وقد يكون مصابا على وجه التعذيب وَلَعَنَهُمْ أي طردهم من كل خير فإن المغضوب عليه قد يقنع الغاضب بالعتب والشتم، أو الضرب ولا يقتضي غضبه إلى إبعاد المغضوب عليه من جنابه، ولا إلى طرده من بابه، وقد يفضي غضبه إلى ذلك لكون الغضب شديدا، وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة جَهَنَّمَ وَساءَتْ أي جهنم مَصِيراً (6) أي مرجعا وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإنزالهم قد يكون للرحمة وقد يكون للعذاب، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي شديدا بنقمة الكافرين والمنافقين، حَكِيماً (7) بكرامة المؤمنين المخلصين بإيمانهم إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي يشهد أن لا إله إلّا الله، وأن دينه هو الحق، وأحق أن يتبع، وَمُبَشِّراً لمن يوافقك في تلك الشهادة وَنَذِيراً (8) لمن يخالفك فيها لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لأن كون النبي مرسلا من الله يستلزم أن يؤمن المكلّف بالله وبالمرسل وَتُعَزِّرُوهُ أي تنصروه بتقوية دينه ورسوله. وقرئ شاذا «تعززوه» بزاءين مع الفوقانية. وقرئ بضم التاء وسكون العين وبفتح التاء، وضم الزاي وكسرها، وهاتان مع الراء. وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظموه، لأن الله يعظمكم بالبشارة. وقرئ بسكون الواو. وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) أي تنزهوه عن السوء في الدوام مخافة عقابه الشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الأفعال الأربعة. والباقون بالتاء على الخطاب، والكنايات الثلاثة راجعة إلى الله تعالى لتكون على وتيرة واحدة، ويصح رجوعها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحينئذ إن معنى يسبحونه ينزهونه صلّى الله عليه وسلّم عن كل وصمة بإخلاف وعده بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام، وبنحو ذلك، ويصح أن يكون أمرهم بالتنزيه في أوقات يذكرون فيها الفحشاء والمنكر، إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي إن الذين بايعوا نبي الله على أن لا يفروا من قتال قريش تحت الشجرة السمرة في الحديبية، وهم مقدار ألف وخمسمائة رجل كأنهم يبايعون الله. والمعنى: إن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما، لأن من بايع النبي على أن لا يفر من موضع القتال إلى أن يقتل، أو أن يفتح الله لهم وإن كان يقصد ببيعته رضا الرسول ظاهرا لكن إنما يقصد بها حقيقة رضا الرحمن فإن المقصود توثيق العهد بمراعاة أوامره ونواهيه. وهذا يسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى في شأن هذه البيعة، لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يُبايِعُونَكَ الآية. وقرئ «إنما يبايعون لله» ، أي لأجله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي نعمة الله، عليهم في الهداية فوق إحسانهم إلى الله وهو ما صنعوا من البيعة أو نصرة الله تعالى إياهم أعلى من نصرتهم إياه. ويقال: حفظ الله إياهم على البيعة أقوى من وضع يد ثالث على أيدي المتبايعين لحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد، فإن كل واحد من المتبايعين مدّ يده إلى صاحبه في البيع والشراء، وبينهما ثالث متوسط يضع يده على يديهما فيحفظ يديهما إلى أن يتم العقد، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي فمن نقض عهده فإنما يعود ضرر نقضه على نفسه، لأنه فوت على نفسه الإحسان الجزيل في مقابلة العمل القليل فقد خسر، أو يقال: من يبايعك أيها النبي إذا نكث لا يكون نكثه عائدا إليك، لأن البيعة مع الله ولا عائد إلى الله لأنه لا يتضرر بشيء فضرره لا يعود إلّا إليه. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) أي ومن

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 20]

وفي بعهده بالله بالصدق فسوف يعطيه جنة، فلم ينقض منهم أحد حتى ماتوا على بيعة الرضوان إلّا رجل منهم يقال له: جد بن قيس- وكان منافقا- اختبأ يومئذ تحت إبط بعيره ولم يدخل في بيعتهم، فأماته الله على نفاقه. وقرأ حفص بضم هاء «عليه» وتفخيمه. والباقون بالكسر والترقيق. وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون. سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ من غزوة الحديبية مِنَ الْأَعْرابِ أي من بني غفار، وأسلم، وأشجع، وديل، وقوم من مزينة وجهينة فإنهم امتنعوا عن الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لظنهم أنه يهزم، فإنهم قالوا: أهل مكة يقاتلون في باب المدينة فكيف يذهب إلى قوم قد غزو في عقر داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه في أحد، وكيف يكون حالهم إذا دخل عدوهم بلادهم وأحاطوا بهم؟! فأوحى الله إليه صلّى الله عليه وسلّم بأنهم سيقولون: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا أي النساء والذراري عن الخروج معك إلى الحديبية. وعن إجابتك في هذه المرة فإنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بمصالحهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال، وعن التفريط في العيال فَاسْتَغْفِرْ لَنا الله، يا رسول الله بتأخرنا عنك إلى غزوة الحديبية، فكذبهم الله تعالى في الاعتذار والاستغفار بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ لهم يا أكرم الخلق عند اعتذارهم: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي فمن يمنعكم من قضاء الله على شيء من النفع إن أراد بكم ما يضركم من هلاك الأهل والمال حتى تتخلفوا عن الخروج إلى الحديبية لحفظهما. وقرأ حمزة والكسائي بضم الضاد والباقون بفتحها. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي ومن يمنعكم من مشيئة الله على شيء من الضرر إن أراد بكم ما ينفعكم من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلف عن الخروج لأجل حفظهما بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) ، أي ليس الأمر كما تقولون فإنكم أظهرتم أنكم تعتقدون أنهم بالتخلف مسيئون حتى استغفرتم بل كان الله عالما بأن ما في قلوبكم ليس حاجة في ذلك الاستغفار، لأنكم تعتقدون أنكم بالتخلف محسنون، وليس تخلفكم لخوف ضياع المال والأهل، بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بل ظننتم أن لا يرجع من الحديبية إلى المدينة أبدا محمد وأصحابه- لأن المشركين تستأصلهم بالمرة- فخشيتم إن خرجتم معهم أن يصيبكم ما أصابهم، فلأجل ذلك تخلفتم لما في قلوبكم من عظمة المشركين، وحقارة المؤمنين حتى حملكم ذلك على أنكم قلتم ما هم في قريش إلّا أكلة رأس، وَزُيِّنَ ذلِكَ أي الظن فِي قُلُوبِكُمْ فمن ذلك تخلفتم وقلتم ما لا ينبغي. وقرئ «زين» للفاعل وإسناده إلى الله تعالى، أو إلى الشيطان، أي فزين الشيطان ظنكم عندكم حتى قطعتم به، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ كظن أن لا ينصر الله نبيه، وظن أن الرسول كاذب في قوله، وأن الله يخلف وعده وأن محمدا غير رسول، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) ، أي هلكى عند الله تعالى بهذا الظن وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) أي ومن لم يصدق بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنا أعتدنا لهم نارا شديدة في التوقد، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما يتصرف في الكل كيفما يشاء، ومن عظم ملكه يكون أجره في غاية العظم وعذابه في غاية

الألم، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من المبايعين بيعة الرضوان وغيرهم، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من الظانين ظن السوء وغيرهم، وفي هذا حسم لأطماعهم الفارغة في استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) أي مبالغ في المغفرة والرحمة لمن يشاء من المؤمنين سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها أي سيقول المتأخرون عن غزوة الحديبية عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتغتنموها: ذَرُونا أي اتركونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر، وقد أوضح الله كذبهم بهذا حيث يقولون من تلقاء أنفسهم دعونا نشهد معكم في قتال أهل خيبر، فإذا كان أموالهم وأهلوهم شغلتهم يوم دعوتكم إياهم إلى أهل مكة فما بالهم لا يشتغلون بذلك يوم أخذ الغنيمة يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ. وقرأ حمزة والكسائي «كلم الله» بفتح الكاف وكسر اللام، أي يريدون أن يغيروا وعد الله الّذي وعده لأهل الحديبية، فإن الله وعد أهل الحديبية فتح خيبر، وأن غنيمتها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب عنها منهم غير جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسهم من حضر، فالله تعالى جعل غنائم خيبر لمن شهد الحديبية خاصة عوضا عن غنائم أهل مكة حيث رجعوا من الحديبية على صلح من غير قتال، ولم يصيبوا من الغنائم شيئا. وقيل: والمعنى يريدون أن يبدلوا كلام الله وهو قوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح: 6] وذلك لأنهم لو اتبعوكم لكانوا في حكم بيعة أهل الرضوان الموعودين بالغنيمة، فيكونون من الذين رضي الله عنهم فلا يكونون من الذين غضب الله عليهم، فيلزم تبديل كلام الله قُلْ يا أشرف الخلق لهم إقناطا لهم: لَنْ تَتَّبِعُونا أي لا تتبعونا في الخروج إلى خيبر كَذلِكُمْ أي مثل هذا القول الصادر منّي قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل مرجعنا إليكم، أي حكم الله عند انصرافنا من الحديبية بأن لا تتبعونا، وبأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم منها نصيب فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي ليس ذلك النهي حكم الله بَلْ تَحْسُدُونَنا على أن نشارككم في الغنائم فقلتم: إن الله حكم بتخصيص أهل الحديبية بغنائم خيبر وبمنعنا منها بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) أي لا يفهمون إلا فهما قليلا وهو فطنتهم لأمور الدنيا، ولا يفهمون من قولك: لا تخرجوا إلى خيبر إلّا ظاهر النهي، ولم يفهموا من حكمه فحملوه على مرادهم وعللوه بالحسد، فإن حب الدنيا ليس من شيمة العالم العاقل. قُلْ يا أشرف الرسل- لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ أي أهل غلظ الأكباد: ديل، وأشجع، وقوم من مزينة وجهينة-: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي إلى قتال قوم أصحاب سلاح من آلة الحديد وقوة شديدة في القتال- وهم بنو حنيفة- هم تابعو مسيلمة الكذاب وغزاهم أبو بكر. وقال رافع بن خديج: كنّا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم أو هم هوازن وثقيف، غزاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا المخلفين عام الحديبية إلى الحرب، فامتنعوا فقال: ستدعون إلى حرب قوم مسلحين محاربين فهم أكثر بأسا من يكون على خلاف ذلك، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي إن أحد الأمرين يقع إما المقاتلة أبدا، أو سلام لا غير.

وقرئ «أو يسلموا» بالنصب بإضمار «أن» على معنى تقاتلونهم إلى أن يسلموا. فَإِنْ تُطِيعُوا أي توافقوا الداعي على القتال يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً أي يعطكم الله الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي وإن تعرضوا عن إجابة الدعوة إلى قتال المرتدين كمسيلمة أو المشركين كهوازن كما أعرضتم عن غزوة الحديبية من قبل هذا الوقت بناء على الظن الفاسد يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لتضاعف جرمكم، ثم جاء أهل الزمانة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله قد أوعد الله بعذاب أليم لمن يتخلف عن الغزو، فكيف لنا ونحن لا نقدر على الخروج إلى الغزو؟! فأنزل الله فيهم قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على من في عضوه أو قوته خلّل مأثم في التخلف عن الغزو، وكذا فقير لا يمكن من استصحاب ما يحتاج إليه من مصالح الجهاد، وإنما قدّم الأعمى على الأعرج، لأن عذره مستمر لا يمكن الانتفاع به في حراسة وغيرها ولا يعود بصيرا أما الأعرج فإنه يمكن الانتفاع به في الحراسة ونحوها وقد يقدر على القتال بالرمي وغيره، وقدّم الأعرج على المريض لأن عذره أشد من المريض لإمكان زوال المرض عن قرب، فالعذر في محل الآلة أتم من الآفة في القوة. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي من المعذورين وغيرهم يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فطاعة الله تعالى في طاعة رسوله وكلامه تعالى يسمع من رسوله، وَمَنْ يَتَوَلَّ عن الطاعة بقلبه يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) . وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» ، و «نعذبه» بالنون فيهما. والباقون بالياء التحتية، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، وحمله على جمله صلّى الله عليه وسلّم ليبلغ أشرافهم أنه صلّى الله عليه وسلّم جاء معتمرا ولم يجيء محاربا، فعقروا جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأرادوا قتله. فمنعهم الأحابيش، فخلوا سبيله، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يأت لحرب، وإنما جاء زائر لهذا البيت معظما لحرمته، فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واحتسبته قريش عندها، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» . أي نقاتلهم، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفروا، ووضع النبي صلّى الله عليه وسلّم شماله في يمينه فقال: «هذه بيعة عثمان» وقد علم بنور النبوة أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنتم اليوم خير أهل الأرض» «1» وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين، ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا،

_ (1) رواه البخاري في صحيحه 3: 257، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب: 167، وأحمد في (م 4/ ص 331) ، والبيهقي في السنن الكبرى (5: 215) ، والبيهقي في دلائل النبوة (4: 106) ، ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 153، وابن الجارود في المنتقى 505، -

وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين، وكانوا عشرة دخلوا مكة بإذنه صلّى الله عليه وسلّم فَعَلِمَ. الله ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص عند مبايعتهم له صلّى الله عليه وسلّم كما علم ما في قلوب المنافقين من المرض. وهذا معطوف على يبايعونك، لأن رضاه تعالى عنهم كان عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم لا عند المبايعة فقط، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وهذا معطوف على «رضي» أي فأنزل عليهم سكون النفس بالربط على قلوبهم، وقد جعل الله تعالى طاعة الله والرسول علامة لإدخال الله تعالى الجنة، وبيّن أن تلك الطاعة وجدت من أهل بيعة الرضوان، وأشار إلى طاعة الله بقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وإلى طاعة الرسول بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وأشار إلى الموعود به- وهو إدخال الجنة- بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) أي وجزاهم على الطاعة فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة، فأقام صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بقيته، وبعض المحرم، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع. وقال السدي: هو فتح مكة. وقرئ و «آتاهم» بالمد، أي أعطاهم. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً من خيبر- وهي أرض ذات عقار وأموال- يَأْخُذُونَها. وقرأ الأعمش وطلحة ونافع بالتاء على طريق الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي غالبا غنيا عن إعانتكم إياه حَكِيماً (19) حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه، فإنه تعالى يذل من يشاء بعزته، ويعز من يشاء بحكمته وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر فيما يأتي إلى يوم القيامة، تَأْخُذُونَها والخطاب لأهل الحديبية، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي غنائم خيبر فليست كل الثواب بل الجزاء قدامكم، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي كف الله أيدي بني أسد وغطفان، وهم حلفاء أهل خيبر عنكم حيث جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا عن عيالكم لما خرجتم إلى خيبر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قصد خيبر وحاصر أهلها، همت قبائل من بني أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة، فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، فنكصوا. وقال قتادة: كف أيدي يهود خيبر عن المدينة بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية، أما كف أيدي أهل مكة بالحديبية فمذكور بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إلخ. وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وهذا معطوف على مفهوم «فعجل لكم هذه» ف «اللام» يدل على النفع كما أن «على» يدل على الضر، أي فجعل الله هذه الغنائم وفتح خيبر لتنفعكم، ولتكون أمارة يعرف المؤمنون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية ما ذكر من المغانم،

_ - وعبد الرزاق في المصنف 9720، والألباني في إرواء الغليل (1: 58) ، وابن حجر في فتح الباري (4: 10) ، والبغوي في شرح السنة (1: 177) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 77) ، والطبري في التفسير (26: 63) ، وابن كثير في التفسير (7: 334) ، وابن كثير في البداية والنهاية (4: 176) .

[سورة الفتح (48) : الآيات 21 إلى 29]

وفتح مكة أي لتنفعكم في الظاهر وتنفعكم في الباطن حيث يزداد يقينكم إذا رأيتم صدق الرسول في أخباره عن الغيوب، فيكمل اعتقادكم أي عجل الله فتح خيبر ليكون ذلك الفتح، وهو عزيمة أهل خيبر وسلامتكم عبرة للمؤمنين، لأنكم كنتم ثمانية آلاف، وإن أهل خيبر كانوا سبعين ألفا، وكف أيدي الناس عنكم وعن عيالكم ليكون ذلك الكف علامة للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) أي طريق التوكل عليه تعالى والثقة بفضله تعالى في كل ما تأتون وما تذرون، وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها. وقوله: وَأُخْرى إما مبتدأ «ولم تقدروا» صفته، وقد أحاط الله خبره أي وغنيمة أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، وإما معطوف على مغانم كثيرة، فكأنه تعالى قال: وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين قد حفظها الله لهم لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحراس بالخزائن وهي غنائم فارس والروم، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) ، لأن قدرته تعالى ذاتية لا تختص بشيء دون شيء وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي ولو اجتمع بنو أسد وغطفان مع أهل خيبر كما زعموا، وقاتلوكم لانهزموا ولا ينصرون بل إنما الغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمرا اتفاقيا بل هو أمر إلهي محتوم، ثُمَّ بعد انهزامهم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ينفع باللطف وَلا نَصِيراً (22) يدفع بالعنف، بل الهلاك لا حق بهم بعد الانهزام، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي سن الله غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم حين خرجوا على الأنبياء، وَلَنْ تَجِدَ أيها السامع لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) أي إن الله فاعل مختار يفعل ما يشاء ويقدر على إهلاك أحبائه من الأنبياء. ولكن لا يغير عادته وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ أي أيدي كفار مكة عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ أي في داخل الحرم وهو الحديبية غير أن كان فيها رمى بالحجارة بين الفريقين مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي أن غلبكم عليهم، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد. وروى الترمذي وثابت عن أنس بن مالك: أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم ليقتلوه، فأخذهم سلمان، فاستحياهم، فنزلت هذه الآية. وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) وقرأ أبو عمرو بالياء التحتية أي بما يعمل الكفار. والباقون بالتاء الفوقية أي بما تعلمون أنتم فإن الله يرى فيما تعملون من المصلحة. وإن كنتم لا ترون ذلك هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي عن وصولكم إلى البيت الحرام عام الحديبية، وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي الذي ساقه النبي وأصحابه. وقرأ أبو عمرو وفي رواية بالجر عطفا على المسجد بحذف المضاف، أي وعن نحر الهدي. وقرئ بالرفع بفعل مقدر مبني للمجهول، أي وصد الهدى. وروي عن أبي عمر وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فقوله:

أَنْ يَبْلُغَ إما في محل رفع على أنه نائب الفاعل، أي ممنوعا بلوغ الهدي محل نحره المعتاد- وهو منى- وإما في محل جر على إسقاط الجار أي ممنوعا من أن يبلغ منحره، فإن الكفار لم يتركوا المسلمين أن يبلغوا الهدي محله الذي يعتاده الناس بذبحه فيه، وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وقوله: أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل من «رجال» و «نساء» وجواب «لولا» محذوف أي لولا إهلاك أناس مؤمنين في مكة- كالوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، وأبي جندل- غير معروفين لكم فأصابه إثم إياكم من جهتهم من غير أن تعلموا أنهم مؤمنون مانع، لما كف الله أيديكم عن كفار مكة، ولسلطكم عليهم بالقتل عام الحديبية فإنكم إن قتلتم المؤمنين لزمتكم الكفارة، وهو دليل الإثم بتقصيركم في عدم تمييز المسلم من الكافر ولزمكم تعيير الكفار لكم بأنكم فعلتم بإخوانكم ما فعلتم بأعدائكم لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي هم الذين كفروا، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم، ولولا مؤمنون مختلطون بهم لعجل الله بهم، ولكن كف الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين بزيادة الخير والطاعة لله تعالى والمشركين بدخولهم في دين الإسلام، أي ليخرج المؤمنون من مكة ويهاجروا إلى المدينة، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة، لأنهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم لأجل اختلاطهم بهم رغبوا في مثل هذا الدين، لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) أي لو تميز المؤمنون عن الكفرة وخرجوا من عندهم لعذبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم، وبسبي ذراريهم. إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ف «إذ» ظرف ل «عذبنا» أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم التكبر، تكبر الملة الجاهلية وهو منعهم رسول الله وأصحابه عن البيت الّذي الناس فيه سواء. وقالوا: إن المسلمين قتلوا أبناءنا وإخواننا، ثم دخلوا علينا على إهانتهم إيانا، واللات والعزى لا يدخلون مكة، فهذا تكبر الجاهلية التي دخلت في قلوبهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وهذا عطف على «جعل» والمراد: تذكير حسن صنيع الرسول والمؤمنين، وسوء صنيع الكفرة. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأحنف على أن يعرضوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، وعلى وضع الحرب عشر سنين. وقال البراء: صالحوهم على ثلاثة أشياء على أن من أتاهم من المشركين إلى المدينة مسلما ردوهم إليهم، ومن أتاهم من المسلمين إلى مكة لم يردوه إلى المدينة، وعلى أن يدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة من عام قابل، ويقيم فيها ثلاثة أيام، وعلى أن يدخلها بسلاح. فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلي رضي الله عنه «اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم» . فقالوا: ما نعرف هذا! اكتب باسمك اللهم. ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة» . فقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما

صددناك عن البيت، وما قاتلناك، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب ما يريدون» . فهمّ المؤمنون أن يبطشوا بهم، وكان في نفس المؤمنين أن لا يرجعوا إلّا بأحد الثلاثة بالنحر في المنحر، وأبوا أن لا يكتبوا محمدا رسول الله، وبسم الله، فأنزل الله السكينة عليهم، فلمّا سكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكن المؤمنون، فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» «1» . فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات لما حصل لهم من الغم. فقام صلّى الله عليه وسلّم ودخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس من عدم امتثال أمره صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج، ففعل ذلك، فلما رأوا ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي ألهم الله المؤمنين كلمة الشهادة وهي: «لا إله إلّا الله» حتى لا يلتفتوا إلى ما سوى الله تعالى، وَكانُوا أَحَقَّ بِها أي كانوا أحق بكلمة التوحيد في علم الله تعالى، وَأَهْلَها أي وكانوا متصفين بكلمة التقوى في الدنيا، لأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) فيسوق كل شيء إلى مستحقه، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ أي لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة صدقا، ولم يجعلها أضغاث أحلام. وقوله: بِالْحَقِّ إما صفة لمصدر محذوف أي صدقا، ملتبسا بالحكمة البالغة وهي التمييز بين الراسخ في الإيمان والمتزلزل فيه، أو حال من «الرؤيا» ، أي ملتبسة بالصدق ليست من نوع أضغاث الأحلام حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه وقت خروجه إلى الحديبية: والله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ تعالى آمِنِينَ من العدو، فلا تخافون عدوكم من أن يخرجكم في المستقبل مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ. فقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ إشارة إلى أداء الحج، ومُحَلِّقِينَ إشارة إلى تمام الحج لا تَخافُونَ من العدو فيبقى أمنكم بعد خروجكم عن الإحرام، لأن الإنسان إذا خرج عن الإحرام بالحلق لا يحرم عليه القتال، وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم، أي رأى عام الحديبية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا رؤوسهم وقصروا فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة في عامهم، فلمّا خرجوا معه صلّى الله عليه وسلّم وصدّهم الكفار

_ (1) رواه أبو نعيم في تاريخ أصفهان، والشجري في الأمالي (1: 205) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5: 204) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2139) ، وابن ماجة في السنن (1333) ، والسيوطي في الحاوي للفتاوي (2: 48) ، وابن كثير في التفسير (7: 342) ، والقرطبي في التفسير (16: 293) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1: 341) ، والعقيلي في الضعفاء (1: 176) ، وابن العراقي في تنزيه الشريعة (2: 106) ، والعجلوني في كشف الخفا (2: 378) ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة 357، والفتني في تذكرة الموضوعات 48، والشوكاني في الفوائد المجموعة 35، والسيوطي في اللئالئ المصنوعة (2: 17) ، وابن الجوزي في الموضوعات (2: 109) ، وابن القيسراني في تذكرة الموضوعات 876.

بالحديبية ورجعوا، وشق عليهم ذلك قال عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نفيل، ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا، ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أي فعلم الله ما لم تعلموا في الصلح في الحديبية من المصلحة المتجددة، فإن دخولكم في سنتكم سبب لهلاك المؤمنين والمؤمنات فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) أي فجعل الله من قبل ذلك الدخول في مكة، أو جعل الله في المنع عن الوصول إلى مكة، أو جعل الله لأجل صالح الحديبية فتحا سريعا- وهو فتح خيبر- فيقويكم به فإنه كان سببا لإسلام ناس كثيرة تقوى بهم المسلمون فتكون تلك الكثرة سببا لهيبة الكفار، ولمنعهم من قتال المسلمين حين رجعوا إلى مكة في العام القابل، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي بالقرآن وَدِينِ الْحَقِّ أي وبدين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعلي الله أو رسوله الدين الحق على كل الأديان بنسخ بعض الأحكام وبإظهار بطلان الباطل، وبتسليط المسلمين على أهل الباطل وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) على نبوة رسوله بإظهار المعجزات. مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ف «محمد» خبر مبتدأ محذوف، أي هو، أي الرسول المرسل بذلك محمد، و «رسول الله» عطف بيان، أو هو مبتدأ و «رسول الله» نعت له مفيد للمدح والموصول بعده عطف عليه، وخبره «أشداء» ، و «رحماء» ، و «تراهم» ، وعلى هذا فلا يحسن الوقف على رسول الله بل على «بينهم» بخلاف الإعراب الأول، فالوقف على «رسول الله» حسن كما إذا جعل خبرا ل «محمد» . وَالَّذِينَ مَعَهُ، أي الذين قاموا معه يدعون الكفار إلى دين الله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي هم يظهرون الصلابة لمن خالف دينهم، والرأفة لمن وافقهم في الدين، فإنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس ثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، ولا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه وعانقه. وقرئ «أشداء» و «رحماء» بالنصب على المدح، أو على الحال، فالخبر حينئذ قوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي تشاهدهم أيها السامع حال كونهم راكعين ساجدين في الصلاة يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي يطلبون من الله ثوابا ورضا لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار، وسجودهم، وعن ركوع المرائين وسجودهم. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامة سهرهم كائنة في وجوههم كائنة من أثر كثرة السجود بالليل ف «في وجوههم» خبر و «من أثر» حال. وقرئ «سيمياؤهم» بالياء بعد الميم وبالمد. وقرئ من «آثار السجود» بمد الهمزة والثاء. وقرئ من «إثر السجود» بكسر الهمزة قال صلّى الله عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «1» . أي وهذا محقق لمن يعقل ويفرق بين الساهر في الشرب واللعب، والساهر في الذكر واستفادة العلم، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ف «ذلك» مبتدأ و «مثلهم» خبره، و «في التوراة» حال من «مثلهم» والعامل معنى الإشارة، والوقف هنا تام، أي ذلك المذكور من أنهم أشداء على الكفار إلخ صفتهم

_ (1) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 36.

في التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ و «مثلهم» مبتدأ، وخبره «كزرع» ، فهذان مثلان كما ذهب إليه ابن عباس أي وصفتهم الكائنة في الإنجيل كزرع، أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، أي مثل زرع أخرج فراخه، فقوى الفراخ بكثافتها الزرع، فَاسْتَغْلَظَ أي فصار الزرع غليظا بعد ما كان دقيقا، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي فاستقام الزرع على قصبه، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وهذا مثل صربه الله تعالى لأصحابه صلّى الله عليه وسلّم في الإنجيل أنهم قلّوا في بدء الإسلام، ثم كثروا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس. قيل: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. وقال بعضهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر الصديق، فإنه أول من آمن به. أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ: عمر بن الخطاب. رُحَماءُ بَيْنَهُمْ: عثمان بن عفان. تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً: علي بن أبي طالب. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ: بقية المبشرين بالجنة: طلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ. سلمان وبلال وصهيب وأصحابهم. كَزَرْعٍ: محمد. أَخْرَجَ شَطْأَهُ: أبا بكر. فَآزَرَهُ: عمر فَاسْتَغْلَظَ عثمان بالإسلام فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ: علي بن أبي طالب أي استقام الإسلام بسيفه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي المؤمنين لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ أي بقول عمر لأهل مكة بعد ما أسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» . ويقال: نزلت الآية من قوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ إلى هاهنا في مدحة أهل بيعة الرضوان، وبعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم المخلصين لله وقوله تعالى: لِيَغِيظَ تعليل لمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع، كأنه قيل: إنما قوّاهم الله تعالى وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار، أو تعليل لوعد الله الذين آمنوا إلخ، لأن الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا، وبما أعد لهم في الآخرة غاظهم ذلك أشد غيظ، أو تعليل محذوف دلّ عليه قوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ إلخ أي جعلهم الله تعالى بهذه الصفات الجليلة ليغيظ بهم الكفار. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) وضمير «منهم» راجع للصحابة ف «من» لبيان الجنس، كلهم بتلك النعوت الجليلة أو للكفار ف «من» للتبعيض.

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية، هي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقرأ العامة بضم التاء وفتح القاف، وتشديد الدال المكسورة، أي لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما في الرأي عنده صلّى الله عليه وسلّم وذكر لفظ الله تعظيما للرسول، وإشعارا بأنه عند الله في منزلة عظيمة توجب إجلاله. وقرأ ابن عباس والضحاك «لا تقدموا» بالفتح في الأحرف الثلاثة. وقرئ «لا تقدموا» بضم التاء وكسر الدال، أي لا تقدموا على شيء من أمور الدين بغير إذن الله ورسوله، وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ (1) بأفعالكم. نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قتلوا رجلين من بني سليم في صلح النبي صلّى الله عليه وسلّم، بغير أمره، فنهاهم الله تعالى وقال: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تجرؤوا على إتيان أمر من غير إذن من له الإذن وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة الحكم المنهي عنه إن الله سميع لمقالة الرجلين، عليم بما اقترفا، وكان قولهم: لو كان هكذا لكان كذا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، يرفع صوته عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم وفد بني تميم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فإن رفع الصوت دليل قلّة الاحتشام وترك الاحترام، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، أي لا تجهروا له كما تجهرون لأقرانكم بل اجعلوا كلمته عليا، ولا تكثروا الكلام عنده، وقلّلوا غاية التقليل، فلا تخاطبوه صلّى الله عليه وسلّم كما تخاطبون غيره، أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي خشية حبوط أعمالكم. فقوله تعالى: لا تَرْفَعُوا إلخ نهي عن زيادة صوتهم على صوت الرسول وقوله تعالى ولا تجهروا ألخ نهى عن مساواة صوتهم لصوته وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) بحبوط الأعمال إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي يخفضونها عنده مراعاة للأدب، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي الذين امتحن الله قلوبهم ليعلم منها التقوى، فإن من يعظم واحدا من أبناء جنسه لكونه رسولا مرسلا يكون تعظيمه للمرسل أعظم، وخوفه منه أقوى، فالاختبار بالمحن والتكاليف الشاقة سبب

لظهور التقوى، ويقال: أولئك الذين أخلص الله قلوبهم للتوحيد، وصفاها من المعصية، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) . قيل: لما جرى الكلام بين أبي بكر وعمر في تأمير القعقاع بن معبد، أو الأقرع بن حابس على وفد بني تميم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ الآية، ولما دخل أعراب بني تميم المسجد ونادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين، وكانوا سبعين رجلا قدموا لفداء ذراري لهم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نام للقائلة نزل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآيتين. وقال ابن عباس: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى قوم من بني عنبر، جماعة من خزاعة، وأمر عليهم عينة بن حصن الفزاري، فسار إليهم، فلما بلغهم أنه خرج إليهم، فروا، وتركوا عيالهم وأموالهم فسبى ذراريهم، وجاء بهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجاءوا ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، فنادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد اخرج إلينا، وكان نائما، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد، فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم» . فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم وعمي عمرو شاهد- وهو الأعور ابن بسامة- فرضوا به. فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رضيت» ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) أي إن الذين يدعونك من خلف حجرات، نسائك كلهم لا يعقلون، إذ لو كان لهم عقل، لما تحاسروا على سوء الأدب، فكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجرة، ومناداتها من خارج الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه صلّى الله عليه وسلّم من خارجها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فنادى كل واحد على حجرة وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ولو ثبت صبرهم، وانتظارهم إلى الصلاة حتى تخرج إليهم، لكان الصبر حسنا لهم وخيرا من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة، ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة، ولو راعوا حسن الأدب، وتعظيم الرسول لزادهم في الفضل، فأطلق ذراريهم ونساءهم كلهم بلا فداء، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) لهؤلاء إن تابوا وأصلحوا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة أخي عثمان لأمه، بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق ليجيء بصدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمعوا به تلقوه تعظيما لأمر رسول

الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب الرسول، فأراد هو أن يغزوهم، فنهاه الله عن ذلك فقال: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر فتفحصوا. وقرئ فتثبتوا، أي قفوا حتى يتبين لكم ما جاء به من صدقه أو كذبه أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أي حذر أن تصيبوا قوما بالقتل والسبي ملتبسين بجهالة حالهم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) أي فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما نسب إليهم نادمين على ما فعلتم في حقهم في إصابتهم بالقتل وغيره. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ هو مرشد لكم فارجعوا إليه، واعتمدوا على قوله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، أي لو يتبعكم رسول الله في كثير من الحوادث لوقعتم في شدة وهلاك، وقد يوافق الناس ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقا لفائدة قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران، الآية: 159] وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ أي بيّنه وقربه إليكم، وأدخله في قلوبكم، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ بالبرهان اليقيني بحيث لا تفارقونه، ولا يخرج من قلوبكم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ . وهذه الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل فإنه يجمع التصديق بالجنان والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فالكفر هو التكذيب بالجنان، والفسوق هو كذب اللسان- كما قاله ابن عباس- فقد قال تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فسمى من كذب فاسقا، والعصيان هو ترك الأمر، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) أي الموافقون للرشد يأخذون ما يأتيهم الله وينتهون عما ينهاهم، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً مفعول من أجله منصوب ب حبّب، و «كره» أو ب الراشدون» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في خزائن رحمته من الخير، وكانت النعمة هو ما يدفع به حاجة العبد، حَكِيمٌ (8) ينزل الخير بقدر ما يشاء على وفق الحكمة، وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. قيل: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وأصحابه، وعبد الله بن رواحة المخلص وأصحابه، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ وكان من الخزرج، فبال الحمار، فسد ابن أبي أنفه وقال: إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك، وذلك قبل أن يسلم بالظاهر. فقال ابن رواحة: وكان من الأوس لبول حماره صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا من مسك، فكان بين قومهما وهما الأوس والخزرج ضرب بالأيدي والنعال والسيف. وعن قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة، وطلب الآخر منه أن يحاكمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا، وتناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. وعن سفيان عن السدي قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال، فنزلت هذه الآية، أي وإن تقاتل فرقتان من المؤمنين فأصلحوا بينهما بالنصح

[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 إلى 18]

والدعاء إلى حكم الله تعالى فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما أي ظلمت عَلَى الْأُخْرى بأن أبت الإجابة إلى حكم كتاب الله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي تظلم حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي حتى ترجع تلك الطائفة التي لم تقبل النصيحة إلى الصلح، وهو مأمور به فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ، أي فإن رجعت إلى الصلح حذرا من قتالكم فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وَأَقْسِطُوا أي واعدلوا في كل أمر، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) أي العادلين في كل ما يأتون، وما يذرون فيفضي إلى أشرف درجة وأرفع منزلة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وإن لم تكن الفتنة عامة، وإن لم يكن الأمر عظيما كالقتال، بل لو كان بين رجلين من المسلمين أدنى اختلاف، فاسعوا في الإصلاح. وقيل المراد بالأخوين: الأوس والخزرج. وقرئ بين «إخوتكم وأخواتكم» . وَاتَّقُوا اللَّهَ بالصون عن التشاجر، فإن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن من يأمن جاره بوائقه» . لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) على تقواكم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي رجال منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس، حيث ذكر رجلا من الأنصار بسوء ذكر أم رجل كانت في الجاهلية. وقال الضحاك: نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل: عمار وخبيب، وابن فهيرة، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم، ومعنى الآية: لا تحتقروا إخوانكم ولا تستصغروهم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ. روي عن أنس أن هذه الآية نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عيرن أم سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قالت لها بعض نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم: يهودية بنت يهودي فنهاهنّ الله عن ذلك وقال: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ أي ولا تسخر نساء من المؤمنات من نساء منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات عند

_ (1) رواه أحمد في (م 2/ ص 224) ، والهيثمي في موارد الظمآن 25، والهيثمي في مجمع الزوائد (3: 268) ، وابن حجر في فتح الباري (1: 54) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2: 78) .

الله وأفضل نصيبا، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ، أي ولا يعب بعضكم بإشارة أو نحوها، فصرتم عائبين من وجه معيبين من وجه وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، أي ولا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان واشتهارهم به. ويقال: هذا إتمام للزجر، ويصير التقدير: بئس الفسوق بعد الإيمان، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب السخر واللمز والتنابز بعد ما سميتم مؤمنين. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) أي ومن يجعل ذلك عادة، ولم يتركه، ولم يتب عما مضى فهو ظالم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ فيجب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي نوع، فإن من الظن ما يجب اتباعه، كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وظن الخير من الله تعالى، ففي الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلّا خيرا» ، وظن الخير في المؤمن، كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ظنوا بالمؤمن خيرا» ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات، وظن السوء بالمؤمن، ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي ذنب يستحق العقوبة وَلا تَجَسَّسُوا أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين. والمعنى: ولا تتبعوا الظن ولا تجتهدوا في طلب اليقين في معايب الناس، وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً. وقرأ نافع بتشديد الياء وهو حال من «اللحم» ، أو من «الأخ» ، فالاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلّا للمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر. أما الفاسق فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلما أم ثلم عرضه فهو كآكل لحمه، حيا ومن اغتابه فهو كآكل لحمه ميتا، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه. فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي الأكل، فالاستفهام في قوله تعالى: أَيُحِبُّ للإنكار، فكأنه تعالى قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذا. وقرئ «كرهتموه» بغير فاء أي جبلتم على كراهته، وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر عنكم من قبل، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) ذكر الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة مرتبة، فكأنه تعالى قال: لا تقولوا في حق المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئا من غير تجسس فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم، ففي الأول نهي عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهي عن طلب علم عيب الناس، ثم نهي عن ذكر ما علم منه. روي أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب منه لهما طعاما فقال له: «انطلق إلى أسامة بن زيد واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده» . فأتاه فقال ما عندي شيء،

فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلما رجع قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سمحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟» «1» فقالا: ما تناولنا لحما في يومنا هذا! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتما سلمان وأسامة» فنزلت هذه الآية ، ثم قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي من آدم وحواء، ومن أب وأم، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ وطبقات النسل التي عليها العرب سبعة: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، والعشيرة. وكل واحد يدخل فيما قبله، فالعشائر تحت الفصائل، وهي تحت الأفخاذ، وهي تحت البطون، وهي تحت العمائر، وهي تحت القبائل، وهي تحت الشعوب. فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وعبد مناف فخذ، هاشم فصيلة، والعباس عشيرة. لِتَعارَفُوا أي ليعرف بعضكم بعضا بأصل الإنسان فلا ينتسب أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل، ولا لتدعوا التفاوت في الأنساب، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. قال صلّى الله عليه وسلّم: «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله» «2» . وعن ابن عباس قال: كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى. قال الرازي: سمعت أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان في النسب أقرب الناس إلى علي رضي الله عنه، غير أنه كان فاسقا، وكان هناك مولى أسود تقدم بالعلم والعمل، ومال الناس إلى التبرك به، فاتفق أنه خرج يوما من بيته يقصد المسجد، فاتبعه خلق، فلقيه الشريف سكران، وكان الناس يطردون الشريف ويبعدونه عن طريقه، فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ. وقال له: يا أسود الحوافر والشوافر، يا كافر بن كافر، أنا ابن رسول الله أذل، وتجل، وأذم وتكرم، وأهان وتعان، فهمّ الناس بضربه. فقال الشيخ: لا، هذا محتمل منه لجده، وضربه معدود بحده، ولكن يا أيها الشريف بيّضت باطني وسوّدت باطنك، فيرى الناس بياض قلبي فوق سواد وجهي، فحسنت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا ما يعمل مع أبيك. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأنسابكم وبأعمالكم. خَبِيرٌ (13) ببواطن أحوالكم، لا تخفى عليه أسراركم، فاجعلوا التقوى عملكم وزيدوا في التقوى.

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (16: 331) . (2) رواه العجلوني في كشف الخفاء (1: 373) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (7: 2565) .

قال الزهري: نزلت هذه الآية في أبي هند خاصة. قال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن عباس: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض: الحمد لله الّذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحرث بن هشام: ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا وقال سهل بن عمرو: إن يرد الله شيئا يغيره. وقال أبو سفيان: أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره به رب السموات. فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم، وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية زاجرا لهم عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء. فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى. قالَتِ الْأَعْرابُ أي أهل البادية: آمَنَّا نزلت هذه الآية في بني أسد أصابتهم سنة شديدة قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر طالبين الصدقة، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان أطمعنا، وأكرمنا يا رسول الله فإنّا صدقناك بجميع ما جئت به. فأنزل الله هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدق قلوبكم، لأنكم لو آمنتم لم تمنوا عليّ فلا تقولوا آمنا. وَلكِنْ أسلمتم أي أظهرتم الانقياد واستسلمتم من السيف والسبي بل قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة، وهذا قد حصل، أما الإيمان وهو التصديق المقارن للثقة وطمأنينة القلب لم يحصل لكم وإلّا لما مننتم علي ما ذكرتم، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي ولم يدخل حب الإيمان في قلوبكم إلى هذا الوقت فلا يعد إقرار اللسان إيمانا إلّا بموافقة القلب وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق في السر كما أطعتموهما في العلانية لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا من النقص. وقرأ الدوري عن أبي عمر «ولا يألتكم» بهمزة ساكنة بعد الياء التحتية وأبدلها السوسي ألفا. وقرأ الباقون بغير همزة ولا ألف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم ما قد سلف ان تبتم رَحِيمٌ (14) بما أتيتم به من الطاعة بالتفضل عليكم، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله على تكثر أنواعها من العبادات البدنية المحصنة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا، كالحج والجهاد أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) ، أي أولئك الموصوفون بما ذكرهم الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم. روي أنه لما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون، فنزل لتكذيبهم قوله

تعالى: قُلْ لهؤلاء الأعراب مبكتا لهم: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرون الله بدينكم بقولكم: آمنا وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فيعلم ما في قلوب أهلهما، ا «لواو» للحال وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) فلا يخفى عليه شيء، فالدين ينبغي أن يكون لله وأنتم أظهرتموه لنا لا لله، فلا يقبل منكم ذلك يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعدون إسلامهم من غير قتال منة عليك، وهي النعمة، التي لا يطلب معطيها ثوابا من أنعم إليه. قُلْ في جواب قولهم هذا: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي لا تعدوا الإسلام الذي عندكم منة علي، فالله تعالى كذبهم في قولهم: آمنا ولم يصدقهم في الإسلام فإنهم انقادوا للحاجة وأخذ الصدقة بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي بسبب أن هداكم للإيمان حيث بينكم الطريق المستقيم ودعاكم إليه، فإن إرسال الرسول بالآيات البينات هداية. وقرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم» ، أي في زعمكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) في قولكم: آمنا فالله هو المان عليكم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه أعمال قلوبكم الخفية وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) من ظاهر إسلامكم. وقرأ ابن كثير بالياء التحتية على الغيبة نظرا لقوله تعالى: يَمُنُّونَ والباقون بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله تعالى: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ.

سورة ق

سورة ق مكية، خمس وأربعون آية، ثلاثمائة وخمس وتسعون كلمة، ألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا ق. قال ابن عباس: هو جبل أخضر محدق بالدنيا وخضرة السماء منه، وهو قسم أقسم الله به. قال الرازي: المنقول عن ابن عباس أن «ق» اسم جبل وأما أن المراد في هذا الموضع به ذلك فلا. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) أي العظيم، لأن القرآن عظيم الفائدة، أو لأنه كلام الله تعالى، أو كثير الكرم، لأن كل من طلب مقصوده من القرآن وجده، فإنه مغنى كل من لاذ به، أو ذي الشرف، فإن من علم معانيه وعمل بما فيه شرف عند الله تعالى وعند الناس. بَلْ عَجِبُوا وهذا إضراب عن جواب القسم المحذوف، أي ما آمن كفار مكة بمحمد والقرآن بل جعلوا كلا منهما عرضة للتعجب، مع كونهما أقرب شيء إلى التلقي بالقبول، وإنما عجبوا من ذلك لكون محمد من جنسهم لا من جنس الملائكة، ولكون القرآن أخبر بالبعث بعد الموت وذلك قوله تعالى. أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم يخوفهم بالنار بعد البعث فقال كفار مكة منهم أبي، وأمية ابنا خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج هذا أي كون المنذر منا، وكون المنذر به هو البعث بعد الموت أمر يتعجب منه، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي أحين نموت ونصير ترابا رميما نبعث ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) أي ذلك الخبر برجوعنا إلى ما كنا عليه بعد موتنا رجع بعيد من الأوهام والإمكان. وقرأ نافع وحفص، وحمزة والكسائي بكسر ميم «متنا» . والباقون بالضم قال الله تعالى ردا لاستبعادهم قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم وعظامهم فلا تخفى علينا أجزاؤهم بسبب تشتتها في الأرض، أي إن الله تعالى عالم بجميع أجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجوع منه ببعيد، وكما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فذلك قوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) أي حافظ لأجزائهم وأعمالهم بحيث لا ننسى شيئا منها، أي فالعلم

عندي كما يكون في الكتاب أعلم جزءا جزءا وشيئا شيئا، بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة لَمَّا جاءَهُمْ أي حين جاءهم منذر هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من غير تأمل وتفكر. وقرئ «لما جاءهم» بكسر اللام على أن اللام للتوقيت، أي وقت مجيء المنذر إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) ، أي فهم في شأن المنذر في قول مختلف فإنهم تارة يقولون: إنه ساحر، وأخرى شاعر، وأخرى كاهن وأخرى مجنون. قال الرازي: نقول كان الواجب أن ينتقلوا من الشك إلى الظن بصدقه صلّى الله عليه وسلّم لعلمهم بأمانته واجتنابه الكذب طول عمره بينهم، ومن الظن إلى القطع بصدقه لظهور المعجزات القاهرات على يديه ولسانه، فلما غيّروا الترتيب حصل عليهم المرج ووقع الدرك مع المرج أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ أي أعموا فلم يشاهدوا السماء كل وقت وهي ظاهرة فوق رؤوسهم غير غائبة عنهم، كَيْفَ بَنَيْناها أي رفعناها بغير عمد، وَزَيَّنَّاها بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) أي والحال ليس لها فتوق. وهذا إشارة إلى وجه الدلالة فالإنسان له أساس وهي العظام التي هي كالدعامة، وله قوى وأنوار كالسمع والبصر فبناء السماء أرفع من أساس البدن، وزينة السماء أكمل من زينة الإنسان بلحم وشحم وليس للسماء فروج، وللإنسان مسام، فتأليف السماء أشد ولا شك أن التأليف الأشد كالنسج الأصفق، والتأليف الأضعف كالنسج الأسخف، والأول أصعب عند الناس وأعجب، فكيف يستبعدون الأدون مع علمهم بوجود الأعلى من الله تعالى؟! وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أوتادا لها وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) أي من لون حسن في المنظر. وهذا إشارة إلى دليل آخر يدفع قولهم ذلك رجع بعيد وهم قالوا: الإنسان إذا مات وفارقته القوى لا تعود إليه تلك القوى فنقول: الأرض أشد جمودا والله تعالى ينبت فيها أنواع النبات، فكذلك الإنسان تعود إليه الحياة وذكر الله في الأرض ثلاثة أمور، كما ذكر في السماء ثلاثة أمور فكل واحد في مقابلة واحد فالمد في مقابلة البناء وإثبات الرواسي في الأرض في مقابلة ركز الكواكب في السماء وشق الأرض بالإنبات في مقابلة سد الفروج إذا علمت هذا ففي الإنسان أشياء موضوعة وأشياء مرفوعة، وأشياء ثابتة، كالأنف والأذن، وأشياء متحركة كالمقلة واللسان، وأشياء مسدودة الفروج كدور الرأس، وأشياء لها فروج كالمناخر والصماخ والفم. فالقادر على هذه الأضداد في السبع الشداد غير عاجز عن خلق نظيرها في هذه الأجساد. تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) أي خلقنا السماء والأرض تبصيرا وتذكيرا لكل عبد مقبل إلى الله راجع إلى التفكر في بدائع صنائعه، فإن فيهما آيات مستمرة منصوبة على مرور الزمان، وآيات متجددة مذكرة عند التناسي ونصب الاسمين على المفعول من أجله أو على الحال أي مبصرين ومذكرين. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكر» برفعهما، أي هي تبصرة

[سورة ق (50) : الآيات 11 إلى 20]

وذكر، أي عبرة وعظة وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي نافعا كثير الخير فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ أي أشجارا كثيرة يقطف ثمارها والأصول باقية. وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) أي حب زرع يحصد كل عام وَالنَّخْلَ وهو جنس مختلط من الزرع والشجر، لأن الثمر فاكهة وقوت بخلاف غيره فإن بعض الثمار فاكهة ولا قوت فيه، وأكثر الزرع قوت، وأيضا إن من النباتات ما يبقى أصلها سنين ولا يحتاج إلى عمل عامل وما لا يبقى أصلها ويحتاج كل سنة إلى عمل عامل وما يبقى أصلها يحتاج كل سنة إلى عمل عامل. باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل. وهي حال مقدرة. وقرئ «باصقات» بالصاد لأجل القاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) أي لتلك النخل كفرى مجتمعة بعضها فوق بعض، رِزْقاً لِلْعِبادِ أي لنرزقهم. وهذا علة ل «أنبتنا» ، والحكمة في تعليل الإنبات بالرزق بعد تعليل الإنبات الأول بالتبصرة والتذكير إشارة إلى أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بالنباتات من حيث الاستبصار والتذكر أقدم من تمتعه بها من حيث الرزق والحكمة في إطلاق العباد في الرزق، وفي تقييدهم بكونهم منيبين في التبصرة والتذكير، لأن الرزق حصل لكل أحد، والتذكرة لا تكون إلّا لكل منيب فهو يأكل ذاكرا شاكرا للإنعام، ثم التبصرة بالخلق هو الاستدلال بأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء والتذكرة بالبقاء بالرزق بعد الإعادة هو الاستدلال بأن البقاء في الدنيا يكون بالرزق وبأن القادر على إخراج الأرزاق من النجم والشجر قادر على أن يرزق العبد في الجنة وأن يبقيه فيها، وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أي أرضا جدبة لا نماء فيها أصلا كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) أي مثل خروج النبات من الأرض بالماء خروجهم من القبور يوم القيامة بالمطر الذي كمني الرجال، ومثل تلك الحياة في النبات بالإخراج حياتهم بالبعث من القبور على ما كانوا عليه في الدنيا، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر دون اليمامة، وهم قوم شعيب. وقيل: هم قوم عيسى الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى. وقيل: هم أصحاب الأخدود وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ. وإنما نص عليه لأنه ليس في قادة قومه كافر غيره، لأنه استخف قومه فأطاعوه، فجعل الاعتبار له خاصة وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وإنما قال هاهنا ذلك، لأن لوطا كان مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم معارف لوط وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أي الغيظة وهم قوم شعيب غير أهل مدين وَقَوْمُ تُبَّعٍ وهو كان معتمدا بقومه، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فالمذكورون كانوا منكرين للحشر، وكل واحد منهم كذب جميع الرسل، فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أي فثبت وعيدي من نصرة الرسل عليهم وإهلاكهم. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي قصدنا إيجاد الإنسان وسائر الحيوان وإيجاد السموات والأرض، فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ، أي إنهم غير منكرين لقدرتنا على اختراع الخلق من العدم، بل هم في شك في إعادة الخلق إلى الحياة بعد

[سورة ق (50) : الآيات 21 إلى 30]

الموت لما فيه من مخالفة العادة، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يخطر بباله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) أي ونحن أقرب إلى الإنسان من العرق الذي يجري فيه الدم، ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن بعلمنا بحاله، وبنفوذ قدرتنا فيه يجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ف «إذ» منصوب بأقرب، أي فالله أقرب إلى الإنسان من عرقه المخالط له في وقت أخذ الملكين الحافظين منه قوله وفعله، فلهما عن اليمين مقاعد وعن الشمال مقاعد. وفي هذا إشارة إلى أن المكلف غير متروك سدى. ويقال: وقت ما يتلقاه المتلقيان يكون عن يمينه وعن شماله قعيد، فالملتقيان على هذا الوجه هما الملكان اللذان يأخذان روحه من ملك الموت، أحدهما يأخذ أرواح الصالحين وينقلها إلى السرور إلى يوم النشور، والآخر يأخذ أرواح الطالحين وينقلها إلى الثبور إلى يوم النشر من القبور، أي فهذان الملكان ينزلان إلى الإنسان وعنده ملكان كاتبان لأعماله، قاعدن عن يمينه وشماله فوقت تلقيهما إياهما يسألانهما عن أيّ النوعين كان هذا الإنسان، فإن كان من الصالحين يأخذ روحه ملك السرور ويرجع إلى الملك الآخر مسرورا، وإن كان من الطالحين يأخذها ملك العذاب ويرجع إلى الآخر محزونا. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يرمي الإنسان المكلف به من فيه من خير أو شر، إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) أي إلّا لديه ملك يحفظ قوله ويكتبه، وملك يهيئ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، فكل من كاتب الحسنات وكاتب السيئات يقال له: رقيب عتيد. وقرئ «ما يلفظ» على البناء للمفعول. وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي جاءت شدة الموت الذاهبة بالعقل بالموت، كأن شدة الموت. تحضر الموت كما قرئ «وجاءت سكرة الحق بالموت» ، أو يقال: المراد من الحق هو الدين. فالمعنى وأظهرت سكرة الموت الدين إذ ما من أحد في تلك الحالة إلّا وهو يظهر الإيمان لكنه لا يقبل إلّا ممن سبق منه ذلك ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) أي ذلك الموت ما كنت تفر منه أيها السامع، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هي نفخة البعث فقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ إشارة إلى الإماتة. وقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى الإحياء والإعادة. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) أي ذلك الزمان يوم وقوع الوعيد، وهو العذاب الموعود، وَجاءَتْ في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي ملك يسوق البر إلى الجنة والفاجر إلى النار، وَشَهِيدٌ (21) أي كاتب فإنه يشهد عليها بعملها ويقال لَقَدْ كُنْتَ أيها الشخص في الدنيا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي اليوم فما من أحد إلّا وله غفلة ما عن الآخرة. وقرئ «كنت» بكسر التاء باعتبار تأنيث النفس فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي أزلنا عنك غفلتك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ، أي نافذ، وكان من قبل كليلا. وقرئ بكسر الكاف في المواضع الثلاثة. وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أي قال الشيطان الذي زيّن له العصيان: هذا العصيان هو الذي عندي معد لجهنم أو قال الملك الذي يكتب

[سورة ق (50) : الآيات 31 إلى 40]

أعماله: هذا الكتاب مكتوب عندي مهيأ للعرض. قال تعالى خطابا للسائق والشهيق: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ. وقرأ الحسن «ألقين» بنون التوكيد خطاب لواحد من خزنة النار. عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) أي ألقيا في جهنم كل كافر بالله معاند لآياته، مانع الناس من اتباع رسول الله ومن الإنفاق على من عنده ظالم بالإيذاء وكثرة الهذاء، شاك في اليوم الآخر فلا يظن أن الساعة قائمة، فكل كافر هو موصوف بهذه الصفات. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) وقوله تعالى: الَّذِي مبتدأ يشبه الشرط في العموم، ولذا دخلت الفاء في خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل ويكون «فألقياه» تأكيدا ل «ألقيا» الأول. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي إن الكافر حين يلقى في النار يقول: ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان متبرئا منه: ربنا ما أضللته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) ، أي عن الحق. وقال ابن عباس: لما يقول الكافر: يا رب، إن الملك زاد علي في الكتابة، فكتب على ما لم أقل وما لم أفعل، وعجلني بالكتابة حتى نسيت. قال الملك الذي يكتب عليه سيئاته: ربنا ما زدت عليه وما كتبت إلّا ما قال وعمل وما أعجلته بالكتابة، ولكن كان في ضلال طويل لا يرجع عنه إلى الحق. قالَ تعالى خطابا للكافرين وقرنائهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) أي بالتهديد في دار الكسب في كتبي، وعلى ألسنة رسلي حيث قلت لكم: إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي ما يغير الوعيد بتخليد الكافر في النار ومجازاة العصاة على حسب استحقاقهم في هذا الموقف وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) ، أي وما أنا بمعذب للعبيد بغير ذنب من قبلهم، يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ- وقرئ «يقول» بالياء-: هَلِ امْتَلَأْتِ أي قد امتلأت كما وعدتك، وهو استفهام تقرير والمراد الإخبار عنه امتلاء جهنم وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ، أي قد امتلأت فليس في مكان رجل واحد لم يمتلئ، فهو استفهام إنكار أي لما خاطب الله جهنم بصورة الاستفهام أيضا ومرادها الإقرار بامتلائها، أو استفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى الأمر أي زدني يا رب، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي قربا حقيقيا بحيث يشاهدونها من الموقف أو قربت تقريب حصول، لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة. هذا أي الجنة ما تُوعَدُونَ في الدنيا. وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة. لِكُلِّ أَوَّابٍ أي مقبل إلى الله. و «هذا» بدل كل من «المتقين» . حَفِيظٍ (32) أي حافظ لأمر الله في الخلوات، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ حال من المفعول، أي غائبا عن الخاشي، و «من» بدل من «كل» أو خبر مبتدأ مضمر، أي هم من خشي إلخ، والخشية من عظمة المخشي والخوف من ضعف الخاشي. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) أي

[سورة ق (50) : الآيات 41 إلى 45]

بريء من الشرك يقول الله تعالى لهم: ادْخُلُوها أي الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من عذاب الله تعالى أو بسلام على من فيها، فلا تتركوا حسن عادتكم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) ، أي ذلك الزمان يوم خلود أهل الجنة في الجنة، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من فنون المطالب وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات. وقيل: إن السحابة تمر بأهل الجنة فتمطرهم الحور، فتقول: نحن المزيد الذي قال تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ أي من قومك بَطْشاً أي قوة فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي خرقوا فيها وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذر الموت، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) أي هل لهم مخلص من أمر الله تعالى، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إهلاكهم لَذِكْرى أي لعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع سليم، يتفكر في الأمور كما ينبغي بذكائه، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ إلى ما يتلى عليه من الوحي الدال على ما جرى عليهم، وَهُوَ شَهِيدٌ (37) أي حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه، فكأنه غائب وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها: يوم الأحد، وآخرها: يوم الجمعة وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) ، أي وما أصابنا من تعب. قيل: هذه الآية نزلت في اليهود حيث قالوا: خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها: الأحد، وآخرها: الجمعة، ثم استراح يوم السبت، واستلقى على العرش. فأنزل الله هذه الآية تكذيبا لهم: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من حديث التعب بالاستلقاء. قال الرازي: والأقرب والظاهر أن المراد بهذه الآية الرد على المشرك في إنكار البعث والاستدلال بخلق السموات والأرض، وما بينهما في إثبات البعث، وعلى هذا فالمعنى فاصبر على ما يقولون: هذا شيء عجيب أي هذا الذي يقول محمد نبعث بعد الموت شيء عجيب فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) أي نزه الله تعالى عن الشرك، وعن العجز الممكن الذي هو البعث، وذكّرهم بعظمة الله تعالى في وقت اجتماعهم، وهو قبل الطلوع، وقبل الغروب وأول الليل أي عقب سجودك نزه ربك بالبرهان عند اجتماع القوم ليحصل لك العبادة بالسجود والهداية أدبار السجود ولا تسأم من تكذيبهم إياك وامتناعهم من استماع وعظك. ويقال: صل حامدا لربك الصلوات الخمس والنوافل بعد المكتوبات وشغل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمران: عبادة الله وهداية الخلق، فإذا هداهم ولم يهتدوا. قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو عبادة الله، واجعل كلامك بدل الدعاء عليهم التسبيح لله والحمد له. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة «إدبار» بكسر الهمزة والباقون بالفتح. وَاسْتَمِعْ لما يوحى إليك من أحوال القيامة يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء

قيل يقف المنادي إسرافيل أو جبريل على صخرة بيت المقدس. من غير أن يشاركنا في ذلك أحد، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) أي الرجوع في الآخرة للجزاء يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي مسرعين في خروجهم من الأرض والتشقق يكون عند الخروج منها ف «سراعا» ، حال من الضمير في «عنهم» ، و «يوم» بدل من «يوم» الأول. أو ظرف للمصير، أو ظرف للخروج. وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر «تشقق» بتشديد الشين. والباقون بالتخفيف. وقرئ «تشقق» على البناء للمفعول. وقرئ «تنشق» . ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) أي ذلك الإخراج بتشقيق الأرض إحياء وجمع هين علينا للحساب والجزاء فكيف ينكره منكر؟ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة بثبوت البعث، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط أن تقسرهم على الإيمان وإنما أنت مذكر فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) . وقرأ «ورش» بإثبات الياء بعد الدال بالوصل. وقوله تعالى: فَذَكِّرْ إشارة إلى أن سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم مرسل مأمور بالتذكير وقوله تعالى: بِالْقُرْآنِ إشارة إلى أنه أنزل عليه القرآن. وقوله تعالى: وَعِيدِ إشارة إلى اليوم الآخر، وضمير المتكلم في قوله تعالى: وَعِيدِ يدل على الوحدانية، أي إنما يقبل عظتك من يخاف عذابي في الآخرة.

سورة الذاريات

سورة الذاريات مكية، ستون آية وثلاثمائة وستون كلمة، ألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفا وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) أي والرياح التي تذر، والتراب وغيره، وتهب في منازل القوم. فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) أي فالسحب الحاملة للمطر. فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) ، أي فالسفن الجارية في البحر جريا ذا يسر. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) أي فالملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. وهذا التفسير هو ما روي عن علي رضي الله عنه. وقال الرازي: والأقرب أن هذه الأمور الأربعة صفات أربع للرياح. فالذاريات: هي الرياح التي تنشئ السحاب أولا. والحاملات: هي الرياح التي تحمل السحب التي هي بخار المياه، التي إذا سحت جرت السيول العظيمة، وهي أوقار أثقل من جبال. والجاريات: هي الرياح التي تجري بالسحب بعد حملها الماء. والمقسمات: هي الرياح التي تفرق الأمطار على الأقطار. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) أي إن وعدكم بالبعث والحساب لوعد صادق، وَإِنَّ الدِّينَ أي الحساب والجزاء لَواقِعٌ (6) ، أي لحاصل، فالحساب يستوفى والعقاب يوفى، وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) أي ذات الحسن أو ذات الزينة، أو ذات الطرائق، وهي مسير الكواكب ومسلك النظار. إِنَّكُمْ يا معشر قريش لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) ، أي منعكس وظنكم غير مجازين في اعتقادكم، فإنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك تعلم أنك غير صادق في قولك وإنما تجادل ونحن نعجز عن الجدل، فكأنه تعالى قال لنبيه: إنك صادق ولست معاندا بل هم جازمون بأنك صادق، وإنما يظهرون الجزم بأمر لشدة عنادهم، فانعكس الأمر عليهم يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قيل: هذا مدح للمؤمنين أي يصرف عن القول، المختلف من صرف عن ذلك القول ورشد إلى القول المستوي. وقيل إن هذا ذم، أي يصرف عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن والحشر من قد صرف عن الهدى، وهو الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف ومنبه

[سورة الذاريات (51) : الآيات 11 إلى 20]

ونبيه قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) أي لعن الكذابون الذين لا يجزمون بأمورهم أصحاب القول المختلف. وهذا دعاء عليهم. وقرئ «قتل الخراصين» بالبناء للفاعل، أي قتل الله المقدرين ما لا صحة له، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في جهالة بأمر الآخرة ساهُونَ (11) أي غافلون عما أمروا به، يَسْئَلُونَ أي بنو مخزوم بطريق الاستعجال استهزاء، أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) ؟ أي متى يكون يوم الجزاء الذي نعذب فيه؟ قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) أي يكون ذلك يوم هم يعرضون على النار ويحرقون بها، ويجوز أن يكون «يوم هم» خبرا لمبتدأ محذوف، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني ويؤيده أنه قرئ بالرفع، أي هو يوم هم إلخ. وتقول لهم الزبانية: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي حرقكم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) بالقول بطريق الاستهزاء، أو بالفعل وهو الإصرار على العناد وإظهار الفساد. وقوله تعالى هذه الآية داخل تحت القول المضمر، وهو إما مبتدأ أو بدل من فتنتكم، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) جارية في خلال الجنات آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لما أعطاهم ربهم راضين من الجنات والعيون، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل إعطاء الله الجنات لهم مُحْسِنِينَ (16) في الدنيا بالقول والفعل كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) ف «ما» زائدة. وهذا تفسير للإحسان، أي كانوا ينامون في جزء قليل من الليل. وقيل: «ما» مصدرية و «يهجعون» بدل اشتمال من الواو، أي كان هجوعهم من الليل قليلا، أو فاعل ل «قليلا» ، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم. وقيل: «ما» نافية، و «قليلا» خبر «كان» وعلى هذا فالوقف عليه صالح كالوقف على يهجعون. والمعنى: كان عددهم قليلا لا ينامون من الليل وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) أي هم مع قلة نومهم وكثرة صلاتهم يداومون على الاستغفار في الأسحار، ويعدون أنفسهم مذنبين لوفور علمهم بالله تعالى. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) أي هم لا يجمعون الأموال إلّا ويجعلونها ظرفا للحق، فيرون في أموالهم حقا للذي يسأل العطاء من الناس وللمتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنيا، فلا يعطيه شيئا، فهو الّذي لا يسأل ولا يعطى، أي هم أوجبوا على أنفسهم بمقتضى الكرم أن يصلوا بأموالهم الأرحام والفقراء والمساكين، وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ، أي وفي جهة السفل دلائل واضحة للموقنين على شؤونه تعالى، فإن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال، ويرى في كل شيء آيات دالة على قدرته تعالى ووحدانيته، أما الغافل فلا يتنبّه إلّا بأمور كثيرة فيكون الكل له كآية واحدة، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي وفي أنفسكم آيات دالة لكم على وحدانية الله تعالى وقدرته، إذ ليس في العالم شيء إلّا وفي الأنفس له نظير، أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) أي ألا تنظرون الأرض وما فيها، والأنفس وما فيها، فلا تبصرون بعين البصيرة، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) أي رزقكم ووعدكم بالجنة والنار مكتوبة مقدرة في السماء. ويقال: هذا الخطاب مع الكفار فكأنه تعالى قال: وفي الأرض آيات للموقنين كافية، وأما أنتم

أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات تكفرون بها لحب الرئاسة، وحطام الدنيا، وفي السماء الأرزاق، فلو تأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق، فإنه واصل إليكم بكل طريق، ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل من السماء، فأسباب الرزق من المطر والرياح، والحر والبرد، وغير ذلك مما هيّأ الله تعالى به لمنافع العباد هي من جهة العلو، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) ، أي إن ما ذكر من أمر الرزق والوعد بالثواب، والعقاب لحق مثل نطقكم، فكما لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن تشكوا في حقيقة ذلك. وقرأ حمزة والكسائي وشعبة «مثل» بالرفع. والباقون بالنصب لإضافته إلى مبني وهو «أنكم» ، و «ما» مزيدة. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) أي ألم يأتك حديث ضيف إبراهيم الذي أكرمهم بخدمته لهم، وبالعجل. قال عثمان بن محصن: كانوا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل أخرجه أبو نعيم. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي إبراهيم ظرف للحديث أو لما في الضيف من معنى الفعل، أو للمكرمين إن فسر بذلك المذكور. فَقالُوا سَلاماً أي نسلم سلاما أو نبلغك سلاما، قالَ أي إبراهيم: سَلامٌ أي سلام عليكم أو جوابه سلام أو أمري سلام، بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم، لأني لا أعرفكم، أو قولكم سلام يدل على السلامة. وقرئا مرفوعين. وقرأ حمزة والكسائي «سلما» بكسر السين وسكون اللام بالنصب. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) قال ابراهيم ذلك في نفسه- كما قاله ابن عباس- والمعنى: هؤلاء قوم غرباء لا أعرفهم وإنما أنكرهم إبراهيم عليه السلام، لأنهم ليسوا ممن عرف من الناس فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إبراهيم إلى أهله في سرعة على خفية من ضيفه فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) ، أي فذبح فتى من أولاد البقر، فحنذه، فجاء به إلى أضيافه فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه عندهم ليأكلوا، فلم يأكلوا. قالَ أي إبراهيم: أَلا تَأْكُلُونَ (27) من الطعام! فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي فأضمر في نفسه خيفة منهم لظن أنهم لصوص، فلما عرفوا خوف إبراهيم قالُوا لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إنا رسل ربك. قيل: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه، فعرفهم، وأمن منهم، وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) أي بولد عليم في صغره حليم وهو: إسحاق أو إسماعيل كما قاله مجاهد، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي أقبلت سارة على أهلها صائحة، لأنها كانت في خدمتهم، فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت، وأعرضت عنهم فَصَكَّتْ وَجْهَها أي لطمته من الحياء، كما جرت عادة النساء عند الاستحياء، أو التعجب وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) . أي قالت سارة: أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟ قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي قالت الملائكة، حكم ربك في الأزل مثل ذلك القول الذي أخبرناك به يا سارة فلا تعجبين منه، ف «كذلك» منصوب ب «يقال»

[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 إلى 40]

الثانية على المصدر. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) فيكون قوله حقا وفعله متقنا، إذ الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه مع قصد ذلك. قالَ أي إبراهيم: فَما خَطْبُكُمْ أي فما أمركم العظيم الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة فلعظمتكم لا ترسلون إلّا في عظيم، أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) أتى إبراهيم عليه السلام بما هو آداب المضيف حيث يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج: ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم، لأن سكوته يوهم استثقالهم قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) أي كافرين من قوم لوط، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) أي لننزل عليهم من السماء حجارة من طين، مطبوخ كالآخر بعد ما قلبنا قراهم. قال السدي ومقاتل: كانوا ستمائة ألف، فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض، فاقتلع قراهم، وكانت أربعة، ورفعها حتى سمع أهل السماء أصواتهم، ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها، ثم أرسل عليهم الحجارة، فتتبعت الحجارة مسافريهم وشذاذهم، أي المنفردين عن الجماعة مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) أي مكتوبا على كل واحد من الحجارة اسم واحد من المجاوزين الحد في الفجور، وذلك إنما يعلمه الله تعالى، فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) بلوط، لإهلاك الكافرين فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك، فببركة المحسن ينجو المسيء. فَما وَجَدْنا فِيها أي في تلك القرى غَيْرَ بَيْتٍ واحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) . قال مجاهد: كان الناجون لوطا وابنته. وقال قتادة: كانوا أهل بيته. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) ، أي وتركنا في قريات قوم لوط علامة للمنتفع بها قيل: هي حجارة منضودة في ديارهم، وهي بين الشام والحجاز. وقيل: هي ماء أسود منتن خرج من أرضهم. وقيل: هي نفس القرى الخربة وَفِي مُوسى وهذا إما معطوف على «فيها» ، والمعنى وتركنا في قصة موسى آية، أو يقال: وجعلنا في قصة قوم لوط عبرة للخائفين حلول العذاب فلا يقتدون بفعلهم، وجعلنا في قصة موسى آية، وإما معطوف على قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ وتقديره وفي موسى حديث وهذا مناسب إذ جمع الله كثيرا بين ذكر إبراهيم وذكر موسى عليهما السلام، إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أي ببرهان قاطع حاج به فرعون، أو بمعجزة فارقة بين سحر الساحر وأمر المرسلين كاليد والعصا، فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي فأعرض فرعون عن الإيمان به مع جنوده، أو فتقوى فرعون بأقوى جنده، وهو هامان، فإنه كان وزيره. وَقالَ في شأن موسى: هذا ساحِرٌ تأتيه الجن بسحره باختياره، أَوْ مَجْنُونٌ (39) تقصده الجن من غير اختياره، كأن فرعون نسب الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد في أنها حصلت باختيار موسى أو بغيره، أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ أخذ غضب وقهر، نَبَذْناهُمْ فِي

[سورة الذاريات (51) : الآيات 41 إلى 50]

الْيَمِ أي فأغرقناهم في البحر هُوَ مُلِيمٌ (40) ، أي والحال أن فرعون آت بما يلام عليه من الطغيان، وَفِي عادٍ أي وفي قوم هود حديث، إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) أي المهلك وقاطع النسل وهو الدبور، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) أي ما تترك هذه الريح شيئا مرت عليه مقصودا وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم إلّا جعلته مثل التراب، أو مثل الشيء الهالك وَفِي ثَمُودَ، أي وفي قوم صالح حديث إِذْ قِيلَ لَهُمْ. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف والباقون بكسرها: تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) أي عيشوا وانتفعوا بالزرع والأبنية، وبلبن الناقة إلى أواخر آجالكم فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فجاوزوا الحد في الاستكبار عن الامتثال بأمر الله تعالى، فقتلوا ناقته، وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي النار التي فيها الصوت الشديد التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم. وقرأ الكسائي «الصعقة» بإسكان العين بعد الصاد بدون ألف بينهما وهي المرة من الصيحة المهلكة، وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) أي وهم يعاينون النار التي تنزل من السماء فيها رعد شديد، ولا يقدرون على دفعها. ويقال: أتاهم العذاب بعد إنذارهم بمجيئه بثلاثة أيام وهم ينتظرون مجيئه، فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي فعجزوا عن فرار من العذاب وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) أي ممتنعين من العذاب بأبدانهم وبغيرهم، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالجر عطفا على، وفي ثمود على معنى، وفي قوم نوح عبرة لكم من قبل ثمود وعاد وغيرهم، ويقويه قراءة عبد الله، وفي قوم نوح. والباقون بالنصب على تقدير: وأهلكنا قوم نوح من قبل، لأن ما تقدم دل على الهلاك. وقرأ أبو السماك وابن مقسم وأبو عمرو في رواية الأصمعي بالرفع على الابتداء وخبر المبتدأ إما مقدر، أي أهلكناهم أو ما بعده وهو قوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) أي خارجين عن الحدود في الكفر والمعاصي، وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) أي لقادرون ويحتمل أن يقال: إن هذا إشارة إلى المقصود الآخر وهو البعث للموتى من القبور، كأنه تعالى يقول: بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق مثلها. وقيل: إنا لموسعون الرزق على الخلق وَالْأَرْضَ فَرَشْناها، أي بسطناها على الماء ليستقروا عليها، فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) أي فنعم الفارشون نحن وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي وخلقنا من كل جنس نوعين من الجوهر متضادين كالذكر والأنثى، أو متشاكلين، فإن كل شيء له نظير، كالعرش والكرسي، واللوح والقلم. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) أي لكي تتعظوا فيما خلقه الله فتعلمون أن خالق الأزواج فرد لا كثرة فيه فتعبدونه، وأنه لا يعجز عن حشر الأجساد والأرواح، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي إذا علمتم أن الله تعالى فرد لا نظير له وأن هذه المذكورة شؤونه، فاهربوا إليه بالطاعة كي تنجوا من عقابه وتفوزوا بثوابه، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من الله تعالى نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) ، ففي الرسالة أمور ثلاثة: المرسل، والرسول، والمرسل إليه. فقوله

[سورة الذاريات (51) : الآيات 51 إلى 60]

تعالى: لَكُمْ إشارة إلى المرسل إليهم. وقوله تعالى: مِنْهُ إشارة إلى المرسل. وقوله تعالى: نَذِيرٌ بيان للرسول وقوله تعالى: مُبِينٌ إشارة إلى ما تعرف به الرسالة، لأن كل حادث له سبب، فلا بد للرسول من علامة يعرف بها وهي البرهان أو المعجزة، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بل وحدوا الله، فإن التوحيد بين التعليل والتشريك، فالمعطل يقول: لا إله أصلا والمشرك يقول: في الوجود آلهة. تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أثبت وجود الله. وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين. ولهذا قال الله تعالى مرتين: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) أي لا أقول شيئا إلّا بدليل ظاهر، فالرسول نذير من الله في المقامين عند الأمر بالطاعة، وعند النهي عن الشرك، وذلك ليعلم أن العمل لا ينفع إلّا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلّا الجامع بينهما، كَذلِكَ خبر مبتدأ محذوف، وقد فسر هذا الإبهام بما بعده، أي الشأن مثل ما ذكر من تكذيبهم الرسول وتسميتهم له ساحرا، أو مجنونا، ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أي ما أتى الأمم الأولين رسول من رسل الله، إلّا وقد قالوا في حقه هو ساحر أو مجنون أَتَواصَوْا بِهِ. وهذا الاستفهام للتعجيب والتوبيخ والإنكار، أي أتواصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه، كأن بعضهم قال لبعض: لا تقولوا إلّا هذا القول، أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم توافقوا عليه، أي ما وقع منهم وصية بذلك لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) أي لم يكن ذلك عن التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل استغنوا بالأموال، فنسوا الله وجاوزوا الحد في العصيان، فكذبوا رسلهم، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي فأعرض يا أشرف الخلق عن جدالهم بعد ما كررت عليهم الدعوة، فأبوا إلّا العناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) أي لا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير منكم وانما هم الملومون بالإعراض والعناد، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) ، أي ولا تدع العظة فإنها تزيد المؤمنين قوة في يقينهم وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) أي إلّا ليقروا بالعبودية طوعا أو كرها كما قاله ابن عباس، أي فإن الكافرين يقرون للعبودية، وهو إظهار التذلل بالخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وانفراده بالخلق، واستحقاق العبادة دون غيره، فالخلق كلهم عابدون بهذا الاعتبار، أو إلّا لآمرهم بالعبادة كما نقل عن علي بن أبي طالب وهي التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما، واللام لام الحكمة، والسبب شرعا. وقال مجاهد: «إلّا ليعرفوني» أي لأنه تعالى لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عن ربه: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» «1» . اه وعبر بالعبادة عن المعرفة لأنها وسيلة إلى المعرفة أي أن الله خلق الخلق

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة 126، وعلي القاري في الأسرار-

مستعدين لمعرفته مع كونها مطلوبة منهم، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم والعبيد على قسمين: قسم منهم يكون للعظمة كمماليك الملوك، فالملك يطعمهم ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد، والطراف بعد التلاد وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق ولإصلاحها، فليتفكروا في أنفسهم في كونهم مخلوقين للعبادة، هل هم من نوع أن يطلب منهم تحصيل رزق، أو هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت، كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا من هذا القسم بل هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم لأمر الله، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) أي الثابت الذي لا يتزلزل، فلا يطلب الرزق لغناه عبد من عباده فإنه يرزقهم ولا يطلب منهم أن يعينوه على الأرزاق، لأنه تعالى قوي وقرئ أني أنا الرزاق. وقرأ ابن محيصن «هو الرازق» ، كما قرأ «وفي السماء رازقكم» . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش المتين بالجر، فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ بفتح الذال، أي إذا عرفت حال الكفرة المتقدمين من عاد وثمود، وقوم نوح فإن لهؤلاء المكذبين من كفار مكة نصيبا وافرا من العذاب، مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة، فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) أي فلا يطلبوا مني أن أعجل في المجيء بالعذاب، فلا يأتي الأجل ما لم يفرغ الرزق، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) أي فالشدة من العذاب لكفار مكة من أجل يومهم الذي يوعدون العذاب فيه، وهو يوم بدر كما هو الأوفق لما، تقدم أو يوم القيامة، وهو الأنسب بما في أول السورة الآتية.

_ - المرفوعة 273، والفتني في تذكرة الموضوعات 11. وفيه «فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا» .

سورة الطور

سورة الطور مكية، تسع وأربعون آية، ثمانمائة واثنتا عشرة كلمة، ألف وخمسمائة حرف وَالطُّورِ (1) أي طور سينين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، واسمه زبير أقسم الله به، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) أي كتاب مكتوب في كاغد مبسوط، غير مطوي، وغير مختوم عليه- وهو القرآن- يقرؤه المؤمنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ، أو هو التوراة المكتوبة في الألواح التي أنزلت على موسى، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وهو إما الكعبة أو بيت معمور بالناس الطائفين به، العاكفين، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، أو الضراح، وهو في السماء بحيال الكعبة، يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) فوق كل شيء وهو السماء. وقيل: العرش، فإنه سقف الجنة، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) أي الممتلئ وهو بحر فوق السماء السابعة تحت عرش الرحمن، يسمى بحر الحيوان، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم. ويقال: هو بحر حار يصير نارا. روي أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة نارا يسجر بها نار جهنم. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) أي لنازل بشدة على مستحقه يوم القيامة، ما لَهُ أي العذاب مِنْ دافِعٍ (8) عنه يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) أي يوم تخرج السماء عن مكانها وتدور بأهلها دورانا كدوران الرحا وتموج الخلائق بعضهم في بعض من الهول فيوم معمول لواقع، أو لدافع، أي ليس له دافع يوم تمور السماء وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) ، أي تزول الجبال عن وجه الأرض، وتطير في الهواء، ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل، ثم تصير كالصوف المندوف، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) ، أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع، فشدة عذاب إذا للمكذبين للرسل الذين هم يلهون في أباطيل، فأفعالهم مثل أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)

و «يوم» إما ظرف لقول مقدر بعده، أي يوم يدفعون إليها دفعا عنيفا يقال لهم: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) في الدنيا. وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون دفعا على وجوههم وزجا أقفيتهم ويقولون لهم توبيخا: هذِهِ النَّارُ إلخ. وإما بدل من يومئذ والمعنى: فويل يوم يقع العذاب للمكذبين وهو يوم يدعون أي المكذبون إلى النار والعامة على فتح الدال وتشديد العين مضمومة. وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء، وزيد بن علي بسكون الدال وفتح العين فيكون دعا حالا من الواو، أي يوم ينادون مدعوين بأن يقال لهم: هلموا إلى نار جهنم فادخلوها وتقول لهم الخزنة: هذه النار، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) ؟ أي فهذا العذاب الذي ترونه سحر كما كنتم تقولون في الدنيا للأنبياء هم سحرة أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر، أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل؟ فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق. اصْلَوْها أي ادخلوا النار وقاسوا شدائدها، فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي فافعلوا ما شئتم من الصبر على عذاب النار وعدمه، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي صبركم عليه وتركه سواء عليكم في عدم النفع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) ، فإن الجزاء حيث كان واجب الوقوع بحسب الوعد كان الصبر وعدمه سواء في عدم النفع، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) دائم فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ، أي متلذذين بما أعطاهم ربهم. وقرأ الحسن وغيره «فكهين» بغير ألف، أي معجبين وقرئ «فاكهون» على أنه خبر إن أي ذوو فاكهة كثيرة بسبب إعطاء ربهم إياهم تلك، وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) عطف على ما آتاهم أي إنهم ناعمون بأمرين بما آتاهم ربهم، وبأنه وقّاهم، أو عطف على «في جنات» . فالمعنى إن المتقين أدخلهم ربهم جنات ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم فيقول الله لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي بلا تعب في تحصيل الطعام والشراب، وبلا داء في تناولهما وبلا خوف نفاد وبلا إثم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) فلا من عليكم في هذا اليوم وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة لأن هذا إنجاز الوعد، مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ حال من الضمير المستكن في خبر إن أي كائنون في جنات حال كونهم متكئين على نمارق على سرر موصولة بعضها إلى بعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) أي بنساء بيض عظام الأعين. فقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ عطف على خبر «إن» وهو إشارة إلى أن المزوج هو الله تعالى يتولى الطرفين يزوّج عبيده بإمائه، ومن يكون كذلك لا يفعل إلّا ما فيه راحة العبيد والإماء فهو إشارة إلى أن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمن لا بملك النكاح، وإنما عدي بالباء إشارة إلى أن المنفعة في التزويج هنا للرجال فقط وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم، وأيضا إن في التزويج معنى الإلصاق، وفي الباء كذلك، فكأن المعنى جعلناهم ملصقين بحور من غير عقد منهم.

[سورة الطور (52) : الآيات 21 إلى 30]

وقرئ «بحور عين» على إضافة الموصوف إلى صفته. وقرئ «بعيس عين» . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم ذرياتهم» بإسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه وبقطع الهمزة. والباقون «واتبعتهم» بإسناد الفعل إلى الذرية، وبهمزة وصل. قرأ نافع «ذريتهم» بالإفراد في الأولى والجمع في الثانية. وقرأ ابن كثير والكوفيون بالإفراد فيهما وأبو عمرو بالجمع فيهما مع النصب بالكسرة، وابن عامر بالجمع فيهما والرفع في الأولى والنصب بالكسرة في الثانية، والذرية هنا محمولة على الآباء والأبناء معا، أي إن المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابنا كان أو أبا بسبب الإيمان كما هو منقول عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده الصغار، ومن ارتد من المسلمين لا يحكم بكفر ولده، كما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه تعالى يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه» ثم تلا هذه الآية . فالآباء داخلون في اسم الذرية، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة، فإن كان معها أخذ علم أو عمل كانت أجدر، فتكون ذرية الإفادة كذرية الولادة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «المرء مع من أحب» «1» . وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي وما نقصنا شيئا من درجة الأعلى لأجل إلحاق الأدنى به وهذا لإزالة وهم المتوهم أن ثواب الأعلى يوزع على من دونه. وقرأ ابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام. والباقون بفتحها. وقرأ ابن هرمز «آلتناهم» بمد الهمزة. وقرئ «لتناهم» بكسر اللام و «لتناهم» بالفتح كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) أي كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله فإن عمل صالحا فك نفسه، وإلا أهلكها فالعمل بمنزلة الدين الثابت حيث إن العبد مطالب بذكر العمل خيرا أو شرا ويقال: كل امرئ بما كسب دائم فإن أحسن ففي الجنة مؤبدا، وإن أساء ففي النار مخلدا، وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) أي زدناهم على ما كان لهم وقتا بعد وقت بأنواع الفواكه، وأنواع اللحمان مما يشتهون فكل واحد من أهل الجنة يعطى في الجنة ما يشتهي وإن لم يطلبه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطون في الجنة خمرا هم وجلساؤهم بكمال الاشتياق، أو بتجاذب بعضهم إناء الخمر من بعض في شربها تجاذب ملاعبة لا تجاذب مخاصمة، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه، لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) أي لا كلمة لغو ولا إثم بسبب شربها، أي بسبب زوال العقل ونهوض الغضب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالبناء على الفتح في الاسمين. والباقون بالرفع. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ

_ (1) رواه أبو داود في السنن (5127) ، ومسلم (2034) ، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (2: 59) .

[سورة الطور (52) : الآيات 31 إلى 40]

بالكؤوس وغيرها من التحف للخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور، ولذلك لم يقل تعالى غلمانهم وإنما قال: غِلْمانٌ لَهُمْ لئلا يظن أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا، فيخاف كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، كَأَنَّهُمْ في بياضهم وشدة صفائهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) مخزون مصون من الحر والبرد، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ في الزيارة يَتَساءَلُونَ (25) ، أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أمر الدنيا، وعن نعيم الجنة قالُوا أي قال كل منهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل دخول الجنة فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) ، أي خائفين على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان فأخطأنا في ذلك. وقوله تعالى: فِي أَهْلِنا متعلق بمحذوف حال من الضمير في مشفقين أي حال كوننا بين أهلينا في الدنيا، أو بيان ل «قبل» ، أي في وقت اجتماعنا مع أهلنا فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالمغفرة ودخول الجنة، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) أي عذاب النار. وقال ثعلب السموم: شدة الحر، أو شدة البرد في النهار إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الرحمة أي في الدنيا نَدْعُوهُ أي نسأله الحفظ من العذاب ونعبده، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي الصادق في وعده لنا المحسن إلينا، الرَّحِيمُ (28) بعباده المؤمنين. وقرأ نافع والكسائي بفتح همزة «أنه» على تقدير كون اللام ملفوظا بها. والباقون بكسرها استئنافا على معنى التعليل، فَذَكِّرْ أي عظ يا أشرف الخلق فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بالنبوة ورجاحة العقل، بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أي فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم لقولهم لك: أنت كاهن تخبر بما في الغد، ومجنون. أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون أي كفار مكة هو شاعِرٌ يتقول الكلام من تلقاء نفسه نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) أي ننتظر بذلك الشاعر تقلبات الزمان ونزول الموت، فإنه إن كان شاعرا فصروف الزمان قد تضعف ذهنه، فيتبين كساد شعره. وقالوا أيضا: نتربص موته فإن أباه مات شابا، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، فلا نعارضه الآن مخافة أن يغلبنا بقوة شعره، وجملة «نتربص» نعت ل «شاعر» . قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الكفار: تَرَبَّصُوا أي انتظروا موتي- وهذا أمر تهديد- فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أي فإني أتربص هلاككم، وقد أهلكوا في يوم بدر وفي غيره من الأيام ويقال إن معنى هذه الآية أني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد وإنما أنا نذير، فتربصوا موتي وأنا متربصة ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتمنون بعدي، أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أي أتأمرهم عقولهم بهذا المقال المتناقض فإنهم قالوا في حق الرسول: هو كاهن مجنون شاعر، فإن الكاهن ذو دقة نظر في الأمور، والمجنون مختل فكره، والشاعر ذو كلام موزون متسق، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد! بل هم قوم مجاوزون الحدود في العناد لا يحومون حول السداد. ولذلك يقولون: أكاذيب خارجة عن دائرة العقول. وقرئ «بل هم» . أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي بل يقولون:

[سورة الطور (52) : الآيات 41 إلى 49]

كذب محمد في القرآن من عند نفسه وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) بالقرآن استكبارا فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي فليجيئوا بكلام مثل القرآن في البلاغة، وصحة المعاني، والإخبار بالمغيبات من تلقاء أنفسهم، فإنهم مثل محمد في البشرية والعربية، إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) فيما قالوا فإن صدقهم في ذلك يستلزم قدرتهم على الإتيان بمثله، ففيهم الشعراء البلغاء، والكهنة الأذكياء، ومن يرتجل القصائد، ويقص القصص. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟! أي أوجدوا من غير خالق، فلذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول. وقال ابن كيسان: أم خلقوا لغير شيء من عبادة وجزاء، فخلقوا عبثا، وتركوا سدى فلا إعادة. وقيل: أي من غير أب وأم، فهم كالجماد لا يعقلون ولا يقيم الله عليهم حجة، أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟! أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) لأنفسهم فلا يأتمرون لأمر الله ولا يعبدون الله، وهم لا يقولون ذلك، فإذا أقروا أن تمّ خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة ومن الإقرار بأنه قادر على البعث! أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) ف «أم» للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، أي ما خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون بأن الله واحد، فإذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا، وإلّا لما أعرضوا عن عبادته، أي لما لم ينشأ من إيقانهم بالله أثر وهو الإقبال على عبادته جعل إيقانهم كالعدم فنفي عنهم. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إنهم كما طعنوا فيك يا أشرف الخلق طعنوا في خالقهم. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ، و «أم» استفهام إنكاري أي أعندهم خزائن رحمة الله حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أم عندهم خزائن علم الله بالغيب حتى يختاروا للنبوة من شاءوا، أم هم الغالبون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا، أم لهم مصعد إلى السماء يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا أن محمد ليس برسول، وأن كلامه ليس بمرسل، أي أنتم لستم بخزنة الله، ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها، ولا أنتم اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أي إذا ادعوا الاستماع من الملائكة فليأت مدعي الاستماع بحجة واضحة تصدق دعواه، أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أي أتزعمون أن لله تعالى البنات ولكم البنون خاصة لتكونوا أقوى منه تعالى، فتكذبوا رسوله وتردوا قوله من غير حجة، فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوتكم! أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أجر الدنيا من مال، أو غيره على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أي فهم لذلك الأجر من التزام غرامه محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك! أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أي هل عندهم علم ما غاب عنهم فهم يكتبون ما غاب عنهم حتى يمكنهم منازعة محمد، أي هل صاروا في درجة محمد حتى استغنوا عنه وأعرضوا أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ

كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) ! والمعنى: أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجرا، فتثقلهم عن الاتباع، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك، فيعرضون عنك أم ليس لهم شيئا من هذين الأمرين بل يريدون العذاب بغتة من حيث لا يشعرون، فالذين كفروا معذبون. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يمنعهم من عذاب الله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) أي عن الذي يشركون من الولد ومن مثل الآلهة، لأنهم كانوا يقولون: البنات لله، وكانوا يقولون: هو تعالى مثل ما يعبدونه، وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) أي لو عذبنا كفار مكة بنزول قطع من السماء عليهم لم ينتهوا عن طغيانهم، ولم يرجعوا عن عنادهم ولقالوا في هذا النازل إغاظة لمحمد: هذا سحاب تراكب بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه قطعة نازلة للعذاب، فَذَرْهُمْ أي إذا تبين أنهم لا يرجعون عن الكفر فاتركهم على شر أحوالهم، حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) أي يهلكون بالقتل يوم بدر. وقرئ «يلقوا» . وقرأ ابن عامر وعاصم «يصعقون» بضم الياء مبنيا للمفعول، وباقي السبعة بفتحها مبينا للفاعل. وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي يوم لا يدفع عنهم مكرهم- في مناصبتهم يوم بدر- شيئا من الهلاك وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) أي ولا يمنعون من القتل والأسر النازلين بهم في ذلك اليوم، وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إن لهؤلاء الظلمة بعبادتهم الأوثان عَذاباً دُونَ ذلِكَ أي قبل ما لاقوه من القتل يوم بدر، وهو القحط الذي أصابهم سبع سنين. وقرئ دون ذلك قريبا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) أن العذاب يلاقوه. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي بمنظر منا وفي حفظنا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) من موضعك أي حين تعزم على القيام وقد ورد في الخبر: «إن من قال سبحان الله من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللغط واللغو في ذلك المجلس» . وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) أي وقت الصبح حين يذهب ضياؤها بضوء الشمس.

سورة النجم

سورة النجم مكية، اثنتان وستون آية، ثلاثمائة وستون كلمة، ألف وأربعمائة وخمسة أحرف وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) أي والقرآن إذا نزل. وهذا استدلال بمعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الدالة على صدقه، أو والنجوم التي هي ثابتة للاهتداء إذا سقطت إلى أسفل، وفائدة تقييد القسم بالنجم بوقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء لا يهتدي به الساري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل سيدكم يا معشر قريش عن الطريق المستقيم، أو ما جن مصاحبكم محمد، وَما غَوى (2) أي وما أعتقد باطلا قط بل هو رشيد مرشد، دال على الله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) أي ولم يتكلم بالقرآن عن هوى نفسه، وعن رأيه أصلا، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) أي ما القرآن إلّا وحي من الله يوحى أي يجدد إيحاؤه إليه صلّى الله عليه وسلّم وقتا بعد وقت. ويقال في معنى هذه الآية: ما جن محمد وما مسه الجن، فليس بكاهن، وليس بينه وبين الغواية تعلق، فليس بشاعر، وما قوله إلّا وحي، وليس بقول كاهن ولا شاعر، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) أي علم النبي الوحي ملك شديد القوة بالبدن، وهو جبريل عليه السلام. روي أنه جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا محمد ما بعثت إلى نبي قط أحب إلي منك، ألا أعلمك أسماء الله عز وجل هن أحب أسمائه أن يدعى بهن قل: يا نور السموات والأرض، يا جبار السموات والأرض، يا عماد السموات والأرض، يا بديع السموات والأرض، يا قيام السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا صريخ المستصرخين، يا غياث المستغيثين، يا منتهى العابدين، ويا أرحم الراحمين، فيزول بك كل حاجة» . ذُو مِرَّةٍ أي قوة في العقل، فَاسْتَوى (6) و «الفاء» للسببية أي فاستقام جبريل على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بحراء فخرّ مغشيا عليه دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوحي وذلك أن رسول الله أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فإن التشكل بشكله الذي فطر عليه يتسبب من شدة قوته وقدرته على الخوارق، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) أي والحال أن جبريل في الجانب الشرقي فسد المشرق لعظمته.

[سورة النجم (53) : الآيات 11 إلى 20]

وقال الرازي: والظاهر أن المعنى ارتفع محمد بالمكان وهو بالمكان الأعلى رتبة في رفعة القدر، لا حقيقة في الحصول في المكان، فإنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ الغاية وصار نبيا وهو واصل إلى الأفق الأعلى الفارق بين المنزلتين، ثُمَّ دَنا أي بعد ما مدّ جبريل جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرب من النبي صلّى الله عليه وسلّم فَتَدَلَّى (8) أي فنزل من الأفق الأعلى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه حتى أفاق وسكن روعه صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: دنا جبريل من النبي فبقي متدليا من الهواء واقفا بين السماء والأرض، فإن التدلي هو التعلق من الهواء، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) أي فكان مقدار جبريل والنبي مقدار قوسين، بل أقرب من ذلك بنصف قوس، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ، أي فأوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول، فإن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحي إليه. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أي صدق فؤاد محمد فيما رأى شيئا من صورة جبريل، ومن الله تعالى ليلة المعراج، ومن الآيات العجيبة الإلهية أي إن قلبه صلّى الله عليه وسلّم لم يقل إن المرئي خيال لا حقيقة له، ولم يقل: إنه جني أو شيطان، ويحتمل أن يقال: لم يكذب جنس الفؤاد ما رأى صلّى الله عليه وسلّم ببصره بأن يقول كيف يرى الله وهو ليس في مكان ولا جهة، وليس على هيئة، أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهواء، والهواء لا يرى، فرؤية الله تعالى رؤية جبريل على ما رآه محمد صلّى الله عليه وسلّم جائزة عند من له قلب، فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة تنكره. بفتح التاء وسكون الميم، أي أفتنكرونه. وقرأ عبد الله بن مسعود والشعبي بضم التاء وسكون الميم أي أفتجدونه شاكا فيما رأى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) أي وبالله لقد رأى محمد جبريل على صورته الحقيقة مرة أخرى عند شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش، وهو موضع لا يتعداه ملك ولا روح من الأرواح. قال مقاتل: وهي شجرة تحمل الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها، وهي شجرة طوبى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) أي الجنة التي يأوي إليها المتقون وأرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ، و «إذ» ظرف ل «رآه» ، أي ولقد رآه عند السدرة وقت علاها ما علاها من فراش من ذهب، أو من ملائكة يأتونها كأنها طيور، أو من أنوار الله تعالى، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصل إليها تجلى ربه لها، وظهرت الأنوار، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) أي ما التفت محمد إلى الجراد ولا إلى غيره، وما جاوز إلى ما سوى الله تعالى، أو ما

[سورة النجم (53) : الآيات 21 إلى 30]

محمد عن الأنوار وما طلب شيئا غيرها، بل اشتغل بمطالعتها مع أن في ذلك العالم من العجائب ما يحير الناظر، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أي والله لقد رأى من عجائب الملك والملكوت ما لا تحيط به العبارة أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أي ومناة المتأخرة الذليلة، أي الوضيعة المقدار. وذلك لأن اللات كان وثنا على صورة آدمي وهو لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة والعزى صورتها صورة شجرة سمرة لغطفان، ومناة صورتها صورة صخرة كانت لخزاعة ولهذيل بقديد. فالآدمي أشرف من النبات، وهو أشرف من الجماد وهو متأخر، فالمناة في أخريات المراتب. والمعنى: لما ذكر الله تعالى عظمة آياته في ملكوته وهي أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته، ويهلك المدائن بقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته. قال: أفرأيتم هذه الأصنام مع حقارتها شركاء الله مع ما تقدم ويقال: أفتظنون أن عبادتكم اللات والعزى الأخرى، ومناة الثالثة في الدنيا تنفعكم في الآخرة. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) أي كيف جعلتم لله تعالى بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون، والله كامل العظمة، فكيف جعلتموه ناقصا ونسبتم إلى أنفسكم الكامل، فنسبتكم البنات إلى الله تعالى قسمة جائزة على طريقتكم حيث نسبتم إلى أنفسكم الأعظم من الثقلين، وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى، وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم وإلا نقص للحقير، فإذا أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي هي لكم، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي ما هذه الأصنام المذكورات إلّا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أنتم وآباؤكم فإنكم قلتم: إنها آلهة وليست بآلهة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما أنزل الله بهذه الأسماء من حجة فوضع الاسم لا يجوز إلّا بدليل نقلي أو عقلي، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي ما يتبع الكافرون في تسمية الأصنام آلهة إلا توهم أن ما هم عليه حق، وإلّا ما دونه مما تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أي البيان بالكتاب المنزل والمرسل أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) أي الإنسان ما اشتهاه من شفاعة الأصنام وغيرها أو هل له أن يعبد بالاشتهاء فيعبد ما لا يستحق العبادة! فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) أي إن اختار الإنسان معبودا على ما اشتهاه فيعاقبه على فعله في الدنيا وإلّا فيعاقبه في الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) أي وكثير من الملائكة مع علو منزلتهم لا تنفع شفاعتهم شيئا إلّا من بعد أن يأذن الله في الشفاعة فيمن يشاء ويرضى، وهو العابد الشاكر، لا المعاند الكافر، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فكيف تقبل شفاعة الجمادات، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بأحوال يوم القيامة لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما بين لهم أن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلّا بالإذن قالوا: نحن لا نعبد

[سورة النجم (53) : الآيات 31 إلى 40]

الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعبادتها فإنها على صورها ننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد الغائب، فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم. الشأن فقال تعالى ردا عليهم: كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الإناث حيث قلتم: الملائكة بنات الله. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وهذه الجملة حال من فاعل «ليسمون» ، أي ليسمون الملائكة بالبنات والحال أنه لا علم لهم بما كانوا يقولون أصلا. وقرئ «بها» أي بالتسمية، أو بالملائكة. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في أن الملائكة إناث، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) أي لا ينفع شيئا من العلم بحقيقة الشيء والظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين، ومدح من حاله لا يعلم، فالظن فيه معتبر، والأخذ بظاهر حال العاقل واجب، وأما في الاعتقاديات فلا يغني الظن شيئا من الحق، فإن المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير، ففي الحق ينبغي أن يكون جازما، والظان لا يكون جازما، ويحتمل أن المراد من الحق هو الله تعالى. والمعنى: وأن الظن لا يفيد شيئا من الله تعالى، فإن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) أي اترك مجادلة من أعرض عن القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكور لأمور الآخرة قاصرا نظره إلى الدنيا. وهذه الآية غير منسوخة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بالدعاء بالحكمة، والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بالجواب عنها بالمجادلة، ثم لما لم ينفع أمر بالإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبرهان، أي وأمر بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقاتلة ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك الظن غاية ما يبلغون به من الإدراك المتظلم للظن الفاسد، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) أي إن الله أعلم بمن لم يرجع إلى الهدى أصلا، وبمن يقبل الاهتداء في بعض الأحوال، وقد علم الله أنه لا يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال، فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي خلقا وملكا والوقف هنا تام عند أبي حاتم لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي بعقاب ما عملوا من الضلال وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى (31) أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة. وقوله تعالى: لِيَجْزِيَ متعلق بقوله: ضَلَّ واهْتَدى» كأنه تعالى قال: هو يعلم بمن ضلّ واهتدى ليجزيهما، أو متعلق بقوله تعالى فأعرض، أي أعرض عنهم ليقع الجزاء الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ. وهذا الموصول بدل من الموصول الثاني، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» وَالْفَواحِشَ. قيل: الكبائر: ما وعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا، والفواحش: ما أوجب الله عليه حدا في الدنيا إِلَّا اللَّمَمَ وهو ما يقصده المؤمن ولا يحققه، أو ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال، إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، وهذا تنبيه على أن إخراج اللحم عن

[سورة النجم (53) : الآيات 41 إلى 50]

حكم المؤاخذة به ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي هو تعالى أعلم بأحوالكم يعلمها حين ابتدأ خلقكم من تراب، فإن كل واحد أصله من التراب فإنه يصير غذاء، ثم يصير دما، ثم يصير نطفة وحين صوّركم في الأرحام. وهذا تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم بحال الجنين في بطن الأم لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد اتَّقى (32) أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية على سبيل الإعجاب أو الرياء ولا تقولوا لمن لا تعرفون حقيقته نحن خير منك، ولا تقطعوا أيها المؤمنون بخلاصكم من العذاب فإن الله أعلم بمن أطاع وأخلص العمل، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فجائز، وذلك بأن أعتقد أن ما عمله من الأعمال الصالحة بتوفيق الله ولم يقصد بذلك الاعتراف بالمدح. وهذا لم يكن من المزكين أنفسهم، فإن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أي أفرأيت الذي أدبر عن الإيمان وأعطى شيئا قليلا من المال المسمى وقطع العطاء. قيل: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة كان يجلس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وسمع وعظه وأثرت الحكمة فيه تأثيرا قويا: فقال له رجل من المشركين لم تركت دين آبائك؟ فقال: أخشى عذاب الله. فقال له: لا تخف وأعطني كذا، وأنا أتحمل عنك العذاب، فتولى الوليد عن الوعظ وسماع الكلام من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعطاه الوليد بعض المشروط وبخل بالباقي فلا يبقى بالعهد ولا يحصل بذلك حمل الوزر، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أي أعنده علم بالأمور الغيبية فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه يوم القيامة أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) أي بل لم يخبر بالخبر الذي كان في التوراة وفي صحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله تعالى أنه لا تحمل نفس حمل نفس أخرى، أي أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. وعن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره، فكان أهل المقتول إذا ظفروا بأبي القاتل أو ابنه، أو أخيه أو عمه، أو خاله قتلوه حتى نهاهم إبراهيم عن ذلك وبلغهم عن الله أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) أي وأنه ليس الإنسان يوم القيامة إلّا ما عمل في الدنيا من خير وشر، فإن حسنة الغير لا تفيد نفعا وإن المسيء لا يجد حسنة الغير ثوابا ولا يتحمل عنه أحد عقابا، وَأَنَّ سَعْيَهُ أي عمله من خير وشر سَوْفَ يُرى (40) أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في ديوانه وميزانه، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) ثم يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأتم. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) أي المرجع بعد الموت، وعند ذلك يجازي الرب الشكور ويجزي الكفور، والقراءة المشهورة فتح الهمزة على العطف على ما، فهذا في الصحف أيضا وهو الحق، فالمخاطب به موسى وإبراهيم على التوزيع. وقرئ بالكسر على الابتداء، فالمخاطب بهذا إما عام وهو كل سامع فهو تهديد للمسيء وحث للمحسن، أو خاص وهو

[سورة النجم (53) : الآيات 51 إلى 60]

النبي صلّى الله عليه وسلّم، ففي هذا تسلية لقلبه كأنه تعالى قال: لا تحزن فإن المنتهى إلى الله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) فكل ما يعمله الإنسان بخلقه حتى الضحك والبكاء. قيل: إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء، والقرد يضحك ولا يبكي، والإبل تبكي ولا تضحك، وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) أي خلق الموت والحياة فلا يقدر على الإماتة والإحياء غيره تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) أي تهراق في رحم الأنثى، وَأَنَّ عَلَيْهِ تعالى النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) أي نفخ الروح كما قال تعالى هنالك: أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي نفخ الروح بعد خلق النطفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى أي أغنى الناس بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره، وَأَقْنى (48) أي وأعطاه الأموال بالكسب بعد كبره، فكل ما دفع الله به الحاجة فهو إغناء، وكل ما زاد عليه فهو إقناء وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وهي نجم مضيء وتسمى الشعرى العبور وهي تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وتسمى الشعرى اليمانية، وكانت خزاعة تعبدها وتعتقد تأثيرها في العالم، وهي المرادة في هذه الآية دون الشعرى الشامية المسماة بالشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع. وهذا إشارة إلى فساد قول قوم، فإن بعض الناس قال: إن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر، وبعضهم قال: إن ذلك بالبخت وذلك بالنجوم، فردهم الله تعالى بقوله هو تعالى محرك النجوم ورب معبودهم الشعرى العبور، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وهي قوم هود. وسميت أولى لتقدمها في الزمان على عاد الثانية، التي هي ثمود، قوم صالح. وقرأ نافع وأبو عمرو بإسقاط نون التنوين لالتقاء الساكنين، وبنقل حركة همزة أولى إلى اللام. وقرأ قالون كذلك لكن بقلب الواو همزة ساكنة. وقرأ الباقون بكسر نون التنوين لالتقاء الساكنين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة، وَثَمُودَ عطف على عاد. وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدال في الوصل وبسكون الدال في الوقف. والباقون بالتنوين في الوصل وبالوقف على الألف فَما أَبْقى (51) أي فما أبقى من عاد وثمود أحدا، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي أهلكهم من قبل الفريقين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) من الفريقين حيث يبتدئون بالكفر ويتجاوزون في المعاصي فإنهم كانوا يؤذون نوحا عليه السلام، ويضربونه حتى يغشى عليه، وينفرون الناس عنه، ويحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، والبادئ أظلم و «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل عمل بها» «1» وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) أي أسقط قريات لوط، وسدوم، وصادوم، وعمورا، وصوائم إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبريل عليه السلام بأمره

_ (1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (3: 109) . [.....]

[سورة النجم (53) : الآيات 61 إلى 62]

جبريل بذلك. فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) أي فكساها الله تعالى أمرا عظيما من فنون العذاب، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) أي تتشكك في أي أنعم ربك أيها الإنسان أي لما عد الله تعالى من أنواع النعم وهو الخلق من النطفة، ونفخ الروح فيه والإغناء والإقناء وذكر أن الكافرين أهلكهم، قال: فبأي آلاء ربك تتمارى فيصيبك مثل ما أصاب الذين تماروا من قبل، هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أي هذا النبي رسول كالرسل قبله يرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، والله تعالى لما بيّن الوحدانية بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أشار إلى اثبات رسالة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: هذا نَذِيرٌ إلخ، ثم أشار إلى القيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) أي قربت الساعة التي يزداد كل يوم قربها، فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب، لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أي ليس للساعة نفس قادرة على إظهار وقتها إلّا الله تعالى، أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) أي أتعجبون إنكارا من هذا القرآن أو من حديث حشر الأجساد بعد الفساد، وَتَضْحَكُونَ استهزاء من القرآن، أو أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قريب، وَلا تَبْكُونَ (60) مما في القرآن من الزجر والتخويف وكان حالقكم أن تبكوا منه، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) أي معرضون أو مستكبرون، فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله الذي أنزل القرآن، واعبدوه ولا تعبدوا غيره، لأن عبادة غيره تعالى ليست بعبادة.

سورة القمر

سورة القمر وتسمى سورة اقتربت، مكية، خمس وخمسون آية، ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة، ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنا قيام الساعة بخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) نصفين من علامات قرب الساعة. روى أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما وَإِنْ يَرَوْا آيَةً أي عظيمة يُعْرِضُوا عن الإيمان بها وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) أي هذا سحر دائم يأتي به محمد على مر الزمان، أو قوي لا يمكن إزالته. وقيل: أي مار يزول ولا يبقى. وقيل: أي شديد المرارة فلا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ المر. وقرئ «وإن يروا» على البناء للمفعول، وَكَذَّبُوا بالآية بكونها دالة على صدق الرسول، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي فقالوا: إنه سحر القمر أو سحر أعيننا، وَكُلُّ أَمْرٍ من الخير والشر مُسْتَقِرٌّ (3) فكل عامل يرى في الآخرة أثر عمله. وقرئ «مستقر» بالجر صفة ل «أمر» ف «كل» عطف على الساعة، أي اقتربت الساعة وكل أمر مستقر، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) أي وبالله لقد جاءهم في القرآن كائنا من أخبار الأمم الماضية المهلكين ما فيه ازدجار. وقرئ «مزجر» بقلب تاء الافتعال زايا وإدغامها فيه. وقرأ زيد بن علي «مزجر» بصيغة اسم الفاعل ذو زجر. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي لا خلل فيها بدل من «ما» . وقرئ بالنصب حالا منها فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) و «ما» إما نافية. والمعنى: إن الرسل لم يبعثوا ليلجأوا قومهم إلى الحق وإنما أرسلوا مبلغين وإما استفهامية، والمعنى: إنك يا أشرف الرسل أتيت بما عليك من الدعوة وإظهار الآية عليها، فكذبوك، فأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم إنذارك فهذه حكمة بالغة، فأيّ شيء من الأمور النافعة غير هذا تحصله فلم يبق عليك شيء آخر، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي لا تناظرهم بالكلام- وهذه الآية غير منسوخة- يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) و «يوم» منصوب ب «يخرجون» ، و «خشعا» حال من فاعل «يخرجون» ، وكذا جملة «كأنهم» إلخ وقرأ

[سورة القمر (54) : الآيات 11 إلى 20]

ابن كثير «نكر» بسكون الكاف. والباقون بالضم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «خاشعا» بفتح الخاء، وبألف بعدها والباقون بضم الخاء وفتح الشين مشددة. وقرئ «خاشعة» بالتأنيث على الأصل وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء، والخبر والجملة حال، والمعنى: يخرج الناس من القبور حال كونهم مثل جراد منتشر في كثرتهم واجتماع بعضهم على بعض يوم يدعو إسرافيل أو جبريل إلى شيء فظيع تنكره النفوس، وهو هول القيامة أذلة أبصارهم من شدة الهول، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ أي مسرعين إليه مادي أعناقهم إليه يَقُولُ الْكافِرُونَ في ذلك اليوم: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) أي صعب شديد، ثم شرع في ذكر بعض الأنباء الموجبة للازدجار فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة، قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) عطف على «قالوا» ، أي قالوا لنوح: هو مجنون وزجروه عن مقالته بأنواع الأذية، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) أي بأني غلبني قومي بالقوة فانتقم لي منهم، والعامة على فتح همزة «أني» . وقرأ الأعمش وابن أبي إسحاق بالكسر، أي فقال نوح: يا إلهي إن نفسي غلبتني بحكم البشرية، وقد أمرتني بالدعاء عليهم، فأهلكهم فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) ، أي بمطر منصب من السماء على الأرض أربعين يوما. وقرأ ابن عامر بتشديد التاء لكثرة الأبواب، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي جعلنا الأرض كلها، كأنها عيون منفجرة، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) أي فارماء الأرض بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء على حال قد قدّرها الله تعالى كما شاء. وقرئ «الماءان» بالتثنية وتحقيق الهمزة «والماوان» بقلب الهمزة واوا، أي ماء السماء وماء الأرض. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) أي وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي تسير السفينة محفوظة بحفظنا، جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) أي حملناه جزاء لنوح على صبره على كفرانهم، لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة على أمته. وقرئ «جزاء» بكسر الجيم، أي مجازاة، وقرئ «كفر» بالبناء على الفاعل، أي أغرقنا الكفار جزاء لهم، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً أي ولقد جعلنا السفينة آية يعتبر بها من يقف على خبرها، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) أي فهل من معتبر يعتبر بما صنع الله بقوم نوح موجود فيترك المعصية ويختار الطاعة، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي الذي عذبتهم به، وَنُذُرِ (16) أي وكيف كان عاقبة إنذاري؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك، بأن نزلناه على لغتهم للاتعاظ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) أي فهل من طالب علم فيعان عليه؟ كَذَّبَتْ عادٌ هودا فاسمعوا، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) أي إنذاراتي لهم، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردة وهو ريح الدبور فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) ، أي إلى نفاذ المراد، وهو من يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب شمس الأربعاء آخره، ومستمر، وصف ليوم مضاف إلى «نحس» بسكون الحاء. وقرئ بتنوين «يوم» وكسر حاء «نحس» ، ومن جعل نحسا اسم معنى أو مصدرا كان مستمر وصفا لنحس أي مستمر النحوسة. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ

[سورة القمر (54) : الآيات 21 إلى 30]

أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) أي تقلع قوم هود من أماكنهم فيلقون أمواتا وهم جثث عظام طوال كأنهم نخل قطعت رؤوسه منقلع عن مغارسه، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) أي انظر كيف كان عذابي عليهم وكيف كان حال إنذاراتي، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هيأناه للتذكر فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) أي فهل من متعظ يتعظ بما صنع بقوم هود فيترك المعصية؟ كَذَّبَتْ ثَمُودُ قوم صالح بِالنُّذُرِ (23) أي بالإنذارات، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أي فقالوا: أنتبع آدميا مثلنا واحدا من آحادنا لا من أشرافنا في دينه وأمره إنا وقتئذ لفي خطأ بيّن وتعب، أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أألقي الوحي على صالح وهل خصّ بالنبوة منفردا من بيننا وفينا من هو أكثر مالا وأحسن حالا، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ في قوله، أَشِرٌ (25) أي متكبر مرح، سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) . وقرأ ابن عامر وحمزة بتاء الخطاب وهو حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه، أي ستعلمون وقت نزول العذاب بكم في الدنيا عن قريب من شديد الكذب المتكبر. والباقون بياء الغيبة وهو حكاية لقوله تعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه أي سيعلمون عن قريب وهو وقت نزول العذاب بهم في الدنيا من الذي حمله كذبه وبطره على الترفع أصالح هو أم من كذبه؟ وقرئ «الأشر» أي الأبلغ في الشرار فقال الله لصالح: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي إنا مخرجو الناقة من الجبل المنبسط على الأرض حسب ما سألوا فِتْنَةً لَهُمْ مفعول لأجله، أي امتحانا لهم ليتميز حال من يثاب ممن يعذب فإخراج الناقة من الصخرة كان معجزة لصالح، لأنها تصديق له وبعده يتميز المصدق عن المكذب وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم وقسمة الماء كان فتنة، فَارْتَقِبْهُمْ أي انتظرهم بالعذاب وتبصر ما يصنعون، وَاصْطَبِرْ (27) على أذيتهم، أي فإن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي أخبرهم بأن ماء بئرهم مقسوم بين قوم صالح والناقة فيوم لهم ويوم لها كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) أي كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته، فبقوا على ذلك مدة، ثم سئموا من ضيق الماء والمرعى عليهم، وعلى مواشيهم فأجمعوا على قتلها فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف، ويلقب بالأجهر بعد ما رماها مصدع بن دهر بسهم، فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) أي تناول قدار السيف فقتل الناقة به موافقة لهم، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً صيحة جبريل بالعذاب بعد ثلاثة أيام من قتلهم الناقة، لأنه كان في يوم الثلاثاء، ونزول العذاب بالصيحة بهم كان يوم السبت، فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) بكسر الظاء، أي فصاروا كالشيء اليابس من الحطب والشوك لمن يعمل الحظيرة في إهلاكهم. وقرئ بفتح الظاء أي فصاروا كالشيء الذي داسته الغنم في الحظيرة، وهي زريبة الغنم تتخذ من دقاق الشجر وضعيف النبات تقيها عن الحر أو البرد، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هوّنا القرآن للعظة والحفظ والقراءة.

[سورة القمر (54) : الآيات 41 إلى 50]

قال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا، أي بغير نظر إلّا القرآن. وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل ولم يكونوا يقرءون التوراة إلّا نظرا غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) أي فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) أي بالأمور المخوفة لهم على لسانه إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً، أي عذابا بحجارة من سجيل، عليها علامة كل واحد، فالملائكة حركوا الريح، فالريح رمت الحجارة عليهم إِلَّا آلَ لُوطٍ أي إلّا لوطا وابنتيه زاعورا ورينا. نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) أي في آخر الليل. وقيل عند السدس الأخير من الليل نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا مفعول له، أي كان ذلك الإنجاء فضلا منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلا منا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) ، أي كما أنعمنا على من آمن بالله تعالى وأطاعه بالإنجاء ننعم عليهم يوم الحساب. وقيل: أي مثل ذلك الإنجاء ننجي من آمن بالله من عذاب الدنيا، ولا نهلكه بالهلاك العام، وعلى هذا فهو وعد لأمة محمد المؤمنين وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا أي ولقد خوفهم لوط عذابنا الأكبر يوم القيامة لئلا يكون مقصرا في التبليغ، فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) أي شكوا في الإنذارات وكذبوا لوطا، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طلبوا من لوط المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة التي في صورة شبان مرد للفاحشة، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أذهبنا صورة أعينهم بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء. روي أنهم لما دخلوا داره عليه السلام عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط عليه السلام. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) أي فقلنا لهم على ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي الذي هو طمس العين وثمرة إنذاري. وقال القرطبي: والمراد من هذا الأمر خبر، أي فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) أي ولقد أتاهم وقت الصبح أول جزء منه عذاب دائم، فإنهم لما أهلكوا نقلوا إلى الجحيم، فكان ما أتاهم عذاب لا يندفع بموتهم، أي فقلع جبريل بلادهم فرفعها، ثم قلبها وأمطر الله عليها حجارة من النار، وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان. وقرئ «بكرة» غير منون على أن المراد بها أول نهار مخصوص، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) أي فقلنا لهم: ذوقوا عذابي وفائدة تخويفي وهي فنون هذا العذاب، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي هوّنا القرآن للحفظ والكتابة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) ؟ أي فهل متعظ يتعظ بما صنع بقوم لوط فيترك المعصية؟ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) أي ولقد جاء فرعون وهامان وقارون الإنذار على لسان موسى وهارون، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها السمعية والعقلية، فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أي أخذ غالب غير عاجز أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الذين يصرون على الكفر منكم أهل مكة خير في

[سورة القمر (54) : الآيات 51 إلى 55]

القوة فلا تهلكون أم الذين أصروا عليه من أولئكم المذكورين، قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون، وآله وهم من يؤول إليهم خيره وشره؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ! أي هل حصل لكم براءة من غوائل الكفر والمعاصي في الكتب السماوية تأمنون العذاب بسببها فلذلك تصرون على ما أنتم عليه؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) ؟ أي بل أيقولون: نحن كثير منتقمون على من خالفنا، قويون على من عادانا سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أي يهزم جمعهم بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) . قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما نزلت: سيهزم الجمع ويولون الدبر، كنت لا أدري أي جمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلبس الدرع ويقول: «سيهزم الجمع ويولون الدبر» . فعرفت تأويلها اه. وقرئ «سيهزم الجمع» بالبناء للفاعل، أي سيهزم الله تعالى الجمع بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس ما وقع لهم في بدر تمام عقوبتهم، بل السلعة موعد أصل عذابهم، وهذا من مقدماته وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) ، والساعة أشد من أنواع عذاب الدنيا وآلم وأدوم، إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) في ضلال وجنون لا يعقلون ولا يهتدون يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) أي يوم يجرون على وجوههم إلى النار يقال لهم: قاسوا حر جهنم وألمها، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) ، أي إنا خلقنا كل شيء ملتبسا بقدر معين، والمعنى: أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى، وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها الله تعالى، وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) أي وما أمرنا في كل شيء أردنا إيجاده إلّا كلمة واحدة وهي: كن كطرف البصر في السرعة. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) أي متعظ يتعظ بما صنع بهم فيترك المعصية؟ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) أي وكل شيء فعله الأشياع في الشرك بالله من المعاصي والجفاء بالأنبياء مكتوب عليهم في ديوان الحفظة، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال مُسْتَطَرٌ (53) أي مكتوب بتفاصيله في اللوح المحفوظ إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والمعاصي فِي جَنَّاتٍ أي رياض واسعة عظيمة الشأن، وَنَهَرٍ (54) أي عند أنهار. وقرئ «نهر» بضم النون والهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مكان مرضي، أو في مجلس لا كذب فيه. وقرئ «مقاعد» . عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) أي مقربين عند من له ملك عظيم قادر لا يعجزه شيء ولا شيء إلّا وهو تحت ملكوته، والقربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد قدرة كان المتقرب منه أشد التذاذا. والمراد من القرب: قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان.

سورة الرحمن

سورة الرحمن وتسمى عروس القرآن مكية، سبع وسبعون آية، ثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) أي علم الإنسان القرآن، فإن الله بعث جبريل بالقرآن إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعث محمدا إلى أمته. خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) أي أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة. عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) أي النطق. فيمتاز الإنسان به عن غيره من سائر الحيوانات وألهمه الله أسماء كل شيء وكل دابة تكون على وجه الأرض. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) أي الشمس والقمر يجريان بحساب مقدر في بروجها بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول، وتعلم السنون والأوقات. وَالنَّجْمُ وهو كل نبت لا يقوم على الساق. وَالشَّجَرُ وهو ما يقوم على الساق يَسْجُدانِ (6) أي يخضعان الله تعالى، ويخرجان من الأرض، ويثبتان عليها بإذن الله تعالى فشبه الثبات في المكان بالسجود، لأن الساجد يثبت. وَالسَّماءَ رَفَعَها فوق كل شيء وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) ، أي وضع آلة الوزن في الأرض وبين العدل أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) ، أي لئلا تتجاوزوا الإنصاف في الوزن وفي إعطاء المستحقين حقوقهم. وقرئ «لا تطغوا» بدون «أن» على إرادة القول، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) أي ولا تنقصوا الموزون، فالطغيان في الوزن أخذ الزائد والإخسار إعطاء الناقص والقسط المتوسط بين الطرفين، وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) أي بسطها على الماء لمنافع الإنس والجن فِيها أي الأرض، فاكِهَةٌ أي أنواع كثيرة مما تطيب به النفس وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) ، وهي أوعية الثمر، وهي جمع «كم» بكسر الكاف، أو هي كل ما يغطى من ليف وسعف وكفرى، فإنه مما ينتفع به كالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه، وهي جمع «كم» بضم الكاف، وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) . قرأ ابن عامر بنصب الثلاثة بخلق مضمرا، أي وخلق الحبوب كالحنطة والأرز ذا الأوراق

[سورة الرحمن (55) : الآيات 21 إلى 30]

وخلق الريحان المعروف الذي بزره ينفع في الأدوية، أو المشمومات. وقرأ حمزة والكسائي برفع «الحب» و «ذو» عطفا على فاكهة وجر «الريحان» عطفا على العصف، أي وفيها الحب ذو الساق وذو الأوراق. وقرأ الباقون برفع الثلاثة عطفا على فاكهة، أي وفيها الحب ذو الأوراق الخارجة من جوانب الساق، كأوراق السنبلة من أعلاها إلى أسفلها وفيها مشمومات، أو ريحان معروف، ويجوز أن يراد عند رفع الريحان، ونصبه حذف المضاف وإقامة المضاف، إليه مقامه، والمعنى: وذو السنبلة والثمر أو وخلق ذا الرزق وهو الثمر. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) أي فبأي فرد من أفراد نعم ربكما أيها الجن والإنس تنكران أنها ليست من الله أبتلك النعم المذكورة هنا أم بغيرها، ويسن لسامع القارئ لهذه السورة أن يجيبه كلما قرأ هذه الآية وهي مكررة في أحد وثلاثين موضعا بأن يقول، ولا بشيء من نعمك، ربنا نكذب فلك الحمد، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقر الجن على ذلك الجواب. خَلَقَ الْإِنْسانَ أي آدم مِنْ صَلْصالٍ أي من طين منتن يابس له صوت، كَالْفَخَّارِ (14) أي كالخزف المشوي بالنار المجوف كالإناء في أن كل منهما يسمع له صوت إذا نقر ليعلم هل فيه عيب أو لا؟ وَخَلَقَ الْجَانَّ أي الجن نفسه مِنْ مارِجٍ أي من لهب صاف مِنْ نارٍ (15) لا دخان لها وهو بيان ل «مارج» ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) أيها الجن والإنس أبما أفاض عليكما في حالات شتى لخلقتكما حتى صيّركما خلاصة الكائنات أم بغيره؟ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) أي الذي فعل ما ذكر رب مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما. وقرأ ابن أبي عبلة «رب» بالجر بدلا، أو بيانا ل «ربكما» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) أي أبما في ذلك من الفوائد العظيمة التي لا تحصى، كاعتدال الهواء، واختلاف الفصول، وحدوث ما يناسب كل فصل فيه أم بغير ذلك، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسل الرحمن البحر الملح والبحر العذب، يَلْتَقِيانِ (19) أي يتماسان ولا يمتزجان، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله تعالى، لا يَبْغِيانِ (20) أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حده الله تعالى ولا يغير واحد منهما طعم صاحبه. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) فهلا اعتبرتم بأنواع الموجودات يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) ، فاللؤلؤ الدر، والمرجان الخرز الأحمر. وقيل: اللؤلؤ كبار الدر، والمرجان شغاره. قيل: إن اللؤلؤ يتولد في ملتقى الملح والعذب، ثم يدخل الصدف في المالح عند انعقاد الدر فيه فيثقل هناك فلا يمكنه الدخول في العذب. وقيل: هما يخرجان من الملح في الموضع الذي يقع فيه العذب: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحر، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها، وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) . وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين، أي وله تعالى السفن الرافعات الشراع في البحر كالجبال. والباقون بالفتح أي المرفوعات القلع. وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الشين. وقرأ يعقوب «الجواري» بإثبات الياء في الوقف. وقرأ عبد الله والحسن «الجوار»

[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 40]

برفع الراء ولا تثبت الياء في الرسم، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) أي أبتلك النعم من خلق مواد السفن وأسباب لا يقدر على خلقها غيره تعالى أم بغيرها. كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من الحيوانات والمركبات، فانٍ (26) أي هالك لا محالة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أيها السامع، أي ذاته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي العظمة التي لا يسعها عقل وَالْإِكْرامِ (27) ، أي الفضل التام فالجلال مرتب على فناء غير الله تعالى والإكرام مرتب على بقائه تعالى. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الظوا بيا ذا الجلال والإكرام» . أي الزموا في الدعاء ذلك. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام فقال: «قد استجيب لك» ، والعامة على «ذو» بالواو صفة لوجه. وقرأ أبي وعبد الله «ذي» بالياء صفة ل «رب» فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) أي أبتلك النعم من دفع البلاء، وإبقاء ما هو مخلوق إلى وقت فنائه أم بغيرها يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه في دينه فكل أحد عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه ويسأله كل أحد عن عاقبة أمره، وعما فيه صلاحه وفساده فكل أحد جاهل بما عند الله من المعلومات، فالوجه الأول إشارة إلى كمال القدرة. والوجه الثاني إشارة إلى كمال العلم كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) أي كل وقت من الأوقات هو تعالى في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء كما هو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويقال: يحتمل أن يكون هو عائدا إلى يوم و «كل يوم» ظرف ليسأله، أي يقع سؤالهم كل يوم هو في شأن يتعلق بهم فيطلبون ما يحتاجون إليه أو يستخرجون أمره بما يفعلون فيه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) مع مشاهدتكم لإحسانه تعالى، أبتلك النعم أم بغيرها، سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) ؟ أي سنقصد لحسابكم وجزائكم أيها الجن والإنس، أي سندبر لكم أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إليكم بعد تدبيرنا لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء. وقرأ حمزة والكسائي «سيفرغ» بالياء على الغيبة. وقرئ بالبناء للمفعول. وقرئ «سنفرغ إليكم» وترسم «أيه» بغير ألف. وقرأ أبو عمرو والكسائي بالألف في الوقف. والباقون بتسكين الهاء. وقرأ ابن عامر برفع الهاء في الوصل والباقون بالفتح، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) أبتلك النعم من التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب أم بغيرها. يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا أي يا جماعة الجن والإنس إن قدرتم أن تخرجوا من أطراف السموات والأرض، وأن تهربوا من قضائي وملكي، فاخرجوا منها، وخلّصوا أنفسكم من عقابي لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (33) أي ما تنفذون إلّا ومعكم سلطان الله، أي فلا مهرب لكم ولا مخرج عن ملك الله تعالى، وأينما توليتم فثمّ ملك الله وأينما أتاكم حكم الله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) أبتلك النعم من دفع البلاء وتأخير العذاب عن العصاة أم بغيرها، يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ أي لهب خالص لا دخان فيه مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ أي دخان لا لهب معه يسوقانكما إلى المحشر.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 41 إلى 50]

قرأ ابن كثير بكسر شين «شواظ» . وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد، وأبو عمرو بجر «نحاس» عطفا على «نار» ، ولا بد في هذه القراءة من كسر الشين أو إمالة «نار» ، وعلى هذا فالشواظ مركب من نار ومن دخان. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر. وقرئ «نحاس» بكسر النون. وقرئ «نرسل» بنون العظمة، ونصب «شواظا» و «نحاسا» . وقرئ نحس بضمتين جمع نحاس فَلا تَنْتَصِرانِ (35) أي فلا ينتصر أحدكما بالآخر ولا أنتما بغيركما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) أبتلك النعم من بيان عاقبة الكفر والمعاصي أم بغيرها، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) ، أي فإذا انصدعت السماء وخربت يوم القيامة فصارت حمراء كالأديم المغربي، وهو ما فيه حمرة مع السواد يكون الأمر عسيرا في غاية العسر، أو يلقى المرء فعله ويحاسب حسابه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) مع عظم شأنها، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) أي فالمذنب يوم إذ تنشق السماء وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويحشرون إلى الموقف ذودا ذودا على اختلاف مراتبهم لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني، لأنهم يعرفون بسيماهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) أبتلك النعم من الأخبار بما يزجر عن الشر أم بغيرها يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ أي بسواد وجوههم وزرقة أعينهم، فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) أي يجمع نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم فيطرحون في النار، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) أي تجحدون والوقف هنا تام، هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) . وهذه إشارة إلى قربها أي جهنم التي يكذب بها المشركون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) أي يترددون بين النار وماء حار قد انتهى حره، فيحرقون بها، فيستغيثون منها، فيسعى بهم إلى الحميم، ويظهر لهم شيء مانع هو صديدهم المغلي، فيظنونه ماء، فيسقون منه ويصب فوق رؤوسهم، فإذا استغاثوا منه يسعى بهم إلى النار وهكذا، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) مما أشرنا إليه من أول السورة، فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب. وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) أي ولمن خاف المقام الذي يقوم هو فيه بين يدي ربه، وهو مقام عبادته، والمقام الذي اطلع الله على عباده، فانتهى عن المعصية جنتان، جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي، لأن التكليف لهذين النوعين. وقيل: هي جنة جزاء وجنة أخرى زيادة على الجزاء فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) أبتلك النعم أم بغيرها ذَواتا أَفْنانٍ (48) أي صاحبتا أغصان، فإن الجنات ذوات أشجار، والأشجار ذوات أغصان، والأغصان ذوات أزهار، وأثمار وهي لتنزه الناظر وتنكير أفنان للتعجب، أي على الأفنان أوراق عجيبة، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ، فالجنة ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها تحتها، فَبِأَيِّ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 51 إلى 60]

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) أبتلك النعم من وصف الجنة أم بغيرها، فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) أي في كل واحدة منهما عين جارية كيف يشاء صاحبها في الأعالي والأسافل، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) أبتلك النعم التي ذكرها أم بغيرها؟ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) أي في كل واحدة من الجنتين نوعان من الفواكه معروف وغريب، أو رطب ويابس وكلاهما حلو يستلذ به فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) أي بتلك النعم أم بغيرها، مُتَّكِئِينَ حال من فاعل «خاف» الذي هو عامل للحال، أو كان عامله وصاحبه ما تدل عليه «فاكهة» ، أي يتفكه المتفكون حال كونهم جالسين جلوس المتمكن المتربع، عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها أي التي تلي الأرض مِنْ إِسْتَبْرَقٍ أي ديباج ثخين، وكذا ظهائرها بخلاف أهل الدنيا فلا يجعلون البطائن كالظواهر، لأن غرضهم إظهار الزينة، والبطائن لا تظهر. أما في الآخرة فالأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظواهر. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) أي ثمر الجنتين قريب يناله القاعد والقائم في وقت واحد ومكان واحد، فإن العجائب كلها من خواص الجنة، فكان أشجارها دائرة عليهم سائرة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في جنات الدنيا، فإن الإنسان فيها متحرك ومطلوبه ساكن، والولي قد تصير الدنيا له أنموذجا من الجنة، فإنه يكون ساكنا في بيته ويأتيه الرزق متحركا إليه دائرا حواليه، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) أبقدرته على ثني الأغصان وتقريب الثمار أم بغيرها فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي في الجنان نساء مانعات أعينهن من النظر إلى غير بعلهن، وللجنة اعتبارات ثلاثة، فلاتصال أشجارها وعدم الأراضي الغامرة كأنها جنة واحدة ولاشتمالها على النوعين ما في الدنيا، وما ليس فيها وما يعرف وما لا يعرف، وما يقدر على وصفه، وما لا يقدر، ولذات جسمانية، ولذات روحانية، كأنها جنتان ولسعتها، وكثرة أماكنها، وأشجارها وأنهارها، كأنها جنات كثيرة، فالضمير هنا عائد إلى الجنتين لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) ، أي لم يجامع الإنسيات أحد من الإنس ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، وإنما هن مخلوقات في الجنة، فإن أكثر نساء أهل الدنيا مطموثات فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) أي بأي نوع من أنواع هذا الإحسان تنكران كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) أي مشبهات بالياقوت في حمرة الوجنة وبالمرجان بمعنى صغار الدر في بياض البشرة وصفائها، فإن صغار الدر أنصع بياضا من كباره. قيل: إن الحوراء تلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) أي بما جعله مثالا لوصفهن أم بغيره، هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (60) ؟ أي ما جزاء الإحسان في العمل إلّا الإحسان في الثواب فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو إليه أيضا. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) أبشيء من هذه النعم الجليلة أم بغيرها وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) أي ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين جنتان أخريان لمن دونهم من أصحاب اليمين فَبِأَيِّ

[سورة الرحمن (55) : الآيات 71 إلى 78]

آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) ، أبشيء مما تفضل به عليكم من الجنات أم بغيره. مُدْهامَّتانِ (64) أي سودا، وإن من شدة الخضرة من الري، وهذه صفة لجنتان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) أبشيء من تلك النعم الجليلة أم بغيرهايهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) أي فوارتان أي ماؤهما متحرك إلى جهة فوق فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) أبتلك النعم أم بغيرها فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) وأفردهما بالذكر مع دخولهما في الفاكهة بيانا لفضلهما، فإن ثمرة النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء، فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة، كما قاله الشافعي وأكثر العلماء خلافا لأبي حنيفة، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) أبتلك النعم أم بغيرها؟ فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) أي في الجنتين نساء في باطنهن خير وفي ظاهرهن حسن. روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ قال: «خيّرات الأخلاق حسان الوجوه» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) أبنعمة الحور أم بغيرها، حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي محبوسات على أزواجهن فِي الْخِيامِ (72) ، أي في خيام الدر المجوف، وهي فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) أبهذه النعم أم بغيرها؟ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) أي لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) أبهذه النعم أم بغيرها؟ مُتَّكِئِينَ حال مما دل عليه «لم يطمثهن» إلخ فأزواجهم لم يطمثن حال كونهم متكئين عَلى رَفْرَفٍ أي رياض أو بسط، خُضْرٍ فالأخضر حصل فيه الألوان الثلاثة الأبيض والأسود والأحمر، فالأبيض: يفرق البصر والأسود: يجمع البصر كالأحمر، فلما اجتمع في الأخضر الأمور الثلاثة دفع بعضها أذى بعض ولما كان ميل النفس في الدنيا إلى الأخضر أكثر ذكره الله تعالى، وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فالثياب المعمولة عملا جيدا يسمونها عبقريات مبالغة في حسنها، كأنها ليست من عمل الإنس، لأن العبقري منسوب إلى عبقر وهو موضع من مواضع الجن، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) أبشيء من هذه النعم أم بغيرها؟ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) أي تعالى اسمه الجليل وارتفع عما لا يليق بشأنه. قرأ ابن عامر ذو الجلال بالواو. والباقون «ذي» بالياء صفة لرب. وهذا إشارة إلى أن أتم النعم عند الله تعالى وأكمل اللذات ذكر الله تعالى.

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية، سبع وتسعون آية، ثلاثمائة وثمان وتسعون كلمة، ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) أي إذا قامت القيامة يعترف بها كل أحد ويبطل عناد المعاندين ولا يتمكن أحد من من إن كارها والعامل في «إذا» «ليس لوقعتها كاذبة» فاللام بمعنى في، أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها، أو بمعنى عندي أي لا يكون عند وقوعها نفس تكذب في نفيها، وإنما سميت القيامة واقعة لشدة صوتها يسمع القريب والبعيد، خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) أي هي خافضة للكافرين في دركات النار والعذاب، ورافعة للمؤمنين في درجات الجنة والنعيم. وقرئ «خافضة رافعة» بالنصب على الحال من «الواقعة» ، إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) ، أي إذا زلزلت الأرض زلزالا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، و «إذا» متعلقة ب «خافضة» رافعة أو بدل من «إذا وقعت» . وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) أي فتتت الجبال فتا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) أي فصارت الجبال غبارا منتشرا، وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) أي وصرتم في ذلك اليوم أيها الخلائق ثلاثة أصناف، اثنان في الجنة وواحد في النار، ثم بينهم الله تعالى بقوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) أي فأهل الجنة الذين يعطون كتابهم بيمينهم، أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية حسن الحال في الكرامة والسرور وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) أي وأهل النار الذين يعطون كتابهم بشمالهم أيّ شيء هم في حالهم، فهم في غاية سوء الحال وهم في الهوان والعذاب، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أي والسابقون الذين لا حساب عليهم هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت محاسنهم، فهم يسبقون الخلق إلى الجنة من غير حساب، فالسابقون إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى، أُولئِكَ أي السابقون الْمُقَرَّبُونَ (11) إلى الله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) في أعلى عليين، فلهم قرب عند الله كما يكون الجلساء الملوك فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب ويتنعمون بالراحة، بخلاف قرب الملائكة الذين هم للأشغال، فهو قرب الخواص عند الملك، فهم ليسوا في نعيم وإن كانوا في لذة عظيمة، ولا يزالون خائفين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر

[سورة الواقعة (56) : الآيات 21 إلى 30]

ولا يرتفع عنهم التكليف، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) أي هم أي السابقون إلى الإيمان بالأنبياء عيانا، المجتمعون عليهم جماعة كثيرة من الأمم السالفة من لدن آدم إلى نبينا عليهم السلام وقليل من هذه الأمة، أي إن الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدقوهم من الأمم الماضية أكثر ممن عاين النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمن به، وهذا لا ينافي كون أمة محمد ثلثي أهل الجنة عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) أي موصولة بالذهب والفضة، منسوجة بالدر والياقوت ويقال: أرضها من الذهب الممدود وقوائمها من الجواهر النفيسة مُتَّكِئِينَ عَلَيْها أي السرر، مُتَقابِلِينَ (16) فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وهذا وصف لهم بحسن العشرة والآداب، وتهذيب الأخلاق. ويقال: السابقون هم الذين أجسامهم أرواح نورانية وجميع جهاتهم وجه، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي يدور حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) أي مبقون أبدا على شكل الولدان، لا يكبرون ولا يلتحون بِأَكْوابٍ، أي بكيزان وهي أوان مستديرة الأفواه بلا عري ولا خراطيم، وَأَبارِيقَ وهي: أوان لها عري وخراطيم وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) أي إناء خمر طاهرة تجري من عيون لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصيبهم صداع بسبب شربها، وَلا يُنْزِفُونَ (19) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي، أي لا ينفذ شرابهم. والباقون بفتحها أي «لا يكسرون» ، أي لا ينزف عقولهم وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) ، أي مما يختارونه ويأخذون أفضله، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) . وقرئ «ولحوم طير» . وعن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدهما: يا ولي، الله رعيت في مروج تحت العرش، وشربت من عيون التنسيم فكل مني، فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد، فإذا شبع تجمع عظام الطير فطار يرعى في الجنة حيث شاء» . فقال عمر: يا نبي الله، إنها لناعمة. قال: «آكلها أنعم منها» «1» . وَحُورٌ عِينٌ (22) أي نساء شديدات بياض أجسادهن وشديدات سواد العيون مع سعتها. وقرأ حمزة والكسائي بالجر عطف على «جنات النعيم» كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة، ولحم طير، ومصاحبة حور. والباقون بالرفع عطفا على «ولدان» فلأهل الجنة حور مقصورات معظمات، ولهن جوار وخوادم وحور تطوف مع الولدان السقاة. وقرئ «وحورا عينا» بالنصب، أي ويعطون حورا عينا، كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) أي المصون الذي لم تقع عليه الشمس

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 236) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 156) ، والقرطبي في التفسير (17: 204) ، وابن مبارك في الزهد 525، وابن كثير في التفسير (7: 498) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 498) وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (2: 188) .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 31 إلى 40]

والهواء. وهذا إشارة إلى غاية صفائهن جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) أي يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم لا يَسْمَعُونَ فِيها، أي الجنة لَغْواً أي شيئا لا ينفع، وَلا تَأْثِيماً (25) أي شيئا منسوبا إلى الإثم كالشتم، إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً (26) أي لكن يقولون ويسمعون قولا سلاما سلاما، أي يسلم بعضهم على بعض وتسلم الملائكة عليهم، ويرسل الرب السلام إليهم. وقرئ «سلام سلام» على الحكاية. وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ أي يتنعمون في شجر نبق مَخْضُودٍ (28) أي غير ذي شوك، وموقر من الحمل حتى لا يبين ساقه، والله تعالى جعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمرا على اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر- كما في الحديث- وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) أي وفي موز متراكب أوراقه وثمره لا يرى له ساق من كثرة ثمره الذي أحلى من العسل، وليس ثمر الجنة في غلاف كثمر الدنيا مثل الباقلا والجوز ونحوهما، بل كله مأكول ومشروب ومشموم منظور إليه. واعلم أن الأشجار يجمعها نوعان أوراق صغار، وأوراق كبار، فالسدر في غاية الصغر وشجر الموز في غاية الكبر، فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها، كما ذكر الله النخل والرمان عند ذكر الثمار، لأن بينهما غاية الخلاف فوقعت الإشارة إليهما جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى ثمارها، وكذلك النخيل والأعناب فإن النخل من أعظم الأشجار المثمرة، والكرم من أصغر الأشجار المثمرة وبينهما أشجار فوقعت الإشارة إليهما جامعة لسائر الأشجار، فإن البليغ يذكر طرفي أمرين يتضمن ذكرهما الإشارة إلى جميع ما بينهما، كما يقال: فلان ملك الشرق والغرب ويفهم منه أنه ملك ما بينهما، وكما يقال فلان أرضى الصغير والكبير، ويفهم منه أنه أرضى كل أحد. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) أي منبسط لا تزيله الشمس أبدا، كظل ما بين الفجر وطلوع الشمس، وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) أي مصبوب من ساق العرش سائل يجري على الأرض في غير أخدود، ومثل الله حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن، وحال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي إعلاما بالتفاوت بين الحالين وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) بحسب الأنواع والأجناس لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات، وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) عن متناوليها بوجه من الوجوه. وقرئ و «فاكهة» بالرفع أي وهناك فاكهة إلخ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) على الأسرّة كما قاله علي، أو نساء مرفوعات على الأرائك ومرفوعات بالفضل والجمال، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) . روى النحاس أن أم سلمة سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فقال: هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطا، عمشا، رمصا، جعلهن الله تعالى بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء. وعن المسيب بن شريك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن

[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 إلى 50]

وجدوهن أبكارا» . فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك قالت: وا وجعاه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس هناك وجع» . عُرُباً أي حسناء محسنة لكلامها متحببات إلى أزواجهن أَتْراباً (37) أي مستويات في السن على مقدار ثلاث وثلاثين سنة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) أي على سنهم. وفي هذا الإشارة إلى الاتفاق، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشباب يعيره، والجار والمجرور متعلق ب «أترابا» كقولك: هذا ترب لهذا أي مساو له في السن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) أي هم أي أصحاب اليمين كثيرون من أوائل الأمم قبل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن أواخر الأمم، وهي أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ، أي في ريح متعفن يتحرك من جانب إلى جانب، فإذا شم الإنسان منه يفسد قلبه العفوية ويقتل الإنسان وَحَمِيمٍ (42) أي ماء حار إشارة بالأدنى إلى الأعلى، فالهواء والماء أنفع الأشياء في الدنيا، فهواؤهم الذي يهب عليهم سموم وماؤهم الذي يستغيثون به حميم فما ظنك بنارهم التي هي عندنا أحر، وكيف حالهم مع أحر الأشياء؟ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) أي من دخان جهنم أسود، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) أي لا بارد يطلب الظل لبرده، ولا ذي كرامة قد أعد للجلوس فيه وحفظ عن القاذورات، إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ أي قبل سوء العذاب في الدنيا مُتْرَفِينَ (45) ، أي منعمين بأنواع النعم ولم يشكروها وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) أي كانوا في الدنيا يديمون على الذنب العظيم الذي هو الشرك، وَكانُوا يَقُولُونَ إذا كانوا في الدنيا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا أي صرنا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) . وهذه الآيات الثلاثة إشارة إلى الأصول الثلاثة فقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ يدل على ذمهم بإنكار الرسل وعلى تكبرهم بغناهم، وهم كانوا يقولون: أبشرا منا واحدا نتبعه. وقوله تعالى: يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ إشارة إلى الشرك ومخالفة التوحيد. وقوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً إلخ إشارة إلى إنكار الحشر. وقرأ قالون وابن عامر بسكون الواو. والباقون بفتحها أي أإنا أو آباؤنا مبعثون أي أتبعث آباؤنا الأولون الذي قد فنيت عظامهم. قُلْ يا أشرف الخلق لمنكري البعث: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) أي إنهم يساقون بعد البعث إلى عرصة الحساب، ويجمعون في وقت يوم معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن سبيل الله وهو التوحيد، الْمُكَذِّبُونَ (51) أي المنكرون الحشر لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) أي لآكلون شجرا هو الزقوم، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) أي كل واحد منكم يملأ بطنه من تلك الشجر، فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقب ذلك الأكل بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ (54) أي الماء الحار، فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) أي لا يكون شربكم منه شربا معتادا بل يكون مثل شرب الإبل العطاش. هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) أي ليس المذكور كل العذاب، بل هذا أول ما يلقونه من العذاب وهو جزء منه، وإذا كان هذا ما يعدّ لهم

[سورة الواقعة (56) : الآيات 61 إلى 70]

أول قدومهم فما ظنك بما لهم بعد استقرارهم في النار، نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) بالبعث أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) ؟ أي هل تشكون في أن الله خلقكم أولا أم لا؟ فإن لم تشكوا في ذلك فهلا تصدقون أيضا بخلقكم ثانيا، فإن من خلقكم أولا من لا شيء لا يعجز أن يخلقكم ثانيا من أجزاء معلومة عنده، فأخبروني أيّ شيء هو تصبون في أرحام النساء من المني إن كنتم تشكون وتقولون: الخلق لا يكون إلّا من مني وبعد الموت لا مني، أفهذا المني أنتم تخلقونه، أم الله فإن كنتم تعترفون بقدرة الله وإرادته وعلمه، فذلك يلزمكم القول بجواز البعث وصحته، نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي وقتنا موت كل أحد بوقت معين. وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال أي سوّينا بينكم بالموت فتموتون كلكم، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي لا يغلبنا أحد على أن نذهبكم، ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق، أي وما نحن عاجزون عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) أي إنا قادرون على أن نخلقكم في صور لا تعلمونها في جنسكم، ويقال: أن نجعل أرواحكم يوم القيامة فيما لا تصدقون وهي النار. وقال بعضهم: أنجعل أرواحكم في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الزرازير كما أخرجه ابن أبي حاتم. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي الخلق الأول في بطون الأمهات وهو من نطفة ثم من علقة، ثم من مضغة، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أي فهلا تتعظون بأن من قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الأخرى حتما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين في النشأة، وبألف بعدها فهمزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال في «تذكرون» . والباقون بالتشديد. وقرئ «تذكرون» من الثلاثي. وفي الخبر: «عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور» . أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أي أخبروني يا أهل مكة ما تبذرون من الحبوب أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) ، أي أأنتم تنبتونه! بل نحن المنبتون لا أنتم، لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي لجعلنا الزرع متكسرا يابسا بعد خضرته، وقبل ظهور الحب، أي إن قلتم: نحن نلقي البذر في الأرض وهو بنفسه يصير زرعا لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، قال تعالى: ولو سلم لكم هذا الباطل فما تقولون في سلامة الزرع عن الآفات فيفسد قبل اشتداد الحب فهل تدفعون الآفات عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفعها عن نفسه كما تقولون إنه بنفسه ينبت؟ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) أي فصرتم تعجبون من يبسه بعد خضرته. وقرئ «فظلتم» بكسر الظاء و «فظلتم» على الأصل بكسر اللام. وقرئ «تفكهون» أي تتندمون على ما أنفقتم عليه قائلين: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) أي إنا لمعذبون بالجوع بهلاك الزرع، أو إنا لمكرهون بالغرامة. وقرأ شعبة أإنا على الاستفهام بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أي ممنوعون منفعة زروعنا، أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي

[سورة الواقعة (56) : الآيات 71 إلى 80]

تَشْرَبُونَ (68) عذبا فراتا، أَأَنْتُمْ يا أهل مكة أَنْزَلْتُمُوهُ عليكم مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب الثقيل بالماء، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) أي بل نحن المنزلون عليكم لا أنتم لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أي ذلك الماء أُجاجاً، أي حارا أو مرا من شدة الملوحة، فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة التامة، فإن النعمة لا تتم إلا عند الأكل والشرب، وذلك لأن الإنسان إذا كان في البراري التي لا يوجد فيها الماء لا يأكل شيئا مخافة العطش. أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أي تقدحونها عن كل عود غير العناب وهو الشجر الأحمر، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي الشجرة التي تصلح لإيقاد النار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) أي بل نحن المنشئون لها بقدرتنا لا أنتم؟ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً لنار جهنم فيجب على العاقل إذا رأى النار الموقدة أن يخشى عذاب الله أو تذكرة لصحة البعث، لأن من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت، وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) أي منفعة للذين ينزلون القوى وهي القفر البعيدة من العمران، وهم الذين أوقدوا النار، لأنهم أحوج إلى النار في الليل لتهرب السباع ويهتدي الضال، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) ولا تقل لغير الله تعالى انه إله فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، أي إن الكفار اعترفوا بأن الأمور من الله، وإذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة في الاسم، ونسميها آلهة والله هو الذي خلقها، فنحن ننزهه تعالى في الحقيقة فقال تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فكما أنت أيها العاقل اعترفت بعدم اشتراك الله مع غيره في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكهما في الاسم. فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» مزيدة مؤكدة. وقيل: الأصل فلانا أقسم، فحذف المبتدأ، وأشبعت فتحة لام الابتداء، ويعضده قراءة من قرأ «فلأقسم» بلام التأكيد. وقيل: إن «لا» نافية، رد لكلام يخالف المقسم عليه، والتقدير: والله لا صحة لقول الكفار أقسم بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) أي بمواضعها في السماء في منازلها. وقرأ حمزة والكسائي «بموقع النجوم» بسكون الواو، أي بموضع سقوطها عند غروبها وَإِنَّهُ أي إن القسم بها لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) ، أي لو تعلمون عظمة القسم لعظمتم هذا القسم، لكنكم ما عظمتونا، لأنكم لا تعلمون ولا وقف هنا، لأن القسم وقع على ما بعده، إِنَّهُ أي إن الكلام الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) أي كثير النفع لاشتماله على إصلاح المعاش والمعاد، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي في كتاب محفوظ عن الباطل، وهو المصحف، الذي في أيدينا، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) أي لا يمس ذلك الكتاب إلّا المطهرون من الأحداث، أي يحرم عليهم مسّه بدون الطهارة. وهذه الجملة صفة ثانية ل «كتاب» ، فالخبر بمعنى النهي ويؤيد هذا قراءة عبد الله بن مسعود «ما يمسه» ب «ما» النافية. وروى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم، وهو من أهل الظاهر لا يمس القرآن إلّا طاهر.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 إلى 90]

وقال ابن عمر. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تمس القرآن إلّا وأنت طاهر» «1» تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) صفة ثالثة ل «قرآن» أي منزل من الله تعالى، وفي ذلك رد على قول من قال: إن القرآن شعر، أو سحر، أو كهانة، وفي هذا رد على الذين يقولون: إن القرآن في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون- وهم الملائكة- ورد على الروافض الذي يقولون: إن جبريل أنزل على علي فنزل على محمد. فقال تعالى: هو من الله ليس باختيار الملك. وقرئ «تنزيلا» بالنصب حال من قرآن، أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) أي أفبهذا القرآن أنتم يا أهل مكة متهاونون به. ويقال: أفبهذا الكلام الذي تتحدثون به أنتم تلينونه لأصحابكم من شأن محمد والبعث، والحساب، والجنة، والنار تعلمونهم خلافه، وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) أي تجعلون معاشكم تكذيب محمد، لأنكم تخافون إن صدقتموه ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر أن يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم أنكم تكذبون الرسل. وقرئ «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» ، أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به، فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) أي فلم لا تكذبون الرسل إذا بلغت الروح الحلقوم، والحال أنكم وقت النزع تشاهدون الأمور وتعلمونها. وهذا إشارة إلى أن كل أحد يؤمن عند الموت لكن لم يقبل إيمان من لم يؤمن قبله، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) أي ونحن أقرب إلى الميت من أهله الحاضرين عنده بعلمنا وقدرتنا، ولكن لا تدركون ذلك لجهلكم بشئوننا، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) ، أي فلم لا تردون الروح إلى الجسد عند بلوغها الحلقوم إن كنتم غير مجزيين وغير محاسبين إن كنتم صادقين في اعتقادكم أي إنكم إذا كنتم لستم تحت قدرة أحد فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا مع أن ذلك مشتهى أنفسكم ومنى قلوبكم كما كنتم في الدنيا التي ليست دار جزاء، فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ أي فأما إن كان المجزى من المقربين السابقين فله راحة. وقرأ بعضهم بضم الراء، أي فله حياة دائمة، أو رحمة، لأنها كالحياة للمرحوم وَرَيْحانٌ، أي رزق عظيم أو زهرة فقد قيل: إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلّا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه، وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) أي بستان ذات تنعم ليس فيها غيره، وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي إن مكانة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين فكأن الله تعالى

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (3: 485) ، والطبراني في المعجم الكبير (3: 230) ، والدارقطني في السنن (1: 123) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (1: 276) ، والزيلعي في نصب الراية (1: 198) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (2829) ، والألباني في إرواء الغليل (1: 159) .

قال: هؤلاء الذين هم أهل الجنة وإن كانوا دون الأولين، لكن لا تنقطع بينك يا أشرف الخلق وبينهم المكالمة والتسليم، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك، والغائب إلى أهله وولده، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك، وإن كنت أعلى مرتبة منهم وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) ، أي وأما إن كان المجزى من المنكرين للبعث الضالين عن سبيل الله، فله ضيافة من ماء حار يشربه بعد أكل الزقوم وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) أي وإدخال في النار واحتراق بها، إِنَّ هذا أي ما ذكر في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) أي نهاية اليقين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) لم بين الله تعالى الحق وامتنع الكفار قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: هذا هو حق فإن امتنعوا، فسبح ربك في نفسك وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك.

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية أو مكية، تسع وعشرون آية، خمسمائة وأربع وأربعون كلمة، ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أبعد الخلق ذات الله تعالى من أن يكون محلا للإمكان وصفاته من أن تكون متغيرة، وأفعاله من أن تكون موقوفة على مادة ومثال، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) أي وهو القادر الغالب الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب. لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له التصرف فيهما وفيما فيهما من الموجودات يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) أي هو قادر على خلق الحياة والموت، ومنفرد بإيجادهما لا يمنعه تعالى عنهما مانع، ولا يرده عنهما راد. هُوَ الْأَوَّلُ أي ليس قبله شيء، وَالْآخِرُ أي ليس بعده شيء فهو الباقي بعد فناء سائر الموجودات، وَالظَّاهِرُ بحسب الدلائل، وَالْباطِنُ أي المحتجب عن الأبصار. وعن الحواس وعن إدراك حقيقة ذاته في الدنيا والآخرة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) لا يعزب عن علمه شيء من المظاهر، والخفي، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا تعلما للعباد في التأني للأمور ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، أي تصرف في ملكة تصرفا تاما يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المياه والكنوز والأموات، وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والمياه والمعادن والأموات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والملائكة والمصائب والحر والبرد، وَما يَعْرُجُ فِيها من الحفظة والأعمال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم، فهو كونه تعالى عالما بظواهرنا وبواطننا لا بالمكان والجهة. قال المحققون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله. وقال المتوسطون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله معه. وقال الظاهريون: ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله بعده. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) فيجازيكم به لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) أي جميع الأمور في الآخرة حيث لا مالك سواه. وقرأ الأخوان وابن عامر بفتح التاء وكسر الجيم يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، فيزيد النهار وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، فيزيد الليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) أي بمكنونات القلوب من

نياتهم. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا خطاب مع من عرف الله، فالمقصود من هذا الأمر معرفة صفات الله، أما معرفة وجود الصانع فحاصلة للكل، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي من الأموال التي في أيديكم التي جعلكم الله بمنزلة الوكلاء فيها، تحفظونها لمن يأتون بعدكم فلا ينبغي لكم البخل بها، فالصواب أن تصرفوها في الوجوه التي تنفعكم في المعاد، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا أموالهم في طاعة الله لَهُمْ بسبب ذلك، أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره، وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أيّ أي شيء يحصل لكم غير مؤمنين بالله، والحال أن الرسول يدعوكم للإيمان به، والحال أن الله قد نصب الدلائل الموجبة لقبول دعوة الرسول في العقول فقد تطابقت دلائل النقل والعقل، وسميت الدلائل المستلزمة وجوب القبول ميثاقا، لأنها أوكد من الحلف إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) ، أي إن كنتم تؤمنون بشيء لأجل دليل، فما لكم لا تؤمنون الآن فإنه قد تطابقت الدلائل النقلية والعقلية، وبلغت مبلغا لا يمكن الزيادة عليها. وقرأ أبو عمرو «أخذ ميثاقكم» بالبناء للمفعول، وبرفع ميثاقكم، أي مكن عقولكم من النظر في الأدلة، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد عليه الصلاة والسلام آياتٍ بَيِّناتٍ وهي القرآن، لِيُخْرِجَكُمْ أي الله أو العبد بتلك الآيات، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر إلى الإيمان، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) حيث يهديكم إلى سعادة الدارين بإرسال الرسول وتنزيل الآيات بعد نصب الأدلة العقلية، وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وأيّ شيء يحصل لكم يا معشر المؤمنين في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة، والحال أنه لا يبقى لكم شيء منها، بل يبقى كله لله تعالى، فإنكم ستموتون فتورثون، أي وذلك لأن المال لا بد من خروجه عن اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في طاعة الله، فإن خرج عن اليد بغير الإنفاق في طاعة الله استعقبه اللعن والعقاب، وإن خرج عنها بالإنفاق في مرضاة الله استعقبه المدح والثواب، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أي لا يستوي منكم يا معشر المؤمنين عند الله في الفضل من أنفق من قبل فتح مكة، وقاتل أعداء الله، ومن أنفق وقاتل من بعد فتح مكة وقوة الإسلام. وقرئ «قبل الفتح» بغير «من» ، أُولئِكَ أي المنعوتون بذينك النعتين الجميلين أَعْظَمُ دَرَجَةً، وأرفع منزلة عند الله مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا. وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فإنه من آمن وأنفق في سبيل الله وخاصم الكفار حتى ضرب ضربا شديدا، أشرف به على الهلاك. قال عمر: كنت قاعدا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام فقال: ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة خللها في صدره بخلال؟ فقال: «أنفق ماله علي قبل الفتح» قال: فإن الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أبو بكر أأسخط على ربي! إني عن ربي راض. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ

[سورة الحديد (57) : الآيات 11 إلى 20]

الْحُسْنى أي وكل واحد من الفريقين وعد الله المثوبة الحسنى- وهي الجنة- مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر «وكل» بالرفع على الابتداء، أي وكل وعده الله الحسنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) فيوصل الثواب إليكم بحسب استحقاقكم له مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي من ذا لذي ينفق ماله في طاعته تعالى بالصدق من قلبه رجاء أن يعوضه. وقال بعض العلماء: لا يكون القرض حسنا حتى يجمع أوصافا عشرة: الأول: أن يكون القرض من الحلال. والثاني: أن يكون من أكرم ما تملكه دون أن تنفق الرديء. والثالث: أن تصدق بما تملكه وأنت تحتاج إليه بأن ترجو الحياة. والرابع: أن تصرف صدقتك إلى الأحوج. والخامس: أن تكتم الصدقة ما أمكنك. والسادس: أن لا تتبعها منا ولا أذى. والسابع: أن تقصد بها وجه الله ولا ترائي. والثامن: أن تستحقر ما تعطي وإن كثر. والتاسع: أن يكون المعطى من أحب أموالك إليك. والعاشر: أن لا ترى عز نفسك وذل الفقير بل ترى نفسك تحت دين الفقير، وترى الفقير كأن الله تعالى أحال عليك رزقه الذي قبله منك. يُضاعَفُ لَهُمْ أي فيعطيه الله أجره أضعافا. وقرأ عاصم بالألف والنصب، ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والرفع، وابن كثير بالتشديد في العين والرفع، وابن عامر بالنصب. فالرفع على العطف على «يقرض» أو على الاستئناف على تقدير مبتدأ، أي فهو يضاعفه، والنصب على جواب الاستفهام بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) أي وللقرض ثواب حسن في نفسه، حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، وإن لم يضعّف فكيف وقد ضعّف أضعافا كثيرة إلى أكثر من سبعمائة نزلت هذه الآية في أبي دحداح، يَوْمَ ظرف لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو للاستقرار العالم في وله أجر، أي استقر له أجر يوم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ، وهذا النور هو ما يكون سببا للنجاة وإنما قال تعالى: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم وراء ظهورهم، فإذا مروا على الصراط يسعى معهم نور الإيمان والأعمال المقبولة أمامهم، ونور الإنفاق في جهة أيمانهم، لأن الإنفاق يكون بالإيمان ومراتب الأنوار مختلفة على قدر الأعمال، فمنهم من يضيء له نوره كما بين عدن وصنعاء ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء له نوره إلّا موضع قدميه وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهاميه ينطفئ مرة ويتقد أخرى، وهذا القول منقول عن ابن مسعود وقتادة وغيرهما. وقرأ

سهل بن شعيب وأبو حيوة وبأيمانهم بكسر الهمزة أي وبسبب أيمانهم حصل سعي ذلك النور، بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي تقول لهم الملائكة على الصراط: بشارتكم العظيمة في هذا الوقت دخولكم جنات، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهو حال من ضمير المخاطب المقدر، ذلِكَ أي ما تقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلّدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) الذي لا غاية وراءه. وقرئ «ذلك الفوز العظيم» بإسقاط كلمة هو. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا لما رأوهم يسرع بهم إلى الجنة و «يوم» بدل من «يوم ترى» ، أو أن العامل فيه «ذلك هو الفوز العظيم» . انْظُرُونا أي انظروا إلينا أي، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، والنور أمامهم فيستضيئون. به وقرأ حمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وكسر الظاء أي انتظرونا لنلحق بكم، نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء بنوركم. قِيلَ أي قال لهم المؤمنون قول تنديم وتوبيخ: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور فاطلبوا نورا هناك. وقيل: ارجعوا إلى دار الدنيا، فالتمسوا هذه الأنوار هنالك. وقال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين ارْجِعُوا إلخ منع المنافقين عن الاستضاءة لا أمر لهم بالرجوع أي تنحّوا عنا، فلا سبيل لكم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، فيرجعون في طلب النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بني بين الفريقين بِسُورٍ الباء زائدة، أي حائط بين الجنة والنار كما قاله قتادة أو حجاب، كما في سورة الأعراف، كما قاله مجاهد. وقال: من قال: ارجعوا إلى دار الدنيا. والمراد من ضرب السور هو امتناع العود إلى الدنيا، لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي لذلك السور باب في باطن ذلك السور الجنة التي فيها المؤمنون، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) أي وخارج السور من جهته النار، فالمؤمنون يدخلون الجنة من باب ذلك السور، والكافرون يبقون في العذاب، يُنادُونَهُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا على الغزوات والعبادات؟ قالُوا بَلى، أي يقول المؤمنون: بلى، قد كنتم معنا في الظاهر، وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بكفر السر، واستعملتموها في المعاصي والشهوات، وَتَرَبَّصْتُمْ أي أخرتم أنفسكم عن التوبة من النفاق، وانتظرتم موت رسول الله وحوادث السوء على المؤمنين، وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوة محمد، وفي البعث، وفي وعيد الله، وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وهي ما كانوا يتمنون من نزول الحوادث بالمؤمنين، ومن انتكاس أمر الإسلام حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي حتى جاءكم وعد الله بالموت على غير التوبة من النفاق، أي حتى أماتكم الله وألقاكم في النار وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) ، بفتح الغين، أي الشيطان لإلقائه إليكم أن لا خوف عليكم من محاسبة ومجازاة. وقرأ سماك بن حرب بضم الغين، والمعنى: وغركم عن طاعة الله سلامتكم من أباطيل الدنيا مع الاغترار بأمتعة الدنيا فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فاليوم لا يقبل منكم يا معشر المنافقين فداء ولا من الذين أظهروا الكفر. وقرأ ابن عامر «تؤخذ» بالتأنيث.

مَأْواكُمُ النَّارُ أي منزلكم النار، هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي موضعكم الذي تصلون إليه وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) ، أي بئس المرجع هذه النار. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟ قرأ نافع وحفص والمفضل عن عاصم بتخفيف الزاي، والمعنى: ألم يجيء وقت أن تخشع قلوب المؤمنين لذكرهم الله، ولما نزل من القرآن، وينقادوا لأوامره ونواهيه انقيادا تاما. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم بتشديد الزاي، أي ولما نزّله الله من القرآن. وعن أبي عمرو «نزل» مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن البصري «ألم يئن» بكسر الهمزة وسكون النون. وقرأ الحسن «ألما يأن» ، وعن الأعمش قال: إن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، أي هذا إما معطوف على «تخشع» ، ف «لا» نافية، أي وألم يأن وقت أن لا يكونوا كاليهود والنصارى من قبل ما نزل إليكم، والمراد نهي المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب، بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، وإما جزم «بلا» الناهية، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم. وقيل: أي طالت أعمارهم في الغفلة. وقيل: طال عليهم الزمان بطول الأمل. وقال ابن عباس: أي مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله. وروي عن ابن كثير الأمد بتشديد الدال، أي الوقت الأطول فزالت عنهم الروعة التي كانت تأتيهم من الكتابين. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ للمواعظ بسبب الطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) ، أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين من أجل فرط قسوتهم. وهذا إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي أن الله يلين القلوب بالخشوع- الناشئ عن الذكر وتلاوة القرآن- بعد قساوتها كما يحيي الله الأرض بالغيث بعد يبوستها، كذلك يحيي الله الموتى من القبور بالمطر، وقَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على قدرتنا على إحياء الموتى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) أي لكي تكمل عقولكم فتصدقوا بالبعث بعد الموت، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ. وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر بتخفيف الصاد من التصديق، أي إن الذين آمنوا من الرجال والنساء وتصدقوا صدقة واجبة، أو تطوعا عن طيبة النفس وخلوص النية على المستحق للصدقة يضاعف لهم إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بتشديد الصاد من التصدق. وقرأ أبي «إن المتصدقين والمتصدقات» ، والمعنى: إن الذين أعطوا الصدقة من الرجال والنساء وعملوا الصالحات إلخ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة وهو تقديم الحسنات. وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف لهم» بتشديد العين، والجار والمجرور نائب الفاعل. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) أي

ثواب حسن في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وهم الذين آمنوا بالرسل حين أتوهم، ولم يكذبوهم ساعة قط مثل آل ياسين، ومؤمن آل فرعون، وأما في أمة محمد فهم ثمانية سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام، أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب. ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نيته- كما قاله الضحاك ومقاتل- ويقال: الصدّيق هو الذي يحمل الأمر على الأشق، ولا ينزل إلى الرخص، ولا يميل إلى التأويلات، وَالشُّهَداءُ وهذا إما معطوف على ما قبله ويجوز الوقف هنا، وهم عدول الآخرة الذين تقبل شهادتهم. وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم. وقال مقاتل ومحمد بن جرير: هم الذين استشهدوا في سبيل الله. وقال الفراء والزجاج هم الأنبياء. ف «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» مبتدأ ثالث، و «الصديقون» خبر «هم» ، وهو مع خبره خبر للثاني، وهو مع خبره خبر للأول، أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء بعلو الرتبة ورفعة المحل. وإما مبتدأ وخبره إما عِنْدَ رَبِّهِمْ وإما لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وعلى هذا فالوقف على الصدّيقون تام. والأظهر أن جملة لهم أجرهم من مبتدأ وخبر محلها رفع على أنه خبر ثان للموصول والضمير الأول للموصول والأخيران للصدّيقين والشهداء. وهذه الجملة بيان لثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال، أي للذين آمنوا مثل أجر الصدّيقين والشهداء ونورهم، المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، فالمماثلة بين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف، وبين ما للآخرين من الأصل بدون الأضعاف، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد، ولما ذكر الله تعالى حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة، أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) بحيث لا يفارقونها أبدا، ولما ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين والكافرين ذكر ما يدل على حقارة الدنيا، وكمال حال الآخرة اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جدا ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة، وَلَهْوٌ وهو فعل الشبان، فبعد انقضائه لا يبقى إلا التحزن، لأن العاقل يرى المال ذاهبا والعمر ذاهبا، وَزِينَةٌ وهو دأب النسوان، لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح وتكميل الناقص، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض بالنسب، أو بالقوة، أو بالقدرة، أو بالعساكر وكلها ذاهبة، وَتَكاثُرٌ أي مبالغة في الكثرة فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ. فالحياة الدنيا غير مذمومة وإنما المذموم من صرف هذه الحياة إلى طاعة الشيطان، ومتابعة الهوى لا إلى طاعة الله تعالى، والمعنى: اعلموا أن شغل البال بالحياة الدنيا دائر بين هذه الأمور الخمسة، كَمَثَلِ غَيْثٍ أي صفة الدنيا في إعجابها كصفة مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أي أعجب الزراع النبات الحاصل بالمطر وسمي الزارع كافرا، لأنه يغطي

[سورة الحديد (57) : الآيات 21 إلى 29]

البذر بتراب الأرض، ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف النبات فَتَراهُ مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا، وقرئ «مصفارا» ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي ثم يصير النبات متكسرا، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لمن كانت حياته بهذه الصفة وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ لأوليائه، وأهل طاعته والرضوان أعظم درجات الثواب، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20) لمن أقبل عليها وأعرض بها عن طلب الآخرة. قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سارعوا إلى سائر ما كلفتم به، فإن المسارعة إلى ذلك تؤدي إلى مغفرة وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي لو جعلت السموات السبع والأرضون السبع وألزق بعضها ببعض، لكان عرض الجنة في عرض جميعها، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت الجنة للمؤمنين من جميع الأمم، ذلِكَ الموعود به من المغفرة والجنة، فَضْلُ اللَّهِ أي عطاؤه، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) . وهذا تنبيه على عظم حال الجنة ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ هي قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وغلاء الأثمار، وتتابع الجوع وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ وهي الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود على الأنفس، إِلَّا فِي كِتابٍ أي مكتوب في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي أن نخلق هذه المصائب والأنفس والأرض، إِنَّ ذلِكَ أي إن إثبات كل ذلك مع كثرته في الكتاب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) ، وإن كان عسيرا على العباد لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا حزنا زائدا على ما في أصل الجبلة على ما فاتكم من نعم الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي بما أعطاكم الله تعالى منها، فإن من علم أن الكل مقدر لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت. وقرأ أبو عمرو «أتاكم» بقصر الهمزة، أي بما جاءكم من الله. وقرئ «بما أوتيتم» ، والمراد: نفي الحزن المانع عن التسليم لأمر الله تعالى، ونفي الفرح الموجب للبطر والاختيال، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأداء حق الله تعالى وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ. وذلك نتيجة فرحهم عند إصابة النعم والموصول صفة لكل مختال فخور. وقيل: مستأنف لا تعلق بما قبله وهو مبتدأ خبره محذوف، وهو بيان لصفة اليهود، والمعنى. الذين يبخلون ببيان صفة النبي التي في كتبهم لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، ويأمرون الناس بالبخل به لهم تهديد شديد، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه فلا يعود عليه ضرر ببخل البخيل، حميد في ذلك الإعطاء مستحق حيث فتح أبواب نعمته. وقرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغني» بحذف لفظ هو. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ أي الدلائل القاهرة والمعجزات الظاهرة، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي أنزلنا إليهم الكتاب وهو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية، لأن به يتميز الحق من

الباطل، والحجة من الشبهة، وَالْمِيزانَ هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية، وهو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا فيما بينهم بالعدل، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي. والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إشارة إلى القوة العملية والحديد إشارة إلى دفع ما لا ينبغي. وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي لأمتعتهم مثل السكاكين، والفاس، والمبرد وغير ذلك، وما من صنعة إلا والحديد آلتها، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي وليعلم الله من ينصر دينه ورسله باستعمال السيوف، والرماح، وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، حال كونه تعالى غائبا عنهم، أي ينصرونه تعالى ولا يبصرونه، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على الأمور قادر على إهلاك جميع أعدائه، عَزِيزٌ (25) أي لا يمانع ولا يفتقر إلى نصرة أحد بل وإنما ليصلوا بامتثال الأمر في الجهاد إلى الثواب، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فما جاء بعدهما أحد بالنبوة، إلّا وكان من أولادهما، وكانت الكتب الأربعة في ذرية إبراهيم، وهو من ذرية نوح، فإنه الأب الثاني لجميع البشر، فَمِنْهُمْ أي الذرية مُهْتَدٍ إلى الحق وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ، أي خارجون عن الطريق المستقيم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ، أي نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام، وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أي جعلناه متأخرا عنهم في الزمان وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ أي أعطيناه الإنجيل. وقرأ الحسن بفتح همزة «أنجيل» تنبيها على كونه أعجميا، وأنه لا يلزم فيه مراعاة أبنية العرب وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على دينه رَأْفَةً أي لينا وَرَحْمَةً، أي شفقة أي وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. وقرئ «رآفة» على وزن فعالة، وَرَهْبانِيَّةً. وقرئ بضم الراء ابْتَدَعُوها، أي أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها أي وفقناهم لاستحداث الرهبانية لينجوا من فتنة بولس اليهودي. وروى ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا ابن مسعود، أما علمت أن بني إسرئيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلّا ثلاث فرق: فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي» «1» . ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي لم نفرض الرهبانية عليهم. وهذه الجملة صفة ثانية لرهبانية، إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي فما حفظوا الرهبانية حق حفظها، لأنهم أتوها

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (10: 212) ، وابن كثير في التفسير (8: 55) وفيه: «يا ابن مسعود، هل علمت ... اثنين وسبعين» .

لطلب الدنيا والرياء والسمعة فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد مِنْهُمْ أي الرهبان أَجْرَهُمْ وهم الذين لم يخالفوا دين عيسى ابن مريم، وهم أربعة وعشرون رجلا في أهل اليمن، جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به، ودخلوا في دينه أي لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق من الرهبان إلا قليل، انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته، وصاحب دير من ديره، فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم وصدقوه، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ي من الرهبان فاسِقُونَ (27) أي تاركون تلك الطريقة ظاهرا وباطنا، وهم الذين خالفوا دين عيسى، فقال الله تعالى في حق قوم عيسى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعيسى وبالرسل المتقدمة، اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ، أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم أولا: بعيسى عليه السلام، وثانيا: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق، وإن كان منسوخا ببركة الإسلام وَيَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ على الصراط وبين الناس وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) أي مبالغ في المغفرة والرحمة، لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، لأنه قادر مختار يفعل بحسب الاختيار، و «لا» زائدة كما يدل عليه قراءة «ليعلم» و «لكي يعلم» ، و «لأن يعلم» . وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ عطف على أَلَّا يَقْدِرُونَ، والمعنى: إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل في تصرف الله تعالى يعطيه من يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا. والمقصود من هذه الآية أن يزيل الله عن قلوب بني إسرائيل اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم، وغير حاصلة إلّا في قومهم وقيل: إن لفظة «لا» غير زائدة والضمير في قوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ عائد إلى الرسول وأصحابه: وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ ألخ عطف على «أن لا يعلم» . والمعنى: أنا فعلنا ذلك لئلا يعتقد أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله الذي هو سعادة الدارين، وليعتقدوا أن الفضل في ملكه تعالى على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك، كناية عن علمهم بقدرتهم عليه، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه فقد علموا أنهم يقدرون عليه، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) فإن العظيم لا بد وأن يكون إحسانه عظيما.

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية، ثنتان وعشرون آية، أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، ألف وسبعمائة، واثنان وسبعون حرفا، هذه السورة أول النصف الثاني من القرآن باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وأول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها. آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي قد أجاب الله دعاء المرأة التي تخاصمك أيها النبي في شأن زوجها وتلك المجادلة أنه صلّى الله عليه وسلّم كلما قال لها: «حرمت عليه» قالت: والله ما ذكر طلاقا بأن أنزل الله حكم الظهار على ما يوافق مطلوبها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ بأن قالت رافعة رأسها إلى السماء: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقالت: إن لي صبية صغارا، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أي مراجعتكما في الكلام، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه. روي عن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن الدخشم الأنصارية كانت تحت أوس بن الصامت الأنصاري، رآها زوجها وهي ساجدة في الصلاة، وكانت حسنة الجسم، فنظر إلى عجيزتها، فأعجبه أمرها، فلما سلمت من الصلاة طلب وقاعها، فأبت، فغضب عليها، وكان به لمم، أي توقان إلى النساء. وقيل: مس من الجن، فأراد أن يأتيها على حال لا تؤتى عليها النساء، فأبت عليه، فغضب وقال: إن خرجت من البيت قبل أن أفعل بك، فأنت علي كظهر أمي، ثم ندم على ما قال. وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما كبر سني وكثر ولدي، جعلني كأمه وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا! فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» . فقالت: أشكوا إلى الله فاقتي ووجدي، وكلما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» هتفت وشكت إلى الله، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك فرجي، فبينما هي كذلك إذ تربّد وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى

زوجها وقال: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال الشيطان: فهل من رخصة؟ فقال: «نعم» . وقرأ عليه الأربع آيات وقال له: «هل تستطيع العتق؟» فقال: لا، والله. فقال: «هل تستطيع الصوم؟» فقال: لا والله، لولا أني آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري ولظننت أني أموت. فقال له: «هل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» «1» فقال: لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعا، وأخرج أوس من عنده مثله، فتصدق به على ستين مسكينا، الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أي الذين يحرمون نساءهم على أنفسهم، كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم ليست نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة، فهو كذب بحت. قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، ويعقوب «يظهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظاهرون» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ أبو العالية وعاصم وحسين يظاهرون بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء وفي قراءة أبيّ «يتظاهرون» . وقرأ عاصم في رواية المفضل «أمهاتهم» بالرفع. وقرئ «بأمهاتهم» . وجملة «ما هن أمهاتهم» خبر المبتدأ الذي هو الموصول إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم في الحرمة إلا اللائي ولدنهم، فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الشرع بهن من المرضعات، وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَإِنَّهُمْ أي المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ عند الشرع وعند العقل والطبع، وَزُوراً أي كذبا، والظهار حرام اتفاقا، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) إما من غير التوبة لمن شاء، أو بعد التوبة إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر، وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إما بالسكوت عن الطلاق بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قال الشافعي- وإما باستباحة الوطء والملامسة، والنظر إليها بالشهوة- كما قاله أبو حنيفة وإما بالعزم على جماعها- كما قاله مالك- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فالواجب إعتاق رقبة مؤمنة فلا تجزئ كافرة عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئ أي رقبة كانت سواء كانت مؤمنة أو كافرة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي أن يستمتع كل من المظاهر المظاهر منها بشيء من جهات الاستمتاعات، فلا يباشر المظاهر امرأته، ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفر، فإن وطئها قبل أن يكفر استغفر الله وأمسك عنها حتى

_ (1) رواه الترمذي في السنن 72، والبيهقي في السنن الكبرى (4: 227) ، والشافعي في المسند 105، ومالك في الموطّأ 297، والطبراني في المعجم الكبير (7: 47) ، وعبد الرزاق في المصنّف (7459) ، وابن عبد البر في التمهيد (7: 161) ، والبغوي في شرح السنة (6: 282) ، والطبراني في التفسير (28: 34) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 180) .

يكفر كفارة واحدة، ذلِكُمْ أي التغليظ في الكفارة تُوعَظُونَ بِهِ أي تزجرون به عن إتيان ذلك المنكر كي تتركوه ولا تعاودوه، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) أي من التكفير وتركه، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي رقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بجميع ضروب المسيس من لمس بيد وغيرها، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين مدمن طعام بلده الذي يقتات منه حنطة، أو شعير، أو أرزا، أو تمرا بمد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعتبر مد حدث بعده. وقال أبو حنيفة: لكل مسكين نصف صاع من بر، أو دقيق، أو سويق، أو صاع واحد من تمر، أو شعير، ولا يجزئه دون ذلك. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ذلك البيان للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق، وَتِلْكَ أي هذه الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز مجاوزتها، وَلِلْكافِرِينَ أي لمن جحد هذه الأحكام وكذب بها، عَذابٌ أَلِيمٌ (4) ، فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط عنه، بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، ولا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، وأجبره على التكفير، وإن كان الإجبار بالضرب ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأن ترك التكفير إضرارا بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقها إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أي يعاودونهما، وذلك بالمحاربة مع أولياء الله، أو بالصد عن دين الله وتكذيبه، كُبِتُوا أي أذلوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أي كما أخزى كفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم الصلاة والسلام، وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات في شأن من خالف الله ورسوله ممن قبلهم من الأمم من إهلاكهم، وَلِلْكافِرِينَ بتلك الآيات عَذابٌ مُهِينٌ (5) أي يذهب بعزهم وكبرهم. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أي مجتمعين في حال واحدة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تخجيلا لهم وتشهيرا لحالهم الذي يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، أَحْصاهُ اللَّهُ أي أحاط الله بجميع أحوال تلك الأعمال من الكمية والكيفية، والزمان والمكان. وَنَسُوهُ أي والحال أنهم قد نسوا أعمالهم، لأنهم تهاونوا بها حيث فعلوها، ولم يبالوا بها لجراءتهم على المعاصي، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) لا يغيب عنه أمر من الأمور قط، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؟ أي ألم تعلم علما يقينيا أنه تعالى يعلم ما فيهما من الموجود سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهم! ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ أي ما يوجد من متناجين ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا متناجين خمسة إلا الله سادسهم، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا أي من الأماكن ولو كانوا تحت الأرض. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية، كانوا يوما

يتحدثون فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثاني: يعلم البعض دون البعض. وقال الثالث: إن كان يعلم البعض فيعلم الكل. وفي مصحف عبد الله: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم، إذا أخذوا في التناجي» ، أي فالله تعالى عالم بكلامهم وضميرهم، وسرهم وعلنهم، فكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم. قرأ ابن عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار «يتناجون» . وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع إما معطوف على محل «نجوى» ، أو هو مبتدأ لعطفه على مبتدأ وهو أدنى، وجملة «إلا هو معهم» خبره. وقرئ «ولا أكبر» بالباء المنقوطة من تحت. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يحاسب على ذلك ويجازى على قدر الاستحقاق. وقرأ بعضهم «ينبئهم» بسكون النون. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) . وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات، أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ أي بما هو إثم في نفسه كالكذب، وَالْعُدْوانِ للمؤمنين وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي مخالفته نزلت في اليهود، كانوا ينتاجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يحزنهم، فلما أكثروا وذلك شكا المؤمنون ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ حمزة وحده «ينتجون» ، أي ويخص اليهود المنافقين بمناجاتهم. وقرئ «والعدوان» بكسر العين. وقرئ «ومعصيات الرسول» ، وَإِذا جاؤُكَ يا أشرف الخلق حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي أنهم كانوا يجيئون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويقولون في تحيتهم إياك: السام عليك يا محمد وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك فيرد النبي عليهم: وعليكم. والسام بلغتهم: الموت والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41] ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي ويقولون: فيما بينهم إذا خرجوا من عند رسول الله أن محمدا لو كان رسولا، فلم لا يعذبنا الله بما نقول لنبيه على هذا الاستخفاف. وقيل: إنهم قالوا: إن محمدا يرد علينا ويقول: وعليكم السام، فلو كان نبيا كما يزعم لكان دعاؤه علينا مستجابا ولمتنا، وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب يعلمون أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يغضبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب فأنزل الله فيهم، حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها أي يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) جهنم أي إن تقديم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة والمصلحة فإذا لم تقتض المشيئة والمصلحة تقديم العذاب في الدنيا، فعذاب جهنم يوم القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وهو ما يقبح، وَالْعُدْوانِ وهو ما يؤدي إلى ظلم الغير،

[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 إلى 20]

وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وهو ما يكون خلافا عليه. وقرئ «فلا تنتجوا» وفلا تناجوا بحذف إحدى التاءين، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وهو الذي يضاد العدوان، وَالتَّقْوى وهو ما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) ، أي اتقوا الله في أن تتناجوا دون المؤمنين الذي تجمعون بقهر إليه تعالى يوم القيامة، أي إلى مكان المحاسبة والمجازاة إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أي إنما النجوى السابقة- وهي نجوى المنافقين- مع اليهود ممتدة من الشيطان، أي إن الشيطان يأمرهم بأن يقدموا عل تلك النجوى التي هي سبب لحزن المؤمنين، وذلك لأن المؤمنين إذا رأوهم متناجين قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا، وهزموا، يقع ذلك في قلوبهم ويحزنون له. وقرأ نافع «ليحزن» بضم الياء وكسر الزاي، فحينئذ ففاعله ضمير يعود على «الشيطان» ، أي ليحزن الشيطان المؤمنين بتوهمهم أن النجوى في نكبة أصابتهم، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وليس مناجاة المنافقين بضارة المؤمنين شيئا من الضرر إلا بمشيئة الله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) ، فإن من توكل عليه لا يخيب أمله ولا يبطل سعيه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا أي إذا قيل لكم: ليتوسع بعضكم عن بعض فتوسعوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في كل ما تريدون التوسع فيه من المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة. وهذه الآية تدل على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة. والمراد: من هذا التوسيع إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند «تفاسحوا» . وقرأ عاصم «في المجالس» بصيغة الجمع، لأن لكل جالس موضع جلوس على حدة. والباقون «في المجلس» بالتوحيد على أن المراد به الجنس. وقرئ «في المجالس» يفتح اللام. قيل: نزلت هذه الآية في نفر من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي جالسا في صفة صفية يوم الجمعة، فلم يجدوا مكانا يجلسون فيه، فقاموا على رأس المجلس. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن لم يكن من أهل بدر: «يا فلان قم، ويا فلان قم مكانك ليجلس فيه من كان من أهل بدر» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية لمن أقامه من المجلس، فأنزل الله فيهم هذه الآية يوم الجمعة. وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للوقر الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب منه صلّى الله عليه وسلّم، ثم ضايقه بعضهم، وجرى بينه وبينهم كلام وذكر للرسول محبة القرب منه، ليسمع منه وأن فلانا لم يفسح له، فأمر القوم بأن يوسعوا، ولا يقوم أحد لأحد، فنزلت هذه الآية.

مسألة: إذا أمر إنسان أن يبكر الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، أما إذا أرسل سجادة لتفرش له في المسجد حتى يحضر هو، فيجلس عليها فذلك حرام لما فيه من تحجير المسجد بلا فائدة وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي وإذا قيل: ارتفعوا عن مواضعكم حتى توسعوا لإخوانكم فارتفعوا وقوموا إلى الموضع الذي تؤمرون به. وقرئ «انشزوا» بكسر الشين وبضمها، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي يرفع الله المؤمنين منكم أيها المأمورون بالتفسح والعالمين منه خاصة درجات بامتثال أوامره تعالى، وأوامر رسوله والموصول الثاني معطوف على الموصول الأول إما من عطف الخاص على العام، أو من عطف الصفات و «درجات» مفعول ثان كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات. وقال ابن عباس: تم الكلام عند قوله تعالى: مِنْكُمْ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر، أي ويخص الذين أوتوا العلم بدرجات أو يرفعهم إلى درجات. قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية، والمعنى أن الله تعالى يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذ فعلوا بما أمروا به. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) وهذا تهديد لمن لم يمتثل الأمر. وقرئ «يعملون» بالياء التحتية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي إذا أردتم مناجاة الرسول في بعض شؤونكم المهمة الداعية إلى مناجاته صلّى الله عليه وسلّم فتصدقوا قبل النجاة، وفائدة هذا التقديم تعظيم مناجاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه وإن وجده بالسهولة استحقره، ونفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة على المناجاة، وتمييز محب الآخرة عن محب الدنيا بتلك الصدقة، فإن المال محك الدواعي. وقال أبو مسلم: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات وإن قوما من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيا عمن بقي على نفاقه الأصلي، وهذا التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة فلا يكون هذا منسوخا. وقيل: نزلت هذه الآية في أهل الميسرة فإن منهم من كانوا يكثرون المناجاة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون الفقراء حتى تأذى بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم والفقراء، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالصدقة قبل أن يتناجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدرهم على الفقراء بكل كلمة ذلِكَ أي التصدق خَيْرٌ لَكُمْ في دينكم من الإمساك وَأَطْهَرُ لذنوبكم ولقلوبكم من حب المال، لأن الصدقة طهرة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما تتصدقون به يا أهل الفقر، فتكلموا مع رسول الله بما شئتم بغير التصدق، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أي فطن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوا عنه، أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم تقديم الصدقات لما يخوفكم الشيطان به من الفقر وبخلتم يا أهل الميسرة، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به من إعطاء الصدقات وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن أرخص

لكم في أن لا تفعلوه فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات، أي إذا كنتم راجعين إلى الله تعالى وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأطعتم الله ورسوله في سائر الأوامر، فقد كفاكم هذا التكليف، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) ظاهرا وباطنا، فهو محيط بأعمالكم ونياتكم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر يا أشرف الخلق إلى المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي ليس المنافقون منكم أيها المسلمون في السر، ولا من اليهود في العلانية، لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ أي ويقولون: والله إنا لمسلمون، أو إنا لا يشتمون الله ورسوله ولا يكيدون المسلمين. يروى أن عبد الله بن نبتل المنافق كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرته إذ قال: يدخل عليكم اليوم رجل ينظر بعيني شيطان، فدخل رجل عيناه زرقاوان، وهو عبد الله بن نبتل، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم تسبني أنت وأصحابك؟» فحلف بالله ما فعل، فانطلق وجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فأنزل الله هذه الآية قيل: نزلت في شأن عبد الله بن أبي وأصحابه بولايتهم مع اليهود، وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أنهم كاذبون في حلفهم فيمينهم يمين غموس لا عذر لهم فيها أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي للمنافقين بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً أي متفاقما لا طاقة لهم به في القبر، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) في نفاقهم فيما مضى من الزمان المتطاول، فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي حلفهم الكاذبة جُنَّةً أي سترة عن دمائهم وأموالهم. وقرأ الحسن «إيمانهم» بكسر الهمزة أي اتخذوا إظهار إيمانهم لأهل الإسلام وقاية عن ظهور نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وسترة عن أن يقتلهم المسلمون، فلما أمنوا من القتل اشتغلوا بصد الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات في القلوب وتقبيح حال الإسلام وذلك قوله تعالى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي صرفوا الناس في السر عن دين الله فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) ، أي يهانون به في الآخرة لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لن تدفع عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا من الدفع، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ أي ملاقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) أي لا يخرجون منها أبدا. روي أن واحدا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزلت هذه الآية. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً قيل: هو ظرف لقوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي بين يدي الله ما كنا كافرين ولا منافقين، كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة، أو دفع مضرة، كما كانوا عليه في الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) ، عند الله في حلفهم أي أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنه يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، فكأن هذا الحلف الذميم يبقى معهم أبدا، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على أمور المنافقين الشيطان، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ فلا

[سورة المجادلة (58) : الآيات 21 إلى 22]

يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم، أُولئِكَ أي المنافقون حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنده، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) ، أي المغبونون بذهاب الدنيا والآخرة إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) ، أي إن الذين يخالفون الله ورسوله في الدين أولئك في جملة الكفار الخلص أو مع الأسفلين في النار وهم المنافقون. كَتَبَ اللَّهُ أي أثبت الله في اللوح المحفوظ وقال: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي محمد عليه الصلاة والسلام بالحجة والسيف على فارس والروم واليهود والمنافقين، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر أنبيائه، عَزِيزٌ (21) بنقمة أعدائه لا يغلب عليه في مراده. قال مقاتل: إن المسلمين قالوا: إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم. قال عبد الله بن أبي سلول لهم: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم، فيكون لكم فتح فارس والروم كلا والله أنهم أكثر جمعا وعدة!؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة رجل من أهل اليمن الذي كتب كتابا إلى أهل مكة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنه أخبر أهل مكة بمسير النبي إليهم لما أراد فتح مكة وكان هو بدريا. قال الله تعالى: لا تَجِدُ يا أشرف الخلق قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يناصحون من خالف الله ورسوله في الدين بإرادة الخير لهم دينا ودنيا مع كفرهم، ولا منع فيما عدا ذلك، لأن الأمة أجمعت على جواز مخالفتهم ومعاملتهم. والمعنى: لا يجتمع الإيمان مع وداد أعداء الله، فإن من أحب أحدا امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، وَلَوْ كانُوا أي من خالف الله ورسوله آباءَهُمْ أي آباء المتحابين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي جماعتهم من قوم شتى. قال سعيد: نزلت هذه الآية في شأن أبي عبيدة حين قتل أباه يوم بدر. وعن عمر بن الخطاب قال: لو كان أبو عبيد حيا لاستخلفته. أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟ وروي أنه صك أباه أبا قحافة صكة أسقطت أسنانه حين سمعه يسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومصعب بن عمير قتل أخاه أبا عزيز عبيد بن عمير يوم أحد، ومحمد بن مسلمة الأنصاري قتل أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير وعليا وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم، عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة وقد أخبر الله تعالى: إن هؤلاء لم يوادوا أقاربهم وعشائرهم غضبا لله تعالى ولدينه، أُولئِكَ أي الذين لا يوادون الكفار كَتَبَ أي أثبت

الله فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وشرح الله صدورهم بالإلطاف. وروي المفضل عن عاصم كتب على البناء للمفعول فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي قواهم بنور القلب من عند الله تعالى. وقيل: بنصر من الله على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحا، لأن بها يحيا أمرهم كما قاله ابن عباس والحسن، وقال السدي. الضمير في قوله: مِنْهُ عائد إلى الإيمان. والمعنى: أعانهم بروح من الإيمان وسمى روحا لحياة القلوب به وَيُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ونعمة الرضوان هي أعظم النعم وأجل المراتب، أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) ، أي الفائزون بسعادة الدارين الناجون من العذاب والسخط.

سورة الحشر

سورة الحشر وتسمى سورة النضير، مدنية، أربع وعشرون آية، سبعمائة وخمس وأربعون كلمة، ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) نزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ في بني النضير، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدرا وظهر على المشركين قالوا: هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر، فلما غزا أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونكثوا العهد فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكة وحالفوا أبا سفيان وأصحابه أربعين رجلا عند الكعبة على قتاله صلّى الله عليه وسلّم، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة الأنصاري بقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة، ثم صبحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكتائب، وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم: «اخرجوا من المدينة» . فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب ، فبعث إليهم خفية عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وقالوا: لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم، ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فحصنوا الأزقة، فحاصرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم، وللنبي ما بقي، فجعلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة فذلك قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ هم بنو النضير من اليهود مِنْ دِيارِهِمْ أي مساكنهم بالمدينة لِأَوَّلِ الْحَشْرِ أي عند أول إخراج الجمع من مكان إلى مكان وهم أول من أخرجوا من جزيرة العرب إلى الشام لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام، ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا من ديارهم بهذا الذل لعزتهم وقوتهم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي من عذاب الله، أي كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها

تمنعهم من رسول الله و «حصونهم» إما مبتدأ و «مانعتهم» خبر مقدم، والجملة خبر «أن» وإما فاعل لمانعتهم وهي خبر «أن» . فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا أي فأتى أمر الله اليهود باذلا لهم من حيث لم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة. وقرئ «فآتاهم الله» بمد الهمزة، أي فأعطاهم الله الهلاك. وقيل: الضمير للمؤمنين، أي فآتاهم نصر الله من حيث لم يرجوا وهو إخراج بني النضير من قرية يقال لها: زهرة إلى الشام وكان بين زهرة والمدينة ميلان وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي أثبت في قلوبهم الخوف من محمد وأصحابه، وكانوا قبل ذلك لا يخافون يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي يهدمون بعض بيوتهم بأيديهم من داخل الحصون ليسدوا بالخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، ولينقلوا معهم بعض آلاتها مما يقبل النقل ويهدم المؤمنون بعض بيوت بني النضير من خارج توسيعا لمجال القتال، ونكاية لهم، ومنعا لتحصنهم بها. وقرأ أبو عمرو وحده «يخرجون» بفتح الخاء وتشديد الراء، وقال: الأخراب ترك الموضع خرابا، والتخريب الهدم، وبنو النضير خربوا وما أخربوا. يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) أي فاتعظوا بحالهم ولا تعتمدوا على شيء غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على حصونهم، وعلى قوتهم وعلى المنافقين فليس للزاهد أن يعتمد على زهده فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام، وليس للعالم أن يعتمد علمه. انظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار فلا ينبغي لأحد أن يعتمد إلا على فضل الله ورحمته، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي ولولا أن قضى الله على بني النضير الخروج عن أوطانهم على الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل بإخوانهم بني قريظة من اليهود، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) وهذا استئناف غير متعلق بجواب لولا أي ولهم على كل حال سواء أجلوا أم لا عذاب النار في الآخرة، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي ذلك المذكور من العذابين بسبب أنهم خالفوا الله ورسوله في الدين، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) أي ومن يخالف الله يعاقبه الله في الدنيا والآخرة، فإن الله شديد العقاب. وقرئ «ومن يشاقق الله» كما في الأنفال. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وقد تحصنوا بحصونهم أمر أصحابه بقطع نخيلهم وإحراقها. قال بنو النضير: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها، فكان في أنفس المؤمنين شيء من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه، فأنزل الله تعالى قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أي أيّ شيء قطعتم أيها المسلمون من نخلة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها كما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذاك القطع والترك بإباحة الله تعالى ليعز المؤمنين، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) أي إنما جوز الله ذلك القطع ليسر المؤمنين ويزداد غيظ الكفار اليهود ويتضاعف تلهفهم بسبب نفاذ حكم أعدائهم

في أعز أموالهم. وقرئ «قوما» على أصلها. وقرئ أيضا «قائما» على أصوله ذهابا إلى لفظ ما، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ أي ما رده الله لرسوله من يهود بني النضير، فهو لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة دونكم فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، أي لأنكم ما أجريتهم إلى تحصيل ذلك خيلا ولا ركابا وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من أعدائهم، وقد سلط الله النبي صلّى الله عليه وسلّم على هؤلاء اليهود من غير أن تقاسوا أيها المسلمون شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) فيفعل ما يشاء، نزلت هذه الآية في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، وإنما كانوا في زهرة على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشيا ولم يركب إلا رسول الله، وكان راكب جمل فلما كانت المقاتلة قليلة أجراه الله تعالى مجرى ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا، فخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتلك الأموال، ثم روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قسّمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة، وأعطى سعيد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق. ومعنى الآية: أن الصحابة طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم فذكر الله الفرق بينهما، وهو أن الغنيمة ما اتبعتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم الخيل والركاب والفيء ما ليس في تحصيله تعب، فكان الأمر فيه مفوضا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضعه حيث يشاء، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى كقريظة والنضير، وفدك وخيبر، وعرينة، وينبع والصفراء، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. قيل: يصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة والمساجد، ويصرف سهم رسول الله وفاته وهو أربعة أسهم إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار، وبناء القناطر يقدم الأهم فالأهم أو إلى المجاهدين المرصدين للقتال في الثغور، لأنهم قائمون مقام رسول الله في رباط الثغور، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي جعل الله الفيء لمن ذكر لأجل أن لا يكون الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء. وقرأ هشام «تكون» بالتأنيث على خلاف عنه «دولة» بالرفع، أي كيلا يقع دور في يد الأغنياء. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بفتح الدال فقيل: الضم والفتح بمعنى. وقيل: «الدولة» بالفتح من الملك بضم الميم، و «الدولة» بضم من الملك بكسر الميم، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا فإنه واجب الطاعة، لأنه لا ينطق عن الهوى، وهذا يوجب أن كل ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر من الله تعالى، وإن كانت الآية خاصة في الفيء، فجميع أوامره صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه داخلة فيها وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) فيعاقب من يخالف أمره ونهيه لِلْفُقَراءِ بدل من لذي القربى، و «ما» عطف عليه كأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء، الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث إن كفار مكة أحوجوهم إلى

[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 20]

الخروج منها وكانوا مائة رجل، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي فخرجوا منها طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بأنفسهم وأموالهم، فإن خروجهم من بين الكفار مهاجرين إلى المدينة نصرة، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) في دينهم، لأنهم هجروا لذات الدنيا وتحملوا شدائدها لأجل الدين. وعن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وأقسم لكم من الغنائم وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم وأقسم الغنيمة بين الفقراء المهاجرين خاصة دونكم» «1» . فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ولا نشاركهم في الغنيمة فأثنى الله عليهم فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي والذين هيئوا لدار الهجرة والإيمان وتمكنوا فيهما أشد تمكن من قبل مجيء المهاجرين إليهم، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لمحبتهم الإيمان، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي في قلوبهم حاجَةً أي حزازة وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرين من الفيء وغيره دونهم، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، أي ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش، ولو كان فيهم فقر وحاجة إلى ما يقدمون به غيرهم، حتى إن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم. روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته نوّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك فنزلت هذه الآية. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ أي ومن يوق بتوفيق الله تعالى حرص نفسه على المال حتى يخالفها في حب المال وبغض الإنفاق، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) أي الظافرون بما أرادوا. قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه. وقرئ «يوق» بالتشديد، وشح بكسر الشين وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هجرة المهاجرين ومن بعد قوة إيمان الأنصار، يَقُولُونَ أي يدعون لهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَلِإِخْوانِنَا في الدين الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وهو جميع من تقدمهم من المسلمين لا خصوص المهاجرين والأنصار، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا. وقرئ «غمرا» . لِلَّذِينَ آمَنُوا أيا كانوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) فينبغي للمؤمن أن يذكر السابقين بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا وهم عبد الله بن أبيّ، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد فإنهم كانوا من الأنصار، ولكنهم نافقوا في دينهم يَقُولُونَ

_ (1) رواه القرطبي في التفسير وفيه: «إن شئتم قسمت للمهاجرين» .

في السر لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ- وهم اليهود من بني قريظة والنضير، فهم مشتركون في الكفر وفي عداوة محمد صلّى الله عليه وسلّم- لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من المدينة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم أَبَداً، أي وإن طال الزمان. وقيل: لا نعين عليكم أحدا من أهل المدينة، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ من أي مقاتل كان لَنَنْصُرَنَّكُمْ على عدوكم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) في تلك المقالات الثلاثة المؤكدة بالأيمان الفاجرة، لَئِنْ أُخْرِجُوا أي اليهود من المدينة لا يَخْرُجُونَ أي المنافقون مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وكان الأمر كذلك، وفي هذا دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن حيث أخبر عما سيقع فوقع الأمر كما أخبر، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) ، أي ولئن خرج المنافقون لقصد نصر اليهود لينهز من المنافقون، ثم يهلكهم الله ولا ينفعهم نصرة المنافقين لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي أن خوف المنافقين واليهود في السر من المؤمنين أشد من خوفهم من الله الذي يظهرونه للمؤمنين، وكانوا يظهرون لهم خوفا شديدا من الله، والمعنى: أنهم لا يقدرون على مقابلتكم، لأنكم أشد مرهوبية في صدورهم، وهم يظهرون خوفهم من الله، ذلِكَ أي كون خوفهم من المخلوق أشد من خوفهم من الخالق، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) أي بسبب أنهم قوم لا يعلمون عظمة الله فيخشوه حق خشيته، لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، أي لا يقدر اليهود والمنافقون على مقاتلتكم مجتمعين في موطن إلا إذا كانوا في قرى محصنة بالخنادق والدروب، أو إلا إذا كان بينكم وبينهم حائط، وذلك بسبب أن الله ألقى في قلوبهم الرعب وأن نصرة الله معكم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «جدار» بكسر الجيم وفتح الدال بالإمالة في جدار كما هو قراءة أبي عمرو وبالصلة في بينهم بحيث يتولد منها واو كما هو قراءة ابن كثير والباقون «جدر» بضم الجيم والدال، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي قتالهم فيما بينهم شديد إذا قاتلوا قومهم تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تحسبهم في صورتهم مجتمعين على المحبة، متفقين على أمر واحد. والحال أن قلوبهم مختلفة، لأن كل أحد منهم على مذهب آخر وبينهم عداوة وشديدة، ذلِكَ أي تشتت قلوبهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) أن تشتيت قلوبهم مما يوهن قواهم إذ لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا في العقائد والمقاصد، كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي صفة بني قريظة في نقض العهد كصفة الذين من قبلهم بسنتين، وهم بنو النضير ذاقوا عقوبة أمرهم من نقض العهد، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ، أي ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال وخذلانهم كمثل الأبيض مع برصيصا العابد، فالأبيض هو صاحب الأنبياء والأولياء، وهو الذي تصدّى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاءه في صورة جبريل ليوسوس إليه

على وجه الوحي، فدفعه جبريل إلى أقصى أرض الهند، إِذْ قالَ أي الشيطان الذي يقال له: الأبيض لِلْإِنْسانِ- أي العابد الذي يقال له برصيصا- اكْفُرْ بالله فَلَمَّا كَفَرَ بالله خذله وقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، أي ليس بيني وبينك محبة أصلا. وقرئ «أنا بريء منك» . روى عطاء وغيره عن ابن عباس قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة، لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل، فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال الأبيض لإبليس أنا أكفيك أمره، فانطلق فتزيا بزي الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا، فناداه، فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرة، ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة، فأقبل الأبيض يصلي في أصل صومعة برصيصا فلم يلتفت إليه برصيصا، أربعين يوما، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض في العبادة قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك، فأذن له، فارتفع إليه في صومعته، فأقام حولا يتعبد، فلا يفطر إلا في كل أربعين يوما مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك، فلما حال الحول، قال الأبيض لبرصيصا: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون. قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة وإني أخاف أن يشغلني الناس عن عبادة ربي، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه الدعوات، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل، فانطلق الأبيض، فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب فقال لأهله: إن لصاحبكم جنونا أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه، انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه، فسألوه الدعاء، فدعا له، فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا، فيدعو لهم، فيعافون، ثم تعرض الأبيض لبنت ملك من ملوك بني إسرائيل وكان لها ثلاثة أخوة، وكان ملك بني إسرائيل عمهم حينئذ، ثم جاء الأبيض إليهم في صورة رجل مطبب فقال: أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تتركونها عنده إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتأخذونها منه صحيحة قالوا: ومن هو؟ قال: هو برصيصا فانطلقوا إليه، فسألوه ذلك، فأبى، فبنوا صومعة ألصقوها بصومعة برصيصا ووضعوا تلك البنت في صومعتها وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك، ثم انصرفوا، فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين تلك البنت وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه، فجاءها الشيطان، فخنقها، فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاءه الشيطان وقال: ويحك، واقعها، فلم تجد مثلها، وستتوب بعد ذلك، فلم يزل الشيطان به حتى واقعها، فلم يزل على ذلك حتى حملت البنت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا فهل لك أن تقتلها وتتوب، فقتلها، فدفنها ليلا جانب

الجبل، فجاء الشيطان وقتئذ، فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجا من التراب، ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها الذين يتعهدونها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا، ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا، فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك، إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وأنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال في نفسه: هذا حلم من عمل الشيطان، فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث، ففعل الشيطان بأوسطهم مثل ذلك فقال مثل قول أكبرهم، ولم يخبر بذلك الحلم أحدا، ففعل بأصغرهم مثل ذلك فقال: لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثل ذلك! وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله، فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا: والله لا نتهمك، واستحيوا منه، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم، إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب، فانطلقوا، فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم، فذهبوا إلى برصيصا ومعهم غلمانهم بالفوس والمساحي، فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها، وكتفوه، ثم أتوا به إلى الملك فأقر على نفسه، فأمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصا أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، فاستجيب لك، فلم يزل الأبيض يعيره قال برصيصا له: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه من العذاب، وأخرجك من مكانك. قال: وما هي؟ قال تسجد لي. قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك، قد صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني بريء منك. إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «إني» بفتح الياء. فَكانَ عاقِبَتَهُما أي الشيطان والراهب أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها و «عاقبتهما» بالنصب خبر «كان» مقدم. وقرئ شاذا بالرفع. وقرأ ابن مسعود «خالدان فيها» على أنه خبر «أن» و «في النار» لغو. وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) أي المشركين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون، وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ برة أو فاجرة ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ، أي ما تريد أن تحصله ليوم القيامة فتفعله، وَاتَّقُوا اللَّهَ بأداء الواجبات وترك المعاصي، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) من الخير والشر، فلا تعملون عملا إلا كان بمرأى منه تعالى، ومسمع، فاستحيوا منه تعالى، وَلا تَكُونُوا يا معشر المؤمنين كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حق الله كالمنافقين واليهود، فإن المنافقين تركوا طاعة الله في السر، واليهود تركوا طاعة الله في السر والعلانية، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أي فجعلهم الله ناسين حق أنفسهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ما ينفعهم عنده تعالى، أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) أي الكاملون في الفسوق، أي الخروج عن دائرة الطاعة، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا الله تعالى وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ

[سورة الحشر (59) : الآيات 21 إلى 24]

الذين اتقوا الله تعالى، لا في الدنيا ولا في الآخرة بوجه من الوجوه- واحتج بهذه الآية أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي- أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) بكل مطلوب، الناجون عن كل مكروه. لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي لو جعلنا في الجبل على قساوته عقلا كما جعلنا العقل فيكم، ثم أنزلنا عليه هذا القرآن المنطوي على فنون القوارع لخشع وتشقق خشية من الله وخوفا أن لا يؤدي حقه في تعظيم القرآن وأنتم أيها المعترفون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي نبينها لهم في القرآن لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) ، أي لكي يتأملوا مواعظ القرآن فإنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبال مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه ولرأيتها ذليلة متشققة من خشية الله. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي عالم ما غاب عن العباد، وما شاهدوه. وقال ابن عباس: عالم السر والعلانية. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا. وقيل: عالم ما غاب عن الوجود وهو المعدوم وعالم الموجود، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) أي هو العاطف على العباد، البر والفاجر بالرزق لهم، المنعم- على المؤمنين خاصة- بالمغفرة ودخول الجنة. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا معبود بحق إلا هو وحده، الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر في جميع خلقه، الْقُدُّوسُ أي البليغ في النزاهة في الذات، والصفات، والأفعال، والأحكام، والأسماء. قال الحسن: أي الذي كثرت بركاته. السَّلامُ أي الذي لا يطرأ عليه شيء من العيوب في الزمان المستقبل، الْمُؤْمِنُ أي واهب الأمن، الْمُهَيْمِنُ أي الحافظ لكل شيء، الْعَزِيزُ أي الذي لا يوجد له نظير، أو الغالب الْجَبَّارُ أي الملك العظيم- كما قاله ابن عباس- أو مصلح أحوال العباد، أو الذي يقهرهم على ما أراد، الْمُتَكَبِّرُ بربوبيته- كما قاله ابن عباس- أو المتعظم عن كل سوء- كما قاله قتادة- أو الذي تعظم عن ظلم العباد سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) ، أي تنزيها له تعالى عما يشركون به. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدر لما يوجده، فيرجع إلى تعلق الإرادة التنجيزي القديم، الْبارِئُ أي المبرز للأعيان من العدم إلى الوجود، فيرجع لتأثير القدرة الحادث في خصوص الأعيان، الْمُصَوِّرُ أي مصور الأشياء على هيئات مختلفة مما يريد تعالى، فالتصوير آخر، والتقدير أولا، والبرء بينهما. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن بفتح الواو وبالنصب مفعول ل «البارئ» . لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي له تعالى الأسماء الدالة على معاني الصفات الحسنة، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ينطق ما فيهما بتنزهه تعالى عن جميع النقائص تنزها ظاهرا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجامع للكمالات كافة، فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة وتسمى سورة براءة والمبعثرة، والفاضحة، مدنية، ثلاث عشرة آية، ثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة، ألف وخمسمائة وعشرة أحرف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي في الدين وَعَدُوَّكُمْ في القتل، وهم كفار مكة أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي توصلون المودة بينكم وبينهم. روي أن حاطب بن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة كتابا: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم، ثم أرسله مع سار مولاة أبي عمرو بن صيفي، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها ذلك الكتاب إلى أهل مكة، فخرجت سائرة، فأطلع الله رسوله على ذلك، فبعث عليا، وعمارا، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تألوا روضة خاخ- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا- فإن فيها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها، واتركوها، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة، وسألوا عن ذلك فأنكرت وحلفت ما معها كتاب، فسل على سيفه وقال: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخرجته من عقاص شعرها، فخلوا سبيلها، فجاءوا بالكتاب إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فاستحضر رسول صلّى الله عليه وسلّم حاطبا وقال له: «هل تعرف هذا الكتاب؟» قال: نعم، قال «ما حملك على هذا؟» «1» قال: إن لي بمكة أهلا ومالا، فأردت أن أتقرب منهم، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بأسه عليهم وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، وأن الله ناصرك عليهم، فصدقه، وقبل عذره فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر» فقال لهم: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2»

_ (1) رواه النسائي في السنن (8: 240) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (4: 79) ، وعبد الرزاق في المصنف (17932) ، وابن حجر في المطالب العالية (2206) ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق (5: 387) ، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان (1: 107) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6: 186) ، ومسلم في فضائل الصحابة 162، والسيوطي في الدر المنثور (6: 203) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتّقين (7: 136) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (20193) .

ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم فنزلت هذه الآية. وروي أن سارة عاشت إلى خلافة عمر وأسلمت وحسن إسلامها، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي وحالهم أنهم كفروا بما جاءكم من الدين الحق. وقرئ «لما جاءكم» أي كفروا لأجل ما جاءكم من الرسول والقرآن، أي جعلوا ما هو سبب الإيمان سببا للكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة إلى المدينة، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ وهذا تعليل للإخراج أن يخرجوكم لإيمانكم بالله إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ من مكة إلى المدينة جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي وهذا مرتبط بلا تتخذوا، أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، أي بالنصيحة. وهذه الجملة بدل من «تلقون إليهم» بدل بعض لأن إلقاء المحبة يكون سرا وجهرا وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي والحال إني أعلم منكم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم، فأي فائدة لكم في إسرار النصيحة وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) أي ومن يفعل إسرار النصيحة للكفار فقد أخطأ طريق الصواب، هذا كله معاتبة لحاطب، وهذا يدل على فضله وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب كما قال القائل من الوافر: إذا ذهب العتاد فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي إن يغلب عليكم أهل مكة يظهروا ما في قلوبهم من غاية العداوة، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي يمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالشتم والطعن وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) ، أي وتمنوا كفركم بعد إيمانكم، فحينئذ لا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين تتقربون إلى المشركين لأجلهم، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والظرف إن علق ب «يفصل» فالوقف على «أولادكم» وقف بيان، أو وقف تام عند أبي حاتم، والوقف على «بينكم» وإن علق ب «تنفعكم» فالوقف على «يوم القيامة» وهو وقف صالح. وقرأ ابن عامر «يفصل» بضم وفتح الفاء وتشديد الصاد مع فتحها، ونائب الفاعل ظرف مبني على الفتح وحمزة والكسائي كذلك، إلا أنهما يكسران الصاد، أي يفرق الله بينكم وبين أقاربكم وأولادكم، فيدخل أهل الإيمان الجنة وأهل الكفر النار، وعاصم بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد. والباقون وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الياء وسكون الفاء، وفتح الصاد. وروي أن ابن كثير قرأ أيضا بالبناء للمفعول كعاصم. وقرئ «نفصل» و «نفصل» بالنون وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) فيجازيكم عليه، ولم يقل تعالى خبير مع أنه أبلغ في العلم، لأن البصير أظهر من خبير في العلم، لأنه تعالى يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر، قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة حسنة فِي إِبْراهِيمَ، أي في جميع أحواله من قول وفعل وَالَّذِينَ مَعَهُ من أصحابه المؤمنين.

وقرأ عاصم «أسوة» بضم الهمزة في الموضعين. والباقون بكسرها، إِذْ قالُوا بدل اشتمال من «إبراهيم والذين معه» ، لِقَوْمِهِمْ أي لقرابتهم الكفار، مع أنهم أكثر من عدوكم وأقوى وقد كان من آمن بإبراهيم أقل منكم وأضعف: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي إنا متبرئون من قرابتكم إيانا ومن معبودكم من الأوثان كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا دينكم فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ أي ظهر بيننا وبينكم العداوة، وهي المباينة في الأفعال، وَالْبَغْضاءُ وهي المباينة بالقلوب أَبَداً أي على الدوام، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وتتركوا الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة، أمر الله تعالى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدوا بسيدنا إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ أي فليس لكم الاقتداء بإبراهيم في ذلك، لأنه لما استغفر لأبيه لأجل موعدة وعدها إياها، لأنه ظن أنه أسلم، فلما مات على الكفر تبرأ منه وأنتم لا تظنون إسلام الكفار الذين اتخذتموهم أولياء، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وهذا حال من فاعل «لأستغفرن» ، أي لأستغفرن لك والحال أني لا أدفع عنك شيئا من عذاب الله إن أشركت به، أي وما علي إلا بذل الوسع في الاستغفار فوعده الاستغفار، رجاء الإسلام. وقال ابن عباس: كان من دعاء إبراهيم وأصحابه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا أي في جميع أمورنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا بالتوبة عن المعصية وأقبلنا إلى طاعتك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي مفتونين بهم. قال ابن عباس: لا تسلط علينا أعداءنا فيظنوا أنهم على الحق. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) أي أنت الذي تغلب في ملكك الحكيم في صنعك، لَقَدْ كانَ لَكُمْ يا أمة محمد فِيهِمْ أي في إبراهيم والذين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. قال ابن عباس: كانوا يبغضون من خالف الله ويحبون من أحب الله، وهذا هو الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه، لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة وقوله: لِمَنْ إلخ بدل من «لكم» بدل بعض من كل، وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن الائتساء بهم ويمل إلى مودة الكفار، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عنه وعن سائر خلقه، الْحَمِيدُ (6) أي المحمود في فعاله. قال مقاتل: لما أمر الله تعالى المؤمنين بعداوة الكفار شددوا في عداوة آبائهم وأبنائهم، وجميع أقاربهم، فأنزل الله تعالى قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من كفار مكة مَوَدَّةً أي صلة بمخالطتهم مع أهل الإسلام، وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة فيقدر على تسهيل أسباب المودة، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) بهم إذا تابوا وأسلموا، ورجعوا إلى حضرة الله

تعالى، فتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم عام فتح مكة أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت هي قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصّر وراودها على النصرانية، فأبت، وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي، فخطبها عليه، وساق عنه إليها أربعمائة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقرع أنفه. والمراد بقوله تعالى: الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ نفر من قريش آمنوا بعد فتح مكة منهم: أبو سفيان بن حرب، وأبو سفيان بن الحرث، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، أي لأجل دينكم وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي تصلوهم وهو بدل من «الذين لم يقاتلوكم» وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالصلة وغيرها، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) أي أهل البر والتواصل عن عبد الله بن الزبير أن هذه الآية نزلت في أسماء بنت أبي بكر، فإن أمها فتيلة بنت عبد العزى، وهي مشركة قدمت عليها بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت هذه الآية فأمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تدخلها وتكرمها وتحسن إليها. وقيل: نزلت في خزاعة- قوم هلال بن عويمر- وخزيمة، وبني مدلج، فإنهم صالحوا النبي قبل عام الحديبية على أن لا يقاتلوه، ولا يخرجوه من مكة ولا يعينوا أحدا على إخراجه. وقيل: نزلت في قوم من بني هاشم أخرجوا يوم بدر كرها، وهذه الآية تدل على جواز الإحسان بين المشركين والمسلمين وإن كانت المناصرة منقطعة، إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ أي لأجل دينكم، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وهم عتاة أهل مكة، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أي عاونوا عليه من سائر أهل مكة، أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أي أن تناصروهم. هذا بدل اشتمال من «الذين قاتلوكم» وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ومن يحبهم ويناصرهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) لأنفسهم بإقبالها للعذاب لوضعهم المحبة في موضع العداوة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي المقرات بالله مُهاجِراتٍ من مكة من بين الكفار، فَامْتَحِنُوهُنَّ أي فاختبروهن بما يغلب على ظنكم بالتحليف، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول للممتحنة: «بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج بالله، ما خرجت رغبة من أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله» . اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد الله بعلمه فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، أي فإن ظننتموهن بعد الامتحان مؤمنات بالعلائم فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ أي ليست المؤمنات حلا لأزواجهن الكفار، وهذا بيان لزوال النكاح الأول، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي وليس الكفار حلا للمؤمنات. وهذا بيان لامتناع النكاح الجديد وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور، فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتها المهاجرة فلا يجمع على الرجل خسارتان: الزوجية والمالية. وذلك أن الصلح عام الحديبية كان على أن من

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 11 إلى 13]

جاءكم من أهل مكة يرد إليهم ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم، وكتبوا بذلك العهد كتابا وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا شرطا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طية الكتاب لم تجف، فنزلت هذه الآية لبيان أن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء، فاستحلفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، ثم تزوجها عمر رضي الله عنه وأخرج الطبراني عن عبد الله أن هذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وعن الزهري: كانت هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها: عمارة والوليد، فحبسها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورد أخويها. وأخرج بن أبي حاتم عن يزيد بن أبي حبيب أنها نزلت في أمية بنت بشر امرأة أبي حسان ابن الدحداحة. وعن مقاتل: أنها نزلت في سعيدة امرأة صيفي بن الواهب. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر المؤمنين أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ بعد الاستبراء إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي إذا التزمتم مهورهن، فالمهر المدفوع للكفار لا يقوم مقام المهر الذي يجب على المسلم، إذا تزوجهن إذ المهر أجر البضع. قال ابن عباس: أيما امرأة أسلمت وزوجها كافر فقد انقطع ما بينها وبين زوجها من عصمة ولا عدة عليها من زوجها الكافر وجاز لها أن تتزوج إذا استبرأت، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي لا تأخذوا بعقود الكافرات غير أهل الكتاب. قال ابن عباس: أيما امرأة كفرت بالله فقد انقطع ما بينها وبين زوجها المؤمن من العصمة. وقرئ في السبعة «تمسكوا» بضم التاء وسكون الميم وبفتح الميم وتشديد السين. وقرئ «تمسكوا» بفتح التاء والميم وتشديد السين، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي اطلبوا أيها المؤمنون من أهل مكة ما اتفقتم على أزواجكم من مهورهن إن دخلن في دينهم، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليطلبوا منكم ما أنفقوا على أزواجهم من المهور إن دخلن في دينكم ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) . روي أنه لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي وإن انفلت منكم أحد من أزواجكم، ورجع إلى الكفار الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فغنمتم من العدو، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار من الغنيمة قبل الخمس مثل ما أنفقوا عليهن من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تعطوه زوجها الكافر، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) ، وجميع من ارتدت من نساء المؤمنين ست نسوة: أخت أم سلمة فاطمة بنت أبي أمية، وأم كلثوم

بنت جرول- وهما تحت عمر بن الخطاب- وأم الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عباد بن شداد العمري، وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان من بني مخزوم، وعبدة بنت عبد العزى، كانت تحت عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هاشم بن العاص، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهر نسائهم من الغنيمة. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ أي نساء أهل مكة بعد فتح مكة يُبايِعْنَكَ أي قاصدات المشارطة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً من الإشراك، وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ. وقرئ «ولا يقتلن» بتشديد التاء، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، كانت المرأة تلتقط المولود من الزنا فتقول لزوجها: هو ولدي منك كني عن هذا بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين يديها، ومخرجه بين رجليها، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف، وهو ما عرف حسنه من جهة الشرع. وهذا تنبيه على نفي جواز طاعة مخلوق في معصية الخالق، وذلك كترك النوح وجز الشعر، ونتفه، وحلق الرأس، وخمش الوجه، وشق الجيوب، وتمزيق الثياب، وأن لا يخلون مع رجل غير محرم وأن لا يسافرن مع غير ذي محرم، فَبايِعْهُنَّ أي فشارطهن على ذلك، وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ فيما سلف منهن في الجاهلية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) ، أي مبالغ في المغفرة والرحمة. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح مكة جلس على الصفا، ومعه عمر أسفل منه، فجعل يبايع النساء، وكانت جملتهن إذ ذاك أربعمائة وسبعا وخمسين امرأة، ولم يصافح في البيعة امرأة، وإنما بايعهن وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمسن يده فيه فغمس أيديهن فيه وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة، متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت: لقد عبدنا الأصنام وأنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، ولما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تسرقن» . قالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هناة فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعرفها فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فلما قال: «ولا تزنين» ، فقالت: أو تزني الحرة؟ فلما قال: «ولا تقتلن أولادكن» . قالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا وكان ابنها حنظلة قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قال: «ولا تأتين ببهتان» «1» إلخ قالت: والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا

_ (1) رواه أحمد في (م 6/ ص 365) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (6: 38) ، وابن كثير في-

بالرشد ومكارم الأخلاق ولما قال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقر النسوة بما أخذ عليهن من البيعة . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لا تحبوا اليهود فإنهم قوم غضب الله عليهم. روي أن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم من إصابة ثمارهم، فنهوا عن ذلك بهذه الآية، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ أي قد حرموا من ثواب الآخرة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) أي كما حرم من ذلك الذين ماتوا منهم. وقال أبو إسحاق: يئس اليهود الذين عاندوا النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم.

_ - التفسير (8: 123) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 210) والمتقي الهندي في كنز العمال 473.

سورة الصف

سورة الصف مدنية، أربع عشرة آية، مائتان وإحدى وعشرون كلمة، تسعمائة وستة وعشرون حرفا سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي شهد له تعالى بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات السنية جميع ما في السموات والأرض، وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الذي يغلب على غيره، الْحَكِيمُ (1) أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) . روي أن المسلمين قالوا: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فلما نزل الجهاد كرهوه، فنزلت هذه الآية، أي لم تعدون ما لا توفون. وقيل: إنها نزلت فيمن يتمدح كاذبا حيث كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وهذا أي لم تتكلمون بما لا تعملون. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) . قال الزجاج: أي كبر قولكم ما لا تفعلون بغضا عند الله، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ، أي في طاعته تعالى صَفًّا في القتال. قرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء. وقرئ «يقتلون» ، أي يصفون وصفا حال من فاعل «يقاتلون» ، أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) أي مشبهين ببنيان ألصق بعضه على بعض حتى صار شيئا واحدا، وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين فلم يمتثلوا بأمره، يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي أي بالمخالفة فيما أمرتكم به، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة، وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والمسارعة إلى الطاعة، فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي لما مالوا عن الحق وكذبوا موسى زاد الله زيغ قلوبهم حتى صرفها عن قبول الحق. وقال مقاتل: أي لما عدلوا عن الحق بأبدانهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء ما عملوا، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) ، أي لا يهدي من سبق في علمه تعالى أنه خارج عن منهاج الحق

[سورة الصف (61) : الآيات 11 إلى 14]

مصر على الغواية، وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ، أي مصدقا لما قبلي مِنَ التَّوْراةِ، ومن كتب الله ومن أنبيائه جميعا وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة بفتح الياء على الأصل وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين. والباقون بالسكون وهو حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين، وهما الياء والسين كما قاله المبرد وأبو علي، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) أي فلما جاء عيسى بني إسرائيل بالمعجزات الظاهرة قالوا: هذا المأتي به سحر بيّن وقرأ حمزة والكسائي «ساحر» بفتح السين مع الألف، ويقال: فلما جاءهم أحمد بالتي تبين أن الذي أتى به عند الله قالوا: هذا الآتي بالبينات ساحر بين، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي أيّ الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله من نسبة الولد إليه ووصف أنبيائه بالسحرة، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) أي لا يوفقهم الله للطاعة عقوبة لهم، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يريدون رد رسالة الرسول ليبطلوا دين الله بقولهم: إن الرسول ساحر، وليبطلوا كتاب الله بقولهم: إنه سحر، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ بالإضافة وتركها، أي والله مبلغ نوره إلى غايته بنشره في الآفاق، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) أي ولو كره المشركون واليهود والنصارى إتمام النور. وعن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف: يا معشر اليهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله هذه الآية، واتصل الوحي بعدها هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ. وقرئ «نبيه» أي محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى أي بالقرآن، وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على جميع الأديان المخالفة له وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) إعلاءه عليها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) وهي التجارة بين أهل الإيمان وحضرة الله تعالى. وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون، وذلك أنه قال لرسول الله: لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت، واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام الليل أبدا، ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام، إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ومن سنتي أنام، وأقوم، وأفطر، وأصوم، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . فقال

_ (1) رواه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (5: 286) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف 118.

عثمان: والله لوددت يا رسول الله أن أعلم أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها، فنزلت: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وهذا استئناف كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال تعالى: تؤمنون أي تدومون على الإيمان، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي بنفقة أموالكم وبخروج أنفسكم. والجهاد بعد هذين الوجهين ثلاثة: جهاد فيما بينه وبين نفسه وهو قهر النفس ومنعها عن اللذات والشهوات، وجهاد فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يدع الطمع منهم، ويشفق عليهم، ويرحمهم. وجهاد فيما بينه وبين الدنيا، وهو أن يتخذها زادا لمعاده، فيكون الجهاد على خمسة أوجه. وقرئ «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا» . وقرئ «تؤمنوا وتجاهدوا» على إضمار لام الأمر ذلِكُمْ أي الذي أمرتم به من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أن تتبعوا أهواءكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) ، أي إن كنتم تنتفعون بما علمتم فهو خير لكم، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وهذا جواب قوله: تُؤْمِنُونَ إلخ لما فيه من معنى الأمر وهو بمنزلة الثمن الذين يدفعه المشتري، وقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ إلخ بمنزلة المبيع الذي يأخذه المشتري من البائع في مقابلة الثمن المدفوع له، وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي قصبة الجنان والمساكن الطيبة، قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا في كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة، فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله. ذلِكَ أي الجزاء الذي هو المغفرة وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) ، أي الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى وهو إما مرفوع أي ولكم تجارة أخرى في العاجل مع ثواب الآجل، أو منصوب بفعل مضمر إما من نوع الاشتغال أي وتحبون خصلة أخرى في الدنيا مع ثواب الآخرة، أو من نوع معطوف على الجوابين، أي ويعطكم نعمة أخرى، أو مخفوض عطفا على تجارة، تُحِبُّونَها أي تشتهون أن تكون لكم نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ بمحمد على كفار قريش، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل وهو فتح مكة. وقرئ «نصرا من الله وفتحا قريبا» . وقوله: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ إلخ مفسر لأخرى وهو ربح للتجارة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) عطف على «تؤمنون» ، لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر المؤمنين يا رسول الله بذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أنصارا» منونا و «لله» جارا ومجرورا. والباقون «أنصار الله» مضافا للجلالة. وقرأ ابن مسعود «كونوا أنتم أنصار الله» . كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ والتشبيه باعتبار المعنى، أي كونوا أنصار دين الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله؟ أي من أعواني مع الله على أعدائه، أو المعنى: قل لهم كونوا أنصار دين الله كما قال عيسى لأصفيائه وهم أول من

آمن به وكانوا اثني عشر رجلا فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى ابن مريم وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ وهم الذين أضلهم بولس، أي لما رفع عيسى إلى السماء تفرق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت كان عيسى الله فارتفع. وفرقة قالت: كان ابن الله فرفعه إليه. وفرقة قالت: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه. فاقتتلوا وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، فظهرت الفرقة المؤمنة على الفرقة الكافرة، فذلك قوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ أي فأعنا الذين لم يخالفوا دين عيسى على الذين خالفوه، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) أي فصاروا غالبين على أهل الأديان بالحجة.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية، إحدى عشرة آية، مائة وثمانون كلمة، سبعمائة وثمانية وأربعون حرفا يُسَبِّحُ لِلَّهِ أي يذكر الله بالتنزيه ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ما في جهة العلو والسفل من الخلق، الْمَلِكِ فكلهم تحت تصرفه وفي قبضة قدرته، الْقُدُّوسِ أي المنزه عما يخطر ببال أوليائه- كما نقل عن الغزالي- وقيل: أي المبارك أو الطاهر بلا ولد ولا شريك، الْعَزِيزِ أي الغالب في ملكه بالنقمة لمن لا يؤمن به الْحَكِيمِ (1) أي الذي يضع الأشياء مواضعها وقد قرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ أي هو الذي أرسل إلى العرب رسولا من جملتهم، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو من جنسهم. قال ابن عباس: المراد بالأميين الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ التي تبين رسالته، وتظهر نبوته مع كونه أميا مثلهم، لم يعتد منه قراءة، ولا تعلم، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي، وتكون حاله مشابهة لحال أمته الذين بعث فيهم، وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأقوال والأفعال، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ أي آيات القرآن، وَالْحِكْمَةَ أي وجه التمسك بها. وقيل: الكتاب: هو الآيات نصا، والحكمة: ما أودع فيها من المعاني. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) أي والحال أنهم كانوا من قبل مجيء محمد إليهم بالقرآن لفي ضلال ظاهر، لأنهم كانوا عبدة الأصنام. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ «وآخرين» معطوف على الأميين، ولما يلحقوا الآخرين، أي وبعثه إلى غير العرب من أي طائفة كانت، لم يلحقوا بالعرب الأول وهم كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المنصوب في «ويعلمهم» أي ويعلم آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم وهم كل من يعلم شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى آخر الزمان، فرسول الله معلمهم بالقوة، أي في المعنى والحكم لأنه أصل الخير والفضل، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الفقر إليه، وجعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته، ذلِكَ أي تفضيل رسول الله على غيره وإلحاق أبناء العجم الذين آمنوا وشاهدوا الرسول بقريش في درجة الفضل، فَضْلُ اللَّهِ وهو ما لم يكن مستحقا

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وهم رسول الله والأميون والآخرون وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً، أي صفة الذين أمروا بأن يعملوا بما في التوراة، ثم لم يعملوا بما أمروا فيها كصفة الحمار يحمل كتبا كبارا في عدم انتفاعه بها. وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن، ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس صفة القوم الذين كذبوا بالتوراة حين تركوا الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) لأنفسهم بتكذيب الأنبياء. قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي الذين تهودوا وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي إن قلتم أنكم أحباء لله من دون محمد وأصحابه فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم سريعا من دار البلية إلى دار الكرامة التي أعدها الله لأحبابه. وقوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ جواب الشرط، والعامة بضم الواو. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها. وقرأ ابن السميقع أيضا بفتحها للتخفيف، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) في زعمكم فتمنوا الموت فإن من أيقن بأنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها وطريقها الموت، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي ويأبون التمني للموت بسبب ما عملوا من الكفر وتحريف الآيات الموجب لدخول النار، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) أي بظلم الظالمين من تحريف الآيات وعنادهم لها، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ أي إن الموت الذي تخافون من أن تتمنوه بلسانكم بسبب ما قدمتموه تحريف الآيات وغيره ملاقيكم ألبتة، والفاء في فإنه لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. وقرأ زيد بن علي أنه بدون فاء، وفي قراءة ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» من غير «فإنه» ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فالله تعالى عالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم بما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إذا نودي لوقت الصلاة من يوم الجمعة، فاذهبوا إلى الخطبة والصلاة، وَذَرُوا الْبَيْعَ أي اتركوا المعاملة، ذلِكُمْ أي الذهاب إلى ذكر الله وترك المعاملة خَيْرٌ لَكُمْ في الآخرة من التكسب في ذلك الوقت، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) أي إن كنتم أهل العلم فأنتم ترون ذلك خيرا فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي إذا أديت الصلاة فاخرجوا من المسجد إن شئتم لإقامة مصالحكم، واطلبوا الرزق إن شئتم، فهذه رخصة بعد النهي بقوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ. وعن عراك بن مالك: أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد قال:

[سورة الجمعة (62) : آية 11]

أللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين، وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً على كل حال بالقلب واللسان. قال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا. وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتيتم السوق فقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة» . لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) أي كي تفوزوا بخير الدارين، أي لما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته، فجمعت الجماعات له، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة، وهي ما أنعم الله تعالى به عليهم من نعمة الوجود والعقل وغير ذلك مما لا يحصى، ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع، وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً وهو الطبل، أي وإذا سمعوا صوتا يدل على قدوم التجارة انْفَضُّوا إِلَيْها أي تفرقوا إلى التجارة. وقرئ «إليهما» وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر تخطب. قال مقاتل: إن دحية بن خليفة الكلبي قبل أن يسلم أقبل بتجارة من الشام، وكان معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق، وكان ذلك في يوم الجمعة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر يخطب، فخرج الناس إليه وتركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا أو أقل، كثمانية أو أكثر كأربعين، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة» «1» . ونزلت هذه الآية وكان من الذين معه أبو بكر وعمر. قال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات. وقال مقاتل بن حبان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين فلما خرج الناس لقدوم دحية بتجارة وظنوا أنه ليس في ترك الخطبة شيء من الإثم أنزل الله تعالى هذه الآية فقدّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخطبة وأخر الصلاة. قُلْ يا أشرف الخلق للمؤمنين زجرا عن العود لمثل ذلك الفعل: ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عند الله من ثواب الثبات مع النبي صلّى الله عليه وسلّم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) أي أفضل المعطلين فمنه اطلبوا الرزق.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 221) .

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية، إحدى عشرة آية، مائة وثمانون كلمة، سبعمائة وستة وسبعون حرفا إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ أي إذا حضر مجلسك منافقو أهل المدينة عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، وكانوا بني عم قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وقولهم: «نشهد» نفي للنفاق عن أنفسهم. روى زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول: لا تنفقوا علي من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكر ذلك عمي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسولا إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوه، فصدقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذبني، فأصابني همّ لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ إلى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا إلى قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: إن الله قد صدقك. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا. وهذه جملة معترضة بين قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وبين قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إلخ لإماطة توهم توجه التكذيب إلى منطوق كلامهم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) من إخبارهم عن أنفسهم أنهم يشهدون، فإن ضمير قلوبهم على غير تلك الشهادة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً أي سترة عما خافوا على أنفسهم من القتل. وقرأ الحسن بكسر همزة «إيمانهم» فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله وقد منعوا الضعفة عن اتباع رسول الله في السر وعن الإنفاق في سبيل الله، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا ذلِكَ أي سوء أعمالهم، بِأَنَّهُمْ آمَنُوا في الظاهر وشابهوا المسلمين في نطق كلمة الشهادة وفي الأفعال، ثُمَّ كَفَرُوا أي ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن حمير. وبقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات

فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ لسوء أفعالهم وقصدهم الإعراض عن الحق. وقرئ على البناء للفاعل. وقرئ «فطبع الله» أي تركهم الله في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) شيئا، فلا يميزون صوابا من خطأ ولا حقا من باطل، وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها، ولصباحة وجوههم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم. وقرئ «يسمع» على البناء للمفعول كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، أي مشبهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن العلم والخير، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي واقعة عليهم والوقف هنا تام فقوله: عَلَيْهِمْ مفعول ثان. قال مقاتل: إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلا ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم ويكشف أسرارهم، هُمُ الْعَدُوُّ أي هم الكاملون في العداوة، فَاحْذَرْهُمْ أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإن أعدى الأعادي العدو المكاشر الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي أهلكهم الله، فإن أصل المعنى أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر يهلكه، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند فإذا قاتلهم أهلكهم، أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الكفر والضلال؟ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى رسول الله وتوبوا من الكفر والنفاق، يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي حركوها إعراضا وإباء. روي أنه لما نزل القرآن في فضيحة المنافقين أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم افتضحتم بالنفاق، وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك، فنزلت هذه الآية وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ أي يعرضون عن الاعتذار، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) عن استغفار الرسول لهم، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي استغفارك لهم وعدمه سواء، والسبعة بهمزة قطع مفتوحة من غير مد ووصلها قوم على حذف حرف الاستفهام، لأن أم المعادلة تدل عليه. وقرئ شاذا «أاستغفرت» بهمزة ثم ألف، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في الكفر إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) أي الذين سبق ذكرهم، وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ والقائل عبد الله بن أبي لأصحابه المؤمنين الأنصار في غزوة تبوك: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وهم فقراء المهاجرين، حَتَّى يَنْفَضُّوا أي لأجل أن يتفرقوا عنه. وقرئ «حتى ينفضوا» بضم الياء وسكون النون، أي لأجل أن تفنى أزوادهم، وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) أن الله يرزقهم وأن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، يَقُولُونَ في تبوك: لَئِنْ رَجَعْنا من غزوة بني المصطلق إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قال المفسرون: اختلف أجير عمر وهو جهجاه بن سعيد مع أجير عبد الله بن أبي، وهو

[سورة المنافقون (63) : آية 11]

سنان الجهني في بعض الغزوات، فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه، واشتد عليه لسانه، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا من غزوتنا هذه إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأراد عبد الله بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله والمؤمنين، ثم أقبل على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فنزلت هذه الآية، وسبب غزوة بني المصطلق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن بني المصطلق- وهم حي من هذيل- يجتمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المر يسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فوقع القتال، فهزم الله بني المصطلق وكان سبيهم سبعمائة، فلما أخذ النبي جويرية من السبي لنفسه أعتقها وتزوجها فقال المسلمون: صار بنو المصطلق أصهار رسول الله فأطلقوا ما بأيديهم من السبي إكراما لرسول الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: وما أعظم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية ولقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق اه. وإسناد القول المذكور إلى المنافقين لرضاهم به فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي القوة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزة الله قهره لأعدائه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) أن الله معز أولياءه ومذل أعداءه، ولو علموه ما قالوا مقالتهم. روي أن عبد الله بن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصا وقال: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعز لأضربن عنقك، فلما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لابنه: «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي ومن ألهاه ماله وولده عن طاعة الله تعالى فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني، وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي مقدمات الموت فَيَقُولَ عند تيقنه بحلول الموت: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا أمهلتني إلى أمد قصير بقدر ما استدرك فيه ما فاتني فَأَصَّدَّقَ من مالي بتشديد الصاد والدال. وقرأ أبي «فأتصدق» على الأصل. وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) أي أكن من الحاجين. عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل إلا سأل الله الرجعة عند الموت. وقرأ أبو عمرو «وأكون» بالنصب عطفا على لفظ جواب التمني. والباقون «وأكن» بالجزم عطفا على محله. وقرئ «وأكون» بالرفع «وأنا أكون» . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً أي عن الموت إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) فمجاز لكم عليه. وقرأ شعبة بالياء التحتية.

سورة التغابن

سورة التغابن مدنية. أو مكية، ثماني عشرة آية، مائتان وإحدى وأربعون كلمة، ألف وسبعون حرفا يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه تعالى جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه تنزيها مستمرا، لَهُ الْمُلْكُ فهو متصرف في ملكه، وَلَهُ الْحَمْدُ على أهل السموات والأرض، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أمر الدنيا والآخرة قَدِيرٌ (1) ، لأن نسبة الكل إلى قدرته تعالى سواء، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ، أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، أي وبعض منكم مختار للإيمان كاسب له. وقال عطاء والزجاج: أي فمنكم جاحد بأنه تعالى خلقه وهو من أهل الطبائع والدهرية، ومنكم مصدق بأنه تعالى خلقه، والمعنى: أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فانظروا النظر الصحيح، وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين فما فعلتم ذلك بل تفرقتم فرقا، فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) من الكفر والإيمان فيجازيكم على ذلك، خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة وَصَوَّرَكُمْ في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فمن نظر في قد الإنسان ومناسبته بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة، وقد وجد فيه القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) أي المرجع يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية، وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أي بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس. أَلَمْ يَأْتِكُمْ أيها الكفرة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلكم، كقوم نوح ومن بعدهم فَذاقُوا من غير مهلة وَبالَ أَمْرِهِمْ أي شدة أمرهم في الدنيا، وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ أي العذاب في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُ أي الشأن كانَتْ أي القصة تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرات، فأنكروا أن يكون الرسول بشرا ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا بالرسل، وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر الله

[سورة التغابن (64) : الآيات 11 إلى 18]

تعالى غناه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم ولم يلجئهم إلى ذلك وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادتهم من الأزل حَمِيدٌ (6) ، أي مستحق للحمد بذاته وإن لم يحمده أحد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا أي أنهم لن يبعثوا بعد موتهم أبدا، قُلْ يا أشرف الخلق لهم: بَلى تبعثون وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن ولتجزون على أعمالكم، وَذلِكَ أي البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) لثبوت قدرته التامة فلا يصرفه صارف، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إذا كان الأمر كذلك، فآمنوا بالله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وذلك لئلا ينزل بك ما نزل بالكفار الماضية من العقوبة، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) فمجاز لكم عليه يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ أي لأجل ما في يوم القيامة من الحساب والجزاء. وسمي بالجمع لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض، و «يوم» ظرف ل «لتنبؤن» . وقرئ «نجمعكم» بنون العظمة ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أي يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، وفي الحديث «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكر، أو ما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مع ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة وغير ذلك. وَيَعْمَلْ صالِحاً إلى أن يموت في إيمانه يُكَفِّرْ، أي الله عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ أي تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الذي لا فوز وراءه. وقرأ نافع وابن عامر «نكفر عنه» و «ندخله» بالنون فيهما. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدانية الله وبقدرته وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالقرآن، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) النار ما أَصابَ أحدا مِنْ مُصِيبَةٍ دينية أو دنيوية في بدن وأهل ومال، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتقديره وإرادته و «من مصيبة» فاعل بزيادة من قيل: وسبب نزول هذه الآية أن الكتاب قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأن يرى المصيبة من الله يَهْدِ قَلْبَهُ عند المصيبة للتسليم لأمر الله فيسترجع. وقرئ «يهد قلبه» على البناء للمفعول ورفع «قلبه» . وقرئ بنصبه على نهج سفه نفسه وقرئ «يهدأ» بالهمزة على وزن يقطع ويخضع، أي يسكن فيسلم لقضاء الله تعالى ويصبر على المصيبة، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) فيعلم اطمئنان القلب عند المصيبة، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي هونوا المصائب على أنفسكم، واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى ومن الرسول فيما دعاكم إليه، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) أي فإن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ الظاهر، وقد فعل ذلك. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي الله المستحق للمعبودية لا مستحقا للمعبودية يصح أن يوجد إلا هو وجملة «لا إله إلا

هو» خبر لاسم الجلالة، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) في كل باب لأنه لا مقصود إلا هو، فإن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ولا يتقوى إلا به. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) . قال عطاء بن يسار: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فأراد أن يغزو، فبكوا إليه، ورققوه وقالوا له: إلى من تدعنا؟ فرق عليهم وأقام في البلد وترك الغزو، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم وقالوا لهم: صبرنا على إسلامكم فلا صبر لنا على فراقكم، فأطاعوهم، وتركوا الهجرة، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا المهاجرين الأولين قد تفقهوا في الدين هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم وإن لحقوا بهم في دار الهجرة لم ينفقوا عليهم ولم يصيبوهم بخير، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم وَتَصْفَحُوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا بإخفائها بعد ما هاجروا من مكة إلى المدينة فإن الله يعاملكم بمثل ما عملتم، وهذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإسلام فإنهم من الكفار، أما أزواجهم وأولادهم المؤمنون فلا يكونون عدوا لهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء وشغل عن الآخرة إذ منعوكم عن الهجرة والجهاد فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى، اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقوى الله غاية طاقتكم. وهذا مثل قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] فإنه لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعونه فوق الطاقة، وَاسْمَعُوا مواعظه وَأَطِيعُوا أوامره، وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ، أي وأتوا خيرا لأنفسكم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) أي من يكفه الله بخل نفسه فيفعل في ماله جميع ما أمر به مطمئنا إليه حتى ترتفع عن قلبه الأخطار، فأولئك هم الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ أي إن تنفقوا في طاعة الله تعالى من حلال بطيب نفس متقربين إليه يجزكم بالضعف إلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقرئ «يضعفه» بتشديد العين. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما فرط منكم من بعض الذنوب ببركة الإنفاق وَاللَّهُ شَكُورٌ يشكر اليسير ويجزي الجزيل من صدقاتكم، حَلِيمٌ (17) لا يعجل بالعقوبة على من يمن بصدقته، أو يمتنع من التصدق عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه شيء من الخشية والمن الْعَزِيزُ، أي الذي لا يعجزه شيء، الْحَكِيمُ (18) أي الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، فالعزيز يدل على القدرة، والحكيم يدل على الحكمة.

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية، ثنتا عشرة آية، مائتان وتسع وأربعون كلمة، ألف ومائة وسبعون حرفا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي إذا أردتم تطليق النساء فطلقوهن مستقبلات لزمان- عدتهن وهو الطهر- وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي احفظوا القروء للعدة لتعرفوا زمان الرجعة، والنفقة، والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة ونحو ذلك من الفوائد وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في الإضرار بهن لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ أي من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن وَلا يَخْرُجْنَ ولو بإذن منكم لأن في العدة حقا لله تعالى فلا يسقط بتراضيهما، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي إلا في حال كونهن آتيات بزنا ظاهر، أو مشهود عليه بأربعة شهود فيخرجن لإقامة الحد عليهن، ثم يرددن إلى منزلهن كما قاله ابن مسعود، أو إلا في حال أن يبذون على الأزواج أو على أهلهم فيحل لهم حينئذ إخراجهن لسوء خلقهن كما قاله ابن عباس ويؤيده قراءة إلا أن يفحش عليكم. وقال ابن عمر: الفاحشة: خروجهن قبل انقضاء العدة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بفتح الياء التحتية. والباقون بكسرها وَتِلْكَ أي الأحكام حُدُودُ اللَّهِ وهي الموانع عن المجاوزة وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي من يتجاوز الحدود فقد ضر نفسه لأنه وضعها في غير موضعها لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) أي فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك التعدي أمرا يقتضي الرجعة بأن يبدل الله ببغض المرأة محبة، وبالإعراض عنها إقبالا إليها، فإن العدة إذا لم تكن مضبوطة أو انتقلت المرأة من منزل زوجها أشكل أمر الرجعة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي قاربن انقضاء أجل العدة فأنتم بالخيار فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي إن شئتم فراجعوهن بحسن معاشرة وإنفاق لائق أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي وإن شئتم فاتركوهن من غير مراجعة بإيفاء بالحق واتقاء الضرار، وهو أن يراجعها في آخر العدة، ثم يطلقها تطويلا للعدة وتعذيبا لها، وَأَشْهِدُوا يا أيها الأزواج ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند التطليق وعند الرجعة قطعا للنزاع، فهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة وهو عند الشافعي واجب في

الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي أدوا الشهادة التي تحملتموها عند الحكام يا أيها الشهود لوجه الله تعالى ذلِكُمْ أي الإشهاد وإقامة الشهادة يُوعَظُ بِهِ أي يؤمر به، مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يقال: نزلت الآيات من أول السورة إلى هاهنا في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين طلق حفصة، وفي ستة نفر من أصحابه طلقوا نساءهم غير طواهر، فنهاهم الله عن ذلك، لأنه لغير السنة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ أي يصبر على المصيبة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) من الشدة. وقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة» . نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي أسر العدو ابنا له يسمى سالما، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال: «اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» ، ففعل ذلك ، فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه سالم ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها فذلك قوله تعالى: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ أي من وجه لا يخطر بباله وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي ومن يثق بالله فيما ناله فهو كافيه في جميع أموره، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ. وقرأ حفص بالإضافة أي منفذ أمره. والباقون بالتنوين ونصب أمره أي يبلغ مراده في جميع خلقه. وقرئ برفع أمره أي نافذ تدبيره. وقرأ المفضل «بالغا» أمره على أن قوله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ خبران و «بالغا» حال من اسم الجلالة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ من الشدة والرخاء قَدْراً (3) أي أجلا ينتهي إليه. وروي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض فما عدة التي لم تحض فنزل وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهم، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن أشكل عليكم حملهن في العدة، أو إن جهلتم بمقدار عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فقام رجل فقال: يا رسول الله فما عدة الصغير التي لم تحض فنزل، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ لصغرهن هن بمنزلة الكبيرة التي قد يئست، وهذه معطوفة على «واللائي يئسن» عطف المفردات فقام رجل آخر وقال: وما عدة الحوامل يا رسول الله فنزل وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي والحبالى منتهى عدتهن وأجل انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن لخبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج فإباحة النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر دليل على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن فلا تنقضي العدة بوضع بعض حملهن. وقرئ أحمالهن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في شأن أحكامه يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) أي ييسر الله عليه في أمره ويوفقه للعمل الصالح. وقال عطاء: يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة ذلِكَ أي الذي ذكر من الأحكام أَمْرُ

اللَّهِ، أي فرائضه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ أي بينه لكم في القرآن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بطاعته ويعمل بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة فإن الحسنات يذهبن السيئات وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) في الآخرة بالمضاعفة، أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ أي أسكنوا المعتدات مسكنا من بعض مكان سكناكم على قدر طاقتكم ووجدكم بضم الواو باتفاق القراء السبعة. وقرئ بفتح الواو وكسرها. وَلا تُضآرُّوهُنَّ في السكنى والنفقة لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ بهما حتى تلجئوهن إلى الخروج من المسكن أو إلى تفتدي الرجعية نفسها منكم، وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ أي وإن كن المطلقات حبالى، فَأَنْفِقُوا أيها الأزواج عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن من العدة. وهذا بيان حكم المطلقة البائنة، أما الحوامل المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن، وأما الرجعية فإنها تستحق النفقة، وإن لم تكن حاملا ومذهب مالك والشافعي أنه ليس للمبتوتة إلا السكنى، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملا. وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله: «لا سكنى لك ولا نفقة» ، وأما عند الحنفية فلكل مطلقة حق النفقة والسكنى لأن عمر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في شأن المطلقة: «لها النفقة والسكنى» ، ولأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين المبتوتة وغيرها، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به، ونحن معشر الشافعية نقول: إن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل، فأثبت لها النفقة ليعلم أن غيرها بطريق الأولى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم منهن بعد انقضاء علقة النكاح، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على ذلك الإرضاع ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه للرجل استئجار امرأته للرضاع إذا كان الولد منها ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقا وفي هذه الآية دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والتربية على الزوجات، وفيها دليل على أن اللبن ملك لها وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي تشاوروا بتراضي الأب والأم، ولا يكن من الأب مماكسة، ولا من الأم معاسرة، ولا من الرجل تقصير في حق المرأة ونفقتها ولا من المرأة في حق الولد ورضاعه، وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ كأن أبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها وأبت الأم أن ترضع الولد مجانا فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) ، أي فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى فليس له إكراهها على إرضاعه بل يستأجر الأب للصبي مرضعا غير أمه لِيُنْفِقْ على المرضعات المطلقات وعلى خلافها، ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أي ذو غني على قدر غناه وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، أي ومن ضيق عليه معيشته فلينفق على الزوجة والولد الصغير على قدر ما أعطاه الله من المال وإن قل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها من الرزق جل أو قل فإنه تعالى لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) أي بعد ضيق سعة وبعد شدة رخاء عاجلا أو آجلا وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي وكم من أهل قرية أبوا عن قبول أمر

[سورة الطلاق (65) : الآيات 11 إلى 12]

ربهم وعن إجابة أمر رسله، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي فحاسبناهم في الآخرة على أعمالها بالمناقشة في كل نقير وقطمير، وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) أي وعذبناهم عذابا عظيما وهو عذاب نار جهنم، فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها أي فذاقوا عقوبة كفرهم، وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أي وكان عاقبة عتوها هلاكا بعذاب الدنيا وعذاب النار، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ في الآخرة عَذاباً شَدِيداً لونا بعد لون فَاتَّقُوا اللَّهَ عن أن تكفروا به وبرسوله يا أُولِي الْأَلْبابِ أي يا ذوي العقول من الناس، الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولًا والوقف على «ذكرا» تام إن نصب «رسولا» بالإغراء أي عليكم رسولا، أو بفعل مقدر، أي وأرسل رسولا فحينئذ فالذكر هو القرآن والرسول هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا وقف على «ذكرا» إن جعل «رسولا» بدلا منه فحينئذ فالذكر الرسول هو جبريل عليه السلام، سمي بالذكر لأنه مذكور في السموات أو في الأمم، أو لشرفه، ويؤيده قراءة رسول بالرفع، أي هو رسول يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن مُبَيِّناتٍ. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء، لأن الآيات تبين الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام. والباقون بالفتح لأن الله تعالى أوضح الآيات وبين أنها من عنده، لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقوله تعالى: لِيُخْرِجَ إما متعلق بأنزل والضمير فيه راجع إلى اسم الجلالة، أو ب «يتلو» فالضمير فيه راجع للرسول، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً فيما بينه وبين ربه يُدْخِلْهُ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وقرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) . قال الزجاج: أي قد رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها وقيل: قدر رزقه الله طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة، وجملة «قد أحسن الله» إلخ حال ثانية من مفعول «يدخله» . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ بعضها فوق بعض مثل القبة، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي في العدد لكنها منبسطة، والعامة بنصب مثلهن عطفا على سبع سموات. وقرأ عاصم في رواية برفعه على الابتداء وخبره من الأرض. روى البخاري وغيره أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» «1» . يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي ينفذ تصرفه فيهن، ويجري قضاؤه بينهن.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 446) ، والقرطبي في التفسير (8: 175) ، والسيوطي في الدر المنثور (4: 224) .

قال عطاء: أي يتنزل الوحي إلى الخلق في كل أرض، وفي كل سماء، وقال مقاتل: يتنزل الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى، وقال مجاهد: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض وموت بعض، وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلا. وقرئ «ينزل الأمر بينهن» ، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية، لا يعجزه شيء عما أراده وقوله تعالى: لِتَعْلَمُوا متعلق ب «خلق» أو ب «يتنزل» ، وقرئ «ليعلموا» بالياء وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الكليات والجزئيات عِلْماً (12) لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، فتبارك الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

سورة التحريم

سورة التحريم وتسمى سورة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مدينة، ثنتا عشرة آية، مائتان وتسع وأربعون كلمة، ألف وستون حرفا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله تعالى لك من ملك اليمين أو من العسل. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خلا بمارية في يوم حفصة وعلمت بذلك عائشة فقال لها: «اكتمي علي فقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقين فطلق حفصة، واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية. وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال له صلّى الله عليه وسلّم: راجعها فإنها صوامة قوامة وإنها من نسائك في الجنة وهذا قول الحسن ومجاهد، وقتادة، والشعبي، ومسروق، ورواية ثابت عن أنس ورواية البزار من حديث ابن عباس، ورواية الطبراني من حديث هريرة، ورواية الضياء من حديث عمرو الذي في الصحيحين أن الذي حرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفسه هو شرب العسل، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة، فحرم العسل على نفسه فنزلت هذه الآية تَبْتَغِي أي تطلب بتحريم مارية أو العسل، مَرْضاتَ أَزْواجِكَ عائشة وحفصة وَاللَّهُ غَفُورٌ قد غفر لك هذه الزلة رَحِيمٌ (1) قد رحمك في تلك اليمين. وقد نقل جماعة من المفسرين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حلف أن لا يطأ جاريته، فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين، وأيضا أن أبا حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، فإذا حرم شخص طعاما فقد حلف على أكله أو أمة، فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها، إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا كأن نوى ثنتين أو ثلاثا، فكما نوى، وإن قال: كل حلال علي حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء فقط وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي أوجب الله عليكم كفارة ككفارة أيمانكم أو قد بيّن الله

لكم تحليل أيمانكم بالكفارة، فإذا كفر الحالف صار كمن لم يحلف. وقرئ كفارة أيمانكم، وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ أي حافظكم وناصركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم الْحَكِيمُ (2) أي المتقن في أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا ما تقتضيه الحكمة، وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً أي واذكر إذ أخبر النبي حفصة في السر بكلام استكتمها ذلك. قال ابن عباس: لما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين، تحريم مارية على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده صلّى الله عليه وسلّم في أبي بكر وأبيها عمر، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ. قرأ الجمهور بتشديد الراء، أي فلما أخبرت حفصة بسر النبي صلّى الله عليه وسلّم عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك، وأطلع الله نبيه على ما أخبرت حفصة عائشة بين النبي لحفصة بعض ما قالت لعائشة من خلافة أبي بكر وعمر وعاتبها على ذلك خوفا من أن ينشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ويلك ألم أقل لك اكتمي علي!» قالت: والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خصّ الله تعالى بها أبي . وقرأ الكسائي بالتخفيف أي جازى على ذلك البعض بأن طلق حفصة مجازاة على بعض ما فعلت، وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ أي وسكت عن بعض من تحريم مارية القبطية على نفسه، ولم يلم حفصة على ذكر ذلك حياء وحسن عشرة، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي فلما أخبر النبي حفصة بما قالت لعائشة قالَتْ أي حفصة: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي من أخبرك بأني أفشيت السر لعائشة، وقد ظننت أن عائشة هي التي أخبرته. قالَ أي النبي صلّى الله عليه وسلّم: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) بقولك لعائشة وبقولي لك. إِنْ تَتُوبا يا حفصة ويا عائشة من إيذائكما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَى اللَّهِ تاب الله عليكما فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، إذ قد مالت قلوبهما عن الحق وأحبت ما كرهه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو اجتنابه جاريته. وقرئ «فقد زاغت» . وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أي وإن تتعاونا أنتما على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإيذاء لم يضره ذلك التعاون منكما، فإن الله ناصره، وجبريل رئيس الكروبيين وأبو بكر وعمر، كما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس وبه قال عكرمة ومقاتل، وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصر من ذكر ظَهِيرٌ (4) أي أعوان له صلّى الله عليه وسلّم فقوله: جِبْرِيلُ عطف على محل اسم «إن» قبل دخولها وكذا «وصالح المؤمنين» ، ف «مولاه» خبر عن الكل فيقدر بعد كل واحد منهما، ويجوز أن يكون الكلام عند قوله تعالى: مَوْلاهُ ويكون «جبريل» مبتدأ وما بعده عطف عليه، و «ظهير» خبرا لجميع. وقرأ الكوفيون «تظاهرا» بتخفيف الظاء وإسقاط إحدى التاءين. والباقون بتشديدها. وقرئ على الأصل أي بالتاءين، وقرئ «تظهرا» . عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال. والباقون وهم أهل الكوفة بسكونها.

وقال ابن عرفة: و «عسى» هنا للتخويف لا للوجوب، وجملة «عسى» واسمها وخبرها جواب الشرط أي إن طلقكن فعسى ربه أن يبدله مُسْلِماتٍ أي مقرات بالألسن، مُؤْمِناتٍ أي مصدقات بالقلوب بتوحيد الله تعالى، قانِتاتٍ أي مطيعات لله ولأزواجهن. وقيل: قائمات بالليل للصلاة تائِباتٍ من الذنوب، عابِداتٍ أي كثيرات العبادات متذللات لأمر الرسول عليه السلام، سائِحاتٍ أي صائمات كما قاله ابن عباس، أو مهاجرات كما قاله الحسن. وقرئ «سيحات» . ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) فالثيب: تمدح من جهة أنها أكثر تجربة وعقلا، وأسرع حبلا غالبا، والبكر: تمدح من جهة أنها أطهر وأطيب وأكثر مداعبة غالبا، وسميت الثيب ثيبا، لأنها ثابت أي رجعت إلى بيت أبويها، وسميت العذراء بكرا لأنها على أول حالتها التي خلقت بها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي علموا أنفسكم ونساءكم وأولادكم الخير، وأدبوهم بأن تأمروهم بالخير وتنهوهم عن الشر تقوهم بذلك نارا، وقرئ «وأهلوكم» عطفا على «واو قوا» فيكون أنفسكم عبارة عن أنفس الكل، أي قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم نارا، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي حطبها الكفار وحجارة الكبريت. وقرئ «وقودها» بضم الواو عَلَيْها، أي النار مَلائِكَةٌ تسعة عشر وهم الزبانية، غِلاظٌ أي غلاظ القلوب لا يرحمون، إذا استرحموا خلقوا من الغضب وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني آدم أكل الطعام والشراب، شِدادٌ أي شداد الخلق، أقوياء على الأفعال الشديدة، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ بدل اشتمال من الله، أي لا يعصون أمره، أو منصوب على نزع الخافض. أي فيما أمرهم به من عذاب أهل النار، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) أي يؤدون ما يؤمرون به من غير توان ويقولون للكفار عند ادخالهم النار: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إذ الاعتذار هو التوبة، وهي غير مقبولة بعد الدخول في النار فلا ينفعكم الاعتذار، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) ، أي جزاء أعمالكم، أي إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح بأن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة، لا يعودون إليها، وقرأ شعبة بضم النون وهو مصدر، أي ذات نصوح أو تنصح نصوحا، أو توبوا لينصح أنفسكم. والباقون بفتحها فهو صفة مشبهة، عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي أن يغفر لكم ذنوبكم بالتوبة وَيُدْخِلَكُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف «ليدخلكم» ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي صاحبوه في وصف الإيمان، والموصول إما معطوف على النبي وإما مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ عند المشي على الصراط، وَبِأَيْمانِهِمْ أي ويسعى عنن إيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون التاب بإيمانهم وفيه نور يَقُولُونَ أي المنافقين خائفين من أن يطفأ نورهم رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أبق لنا نورنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) . وقيل: الذين يمرون على الصراط حبوا وزحفا هم

[سورة التحريم (66) : الآيات 11 إلى 12]

الذين يقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف والسنان وَالْمُنْفِقِينَ بالحجة واللسان، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي واشدد على كلا الفريقين فيما تجاهدهما من القتال والمحاجة، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) مصيرهم ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفار، امْرَأَتَ نُوحٍ والهة وَامْرَأَتَ لُوطٍ والعة «1» كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما بالكفر، كما قاله عكرمة والضحاك. وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط. وعن ابن عباس كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فلم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله تعالى عن زوجتيهما لما عصتا من عذاب الله شيئا، وذلك تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) أي وتقول لهما خزنة النار: ادخلا النار مع الداخلين في النار وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل الله حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضر مع الإيمان، واسمها آسية بنت مزاحم آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه، وتلقف العصا، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، فإنه أوتدها بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة فقالت: رب نجني من فرعون، فرقى بروحها إلى الجنة، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، إِذْ قالَتْ- ظرف ل «مثلا» -: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أي رب ابن لي بيتا قريبا من رحمتك، وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفسه الخبيثة، وَعَمَلِهِ السيئ، وهو شركه أو جماعه، كما قاله ابن عباس، وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) أي من القبط التابعين له في الظلم، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الفواحش فإنها قذفت بالزنا فَنَفَخْنا فِيهِ أي في فرجها، كما قاله البقاعي. وقرئ فيها أي في مريم. وقال الرازي: وقوله تعالى فيه أي في عيسى ومن قرأ فيها في نفس عيسى، مِنْ رُوحِنا أي من روح خلقناه بلا توسط أصلا. والمعنى: أوصلنا إلى فرجها الريح الخارج من نفس جبريل لما نفخ في جيب قميصها، فوصل إليه، فحملت بعيسى، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي بالصحف المنزلة على إدريس وغيره. قال مقاتل: أي بعيسى ويدل عليه قراءة الحسن بكلمة ربها بالإفراد وقرئ «بكلمة الله» . وَكُتُبِهِ، وقرأ أبو عمرو وحفص بصيغة الجمع أي بالكتب الأربعة، والباقون و «كتابه» بالإفراد أي وبكتابه المنزل عليه وهو الإنجيل، وقوله تعالى: وَصَدَّقَتْ بالتخفيف والتشديد على أن مريم جعلت الكلمات والكتب صادقة بمعنى وصفتها بالصدق، وهو معنى التصديق بعينه وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) أي من القوم المطيعين لله في الشدة والرخاء.

_ (1) راجع مراح لبيد، النووي (ج 1/ ص 506) .

وقال عطاء: من المصلين، وهم رهطها، لأنهم أهل بيت صالحين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى، وضرب هذه الأمثال مشتمل على فوائد: منها: التنبيه على الثواب العظيم والعذاب الأليم. ومنها: العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر المصلح. ومنها: أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة ولا يأمن نفسه. ومنها: العلم بأن إحصان المرأة مفيد غاية الإفادة. ومنها: التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب.

سورة الملك

سورة الملك وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر. وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة، لأنها تجادل عن قارئها في القبر، وتدعى في التوراة المانعة، مكية، ثلاثون آية، ثلاثمائة وخمس وثلاثون كلمة، ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي تنزه الذي في قدرته سائر الكائنات عن أن يكون جسما أو في مكان غير ذلك من صفات الحوادث، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ (1) يتصرف فيه حسب ما تقتضيه مشيئته يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فالموت صفة وجودية مضادة للحياة. والمراد به الموت الطارئ، وبالحياة ما قبله وما بعده. وروى الكلبي عن ابن ابن عباس: أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار، ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي اه. وهذا كلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير. لِيَبْلُوَكُمْ وهو متعلق بخلق، أي خلق موتكم وحياتكم ليعاملكم معاملة من يختبركم، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أخلص عملا وأصوبه كما قاله الفضيل ابن عياض اه. وقال قتادة: أي أيكم أحسن عقلا، أي أتمكم عقلا، وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا. وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركا لها. وقال السدي: أيكم أكثر للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد خوفا وحذرا. وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل، الْغَفُورُ (2) لمن تاب من أهل الإساءة الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي مطابقة بعضها فوق بعض، والسماء الدنيا محيطة بالأرض إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية محيطة بالسماء الدنيا، وهكذا إلى أن يكون العرش محيطا بالكل، ما تَرى أيها المخاطب فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ للسموات ولغيرها مِنْ تَفاوُتٍ، أي من عدم تناسب.

[سورة الملك (67) : الآيات 11 إلى 20]

قرأ حمزة والكسائي «من تفوت» بتشديد الواو، فَارْجِعِ الْبَصَرَ أي رد بصرك إلى السماء هَلْ تَرى فيها مِنْ فُطُورٍ (3) ، أي شقوق وعيوب، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي ارجع البصر إلى السماء رجعة بعد رجعة وإن كثرت يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، أي بعيدا من إصابة ما التمسه من العيب، وَهُوَ حَسِيرٌ (4) أي كليل لكثرة المراجعة، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي القربي من الناس بِمَصابِيحَ أي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي جعلنا الكواكب رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب، إذا أرادوا استراق السمع، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ (5) بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من الشياطين وغيرهم، عَذابُ جَهَنَّمَ. وقرئ بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير، كما أن «للذين» عطف على «لهم» ، فهو عطف المفرد على المفرد وعلى هذا، فالوقف على «السعير» جائز. وإن قرئ عذاب جهنم بالرفع كما هو قراءة الجمهور فالوقف على «السعير» تام، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) جهنم إِذا أُلْقُوا أي الكفار فِيها سَمِعُوا لَها أي لجهنم شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمار، وَهِيَ تَفُورُ (7) أي والحال أن جهنم تغلي بهم غليان المرجل بما فيه، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تقرب جهنم تتفرق من شدة الغضب على الكفار. وقرئ شاذا «تتميز» على الأصل، كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها بطريق التوبيخ والتقريع، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا؟ قالُوا اعترافا منهم بعدل الله وإقرارا بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا ذلك النذير في كونه نذيرا من جهة الله تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات: ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ أي من كتاب، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) أي ما أنتم أيها النذر- في ادعاء أنه تعالى نزّل عليكم آيات- إلا في ضلال كبير أي بعيد عن الصواب، ويجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار. والمعنى: ما أنتم أيها الكفار إلا في ضلال كبير في الدنيا، وهو الشرك بالله، وفي هلاك عظيم في العذاب. وَقالُوا للخزنة: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) أي لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل من كان متفكرا لما كنا اليوم مع أهل الوقود في النار، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ أي أقروا بتكذيبهم الرسل وبكفرهم بآيات الله، فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) وهو منصوب إما على المفعول به أي ألزمهم الله سحقا، أي بعدا من رحمته أو على المصدر والتقدير: سحقهم الله سحقا أي باعدهم الله من رحمته مباعدة. وقرأ الكسائي بضم الحاء إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي حال كونهم في الخلوة حيث لا يراهم الناس، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) في الجنة وَأَسِرُّوا أيها الناس قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) ، أي عليم بالقلوب وأحوالها، فاحذروا من المعاصي سرا

[سورة الملك (67) : الآيات 21 إلى 30]

كما تحترزون عنها جهرا، فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى. قال ابن عباس: كانوا ينالون من رسول الله، فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد، فأنزل الله هذه الآية أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد جميع الأشياء، فمن خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) ، أي والحال أنه تعالى الفاعل للأشياء اللطيفة، العالم ببواطن الأمور هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، أي لينة يسهل عليكم السلوك فيها، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها أي فاسلكوا في جوانبها، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ أي كلوا مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أي المرجع بعد البعث، فبالغوا في شكر نعمه، أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ف «أن يخسف» بدل اشتمال من «من» ، أي أتأمنون يا أهل مكة من قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء، وهو متعال عن المكان أن يغور بكم الأرض بعد ما جعلها لكم لينة، فَإِذا هِيَ أي الأرض تَمُورُ (16) أي تضطرب وتتقلب، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أي بل أأمنتم أيها المكذبون من تزعمون أنه في السماء، وهو منزه عن المكان أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي ريحا فيها حجارة، فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) أي فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أي إنكاري وتغييري عليكم أليس وجدوا العذاب حقا، أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها وَيَقْبِضْنَ أي يضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند البسط والقبض إِلَّا الرَّحْمنُ أي الواسع رحمته كل شيء، وهذه الجملة مستأنفة، فالوقف على يقبضن تام كالوقف هنا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) فيكون الله رائيا لنفسه ولجميع الموجودات، أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ أي بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ف «أم» بمعنى بل و «من» اسم استفهام مبتدأ خبره اسم الإشارة. وقرأ طلحة بتخفيف الميم هنا وتشديده، ثم والمعنى: أهذا الذي هو جند لكم أم الذي يرزقكم، يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أي ما الكافرون إلا في غرور من الشيطان، فهو يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم، أعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول معتمدين على شيئين: أحدهما: قوتهم بمالهم وجندهم. وثانيهما: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات وقد أبطل الله عليهم الأول بقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ الآية. ورد عليهم الثاني بقوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ أي بل من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم بل لو كان الرزق موجودا سهل التناول، فوضع الآكل لقمة في فيه، فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد لعجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوا تلك اللقمة، بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أي بل تمادوا في أباء عن الحق

وشراد عن الإيمان، ثم ضرب الله مثلا للمشرك والموحد فقال: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) ، أي أفمن يمشي في مكان غير مستو فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصد، أم من يمشي معتدلا على طريق مستو لا عوج فيه ولا انحراف سالما من العثور والخرور؟ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي أوجدكم إيجادا بديعا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا به الآيات القرآنية، وَالْأَبْصارَ لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية، وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها فيما تسمعونه من الآيات التنزيلية، وفيما تشاهدونه من الآيات التكوينية، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (23) لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل إلى غير طلب مرضاته، فأنتم ما شكرتم نعمته ألبتة قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ، أي خلقكم وكثركم فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) في الآخرة للجزاء، وَيَقُولُونَ أي كفار مكة من فرط عنادهم، مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) أي إن كنتم صادقين بما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت مجيئه عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه غيره، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) أنذركم وقوع الموعود، فإن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع، فالعلم الأول كاف في الإنذار، العلم الثاني ليس إلا الله، فَلَمَّا رَأَوْهُ أي العذاب بعد الحشر زُلْفَةً أي ذا قرب سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اسودت وجوههم، وعلتها الكآبة، وصارت كوجه من يقاد إلى القتل، وَقِيلَ أي قال لهم الخزنة توبيخا: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاء، أو هذا الذي كنتم تدعون أنه باطل لا يأتيكم. وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك، ويعقوب، وأبو زيد، وأبو بكر، وابن أبي عبلة، ونافع في راوية الأصمعي بسكون الدال من الدعاء وهي مؤيدة للقول بأن تدعون مثقلة من الدعاء في قراءة العامة. وقيل: من الدعوى. قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ، أي إن أماتني الله وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا، فأيّ راحة لكم في ذلك، وأي منفعة لكم فيه. يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك حين خوّفهم النبي بعذاب الله، فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) أي من الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم أتظنون أن الأصنام تجيركم، فإذا علمتم أن لا مجير لكم منه سواء متنا أو بقينا فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث، قُلْ هُوَ أي الذي أدعوكم إلى عبادته الرَّحْمنُ أي معطي النعم كلها آمَنَّا بِهِ ولم نكفر به كما كفرتم، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره كما فعلتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم وهو لا يقبل دعاءكم، لأنكم أهل الكفر، فَسَتَعْلَمُونَ عند معاينة العذاب في الآخرة مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) أي ظاهر، أنحن أم أنتم.

وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بالياء التحتانية. قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض بالكلية أو بحيث لا تناله الدلاء، فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) أي ظاهر، سهل المأخذ تراه العيون فلا بدلهم، وأن يقولوا: لا يأتينا به إلا الله فقل لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وكان ماؤهم من بئر زمزم، وبئر ميمون. ويستحب أن يقول القارئ عقب مَعِينٍ: الله رب العالمين، كما ورد في الحديث.

سورة القلم

سورة القلم وتسمى سورة ن، مكية، اثنتان وخمسون آية، ثلاثمائة كلمة، ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا ن أقسم الله بالنون، وهي السمكة التي تحمل الأرضين على ظهرها، واسمها: ليواش، وهي في الماء تحت الأرض السفلى وتحتها الثور، واسمه: يهموت وتحته الصخرة، وتحتها الثرى، ولا يعلم ما تحته إلا الله تعالى وهذا مروي عن ابن عباس. وقيل: إنه تعالى أقسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه، وقيل: إنه تعالى أقسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه. والقول الثاني: وهو مروي أيضا عن ابن عباس أن النون هو الدواة، وعلى هذا أقسم الله تعالى بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» «1» . وَالْقَلَمِ أقسم الله بالقلم وهو قلم من نور، طوله كما بين السماء والأرض، وَما يَسْطُرُونَ (1) أي وما كتب الملائكة في صحفهم يكتبون فيها المقادير التي تنفع في العالم، ينتسخون ذلك من اللوح المحفوظ، ما أَنْتَ يا أكرم الخلق بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) أي أنت بريء من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرئاسة العامة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته، فلم تجده، فإذا به وجهه متغير فقالت له: ما لك؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له: اقرأ باسم ربك، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ، ثم توضأت، ثم صلى وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة يا محمد» فلما ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لخديجة ذهبت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، فسألته فقال: أرسلي إلي محمدا، فأرسلته، فأتاه فقال: هل أمرك جبريل أن تدعو إلى الله أحد فقال: لا، فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا، ثم مات

_ (1) رواه ابن كثير في التفسير (5: 448) ، والحاكم في المستدرك (2: 454) ، وابن حبيب في مسند الربيع (3: 10) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7: 318) . [.....]

[سورة القلم (68) : الآيات 11 إلى 20]

قبل دعاء الرسول، فلما دعا صلّى الله عليه وسلّم كفار قريش إلى الله قالوا: إنه لمجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وَإِنَّ لَكَ يا أكرم الخلق على ما تحملت من أثقال الرسالة ومن ألوان الشدائد من جهة قومك لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) أي غير مقطوع، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) كانت نفسه صلّى الله عليه وسلّم شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك، وقال أنس: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلت؟ ولا في شيء لم أفعله: هلا فعلت. فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) أي فستعلم يا محمد ويعلم المشركون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، أو فسترى يا محمد ويرون في الدنيا أنك تصير معظما في القلوب وأنهم يصيرون ذليلين، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) والباء إما زائدة أي أيكم الذي فتن بالجنون، أو بمعنى في أي الفريقين المجنون، أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفار ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» . وقيل: إن المفتون مصدر جاء على مفعول والتقدير: بأيكم الفتون؟ أي الجنون. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) أي وهو أعلم بالعقلاء وهو المهتدون إلى سبيله، الفائزون بكل مطلوب، الناجون عن كل محذور، فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وهم رؤساء أهل مكة الذين دعوه صلّى الله عليه وسلّم إلى دين آبائهم، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) أي تمنوا إن تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك وإن يتركوا بعض ما لا ترضى به فتلين لهم ويلينون لك، و «لو» مصدرية، أي ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك، وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ أي كثير الحلف في الحق والباطل، مَهِينٍ (10) أي ضعيف في دين الله، حقير في التدبير والتمييز، مُعْتَدٍ أي ظلوم أَثِيمٍ (12) ، أي مبالغ في الإثم، عُتُلٍّ أي شديد الخصومة أو واسع البطن بَعْدَ ذلِكَ، أي مع تلك المثالب زَنِيمٍ (13) ، أي دعي ملصق بالقوم وليس منهم، والظرف متعلق «بزنيم» . قيل: هو الوليد ادعاه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من ولادته ونسبه لنفسه بعد أن كان لا يعرف له أب، ولما نزلت هذه الآية قال لأمه: إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها، فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك. فقالت له: إن أباك أي المغيرة عنين، فخفت على المال، فمكنت الراعي من نفسي، وكان للوليد عشرة من البنين، وكان يقول لهم ولأقاربه: لئن تبع دين محمد أحد منكم لا أنفعه بشيء أبدا، فمنعهم من الإسلام، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وألفا، ولا يعطي المسكين درهما واحدا. وهذه الآية عند أكثر المفسرين نزلت في

[سورة القلم (68) : الآيات 21 إلى 30]

الوليد بن المغيرة، وعند ابن عباس في أبي جهل، وعند مجاهد في الأسود بن عبد يغوث، وعند السدي في الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة. أَنْ كانَ أي لأجل أن كان هذا الموصوف، ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) ، وهذا إما متعلق بما قبله أي لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ الآية، لكثرة ماله وأولاده أو بما دل عليه ما بعده، أي إنه كفر بآياتنا، لأن كان ذا مال وبنين وفي قراءة سبعية «أأ» بهمزتين مفتوحتين أي ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه أو ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، وكان مال الوليد بن المغيرة نحو تسعة آلاف مثقال من فضة وبنوه عشرة، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) ، أي هي أحاديث الأولين في كذبهم، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) أي سنجعل له في الآخرة علامة على أنفه، يعرف بها أهل القيامة أنه كان في عداوة الرسول وفي إنكار الدين الحق. كما قاله قتادة. قال ابن عباس: أي سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش. وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال، إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أهل مكة بالقحط بدعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم بعد يوم بدر سبع سنين كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي أهل البساتين كانت بصروان. روي أن واحدا من ثقيف وكان مسلما كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه وقالوا: عيالنا كثير والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين مثل ما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم، وكانوا بعد عيسى ابن مريم بزمن يسير، إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) أي حين حلفوا بالله ليقطعن ثمر نخليهم في وقت الصباح، وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) أي لا يقولون: إن شاء الله أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) ، أي فطرقها في الليل طارق من عذاب الله. قال الكلبي: أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي فصارت البساتين بالاحتراق شبيهة بالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شيء، أو صارت كالليل في اسودادها، أو كالنهار في ابيضاضها من فرط اليبس فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) أي فنادى بعضهم بعضا عند طلوع الفجر، أي اذهبوا إلى الثمار والزروع والأعناب، فاصرموها إن كنتم قاصدين للصرم ولا تخبروا المساكين، فَانْطَلَقُوا إلى البساتين وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) ، أي والحال أنهم يتسارون فيما بينهم كلاما خفيا أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) ، و «أن» مفسرة أي لا تدخلوا مسكينا في البساتين. وقرأ ابن مسعود بطرح «أن» على إضمار القول. والمعنى: «يتخافتون» يقولون: لا تمكنوا المسكين من الدخول في البساتين حتى يدخل وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) أي وصاروا قاصدين إلى بساتينهم قادرين على صرامها، ومنع منفعتها على المساكين في ظنهم، أو أرادوا أن يحرموا المساكين وهم

[سورة القلم (68) : الآيات 31 إلى 40]

ظنوا أنهم قد أخطئوا الطريق فقالوا: إنا لضالون طريق بستاننا، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا: لسنا ضالين بل نحن محرومون منفعة جنتنا بشؤم عزمنا على البخل، ومنع الفقراء، ويحتمل أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا: إنا لضالون في الاعتقاد حيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها، وحيث كنا عازمين على منع الفقراء بل الأمر انقلب علينا فصرنا محرومين، قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أفضلهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) أي هلا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم حيث عزمتم على منع الزكاة؟ قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا عن أن يجري في ملكه ما لا يشاؤه، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) بالإقسام على جذ الجنة في الصباح ومنع المساكين وترك الاستثناء. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) أي يلوم بعضهم بعضا يقول واحد منهم: أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر: أنت الذي خوفتنا بالفقر ويقول الثالث: أنت الذي رغبتني في جمع المال. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) أي يا هلاكنا هذا وقت منادمتك لنا إنا كنا متجاوزين حد الله بمنعنا المساكين، عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها أي أن يعطينا خيرا من جنتنا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالذنوب. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) أي طالبون منه الخير، راجون عفوه وروي أنهم قالوا: إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا، فتضرعوا إلى الله تعالى بالدعاء، فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها، فإن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة المحترقة، فيجعلها بزعر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن القوم أخلصوا، وعرف الله منهم الصدق، فأبدلهم الله جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا واحدا كم كبره. وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت فيها كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة في صروان عذاب الدنيا لمن منع حق الله من ماله، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ لمن لا يتوب أَكْبَرُ من عذاب الله في الدنيا، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) أنه أكبر لاحترزوا عما يؤديهم إليه، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) ، أي جنات ليس لهم فيها إلا التنعم الخالص، لا يشويه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فأقصى أمركم أن تساوونا فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين أي مساوين لهم في العطاء، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أي أيّ شيء يحصل لكم يا أهل مكة، وأيّ حال يدعوكم إلى هذا الحكم هل هو صادر عن اختلال فكر أو اعوجاج

[سورة القلم (68) : الآيات 41 إلى 50]

رأي، أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أي بل ألكم كتاب نازل من السماء فيه تقرأون أن لكم في ذلك الكتاب ما تشتهون في الآخرة. وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة، وهو منصوب ب «تدرسون» إلا أن في اسمها زيادة لام التأكيد، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي أم لكم عهود مؤكدة بالأيمان، بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ والجار والمجرور إما متعلق ببالغة، أي أيمان تبلغ ذلك اليوم، وإما بالمقدر أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، ويكون معنى بالغة مؤكدة. وقرأ زيد بن علي والحسن «بالغة» بالنصب على الحال من «أيمان» ، أو من الضمير في الظرف، إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) وهذا جواب القسم، لأن المعنى أقسمنا لكم أيمانا موثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم في الآخرة، وهو أن تسووا بين المسلمين والكافرين، سَلْهُمْ يا أشرف الرسل: أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارج عن العقول زَعِيمٌ (40) أي قائم أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أي أو هل لهم ناس يساعدونهم على صحة ذلك القول فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ أي بمن يشاركونهم في ذلك القول ويكفلونه لهم بصحته، إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) في دعواهم ويقال: المعنى: أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب، فليأتوا بآلهتهم إن كانوا صادقون أن لهم ما قالوا، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي يوم يشتد الأمر. قال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها بحيث تصير عيانا. وقرئ «تكشف» بالتاء الفوقية على البناء للفاعل، أو المفعول والفعل للحال، أو للساعة أي يوم تشتد الحال، أو الساعة عن أمر. وقرئ «تكشف» بالتاء المضمومة وكسر الشين، أي يوم تدخل الحال في الكشف عن أمر كانوا في عمى منه في الدنيا. وقرئ «نكشف» بالنون وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا على تركهم إياه في الدنيا بعد ما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) السجود، تبقى أصلابهم فقارة واحدة مثل حصون الحديد، خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من واو «يدعون» ، تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي تلحقهم ذلة شديدة بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم، وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أي إلى الصلوات بالأذان والإقامة في الدنيا دعوة تكليف، وَهُمْ سالِمُونَ (43) أي أصحاء قادرون على الصلاة فلا يجيبون الداعي، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي خل يا أشرف الخلق بيني وبينهم فإني أكفيك أمرهم، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سننزلهم إلى العذاب درجة فدرجة، مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) أي كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار، وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم ليزدادوا إثما إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أي إن ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه، قوي لا يدفعه شيء ولا يطلع عليه أحد أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي أم تلتمس من أهل مكة أجرا دنيويا على الإيمان، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أي فهم لأجل ذلك مكلفون حملا ثقيلا من غرامة مالية يعطونكها، فيعرضون عنك أَمْ عِنْدَهُمُ

[سورة القلم (68) : الآيات 51 إلى 52]

الْغَيْبُ أي أم عندهم علم ما غاب عنهم، كأنه حضر في عقولهم فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) على الله، أي يحكمون عليه بما شاءوا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم، وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ أي ولا يكن حالك يا أشرف الخلق كحال يونس عليه السلام من الضجر والمغاضبة فتبتلي ببلائه، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) إذ نادى في بطن الحوت بقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وهو مملوء غما- كما قاله ابن عباس ومجاهد- أو كربا- كما قاله عطاء وأبو مالك- والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس، لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) أي لولا هذه النعمة التي هي توفيقه للتوبة وقبولها منه لطرح بالأرض الخالية من الأشجار مع وصف المذمومية. وقرئ «رحمة من ربه» . وقرأ ابن هرمز والحسن «تداركه» بتشديد الدال. وقرأ ابن عباس وابن مسعود «تداركته» ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ أي رد عليه الوحي بعد أن انقطع عنه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) أي الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى. روي أن هذه الآية نزلت في أحد حين حل برسول الله ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا. وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف. وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ أي أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا، بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك. وقرئ في السبعة «ليزلقونك» بضم الياء وفتحها. وقرئ «ليزهقونك» . روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله، فنزلت هذه الآية. لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم بالقرآن، وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ أي محمدا لَمَجْنُونٌ (51) فأجابهم الله تعالى بقوله: وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) ، أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه صلّى الله عليه وسلّم إلا عظة للجن والإنس.

سورة الحاقة

سورة الحاقة مكية، إحدى وخمسون آية، مائتان وست وخمسون كلمة، ألف وأربعمائة وثمانون حرفا الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) أي أيّ شيء هي وَما أَدْراكَ أي وأيّ شيء أعلمك مَا الْحَاقَّةُ (3) أي إنك لا علم لك يا أشرف الخلق بكنهها، ومدى عظمها، والحاقة هي الساعة الثابتة الوقوع، الواجبة المجيء، أو التي تحق فيها الأمور، أي تعرف على الحقيقة، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) أي بالحالة التي تقرع قلوب الناس بالإفزاع وهي القيامة، وقوارعها انفطار السماء، وانشقاقها، ودك الأرض، ونسف الجبال، وطمس النجوم وانكدارها، فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) أي بالصيحة المجاوزة للحد في القوة، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ، أي باردة عاتِيَةٍ (6) ، أي مجاوزة للحد في شدة عصفها، سَخَّرَها أي سلطها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، أي متتابعة من صبيحة أربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، فكان آخرها هو اليوم الأخير منه، فَتَرَى الْقَوْمَ أي قوم هود إن كنت حاضرا وقتئذ فِيها أي في مهاب الريح صَرْعى، أي موتى مجندلين على الأرض، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) أي كأنهم أصول نخل ساقطة بالية، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) ؟ قال قوم: أي لم يبق من نسل أولئك القوم أحد. وقال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام، أحياء في عقاب الله من الريح، فلما أمسوا اليوم الثاني ماتوا، فاحتملتهم الريح، فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ. وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن عنده من أتباعه وجنوده، ويؤيده قراءة ابن مسعود، وأبيّ وأبي موسى «ومن تلقاءه» . وقرأ أبي أيضا ومن معه، والباقون بفتح القاف وسكون الباء أي من تقدمه من الأمم. وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي أهل القريات الخمسة المنقلبات قوم لوط، وهي صنعة، وصعرة، وعمرة، ودوما، وسذوم بِالْخاطِئَةِ (9) أي بالخطإ، كتكذيب البعث، وكاللواط والصفع والضراط، وغير ذلك من أنواع المعاصي، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ موسى ولوطا وغيرهما، فَأَخَذَهُمْ أي الله تعالى أَخْذَةً رابِيَةً (10) ، أي زائدة في

[سورة الحاقة (69) : الآيات 11 إلى 20]

الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي ارتفع الماء وزاد أعلى جبل خمسة عشر ذراعا، وذلك في زمن نوح حَمَلْناكُمْ في أصلاب آبائكم فِي الْجارِيَةِ (11) أي في سفينة نوح عليه السلام، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً أي لنجعل هذه القصة التي هي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة لكم، تتعظون بها وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) ، أي ليحفظها قلب حافظ ويقال: تسمع هذا الأمر أذن سامعة، فتنتفع بما سمعت. وقرأ نافع بسكون الذال وقرأ العامة «وتعيها» بكسر العين. وروي عن ابن كثير ساكنة العين، وذلك مثل «ويتقه» في قراءة من سكن القاف، فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وهي نفخة البعث. وقرأ أبو السماك بنصب «نفخة واحدة» على المصدر وبإسناد الفعل إلى الجار والمجرور وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي وبعد خروج الناس من قبورهم رفعت الأرض والجبال من أماكنها إما بالزلزلة أو بريح، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله من غير سبب فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) . أي ضربت إحدى الجملتين بالأخرى ضربة واحدة، فتفتت وصارت كثيبا مهيلا فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) أي قامت القيامة الكبرى. وهذا جواب «إذا» ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ لنزول الملائكة، فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) أي ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة شديدة، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي والملائكة واقفون على أطراف السماء التي لم تسقط، فهؤلاء من جملة المستثنى ممن يموتون في الصعقة الأولى. وقيل: إنهم يقفون لحظة على أطراف السماء ثم يموتون، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي حال كون العرش فوق الملائكة الواقفين على جوانب السماء يَوْمَئِذٍ أي يوم وقعت الواقعة، ثَمانِيَةٌ (17) من الأملاك وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله تعالى بأربعة أخرى، فكانوا ثمانية على صورة الأوعال» «1» ، أي تيوس الجبل. وفي حديث آخر: «لكل ملك منهم وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس» . قال بعضهم: واسم أحدهم روقيل ولبنان. وقال ابن عباس: هم ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى يَوْمَئِذٍ أي يوم قامت القيامة تُعْرَضُونَ على الله، أي تسئلون وتحاسبون. وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات: عرض للحساب والمعاذير، وعرض للخصومات والقصاص، وعرض لتطاير الكتب وقراءتها. لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) أي لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم،

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (18: 266) .

[سورة الحاقة (69) : الآيات 21 إلى 30]

وتظهر أحوال أهل العذاب، فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم. وقرأ حمزة والكسائي «لا يخفى» بالياء التحتية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ كأبي سلمة بن عبد الأسد. فَيَقُولُ لأصحابه تبجحا وابتهاجا: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) أي خذوا كتابي وانظروا ما فيه من الثواب والكرامة، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) أي إني في الدنيا تيقنت أني ألقى حسابي في الآخرة ولم أنكر البعث. وروى أبو هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه، فتكتب حسناته في ظهر كفه، وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له: اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح، ثم يقول: هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت عند النظرة الأولى أني ملاق حسابيه على سبيل الشدة، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم» . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) أي منسوبة إلى الرضا فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) في المكان والدرجة قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) أي ثمارها قريبة يتناولها القاعد يقول الله لهم: كُلُوا من الثمار وَاشْرَبُوا من الأنهار هَنِيئاً، أي بلا تعب في تحصيل الأكل والشراب وبلا داء في تناولهما بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) ، أي بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي أيام الدنيا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ كالأسود بن عبد الأسد فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) ، أي لم أعط كتابي هذا الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة، وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) أي أيّ شيء حسابي من ذكر العمل وذكر الجزاء، يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) أي ليت هذه الحالة كانت موتة انتهيت إليها، أو ليت الموتة التي مت بها في الدنيا كانت قطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقى، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) ، و «ما» إما نافية و «مالية» كلمة واحدة، أي ما دفع عني من عذاب الله مالي الذي جمعته في الدنيا أو استفهامية، و «ما ليه» كلمتان. أي أيّ شيء نفعني مما كان لي من المال والأتباع هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) أي ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا أو ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، فيقول الله تعالى يومئذ لخزنة النار: خُذُوهُ أيتها الزبانية فَغُلُّوهُ (30) أي شدوه بالأغلال، فيبتدر إليه مائة ألف ملك وتجمع يده إلى عنقه ورجله إلى وراء قفاه إلى ناصيته، ثُمَّ الْجَحِيمَ أي النار العظمى صَلُّوهُ (31) أي شووه، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي قدرها بذراع الملك سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) أي أدخلوه. قال ابن عباس: تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه، ثم يجعل في عنقه سائرها. وقال نوف البكالي: كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد مما بين مكة والكوفة، إِنَّهُ كانَ في الدنيا لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) ، أي ولا يحث على بذل طعام المسكين. وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) أي فليس له في ذلك الوقت في مجمع القيامة قريب يدفع عنه ويحزن عليه، وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) .

[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 إلى 50]

قال الكلبي: هو ما يسيل من أهل النار إذا عذبوا من القيح والدم والصديد، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ (37) أي المتعمدون للذنوب وهم المشركون. وقرأ الزهري، والعتكي، وطلحة، والحسن «الخاطيون» بياء مضمومة بدل الهمزة. وقرأ نافع- في رواية- وشيبة بطاء مضمومة بدون همز، أي الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) ، و «لا» مزيدة أو أصلية رد لإنكارهم البعث، أي أقسم بما تبصرون يا أهل مكة من شيء، كالسماء والأرض، والشمس والقمر، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وما لا تبصرون من شيء، كالجنة والنار، والعرش، والكرسي وجبريل عليه السلام، فالأشياء لا تخرج من قسمين مبصر وغير مبصر. فالأقسام يعم جميع الأشياء على الشمول، إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) على الله وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نسب القرآن هنا لرسول الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته، ونسب في سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] إلى سيدنا جبريل عليه السلام، لأنه الذي أنزله من السموات إلى الأرض وهو كلام الله تعالى بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ، وهو الذي رتبه، ولذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إن القرآن قول الله نزل به جبريل على رسول كريم محمد صلّى الله عليه وسلّم وَما هُوَ أي القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) أي ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر، لأنه مباين لصنوف الشعر إلا أنكم لا تقصدون الإيمان به، فلذلك تعرضون عن التدبر ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم أنه شعر، 3 وليس بقول رجل كاهن، لأنه وارد بشتم الشياطين، إلا أنكم لا تتذكرون اشتماله على سب الشياطين، فلذلك تقولون: إنه من باب الكهانة و «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف، أي تؤمنون إيمانا قليلا وتذكرون تذكرا قليلا فإنهم قد يؤمنون في قلوبهم ويتذكرون بها، إلا أنهم يرجعون عن ذلك سريعا، ولا يتمون الاستدلال كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [المدثر: 18] وقال في آخر الأمران: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر: 24] ، وإما نافية فينتفي إيمانهم وتذكرهم ألبتة، أي لا يؤمنون أصلا بأن القرآن من الله ولا يتذكرون أصلا كيفية نظم القرآن. قال مقاتل: وسبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل: شاعر. وقال عقبة: كاهن. فرد الله تعالى عليهم بذلك. وقرأ ابن كثير وكذا ابن عامر على خلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية في «يؤمنون» ، و «يذكرون» وخفف ذال «تذكرون» حمزة والكسائي وحفص. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) أي بل هو تنزيل من موجدهم على محمد على وجه التنجيم. وقرأ أبو السماك «تنزيلا» أي نزل تنزيلا، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) أي ولو نسب محمد إلينا قولا لم نقله، لأخذنا يمينه، ثم لضربنا رقبته، فإن الوتين

[سورة الحاقة (69) : الآيات 51 إلى 52]

هو عرق متصل بالرأس من القلب، وهذا تمثيل بما يفعله الملوك بمن يكذب عليهم، والمراد أنه لو كذب علينا لأمتناه ويقال: لو نسب محمد إلينا قولا لم نأذن له في قوله لسلبنا عنه القوة، ثم لقطعنا نياط قلبه بضرب عنقه، ويقال: لو افترى محمد علينا قولا من الكذب لأخذناه بقوة منا. وقال مقاتل: لانتقمنا منه بالحق فاليمين بمعنى الحق كقوله تعالى: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل الحق. وقرئ «ولو تقول» على البناء للمفعول فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) أي فليس منكم أيها الناس أحد يمنعنا عن محمدا وعن عقابه، وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) لأنهم المنتفعون به، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ أيها الناس مُكَذِّبِينَ (49) بالقرآن بسبب حب الدنيا فنجازيهم على تكذيبهم، وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ أي ندامة عَلَى الْكافِرِينَ (50) عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين يوم القيامة، وكذا في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين. قال مقاتل: أي وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) أي وإن القرآن لحق يقين إنه كلامي نزل به جبريل على رسول كريم. ويقال: وإن الحسرة على الكافرين يوم القيامة حق يقين، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) أي اذكر توحيد ربك العظيم تنزيها له عن الرضا بنسبة ما هو بريء منه وشكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك.

سورة المعارج

سورة المعارج وتسمى سورة سأل سائل، مكية، أربع وأربعون آية، مائتان وست عشرة كلمة، ثمانمائة وأحد وستون حرفا سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ أي طلب طالب عذابا هو واقع بالكافرين في الدنيا والآخرة ليس لذلك العذاب من يدفعه عنهم من جهة الله تعالى، لأنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله. قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث حيث قال إنكارا واستهزاء: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، فقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة ابن أبي معيط. وقال الربيع: هو أبو جهل حيث قال: أسقط علينا كسفا من السماء. وقيل: وهو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في علي رضي الله عنه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» «1» ، قال: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر، فوقع على دماغه، فخرج من دبره، فمات من ساعته، فنزلت هذه الآية. وقال الحسن وقتادة: لما بعث الله محمدا وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض: سلوا محمد لمن هذا العذاب، وبمن يقع؟ فأخبره الله عنهم بقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أي عن عذاب، فعلى هذا فقوله تعالى: سَأَلَ سائِلٌ حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقه قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ [الأعراف: 187] وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [يس: 48] . قال أبو السعود: ولعل هذا القول أقرب وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف محضة. وقرأ ابن عباس: «سال سيل بعذاب واقع للكافرين» أي اندفع عليهم واد من أودية جهنم بعذاب واقع،

_ (1) رواه أحمد في (م 1/ ص 84، 118) ، وابن ماجة في المقدّمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد. وقرأ أبي «على الكافرين» . ذِي الْمَعارِجِ (3) أي ذي السموات فهو خالقها كما قاله ابن عباس، وسميت معارج، لأن الملائكة يعرجون فيها. وقال قتادة أي ذي الفواضل والنعم وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة. وقيل: أي ذي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة، تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ وهو جبريل إِلَيْهِ أي إلى انتهاء موضع كرامته تعالى وهو الموضع الذي لا يجري لأحد سواه تعالى فيه حكم. وقيل: إلى عرشه. وقرأ الكسائي «يعرج» بالياء التحتية فِي يَوْمٍ من أيامكم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) من سني الدنيا أي يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان إلى خمسين ألف سنة لو فرض ذلك. وقال وهب: ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى. وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقوله تعالى: فِي يَوْمٍ متعلق بتعرج كما عليه الأكثرون. وقال مقاتل: هو متعلق ب «واقع» وقيل: متعلق ب «سال» بغير همزة وهو الذي من السيلان، وعلى هذا فالمراد بذلك اليوم يوم القيامة، والمراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ثم يستقر أهل النار في دركات النيران. قال بعضهم: وهذه المدة واقعة في الآخرة لكن على سبيل التقدير، والمعنى: لو اشتغل بتلك الحكومة والمحاسبة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة، ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحساب في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا (5) أي فاصبر صبرا بلا جزع على استهزاء النضر وأمثاله بك، وعلى تكذيب الوحي، وعلى تعنت كفار مكة في السؤال عليك، فهذا متعلق بقوله تعالى: سَأَلَ ومن قرأ «سال» بألف محضة فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه، فاصبر، فقد جاء وقت الانتقام، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) أي إن الكفار يستبعدون اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة من الإمكان على جهة الإحالة، ونعلمه قريبا من الإمكان هينا في قدرتنا غير متعذر علينا، ويقال: إن كفار مكة يعتقدون العذاب غير واقع يوم القيامة، ونعلمه واقعا لا بد من وقوعه، وهذا تعليل للأمر بالصبر، يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) أي تصير السماء كدردي الزيت، وهذا الظرف متعلق ب «ليس له دافع» أو بما في معناه كيقع، أي يقع العذاب يوم تكون إلخ، أو متعلق ب «قريبا» إذا كان الضمير في نراه للعذاب، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) أي تصير الجبال كالصوف المصبوغ ألوانا، وإنما وقع التشبيه به، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش

[سورة المعارج (70) : الآيات 11 إلى 20]

إذا طيرته الريح، وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) أي لا يسأل قريب قريبه عن أحواله كيف حالك، ولا يكلمه، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام، أو لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته فلا يقال: لحميم أين حميمك؟ يُبَصَّرُونَهُمْ أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه. وقرئ «يبصرونهم» أي يرونهم ولا يعرفونهم اشتغالا بأنفسهم، يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي يتمنى المشرك أن يفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأولاده وزوجته وأخيه، وأقاربه الأقربين الذين فصل عنهم، وينتهي إليهم التي تضمه في النسب وتحميه في النوائب ومن في الأرض جميعا من الخلائق وقرأ نافع والكسائي «يومئذ» بفتح الميم على البناء لإضافة يوم إلى مبني. والباقون بكسرها على الإعراب على الأصل في الأسماء. وقرئ «من عذاب يومئذ» بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» ب «عذاب» لأنه في معنى تعذيب، ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) معطوف على يفتدي، أي يتمنى الكافر أن يفتدي نفسه بهذه الأشياء ثم أن ينجيه ذلك الافتداء، كَلَّا وهذا هنا إما بمعنى حقا، فحينئذ كان الوقف على «ينجيه» وهو وقف تام. وإما بمعنى لا فحينئذ كان الوقف على «كلا» وهو وقف تام، وهذا أولى، ولا يجمع بينهما في الوقف بل الوقف في أحدهما فقط أي لا ينفعه ذلك الافتداء ولا ينجيه من العذاب، إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) . وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص، أو على حال مؤكدة، والكناية عائدة على النار لدلالة لفظ العذاب عليها، وقرأ الباقون بالرفع فتجعل الكناية حرف عماد و «لظى» اسم «إن» و «نزاعة» خبرها، كأنه قيل: إن لظى نزاعة، أو تجعل ضمير القصة وهو اسم إن و «لظى» مبتدأ و «نزاعة» خبرا، والجملة خبر عن «إن» والتقدير: أن القصة لظى نزاعة للشوى أي قلاعة للأعضاء التي في أطراف الجسد، ثم تعود كما كانت وهكذا أبدا فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ عن الطاعة وَتَوَلَّى (17) عن الإيمان وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) أي جمع المال فجعله في وعاء ولم يؤد حقوقه، أي إن النار تدعوهم بلسان الحال أو أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا: إلي يا كافر إلي يا منافق، ثم تلتقطهم الحب فقوله تعالى: أدبر وتولى، إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله تعالى وطاعته وقوله: وَجَمَعَ إشارة إلى الحرص وقوله: فَأَوْعى إشارة إلى طول الأمل وهذه مجامع آفات الدين. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) أي جبل جبلة هو فيها قلة الصبر وشدة الحرص إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) ، أي إذا أصابه الفقر والمرض ونحوهما صار جازعا شاكيا، وإذا أصابه السعة والصحة صار مانع المعروف شحيحا بماله، غير ملتفت إلى الناس، وإنما ذم الله الإنسان على ذلك، لأنه قاصر النظر عن الأحوال الجسمانية العاجلة، فالواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال

[سورة المعارج (70) : الآيات 31 إلى 40]

الآخرة، فإذا وقف في مرض أو فقر كان راضيا به لعلمه أنه فعل الله تعالى، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية، إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) بأن لا يتركوها في وقت من الأوقات ولا يشغلهم عنا شاغل، وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس، لِلسَّائِلِ أي الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ (25) أي الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا، فيحرم، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعا في التوبة الأخروية، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) أي خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استعظاما لجنابه تعالى واستقصارا لأعمالهم الحسنة. إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) فلا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وإن بالغ في الطاعة، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي الأربع أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الولائد بغير عدد، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) بالاستمتاع بهن فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي فمن، طلب لنفسه وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات، فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) أي المجاوزون للحدود، فدخل في هذا حرمة وطء الذكور والبهائم والزنا، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ أي لما ائتمنوا عليه من أمر الدين والدنيا، وَعَهْدِهِمْ فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم وبين الناس راعُونَ (32) ، أي حافظون بالوفاء. وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد. وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) . وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع. والباقون على التوحيد، أي يقومون بالشهادات بالحق عند الحكام ولا يكتمونها، وهذا الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إظهارا لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق، وفي تركها تضييعها. وروى عطاء عن ابن عباس قال: والمراد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له، وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أي يهتمون بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الثمانية فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) بالثواب والتحف فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) أي أيّ شيء ثبت لكفار مكة مسرعين جهتك، مادي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) ، أي مجتمعين فهذه الأربعة أحوال من الموصول. روي أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون منه ويستهزئون بكلامه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد: فلندخلنها قبلهم فنزلت هذه الآية، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كما يدخلها المسلمون كَلَّا أي لا يكون ما طمعوا فيه أصلا، لأن ذلك تمن فارغ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) وهو النطفة المذرة فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم؟ ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم فكيف يليق دخولهم الجنة لو

[سورة المعارج (70) : الآيات 41 إلى 44]

لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة؟ فَلا أُقْسِمُ، أي إذا كان الأمر كما ذكر من أنا خلقناهم مما يعلمون فأقسم بِرَبِّ الْمَشارِقِ أي مشارق الشتاء والصيف، وَالْمَغارِبِ أي مغارب الشتاء والصيف فلمشرق الشتاء والصيف مائة وثمانون منزلا، وكذلك للمغربين إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ، أي بطريق الإهلاك ولم يحصل ذلك وإنما هدد الله تعالى القوم بهذا لكي يؤمنوا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) أي بعاجزين على أن نبدل خيرا منهم، وليس تأخير عقابهم لعجز بل لحكمة داعية إليه، فَذَرْهُمْ أي اتركهم فيما هم فيه من الأباطيل يَخُوضُوا في باطلهم، وَيَلْعَبُوا في دنياهم، أو يهزئوا في كفرهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور بدل من يومهم بدل كل من كل. وقرئ «يخرجون» على البناء للمفعول سِراعاً إلى جهة صوت الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ. وقرأه ابن عامر وحفص بضم النون والصاد وهي التي تنصب فتعبد من دون الله تعالى، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد، وهي رواية وقرأ أبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتين أي منصوب كالعلم. وقرأ الحسن وقتادة بضمة فسكون وهو الصنم المنصوب للعبادة يُوفِضُونَ (43) أي يسرعون خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ فلا يرفعونها ولا يرون خيرا تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي يعلوهم سواد الوجوه، ذلِكَ أي وقوع الأحوال الهائلة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) في الدنيا إن لهم فيه العذاب، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه.

سورة نوح

سورة نوح مكية، ثمان وعشرون آية، مائتان وأربع وعشرون كلمة، تسعمائة وتسعمائة وعشرون حرفا إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وكانوا جميع أهل الأرض أهل عصره أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ وأن حرف مصدري والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: «أنذر» أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، ويجوز أن تكون مفسرة. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول والتقدير: أنا أرسلناه وقلنا له: أنذر، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة، فلما جاءهم قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أي موضح لحقيقة الأمر بلغة تعلمونها، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بالتقوى، ويتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وَأَطِيعُونِ (3) فالأمر بطاعة نوح يتناول أداء جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فالإسلام يجبه، وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي إلى أمد قدره الله تعالى لهم بشرط الإيمان أي إن الله قضى على قوم نوح مثلا إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم الله على رأس تسعمائة سنة، إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي إن ما قدر الله لكم على تقدير بقائكم على الكفر إِذا جاءَ وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه، لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به، فلما أيس نوح منهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم يؤمنوا ولم يقبلوا نصيحته. قالَ أي نوح: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً (5) أي دائما، من غير فتور فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) مما دعوتهم إليه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان والتوبة لِتَغْفِرَ لَهُمْ بسببهما، جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم لكيلا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي غطوا رؤوسهم بثيابهم لكي لا يسمعوا صوتي ولا يروني، وَأَصَرُّوا على الكفر والمعاصي وَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان والتوبة اسْتِكْباراً (7) عظيما بالغا إلى النهاية القصوى، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ إلى التوحيد والتوبة جِهاراً (8) أي بأعلى صوتي، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ

[سورة نوح (71) : الآيات 11 إلى 20]

إِسْراراً (9) ، فمراتب دعوة نوح عليه السلام ثلاثة فبدأ بالمناصحة في السر، فجازوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، وهي أشد من الإسرار، ثم جمع بين الإعلان والإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد فَقُلْتُ لهم: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) في حق كل من استغفره يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) أي مطرا دائما، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ، أي يعطكم أموالا إبلا وبقرا وغنما وبنين ذكورا وإناثا، وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) تجري لمنافعكم. قيل: لما كذبوا نوحا عليه السلام حبس الله عنهم المطر أربعين سنة، وقطع نسل دوابهم ونسائهم أربعين سنة وأهلك جناتهم، وأيبس أنهارهم قبل ذلك بأربعين سنة فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا أن يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) ، أي والحال أن الله خلقكم على حالات شتى نطفا، ثم علقا ثم مضغا ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر وهو إلقاء الروح فيه ويقال: والحال أنه تعالى خلقكم أصنافا مختلفين يخالف بعضكم بعضا، أَلَمْ تَرَوْا أي ألم تخبروا يا كفار مكة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) أي متوازية بعضها فوق بعض مثل القبة، ملتزقة أطرافها، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي منورا لوجه الأرض في ظلمة الليل ونسبته للكل مع أنه في السماء الدنيا، لأن كل واحدة من سبع سموات شفافة لا يحجب ما وراءها، فيرى الكل كأنها سماء واحدة، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) يزيل الظلمة ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) أي أنبتكم من الأرض، فنبتم نباتا عجيبا، والمعنى: والله أنشأكم منها فنشأتم نشأة عجيبة، فإنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات، المتولد من الأرض ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها بالدفن عند موتكم، وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر، إِخْراجاً (18) محققا لا ريب فيه، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) أي لتأخذوا فيها طرقا واسعة. قالَ نُوحٌ مناجيا له تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به من التوحيد والتوبة، وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً (21) وهم رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى الكفر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم «ولده» بفتح الواو واللام. والباقون بضم الواو وإسكان اللام وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) معطوف على صلة من أي واتبعوا من مكروا إلخ، أي كأن الرؤساء قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا، لأنه فقير فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح أو قالوا لأتباعهم هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك. وهذه

الإشارة صارفة لهم عن الدين وقرأ العامة كبارا بضم الكاف وتشديد. الباء وقرأ عيسى وأبو السماك وابن محيصن بالضم والتخفيف. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا بكسر الكاف وتخفيف الباء. وَقالُوا أي الرؤساء للسفلة معطوف على الصلة أيضا، أي واتبعوا من قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها إلى عبادة رب نوح، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) أي ولا تتركن عبادة هؤلاء. وقرأ نافع «ودا» بضم الواو والباقون بفتحها وقرأ العامة «يغوث ويعوق» بغير تنوين للعلمية والوزن، أو للعلمية والعجمة. وقرأهما الأعمش مصروفين للتناسب أو على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ولعل هذه الأسماء الخمسة أسماء أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم حتى بعث الله نوحا عليه السلام، ولهذا السبب نهى الرسول عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها وقال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن زيارتها تذكرة، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً معطوف على صلة من أي واتبعوا من قد أضلوا خلقا كثيرا وهم الرؤساء، أو الأصنام أجريت مجرى الآدميين كقوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ. وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِلَّا ضَلالًا (24) أي عذابا أو ضلالا في أمر دنياهم، وهذا معطوف على قوله تعالى: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح بعد «قال» ، وبعد «الواو» النائبة عنه، قالوا: وليست من كلام نوح لئلا يعطف الإنشاء على الإخبار لكن الظاهر أن المراد بالأخبار طلب للنصرة عليهم، فيجوز أن تكون الواو من كلام نوح، أي قال نوح: رب إنهم عصوني وقد عجزت وأيست عنهم فانصرني عليهم وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا، مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا و «ما» صلة و «من» تعليلية أي من أجل خطيئاتهم وبسببها أغرقوا بالطوفان لا بسبب آخر، وقرأ أبو عمرو «خطاياهم» . وقرأ ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» فأخّر كلمة «ما» فعلى هذه القراءة ف «ما» مع ما بعده في تقدير المصدر. وقرئ «خطياتهم» بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها. وقرئ «خطيئتهم» بالتوحيد على إرادة الجنس، أو إرادة الكفر فقط والخطيئات والخطايا كلاهما جمع خطيئة إلا أن الأول جمع سلامة، والثاني جميع تكسير فَأُدْخِلُوا ناراً في القبر فإن عذاب القبر عقب الإغراق وإن كانوا في الماء، لأن الفاء تدل على أن إدخالهم في النار حصل عقب الإغراق فلا يمكن حمل النار على عذاب جهنم في الآخرة. قال الضحاك: إنهم كانوا في حالة واحدة يغرقون من جانب ويحرقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) . وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت هي على دفع عذاب الله تعالى عنهم. وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) أي أحدا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن دينك من آمن بك ومن أراد أن

يؤمن بك، وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) أي إلا من سيفجر ويكفر، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أي أبوي لمك وشمخا بنت أنوش، فإنهما كانا مؤمنين وأخرج ابن أبي حاتم أن المراد: والده وجده، فاسم أبيه لمك واسم جده متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام بعدها خاء معجمة. وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويحيى ابن يعمر والنخعي ولولدي، أي ابني سام وحام. وقرأ ابن جبير والجحدري ولوالدي بكسر الدال، أي أبي فيحتمل أن يريد عليه السلام أباه الأقرب الذي ولده وأن يريد جميع من ولده، من لدن آدم إلى من ولده وكان بينه وبين آدم عشرة آباء ولم يكن منهم كافر كما قاله عطاء، وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ أي منزلي، أو مسجدي أو سفينتي. وقيل: لمن دخل دخولا مع تصديق القلب مُؤْمِناً خرجت بهذا القيد امرأته وابنه كنعان، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الذين يكونون من بعدي إلى يوم القيامة وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ أي الكافرين إِلَّا تَباراً (28) أي إلّا هلاكا فاستجاب الله دعاءه عليه السلام فأهلكهم بالكلية.

سورة الجن

سورة الجن وتسمى قل أوحى، مكية، ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة، ثمانمائة وسبعون حرفا قُلْ يا أشرف الخلق: أُوحِيَ إِلَيَّ وقرأ أبو عمرو في رواية يونس وهارون وحي بضم الواو بغير ألف. وقرئ «أحي» بالهمزة من غير واو، أي أنزل إلى جبريل فأخبرني أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، أي أن الشأن استمع القرآن تسعة نفر من جن نصيبين باليمن، فَقالُوا بعد ما آمنوا ورجعوا إلى قومهم: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا عَجَباً (1) ، أي خارجا عن عادة أمثاله من الكتب الإلهية مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى الصواب وهو لا إله إلا الله، فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن، أو بالرشد الذي في القرآن- وهو التوحيد- وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وذكر الحسن أن منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين، وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي وأن الحديث ارتفع عظمة ربنا، أي عظم سلطانه، أو ارتفع غناه، أي وصفه بالاستغناء عن الزوجة والولد، أو تعالى حقيقته عن جميع جهات التعلق بالغير. وقرئ «جد ربنا» بكسر الجيم أي تعالى صدق ربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. وقرئ «جدا ربنا» بنصب «جدا» على التمييز مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) . هذه الجملة مفسرة لما قبلها وبعضهم جعل «ما» مصدرية متعلقة بتعالى، فحينئذ تكون «لا» زائدة، أي تعالى صفة ربنا ما اتخذ زوجة وولدا كما نسبه الكفار، وَأَنَّهُ أي الحديث كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي جاهل منا وهو إبليس عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) أي قولا مجاوزا للحد بعيدا عن الصدق وهو وصفة تعالى بإثبات الشريك والصاحبة والولد، وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) أي كنا نظن أنه لن يكذب على الله تعالى أحد أبدا، ولذلك اتبعنا قوله. وهذا اعتذار منهم تقليدهم لسفيههم إبليس، وَأَنَّهُ أي الحديث كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ في الجاهلية يَعُوذُونَ أي يلتجئون بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) أي ظلما وذلك أنهم إذا سافروا سفرا، أو اصطادوا صيدا، أو نزلوا واديا خافوا من الجن لأنها تعبث بهم في بعض الأحيان فقالوا: نعوذ

[سورة الجن (72) : الآيات 11 إلى 20]

بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيأمنون بذلك ولا يرون إلا خيرا فتزيد الجن والإنس إضلالهم حتى استعاذوا بهم، وَأَنَّهُمْ أي الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) بعد الموت أو أنه لن يبعث الله أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وأنا قبل أن آمنا طلبنا بلوغ السماء لاستماع كلام أهلها فصادفناها قد ملئت من جهة الحراس الأقوياء، وهم الملائكة الذين يمنعون من الاستماع ومن شعل منقضة من نار الكواكب، وَأَنَّا كُنَّا قبل مبعث محمد نَقْعُدُ مِنْها أي السماء مَقْعَدِ خالية من الحرس لِلسَّمْعِ أي لأجل الاستماع، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ أي بعد مبعث محمد في مقعد من المقاعد يَجِدْ لَهُ أي لأجله شِهاباً رَصَداً (9) أي شهابا قد أرصد له ليرجم به، وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) أي وأنا لا نعلم أشر أريد بمن في الأرض حين منعنا عن الاستماع، أم أراد بهم ربهم خيرا، أي ولما سمعوا قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم علموا أنهم منعوا من صعود السماء حراسة للوحي، وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المتقون، وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي ومنا قوم غير صالحين كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) . أي كنا قبل هذا ذوي مذاهب مختلفة. قال السدي: الجن أمثالكم فيهم مرجئة، وقدرية، وروافض، وخوارج وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي وأنا علمنا الآن أن الشأن لن نعجز الله أينما كنا من أقطار الأرض، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) أي هاربين من الأرض إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم آمَنَّا بِهِ أي بالقرآن، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) ، أي فمن يؤمن بربه فهو لا يخاف نقصا في جزاء حسناته، ولا ظلما بزيادة جزاء سيئاته، وهذا دليل على أن من حق من آمن بالله تعالى أن يجتنب المظالم. وقرأ الأعمش «فلا يخف» ، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي وأنا بعد سماع القرآن مختلفون، فمنا المخلصون في صفة الإسلام، ومنا المائلون عن طريق الحق، فَمَنْ أَسْلَمَ أي أخلص بالتوحيد فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) أي وقصدوا طريق صواب، أَمَّا الْقاسِطُونَ أي المائلون عن سنن الإسلام، كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) . والجن وإن خلقوا من النار توقد نار جهنم بهم، كما توقد بكفرة الإنس فإن النار القوية تأكل النار الضعيفة. وقيل: هاهنا آخر كلام الجن، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا و «أن» مخففة من الثقيلة، والجملة معطوفة على أنه استمع والمعنى وأوحى إلى أن الحديث لو استقام الجن والإنس عَلَى الطَّرِيقَةِ أي على ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) أي ولوسعنا عليهم الرزق. وقرأ الأعمش بضم واو لو تشبيها بواو الضمير، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي في ذلك الماء الذي هو كناية عن العيش الواسع فإن من آمن بالله فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام اختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا؟ وهل ينفق تلك النعم في طلب مراضي الله أو في مراضي الشيطان؟ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عن طاعته وعن كتاب ربه القرآن يَسْلُكْهُ عَذاباً

[سورة الجن (72) : الآيات 21 إلى 28]

صَعَداً (17) أي يدخله في عذاب شديد. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية لإعادة الضمير على الله. والباقون بالنون. روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن «صعدا» جبل في جهنم وهو صخرة ملساء، أو نحاس، فيكلف الكافر صعودها، ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى فهذا دأبه أبدا، وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أي وأوحي إلي أن المساجد لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) ، أي فلا تعبدوا مع الله أحد أحدا غيره، والمراد بالمساجد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة، فيدخل فيها الكنائس والبيع، ومساجد المسلمين، وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المسلمين بالتوحيد والإخلاص، وَأَنَّهُ أي وأوحى إلى أن الحديث لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) ، أي لما قام النبي يعبد الله لصلاة الفجر ببطن نخل كاد الجن يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته ومن اقتداء أصحابه به قائما، وراكعا، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، وقرأ نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف بناء على أن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، والمعنى: وأنه لما أقام النبي يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمين ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره على من عاداه، وقرأ هشام «لبدا» بضم اللام. والباقون بكسرها. واعلم أن «أن» المشددة في هذه السورة ستة عشرة، ثنتان منها يجب فيهما الفتح «أنه استمع» و «أن المساجد لله» . وواحدة يجب فيها الكسر «إنا سمعنا» . وثلاثة عشر يجوز فيها الوجهان فالاثنتا عشرة فتحها الأخوان وابن عامر، وحفص، وكسرها الباقون وهي: و «أنه تعالى جد ربنا» و «أنه كان يقول» و «أنا ظننا» ، و «أنه كان رجال» و «أنهم ظنوا» ، و «أنا لمسنا السماء» ، و «أنا منا» و «أنا لا ندري» ، و «أنا منا الصالحون» و «أنا ظننا» و «أنا لما سمعنا» ، و «أنا منا المسلمون» . والواحدة كسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون وهي: و «أنه لما قام عبد الله» قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي أعبده وأدعو الخلق إليه، وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) أي ولا أشرك بربي في العبادة أحدا. قرأ العامة «قال» على الغيبة. وقرأ عاصم وحمزة «قل» ليكون نظير لما بعده، وسبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا، ونحن نجيرك. فنزلت. وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ «قال» حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك أجابهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «إنما أدعو ربي» ، فحكى الله ذلك عنه بقوله قال: أو يكون ذلك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم، قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) ، أي إني لا أقدر أن

أدفع عنكم ضرا وكفرا، ولا أسوق إليكم نفعا ولا هدى. وقيل: الضر الموت، والرشد الحياة. ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو الله وأن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه، وقرأ أبيّ «غيا ولا رشدا» . قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) أي ملجأ، وموضع الاختفاء إن أرادني بضر، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ. وهذا استثناء من قوله: لا أَمْلِكُ وقوله: وَرِسالاتِهِ عطف على بلاغا ومن الله صفته لا صلته، أي لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني بها، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ العامة على كسر همزة إن لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، ولذلك حمل سيبويه ومن عاد فينتقم الله منه، ومن كفر فأمتعه، ومن يؤمن بربه فلا يخاف، على أن المبتدأ فيها مضمر. وقرأ طلحة بفتحها على أنها مع ما في حيزها في تأويل مصدر واقع خبرا لمبتدأ مضمر تقديره: فجزاؤه أن له نار جهنم، أو فحكمه أن له نار جهنم كقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال: 41] أي فحكمه أن لله خمسه، خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) بلا نهاية حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من فنون العذاب في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) ، أي أعوانا، فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين، أو في جانب الكفار، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) ، أي أجلا بعيدا لما سمع المشركون ذلك قال النضر بن الحرث إنكارا له واستهزاء به: متى يكون ذلك الموعود؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: قُلْ لمن تعجلوا بالعذاب إِنْ أَدْرِي فإن وقوعه متيقن، أما وقت وقوعه فغير معلوم، عالِمُ الْغَيْبِ خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم بنزول العذاب. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السدي «علم الغيب» بصيغة الماضي ونصب «الغيب» ، فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) أي لا يطلع الله على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحدا من خلقه، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، أي إلا رسولا ارتضاه لاطلاعه على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. وقرأ الحسن «يظهر» بفتح الياء والهاء و «أحد» فاعل به، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) أي فإن الله تعالى يجعل من جميع جوانب ذلك الرسول عند اطلاعه على غيبه حرسا من الملائكة يحفظونه من الجن لئلا يستمعوا قراءة جبريل، فيلقوها إلى النكهة قبل الرسول، حتى يبلغ جبريل ما أطلعه الله عليه من بعض الغيوب. وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره، فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين عنه، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان، فيحذره، فإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ واللام متعلق ب «يسلك» ، وضمير «أبلغوا» إما للرصد فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم الله أن الشأن قد أبلغ الرصد رسالات ربهم سالمة عن

الاختطاف والتخليط علما حاصلا بالفعل، وإما لمن ارتضى فالمعنى: ليعلم أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك، وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ حال من فاعل «يسلك» ، أي يسلكهم ليترتب على السلك علمه تعالى بما ذكر والحال أنه تعالى قد أحاط بما عند الرصد، أو عند الرسل من الأحوال جميعا، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ مما كان وما سيكون عَدَداً (28) أي فردا فردا. وهو تمييز منقول من المفعول به. وقرئ «ليعلم» بالبناء للمفعول.

سورة المزمل

سورة المزمل وهي عشرون آية، مائتان وخمس وثمانون كلمة، ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم تهجينا لما كان عليه من الحالة حيث كان صلّى الله عليه وسلّم متلففا بقطيفة، مستعد للنوم كما يفعله من لا يهمه أمر، فأمر بأن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة، والهجود إلى التهجد. وقرئ «يا أيها المتزمل» . قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى صلاة الليل إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ بدل من الليل، أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أي أو انقص القيام من النصف نقصا قليلا إلى نصف النصف، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي أو زد القيام على النصف إلى الثلثين، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) أي بين القرآن في أثناء القيام تبيينا بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) ، أي سنوحي قرآنا منطويا على تكاليف شاقة على المكلفين، إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً بفتح الواو وسكون الطاء عند الجمهور. وقرأ قتادة وشبل بكسر الواو وسكون الطاء، والمعنى: أن قيام الليل بالصلاة هي أشد نشاطا وثبات قدم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر «وطاء» بكسر الواو وفتح الطاء، أي موافقة للخشوع والإخلاص وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) أي أصوب قراءة، وأحسن لفظا من النهار لسكون الأصوات، إِنَّ لَكَ يا سيد الرسل فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) ، أي تقلبا طويلا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل. وقرئ «سبخا» بالخاء المنقطة من فوق، أي تفرق قلب بالشواغل ويقال المعنى: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ فاصرفه إليه، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكر اسم ربك ليلا ونهارا على أيّ وجه كان من تسبيح وتهليل، وتحميد، ودعاء، وصلاة، وقراءة قرآن، ودراسة علم. قال سهل: أي قل بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء قراءتك توصلك ببركة قراءتها إلى ربك وتقطعك عما سواه اه. أي سواء قرأت في الصلاة أو في خارجها، وهذا إذا قرأ من أول سورة، وأما إذا قرأ من أثناء سورة فإنه إن كان في غير الصلاة سن له أن يبسمل وإن كان فيها لم تسن له البسملة، لأن قراءة السورة بعد الفاتحة تعد قراءة واحدة، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) أي انقطع إلى الله تعالى عن الدنيا بإخلاص العبادة، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالجر على البدل من ربك، أو على القسم بإضمار حرف

[سورة المزمل (73) : الآيات 11 إلى 20]

القسم، وعند ابن عباس، لكن قراءته «رب المشارق والمغارب» . والباقون بالرفع على المدح وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أو على الابتداء وخبره جملة، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) فالإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة فيكون في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين. وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين. وقوله: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا إشارة إلى مقدم التفويض وهو أن يرفع الاختيار ويفوض الأمر بالكلية إليه تعالى، فإن أراد الله أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل، وإن أراد له عدم التبتل رضي الله به لا من حيث ذلك بل من حيث ذلك مراد الله تعالى وهاهنا آخر الدرجات، وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مما لا خير فيه فمن أراد المخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير، وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) بأن يجانبهم بقلبه ويخالفهم في الأفعال مع المداراة، وترك المكافأة وهذا هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يأتي النسخ بمثله، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ أي اتركني وأرباب التنعم وكل أمرهم إلي، وهم صناديد قريش، وهذا بفتح النون فهو بمعنى الترفه، إما بكسرها فهي بمعنى الأنعام وإما بضمها فهي بمعنى المسرة، وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) أي زمانا قليلا أيام الحياة الدنيا فقتلوا ببدر، إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي إن لهم عندنا في الآخرة أمورا مضادة لتنعمهم قيودا تقيد بها أرجلهم وأغلالا تغل بها إيمانهم إلى أعناقهم وسلاسل توضع في أعناقهم، وَجَحِيماً (12) أي نارا عظيمة يدخلونها وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، أي تمسك في الحلوق وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً (13) وهو أنواع العذاب يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا، أي استقر لهم عندنا ما ذكر يوم تزلزل الأرض وأوتادها، وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا (14) ، أي وصارت الجبال ترابا متناثرا بعضه على بعض لرخاوته، وسمي الكثيب كثيبا، لأن ترابه دقاق، إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا أهل مكة رَسُولًا- محمدا صلّى الله عليه وسلّم- شاهِداً عَلَيْكُمْ أي يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر التكذيب، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ ملك مصر رَسُولًا (15) - وهو موسى عليه السلام- فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ الذي أرسلناه إليه، فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا (16) أي فعاقبناه عقوبة شديدة- وهي الغرق- فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) أي فكيف تقون أنفسكم إن بقيتم على الكفر في الدنيا عذاب يوم يصير ذلك اليوم الولدان شمطا، إذا سمعوا حيث يقول الله لآدم: ابعث بعثا من ذريتك إلى النار. قال آدم: يا رب، من كم؟ قال الله تعالى: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. وقرأ زيد بن علي «يوم يجعل» بإضافة الظرف للجملة والفاعل ضمير راجع إلى الله تعالى، أي فكيف لكم يا أهل مكة بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ، أي منشق بذلك

اليوم لشدة هوله وهذه الجملة صفة ثانية ل «يوما» وقرئ «متفطر» أي متشقق، كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) والمصدر إما مضاف للمفعول أي كان وعد ذلك اليوم مفعولا، أي كان الوعد المسند إلى ذلك اليوم واجب الوقوع، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه، وإما مضاف إلى الفاعل أي كان وعد الله لمجيء ذلك اليوم واقعا لا محالة، لأنه تعالى منزه عن الكذب، إِنَّ هذِهِ أي الآيات تَذْكِرَةٌ أي موعظة مشتملة على أنواع الإرشاد فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) أي فمن شاء النجاة اشتغل بالطاعة واحترز عن المعصية، فإن ذلك هو المنهاج الموصل إلى مرضاته تعالى، إِنَّ رَبَّكَ يا أشرف الخلق يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ. قرأهما ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصبهما معطوفين على «أدنى» ، أي أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث. والباقون بجرهما معطوفين على «ثلثي الليل» ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من النصف والثلث، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ معطوف على ضمير «تقوم» ، أي ويقوم معك جماعة من أصحابك، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فلا يعلم مقادير أجزاء الليل والنهار إلا الله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، أي علم الله إن الحديث لن تقدروا على تقدير الأوقات، ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدا، فالضمير عائد إلى مصدر الفعل، أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم تحصيل تلك المقادير على سبيل الظن إلا مع المشقة التامة فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فرجع الله بكم إلى ترخيص ترك القيام المقدر، فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ولو ركعتين. والصحيح أن أول ما فرض عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد الدعاء إلى التوحيد: التهجد على التخيير المذكور أول السورة فعسر عليهم القيام به، فنسخ بما تيسر من التجهد، ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى أي علم الله أنه سيوجد منكم مرضى لا يستطيعون الصلاة بالليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، أي وسيوجد آخرون يسافرون في الأرض يطلبون رزق الله يشق عليهم صلاة الليل، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي وسيوجد آخرون يجاهدون في طاعة الله، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، لأنهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ، أي فصلوا ما تيسر لكم من التهجد. وهذا تأكيد للأول، فالأول مفرع على قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ إلخ. وهذا مفرع على قوله: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ إلخ فكل واحد من المؤكد والمؤكد مفرع على حكمة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي أعطوا زكاة أموالكم وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن تنفقوا سائر الإنفاقات في سبيل الخيرات عن طيب قلب وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خير كان من عبادات البدن والمال تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت كما قاله ابن عباس. وقرأ أبو السمال «هو خير وأعظم أجرا» بالرفع على الابتداء والخبر، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في كافة أحوالكم فإن الإنسان لا يخلو من تفريط إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لجميع الذنوب رَحِيمٌ (20) للمؤمنين.

سورة المدثر

سورة المدّثّر ست وخمسون آية، مائتان وخمس وخمسون كلمة، ألف وعشرة أحرف. يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) أي يا من لبس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد. روى جابر بن عبد الله أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت، ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا فنزل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» «1» . وعن الزهري: إن أول ما نزل سورة: اقْرَأْ [العلق: 1] إلى قوله تعالى: ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] ، ثم انقطع الوحي، فحزن رسول الله وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة فقال: «دثروني وصبوا علي ماء باردا» «2» فنزل جبريل فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنْذِرْ (2) أي قم من مضجعك، فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) أي عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) عن النجاسات ويقال: و «ثيابك فقصر» ، لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم، فكانت ثيابهم تتنجس، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والتكبير، فنهى الرسول عن ذلك. وقال أكثر المفسرين: أي وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة. وقال الحسن: وخلقك فحسن، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) . قرأ عاصم في رواية حفص بضم الراء في هذه السورة، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر. قال أبو العالية: «الرجز» بضم الراء: الصنم، وبالكسر النجاسة والمعصية. وقال ابن عباس: أي المأتم فاترك ولا تقربنه أي دم على تركه، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) مرفوع منصوب المحل على الحال، أي ولا تعط طالبا للكثير، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) .

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 392) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: سورة المدّثّر. (2) رواه أحمد في (م 3/ ص 392) ، والبخاري في كتاب تفسير القرآن، باب: سورة المدّثّر.

[سورة المدثر (74) : الآيات 11 إلى 20]

روي أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلّى الله عليه وسلّم قام الوليد ودخل داره، فقال القوم: إن الوليد قد صبا، فدخل عليه أبو جهل وقال: إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: إن الوليد بقي على دينه الباطل لأجل المال، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق، لا لشيء غيره، وهذا الأمر كله تعريض بالمشركين كأنه قيل لرسول الله: وربك فكبر، لا الأوثان، وثيابك فطهر ولا تكن كالمشركين فهم نجس البدن والثياب، والرجز فاهجر ولا تقربه كما تقربه الكفار، ولا تمنن تستكثر كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال، وكانوا يستكثرون ذلك القليل، أي كانوا رائين لما يعطونه كثيرا، ولربك فاصبر على هذه الطاعات لا للأعراض العاجلة من المال والجاه، فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) أي فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فوقت النقر يوم إذ نقر يوم عسير على الكل من المؤمنين والكافرين، كما روي أن الأنبياء يومئذ يفزعون، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد وذلك قوله تعالى. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) وعلى المؤمنين يسير، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) منصوب على الذم والتقدير: أعني وحيدا أو حال من العائد المحذوف، أي اتركني ومن خلقته منفرد، أي بلا أب فهو زنيم، أو منفردا في الشرارة وهو الوليد بن المغيرة المخزومي، لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه لرئاسته ويساره وتقدمه في الدنيا، وكان يلقب بالوحيد وكان يقول: أنا الوحيد ابن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) أي مبسوطا. قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقرة، والغنم، والحجور، والجنان، والعبيد، والجواري. وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وَبَنِينَ ثلاثة عشر كما قاله أبو مالك وسعيد بن جبير، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهو سيف الله وسيف رسوله وهشام وعمارة، شُهُوداً (13) أي حضورا معه بمكة لا يفارقونه ألبتة لأنهم كانوا أغنياء، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) أي وبسطت له الجاه والرياسة في قومه حتى لقب ريحانة قريش ووحيدا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) على ما أوتيه. قيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة الأولى كَلَّا، أي لا تكون له زيادة على ذلك أصلا فليرتدع من هذا الطمع، فلم يزل الوليد بعد قوله تعالى: كَلَّا في نقصان ماله حتى افتقر ومات فقيرا، إِنَّهُ أي الوليد بن المغيرة كانَ لِآياتِنا الدالة على التوحيد والقدرة والعدل، وصحة النبوة، وصحة البعث عَنِيداً (16) أي رادا وهو يعرفها بقلبه وينكرها بلسانه، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) أي سأكلفه مشقة من العذاب. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت، فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت وعنه صلّى الله عليه وسلّم الصعود جبل من نار

[سورة المدثر (74) : الآيات 21 إلى 30]

يصعد فيه سبعين خريفا، ثم يهوي فيه كذلك أبدا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) أي إن العنيد فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقوله، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) أي فلعن في دنياه على أي كيفية أوقع تقديره، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) أي ثم لعن فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة على أي حال كان تقديره، وهذا تعجيب من قوة خاطره، ثُمَّ نَظَرَ (21) في ذلك المقدر في القرآن مرة بعد مرة ثُمَّ عَبَسَ أي قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا، ولم يدر ماذا يقول، وَبَسَرَ (22) أي قبض جبينه، ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق وَاسْتَكْبَرَ (23) أي تعظم عن اتباعه، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) أي ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقل عن أهل بابل، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) أي ما هذا الذي أتى به محمد إلا قول البشر جبر ويسار. روي أن الوليد مر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ حم السجدة، فلما وصل إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبا الوليد ولو صبا لصبأت قريش كلها، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال: مالك يا بن أخي؟ فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه، وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد. فقال: والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا! ولكني تفكرت في أمره كثيرا فلا أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمد مجنون فهل رأيتموه يخنق قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: اللهم لا ثم قالوا: فما هو؟ ففكر، فقال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن أهل بابل، فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله، متعجبين منه، فلما أقر الوليد بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله في الآخر من أن القرآن سحر وقول البشر إنما ذكره على سبيل العناد لا على سبيل الاعتقاد، فإن السحر يتعلق بالجن، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) أي سأدخله في الطبقة السادسة من جهنم المسماة بسقر وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) أي أيّ شيء أعلمك ما هي في وصفها، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) أي لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا إلا أكلته، فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، وهذه رواية عطاء عن ابن عباس. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) أي ظاهرة للبشر من مسيرة خمسمائة عام. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة وزيد بن علي، وعطية «لواحة» بالنصب على الاختصاص، أو على الحال المؤكدة، أي مغيرة للأبشار عَلَيْها أي النار، تِسْعَةَ عَشَرَ (30) ملكا.

[سورة المدثر (74) : الآيات 31 إلى 40]

وحكى الواحدي عن المفسرين أن خزنة النار تسعة عشر مالك ومعه ثمانية عشر، أعينهم كالبرق، وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منه الرحمة والرأفة، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه، ويرميهم حيث أراد من جهنم، وحكمة هذا العدد أن أبواب جهنم سبعة، فستة منها للكفار، وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد، وترك الإقرار، وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة، والمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول بل بسبب ترك العمل فقط، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة، فالمجموع تسعة عشر. ويقال: إن الساعات أربعة وعشرون وخمسة منها مشغولة بالصلوات الخمسة، فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فحقا صار عدد الزبانية تسعة عشر، وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ أي القائمين بتعذيب أهل النار، إِلَّا مَلائِكَةً فلا تقاس الملائكة بالسجانين. روي أنه لما نزل قوله تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم. قال ابن أبي كبشة: إن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزلت وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم فتغالبونهم، وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإنهم يقولون: هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام القيامة، لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لأن هذا العدد موجود في التوراة والإنجيل، فلما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على وفق ذلك من غير سابقة تعلم، علموا أن ذلك حصل بسبب الوحي من السماء، فالذين آمنوا بمحمد استيقنوا أن ذلك العدد هو الصدق. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً بما رأوا من تصديق أهل الكتاب ذلك، وعلموا أن في كتابنا مثل ما في التوراة، وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، إذ لم يكن العدد خلاف ما في كتابهم، وَالْمُؤْمِنُونَ لانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي شك في صدق القرآن وَالْكافِرُونَ القاطعون بكذبه: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي أيّ شيء أراد الله بهذا العدد القليل حال كونه عددا عجيبا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ أي يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء بهذا المثل إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ أي إن الخزنة تسعة عشر ولهم جنود من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، خلقوا لتعذيب أهل النار وَما هِيَ أي سقر إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) ، أي إلا عظة للخلق ليتذكروا كمال قدرة الله تعالى وأنه لا يحتاج إلى أعوان. كَلَّا أي حقا أو تنبهوا إلى ما سيلقى إليكم. وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) .

[سورة المدثر (74) : الآيات 41 إلى 50]

قرأ نافع وحفص وحمزة بسكون الذال المعجمة، والدال المهملة، وبينهما همزة مفتوحة، أي وقت ذهب. والباقون بفتح الذال المعجمة والدال بينهما ألف. أي إذا جاء. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) أي أضاء. وقرأ عيسى بن الفضل، وابن السميقع سفر ثلاثيا، أي طرح الظلمة إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) أي إن سقر لإحدى دركات جهنم نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) تمييز من «إحدى» أي إنها لإحدى الدواهي انذارا للبشر وفي قراءة أبي نذير بالرفع لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) وقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ بدل من قوله تعالى: لِلْبَشَرِ أي نذير لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى، أو يتأخر عن خير فيضله الله، كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) أي كل نفس مرهونة عند الله بكسبها غير مفكوكة، إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فإنهم فأكون رقابهم بأعمالهم الحسنة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) أي يسأل أصحاب اليمين حال كونهم في جنات الكافرين عن أحوالهم حال كونهم في النار قائلين، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) أي أيّ شيء أدخلكم في هذه الدركة من النار، قالُوا مجيبين للسائلين: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) الصلوات الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) أي لم نك نعطي المسكين ما يجب علينا إعطاؤه له كنذر وكفارة وزكاة، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) أي بيوم الجزاء حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) ، أي الموت، أي إنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت قال تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) أي لا تنالهم شفاعة الملائكة والأنبياء والصالحين، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) ، أي فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) . قرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي مذعورة ذعرها القناص. والباقون بكسرها أي نافرة من صوت الناس، أو من ظلمة الليل فَرَّتْ أي الحمر مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) أي أسد سمي بذلك لأنه يقهر السباع، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) أي طرية لم تطو بأن تأتيهم وقت كتابتها، فإن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين، إلا فلان ابن فلان ونؤمر فيه باتباعك. وعن ابن عباس كانوا يقولون: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته من النار، كَلَّا أي لا يؤتون الصحف فلا تقترحوا ذلك، بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) في زمن من الأزمان، فلذلك يعرضون عن التذكرة كَلَّا أي حقا إِنَّهُ أي القرآن، تَذْكِرَةٌ (54) أي عظمة عظيمة من الله توجب اتباعه، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) أي فمن شاء أن يتعظ بالقرآن اتعظ به وجعله نصب عينيه، وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي ولا يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن يشاء الله ذلك. وقرأ نافع بتاء الخطاب. وقرئ بالياء والتاء مشددا هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) أي هو حقيق بأن يتقيه عباده، ويطيعوه وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا.

سورة القيامة

سورة القيامة مكية، تسع وثلاثون آية، مائة وسبع وتسعون كلمة، ستمائة واثنان وخمسون حرفا لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا والآخرة، فإذا اجتهدت في الطاعة تلوم نفسها على عدم الزيادة، وإذا قصرت تلوم نفسها على التقصير والمعنى: لا أقسم عليك بذلك اليوم ولا بتلك النفس، ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت، فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك وذلك قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أي المكذب بالبعث، أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) أي أن الحديث لن نقدر على أن نجمع عظامه بعد تفريقها. وقرأ قتادة «أن لن تجمع عظامه» على البناء للمفعول. روي أن عدي بن أبي ربيعة- ختن الأخنس بن شريق- قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد، ولم أومن بك، أو يجمع الله العظام بعد صيرورتها ترابا، فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس: المراد بالإنسان هاهنا أبو جهل فإنه أنكر البعث بعد الموت. قال تعالى في جوابه: بَلى فهذه الكلمة أثبتت ما بعد النفي- وهو الجمع- أي بلى نجمعها والوقف هنا تام. وقال أبو عمرو: كاف قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) أي كنا قادرين أن نخلق أطراف أصابعه في الابتداء، فوجب أن نبقى قادرين على الإعادة في الانتهاء. وقرأ ابن أبي عبلة «قادرون» بالرفع، أي ونحن قادرون. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) أي بل يريد الإنسان أن يكذب بيوم القيامة، وهو أمامه فمن كذب حقا كان فاجرا، يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) أي يسأل الإنسان سؤال متعنت ومستبعد متى يوم القيامة، فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) . قرأ نافع بفتح الراء أي شخص البصر عند معاينة أسباب الموت والملائكة. والباقون بالكسر أي تحير البصر فزعا فلم يطرف. وقرأ أبو السمال «بلق» بمعنى انفتح، وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) أي ذهب ضوءه. وقرئ و «خسف القمر» على البناء للمفعول، أي ذهب بنفسه،

[سورة القيامة (75) : الآيات 11 إلى 20]

وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) بأن يطلعهما الله تعالى من المغرب، يَقُولُ الْإِنْسانُ المنكر للقيامة يَوْمَئِذٍ أي إذا عاين هذه الأحوال: أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) أي أين الفرار من النار، وقرئ بكسر الفاء، أي أين موضع الفرار؟ كَلَّا أي حقا أو لا تتمن الفرار، لا وَزَرَ (11) أي لا ملجأ، أي فلا جبل يواريه من النار إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) ، أي موضع قرارهم يوم إذ كانت هذه الأمور مفوضة إلى مشيئته تعالى، فإنه تعالى يدخل من يشاء الجنة، ومن يشاء النار، يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) أي يخبر كل امرئ عند وزن الأعمال بما عمل وبما ترك من عمل خيرا كان، أو شرا بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) ، أي بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأن جوارحه تنطق بذلك، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه شاهد على نفسه لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالقرآن لِسانَكَ قبل فراغ جبريل من قراءته عليك لِتَعْجَلَ بِهِ (16) ، أي لتأخذه على عجلة مخافة أن تنساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك وَقُرْآنَهُ (17) أي إثبات قراءته في لسانك، فَإِذا قَرَأْناهُ أي أتممنا قراءته، عليك بلسان جبريل فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) أي فاقرأ أنت بعد فراغنا من قراءته أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراء جبريل، فإذا سكت جبريل فاشرع أنت في القراءة، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) أي بيان ما أشكل عليك من معاليه وأحكامه على سبيل التفضل، كَلَّا أي لا تعجل يا أشرف الخلق وكن على أناة بَلْ أنتم يا بني آدم، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ولذلك تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) أي الدنيا، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة، أي إنهم يحبون العمل للدنيا ويتركون العمل لثواب الآخرة، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) ف «وجوه» مبتدأ و «ناضرة» نعت له، ويومئذ منصوب ب «ناضرة» و «ناظرة» خبره، و «إلى ربها» متعلق بالخبر والمعنى: أن الوجوه الحسنة يوم القيامة وهي وجوه المؤمنين ناظرة إلى الله تعالى لا يحجبون عنه، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) أي ووجوه شديدة العبوس يوم القيامة وهي وجوه الكفرة، توقن أن يفعل بها أنواع العذاب في النار، كَلَّا أي تنبهوا لما أمامكم من الموت الذي ينقطع عنده المحبة بينكم وبين الدنيا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) أي إذا بلغت الروح أعالي الصدر، وهي العظام المكتنفة بثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال: من حول المشرف على الموت على سبيل الطلب، أو على سبيل الإنكار من ينجيه مما هو فيه، وهل من طبيب فيداويه أو قال ملك الموت للملائكة: أيكم يرقى بروحه إلى السماء؟ وأيقن ذلك المحتضر أن ما نزل به فراق الدنيا واتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا ويساق في ذلك اليوم إلى حكم الله تعالى إذ إليه مرجع الخلائق، فَلا صَدَّقَ وهو معطوف على قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ.

قال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآيات في أبي جهل، أي فهو ما صدق بالدين، وَلا صَلَّى (31) أي ما صلى أبو جهل صلاة شرعية، وَلكِنْ كَذَّبَ ما يجب تصديقه من الرسول والقرآن، وَتَوَلَّى (32) أي أعرض عن الطاعة، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أي يتمدد ويختال في مشيته، لأن المتبختر يمد خطاه، فاستقبله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخذه، فهزه هزة أو هزتين وقال له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ، أي ويل لك يا أبا جهل وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكرهه، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) ، أي وعيدا لك يا أبا جهل، احذر يا أبا جهل فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه. وقال القاضي: المعنى: بعدا لك، بعدا لك، أي بعدا في أمر دنياك، وبعدا في أمر أخراك. قال قتادة ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل بالبطحاء وقال له: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» «1» . فقال أبو جهل بأيّ شيء تهددني يا محمد؟ فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني والله لأعز أهل هذا الوادي، وأعز من مشى بين جبليها. ثم انسل ذاهبا. فأنزل الله تعالى مثل ذلك: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف في الدنيا، ولا يحاسب بعمله في الآخرة، أَلَمْ يَكُ أي الإنسان نُطْفَةً أي ماء قليلا في صلب الرجل، وترائب المرأة مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) أي يصب في الرحم، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي ثم صار المني دما عبيطا بقدرة الله تعالى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً، أي فنفخ الله في ذلك الإنسان الروح فكمل أعضاءه. وهذا قول ابن عباس ومقاتل، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ أي فجعل الله من الإنسان الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) ، يجتمعان تارة في الرحم، وينفرد كل منهما عن الآخر تارة، وكان لأبي جهل ابن اسمه عكرمة وبنت اسمها جويرية. أَلَيْسَ ذلِكَ الذي أنشأ هذه الأشياء بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) للبعث، فالإعادة أهون من البدء في قياس العقل. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «سبحانك اللهم بلى» «2» . رواه أبو داود والحاكم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] إماما كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى. إماما كان أو غيره.

_ (1) رواه الطبري في التفسير (25: 80) . (2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (7: 235) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (21653) .

سورة الإنسان

سورة الإنسان وتسمى سورة هل أتى، وسورة الأمشاج، وسورة الدهر، مكية، إحدى وثلاثون آية، مائتان وأربعون كلمة، ألف وأربعة وخمسون حرفا هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) أي قد أتى بني آدم طائفة محدودة من الزمن الطويل غير مقدر في نفسه، غير مذكور بالإنسانية أصلا، وهي مدة الحمل. وقيل: وقد مرت على آدم أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح لم يكن شيئا مذكورا لا في السماء ولا في الأرض، بل كان جسدا مصورا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه، ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي من نطفة قد امتزج فيها الماءان: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له، وما كان من عصب وعظم وقوة، فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء. نَبْتَلِيهِ أي نختبره بالخير والشر كما قاله الكلبي. وقال الحسن: أي نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء. فَجَعَلْناهُ أي الإنسان سَمِيعاً بَصِيراً (2) ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية، إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الهدى والضلال بإنزال الآيات ونصب الدلائل، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ، أي ليكون الإنسان إما مؤمنا وإما كافرا. ويقال: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكرا وتارة كفورا. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في «أما» على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وإما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله، إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً (4) أي إنا هيّأنا للكافرين سلاسل تشد بها أرجلهم، ويقادون بها، وأغلالا تشد بها أيديهم إلى رقابهم، ونارا موقدة يحرقون بها. وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي «سلاسلا» بالتنوين. إِنَّ الْأَبْرارَ أي الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم، الموفين بنذرهم يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ أي إناء فيه خمر كانَ مِزاجُها

[سورة الإنسان (76) : الآيات 11 إلى 20]

كافُوراً (5) ، أي كانت تلك الخمر ممزوجة بماء عين كافور، فإن الكافور: اسم عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور، ورائحته، وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه، ولا مضرته، ويبدل من «كافورا» قوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أي يشرب عباد الله بماء تلك العين الخمر، لكونها ممزوجة بها، فالباء متعلقة بمحذوف حال من مفعول محذوف، أي يشرب المؤمنون الخمر ممزوجة بتلك العين، أو متعلقة ب «يشرب» والضمير يعود على «الكأس» ، أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، أو مزيدة ويدل له قراءة ابن أبي عبلة يشربها عباد الله، يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) أي يقودون العين حيث شاءوا من منازلهم، وتتبعهم، فحيث مالوا مالت معهم أي إن الرجل منهم يمشي في بيوته ويصعد إلى قصوره وبيده قضيب يشير به إلى الماء فيجزي معه حيثما دار في منازله على مستوى الأرض في غير أخدود ويتبعه حيثما صعد إلى أعلا قصوره، يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي بما أوجبوه على أنفسهم لوجه الله تعالى فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم، وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ أي شدائده مُسْتَطِيراً (7) ، أي سريع الوصول إلى أهله من العصاة، وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ، أي مع حاجتهم إلى الطعام. وقال الفضيل بن عياض: أي على حب إطعام الطعام، أي بأن يكون ذلك مع طيب النفس مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) ، أي مسجونا مسلما وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير قائلين بلسان الحال: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لطلب ثواب الله، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً أي مكافأة وَلا شُكُوراً (9) ، أي محمدة بقول أو بفعل. روي أن عائشة كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى، إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً أي تعبس فيه الوجوه قَمْطَرِيراً (10) أي شديدا. روي أن الكافر يعبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي شدائده بسبب خوفهم عنه، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) أي وأعطاهم بسبب طلب رضا الله حسنا في وجوههم، وفرحا في قلوبهم، وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانا فيه مأكل هني، وحريرا فيه ملبس بهي، مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي جالسين في الجنة على السرر في الحجال، لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) ، أي لا يصيبهم في الجنة حر محم، ولا برد مؤذ، لأن هواءها معتدل في الحر والبرد. ويقال: إن في الجنة من الضياء ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر، فإن الزمهرير القمر في لغة طيئ- كما رواه ثعلب- ونورها من نور العرش وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها معطوف على محل «لا يرون» وهو في محل نصب حال من الضمير المستكن في «متكئين» ، أي بعداء عن الحر والبرد، وقريبة ظلال شجرها منهم. وقرئ «ودانية» بالرفع على أنه خبر ل «ظلالهما» ، والجملة

[سورة الإنسان (76) : الآيات 21 إلى 30]

موضع الحال والمعنى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا. والحال أن ظلالها دانية عليهم، أي أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم، بمعنى أنه لو هناك شمس مؤذية لكانت أشجارها مظلة عليهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا (14) أي أدنيت منهم عناقيد ثمارها، فهم يتناولون منها كيف شاءوا، وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ أي بصحاف من فضة، وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ أي وبكيزان تكونت جامعة بين صفاء الزجاج وشفوفه، وبياض الفضة، ولينها، فنسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا، كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا، لأن أصل القوارير في الدنيا: الرمل، وأصل قوارير الجنة هو فضة شفافة. وقرئ «قوارير» الثاني بالرفع، أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) أي قدروا القوارير في أنفسهم وأرادوا أن تكون على أشكال معينة موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدروها، وقيل: الضمير للطائفين بها، أي قدر الطائفون الشراب فيها على قدر اشتهائهم. وقرئ «قدروها» بالبناء للمفعول، أي جعلوا قادرين لها كما شاءوا، وَيُسْقَوْنَ فِيها أي الجنة كَأْساً أي خمرا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا (17) ، أي ما يشبه الزنجبيل عَيْناً فِيها أي الجنة تُسَمَّى أي تلك العين سَلْسَبِيلًا (18) . قال مقاتل وابن حبان: سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرض من جنة عدن إلى أهل الجنان. ويقال: معناها سل الله سبيلا إليها. وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل الله إليها سبيلا بالعمل الصالح. وقرأ طلحة سلسبيل بغير تنوين للعلمية والتأنيث، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء. وقيل: أي محلون كما رواء نفطويه عن ابن الأعرابي أو مسورون كما رواه الفراء وهم خلقوا في الجنة لخدمة أهل الجنة كالحور، ولم يخلقوا عن ولادة على الصحيح، إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) لصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي في أي مكان كان في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) وفي الحديث: «أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه» عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ وهو ما لطف من الديباج. قرأ نافع وحمزة «عاليهم» بإسكان الياء مبتدأ، و «ثياب» خبره أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. والباقون بفتح الياء على أنه ظرف خبر مقدم، و «ثياب» مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ثانية ل «ولدان» ، أي يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب سندس إلخ. وقيل: «عاليهم» حال من ضمير «عليهم» أي ويطوف على الأبرار ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب إلخ أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما ثخن من الديباج. قرأ نافع وعاصم «كلاهما» بالرفع. وقرأ الكسائي وحمزة «كلاهما» بالخفض. وقرأ ابن كثير «خضر» بالخفض، و «إستبرق» بالرفع. وقرأ أبو عمرو، وعبد الله بن عامر «خضر» بالرفع،

و «إستبرق» بالخفض وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وهذا معطوف على يطوف عليهم، فإن حلي أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم، وأيضا إن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل: إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، ملتذا بلقائه، باقيا ببقائه، وهي غاية منازل الصديقين، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار. وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش، وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى، إِنَّ هذا أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس كانَ لَكُمْ جَزاءً أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها. وقال ابن عباس: المعنى: إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم: إن هذا كان لكم جزاء، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) أي مرضيا، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه، فقوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) أي متفرقا آية وآيتين، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أي مقدما على المعاصي، أيّ معصية كانت، أَوْ كَفُوراً (24) أي جاحدا للنعمة، ف «آثم» هو الوليد بن المغيرة، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة، كما قاله القفال وغيره، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر، أي عن ذكر النبوة، فقرأ عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] . فانصرفا عنه وقال أحدهما: ظنت أن الكعبة ستقع علي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) أي صل الفجر والظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء، وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم: كان

[سورة الإنسان (76) : آية 31]

ذلك من الواجبات على الرسول، ثم نسخ، فالأمر للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، إِنَّ هؤُلاءِ أي الكفرة من أهل مكة، يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية، وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا (27) ، أي ويتركون وراءهم مصالح يوم ثقيل، أي شديد هو له وعذابه، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ، أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب، وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) ، أي وإذا شئنا أهلكنا هؤلاء الكفرة وأتينا بأشباههم في الخلقة، فجعلناهم بدلا منهم، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ أي إن هذه السورة عظة للخلق من الله، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) ، أي فمن شاء الخير لنفسه في الدنيا والآخرة تقرب إلى الله بالعمل بما في هذه السورة، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي وما تقدرون على تحصيل اتخاذ السبيل إلى الله في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تحصيله لكم. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «وما يشاءون» بالياء التحتية. وقرأ ابن مسعود «إلا ما يشاء الله» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) أي إنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فلا يشاء لهم إلا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته، يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ بأن يوفقه للإيمان المؤدي إلى دخول الجنة وَالظَّالِمِينَ وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى غير اتخاذ السبيل إلى الله، أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) ، أي متناهيا في الإيلام وقرأ عبد الله بن الزبير «والظالمون» بالرفع على الابتداء.

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكية، خمسون آية ومائة وإحدى وثمانون كلمة، ثمانمائة وستة عشر حرفا قال ابن مسعود: نزلت والمراسلات عرفا على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى، فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها، إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها، فذهبت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «وقيتم شرها كما وقيت شركم» وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) . وهذا إقسام من الله تعالى بطوائف من الملائكة أرسلهم بأوامره متتابعين، فهم عصفوا في طيرانهم عصف الرياح، ونشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، ففرقوا بين الحق والباطل، فألقوا ذكرا إلى الأنبياء ويقال: أقسم الله برياح عذاب أرسلها متتابعة كعرف الفرس، فعصفن، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بعض أجزائه عن بعض، فإن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الجبال، وترفع الأمواج تمسّك بذكر الله، والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ويمكن حمل هذه الكلمات الخمس على القرآن، أي والآيات المرسلة على لسان جبريل إلى محمد، النازلة بكل عرف، أي خير، فعصفت سائر الملل، فقهرت سائر الأديان، وجعلتها باطلة، ونشرت تلك الآيات آثار الهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا، ففرقت بين الحق والباطل. عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) ، وهذا إما بدل من «ذكرا» ، أي فأقسم بالملائكة المنزلات وحيا أمرا أو نهيا. ويقال: وعدا أو وعيدا، وإما مفعول لأجله، أي إزالة أعذار المخلوقين وتخويفا لهم، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) أي إن الذي توعدون به من مجيء يوم القيامة لكائن، ثم إنه تعالى ذكر علامات وقوع هذا اليوم فقال: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) أي محقت ذواتها وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) أي فتحت فكانت أبوابا، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) أي قلعت بسرعة من أماكنها، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) . وقرأ أبو عمرو بالواو على الأصل أي حصل لهم الوقت وهو إما وقت يحضرون فيه للشهادة على أممهم، وإما وقت يجتمعون فيه للفوز بالثواب، وإما وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به،

[سورة المرسلات (77) : الآيات 21 إلى 30]

وسؤال الأمم عما أجابوهم لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) . أي يقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء الرسل؟ وهذا القول المقدر إما جواب لإذا، وإما حال من مرفوع أقتت، أي مقولا فيهم، لأي يوم أخرت إليه أمور الرسل، وهو تعذيب الكفرة وتعظيم المؤمنين، وظهور ما كانت الرسل تذكر من أحوال الآخرة وأهوالها، وعلى هذا فجواب إذا مقدر وتقديره: فإذا طمست النجوم إلخ وقع ما توعدون أو بان الأمر، لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) بدل من «لأي» ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بني الخلائق ويجوز أن يؤخذ من هذا جواب «إذا» ، أي وقع الفصل بين الخلائق، أو فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) أي وما علمك يا أشرف الخلق بيوم الفصل وشدته، فالاستفهام الأول: للاستبعاد والإنكار. والاستفهام الثاني: للتعظيم والتهويل والمعنى: أنت الآن في الدنيا لا تعلم ما يوم الفصل أي لا تعلم عظمه وأهواله على سبيل التفصيل، وإن كنت تعلمها جمالا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أي واد في جهنم من قيح ودم يوم إذ يفصل بين الخلائق للمكذبين بذلك اليوم وبكل ما أخبر الأنبياء عنه، و «ويل» مبتدأ سوغ الابتداء به كونه دعاء ونحوه، سلام عليكم وفائدة العدول إلى الرفع دلالة على دوام الهلاك للمدعو عليهم أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ، وهم جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم والوقف هنا كاف، ثم استأنف الله بقوله: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) ممن كذبوا الحق من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإماتة بالتعذيب، وقد وقع ذلك في حق كفار قريش يوم بدر، واستعقبه اللعن في الدنيا والعقوبة الأخروية سرمدا، ويدل على هذا الاستئناف قراءة عبد الله، ثم سنتبعهم بسين التنفيس، أما قراءة الأعمش والأعرج عن أبي عمرو، ثم نتبعهم بتسكين العين فهو تسكين للتخفيف لا للجزم، فهو مستأنف كالمرفوع لفظا، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) أي مثل ذلك الفعل الشنيع نفعل بكل من أشرك بالله، فيما يستقبل إما بالسيف وإما بالهلاك فسنتنا جارية على ذلك، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا فالمصيبة العظمى معدة لهم يوم القيامة. وقيل: هذا الويل لعذاب الدنيا، فالمعنى: شدة عذاب يوم إذ أهلكناهم للمكذبين بآيات الله وأنبيائه، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) أي من نطفة قذرة منتنة. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) أي في مكان حريز رحم المرأة، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) لله تعالى أي وقت الولادة، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) أي قدرنا خلقه في رحم المرأة تقديرا فنعم المقدرون له نحن، فإن إيقاع الخلق على هذا التحديد نعمة من المحدد على المخلوق، أو فقدرنا على تصويره كيف شئنا، فنعم القادرون نحن حيث خلقناه في أحسن الهيئات. قرأ نافع والكسائي «فقدرنا» بتشديد الدال. والباقون بالتخفيف. وقال علي كرم الله وجهه: «ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحد لأن العرب تقول: قدر وقدر عليه الموت» . أي فقدرنا بالتخفيف يكون بمعنى قدرنا بالتشديد، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في الهلال: «إذا

[سورة المرسلات (77) : الآيات 31 إلى 40]

غم عليكم فاقدروا له» . أي قدروا له السير في المنازل وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) بقدرتنا على البدء والإعادة بعد الموت، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) ، أي ألم نجعل الأرض موضعا يضم أحياء كثيرة على ظهره، وأمواتا غير محصورة في بطنه، فالأحياء يسكنون في منازلهم، والأموات يدفنون في قبورهم. ونقل القفال عن ربيعة: أنه قال: دلت هذه الآية على وجوب قطع النباش، لأن الأرض كانت حرزا للميت. وَجَعَلْنا فِيها أي على ظهر الأرض رَواسِيَ، أي جبالا ثوابت لا تزول شامِخاتٍ أي عاليات وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) ، أي غاية في العذوبة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) بأمثال هذه النعم العظيمة وتقول لهم الزبانية بعد الفراغ من الحساب: انْطَلِقُوا يا معشر المكذبين إِلى ما كُنْتُمْ في الدنيا بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) من العذاب. روي أن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق وليس عليهم يومئذ لباس، ولا كنان، فتلفحهم الشمس، وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله تعالى، فهناك يقولون: فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتقول: خزنة النار للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عقاب الله، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ أي إلى دخان جهنم. وقرأ يعقوب «انطلقوا» على لفظ الماضي، أي فانقادوا للأمر لأجل أنهم لا يستطيعون امتناعا منه، ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) أي فرق، وهي كون النار من فوقهم ومن تحث أرجلهم ومحيطة بهم لا ظَلِيلٍ، أي لا يمنع حر الشمس، وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) أي ولا يدفع من لهب النار شيئا، أو ولا يبعد من العطش- كما قاله قطرب- إِنَّها أي النار تَرْمِي بِشَرَرٍ وهو ما يتطاير من النار كَالْقَصْرِ (32) من البناء في عظمه كَأَنَّهُ جِمالَتٌ أي إبل صُفْرٌ (33) ، أي في الحركة واللون، فإن الشرار لما فيه من النار يكون أصفر، وهذا تنبيه على أن في كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة، فكأنه قيل: تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء. قرأ حمزة والكسائي وحفص «جمالة» بغير ألف بعد اللام. والباقون بالألف وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) بهذه الأمور، هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) فيه بحجة تنفعهم والسؤال قد انقضى قبل ذلك. وقرأ الأعمش بنصب «يوم» ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يوم ينطقون، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) ، أي أنهم لم يؤذنوا في العذر، وهم لم يعتذروا أيضا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) بهذا اليوم هذا، أي اليوم يَوْمُ الْفَصْلِ أي فصل حكومات جميع المكلفين جَمَعْناكُمْ يا معشر المكذبين من جميع هذه الأمة وَالْأَوَّلِينَ (38) من المكذبين، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) ، أي فإن كان لكم حيلة في دفع الحقوق عن أنفسكم فافعلوها وغالبوني، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) بالبعث إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ أي في ظلال شجرة، وَعُيُونٍ (41) أي ماء ظاهر جار.

وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين. والباقون بكسرها، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت، كما في أنواع فاكهة الدنيا، فيقول الله تعالى لهم: كُلُوا من الثمار وَاشْرَبُوا من الأنهار هَنِيئاً أي سائغا بلا داء ولا تعب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) في الدنيا من الخيرات ذكر الله تعالى ثلاثة أنواع من النعم في مقابلة ثلاث شعب من النار، كأنه قيل: ظلال المكذبين ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش، أما المتقون فظلالهم ظليلة حاجزة بينهم وبين اللهب، ومغنية لهم عن العطش ومعهم الفواكه التي يتمنونها في مقابلة شرار النار التي يخافها المكذبون، ولما قال تعالى للكفار: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ قال المؤمنين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) أي إنا نجزي المحسنين في العقيدة مثل ذلك الجزاء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا أي كلوا يا معشر المكذبين وعيشوا يسيرا في الدنيا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) أي مشركون، مصيركم النار في الآخرة. وقال أبو السعود: وهذا مقدر بقول هو حال من المكذبين، أي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد، وعلّل ذلك بإجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) بما يجب تصديقه. وهذا هو النوع التاسع من أنواع تخويف الكفار، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) ، أي وإذا قيل للمجرمين في الدنيا: اخضعوا لله بالتوحيدة، وأطيعوا، لا يقبلون ذلك. ويقال: نزلت هذه الآية في ثقيف حيث قالوا: لا نحني ظهورنا بالركوع والسجود. ويقال: هذا في الآخرة وذلك لما يقول الكفار: والله ربنا ما كنا مشركين. قال الله تعالى لهم: اسجدوا إن كنتم صادقين فيما تقولون، فلم يقدروا على السجود وبقيت أصلابهم كالصياصي. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) بمن يرشدهم إلى المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وهذا هو النوع العاشر من أنواع تخويف الكفار، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع وضوحها، فبأي كلام بعدها يؤمنون، لأن القرآن مصدّق للكتب القديمة، موافق لها في أصول الدين، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب، لأن ما في غيره موجود فيه، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه.

سورة النبأ

سورة النبأ وتسمى سورة التساؤل، وسورة عم، مكية، أربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة، سبعمائة وسبعون حرفا عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) أي عن أيّ شيء يتساءل أهل مكة فيما بينهم إنكارا واستهزاء عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ سؤال، وقوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ جواب. فالسائل والمجيب هو الله تعالى، ونظيره قوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] . الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) والخبر العظيم هو يوم القيامة، فمنهم من جزم باستحالته فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما نحن بمبعوثين. ومنهم من شك في وقوعه فيقول: ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين. وقيل: الخبر العظيم هو القرآن فإن بعضهم جعله سحرا، وبعضهم جعله شعرا، وبعضهم قال: إنه أساطير الأولين. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما دعاهم إلى التوحيد، وأخبرهم بالبعث بعد الموت، وتلا عليهم القرآن، جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم! ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء. وقيل: النبأ العظيم هو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأنهم عجبوا من إرسال الله محمدا إليهم. وقرأ عكرمة وعيسى بن عمر عما بالألف على الأصل. وعن ابن كثير أنه قرأ عمه بها السكت. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) ، أي ليرتدعوا عمّا هم عليه، فإنهم سيعلمون عمّا قليل حقيقة الحال، إذا حل بهم العذاب والنكال، وسيعلمون أن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له، واقع لا ريب فيه. وقال القاضي: سيعلمون نفس الحشر والمحاسبة، وسيعلمون نفس العذاب إذا شاهدوه. وقال الضحاك: أي سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم. وروي عن ابن عامر «ستعلمون» بالتاء المنقطة من فوق، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) أي فراشا. وقرئ «مهدا» أي مناما، وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) للأرض حتى لا تميد بأهلها وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) ذكورا وإناثا، وقبيحا، وحسنا، وطويلا، وقصيرا. وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) أي قطعا للتعب، أو نوما منقطعا، فإن النوم بمقدار الحاجة من أنفع الأشياء، أما

[سورة النبإ (78) : الآيات 11 إلى 20]

دوامه فمن أضر الأشياء، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) فإن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه، وأيضا بسبب ما يحصل فيه من النوم يندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) أي وقت معاش تتقلبون فيه في مكاسبكم، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) أي خلقنا فوق رؤوسكم سبع سموات غلاظا قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثر فيها مر الدهور، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) أي شمسا مضيئة لبني آدم، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ، أي السحائب بالرياح ماءً ثَجَّاجاً (14) أي صبابا. ويروي عن عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعكرمة أنهم قرءوا «وأنزلنا بالمعصرات» أي بالرياح المثيرة للسحاب، لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء حَبًّا يقتات، كالحنطة والشعير والأرز، وَنَباتاً (15) لا يكون له كمام كالحشيش، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) أي مجتمعة تداخل بعضها في بعض، إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) أي إن يوم فصل الله بين الخلائق كان في تقدير الله تعالى ميعاد الاجتماع كل الخلائق في قطع الخصومات، وميقاتا لما وعد الله من الثواب والعقاب، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ نفخة البعث، أي تنفخ الأرواح في الأجساد، فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) ، أي فتبعثون من قبوركم، فتأتون إلى الموقف أمما، كل أمة مع إمامها حتى يتكامل اجتماعهم، وَفُتِحَتِ السَّماءُ لنزول الملائكة. قرأ عاصم وحمزة والكسائي خفيفة التاء. والباقون بتشديدها فَكانَتْ أَبْواباً (19) أي فصارت السماء ذات أبواب، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها، فَكانَتْ سَراباً (20) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب إذ ترى على صورة الجبال، ولم تبق على حقيقتها لتفتت أجزائها، إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) أي طريقا، فخزنة الجنة يستقبلون المؤمنين عند جهنم يرصدون الكفار لِلطَّاغِينَ، أي للمتكبرين على الله مَآباً (22) أي مرجعا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) ، أي حقبا بعد حقب. وقرأ حمزة «لبثين» بغير ألف لا يَذُوقُونَ فِيها، أي الأحقاب بَرْداً أي هواء باردا، ولا ماء باردا. وقال الأخفش والكسائي، والفراء، وقطرب، والعتبي: أي نوما، سمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش، وَلا شَراباً (24) إِلَّا حَمِيماً أي ماء حارا جدا، وَغَسَّاقاً (25) باردا منتنا لا يطاق، وهو المسمى بالزمهرير. قرأ حمزة والكسائي وعاصم من رواية حفص عنه بتشديد السين، جَزاءً وِفاقاً (26) أي جوزوا بذلك جزاء موافقا لأعمالهم، إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) ، أي كانوا لا يخافون، أي يحاسبوا بأعمالهم أو إنهم كانوا غير مؤمنين وذلك لأن المؤمن لا بدّ وأن يرجو رحمة الله، لأنه قاطع بأن ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميع دلائل الله تعالى في التوحيد والنبوة والمعاد كِذَّاباً (28) . وقرئ بتخفيف الذال. وقرئ «كذابا» بضم الكاف وتشديد الذال جمع كاذب، أي كذبوا

[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 40]

بالقرآن والشرائع كاذبين، فكل من يكذب بالحق فهو كاذب، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ أي ضبطناه كِتاباً (29) أي حال كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ، أو كل شيء من أعمال بني آدم حفظناه مكتوبا في صحف الحفظة. وقرأ أبو السمال «وكل» بالرفع على الابتداء، فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم: ذوقوا جزاءكم فلن نزيدكم إلا عذابا، أي كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وكلما خبت زدناهم سعيرا، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) أي فوزا بالمطلوب حَدائِقَ أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة، وَأَعْناباً (32) أي كروما وَكَواعِبَ، أي نساء تكعبت ثديهن أَتْراباً (33) ، أي مستويات في السن على ثلاث وثلاثين سنة وَكَأْساً دِهاقاً (34) ، أي ممتلئة، لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) أي لا يجري بين المتقين كلام باطل وتكذيب من واحد لغيره بسبب الكأس التي يشربون منها. وقرأ الكسائي بالتخفيف جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) أي جازى الله المتقين بمفاز جزاء كائنا منه تفضلا منه بقدر ما وجب له فيما وعده من الأضعاف، لأنه تعالى قدر الجزاء على ثلاثة أوجه: وجه منها على عشرة أضعاف، ووجه على سبعمائة ضعف، ووجه على ما لا نهاية، والمعنى: راعيت في ثواب أعمالكم الحساب لئلا يقع فيه نقصان. وقرأ ابن قطيب «حسابا» بالتشديد بمعنى محسب. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو برفع «رب» و «الرحمن» . وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر بجرهما. وقرأ حمزة والكسائي بجر الأول مع رفع الثاني. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) أي لا يملك أهل السموات والأرض أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم خطابا ما، في شيء ما، والوقف هنا كاف. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ. قال الضحاك والشعبي: هو جبريل وعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال. وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقا، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ منهم في التكلم، وَقالَ صَواباً (38) أي وقال ذلك المأذون له بعد ورود الأذن له قولا صادقا حقا. وقيل: المعنى: لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته، وذلك الشخص كان ممن قال صوابا، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، و «يوم» ظرف لقوله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ. ذلِكَ أي يوم قيامهم على الوجه المذكور، الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الثابت من غير صارف فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) أي فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه فعل ذلك بالإيمان والطاعة، نَّا أَنْذَرْناكُمْ أي خوّفناكم يا أهل مكة بالقوارع الواردة في القرآن، ذاباً قَرِيباً هو عذاب الآخرة، وكل ما هو آت قريب. وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ و «ما» استفهامية، أي يوم يبصر كل امرئ أيّ شيء قدّمت يداه، مثبتا في صحيفته خيرا كان أو شرا وإما موصولة، أي يوم ينظر كل امرئ إلى الذي قدمته يداه، يَقُولُ الْكافِرُ لما قطع بالعقاب الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) أي ليتني لم أبعث للحساب في هذا اليوم، وبقيت ترابا كما كنت أوليتني

كنت ترابا في الدنيا، فلم أخلق ولم أكلف، وقيل: يقول الكافر عند ما يقول الله للبهائم بعد محاسبته بينها كوني ترابا، يا ليتني أصير ترابا مثل تلك البهائم لأتخلص من عذاب الله تعالى. وقيل: ويقول إبليس لما عاين ما في آدم من الثواب والراحة يوم القيامة: ليتني كنت مكان آدم، وذلك لأن إبليس عاب آدم بأنه خلق من تراب، وافتخر بأنه خلق من نار. وقال مقاتل: نزل قوله تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ في أبي سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وقوله: يَقُولُ الْكافِرُ في أخيه الأسد بن عبد الأسد.

سورة النازعات

سورة النازعات مكية. خمس وأربعون آية، مائة وثلاث وسبعون كلمة وتسعمائة وثلاثة وخمسون حرفا وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) أي والملائكة الذين ينزعون روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة، ومن تحت الأظافر، وأصول القدمين كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل، فتخرج نفس الكافر كالغريق في الماء. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) أي والملائكة التي تحل نفس المؤمن حلا رفيقا، فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير، وتنشط روح المؤمن بالخروج إلى الجنة. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) أي والملائكة الذين ينزعون نفس الصالح يسلونها سلا رفيقا رويدا، ثم يتركونها حتى تستريح، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة لئلا يصل إليه ألم وشدة، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) أي والملائكة الذين يسبقون بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وبأرواح الكافرين إلى النار، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) ، أي فالملائكة الذين يدبرون أمور العباد، قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل. فأما جبريل: فهو موكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل: فهو موكل بالقطر والنبات. وأما عزرائيل: فهو موكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل: فهو ينزل عليهم بالأمر من الله تعالى وليس في الملائكة أقرب منه. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) و «يوم» منصوب بجواب القسم المضمر، أي لتبعثن يا كفار مكة يوم تتحرك النفخة الأولى مع ظهور الصوت، وسميت النفخة: بالراجفة، لأن الدنيا تتزلزل عندها وتصوت فإن تلك النفخة هي المحركة لكل شيء، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) أي النفخة الثانية والرادفة: رجفة أخرى تتبع الأولى، فتضطرب الأرض لإحياء الموتى، كما اضطربت في الأولى لموت الإحياء. ويروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن بين النفختين أربعين عاما، ويروى أن في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للإحياء، ولله أن يفعل ما يشاء

[سورة النازعات (79) : الآيات 11 إلى 20]

ويحكم ما يريد. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أي قلوب كثيرة وهي قلوب الكفار يوم إذ يقع النفختان شديدة الاضطراب، وهذه الجملة مبتدأ وخبر، أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) أي أبصار أصحاب هذه القلوب ذليلة، يَقُولُونَ منكرين للبعث متعجبين منه: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ (10) ، أي في الحالة الأولى. وقرأ أبو حيوة «في الحفرة» ، أي أنرد إلى ابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا، أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) أي متفتتة، نرد ونبعث مع كون تلك العظام أبعد شيء من الحياة. وقرأ حمزة وعاصم «ناخرة» بألف أي فارغة تمر بها الريح، فيسمع لها صوت. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي «إذا» على الخبر، قالُوا تِلْكَ أي الرجعة إلى الحياة إِذاً أي إن رددنا إلى الحالة الأولى وصحّ ذلك كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) ، أي رجعة ذات هلاك أي إن الرجعة إن صحت، فنحن إذا خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) ، أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله بل هي سهلة هينة في قدرته، لأنها حاصلة بصيحة واحدة من إسرافيل، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض البيضاء المستوية من أرض الآخرة بعد ما كانوا أمواتا في جوف أرض الدنيا، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) أي أليس قد أتاك يا أشرف الخلق حديث موسى هذا إن اعتبر إتيانه قبل هذا الكلام، وإلا فالمعنى: هل أتاك يا أكرم الرسل حديثه؟ أنا أخبرك به: إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ ظرف ل «حديث» طُوىً (16) وهو اسم واد بالشام، وهو عند الطور بين أيلة ومصر، وإنما سميت «طوى» لكثرة ما مشت عليه الأنبياء. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بضم الطاء غير منون. وقرأ الباقون بضم الطاء منونا. وروي عن أبي عمرو بكسر الطاء. اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ. عن الحسن قال: كان فرعون علجا من همدان، وعنه أيضا كان من أصبهان، طوله أربعة أشبار، وهو أول من اتخذ القبقاب ليمشي فيه خوفا من أن يمشي على لحيته. وقال مجاهد: كان من أهل إصطخر. وقرأ عبد الله «أن اذهب» لأن في النداء معنى القول، إِنَّهُ طَغى (17) أي تجاوز الحد على الخالق، وعلى الخلق، فكفر بالله، وتكبر على بني إسرائيل، فاستعبدهم، فَقُلْ بعد ما أتيته: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) ؟ أي هل لك يا فرعون سبيل إلى أن تصلح فتوحد بالله؟ وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي وهل أدعوك إلى معرفة ربك بالبرهان فتعرفه، فَتَخْشى (19) فإن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة فمن خشي الله أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) أي فذهب موسى إلى فرعون، فأراه قلب العصاحية، فَكَذَّبَ فرعون موسى بالقلب واللسان وسمى معجزته سحرا، وَعَصى (21) الله تعالى بإظهار التمرد بعد ما علم صحة الأمر حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين، ثُمَّ أَدْبَرَ أي انصرف عن موسى وأعرض عن الإيمان، يَسْعى (22) أي يجتهد في مكايدة موسى، وفي معارضة الآية، فَحَشَرَ، أي فجمع السحرة بالشرط للمعارضة فَنادى (23) في المجمع بنفسه، أو بواسطة المنادي فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)

[سورة النازعات (79) : الآيات 31 إلى 40]

أي لا رب فوقي، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) أي فعذبه الله في الآخرة بالإحراق بالنار، وفي الدنيا بالإغراق بالماء. وقيل: فعاقبه الله بكلمته الآخرة وهي قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وبكلمته الأولى وهي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وكان بينهما أربعون سنة، فالله تعالى يمهل ولا يهمل، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في قصة فرعون لَعِبْرَةً أي لعظة لِمَنْ يَخْشى (26) ، وذلك أن يدع التمرد على الله تعالى، والتكذيب لأنبيائه خوفا من أن ينزل به ما نزل بفرعون، وعلما بأن الله تعالى ينصر رسله، فاعتبروا معاشر المكذبين لمحمد بما ذكرناه، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ، أي أأنتم يا أهل مكة في خلقكم بعد موتكم أصعب في تقديركم أم خلق السماء على عظمها والوقف هنا تام، بَناها (27) وهذا تفصيل لكيفية خلقها، رَفَعَ سَمْكَها أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، ومقدار ذهابها في سمت العلو مسافة خمسمائة عام. واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقا، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكا، فَسَوَّاها (28) أي فجعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع، ولا انخفاض، ولا تفاوت، ولا فطور، وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعل الليل مظلما وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) أي وأبرز نهارها، وإنما عبر عن النهار بالضحى، لأنها أكمل أجزاء النهار في الضوء، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بألفي سنة دَحاها (30) ، أي بسطها على الماء، أَخْرَجَ مِنْها أي الأرض ماءَها، أي عيونها المنفجرة بالماء وأنهارها الجاري ماؤها، وَمَرْعاها (31) أي نباتها من العشب والشجر، والثمر، والحب، والعصف، والحطب، واللباس، والدواء حتى النار والملح، فإن النار من العيدان والملح من الماء، وإذا تأملت علمت أن جميع ما يتلذذ الناس به في الدنيا أصله الماء والنبات، وَالْجِبالَ أَرْساها (32) ، أي أثبتها على وجه الأرض لتسكن، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) أي إنا خلقنا هذه الأشياء منفعة لكم ولأنعامكم، فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) أي الداهية العظمى أعني يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) ، أي يوم يتذكر كل أحد فيه ما عمله في الدنيا من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة، وطول الأمد ويجوز أن يكون يوم بدلا من الطامة الكبرى مبنيا على الفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءت، أي أظهرت الجحيم إظهارا بينا لِمَنْ يَرى (36) فيراها كل ذي بصر من المؤمنين والكفار. وقرأ أبو نهيك و «برزت» بالتخفيف. وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» فعلا ماضيا. وقرأ زيد ابن علي وعائشة وعكرمة «برزت» مبنيا للفاعل مخففا، و «ترى» بالتاء وهي إما للتأنيث فالضمير ل «الجحيم» ، وإما للخطاب أي لمن ترى أنت يا محمد من الكفار الذين يؤذونك، وجواب «إذا» محذوف تقديره انقسم الناس قسمين، فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) أي تمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) أي انهمك فيها، ولم يستعد للحياة الأخروية بالطاعة، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) له، ويقال: التقدير فإن الجحيم هي المأوى اللائق بمن كان

[سورة النازعات (79) : الآيات 41 إلى 46]

موصوفا بهذه الصفات. قيل: نزلت هذه الآية في النضر وأبيه الحرث، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقام حضرة ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) أي عن الميل إلى الحرام الذي يشتهيه فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) له، قيل: نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير، ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد، ووقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه حتى استشهد رضي الله عنه. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: فَأَمَّا مَنْ طَغى فهو أخو مصعب بن عمير، أسر يوم بدر وأخذته الأنصار، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق وأكرموه وبيّتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه فقال: ما هو بأخ له، شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا، فأوثقوه حتى تبعث أمه فداءه وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ فمصعب بن عمير، وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، فلما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متشحطا في دمه قال صلّى الله عليه وسلّم: «عند الله أحتسبك» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب» «1» . يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق عَنِ السَّاعَةِ على سبيل الاستهزاء حين سمع المشركون وصفها بالأوصاف الهائلة مثل طامة وصاخة، وقارعة: أَيَّانَ مُرْساها (42) أي متى إقامتها، أي في أيّ وقت يوجدها الله تعالى، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) أي في أيّ شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) ، أي إلى ربك يرجع منتهى علمها لم يؤته أحدا من خلقه، إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) أي إنما أنت مخوف من يخاف هولها، فالإنذار لا يتوقف على علم المنذر بوقت قيامها. وقرأ عمر بن عبد العزيز، وأبو جعفر، وطلحة، وابن محيصن «منذر» بالتنوين، وهو الأصل وحذف التنوين للتخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال، فإذا أريد الماضي فلا يجوز إلا الإضافة، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) . وهذا إما تأكيد لما يدل عليه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به، أي كأن كفار قريش يوم يعاينون الساعة لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عن الساعة بطريق الاستبطاء مستعجلين بها، ويقولون: متى هذا الوعد؟ فالمعنى: كأنهم يوم يرون قيام الساعة لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية هي من الزوال إلى الغروب، أو ضحى يومها واعتبار كون اللبث بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم.

_ (1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3: 46) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6: 301) .

سورة عبس

سورة عبس وتسمى سورة الأعمى، وسورة السفرة. مكية، إحدى وأربعون آية، مائة وثلاث وثلاثون كلمة، خمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا عَبَسَ أي كلح النبي وجهه. وقرئ بالتشديد للمبالغة، وَتَوَلَّى (1) أي أعرض بوجهه لأجل أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) اسمه عبد الله ابن أم مكتوم، وهو عبد الله بن شريح بن مالك الفهري، وأم مكتوم كانت أم أبيه، واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد، أسلم قديما بمكة، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده صناديد قريش: عتبة، وشيبة- ابنا ربيعة- وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه، وعبس، وأعرض عنه، فنزلت هذه الآية، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرمه ويقول إذ رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل لك من حاجة؟» «1» وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أي أيّ شيء يجعلك يا أشرف الخلق داريا بحال هذا الأعمى حتى تعرض عنه، لعله يتطهر بما يقتبس منك من الإثم، أو يتعظ، فتنفعه موعظتك، إن لم يبلغ درجة التطهر التام. وقرأ عاصم بنصب «فتنفعه» على جواب «لعل» ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) عن الإيمان والقرآن بماله من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) أي تقبل عليه بوجهك وتميل إلى كلامه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الضاد وقرأ أبو جعفر بضم التاء، أي فأنت يدعوك داع إلى التصدي له من الحرص على إسلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) و «ما» إما نافية، والجملة حال من ضمير «تصدى» ، أي والحال أنه ليس عليك بأس في عدم تطهره من الشرك بالإسلام، وإما استفهامية للإنكار أي وأيّ شيء عليك في كونه لا يتطهر من دنس الكفر، وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: ذكر البعث.

[سورة عبس (80) : الآيات 11 إلى 20]

أي حال كونه يسرع في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى (9) من الله، أي وهو مسلم فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) أي تتشاغل بصناديد قريش. وقرأ طلحة بن مصرف «تتلهى» . وقرأ أبو جعفر «تلهى» ، أي يلهيك شأن الصناديد كَلَّا أي لا تفعل مثل ذلك، أي وذلك محمول على ترك الأولى إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) أي إن القرآن موعظة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) أي فمن رغب في القرآن اتعظ به، ومن لم يرده فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره فِي صُحُفٍ أي ذلك القرآن مثبت في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ مُكَرَّمَةٍ (13) عند الله تعالى، مَرْفُوعَةٍ في السماء السابعة، مُطَهَّرَةٍ (14) أي منزهة عن مساس أيدي الشياطين، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) أي ملائكة يكشفون الوحي بين الله ورسله، أو يكتبون الكتب ناقلين من اللوح المحفوظ كِرامٍ أي عند الله تعالى بَرَرَةٍ (16) أي صادقين لله في أعمالهم. وقال القرطبي: إن المراد بما في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] هؤلاء السفرة الكرام البررة، وقوله: بِأَيْدِي متعلق ب «مطهرة» . قال القفال: لما لم يمس الصحف إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهر إليها لطهارة من يمسها. قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر ما أَكْفَرَهُ (17) أي أيّ شيء أكفره، وهو تعجب من إفراطه في الكفران، والتعجب بالنسبة للمخلوقين، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرناه بعد هذا، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) وهذا استفهام تقرير في التحقير، أي فليتفكر الإنسان في نفسه من أيّ شيء خلقه الله، ثم بيّن الله له فقال: مِنْ نُطْفَةٍ أي ماء حقير، خَلَقَهُ فمن كان أصله مثل هذا الشيء الحقير، فالتكبر لا يكون لائقا به فَقَدَّرَهُ (19) أي فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء، أو فقدره أطوارا نطفة، ثم علقة إلى أن تم خلقه، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) أي ثم سهل الله خروجه من بطن أمه وكان رأس المولود في بطن أمه، من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب، فخروجه حيا من ذلك المنفذ الضيق من أعجب العجائب، أو ثم بين طريق الخير والشر التي تتعلق بالدنيا، والتي تتعلق بالدين، ثُمَّ أَماتَهُ بعد ذلك، فَأَقْبَرَهُ (21) أي جعله الله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) أي بعثه من القبر كَلَّا، أي لا تتكبر، ولا تصر على إنكار التوحيد، وعلى إنكار البعث، أو حقا يا محمد لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) ، أي لم يعمل الإنسان الكافر بما أمره الله به من التأمل في دلائل الله والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته، فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) الذي جعله الله سببا لحياته كيف دبر الله أمره، أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ أي الغيث على الأرض، صَبًّا (25) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي «أنا» بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال من طعامه، لأن الماء سبب لحدوث الطعام، فهو مشتمل عليه. والباقون بالكسر على الاستئناف. وقرئ «إني» بالإمالة، أي كيف صببنا الماء صبا عجيبا! ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (26) بديعا لائقا به فَأَنْبَتْنا فِيها أي الأرض حَبًّا (27) ، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما،

[سورة عبس (80) : الآيات 31 إلى 40]

وَعِنَباً وهو غذاء من وجه وفاكهة من وجه، وَقَضْباً (28) . قيل: هو كل ما يقطع من البقول. وقال الحسن: هو العلف للدواب. وقال ابن عباس: هو الرطب فإنه يقطع من النخل، وَزَيْتُوناً وفيه إصلاح المزاج، وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) أي بساتين ملتفة الأشجار، أو طوال الأشجار، وَفاكِهَةً وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار، وَأَبًّا (31) وهو ما تأكله الدواب من الكلأ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) أي فعل الله ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) أي صيحة النفخة الثانية التي تصم الآذان لشدتها، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) و «يوم» إما منصوب بأعني تفسيرا ل «الصّاخة» ، أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأي الكوفيين، أي يعرض عن أخيه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) وفائدة هذا الترتيب كأنه قيل يوم يعرض المرء عن أخيه، بل عن أبويه اللذين هما أقرب من الأخ، بل عن الزوجة والولد اللذين تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين، وجواب «إذا» محذوف تقديره: اشتغل كل امرئ بحال نفسه، ويدل عليه قوله تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تكون هذه الداهية شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) ، أي شغل يكفيه في الاهتمام به، أو عمل يصرفه عن قرابته كما قاله ابن قتيبة. وقرئ «يعنيه» بالياء المفتوحة والعين المهملة، أي يهمه، أي يوقعه في الهم، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) أي مضيئة من صلاة الليل- كما قاله ابن عباس- أو من آثار الوضوء- كما قاله الضحاك- أو بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بالرحمة ومنازل الرضوان- كما قاله الرازي- ضاحِكَةٌ أي معجبة بكرامة الله أو مسرورة بالفراغ من الحساب، مُسْتَبْشِرَةٌ (39) أي فرحة بما تشاهد من النعيم الدائم والثواب الجسيم، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) أي كدورة تَرْهَقُها أي تدركها عن قرب، قَتَرَةٌ (41) أي سواد كالدخان أُولئِكَ أي أصحاب هذه الوجوه هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) أي الجامعون بين الكفر بالله والكذب على الله.

سورة التكوير

سورة التكوير مكية، تسع وعشرون آية، مائة وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) أي لفت أي صارت مختفية عن الأعين. وقيل: أي رميت عن الفلك. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «تكويرها» إدخالها في العرش، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) ، أي تساقطت على وجه الأرض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) عن وجه الأرض بالرجفة، وَإِذَا الْعِشارُ أي النوق الحوامل التي هي أنفس ما يكون عند أهلها، عُطِّلَتْ (4) أي تركت من غير راع لاشتغال أربابها بأنفسهم. وقيل: أي وإذا السحب تعطلت عن الماء. وقرئ «عطلت» بالتخفيف، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) أي جمعت من كل جانب لا للقصاص. وقيل: بعثت للقصاص إظهارا للعدل. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، فإذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاوس ونحوه. وقرئ «حشرت» بالتشديد، وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) أي ملئت من الماء، فيفيض بعضها إلى بعض، فتصير شيئا واحدا، ثم تيبس البحار من الماء، ثم تقلب نارا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم، وهذه العلامات الستة يمكن وقوعها في أول زمان تخريب الدنيا. أما الستة الباقية فإنها مختصة بالقيامة وهي ما ذكر بقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) أي ردت الأرواح إلى أجسادها. وقال ابن عباس: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين. وقال الزجاج: قرنت النفوس بأعمالها، وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) أي وإذا البنت المدفونة حية سئلت تبكيتا لمن دفنها في القبر وهي حية بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ، أي هي وذلك كأن قيل

[سورة التكوير (81) : الآيات 11 إلى 20]

للموءودة إن القتل لا يجوز إلا لذنب عظيم، فما ذنبك أيتها البنت، فكان جوابها: إني قتلت بغير ذنب، فيفتضح القاتل. وقرئ «قتلت» بكسر التاء للمخاطبة مع قراءة «سئلت» بقراءة الجمهور. وقرئ «سألت» بالبناء للفاعل، أي خاصمت أباها، أو سألت الله تعالى. وهذه القراءة مع قراءة «قتلت» بضم التاء للمتكلم، وبسكونها على التأنيث فالقراءات الشاذة ثلاثة، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) أي وإذا صحف الأعمال فرقت بين أصحابها عند الحساب، وتطايرت في الأكف. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين. والباقون بتشديدها، وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) أي أزيلت عما فوقها، وهي الجنة وعرش الله. وقرأ ابن مسعود «قشطت» ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) أي أوقدت إيقادا شديدا. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين. والباقون بتخفيفها وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) ، أي قربت من المتقين. وقال عبد الله بن زيد: أي زينت عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) أي ما قدمت من خير أو شر فإن الأعمال لما عملتها النفس فكأنها أحضرتها في الموقف، فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) «لا» زائدة، أي فأقسم بالكواكب الرواجع من آخر الفلك إلى أوله التي تجري مع الشمس والقمر التي تختفي تحت ضوء الشمس. وهي هذه الأنجم الخمسة: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشتري، ليس في الكواكب شيء يقطع المجرة غيرها، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) ، أي ذهب، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) أي أضاء إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) أي إن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظن، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحيا من عند الله تعالى أو أن القرآن لقول جبريل نزل به إلى محمد من جهة الله تعالى، فهو رسول الله إلى الأنبياء، وهو كريم لأنه يعطي أفضل العطايا وهو الهداية ذِي قُوَّةٍ أي شدة. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل: «ذكر الله قوتك فماذا بلغت؟» قال: رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذ سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها . وذكر مقاتل أن الأبيض- وهو شيطان- قصد أن يفتن النبي صلّى الله عليه وسلّم فدفعه جبريل دفعة رفيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) أي ذي جاه عند الله تعالى، فإنه يعطي ما يسأل، وهذه العندية عندية إكرام وتشريف، لا عندية مكان وجهة، مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات فتطيعه الملائكة، فإنهم يصدرون عن أمره، ويرجعون إلى رأيه أَمِينٍ (21) على وحي الله ورسالته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل، وَما صاحِبُكُمْ أي نبيكم محمد يا معشر قريش بِمَجْنُونٍ (22) ، كما زعمتم. والمقصود: من عدّ فضائل جبريل واقتصار النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفي الجنون ردّ قول الكفرة في حقه صلّى الله عليه وسلّم، إنما يعلمه بشر افترى على الله كذبا، أم به جنة لا الموازنة بينهما ولا تفضيل جبريل على النبي، ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا

المقام ادماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ من علو المنزلة عند الله تعالى بجعل السفير بينه وبينه تعالى، مثل هذا الملك المقرب، فهذه الصفات التي لجبريل رفع منزلة له صلّى الله عليه وسلّم، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام بمطلع الشمس الأعلى على صورته التي خلق عليها، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة أي وما محمد بمتهم في القرآن، بل هو ثقة فيما يؤدى عن الله تعالى. وقرأ الباقون بالضاد أي وما محمد ببخيل بالقرآن، بل يخبر بما في القرآن من أخبار الغيب، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا، وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) أي وما القرآن بقول مسترق للسمع اسمه مرمى، فيلقيه على محمد، وهذا نفي لقول أهل مكة، إن هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسان محمد وأنه كهانة وسحر، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) أي فمن أيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن أمن نسبته للجنون أو الكهانة، أو السحر، أو الشعر، وهذا استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافا أين تذهب؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) ، أي ما القرآن إلا عظة للإنس والجن، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب، فإن القرآن إنما ينتفع به من شاء أن يستقيم، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) ، أي إلا أن يشاء الله أن يعطيه تلك المشيئة، ففعل الاستقامة موقوف على إرادة الاستقامة، وهذه الإرادة موقوفة الحصول على أن يريد الله أن يعطيه تلك الإرادة، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله.

سورة الانفطار

سورة الانفطار مكية، تسع عشرة آية، ثمانون كلمة، ثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) أي انشقت لنزول الملائكة، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) أي تساقطت متفرقة على وجه الأرض، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) أي فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالأجاج، وصارت البحار بحرا واحدا. وقرأ مجاهد «فجرت» على البناء للفاعل والتخفيف، أي تجاوز بعضها إلى بعض. وقرأ مجاهد أيضا، والربيع بن خثيم، والزعفراني والثوري «فجرت» مبنيا للمفعول ومخففا، أي غير بعضها ببعض لزوال البرزخ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) أي قلب أسفلها أعلاها وأخرج ما فيها من الموتى أحياء عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ أي أدت من طاعة، وَأَخَّرَتْ (5) أي ضيعت، وذلك عند نشر الصحف. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) أي ما الذي خدعك وسوّل لك الباطل، حتى تركت الواجبات، وأتيت بالمحرمات. وقرأ سعيد بن جبير والأعمش «ما أغرّك» رباعيا، فاحتمل أن تكون «ما» استفهامية، وأن تكون تعجبية، أي أيّ شيء جعلك آمنا من عقاب ربك، أو شيء عظيم يتعجب منه أدخلك في غرة، أي أمن من العذاب؟ الَّذِي خَلَقَكَ نسمة من نطفة فَسَوَّاكَ أي جعلك سالم الأعضاء مهيأة لمنافعها فَعَدَلَكَ (7) . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال أي عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت- كما قاله أبو علي الفارسي- أو فصرفك إلى أي صورة شاء. وقرأ الباقون بالتشديد أي صيّرك متناسب الأعضاء، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع. وقال عطاء عن ابن عباس: أي جعلك معتدل القامة حسن الصورة، لا كالبهيمة المنحنية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) و «ما» زائدة، و «شاء» صفة ل «صورة» ، و «ركبك» بيان لقوله تعالى: فَعَدَلَكَ أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح، وطول، وقصر، وذكورة، وأنوثة كَلَّا، أي ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله، وإنكم لا ترتدعون عن ذلك، بَلْ

[سورة الانفطار (82) : الآيات 11 إلى 19]

تُكَذِّبُونَ يا معشر قريش بِالدِّينِ (9) ، أي بالجزاء على الأعمال، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) حال من فاعل تكذبون، أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم، كِراماً عندنا كاتِبِينَ (11) لهذه الأعمال في الصحف، كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التقويم، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) من الأفعال، قليلا وكثيرا، ويضبطونه نقيرا وقطميرا لتجازوا بذلك، إِنَّ الْأَبْرارَ أي الصادقين في إيمانهم لَفِي نَعِيمٍ (13) ، أي لفي جنة دائم نعيمها، وَإِنَّ الْفُجَّارَ أي الكافرين المكذبين بيوم الدين لَفِي جَحِيمٍ (14) أي في نار عظيمة، يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يَوْمَ الدِّينِ (15) أي يوم الحساب، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) طرفة عين حتى قبل الدخول فيها فإنهم يجدون سمومها في قبورهم كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» «1» . وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) أي أيّ شيء عجيب هو في الهول والفظاعة جعلك داريا يوم الدين، و «ما» الاستفهامية خبر ل «يوم الدين» ، فإن مدار الإفادة هو الخبر، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً. قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» وقرأ أبو عمرو في رواية «يوم» مرفوعا منونا على جعل الجملة بعده نعتا له، والعائد محذوف أي لا تملك فيه. وقرأ الباقون يوم بالفتح، وهي إما فتحة إعراب بإضمار اذكر، أو فتحة بناء وإنما بني لإضافته للفعل، وإن كان معربا على رأي الكوفيين ويكون خبرا لمبتدأ مضمر. وقال أبو علي: إن اليوم لما جرى في أكثر الأمر ظرفا فاترك على حالة الأكثرية، ومما يقوى النصب قوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [القارعة: 2، 3] وقوله تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 12، 13] . قال الواحدي: والمعنى أن الله تعالى لم يملك في ذلك اليوم أحدا شيئا من الأمور كما ملكهم في دار الدنيا، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) . قال الواسطي: قوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً إشارة إلى فناء غير الله تعالى وهناك تذهب الرسالات والكلمات. وقوله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ إشارة إلى أن البقاء لله والأمر كذلك في الأزل، وفي اليوم وفي الآخرة، ولم يتغير من حال إلى حال فالتفاوت عائد إلى أحوال الناظر لا إلى أحوال المنظور إليه، فالكاملون لا تتفاوت أحوالهم بحسب تفاوت الأوقات.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 325) ، بما معناه.

سورة التطفيف

سورة التطفيف وتسمى سورة المطففين، نزلت بين مكة والمدينة في مهاجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فاستتمت بالمدينة، هي ست وثلاثون آية، مائة وتسع وتسعون كلمة، سبعمائة وثمانون حرفا وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) أي شدة العذاب للناقصين في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة، وكان أهلها من أخبث الناس كيلا، فنزلت هذه الآية، فأحسنوا الكيل بعد ذلك. بواحد ويعطي بآخر فنزلت: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه، يأخذونه وافيا وافرا حسب ما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال، والاحتيال في ملئه. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) ، أي وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم للبيع ونحوه ينقصون في الكيل والوزن. ويروى عن عيسى بن عمر وحمزة أنهما كانا يجعلان الضميرين توكيدا لما في كالوا ووزنوا، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا، أي إذا كالوا هم لغيرهم، أو وزنوا هم لغيرهم ينقصون، وإثبات الألف قبل هم لو لم يكن معتادا في زمان الصحابة لمنع من إثباتها في سائر الأعصار، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أي ألا يوقن أولئك المطففون بالكيل والوزن أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) أي شديد هوله، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) ، أي لحكمه. روي عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» . وقرئ «يوم» بالنصب والجر، فالنصب منصوب بقوله تعالى: مَبْعُوثُونَ، أو بإضمار أعني والجر بدل من «يوم عظيم» ، أو هو حالة النصب مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين، فهو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر، أو مجرور المحل بدلا من «يوم

[سورة المطففين (83) : الآيات 11 إلى 20]

عظيم» ويؤيده القراءة بالرفع والجر كَلَّا أي ارتدعوا عن التطفيف والغفلة عن ذكر البعث، وعلى هذا المعنى يوقف على «كلا» أو «كلا» بمعنى حقا فلا يوقف عليه، وكذا جميع ما يأتي من «كلا» في هذه السورة إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) ، أي إن كتابة أعمال الكفار لفي سجين، وهو موضع في الأرض السابعة السفلى، وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) وهذا تعظيم لأمر سجين، كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) أي إن كتاب الفجار كتاب معلم فيعلم من رآه أنه لا خير فيه، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) أي الجزاء، وَما يُكَذِّبُ بِهِ أي بذلك اليوم إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوز عن المنهج الحق، أَثِيمٍ (12) أي مبالغ في ارتكاب الإثم إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أي القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) ، أي هذه إخبار الأولين فإن محمدا أخذ عنهم لا من الله تعالى فينكر النبوة، كَلَّا أي حقا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) أي ليس الأمر كما يقوله الكافر من أن ذلك أساطير الأولين، بل غطى على قلوبهم أفعالهم الماضية من الكفر والمعاصي قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه» «1» . كَلَّا أي حقا يا محمد إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) أي إن المكذبين بيوم الدين لممنوعون يوم القيامة عن النظر إلى ربهم، والمؤمنون لا يحجبون عن النظر إلى ربهم، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) أي لداخلو النار العظيمة، ثُمَّ إذا دخلوها يُقالُ لهم من جهة الزبانية هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا، والآن قد عاينتموه فذوقوه، كَلَّا أي لا تكذبوا البعث وكتاب الله أو حقا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) أي إن كتابة أعمال الصادقين في إيمانهم لفي عليين، وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) وهذا تنبيه له صلّى الله عليه وسلّم على أنه معلوم له، كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) أي إن كتاب أعمالهم موضوع في عليين مكتوب في لوح من زبرجد أخضر، معلق تحت عرش الرحمن، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) أي يشهد الملائكة المقربون ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين كرامة للمؤمنين، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة لتعظيمه، إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) أي في جنة دائم نعيمها عَلَى الْأَرائِكِ أي الأسرة في الحجال، يَنْظُرُونَ (23) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من أنواع النعيم والعذاب للكفار، تَعْرِفُ يا من يتأتى منك المعرفة فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) أي بهجة التنعم ورونقه من النور والضحك. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق، وشيبة، وطلحة، ويعقوب، والزعفراني تعرف مبنيا للمفعول ورفع نضرة وعلي بن زيد كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء التحتية، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ أي شراب خالص مَخْتُومٍ (25) ، أي يختم رأس قارورة ذلك الرحيق أوله ختام أي عاقبة

_ (1) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد، باب: مثل الدنيا، ومسلم في كتاب الزهد، باب: 1، وأحمد في (م 2/ ص 197) .

[سورة المطففين (83) : الآيات 31 إلى 36]

خِتامُهُ مِسْكٌ أي الذي يختم به رأس الإناء هو المسك، أو عاقبته المسك أي يختم له برائحة المسك. وقرأ الكسائي «خاتمه» بفتح التاء بعد الألف. وروي عنه أيضا كسر التاء، والمعنى: خاتم رائحة ذلك الشراب مسك، وَفِي ذلِكَ أي الرحيق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) أي وما يمزج به ذلك الرحيق من ماء تسنيم. سميت هذه العين بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة، أو لأنها تأتيهم من فوق عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) ، وهم أفضل أهل الجنة، كما أن التسنيم هو أفضل أنهار الجنة. قال ابن عباس: أشرف شراب أهل الجنة هو تسنيم، لأنه يشربه المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين، إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) أي إن أكابر المشركين كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي، كانوا يضحكون من أجل فقراء المؤمنين كعمار، وصهيب، وبلال، وخباب، وَإِذا مَرُّوا أي فقراء المؤمنين يأتون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِهِمْ ، أي بالمشركين وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ (30) ، أي يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه. قيل: جاء علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) أي وإذا رجع الكفار من مجالسهم إلى أهلهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الشرك والتنعم بالدنيا، أو ملتذين بذكر المسلمين بالسوء. وقرأ عاصم في رواية حفص عنه «فكهين» بغير ألف في هذا الموضع وحده والباقون بالألف، وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) أي وإذا رأى المجرمون المؤمنين أينما كانوا قالوا: إن هؤلاء المؤمنين على ضلال في تركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدري هل له وجود أم لا؟ والحال أن الله تعالى لم يبعث هؤلاء الكفار رقباء على المؤمنين يحفظون عليهم أحوالهم بل إنما أمروا بإصلاح أنفسهم، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) أي فيوم القيامة يضحك المؤمنون على الكفار حين يرونهم مغلولين أذلاء عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) ، وهذا حال من فاعل «يضحكون» ، أي يضحك المؤمنون على الكفار ناظرين حال كونهم على سرر الحجال إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) ؟ وهذا على سبيل التهكم، والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بشريعتكم كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة فيكون هذا القول زائدا في سرورهم.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق مكية، خمس وعشرون آية، مائة وتسع كلمات، سبعمائة وثلاثون حرفا إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) من المجرة بالغمام، والمجرة: هي البياض المعترض في السماء وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي انقادت لتأثير قدرته، وَحُقَّتْ (2) أي وهي حقيقة بأن تنقاد، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) مد الأديم العكاظي وزيدت في سعتها، وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت بما في جوفها من الموتى والكنوز، وَتَخَلَّتْ (4) أي وخلت غاية الخلو حتى لم يبق في باطنها شيء، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي انقادت له في الإلقاء والتخلي، وَحُقَّتْ (5) أي وهي حقيقة بذلك وقوله تعالى: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها يدل على نفوذ القدرة في شق السماء وبسط الأرض، وإخلاء ما فيها من غير ممانعة أصلا، وجواب «إذا» محذوف تقديره: علمت نفس عملها، أو ليذهب الوهم إلى كل شيء، وإن جعلت غير شرطية فهو منصوب باذكر مقدرا. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) أي يا ابن آدم إنك متعب النفس في العمل في دنياك تعبا حتى ترجع به إلى ربك في الآخرة فملاق ذلك العمل خيرا كان أو شرا في الكتاب الذي فيه بيانه، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) أي فأما من أعطى كتاب عمله الذي كتبه الملائكة بيمينه من أمامه، فسوف يحاسب حسابا هينا، وهو العرض ويرجع إلى عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا: هاؤم اقرؤا كتابي. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) أي وأما من أعطي كتاب عمله بشماله من وراء ظهره فسوف يتمنى الهلاك ويناديه بقوله: يا ثبوراه تعال وهذا أوانك وَيَصْلى سَعِيراً (12) ، أي ويدخل نارا وقودا. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام. وقيل: قرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو بضم الياء وسكون الصاد. والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ أي فيما بين عشيرته في الدنيا مَسْرُوراً (13) بما هو عليه من الكفر بالله والتكذيب بالبعث يضحك ممن آمن بالله وصدق بالحساب. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «1» . إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) أي إنه ظن أنه لن يرجع في الآخرة إلى خلاف ما

_ (1) رواه مسلم في كتاب الزهد، باب: 73.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 21 إلى 25]

هو عليه في الدنيا من السرور والتنعم بَلى إن الله تعالى يبدل سروره بغم لا ينقطع وتنعمه ببلاء لا يزول، إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) أي إن ربه كان عالما بما يعمله من الكفر والمعاصي فلم يهمله بأن لا يعاقبه على سوء أعماله. وقيل: نزلت هاتان الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأسد وأخيه الأسود، فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وهو حمرة المغرب بعد غروب الشمس، وهي الأثر الباقي في الأفق من الشمس والفاء في جواب شرط مقدر، و «لا» زائدة أو نفي وهو رد لكلام قبل القسم، أي إذا عرفت هذا فلا تظن عدم الرجوع إلى الله في الآخرة، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) أي جمع فإذا ستر الليل بظلمته الجبال والبحار والأشجار والحيوانات فقد جمعها وحملها، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) أي تكامل وذلك في ثلاث ليال: ليلة ثلاثة عشر، وليلة أربعة عشر، وليلة خمسة عشر. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) أي لتحولن يا أيها الإنسان حالا بعد حال، وذلك من حين خلقهم الله إلى أن يموتوا ومن حين موتهم إلى أن يدخلوا الجنة، أو النار. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان في «يا أيها الإنسان» . والمعنى: كخطاب الجنس في قراءة العامة أو على خطاب الرسول، والمعنى: لتصعدن يا أشرف الرسل طبقا مجاوزا لطبق في ليلة المعراج أي من سماء إلى سماء، أو لتركبن حال ظفر وغلبة بعد حال خوف وشدة. وقرئ بكسر الباء على خطاب النفس، أي لتركبن أيها النفس طريقة أمة من الناس بعد أمة. وقرئ «ليركبن» بالياء على المغايبة، وفتح الباء، أي ليركبن هذا المكذب بيوم الدين حالا بعد حال من حين يموت إلى أن يدخل النار، فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) أي إذا كان حالهم كما ذكر فأي شيء ثبت لكفار مكة حال كونهم غير مؤمنين ويقال: فأيّ شيء لبني عبد ياليل الثقفي يمنعهم من الإيمان، وكانوا ثلاثة مسعود، وحبيب، وربيعة. فأسلم منهم بعد ذلك حبيب وربيعة. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) أي لا يخضعون بأن يؤمنوا به، ولا يسجدون لتلاوته عند آيات مخصوصة. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] . فسجد هو ومن معه من المؤمنين، وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت هذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه على وجوب السجدة. وعن الحسن هي غير واجبة، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) بالقرآن الناطق بأحوال القيامة، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته إما للحسد وإما لتقليد الأسلاف، وإما لخوف فوت مناصب الدنيا ومنافعها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) أي بما يضمرون في قلوبهم من التكذيب، فهو مجازيهم عليه في الدنيا والآخرة، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي أخبر يا أشرف الخلق من لا يؤمن بعذاب مؤلم إلا من تاب منهم لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) ، أي غير منقوص، ولا مكدر ولا مقطوع ويقال: غير منقوص حسناتهم بعد الهرم والموت.

سورة البروج

سورة البروج مكية، ثنتان وعشرون آية، مائة وتسع كلمات، أربعمائة وثمانية وخمسون حرفا وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) أي ذات المحال الاثني عشر، والطرق التي تسير فيها الكواكب السبعة وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) ، وهو يوم القيامة فإن الله تعالى وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) فالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق، والمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) وهذا دليل جواب قسم محذوف، والتقدير: أقسم بهذه الأشياء إن كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود، وقيل: إن الجواب قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] . والأخدود شق مستطيل في الأرض كالنهر، وذكر أن طوله أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا. وأصحاب الأخدود هم أناس كانوا بمدارع اليمن كما قاله قتادة عن علي، أو هم الحبشة كما قاله الحسن عن علي أيضا. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) من النفط، والزفت، والحطب. وقرئ بضم الواو بمعنى الاتقاد وقوله: «النار» بدل اشتمال من الأخدود، ثم إن أصحاب الأخدود إما الجبابرة الذين قتلوا المؤمنين، فحينئذ إن قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ إما خبر فالمعنى: أن أولئك القاتلين قتلوا بالنار على القول بأن الجبابرة لما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم فهم في تلك الحالة كانوا ملعونين، فالمعنى: أنهم خسروا الدنيا والآخرة، أو دعاء عليهم أي لعن أصحاب الأخدود، وإما المؤمنون المقتولون بالإحراق بالنار. فيكون قوله تعالى: لعن أصحاب الأخدود خبرا لا دعاء. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) ظرف ل «قتل» أي لعنوا حين كانوا جالسين على شفير النار يعذبون المؤمنين، فإن النار ارتفعت إليهم فهلكوا، أو يقال لعنوا إذ المؤمنون مطرحون على النار، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) أي وهؤلاء الكفار مع ما يفعلون بالمؤمنين من الإحراق بالنار حضور لم تحصل في قلوبهم، شفقة ولا رأفة لغاية قسوة قلوبهم والوقف هنا تام إن جعل جواب القسم قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ بتقدير لقد وجائزا لطول الكلام إن جعل جواب القسم إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] . روى مسلم عن صهيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان الملك فيمن قبلكم ساحر فلما كبر قال

للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما ليعلمه، وكان في سلوك طريقه راهب فسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب فقعد إليه فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب وسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، ثم رأى الغلام في طريقه ذات يوم حية قد حبست الناس فأخذ حجرا وقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فقوني على قتل هذه الحية بواسطة رمي الحجر إليها، ثم رمى الحجر فقتلها، ومضى الناس فاشتغل بطريقة الراهب، ثم صار إلى حيث يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك إن شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحد إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فغضب فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فأحضر الراهب، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى فقد بالمنشار من مفرق رأسه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقال له: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقال له: ارجع عن دينك، فأبى، فقال لأصحابه: اذهبوا به فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فاطرحوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل، فسقطوا وهلكوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله، فقال لأصحابه اذهبوا به إلى البحر فاحملوه في قرقورة «1» فتوسطوا به البحر فاقذفوه إن لم يرجع عن دينه، فذهبوا به فلججوا به ليغرقوه فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا ومشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك فقال: كفانيهم الله، فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، وتقول: باسم الله رب هذا الغلام، ثم ترميني به ففعل الملك ذلك فرماه بالسهم فوقع في صدغه فوضع يده عليه، ومات، فقال الناس آمنا برب هذا الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذره، فأمر بأخاديد في أفواه السكك، وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» «2» . وعن ابن عباس قال: كان بنجران بلد باليمن ملك من ملوك

_ (1) القرقورة: وهي السبغة الطويلة [القاموس المحيط، مادة: قرقر] . (2) رواه ابن ماجة في كتاب الصيام، باب: صيام العشر، وأحمد في (م 1/ ص 156) .

حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرجيل في الفترة قبل أن يولد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ولم يجد بدا من طاعة أبيه، فجعل يتردد إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت، فأعجبه ذلك، فقعد إليه، وسمع كلامه ذاهبا، وراجعا فدعا الناس إلى دين عيسى عليه السلام، فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيره بين النار واليهودية، فأبى إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول، قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك، فقتله، فقال الناس: لا إله إلا إله عبد الله بن تامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة وأخذ أفواه السكك وجعله أخدودا وملأه نارا فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار، فأبت أخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي فأبت، فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق، ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار وألقيت أمه عقبه. وعن وهب بن منبه: أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد، ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه، فغرق. وقال محمد ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر: إن خربة احترقت في زمن عمر، فوجدوا عبد الله بن تامر واضعا يده على ضربة في رأسه إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت رجعت إلى مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه ربي الله فبلغ ذلك عمر، فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه. وروي عن علي أنه قال: حين اختلفوا في أحكام المجوس: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم، فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول يا أيها الناس إن الله تعالى قد أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله قد حرمه، فخطب فلم يقبلوا منه ذلك، فقالت: أبسط فيهم السوط، ففعل فلم يقبلوا، فقالت: أبسط فيهم السيف ففعل، فلم يقبلوا، فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها. فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا أي وما عابوا من المؤمنين إلا إيمانهم بِاللَّهِ الْعَزِيزِ أي القادر الذي لا يغلب، والقاهر الذي لا يدفع الْحَمِيدِ (8) أي الذي يستحق الثناء على ألسنة عباده المؤمنين الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وخزائن المطر، والنبات وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) وهذا وعد عظيم للمطيعين ووعيد شديد للمجرمين إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي إن الذين أحرقوهم بالنار كما قاله

[سورة البروج (85) : الآيات 11 إلى 20]

ابن عباس، ومقاتل أو أن الذين محنوهم في دينهم بالأذية والتعذيب ليرجعوا عنه، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا عن كفرهم وفتنتهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) أي فلهم في الآخرة عذاب بسبب كفرهم، وعذاب زائد على عذاب الكفر بسبب إحراق المؤمنين بالنار، أو عذاب برد، وعذاب إحراق، أو فلهم في الآخرة عذاب جهنم، وفي الدنيا عذاب الحريق حيث ارتفعت عليهم نار الأخدود فاحترقوا بها، وكان هؤلاء قوما من نجران، وقيل: من أهل الموصل، وكان ملكهم يسمى يوسف، ويقال له ذو نواس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب الإيمان والعمل الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يتلذذون ببردها ويزول عنهم برؤية ذلك مع رؤية الأشجار جميع الأحزان والمضار ذلِكَ أي حيازتهم للجنات الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) وهو رضا الله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ أي أن أخذه بالعذاب لمن لا يؤمن به لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) أي أنه تعالى يخلق خلقه، ثم يفنيهم، ثم يعيدهم أحياء ليجازيهم في القيامة، فذلك الإمهال لهذا السبب لا لأجل الإهمال ومن كان قادرا على الإيجاد والإعادة كان بطشه في غاية الشدة، وَهُوَ الْغَفُورُ لمن تاب من الكفر الْوَدُودُ (14) أي المحب لمن أطاع. ذُو الْعَرْشِ أي خالقه ومالكه. وقرئ «ذي العرش» على أنه صفة لربك. الْمَجِيدُ (15) قرأ حمزة، والكسائي بالجر على أنه صفة للعرش أو لربك، والباقون بالرفع على أنه خبر بعد خبر. قال العلماء: إن مجد الله عظمته بحسب الجود الذاتي، وكمال القدرة، والعلم، والحكمة، ومجد العرش: علوه في الجهة، وعظمة مقداره، وحسن صورته، وتركيبه. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) يدخل أولياءه الجنة لا يمنعه منه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء، ويعذب من شاء منهم في الدنيا وفي الآخرة يفعل من هذه الأشياء، ومن غيرها ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه معترض، ولا يغلبه غالب. قال الرازي: «فعال» خبر مبتدأ محذوف وقال الطبري: رفع «فعال» وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب «الغفور الودود» . هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) أي قد أتاك يا أشرف الرسل خبر الجموع فرعون وقومه، وثمود، وعرفت ما فعلوا من الكفر والضلال، وما فعل بهم من العذاب، والنكال، فأنذر قومك أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم، «وفرعون» ، «وثمود» بدل من «الجنود» فذكر الله تعالى من المتقدمين ثمود ومن المتأخرين فرعون لأن ثمود كانوا في بلاد العرب، وقصتهم عندهم مشهورة، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم فدل بهما على أمثالهما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) أي ليست جناية قومك مجرد عدم الاتعاظ بما سمعوا من حديث أولئك، بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك في أنه قرآن من عند الله تعالى مع ظهور حاله بالبينات الباهرة، والحال أن الله تعالى قادر على

[سورة البروج (85) : الآيات 21 إلى 22]

إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم بالقرآن والنبوة وهم في قبضته تعالى كالمحاط إذا أحيط به من ورائه فسد عليه مسلكه فلا يجد مهربا، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) أي ليس الأمر كما قالوا، بل هذا القرآن الذي يقرؤه محمد كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى مكتوب في لوح محفوظ من وصول الشياطين إليه، ومن التحريف. وقرأ نافع «محفوظ» بالرفع على أنه نعت ل «قرآن» ، والباقون بالجر على أنه نعت ل «لوح» ، وقرئ «قرآن مجيد» بالإضافة أي قرآن رب مجيد، وقرأ يحيى بن يعمر، وابن السميقع «في لوح» بضم اللام وهو الهواء الذي فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح بفتح اللام، وهو عن يمين العرش مكتوب في صدره لا إله إلا الله وحده دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله، وصدق بوعده، واتبع رسله أدخله جنته، وكونه محفوظا إما محفوظ عن أن يمسه إلا المطهرون، أو عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة المقربين، أو عن أن يجري عليه تغيير وتبديل، فلما حكم فيه بسعادة قوم وشقاوة قوم وبتأذي قوم من قوم امتنع تغيره وتبدله فوجب الرضا به.

سورة الطارق

سورة الطارق مكية، سبع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وواحد وسبعون حرفا وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) أي الظاهر في الليل وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما الطارق قال سفيان بن عيينة: كل شيء في القرآن ما أدراك فقد أخبر الله الرسول به، وكل شيء فيه وما يدريك لم يخبره به النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام أي هو النجم المضيء في الغاية كأنه يثقب الأفلاك بضوئه، وينفذ فيها قيل: هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح، وهو النجم الذي يهتدى به في ظلمات البر والبحر، ويوقف به على أوقات الأمطار، أو هو جنس الشهب الذي يرجم بها، ووصف النجم بكونه طارقا لأنه يبدو بالليل أو لأنه يطرق الجني أن يصكه، وقال محمد بن الحسين، والفراء: إنه زحل لأنه يثقب بنوره سمك سبع سموات، وقال ابن زيد: هو الثريا، وقال ابن عباس: هو الجدي، وقال علي: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل، فهو طارق حين ينزل وحين يصعد، وقال آخرون: إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] روي أن أبا طالب أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز ولبن، فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأت الأرض نورا ففزع أبو طالب، وقال: أي شيء هذا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله» فعجب أبو طالب، فنزلت هذه السورة إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) ، وهذا جواب للقسم، و «إن» نافية و «لما» بمعنى إلا، أي ما كل نفس إلا عليها رقيب، وهو الله تعالى وهذا بالتشديد على قراءة عاصم، وحمزة، وابن عامر، والنخعي أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ونافع، والكسائي، وهي بتخفيف الميم ف «إن» مخففة من الثقيلة واللام في «لما» مخلصة من «إن» النافية وما صلة أي إن الشأن كل نفس برة أو فاجرة لعليها من يحصي عليها ما تكسب من خير وشر وهم الملائكة. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ أبو طالب وغيره مِمَّ خُلِقَ (5) أي من أي شيء خلق نفسه خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) ، وهو استئناف وقع جوابا عن استفهام أي خلق الإنسان من ماء ذي سيلان بسرعة في رحم المرأة يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 إلى 17]

أي من صلب ماء الرجل، ومن عظام صدر المرأة، وقال الحسن: يخرج من صلب الرجل وترائبه، ومن صلب المرأة وترائبها، وحكى القرطبي أن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يتجمع في الأنثيين إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) أي إن الذي خلق الإنسان ابتداء قادر على رده حيا بعد موته. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) أي يظهر ما أخفي من الأعمال، وما أسر في القلوب من العقائد، والنيات، وهو يوم القيامة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في الوجوه وشينا في الوجوه هذا إن أريد برجعه نشر الإنسان يوم القيامة، ف «يوم» ظرف نرجعه فلا يوقف على قوله تعالى: لَقادِرٌ وإن أريد برجعه رد الماء إلى الإحليل كما قاله مجاهد، أو إلى الصلب كما قاله عكرمة، والضحاك، أورد الإنسان ماء كما كان قبل كما قاله الضحاك أيضا ف «يوم» منصوب بمضمر أي واذكر «يوم» فالوقف على «لقادر» كاف كالوقف على «السرائر» إلا إذا جرينا على قول الرازي: إن «يوم» منصوب بقوله: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ فلا وقف على السرائر فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) أي فما للإنسان شيء من قوة يدفع به عن نفسه ما جاء من عذاب الله، ولا أحد من الأنصار ينصره في دفعه، وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) أي ذات المطر بعد المطر حينا بعد حين، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) أي ذات النبات لأن الأرض تنصدع بالنبات كما قاله الليث. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) أي إن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى سرائركم فيه لقول حق، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) أي ليس ذلك الخبر بالباطل وهذا كما قاله القفال، لكن أكثر المفسرين قالوا: أي أن القرآن الذي أخبر بمبدأ حال الإنسان ومعاده لقول مبين، حق، وقاطع شر، وليس في شيء منه لعب، بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) أي إن أهل مكة يمكرون في إبطال أمر القرآن وإطفاء نوره، وَأَكِيدُ كَيْداً (16) أي أقابلهم بكيد قوي لا يمكن رده حيث أمهلهم على كفرهم حتى آخذهم على غرة فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل يا أشرف الخلق بالدعاء عليهم بإهلاكهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) أي أمهلهم على مهلة قريبة إلى يوم القيامة أو أمهلهم إمهالا قليلا إلى يوم بدر ف «رويدا» إما مصدر مؤكد لمعنى العامل، أو نعت لمصدره المحذوف.

سورة الأعلى

سورة الأعلى مكية، تسع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وأربعة وثمانون حرفا سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) أي نزه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه بالتأويلات الزائغة، وعن إطلاقه على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيه، فلا يجوز تفسير أسمائه تعالى بما لا يصح ثبوته في حقه تعالى نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان، والاستواء بالاستقرار، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار، والاستواء بالاستيلاء، ولا يجوز أن يذكر العبد ربه إلا بالأسماء التي ورد الإذن بها من الشرع قال الواحدي: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أي نزه الاسم من السوء ومعنى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ نزه الله تعالى بذكر اسمه الدال على تنزيهه تعالى وعلوه عما يقول المبطلون، ومعنى الأعلى أن جلال كبريائه أعلى من معارفنا وإدراكاتنا وأصناف آلائه ونعمائه أعلا من حمدنا وشكرنا، وأنواع حقوقه أعلى من طاعاتنا وأعمالنا. وقرأ علي، وابن عمر «سبحان ربي الأعلى» الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) أي الذي خلق كل ذي روح فكمل خلقه باليدين، والرجلين، والعينين، والأذنين، وسائر الأعضاء، وَالَّذِي قَدَّرَ قرأه الجمهور مشددا أي أوقع تقديره في كل شيء، فقدر خلقه حسنا أو دميما، طويلا أو قصيرا، وقدر أرزاقهم وآجالهم، وقرأه الكسائي على التخفيف أي تصرف في خلقه كيف أراد فَهَدى (3) أي لمنافع الخلق ومصالحه فألهم كيف يأتي الذكر الأنثى، ويروى أن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تحك عينها بورق الرازيانج فيرد الله إليها بصرها، ويروى أن التمساح لا يكون له دبر وإنما يخرج فضلات ما يأكله من فمه حيث قيض الله له طائرا قدر غذاءه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه، وقد خلق الله تعالى له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) أي أنبت النبات والزروع، وقال ابن عباس: أي الكلأ الأخضر فَجَعَلَهُ بعد خضرته غُثاءً أَحْوى (5) أي درينا أسود بأن ألصق السيل أجزاء كدورة به فيسود سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) أي نجعلك قارئا للقرآن فتقرؤه فلا تنسى أي إنّا نشرح صدرك ونقوي خاطرك حتى تحفظ القرآن حفظا لا تنساه. قال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه القرآن أكثر تحريك لسانه مخافة أن ينسى، وكان جبريل لا يفرغ من آخر الوحي. فقال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى أي سنعلمك

[سورة الأعلى (87) : الآيات 11 إلى 19]

هذا القرآن حتى تحفظه إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن ينسى النبي شيئا من القرآن، وهذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصير النبي ناسيا لذلك لقدر عليه، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن الله تعالى يعرفه قدرة الله حتى يعلم أن عدم النسيان من فضل الله لا من قوته صلّى الله عليه وسلّم، وقال الزجاج: أي إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى ثم يتذكر بعد ذلك فلا ينسى، نسيانا كليا دائما، وقال مقاتل: إلا ما شاء الله أن ينسيه فيكون المعنى إلا ما شاء الله أن تنساه على الأوقات كلها، فيأمرك أن لا تقرأه ولا تصلي به فيصير ذلك سببا لنسيانه وزواله من الصدور. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) أي أنه تعالى عالم بجهرك في القراءة مع قراءة جبريل عليه السلام، وعالم بالسر الذي في قلبك وهو أنك تخاف النسيان فلا تخف فأنا أكفيك ما تخافه، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) أي نوفقك للطريقة اليسرى في كل أبواب من باب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية، فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) أي عظ يا أشرف الرسل الناس بالقرآن واهدهم إلى ما فيه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله إن نفعت الموعظة، فالتذكير العام واجب في أول الأمر، فأما التكرير فإنما يجب عند رجاء حصول المقصود، فلهذا المعنى قيد التذكير بهذا الشرط وقيل «إن» بمعنى إذ كقوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، [آل عمران: 139] سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وهو من قطع بصحة المعاد، ومن جوز وجوده بخلاف من أصر على إنكاره وقطع بأنه لا يكون. قيل: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان، وقيل: نزلت في ابن أم مكتوم، يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) أي ويتباعد عن الموعظة بالقرآن الأشقى، وهو المعاند الذي لا يلتفت إلى الدعوة ولا يصغي إليها فالفرق ثلاثة: العارف بصحة المعاد، والمتوقف فيه، والمعاند. فالعارف هو السعيد، والمتوقف له بعض الشقاء، والمعاند هو الأشقى، قيل: نزلت هذه الآية في الوليد، وعتبة، وأبي الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) أي الذي يدخل الطبقة السفلى من طبقات النار، ثُمَّ بعد دخوله النار لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَلا يَحْيى (13) حياة تنفعه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) أي تطهر من دنس الشرك، كما قال ابن عباس أي من قال: لا إله إلا الله، وقال الزجاج: أي من تكثر من التقوى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بقلبه ولسانه فَصَلَّى (15) فمراتب أعمال المكلف ثلاثة: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، واستحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه، والاشتغال بخدمته، وقال بعضهم أي قد فاز من تصدق بصدقة الفطر قبل خروجه إلى المصلى، وكبر الله تعالى، ثم صلى صلاة العيد مع الإيمان فأثنى الله على من فعل ذلك، وإن لم يكن في مكة عيد ولا زكاة فطر لأن ذلك في علم الله سيكون، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) أي أنتم يا كفار مكة لا تفعلون ذلك، بل أنتم ترضون اللذات الفانية وتطمئنون بها وتعرضون عن الآخرة بالكلية، أو أنتم أيها المسلمون لا تكثرون من التقوى، بل تستكثرون من الدنيا الدنية على الاستكثار من الثواب، وقرأ أبو عمرو «يؤثرون» بالياء أي الأشقون، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) أي والحال أن الآخرة خير في نفسها وأدوم لأنها مشتملة على السعادة الجسمانية والروحانية ولذاتها خالصة عن الغائلة إِنَّ هذا أي قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ، لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) أي لثابت معناه فيها صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) .

سورة الغاشية

سورة الغاشية مكية، ست وعشرون آية، اثنتان وتسعون كلمة، ثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) أي خبر القيامة التي تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين بشدائدها، و «هل» استفهام أريد به التعجب مما في ذلك الحديث، والتشويق إلى استماعه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ (2) أي ذليلة بالعذاب عامِلَةٌ أعمالا شاقة ناصِبَةٌ (3) أي ذات تعب فيها، وهي جر السلاسل، والأغلال، وخوضهم في النار خوض الإبل في الوحل، وصعودهم في تلال النار وهبوطهم في وهادها وهم الرهبان وأصحاب الصوامع كما قاله ابن عباس، أو هم الخوارج كما قاله علي تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) أي تدخل نارا متناهية في الحر. وقرأ أبو عمرو، وعاصم بضم التاء الفوقية وقوله تعالى: وُجُوهٌ مبتدأ وخاشِعَةٌ وما بعده خبره، وقيل خبره «تصلى» وما قبله صفات ل «وجوه» ولا يوقف قبل الخبر، وقرئ «عاملة» ناصبة على الشتم تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) أي متناهية في الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) وهو ما يبس من الشبرق وهو نبت يكون في طريق مكة إذا كان رطبا تأكل منه الإبل، وإذا يبس صار كأظفار الهرة، وهو سم قاتل، وهذا طعام لبعض أهل النار، والزقوم، والغسلين لآخرين لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) أي غير مسمن وغير مشبع لأنه ليس من جنس ضريع الدنيا. روي أن كفار قريش قالت: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت هذه الآية، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) أي ذات حسن وجمال لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) أي لثواب عملها الذي عملته في الدنيا راضية حين رأت ذلك الثواب حتى لا تريد أكثر منه فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) مكانا ومنقبة لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) . قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وحفص بفتح التاء ونصب «لاغية» أي لا تسمع أنت يا أكرم الرسل، أو يا مخاطب، أو لا تسمع الوجوه في الجنة كلمة ذات لغو، فإنما يتكلمون بالحكمة، وحمد الله على النعم، وقرأ نافع بضم التاء الفوقية ورفع «لاغية» ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم الياء التحتية ورفع «لاغية» ، وقرأ المفضل، والجحدري بفتح الياء التحتية ونصب «لاغية» أي لا يسمع فيها أحد يمينا لا برة ولا فاجرة فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) أي في الجنة عين شراب جارية على

[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 إلى 26]

وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) في الهواء لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه ربه في الجنة من النعيم، والملك. قال ابن عباس: هي سرر ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء وَأَكْوابٌ أي كيزان مَوْضُوعَةٌ (14) بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب، أو فضة، أو من جوهر وتلذذهم بالشراب منها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ (15) بعضها إلى جانب بعض أينما أراد أن يجلس جلس على واحدة واستند إلى أخرى وَزَرابِيُّ أي بسط فاخرة مَبْثُوثَةٌ (16) أي منشورة مفرقة في المجالس، فلما أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك قال كفار مكة: ائتنا بآية بأن الله أرسلك إلينا رسولا فقال الله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) أي أينكر كفار مكة البعث، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله فلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت بشدة قوتها، وعجيب هيئتها، وصبرها على الجوع، والعطش، واحتمال المداومة على السير، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) فوق الأرض بلا عماد ولا إمساك وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) نصبا رضيا على الأرض لا يتزلزل وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) أي بسطت على الماء. وقرئ «سطحت» مشددا، وقرأ علي رضي الله عنه وكرم وجهه «خلقت» و «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» على البناء للفاعل وبتاء المتكلم، فَذَكِّرْ أي فاقتصر على التذكير والحمل على النظر في هذه الأدلة إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) فلا بأس عليك في أن لا ينظروا بالاعتبار ولا يتذكروا بالافتكار إنما عليك البلاغ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) أي لست يا أشرف الخلق بمتسلط عليهم بأن تجبرهم على الإيمان، وقرأ هشام بالسين، وحمزة بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة، وقرئ بفتح الطاء إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) ، وفي هذا الاستثناء قولان: أحدهما: إنه استثناء حقيقي وفي هذا احتمالان: إما أن يكون مستثنى من المفعول أي فذكر عبادي إلا من أعرض عن الإيمان وكفر بالقرآن فاستحق العذاب الأكبر، وإما أن يكون مستثنى من الضمير في «عليهم» أي لست عليهم بمسيطر إلا على من انقطع طمعك من إيمانه وتولى عنك وكفر بالله، فإن لله القهر، وسيأمرك بقتالهم، فإن جهاد الكفار وقتلهم تسليط، فكأنه تعالى أوعدهم بالجهاد في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة. ثانيهما: إن هذا الاستثناء منقطع عما قبله والتقدير لست بمستول عليهم، لكن من تولى منهم فإن الله تعالى يعذبه العذاب الأكبر الذي هو عذاب جهنم، وعلامة كون الاستثناء منقطعا حسن دخول «أن» في المستثنى به وإذا كان الاستثناء متصلا لم يحسن ذلك ألا ترى أنك تقول: عندي مائتان إلا درهما، فلا يحسن عليه دخول أن، وهاهنا يحسن دخول أن فإنك تقول إلا أن من تولى وكفر، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) وسمي العذاب بالأكبر لأنه قد بلغ حد عذاب

الكفر، فإن ما عداه من عذاب الفسق دونه، وقرئ «ألا من تولى» بفتح الهمزة على التنبيه، وهذا مما يقوي القول بأن الاستثناء منقطع، وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه الله» . إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) أي رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا قرأ أبو جعفر المدني بتشديد الياء، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) في المحشر على النقير والقمطير لا على غيرنا، والحساب واجب عليه تعالى بحكم الوعد الذي يمتنع الخلف فيه، وفي الحكمة فإنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لكان ذلك شبيها بكونه تعالى راضيا بذلك الظلم تعالى الله تعالى عنه، وذكر تعالى هذه الآية ليزيل بها عن قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم حزنه على كفرهم.

سورة الفجر

سورة الفجر مكية، تسع وعشرون آية، مائة وتسع وثلاثون كلمة، خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا وَالْفَجْرِ (1) وهو صبح النهار أقسم الله به لحصول انتشار الناس وسائر الحيوانات به في طلب الرزق، فهو مشاكل لنشور الموتى من قبورهم وفيه عبرة لمن تأمل، وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) من أول ذي الحجة وفي الخبر: «ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل من أيام العشر» «1» ، وذلك لأنها أيام الاشتغال بالحج في الجملة، وقرئ و «ليال عشر» بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) فالشفع يوم النحر، والوتر يوم عرفة، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسرهما بيوم النحر، ويوم عرفة، وقال أبو بكر الوراق «الشفع» صفات الخلق كالعلم والجهل، والقدرة، والعجز، والبصر، والعمى، والحياة، والموت، والوتر صفات الله تعالى وهي وجود بلا عدم، حياة بلا موت، علم بلا جهل، قدرة بلا عجز، عز بلا ذل، وقال مقاتل: «الشفع» : هو الليالي والأيام، و «الوتر» هو اليوم الذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة، وقرأ حمزة والكسائي «والوتر» بكسر الواو، والباقون بفتحها، والكسر قراءة الحسن، والأعمش، وابن عباس، وهي لغة تميم، والفتح قراءة أهل المدينة، وهي لغة حجازية، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) أي يذهب وهي ليلة المزدلفة، فإنه يذهب ويجيء فيه الناس، وقال مقاتل: أي إذا يسار في ذلك الليل وهي ليلة المزدلفة، وقرأ نافع: وأبو عمرو بحذف ياء يسر وقفا وبإثباتها وصلا، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم، وقرئ «يسر» بالتنوين كما قرئ به «والفجر» «والوتر» وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الإطلاق هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أي هل في هذه الأشياء المذكورة مقسم به لذي عقل، والمراد من هذا الاستفهام التأكيد والتحقيق والمعنى: أن من كان ذا لب علم أن ما أقسم الله تعالى بهذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه، وجواب القسم محذوف لدلالة المعنى عليه أي لنجازين كل أحد بما عمل بدليل تعديد ما فعل بالقرون الخالية، فالوقف هنا تام

_ (1) رواه القرطبي في التفسير (20: 88) . [.....]

كما قاله أبو حاتم وغيره، وقال ابن الأنباري: جواب القسم قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي وإنما أجازوا الوقف هنا لطول الكلام، لكن ينبغي حينئذ أن يقال وقف صالح أو نحوه لا تام للفصل بين القسم وجوابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) أي ألم تعلم يا أشرف الخلق علما يقينا كيف أهلك الله قوم هود عند التكذيب إِرَمَ عطف بيان ل «عاد» للإعلام بأنهم عاد الأولى القديمة إن جعلنا إرم اسما للقبيلة بتقدير مضاف أي سبط إرم فإرم جد عاد فإن عادا هو ابن عوص بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام وإن جعلناه اسم البلدة كان التقدير بعاد أهل إرم ويدل عليه قراءة ابن الزبير «بعاد إرم» على الإضافة وقرأ الحسن «بعاد إرم» مفتوحتين ذاتِ الْعِمادِ (7) أي ذات الأساطين من ذهب وفضة أي ذات القدود الطوال الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أي مثل تلك المدينة في الحسن، والجمال، أو مثل عاد في عظم الجثة وشدة القوة فِي الْبِلادِ (8) أي في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير و «لم يخلق مثلها» بالبناء للفاعل أي لم يخلق الله مثل إرم مدينة شداد. روي أنه كان لعاد ابنان شداد، وشديد فملكا بعده وقهرا البلاد والعباد، ثم مات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له الدنيا، وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها ودعته نفسه إلى بناء مثلها عتوا على الله تعالى فبنى مدينة إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب، والفضة، وأساطينها من الزبرجد، والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة، فروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب المدينة، فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة وأحجار اللؤلؤ والياقوت، وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضا وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فلما عاين ذلك، ولم ير أحدا هاله ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة وتحت تلك الأشجار أنهار يجري ماؤها في قنوات من فضة، فقال الرجل في نفسه: هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدث بما رأى، فبلغ ذلك معاوية فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه وقال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال: نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد ابن عاد، قال: فحدثني حديثها، فقال: لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف

[سورة الفجر (89) : الآيات 11 إلى 20]

من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوهم بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضا موافقة فوقفوا على صخرة نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا: هذه الأرض التي أمر الملك أن يبني فيها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا فاجعلوا حصنا أي سوار واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي، ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيئوا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، ولم يبق منهم أحد، ثم قال كعب: وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة، فقال: هذا والله هو ذلك الرجل، وَثَمُودَ أي وكيف أهلك الله قوم صالح، وثمود قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عامر بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وكانوا يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك يعبدون الأصنام كعاد الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) أي الذين نقبوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتا بوادي القرى، وهو موضع بقرب المدينة قيل: هم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس ويشهدهم بأربعة أوتاد مطروحين على الأرض إلى أن يموتوا، وقيل: لكثرة جنوده وخيامهم التي ينصبونها في منازلهم، وقال ابن عباس أي ذي الجنود والعساكر التي تشد ملكه الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) والموصول منصوب على الذم أو مرفوع كذلك أي الذين تجبر كل واحد من عاد، وثمود، وفرعون في بلادهم على أنبياء الله والمؤمنين فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) بالقتل وعبادة الأوثان وسائر المعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) أي فأنزل الله إنزالا شديدا عقب طغيانهم وفسادهم على كل طائفة من أولئك الطوائف جزء عذاب فأهلك عادا بالريح، وثمود بالصيحة، وفرعون بالغرق، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أنزله الله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به إِنَّ رَبَّكَ يا أشرف الخلق لَبِالْمِرْصادِ (14) أي لفي الطريق عليه تعالى ممر سائر الخلق كما قاله ابن عباس أو إن إليه المصير كما قاله الفراء وهذا عام للمؤمنين والكافرين فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي إذا امتحنه ربه بالنعمة فَأَكْرَمَهُ بالمال والجاه والولد وَنَعَّمَهُ أي وسع عليه معيشته فَيَقُولُ رَبِّي أي فضلني بما أعطاني وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ أي وأما هو إذا اختبره ربه بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي فضيق عليه معيشته فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) قوله تعالى: فأما الإنسان متصل من حيث المعنى بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فكأنه قيل: إن

[سورة الفجر (89) : الآيات 21 إلى 30]

الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة التي تنفعه في الآخرة، فإنه يراقب أحواله ويجازيه بأعماله خيرا وشرا في الآخرة، فأما الإنسان فلا يريد إلا الدنيا ولذاتها فإن وجد الراحة في الدنيا يقول: ربي أكرمني، وإن لم يجدها يقول: ربي أهانني وأما هنا لمجرد التأكيد لا لتفصيل المجمل مع التأكيد، و «الإنسان» مبتدأ خبره «فيقول» والظرف وهو «إذا» منصوب بالخبر لأن الظرف في نية التأخير ودخول الفاء في الخبر لما في أما من معنى الشرط، وما زائدة، والفاء في قوله تعالى: فَأَكْرَمَهُ تفسيرية، والوقف في «أكرمن» مفهوم وفي «أهانن» حسن. وقال أبو عمرو والوقف فيهما كاف، وقيل: تام، وقال الكلبي: إن المراد من الإنسان أبي بن خلف، وقال مقاتل، وابن جرير: نزلت هذه الآية في أمية بن خلف وروي عن ابن عباس أن المراد بالإنسان عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، وقيل: إنه كافر جاحد ليوم الجزاء. وقرأ نافع «أكرمن» و «أهانن» بإثبات الياء فيهما وصلا وحذفها وقفا، وقرأهما البزي عن ابن كثير بإثباتها في الحالين، وعن أبي عمرو: إن الحذف في الوصل أعدل، والباقون بالحذف في الحالين، وقرأ ابن عامر «فقدر عليه رزقه» بتشديد الدال أي جعله على مقدار البلغة كَلَّا رد على من ظن ذلك المذكور، والمعنى: ليس إكرامي بالمال والغنى، بالفقر، وقلة المال، ولكن إكرامي بالمعرفة والتوفيق وإهانتي بالنكرة والخذلان، والوقف هنا حسن وهو أحسن من الوقف على «أهانن» ، بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) أي قل يا محمد لهم: بل لكم أحوال أشد شرا من ذلك القول، وهو أن الله تعالى يكرمكم بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه، فإنكم لا تحسنون إلى اليتيم ولا تعرفون حقه، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) بحذف إحدى التاءين، وهو قراءة الكوفيين أي لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين، وقرئ «ولا تحضوا» أي لا تأمرون بإطعامه، وفي قراءة ابن مسعود «ولا تحاضون» بضم التاء أي لا يحض كل واحد منكم صاحبه، وهذا إشارة إلى ترك بر اليتيم. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) أي وتأكلون تراث اليتامى أكلا جامعا فإنكم تجمعون نصيبهم إلى نصيبكم، وهذا إشارة إلى دفع اليتيم عن حقه الثابت له في الميراث، وأكل ماله. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) أي كثيرا وهذا إشارة إلى أخذ مال اليتيم منه، وقرأ أبو عمرو يكرمون وما بعده بالياء التحتية كَلَّا أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا في الحرص على الدنيا حتى إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) أي إذا انكسر كل شيء على وجه الأرض من جبل، وشجر، وبناء حين زلزلت فلم يبق على ظهرها شيء حتى صارت ملساء، وَجاءَ رَبُّكَ أي جاء ظهوره وقهره أي حصل تجليه تعالى على الخلائق أي زالت الشبهة، وارتفعت الشكوك وظهر سلطان قهره، وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) أي وتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب مراتبهم محدقين بالجن والإنس فيكونون سبعة صفوف، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ مزمومة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها إلى

المحشر ويكشف عنها حتى رآها الخلق، وعلم الكافر أن مصيره إليها يَوْمَئِذٍ بدل من «إذا دكت» . يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما فرط فيه ويتعظ الكافر، فيقول: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا، وهذا جواب «إذا» ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) أي ومن أين له العظة وقد فاته أوانها يَقُولُ أي الإنسان الكافر يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فيا للتنبيه أي ليتني قدمت عملا يوجب نجاتي من النار حتى أكون من الأحياء، فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يقول الإنسان ذلك لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل تعذيب الكافر، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) أي ولا يوثق أحد من الزبانية بالسلاسل والأغلال مثل إيثاق الكافر لتناهيه في كفره وفساده. وقرأ الكسائي «لا يعذب ولا يوثق» بفتح الذال والثاء أي لا يعذب أحد مثل عذاب الكافر ولا يوثق أحد بالسلاسل والأغلال مثل وثاق الكافر. يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) بذكر الله وطاعته، وقرأ أبي بن كعب «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة» وهي التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع البشارة من الملائكة وتحصل عند البعث وعند دخول الجنة بلا شك أي يقول الله للمؤمن إكراما له أو على لسان ملك يا أيتها النفس المطمئنة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي إلى ثواب ربك راضِيَةً بما أوتيت من النعيم المقيم مَرْضِيَّةً (28) عند الله عز وجل في الأعمال التي عملتها في الدنيا، فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) أي في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي، وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) معهم، وقرئ «فادخلي في عبدي» وقرئ في «جسد عبدي» وهذا يؤيد كون الخطاب عند البعث. قيل: نزلت هذه الآية في حمزة بن عبد المطلب، وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة، وقيل نزلت في خبيب بن عبد الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

سورة البلد

سورة البلد مكية، هي عشرون آية، اثنتان وثمانون كلمة، ثلاثمائة وعشرون حرفا لا قال الأخفش هي مزيدة أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وهو مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) أي أنت نازل في هذا البلد، أو أنت في حل مما صنعت في هذا البلد، فإن الله فتح مكة عليه صلّى الله عليه وسلّم وما فتحت على أحد قبله، ولا أحلت له فأحل صلّى الله عليه وسلّم فيها ما شاء وحرم ما شاء. قتل عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان، ثم قال: إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها، ولا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلّى الله عليه وسلّم إلا الإذخر وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) فالوالد آدم وما ولد بنوه، وقيل كل والد وولده لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أي في اعتدال القامة، أو في تعب فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، وما وراءه، وليس في هذه الدنيا لذة ألبتة فالذي يظن الإنسان أنه لذة فهو خلاص عن الألم، وما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عن ألم الجوع، وما يتخيل من اللذة عند اللبس، فهو خلاص عن ألم الحر والبرد، فليس للإنسان إلا ألم، أو خلاص عن ألم، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى لتكون تلك الدار دار اللذات والسعادات والكرامات أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) أي أيحسب الإنسان بقوته أنه لن يقدر على بعثه ومجازاته، أو على تغيير أحواله أحد وهو الله تعالى يَقُولُ أي الإنسان كلدة بن أسيد أو الوليد بن المغيرة أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أي أنفقت مالا كثيرا في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام، فلم ينفعني ذلك شيئا. وقرأ أبو جعفر بتشديد الباء مفتوحة، وقرأ مجاهد وحميد بضم الباء واللام مخففا، والباقون بضم اللام وكسرها وفتح الباء مخففا، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أي أيحسب هذا الإنسان أنه لم يره أحد، وهو الله تعالى حين كان ينفق وأنه تعالى لا يسأله عن إنفاقه ولا يجازيه

[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 20]

عليه. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) ينظر بهما وَلِساناً ينطق به وَشَفَتَيْنِ (9) يستر بهما فاه وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) أي بيّنا له الطريقين: طريق الخير، والشر، أو دللناه على الثديين لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، فإن الله تعالى هدى الطفل الصغير إلى الثديين حتى ارتضعهما فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) أي فهلا تلبس من أنفق ماله بمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر، أو فلم يشكر تلك النعم الجليلة بتحصيل الأعمال الصالحة، وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) أي أي شيء أعلمك ما الدخول في صعاب الطريق فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أي هي إعتاق رقبة، أو إعطاء مكاتب ما يصرفه إلى جهة فكاك نفسه، أو تخليص شخص من قود، أو غرم، أو فك المرء رقبة نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات التي يصير بها إلى الجنة ويتخلص بها من النار، فهذه هي الحرية الكبرى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) أي مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أي ذا قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) أي ذا افتقار كأنه لصق بالتراب من ضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يفرشه. قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة بصيغة المصدر في «فك» و «إطعام» وهو خبر مبتدأ محذوف، والباقون بصيغة الفعل فيهما على الإبدال من «اقتحم» المنفي بلا كأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم فلا مكررة في المعنى، فلا يقال: إن لا لا تدخل على الماضي إلا مكررة، ثُمَّ كانَ أي مكتسب الطاعات داخل الأمور الصعاب مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على أداء الطاعات وعلى المرازي، وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أي بالرحمة على عباده فقوله: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومدار أمر الطاعات ليس إلا على هذين الأصلين فإن الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق، وخلق مع الخلق أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) أي الجانب الذي فيه البركة والنجاة من كل هلكة، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) أي الخصلة المكسبة للحرمان عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) أي مطبقة فلا يخرجون منها أبدا. قرأ أبو عمرو، وحفص، وحمزة بالهمزة، والباقون بواو ساكنة.

سورة الشمس

سورة الشمس مكية، خمس عشرة آية، أربع وخمسون كلمة، مائتان وسبعة وأربعون حرفا وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) أي ضوئها إذا ارتفعت وقام سلطانها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) أي تبع الشمس بأن طلع بعد غروبها وذلك في النصف الأول من الشهر، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) أي إذا أظهر الشمس فإنها تنكشف عند انبساط النهار فكأنه أظهرها مع أنها هي التي تبسطه، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) أي يغطي ضوء الشمس بظلمته وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) أي والذي خلقها وهو الله تعالى أقسم بنفسه، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) أي بسطها على الماء، وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) أي وجسد كثير والذي أنشأها متناسبة الأعضاء، أو وقوة مدبرة، والذي أعطاها قوى كثيرة كالقوة السامعة، والباصرة، والمفكرة، والمذكرة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) أي أفهمها حالاهما من الحسن والقبيح، وقيل: ألهم الله الكافر فجوره، وألهم المؤمن المتقي تقواه. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) أي قد أدرك من طهر نفسه من الذنوب مطلوبه بفعل الطاعة ومجانية المعصية، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) أي وقد خسر من أخفى نفسه في المعاصي حتى انغمس فيها كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) أي فعلت ثمود تكذيب الرسول بسبب مجاوزتها الحد في العصيان، أو كذبت ثمود بعذابها أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به العذاب فالطغوى على هذا اسم للعذاب الذي أهلكوا به إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) أي حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف ومصدع بن دهو لعقر الناقة برضاهم، فَقالَ لَهُمْ أي لثمود رَسُولُ اللَّهِ صالح لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقر الناقة ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) أي ذروا عقر الناقة التي هي آية الله الدالة على توحيده وعلى نبوتي واحذروا شربها فلا تمنعوها عنه في نوبتها، فَكَذَّبُوهُ أي رسول الله صالحا في وعيده بالعذاب، فَعَقَرُوها قال الفراء: عقر الناقة اثنان، وقال قتادة: ذكر لنا إن قدار أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي أهلكهم ربهم بِذَنْبِهِمْ أي بسبب قتلهم الناقة وتكذيبهم صالحا عليه السلام، فَسَوَّاها (14) أي سوى هذه الطائفة في إنزال العذاب بهم صغيرهم، وكبيرهم، ووضيعهم، وشريفهم، وذكرهم، وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين، وَلا يَخافُ عُقْباها (15) أي ولا يخاف الله عاقبة

هذه الفعلة كما تخاف الملوك عاقبة ما تفعله، وهذه إشارة إلى أنهم أذلاء عند الله تعالى، وقيل: لا يخاف رسول الله صالح عقبى هذه العقوبة ولا يخشى ضررا يعود عليه من عذابهم، وقيل: قام الأشقى لعقر الناقة والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء أي فهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه، ففعل مع هذا الخوف الشديد فعل من لا يخاف ألبتة فنسب في ذلك إلى الحمق. وقرأ نافع، وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء، والباقون بالواو، وهي للحال، أو للاستئناف الإخباري، وقرئ «ولم يخف» وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.

سورة والليل

سورة والليل مكية، إحدى وعشرون آية، إحدى وسبعون كلمة، ثلاثمائة وعشرون حرفا، قال القفال رحمه الله: نزلت هذه السورة في أبي بكر وإنفاقه على المسلمين وفي أمية ابن خلف وبخله وكفره بالله، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) أي حين يغشى الشمس وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) أي ظهر بزوال ظلمة الليل وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) أي والذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل ما له توالد. قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم «والذكر والأنثى» ، وقرأ ابن مسعود «والذي خلق الذكر والأنثى» ، وعن الكسائي «وما خلق الذكر» بالجر والمعنى: وما خلقه الله تعالى أي ومخلوق الله، ثم يجعل الذكر بدلا منه أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) أي أن عملكم لمختلف في الجزاء لأن بعضه ضلال يوجب النيران وبعضه هدى يوجب الجنان، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) أي فأما من أعطى من ماله في سبيل الله واجتنب المحارم وصدق بالشرائع فسنهيئه للخصلة التي تؤدي إلى راحة، كدخول الجنة، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) أي وأما من بخل بماله فلم يبذله في سبيل الخير واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وكذب بعدة الله من الخلف الحسن، فسنهيئه للخصلة المؤدية إلى الشدة كدخول النار، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) أي ولا ينفعه ماله الذي جمعه في الدنيا إذا مات، أو أي شيء ينفعه ماله الذي بخل به، ولم يصحبه معه إلى آخرته إذا سقط في حفرة قبر أو في جهنم. إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) أي إن الذي يجب علينا في الحكمة إذ خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد فقد فعلنا ما كان فعله واجبا علينا في الحكمة، وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) أي إن لنا ملك الدارين نعطي من نشاء ما نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق فليطلب سعادتهما منا فَأَنْذَرْتُكُمْ أي خوفتكم يا أهل مكة ناراً تَلَظَّى (14) أي تتوقد. وقرئ شاذا بالتاءين لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) أي لا يدخلها دخولا لازما مؤبدا إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله، وأعرض عن طاعة الله. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أمية بن خلف، وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله وَسَيُجَنَّبُهَا

[سورة الليل (92) : آية 21]

الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) أي وسيبعد عنها المبالغ في اتقاء المعاصي الذي يعطي ماله ويصرفه في وجوه الحسنات طالبا أن يكون ناميا عند الله تعالى لا يريد بذلك رياء ولا سمعة، وروى الضحاك عن ابن عباس: عذب المشركون بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وبلال يقول: أحد أحد، فمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أحد ينجيك» ، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «يا أبا بكر إن بلالا يعذب في الله» «1» فعرف أبو بكر ما يريده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالا قال: نعم، فاشتراه، فأعتقه، فقال المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده فأنزل الله تعالى قوله: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ أي الأتقى مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) أي لم يفعل أبو بكر ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده، لكن فعله ابتغاء وجه الله تعالى. وقرأ يحيى بن وثاب برفع «الابتغاء» على البدل من محل «نعمة» ، فإنه رفع إما على الفاعلية، أو على الابتداء و «من» مزيدة، ويجوز أن يكون مفعولا له لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة، وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) أي ما أنفق أبو بكر إلا لطلب رضوان الله، وبالله لسوف يرضى الله عنه، ولم يكن للنبي ولا لغيره عليه نعمة دنيوية، بل كان أبو بكر هو الذي ينفق على رسول الله، وإنما كان للنبي عليه نعمة الهداية إلى الدين إلا أن هذه نعمة لا يجزى الإنسان بها قال ابن الزبير: كان أبو بكر يشتري الضعفة من العبيد فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تشتري من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة، وقرئ «يرضى» مبنيا للمفعول.

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 361) ، والقرطبي في التفسير (20: 93) وفيه: «في بيت رسول الله» .

سورة الضحى

سورة الضحى مكية، إحدى عشرة آية، أربعون كلمة، مائة وسبعون حرفا وَالضُّحى (1) وهو أول النهار حين ترفع الشمس وتلقي شعاعها وتخصيصه بالإقسام به لأنه الساعة التي كلم الله موسى فيها، وألقي السحرة فيها سجدا وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) أي أظلم واسود، ونقل عن قتادة، ومقاتل، وجعفر الصادق أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وبالليل ليلة المعراج، وقيل: إنما ذكر ساعة من النهار، وذكر الليل بكليته لأن النهار وقت السرور، والراحة، والليل وقت الوحشة، والغم، فهو إشارة إلى أن هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإن الضحى ساعة والليل ساعات ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ أي ما قطعك ربك قطع المودع، والمفارق. وقرأ عروة بن الزبير، وابنه هشام، وابن أبي عبلة بتخفيف الدال أي ما تركك ربك يا أشرف الرسل منذ أوحى إليك تركا تحصل به فرقة كفرقة المودع وَما قَلى (3) أي ما أبغضك ربك منذ أحبك. روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت أم جمل امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت هذه الآية، وروي أن خولة كانت تخدم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن جروا دخل البيت فدخل تحت السرير، فمات فمكث النبي صلّى الله عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة ما حدث في بيتي إن جبريل عليه السلام لا يأتيني» «1» . قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: «يا خولة دثريني» «2» . فأنزل الله تعالى هذه السورة ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التأخر فقال: أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ، وروي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أياما لزجره سائلا ملحا، فقال

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور (6: 361) ، والقرطبي في التفسير (2: 93) . (2) رواه المتقي الهندي في كنز العمال (16253) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (3: 99) .

المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت، وروي أن سبب احتباس جبريل عليه السلام لأنه كان فيهم من لا يقلم الأظفار وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) أي وللأحوال الآتية خير لك من الماضية كأنه تعالى وعده بأنه سيزيد كل يوم عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فيقول: لا تظن أني قليتك، بل إني أزيدك منصبا وجلالا، ثم إن هذا التشريف وإن كان عظيما إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم، أو وللآخرة خير لك من الدنيا لأن الكفار في الدنيا يطعنون فيك، أما في الآخرة فأجعل أمتك شهداء على الأمم، وأجعلك شهيدا على الأنبياء، ثم أجعل ذاتي شهيدا لك كما قال تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 28، 29] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ من خيرات الدنيا والآخرة فَتَرْضى (5) . روي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس أن هذا هو الشفاعة في الأمة كما يروى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية قال: إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار ، وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: رضي جدي أن لا يدخل النار موحد، وهذا أيضا وعده تعالى رسوله على أحوال الدنيا، فهو إشارة إلى ما أعطاه الله تعالى من الظفر بأعدائه يوم بدر، ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا، والغلبة على قريظة، والنضير وإجلائهم وبث عساكره في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وما هدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وما وهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في أهل الشرق والغرب من الرعب، وتهيب الإسلام وفشو الدعوة أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) بمد الهمزة أي ضمك إلى من يكفلك، وقرأ أبو الأشهب «فأوى» ثلاثيا أي فرحمك، روي أن عبد الله بن عبد المطلب توفي وهو صلّى الله عليه وسلّم جنين قد أتت عليه ستة أشهر، ثم ولد رسول الله فكان مع عبد المطلب، ومع أمه آمنة، فماتت وهو ابن ست سنين فكان مع جده، ثم مات بعد آمنة بسنتين ورسول الله ابن ثمان سنين، وكان عبد المطلب يوصي أبا طالب به فكان هو الذي يكفل رسول الله بعد جده إلى أن بعثه الله للنبوة، فقام بنصرته صلّى الله عليه وسلّم، ثم توفي أبو طالب فذكره الله هذه النعمة روي أن أبا طالب قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد بما رأيت منه، فقال: بلى، فقال: إني ضممته إلي فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولا أأتمن عليه أحدا حتى إني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهة في وجهه، لكنه كره أن يخالفني، وقال: «يا عماه اصرف بوجهك عني حتى أخلع ثيابي إذ لا ينبغي لأحد أن ينظر إلى جسدي» ، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه في الفراش إذ بيني وبينه ثوب في غاية اللين وطيب الرائحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكنت أفتقده من فراشي مرارا فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فأرجع ولقد كنت أسمع منه مرارا كلاما يعجبني، وذلك عند مضي بعض الليل وكان يقول في أول الطعام: «باسم الله الأحد» ، فإذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله» ، فتعجبت

منه، ثم لم أر منه كذبة، ولا ضحكا، ولا جاهلية، ولا وقف مع صبيان يلعبون وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) أي وجدك خاليا من الشريعة فهداك بإنزالها إليك، وقيل: وجدك ضالا عن عبد المطلب فردك إليه، كما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب، وأنا صبي ضائع كاد الجوع يقتلني، فهداني الله» وروي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضل في شعاب مكة وهو صبي فتعلق عبد المطلب بأستار الكعبة وقال: يا رب رد ولدي محمدا ... اردده رب واصطنع عندي يدا فما زال يردد هذا عند البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد بين يديه، وهو يقول: لا تدري ماذا ترى من ابنك، فقال عبد المطلب ولم قال: إني أنخت الناقة وأركبته من خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة، وكانت تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي، وقال ابن عباس: رده الله إلى جده بيد عدوه كما فعل بموسى حين حفظه على يد عدوه، وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا كما روي أن في مصحف عبد الله «ووجدك عديما» ، وقرأ اليماني «عيلا» بكسر الياء المشددة كسيد، فَأَغْنى (8) أي أغناك بالقناعة، فصرت بحال يستوي عندك الحجر والذهب لا تجد في قلبك سوى ربك، وقيل أغناك بمال أبي بكر وبهيبة عمر. روي أن عمر قال حين أسلم والأصحاب كانوا يعبدون الله سرّا: يا رسول الله ابرز أنعبد نحن اللات جهرا ونعبد الله سرا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «حتى تكثر الأصحاب» فقال: حسبك الله وأنا، فقال تعالى: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] وقيل أغناه الله تعالى بتربية أبي طالب، ولما اختلت أحوال أبي طالب أغناه بمال خديجة، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة، وأغناه بإعانة الأنصار، ثم أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) أي لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما كما قاله مجاهد، أو فلا تغلبه على ماله، وقرئ «فلا تكهر» أي فلا تعبس وجهك إليه، وروي أن هذه الآية نزلت حين صاح النبي صلّى الله عليه وسلّم على ولد خديجة وإذا كان هذا العتاب بمجرد الصياح أو العبوسة في الوجه، فكيف إذا أذل التيم أو أكل ماله؟ وروي أن موسى عليه السلام قال: إلهي بما نلت ما نلت قال الله تعالى: «أتذكر حيث هربت منك السخلة فلما قدرت عليها قلت أتعبت نفسك، ثم حملتها فلهذا السبب جعلتك وليا على الخلق، فلما نال موسى عليه السلام النبوة بالإحسان إلى الشاة فكيف بالإحسان إلى اليتيم، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) أي لا تغلظ له القول، بل رده ردا لينا برفق والمراد من السائل. مطلق السائل. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان جالسا فجاء عثمان بتمر فوضعه بين يديه، فأراد أن يأكل فوقف سائل بالباب فقال: رحم الله عبدا يرحمنا فأمر بدفعه إلى السائل فكره عثمان ذلك وأراد أن يأكله النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج واشتراه من السائل، ثم رجع السائل وكان النبي يعطيه ففعل

[سورة الضحى (93) : آية 11]

ذلك ثلاث مرات، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أسائل أنت أم بائع فنزل وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ واختار الحسن أن المراد من السائل من يسأل العلم، وروى الزمخشري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» «1» وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) قال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن فالتحديث به أن يقرأه ويقرئ غيره، وروي عنه أيضا أن تلك النعمة هي النبوة أي بلّغ ما أنزل إليك من ربك، وروي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال: إذا عملت خيرا فحدث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به، وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فرآه رث الثياب فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألك مال» قال: نعم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده» «2» .

_ (1) رواه مسلم في الإيمان 147، وأحمد في (م 4/ ص 133) ، والحاكم في المستدرك (1: 26) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 24) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (2: 213) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5108) ، والبغوي في شرح السنة (13: 165) ، وابن حجر في المطالب العالية (2170) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (6: 498) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (17165) ، والسيوطي في مجمع الجوامع (4777) ، والقرطبي في التفسير (1: 696) ، والألباني في السلسلة الصحيحة (1: 211) ، والسيوطي في الدر المنثور (3: 79) ، والعراقي في المغني عن محل الأسفار (4: 290) ، والشجري في الأمالي (2: 217) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (3: 567) . (2) رواه أبو داود في السنن (887) .

سورة ألم نشرح

سورة ألم نشرح مكية، ثمان آيات، وتسع وعشرون كلمة، ومائة وثلاثة أحرف يروى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز كانا يقولان: هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة، وكان يقرءانهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم. قال الجمل: ولما ذكر الله تعالى بعض النعم عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ [الضحى: 3] إلخ أتبعه بما هو كالتتمة له وهو شرح الصدور فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) قال في نور المقياس: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) أي خففنا عنك أعباء النبوة التي تثقل ظهرك من القيام بأمرها والمحافظة على حقوقها بأن يسرها الله عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى تيسرت له، وقيل عصمناك عن الوزر الذي يثقل ظهرك، وقيل: لئن كان نزول السورة بعد موت أبي طالب وخديجة فلقد كان فراقهما عليه صلّى الله عليه وسلّم وزرا عظيما، فوضع عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر فلذلك قال تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) أي رفع ذكره حيث قرن اسمه باسم الله تعالى في

كلمة الشهادة والأذان والإقامة، وجعل طاعته من طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمي رسول الله، ونبي الله ولو أن رجلا عبد الله تعالى وصدق بالجنة والنار وكل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء وكان كافرا، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) ف «أل» في «العسر» الأول للعهد الحضوري وفي الثاني للعهد الذكري فالعسر واحد وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو وتنكير «يسرا» للتفخيم كأنه قيل: إن مع العسر يسرا عظيما ويسرا كاملا فتناول يسر الدارين ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه لن يغلب عسر يسرين» فقوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر، وفي مصحف ابن مسعود جملة واحدة مرة واحدة قال الرازي: والمراد من اليسرين في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يغلب عسر يسرين» يسر الدنيا ويسر الآخرة وهما استفتاح البلاد، وثواب الجنة وهذه الآية تثبيت لما قبلها، ووعد كريم بتيسير كل عسير له صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين كأنه قيل خولناك ما خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله تعالى ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيرا، فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) أي فإذا فرغت من عبادة فأتبعها بعبادة أخرى بأن تواصل بين بعض العبادات وبعض وأن لا تخلي وقتا من أوقاتك منها. قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فاتعب في الدعاء وارغب إلى ربك في المسألة يعطك، وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقال مجاهد: إذا فرغت من أمر دنياك فاتعب وصل، وقال عبد الله بن مسعود: إذا فرغت من الفرائض فاتعب في قيام الليل، وقال ابن حبان عن الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فاتعب واستغفر لذنبك وللمؤمنين، وقال علي بن أبي طلحة: إذا كنت صحيحا فاجعل فراغك تعبا في العبادة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) أي إلى ربك فارفع حوائجك واجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه، وقرئ «فرغب» أي رغب الناس إلى طلب ما عنده تعالى.

سورة التين

سورة التين مكية، ثمان آيات، أربع وثلاثون كلمة، مائة وخمسون حرفا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) هما ثمران معلومات أقسم الله بهما لما فيهما من المصالح والمنافع، فإن التين فاكهة طيبة لا عجم له وغذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم، ويسمن البدن، ويفتح سدد الكبد والطحال، ويقطع البواسير والزيتون فاكهة وآدام ودواء، وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب أهل الكهف، والزيتون مسجد إيليا، وعن ابن عباس: التين مسجد نوح المبني على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، وعن الربيع: هما جبلان بين همذان وحلوان، وقال كعب: التين دمشق والزيتون بيت المقدس، وقال شهر بن حوشب: التين الكوفة والزيتون الشام، وَطُورِ سِينِينَ (2) وهو جبل ثبير وهو جبل بمدين الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) وهو مكة فهو أمين من أن يهاج فيه على من دخل فيه. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) أي كائنا في أحسن ما يكون من تعديل صوره ومعنى فإنه تعالى خلقه مستوي القامة متناسب الأعضاء متصفا بأكمل عقل، وفهم، وعلم، وأدب إذا تكامل شبابه، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) أي حال كونه أسفل سافلين أي حيث لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، فلا يكتب له وقتئذ حسنة أو رددناه مكانا أسفل سافلين، وهو النار، وقرأ عبد الله أسفل «السافلين» معرفا، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والصغار فالشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) وهذا الاستثناء على القول الأول منقطع، والمعنى: ثم رددناه أسفل ممن سفل بعد ذلك التحسين في أحسن الصورة حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره وضعف بصره، وسمعه، ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم أو فلهم أجر غير ممنون به عليهم، أما على القول الثاني فهو متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع

والمعنى: ثم رددناه أسفل ممن سفل أي أقبح من كل قبيح صورة وأسفل من كل سافل من أهل الدركات، وهم أهل النار إلا الذين كانوا صالحين فلا نردهم أسفل سافلين. فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) و «ما» اسم استفهام على وجه الإنكار والتعجب والخطاب للإنسان على طريقة الالتفات أي فما الذي يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث بعد ظهور هذه الدلالة الناطقة بالجزاء، أي فإن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشرا سويا وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله تعالى على البعث والجزاء فمن شاهد تلك الحالة، ثم بقي مصرا على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه وقيل الخطاب للرسول، و «ما» إما اسم استفهام أو بمعنى من أي، فأي شيء يجعلك كاذبا بسبب إنكار الكافر الحساب بعد هذه الدلائل، أو فمن يكذبك بالحساب يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) يحكم على الكفار بما يستحقونه من العذاب، أو أليس الذي فعل ما ذكر بأتقن الحاكمين صنعا في كل ما خلق حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء، فإن عدم إمكانهما يقدح في القدرة وعدم وقوعهما يقدح في الحكمة، كما قال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» [ص: 27] وفي الحديث: «من قرأ والتين إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» أي سواء كان في الصلاة أو خارجها.

_ (1) رواه مسلم صفات المنافقين (38) ، وابن حجر في فتح الباري (8: 724) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 370) ، وابن كثير في البداية والنهاية (3: 44) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (5856) ، والبغوي في شرح السنة (7: 270) ، وأبو نعيم في دلائل النبوة (2: 189) ، وابن كثير في التفسير (8: 461) .

سورة العلق

سورة العلق وتسمى سورة القلم، وسورة اقرأ، مكية، تسع عشرة آية، اثنتان وسبعون كلمة، مائتان وسبعون حرفا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله، ثم اقرأ القرآن الَّذِي خَلَقَ (1) كل شيء خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) أي من دم جامد اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) أي امض لما أمرت به، والحال أن ربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) أي علم الإنسان الخط بالقلم، وعلم ينصب مفعولين وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى ولولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش. روى عبد الله ابن عمرو قال: «قلت يا رسول الله أأكتب ما أسمع منك من الحديث قال: «نعم فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتابة» أي حذرا من تطلعهن إلى الرجال، وحذرا من الفتنة لأنهن قد يكتبن لمن يهوين عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) أي علمه بالقلم وبدونه من الأمور الجلية والخفية ما لم يخطر بباله كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) أي حقا يا محمد إن الكافر يتكبر على ربه لأن رأى نفسه مستغنيا عن الله بالمال نزلت الآيات من هاهنا إلى آخر السورة في أبي جهل. روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الدعاء إبقاء عليهم. إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، فسترى حينئذ عاقبة تمردك أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) و «أرأيت» لحمل المخاطب وهو النبي على التعجب وهي تتعدى إلى مفعولين لأنها بمعنى أخبرني فالمفعول الأول «الذي» والمفعول الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد «أرأيت» الثالثة أي أخبرني يا محمد الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل في ملأ من طغاة قريش: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقالوا: نعم قال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن

[سورة العلق (96) : الآيات 11 إلى 19]

على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيديه فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فأنزل الله هذه الآية: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) ومفعولا «أرأيت» محذوفان حذف الأول لدلالة المفعول الأول من «أرأيت» الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول «أرأيت» الثالثة عليه وأو بمعنى الواو، والمعنى: أخبرني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطب عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) والجملة الاستفهامية تكون في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول، أو اسم إشارة يشار به إليه أي أرأيته يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم يعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة أفلا ينزجر عنها كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يقول: إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره، وهو عبد الله بن مسعود لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ أي والله لئن لم ينته أبو جهل عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) أي لنأخذن الناصية ولنجرن بها إلى النار في الآخرة أو لنقبضن على الناصية في الدنيا روي أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأها على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا فقيل له: ما لك قال: إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لا لتقمني، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» «1» وروي أنه لما نزلت سورة الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «من يقرؤها منكم على رؤساء قريش» فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه فانصرف وعينه تدمع فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي» فقال: ستعلم فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال صلّى الله عليه وسلّم له: «خذ رمحك والتمس في الجرحى من كان به رمق فاقتله فإنك تنال ثواب المجاهدين» فأخذ يطالع القتلى فإذا أبو جهل مصروع يخور فخاف أن يكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه فلما عرف عجزه ارتقى إلى صدره بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا،

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك (1: 567) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 386) .

فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي، ولا أحد أبغض إلي منه في حال مماتي ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحدّ فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فلما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول يا محمد: أذن بأذن، لكن الرأس هاهنا مع الأذن. وقرئ «لنسفعن» بالنون المشددة فالفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة، وقرأ ابن مسعود لأسفعن أي يقول الله: يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ في قولها خاطِئَةٍ (16) في فعلها لأن صاحبها متمرد على الله تعالى لأنه كان كاذبا على الله تعالى في قوله: إنه تعالى لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في قوله: إن محمدا ساحر، أو كذاب، أو ليس بنبي، و «ناصية» بدل من الناصية، وقرئ «ناصية» بالرفع والتقدير هي ناصية، وقرئ ناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) أي أهل مجلسه الذين يجتمعون فيه للتشاور، أو لأنه مجلس العطاء والجود سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) هم الملائكة الغلاظ الشداد كما قاله الزجاج. قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فزبره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم بأني أكثر أهل الوادي ناديا فأنزل الله تعالى فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد تعززا بماله ورئاسته في مكة، ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم مني، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك. قال الله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ فلما ذكر الزبانية رجع فزعا فقيل له: خشيت منه قال: لا، ولكن رأيت عنده فارسا وهددني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إلى الفارس فخشيت منه، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه صلّى الله عليه وسلّم في صورة الأسد قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته معاينة، وقرئ «ستدعى الزبانية» على المجهول أي ليجروه إلى النار كَلَّا أي لن يصل أبو جهل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو قومه لا تُطِعْهُ أي أبا جهل فيما يأمرك به من ترك الصلاة، بل دم على ما أنت عليه من مخالفته وَاسْجُدْ أي صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا، وقلل فكرك في هذا العدو، فإن الله مقويك وناصرك وَاقْتَرِبْ (19) أي ابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك.

سورة القدر

سورة القدر مدنية، قال الواحدي: إنها أول سورة نزلت بالمدينة، خمس آيات، ولاثون كلمة، مائة وأحد وعشرون حرفا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) أي إنا أنزلنا القرآن جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ على كتبة ملائكة سماء الدنيا إلى بيت العزة منها، ثم نجمته السفرة على جبريل فكان جبريل ينزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، والحاجة إليه ومعنى القدر التقدير، وسميت ليلة القدر بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت، والأجل، والرزق وغير ذلك، ويسلمه إلى مدبرات الأمور وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم السلام، والجمهور على أنها مختصة برمضان واختلفوا في تعيينها، وقال بعضهم: إنها ليلة السابع والعشرين لأن فيها أمارات ضعيفة منها: ما روي أن عمر سأل الصحابة عن ليلة القدر، ثم قال لابن عباس: غص يا غواص، فقال زيد بن ثابت: أحضرت أولاد المهاجرين، وما أحضرت أولادنا فقال عمر: لعلك تقول إن هذا غلام، ولكن عنده ما ليس عندكم، فقال ابن عباس: أحب الإعداد إلى الله تعالى الوتر وأحب الوتر إليه السبعة فذكر السموات السبع، والأرضين السبع، والأسبوع، ودركات النار، وعدد الطواف، والأعضاء السبعة فدل ذلك العدد على أنها السابعة والعشرون ومنها قول ابن عباس: إن هذه السورة ثلاثون كلمة، وقوله تعالى: هِيَ هو سابع وعشرون ومنها ما نقل عن ابن عباس أنه قال: ليلة القدر تسعة أحرف وهو مذكور ثلاث مرات فتكون الجملة سبعة وعشرين، ومنها ما روي أنه كان لعثمان بن أبي العاص عبد فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر، قال: إذا كانت تلك الليلة فاعلمني فإذا هي السابعة والعشرون، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) أي ما غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم بين الله فضلها من ثلاثة أوجه، أو أربعة بقوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر أي إن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. قال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر فتعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

والمسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه الآية أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر، وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في منامه إن بني أمية يطئون منبره صلّى الله عليه وسلّم واحدا بعد واحد، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه السورة، ثم قال القاسم بن فضل: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر فكأن الله تعالى يقول: أعطيتك يا أشرف الخلق ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من السعادات الدنيوية في أيام ملك بني أمية، ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة لكن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه. ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة مع أن صلاة الجماعة قد تنقص صورة فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة وأيضا فأنت إذا قلت لمن يرجم بالزنا هذا زان فلا بأس، ولو قلته للنصراني فهو قذف يوجب التعزير ولو قلته للمحصن فهو قذف يوجب الحد، ولو قلته في حق عائشة كان ذلك القول كفرا، ثم القائل بقوله: هذا زان قد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة، وهم سكان سدرة المنتهى، وجبريل ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر طور سيناء ولا يدع بيتا فيه مؤمن أو مؤمنة إلا دخله وسلم عليه يقول: يا مؤمن أو يا مؤمنة السلام يقرئكم السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير، وقوله: بإذن ربهم متعلق ب «تنزّل» أو بمحذوف هو حال من فاعله أي متلبسين بأمر ربهم فإنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بأمره، وقوله: «من كل أمر» متعلق ب «تنزّل» أي تنزل أولئك في تلك الليلة من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى عام قابل، فكل واحد منهم نزل لأمر آخر. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة» أي وهو نصف شعبان فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها، وقرئ «من كل امرئ» أي من أجل كل إنسان فإن الملائكة يرون في الأرض أنواع الطاعات التي لم يروها في عالم السموات. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ف «سلام» خبر مقدم و «هي» مبتدأ مؤخر أي تلك الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق، ومن كل آفة كما قاله أبو مسلم، وابن عباس و «حتى» متعلق ب «تنزّل» أي أن الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة سلامهم على أهل الصوم

والصلاة من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة، وقيل: إن «حتى» متعلق ب «سلام» بناء على إن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر في الجار والمجرور أي إن ليلة القدر سلام إلى طلوع الفجر أي تسليم الملائكة على المطيعين، ويقال: إن ليلة القدر من أولها إلى طلوع الفجر سالمة من التفاوت والنقصان، فإن العبادة في كل جزء من أجزاء أوقاتها خير من ألف شهر، فليست ليلة القدر كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللتطوع النصف وللدعاء السحر، بل هي متساوية الأوقات، وقيل: إن الوقف عند قوله تعالى: سَلامٌ فقوله تعالى: من كل أمر متعلق به وقوله: سَلامٌ خبر بعد خبر كقوله: تَنَزَّلُ وقوله تعالى: هِيَ مبتدأ وخبره ما بعده، والمعنى كما قاله ابن عباس: ليلة القدر سلامة من كل أمر مخوف، ومن كل شرور، وفضلها مستمر إلى طلوع الفجر، وقرأ الكسائي «مطلع» بكسر اللام.

سورة البينة

سورة البيّنة وتسمى سورة لم يكن وسورة القيمة، وسورة البرية، وسورة منفكين، مدنية، ثمان آيات، أربع وتسعون كلمة، ثلاثمائة وتسعون حرفا لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عن كفرهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) وهي الرسول وسمي بالبينة لأن مجموع الأخلاق الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز أي أن الكفار من الفريقين كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة، والإنجيل وهو محمد عليه السلام فحكى الله تعالى ما كانوا يعدون اجتماع الكلمة، والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، وقيل: إن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإلى أن جاءتهم البينة أي التي كانت ذاته بينة على نبوته، وقيل: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى أتاهم بيان ما سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى من صفات محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقرئ «والمشركون» عطفا على الموصول رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بالرفع بدل كل من كل من البينة، وقرأ عبد الله «رسولا» بالنصب حالا من «البينة» يَتْلُوا صُحُفاً أي كتبا مُطَهَّرَةً (2) أي منزهة عن الباطل فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي في تلك الكتب أحكام مستقيمة تبين الحق من الباطل، وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) أي وما اختلفوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ و «الواو» للحال و «اللام» بمعنى الباء أي والحال أن هؤلاء الكفار ما أمروا في التوراة، والإنجيل إلا بأن يعبدوا الله جاعلين عبادتهم خالصة له تعالى لا يريدون رياء ولا سمعة، وقرأ عبد الله «إلا أن يعبدوا الله» بإبدال «اللام» ب «أن» حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) أي وذلك المذكور من عبادة الله بالإخلاص وإقام الصلاة، وإعطاء الزكاة دين المستقيم و «الهاء» هاهنا قافية السورة، وقرئ الدين القيمة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها وبدأ الله بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته صلّى الله عليه وسلّم فجنايتهم أعظم لأنهم أنكروا مع العلم به وأيضا إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقدم حق الله على حق نفسه فكأنه تعالى قال له: كما قدمت حقي على حقك فأنا أقدم حقك على حق نفسي فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر فأهل الكتاب طعنوا في الرسول والمشركون طعنوا في الله أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) أي الخليقة فهم شر من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشر من قطاع الطريق لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق وشر من الجهال الأجلاف لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) قرأ نافع، وابن ذكوان «البريئة» بالهمز في الموضعين، والباقون بياء مشددة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ معدن النبيين والمقربين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي الأربعة وهي الخمر، والماء، والعسل، واللبن خالِدِينَ فِيها أَبَداً و «خالدين» حال من مقدر فعامله محذوف أي دخلوها، ولا يجوز أن يكون حالا من «هم» في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ حال من «جزاؤهم» أو ظرف له و «أبدا» منصوب ب «خالدين» . لطيفة: قال بعض الفقهاء: لو قال لفلان: علي كذا فهو إقرار بالدين، ولو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون، وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا إذا عرفت هذا، فقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يفيد انه وديعة والوديعة عين، وهو أشرف من الدين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأن يعظمهم ويمدحهم فإن الرضا عن العامل غير الرضا بعمله، وَرَضُوا عَنْهُ أي فرحوا بما جازاهم من الثواب وبما أعطاهم من أنواع الكرامات. ذلِكَ أي المذكور من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) وصاحب الخشية هو العالم بشئون الله تعالى، فإن الخشية مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة مدنية، تسع آيات، خمس وثلاثون كلمة، مائة وتسعة وأربعون حرفا إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) أي إذا تحركت الأرض حركة شديدة فانكسر ما عليها من الشجر والجبال والبنيان، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) أي أحمالها من الأموال، أو الأموات، ثم إن كان المراد من هذه الزلزلة الزلزلة الأولى فالمعنى: أخرجت الأرض الكنوز في زمن بعد عيسى، أو عند النفخة الأولى، فيمتلئ ظهر الأرض ذهبا ولا يلتفت أحد إليه، فكأن الذهب يصيح ويقول: إما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي، وإن كان المراد منها الزلزلة الثانية عند النفخة الثانية، فالمعنى: أخرجت الأرض الموتى أحياء كالخروج من الأم وقت الولادة، أو لفظتهم ميتين كما دفنوا، ثم يحييهم الله تعالى، وذلك على الخلاف بين العلماء، وَقالَ الْإِنْسانُ أي الكافر بطريق التعجب والمؤمن بطريق الاستعظام ما لَها (3) أي أي شيء ثبت للأرض تزلزلت بهذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ كان ما ذكر، وهو بدل من إذا تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) جواب إذا. وقرأ ابن مسعود «تنبئ أخبارها» ، وقرأ سعيد بن جبير «تنبي» بسكون النون بأن يجعل الله الأرض عاقلا ناطقا، ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) و «الباء» إما سببية متعلق ب «تحدّث» أي تحدث الأرض أخبارها بسبب أمره تعالى إياها بالتحديث بأخبارها، وإما تعدية ل «تحدّث» فتكون هذه الجملة بدلا من «أخبارها» فالمعنى: تحدث الأرض بأخبارها بأن ربك أذن لها في الكلام يَوْمَئِذٍ منصوب ب «يصدر» أي يوم إذ يقع ما ذكر يَصْدُرُ النَّاسُ من قبورهم إلى موقف الحساب أَشْتاتاً أي فرقا فرقا فريق يذهب إلى الموقف راكبا مع الثياب الحسنة أبيض الوجه والمنادي بين يديه ينادي هذا ولي الله، وفريق يذهب إليه حافيا عاريا مع السلاسل والأغلال أسود الوجه والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) بضم الياء أي ليريهم الله تعالى أعمالهم مكتوبة في الصحائف وهي توضع بين أيديهم والمرئي هو الكتاب، وقرئ «ليروا» بفتح الياء، وهو مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي وزن نملة صغيرة خَيْراً يَرَهُ (7) قال أحمد بن

كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة، وليس له فيها شيء، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه، وماله، وأهله، وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شر، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي ميزان أصغر النمل شَرًّا يَرَهُ (8) قال ابن عباس: ليس من مؤمن، ولا كافر عمل خيرا، أو شرا إلا أراه الله إياه، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته، وقوله تعالى: خَيْراً وشَرًّا منصوبان على التمييز من «مثقال» أو على البدل من «مثقال» ، و «يره» جواب الشرط مجزوم بحذف الألف، وقرأ ابن عباس، والحسين بن علي، وزيد بن علي، وكذا عاصم في رواية «يره» مبنيا للمفعول، وقرأ عكرمة «يراه» بالألف.

سورة والعاديات

سورة والعاديات مكية، إحدى عشرة آية، أربعون كلمة، مائة وثلاثة وستون حرفا وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) أي والخيل الجارية بشدة في الغزو تصوت أنفاسهن من الجري، والضبح صوت يسمع من صدور الخيل عند شدة الجري، وليس بصهيل، ولا حمحمة، بل هو صوت نفس، وقال علي رضي الله عنه وكرم وجهه: أي وإبل الحاج الجارية من عرفة إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى تمد أعضاءها في سيرها، و «ضبحا» حال بمعنى اسم الفاعل، فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) أي فالخيل التي تطأ الخصي صاكات بحوافرها ما يخرج النار كنار حباحب وهو رجل من العرب أبخل الناس الذي في العساكر لا يوقد نارا حتى ينام الناس، ثم يوقدها فإذا انتبه أحد أطفأها لئلا ينتفع بها أحد فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع، أو يقال فالجماعة الذين يركبون الإبل وهم الحجيج الموقدون نيرانهم بالمزدلفة، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) أي فالجماعة الذين يركبون الخيل الذين يهجمون على الأعداء للنهب، أو للقتل في وقت صبح لير، وإما يأتون وما يذرون، أو فالجماعة الذين يندفعون من جمع إلى منى ركبانا بإسراع السير صبيحة يوم النحر فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) أي فهيجن في وقت الصبح، أو بالجري غبارا، أو فهيجن في المغار صباحا، فتوسطن في ذلك الوقت أو بالغبار جمعا من جموع الأعداء. وقرأ أبو حيوة «فأثرن» بالتشديد أي أظهرن بجريهن غبارا وقرئ «فوسطن» بالتشديد أي جعلن جمع الأعداء في ذلك الوقت، أو في ذلك المكان، أو بجريهن، أو بالغبار في الوسط، أو قطعن جمع الأعداء نصفين. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث خيلا فمضى شهر لم يأته منهم خبر، فنزلت هذه الآيات، وعن محمد بن كعب قال: النقع ما بين مزدلفة ومنى الجمع مزدلفة، فالمعنى: فتحركن وقت الصبح أو بالجري في وادي محسر فصرن بجريهن وسط مزدلفة، أو يكون المعنى: فأظهرن في ذلك الوقت أو في جريهن صباحا بالتلبية فجعلن مزدلفة بجريهن في الوسط ويتأكد حمل الآيات على الإبل، أو مع خيول الحجاج بما روى أبي في فضل هذه السورة مرفوعا: «من قرأها أعطي من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) أي إن طبع

[سورة العاديات (100) : آية 11]

جنس الإنسان لكفور بنعمة ربه كما قاله ابن عباس وغيره، وهذا بلسان ربيعة ومضر أو لربه لوّام فيعد المصائب، والمحن، وينسى النعم، والراحات كما قاله الحسن، ويقال: عاص بربه بلسان حضرموت، ويقال: بخيل بلسان بني مالك بن كنانة، وقيل: المراد بالإنسان الكافر كما قال ابن عباس: إن هذه الآية نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وقيل: في أبي حباحب أي وهما كافران وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) أي وإن الرب تعالى على ذلك الصنع لشهيد حافظ، وَإِنَّهُ أي الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال لَشَدِيدٌ (8) أي قوي ولطلبه مطيق أو إن الإنسان وهو قرط أو أبو حباحب لأجل حب المال لبخيل ممسك، أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) أي أفلا يعلم الإنسان قرط، أو أبو حباحب في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا أخرج ما في القبور من الأموات، والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ومعنى علم الله بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وأتى ب «ما» لأن غير المكلفين الذين في الأرض أكثر، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) أي بين ما في القلوب من الكفر، والإيمان، والبخل والسخاوة. وقرئ «حصل» مبنيا للفاعل ومخففا أي ظهر ما في القلوب من الأسرار الخفية. إِنَّ رَبَّهُمْ أي الإنسان بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) وقوله تعالى: بِهِمْ ويَوْمَئِذٍ متعلقان ب «خبير» وجمع الضمير العائد إلى الإنسان اعتبارا بمعناه لأنه اسم جنس أي أفلا يعلم الإنسان أن ربهم عالم بهم يجازيهم في يوم البعث فلا حاكم يروج حكمه، ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو، وقرأ أبو السمال «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة «أن» وإسقاط اللام من «لخبير» . سورة القارعة مكية، عشر آيات، ست وثلاثون كلمة، مائة واثنان وخمسون حرفا الْقارِعَةُ (1) أي الصيحة التي تقرع القلوب مَا الْقارِعَةُ (2) أي أي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) أي وأي شيء أعلمك يا أشرف الرسل ما شأن القارعة. يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ و «يوم» مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين أي هي يوم يكون الناس فيه

سورة التكاثر

كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) أي المفرق فالله تعالى شبه الناس في وقت البعث بالفراش المنشور في الكثرة، والتطاير إلى الداعي لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالفراش، وهو الحيوان الذي يتهافت في النار وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) أي وتصير الجبال كالصوف الذي ينفش باليد في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) أي فمن ترجحت مقادير حسناته، فهو في عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها أي فهو في الجنة بغير حساب أما من استوت حسناته وسيئاته فيحاسب حسابا يسيرا، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) أي وأما من طاشت حسناته فترجحت السيئات على الحسنات فأم رأسه نازلة في النار أي فيهوى في النار على هامته، ثم إن كان مؤمنا فإما أن يعذب بقدر ذنوبه، ثم يخرج منها إلى الجنة، وإما أن يشفع فيه، وإن كان كافرا فيخلد في النار. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) أي وأي شيء أعلمك يا أكرم الرسل ما هاويه والهاء للسكت. وقرأ حمزة في الوصل بغير هاء ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلا ووقفا لأنها ثابتة في المصحف نارٌ حامِيَةٌ (11) أي هي نار متناهية حرها فسائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حارة نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب. سورة التكاثر مكية، ثمان آيات، ثمان وعشرون كلمة، مائة وعشرون حرفا أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) أي شغلكم التغالب بالمناقب وبكثرة المال وعدد الرجال والتباهي بذلك عن التدبير في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت. روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بالأشراف في الإسلام، فقال كل من الفريقين: نحن أكثر منكم سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم نفرا، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم: إن البغي أفنانا في الجاهلية، فعدوا أحياءنا، وأحياءكم، وأمواتنا، وأمواتكم ففعلوا فكثرهم بنو سهم فنزلت فيهم هذه السورة. وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ أَلْهاكُمُ وقال ابن آدم يقول: «مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» . وقرئ «أألهاكم» على الاستفهام التقريري حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) أي حتى أتاكم الموت

سورة والعصر

فصرتم في المقابر زوارا تسيرون عنها إلى مكان الحساب. يقال لمن مات: قد زار قبره، وإنما يقال ذلك لأنه لا بد له من انتقال عنها إلى منزله من جنة أو نار. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) أي حقا سوف تعلمون عند الموت حين يقال لكم لا بشرى وفي وقت سؤال القبر، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) عند النشور حين ينادي المنادي فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا، وحين يقال وامتازوا اليوم. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) وجواب لَوْ محذوف أي حقا لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وما تفاخرتم في الدنيا، ويقال: إن المعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التفاخر عن ذكر الله. لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) وهذا جواب قسم محذوف أي والله لترون عذاب الجحيم فإنها يراها المؤمنون أيضا فكان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها. وقرأ ابن عامر، والكسائي بضم التاء أي أنهم يحشرون إلى الجحيم فيرونها، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) أي ثم لترون نفس الجحيم بعين اليقين فإنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى، التقريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ أي يوم رؤية الجحيم عَنِ النَّعِيمِ (8) في الدنيا فسؤال المؤمن سؤال تشريف وتبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة لأنه شكر النعم، وسؤال الكافر توبيخ وتقريع لأنه ترك الشكر حيث قابل نعيم الدنيا بالكفر والعصيان، وروى الحاكم في الحديث: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم» قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية قال: «أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» «1» . سورة والعصر مكية، ثلاث آيات، أربع عشرة كلمة، ثمانية وستون حرفا وَالْعَصْرِ (1) أي الدهر أقسم الله به لأنه مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء، والضراء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، بل فيه ما هو أعجب من كل عجيب، أو هو

_ (1) رواه ابن كثير في البداية والنهاية (6: 173) ، والبيهقي في دلائل النبوّة (6: 32) .

سورة الهمزة

العشي أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى، فإن كل عشية تشبه تخريب الدنيا بالموت وكل بكرة تشبه القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء، وقال الحسن: إنما أقسم الله بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انتهائها، وقرب وقت انتهاء التجارة فيها، أو هو صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها. روي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول: دلوني على النبي صلّى الله عليه وسلّم فرآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها ماذا حدث فيك قالت: يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا، فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما الزنا فعليك الرجم، وأما قتل الولد فجزاؤه جهنم، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا، لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر» ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) أي لفي غبن في مساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم أو في نقصان عمله بعد الهرم والموت إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم في تجارة لن تبور حيث استبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي تحاثوا بكل ما حكم الشرع بصحته من علم وعمل وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) أي تحاثوا بالصبر على أداء فرائض الله واجتناب معاصيه وعلى المرازي. سورة الهمزة مكية، تسع آيات، أربع وثمانون كلمة، مائة وإحدى وستون حرفا وَيْلٌ أي شدة عذاب أو واد في جهنم من قيح ودم لِكُلِّ هُمَزَةٍ أي مغتاب للناس من خلفهم لُمَزَةٍ (1) أي طعان في وجوههم نزلت هذه الآية في أخنس بن شريق، فإنه كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قاله عطاء، والكلبي، والسدي، أو في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه كما قاله مقاتل وجريج، أو في أبي بن خلف كما قاله عثمان بن عمر أو في أمية بن خلف كما قاله محمد بن إسحاق، أو في جميل بن فلال كما قاله مجاهد الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) أي أحصاه، وقال الأخفش أي جعله ذخيرة لحوادث الدهر. وقال الضحاك أي أعد ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: أي فاخر بكثرة عدد.

وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر جمع بتشديد الميم على التكثير، وقرأ الحسن، والكلبي و «عدده» بتخفيف الدال وهو معطوف على مالا أي وجمع المال، وعدد ذلك المال، أو وجمع عدد نفسه من أقاربه وعشيرته الذين ينصرونه، وقيل: هو فعل ماض بفك الإدغام يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) أي يظن الكافر أن ماله جعله خالدا في الدنيا لا يموت لطول أمله ولفرط غفلته، ويعتقد أنه إن نقص ماله يموت لبخله. قال الحسن: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت، وقيل يظن أن المال يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة في النعيم المقيم، وهذا تعريض بالعمل الصالح. كَلَّا أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده، بل العلم، والصلاح وعلى هذا يجوز الوقف هنا أو بمعنى حقا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) أي والله ليطرحن في النار التي تحطم كل من وقع فيها أي تكسره. وقرئ «لينبذان» بالمثنى أي هو وماله، وقرئ «لينبذن» بضم الذال أي هو وأنصاره وذلك لأن شأنه كسر أعراض الناس فإن الجزاء من جنس العمل، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) التي هي جزاء الهمزة اللمزة نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) أي التي لا تخمد أبدا بقدرته تعالى الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) أي التي تعلو وسائط القلوب، فإنها محل العقائد الزائغة ومنشأ الأعمال السيئة إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) أي مطبقة أو مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) أي حال كونهم موثقين في عمد ممددة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين، والعمود كل مستطيل من خشب، أو حديد. وقرأ حمزة، والكسائي، وشعبة «عمد» بضمتين جمع عمود أو عماد. وروي عن أبي عمر والضم والسكون، وقرأ الباقون بفتحتين وهو على القراءتين جمع كثرة لعمود.

سورة الفيل

سورة الفيل مكية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، ستة وتسعون حرفا أَلَمْ تَرَ أي ألم تخبر يا أشرف الخلق، أو ألم تعلم علما رصينا باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) قال قتادة: إن قائد الجيش اسمه أبرهة الأشرم من الحبشة، فقال سعيد بن جبير: هو أبو الكيشوم أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) والهمزة للتقرير أي قد جعل ربك كيدهم في تخريب الكعبة في إبطال بأن دمرهم أشنع تدمير، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) أي طوائف. روى ابن سيرين عن ابن عباس قال: كانت تلك الطير طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وروى عطاء عنه قال: طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، وقيل: كانت بلقاء كالخطاطيف كما قالته عائشة، وقال سعيد بن جبير: كانت طيرا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها مثلها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنها طير بين السماء والأرض تعشش وتفرخ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) أي طين متحجر مصنوع للعذاب، وقيل بحجارة من جهنم فإن سجين اسم من أسماء جهنم، فأبدلت النون باللام فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أي كورق زرع أكلته الدود، روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف ليها الحاج، فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك فحلف ليهدمنّ الكعبة فخرج مع جيشه، ومعه فيل اسمه محمود كان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره فلما بلغ قريبا من مكة وهو المغمس وهو في أرض الحل قريب من عرفة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل محمودا فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى غيرها من الجهات هرول، ثم رجع عبد المطلب وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول: لا هم إن المرأ يمنع حله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك ويقول أيضا: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا قراكا فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة ليست بنجدية ولا تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وأعضاؤه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه، وهذه القصة وقعت في السنة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

سورة قريش

سورة قريش مكية، أربع آيات، سبع عشرة كلمة، ثلاثة وسبعون حرفا لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) واللام إما متعلقة بالسورة التي قبل هذه السورة، وإما متعلقة بالآية التي بعد هذه اللام، وإما متعلقة بمحذوف فعلى الأول، فإن التقدير فجعلهم كعصف مأكول لحب قريش إلخ أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف. روي أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر، ولإيلاف قريش معا من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وإن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة، وعلى الثاني فالتقدير فليعبدوا رب هذا البيت الذي قصده أصحاب الفيل، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلاف قريش ونفعهم أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة، وعلى الثالث فإن هذه اللام لام التعجب فكأن المعنى: أعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وانغماسا في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم وينظم أسباب معايشهم وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه. إِيلافِهِمْ بدل من إيلاف الأول لأن المبدل منه مطلق والبدل مقيد بالمفعول به، أو توكيد لفظي ف «رحلة» مفعول لإيلاف الأول. وقرأ ابن عامر «لإلاف» قريش بغير ياء بعد الهمزة، والباقون بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني أي لمؤالفتهم. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطا، فهذا أدل دليل على أن القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرد الخط، وقرأ أبو جعفر «لإلف قريش إلفهم» بكسر الهمزة وسكون اللام بزنة حمل وعن ابن عامر «الافهم» بزنة كتابهم كما روي عن ابن كثير أيضا وروي عن ابن عامر أيضا، كما روي عن عكرمة «ليلاف» قريش بياء ساكنة بعد اللام، وقرأ عكرمة «ليألف» قريش فعلا مضارعا وعنه أيضا «ليألف» على الأمر رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) أي انتقالهما أي كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ وبالصيف إلى الشام فكانت أشراف أهل

مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون هؤلاء جيران بيت الله، وسكان حرمه، وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ازدادت قيمة أهل مكة في القلوب وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم، فازدادت تلك المنافع والمتاجر حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلهذا قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ [الفيل: 1] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ هذا وتعلق أول هذه السورة بما قبلها من قوله تعالى: فَعَلَ رَبُّكَ أو من قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ [الفيل: 5] ليس بحجة على أنهما سورة واحدة لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها معنى بعض ألا ترى أن قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ [القدر: 1] متعلق بما قبله من ذكر القرآن وأما قراءة سيدنا عمر رضي الله عنه فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين في ركعة واحدة، وقيل: إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا، وموسم منافع مكة يكون بهما ولو كان ثمّ لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة. وقرئ «رحلة» بضم الراء وهي الجهة التي يرحل إليها، لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) قال الخليل وسيبويه: إن اللام في «لإيلاف» متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا ودخول الفاء فيه لما في الكلام من معنى الشرط وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى، فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة وهي إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف والمعنى لجعلهم محبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم فليعبدوه تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي من بعد جوع بحمل الميرة إليهم من البلاد في البر والبحر بواسطة كونهم جيران البيت وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) أي من خوف دخول العدو عليهم، ومن خوف زحمة أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم، وقال الضحاك والربيع: أي آمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدتهم جذام، وقيل: آمنهم من خوف الضلال بالإسلام، فقد كانوا في الكفر يتفكرون فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به فكانت نعمة الأمانة دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا أما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح.

سورة الماعون

سورة الماعون وتسمى سورة الدين، وسورة أرأيت، مكية ومدنية، سبع آيات، خمس وعشرون كلمة، مائة وثلاثة وعشرون حرفا أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فرأى إما بصرية فالمعنى أأبصرت المكذب بالجزاء، أو بالإسلام أو هل عرفته، وإما بمعنى أخبرني الذي يكذب بالحساب من هو، ويدل على هذا قراءة عبد الله بن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب والكاف لا تلحق البصرية، وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش إبدالها ألفا، وأسقطها الكسائي ولم يصح عن العرب «ريت» ، ولكن لما كان حرف الاستفهام في أول الكلام سهل حذف الهمزة فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) والفاء جواب شرط محذوف أي إن أردت أن تعرف المكذب بالحساب فذلك الذي يدفع اليتيم بعنف عن حقه. وقرئ «يدع اليتيم» أي يتركه ولا يدعوه أي يدعو جميع الأجانب ويترك اليتيم أي يترك المواساة معه، وإن لم تكن المواساة واجبة وقد يذم المرء بترك النوافل، وقرئ «يدعو اليتيم» أي يدعوه رياء، ثم لا يطعمه، وإنما يدعوه استخداما أو قهرا، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) أي ولا يحث أهله وغيرهم من الموسرين على صدقة المساكين. قال ابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه، وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة والإتيان بالأفعال القبيحة، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل. روي أنه كان وصيا ليتيم فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك وكان غرضهم الاستهزاء، ولم يعرف اليتيم ذلك فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والتمس منه ذلك وهو صلّى الله عليه وسلّم ما كان يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش، فقالوا: صبوت، فقال: لا والله ما صبوت، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها فيّ.

وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة وقال الضحاك: نزلت في عمرو بن عائذ المخزومي، وقال عطاء عن ابن عباس نزلت في رجل من المنافقين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) والنسيان عن الصلاة، هو أن يبقى الإنسان ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة أما المسلم الذي يعتقد أن فيها فائدة دينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة. بلى، قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن، والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) بصلاتهم فإذا فاتتهم مع الناس تركوها بالمرة، والمرائي من يظهر الأعمال عند الناس مع زيادة الخشوع ليعتقد فيه من يراه أنه من أهل الدين والصلاح أما من يظهر النوافل ليقتدى به ويأمن على نفسه من الرياء فلا بأس بذلك وليس بمراء، وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) أي ويمنعون الناس الزكاة أو يمنعون الطالبين منافع البيت كالفأس، والقدوم، والإبرة، والقدر، والقصعة، والمغرفة، والمقدحة، والغربال، والدلو، والملح، والماء، والنار.

سورة الكوثر

سورة الكوثر وتسمى سورة النحر، مكية، ثلاث آيات، عشر كلمات، اثنان وأربعون حرفا إِنَّا أَعْطَيْناكَ. وقرئ «أنطيناك» يا أشرف الخلق: الْكَوْثَرَ (1) أي الخير المفرط في الكثرة من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين، فإن كتاب محمد هو الكتاب المهيمن على كتاب آدم وصحف إبراهيم وموسى، وتحديه بالقرآن، وذلك أعلاه كما تحدى آدم بالأسماء. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل فقال: لئن كنت صادقا، فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار الرسول إليه، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه وعام حتى صار بين يدي الرسول وسلم عليه، وشهد له بالرسالة فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يكفيك هذا؟» قال: حتى يرجع إلى مكانه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إلى مكانه، وهذا أعظم من إمساك سفينة نوح على الماء . وعن محمد بن حاطب قال: كنت طفلا، فانصب القدر علي من النار، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى، فتفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه وقال: أذهب البأس رب الناس، فصرت صحيحا لا بأس بي، وذلك أعظم من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، وأكرم الله محمدا، ففلق له القمر فوق السماء، وفجر له أصابعه عيونا وكان الغمام يظله، وأعطاه الله القرآن الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفه ثعبانين، فانصرف مرعوبا كما أكرم الله موسى، ففلق له البحر في الأرض، وفجر له الماء من الحجر، وظلل عليه الغمام وأكرمه باليد البيضاء، وقلب عصا موسى ثعبانا وسبحت الأحجار في يد الرسول وأصحابه، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت وأكرمه الله بالبراق، كما سبحت الجبال مع داود، وإذا مسح الحديد لان وأكرمه الله بالطير المحشورة، وأضاف الرسول اليهود بالشاة المسمومة، فلما وضع اللقمة في فيه أخبرته، وروي أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء، وشكت ذلك إلى الرسول فمسح عليها رسول الله بغصن، فأذهب الله عنها البرص، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى الرسول فردها إلى مكانها، وعرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل، فأخبره، فأسلم العباس لذلك، كما أكرم الله

عيسى عليه السلام بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ومعرفة ما يخفيه الناس في بيوتهم وحين نام رسول الله ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس فردها وصلى وردها مرة أخرى لعلي، فصلى العصر في وقته. وروي أن طيرا فجع بولده، فجعل يرفرف على رأسه صلّى الله عليه وسلّم ويكلمه فقال: «أيكم فجع هذه بولدها؟» فقال رجل: أنا، فقال: «اردد إليها ولدها» «1» . وأكرمه الله بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة، وكان يرسل حماره يعفورا إلى من يريده، فيجيء به وأرسل معاذا إلى بعض النواحي، فلما وصل إلى المفازة فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجز أن يرجع، فتقدم وقال: أنا رسول رسول الله، فانصرف وانقاد الجن له صلّى الله عليه وسلّم، وحين جاء الأعرابي بالضب وقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فتكلم الضب معترفا برسالته، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة، كما رد الله لسليمان الشمس مرة، وعلم منطق الطير، وأكرمه الله بمسيره غدوة مسيرة شهر، وانقاد الجن له، فلما كانت رسالته صلّى الله عليه وسلّم كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا فقال: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. قال: عطاء الكوثر حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموقف والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» . وفي رواية أنس أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور خضر، لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير، وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان. وعن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا الثرى مسك أذفر فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى» «2» . فَصَلِّ لِرَبِّكَ أي فدم على الصلاة خالصا لوجه ربك الذي أفاض عليك

_ (1) رواه أحمد في (م 3/ ص 103) ، والحاكم في المستدرك (1: 80) وابن أبي شيبة في المصنف (11: 437) ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (10: 498) ، والآجري في الشريعة (396) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (39153) ، وابن كثير في التفسير (8: 520) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 403) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11: 45) . (2) رواه مسلم في الجهاد باب: 31، وأبو داود في الخراج باب: 25، وأحمد (م 2/ ص 292) ، والبيهقي في السنن الكبرى (6: 34) ، والطبراني في المعجم الكبير (8: 9) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (6: 169) ، وابن أبي شيبة في المصنّف (14: 475) ، والبغوي في شرح السنة (11: 152) ، وعبد الرزاق في المصنف (9739) ، -

هذه النعمة الجليلة خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، وَانْحَرْ (2) أي استقبل القبلة بنحرك كما قاله ابن عباس، والفراء، والكلبي، وأبو الأحوص كأنه تعالى يقول: الكعبة بيتي، وهي قبلة صلاتك، وقلبك قبلة رحمتي، ونظر عنايتي، فلتكن القبلتان متناحرتين أي متقابلتين، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) أي إن مبغضك هو المنقطع عن كل خير، وهو أبو جهل كما قاله ابن عباس. روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم، ثم إنه وصف رسول الله بالأبتر، ثم قال: قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا، فلما وصلوا إلى دار خديجة، وتوافقوا على ذلك، أخرجت خديجة بساطا، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه وبقي صلّى الله عليه وسلّم واقفا كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي صلّى الله عليه وسلّم على أقبح وجه، فلما رجع أخذه باليد اليسرى، فصرعه على الأرض مرة أخرى، ووضع قدمه على صدره، أو هو أبو لهب كما قاله عطاء فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما شافهه بقوله: تبا لك، كان أبو لهب يقول في غيبته أنه صلّى الله عليه وسلّم أبتر، فنزلت هذه الآية أو هو العاص بن وائل السهمي، كما قاله عكرمة. روي أن العاص بن وائل كان يقول: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي، وعامة أهل التفسير، أو هو عقبة بن أبي معيط، كما قاله شمر بن عطية، فإنه هو الذي كان يقول ذلك، ووصف الله تعالى العدو بكونه شانئا، إشارة إلى وعده تعالى لرسوله بقهر العدو كأنه تعالى يقول: هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك، فيحترق قلبه غيظا وحسدا.

_ - والزيلعي في نصب الراية (3: 439) ، والدارقطني في السنن (3: 60) ، والتبريزي في مشكاة المصابيح (6210) .

سورة الكافرون

سورة الكافرون وتسمى أيضا سورة المنابذة، أو المعابدة، وسورة الإخلاص، أي إخلاص العبادة، وسورة المقشقشة، أي المبرئة من النفاق. ست آيات وستة وعشرون كلمة، أربعة وسبعون حرفا قُلْ يا أشرف الرسل: يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) . روي أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد هلم حتى نعبد إلهك مدة، وتعبد آلهتنا مدة، فيحصل الصلح بيننا وبينك، وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا، فنزلت هذه السورة فلما نزلت وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) أي لا أعبد الذي تعبدونه في المستقبل والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم من دون الله من الأوثان، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أي ولا أنتم عابدون في المستقبل عبادتي، أي مثل عبادتي، أي ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي وهو الله الواحد، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) أي وما كنت قط عابدا فيما مضى الذين عبدتم فيه، أي لم يعتد مني عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى مني في الإسلام وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) ، أي وما عبدتم في وقت من الأوقات مثل عبادتي، وإنما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أولا عن الاستقبال، لأنه هو الذي دعوه إليه، فهو الأهم، فبدأ به، أما حكايته صلّى الله عليه وسلّم عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه صلّى الله عليه وسلّم يعبد الأوثان سرا، خوفا منها، أو طمعا إليها، وأما نفيه صلّى الله عليه وسلّم عبادتهم، فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلا، وإن كان يعبد الله في بعض الأحوال وإنما قال: ما أَعْبُدُ في الرابعة ولم يقل: ما عبدت ليوافق ما عَبَدْتُّمْ في الثالثة، لأن عبادته صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة لم تظهر لأحد بخلافها بعدها أما عبادة الكافر قبل البعثة وبعدها فظاهرة عند الناس، لَكُمْ دِينُكُمْ وهذا تثبيت لقوله تعالى: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ولقوله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ، وَلِيَ دِينِ (6) وهذا تقرير لقوله تعالى: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى: إن دينكم الذي هو الإشراك مقصور لكم، وإن ديني الذي هو التوحيد مقصور لي، كأنه صلّى الله عليه وسلّم يقول: إني نبي مبعوث

سورة النصر

الشرك. وقيل: معنى الآية لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر ألبتة وقيل لكم: العقوبة من ربي ولي العقوبة من أصنامكم، لكن أصنامكم جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام. وقيل لكم: عادتكم المأخوذة من أسلافكم والشياطين حتى تلقوا الشياطين والنار ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي حتى ألقى الملائكة والجنة. وقرأ نافع وهشام وحفص بفتح ياء «ولي» وحذف ياء الإضافة من «دين» وقفا ووصلا السبعة. وجمهور القراء وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب. سورة النصر وتسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا وهي آخر سورة نزلت- قاله ابن عباس- مدنية، هي ثلاث آيات وثلاث، عشرون كلمة، تسعة وسبعون حرفا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ إن كان نزول هذه السورة قبل فتح مكة، ف «إذا» ظرف مستقبل جوابه فسبح، فإن كان النزول بعد الفتح ف «إذا» بمعنى إذ التي للماضي، فهي على هذا متعلقة بمقدر، أي أكمل الله الأمر وأتم النعمة إذ حصل إعانة الله تعالى على عدوك، وَالْفَتْحُ (1) أي فتح مكة، وهو الفتح الذي يقال له: فتح الفتوح، وكان لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، فقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وطوائف العرب إلى أن نزل بمر الظهران، وقدم العباس وأبو سفيان إليه، فاستأذنا، فأذن لعمه خاصة، فقال أبو سفيان: إما أن تأذن لي، وإلا أذهب بولدي إلى المفازة، فنموت جوعا وعطشا، فرق قلبه، فأذن له وقال له: «ألم يأن أن تسلم وتوحد؟» فقال: أظن أنه واحد ولو كان هاهنا غير الله لنصرنا، فقال: «ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟» فقال: إن لي شكا في ذلك، فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال: وماذا أصنع بالعزى؟ فقال عمر: لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك، فقال: يا محمد، أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش، وتصالح قومك وعشيرتك، فسكان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرضهم للشن والغارة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي، وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم» . وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، ثم تقدم أبو سفيان ودخل مكة وقال: إن محمدا جاء

بعسكر لا يطيقه أحد ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع من ذلك فزعا شديدا، وسأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه، كالساجد تواضعا وشكرا، ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . فقال: ومن تسع داري فقال: «ومن دخل المسجد فهو آمن» فقال: ومن يسع المسجد فقال: «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» ، ثم وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على باب المسجد وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم قال: «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم» ، فقالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء» «1» ، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، وأقام صلّى الله عليه وسلّم في مكة خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن. وقرئ «فتح الله» و «النصر» . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) ، أي وأبصرت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيفة كأهل مكة، والطائف، واليمن، وهوازن، وسائر قبائل العرب، وكانوا قبل ذلك فيه واحدا واحدا، واثنين اثنين. وقرئ «يدخلون» على البناء للمفعول فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. أي فقل سبحان الله حامدا له، وَاسْتَغْفِرْهُ أي واطلب غفرانه هضما لنفسك واستقصارا لعملك، واستعظاما، لحقوق الله، واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى، وكأنه تعالى يقول: إذا جاء نصر الله إياك والمؤمنين، والفتح، ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت بالتسبيح والحمد والاستغفار إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) أي إنه تعالى يكثر قبول التوبة لكثير من التائبين، والتوبة اسم للرجوع والندم، والإنسان قد يقول: أستغفر الله وليس بتائب، فيكون كاذبا وكان تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفي هذا تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمار. وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار. وعن عائشة: كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب، ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده» فقلت: يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده؟ قال: «إني أمرت بها» وقرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ. وعن ابن مسعود لما نزلت هذه السورة كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور» «2» .

_ (1) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (2: 127) . (2) رواه أحمد في (م 1/ ص 281) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9: 7) ، وابن كثير في التفسير (8: 534) ، والبغوي في شرح السنة (5: 128) ، والطبري في التفسير (30: -

قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، وسعد بن أبي وقاص والعباس، ففرحوا، واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عم» قال: نعيت إليك نفسك، أي أخبرت بموتك قال: «إنه كما قلت» ، فعاش بعدها ستين يوما ما رؤي فيها ضاحكا مستبشرا ، وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزل الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] فعاش النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزل وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحد عشر يوما، وقيل: سبعة أيام والله أعلم، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم في ربيع الأول لاثني عشر خلت منه من هجرته إلى المدينة والهجرة، كانت لاثني عشر خلت من ربيع الأول كما أن مولده كذلك على المشهور.

_ - 218) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 96) ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف (123) . [.....]

سورة أبي لهب

سورة أبي لهب وتسمى سورة تبت، مكية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، سبعة وسبعون حرفا تَبَّتْ أي هلكت يَدا أَبِي لَهَبٍ هو عبد العزى بن عبد المطلب، وَتَبَّ (1) أي هلك هو، فالأولى: مشت تمشية الدعاء عليه. والثانية: أخرجت مخرج الخبر، أي وقد حصل الهلاك عليه، فهذه الجملة على هذا على تقدير: قد، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب بالتصريح بقد، وقيل: كل واحد من الجملتين أخبار ولكن أريد بالجملة الأولى هلاك عمله، وبالثانية هلاك نفسه، فإن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين. روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد الصفا ذات يوم وقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ قال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقونني؟» قالوا: بلى، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» «1» ، فقال: عند ذلك أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت هذه السورة. وروي أنه قال: فما لي إن أسلمت؟ فقال: «ما للمسلمين» فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بماذا تفضل؟» فقال: تبا لهذا الدين أستوي فيه أنا وغيري. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما دعاه نهارا فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا، فجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: «إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت» . فقال: لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي. فقال صلّى الله عليه وسلّم للجدي: «من أنا؟» «2» فقال: رسول الله. وأطلق لسانه يثني عليه صلّى الله عليه وسلّم، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ بيدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر! فقال الجدي: بل تبا لك. فنزلت هذه السورة على وفق ذلك تبت يدا أبي لهب لتمزيقه

_ (1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (14: 345) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (8: 293) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (35632) . (2) رواه ابن حجر في تلخيص الحبير (4: 9) .

يدي الجدي ، وقد حصل له وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) أي أيّ تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه؟ أو لا ينفع أبا لهب ماله وكسبه عند ذلك، ف «ما» في «ما أغنى» للنفي؟ أو للاستفهام و «ما» في «ما كسب» إما مصدرية أو موصولة حذف عائدها، أو استفهامية أي أيّ شيء كسب فينفعه. روي أن أبا لهب كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فاستخلص منه، وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه، فافترس أسد ولده عتيبة بالتصغير في طريق الشام فأنزل الله تعالى هذه الآية. والكسب: هو أرباح ماله. وقيل: نتاج ماشيته. وقال ابن عباس: وما كسب هو ولده والدليل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» «1» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» «2» . ومات أبو لهب بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال. والعدسة: بثرة تخرج بالبدن فتقتل، سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) أي سيدخل أبو لهب في الآخرة نارا عظيمة ذات اشتعال. وقرئ بضم الياء وفتح اللام مخففا ومشددا، وَامْرَأَتُهُ معه أم جميل العوراء بنت حرب أخت أبي سفيان صخر بن حرب، واسمها العواء. وقيل: اسمها أروى. وقرئ و «مريئته» بالتصغير للتحقير، حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) وماتت مخنوقة بحبلها وكانت لشدة عداوتها للنبي صلّى الله عليه وسلّم تحمل بنفسها الشوك والحطب، فتنثره بالليل في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان عليه السلام يطؤه كما يطأ الحرير. وقرأ عاصم بالنصب على الشتم، أو على الحال إذا أريد بحمل الحطب في مطلق الزمن، وقرأ الباقون بالرفع على أنه نعت لامرأته إذا أريد به المضي. وقرئ «حمالة للحطب» بالتنوين نصبا ورفعا فالرفع على الخبر لامرأته، والنصب على الشتم أو على الحال من «امرأته» إن جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير المستتر، فإنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار كما كانت تحمل الحطب في الدنيا لأذية الرسول، وحينئذ فجملة «في جيدها» في موضع الحال من «امرأته» وإن جعلناها مرفوعة بالابتداء فجملة «في جيدها» إلخ هو الخبر. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) أي من حديد في الآخرة، فقد قال ابن عباس: هو سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا تدخل من فيها، وتخرج من دبرها، ويكون سائرها في عنقها،

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3530) ، وابن ماجة في السنن (2291) ، وأحمد في (م 2/ ص 204) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7: 480) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (4: 154) ، وابن حجر في تلخيص الحبير (3: 189) ، وعبد الرزاق في المصنف (16628) ، والسيوطي في الدر المنثور (1: 347) ، والقرطبي في التفسير (5: 412) . (2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (3: 82) ، والحاكم في المستدرك (3: 74) ، وأحمد في (م 4/ ص 161) .

سورة الإخلاص

قتلت من حديد قتلا محكما ويقال: أي في عنقها رسن من ليف المقل وهو شجر الدوم الذي اختنقت به وماتت. قال قتادة والضحاك: إن العواء كانت تعيّر رسول الله بالفقر فعيّرها الله بأنها كانت تحتطب في حبل من ليف تجعله في جيدها، فخنقها الله تعالى به، فأهلكها. سورة الإخلاص وتسمى سورة المعرفة، وسورة الجمال، وسورة التوحيد، وسورة النجاة، وسورة النور، وسورة المعوذة، وسورة المانعة، لأنها تمنع فتنة القبر ولفحات النار، وسورة البراءة، لأنها براءة من الشرك، مكية، أربع آيات، خمس عشرة كلمة، سبعة وأربعون حرفا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) إن هذه السورة نزلت بسبب سؤال المشركين. قال الضحاك: إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: سببت آلهتنا وخالفت دين آبائك! فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته» . فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له بين لنا جنس معبودك أمن ذهب أو فضة؟ فأنزل الله هذه السورة فقالوا له: ثلاثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟! فنزلت وَالصَّافَّاتِ [الصافات: 1] إلى قوله تعالى: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصافات: 4] فأرسلوه أخرى وقالوا: بين لنا أفعاله، فنزل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأعراف: 54] وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عامر: إلى من تدعونا يا محمد؟ فقال: «إلى الله تعالى» قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، وأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة، وعامر بن الطفيل بالطاعون وقيل: نزلت بسبب سؤال النصارى. روي عن ابن عباس قال: قدم وفد نجران فقالوا: صف لنا ربك، أمن زبرجد، أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال: «إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء» فنزل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، زدنا من الصفة، فقال: «اللَّهُ

الصَّمَدُ » فقالوا: وما الصمد؟ فقال: «الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج» . فقالوا: زدنا، فنزل لَمْ يَلِدْ كما ولدت مريم وَلَمْ يُولَدْ كما ولد عيسى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي ليس له نظير من خلقه. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإن الله تعالى أنزل صفته في التوراة، فأخبرنا من أيّ شيء هو؟ وهل يأكل ويشرب؟ ومن ورث؟ ومن يرثه؟ فنزلت هذه السورة وصفات الله تعالى إما أن تكون إضافية، وإما أن تكون سلبية. أما الإضافية: فكقولنا: عالم قادر مريد خلاق. وأما السلبية: فكقولنا: ليس بجسم ولا بجوهر، ولا بعرض، وقولنا: الله يدل على مجامع الصفات الإضافية وقولنا: أحد يدل على مجامع الصفات السلبية، وذلك لأن الله تعالى هو الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يستبد بالإيجاد فالاستبداد بالإيجاد، لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة، والإرادة النافذة، والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات، والمراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التراكيب. اللَّهُ الصَّمَدُ (2) أي السيد المصمود إليه في الحوائج. وقال ابن مسعود والضحاك: الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل: الصمد هو الذي ليس فوقه أحد فلا يخاف من فوقه، ولا يرجو من تحته، ترفع الحوائج إليه. وقال قتادة: الصمد الباقي بعد فناء خلقه، والذي لا يأكل ولا يشرب، وهو يطعم ولا يطعم. وقال أبيّ بن كعب: هو الذي لا يموت ولا يورث، وله ميراث السموات والأرض. وقال ابن كيسان: هو الذي لا يوصف بصفة أحد. قال مقاتل بن حبان: هو الذي لا عيب فيه لَمْ يَلِدْ أي لم يصدر عنه ولد لأنه لم يجانسه شيء، وَلَمْ يُولَدْ (3) أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه تعالى سابقا ولاحقا. ويقال: لم يلد، أي ليس له ولد فيرث ملكه، ولم يولد أي ليس له والد فيرث عنه الملك، فلم يرث ولم يورث، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) أي لم يشاكله أحد من صاحبة وغيرها، فيمتنع أن يكون شيء من الموجودات مساويا له تعالى في شيء من صفات الجلال والعظمة، ثم الآية الأولى: تبطل مذهب الثنوية القائلين: بالنور والظلمة، والنصارى: في التثليث. والصائبين: في الأفلاك والنجوم. والآية الثانية: تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله، لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات.

والآية الثالثة: تبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح والمشركين في أن الملائكة بنات الله. والآية الرابعة: تبطل مذهب المشركين حين جعلوا الأصنام شركاء له تعالى. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد، فسمع رجلا يدعو ويقول: أسألك يا الله يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: «غفر لك، غفر لك، غفر لك» «1» ، ثلاث مرات. وعن سهل بن سعد جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وشكا إليه الفقر فقال: «إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة» «2» . ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ قل هو الله أحد بعد صلاة الصبح اثنتي عشر مرة فكأنما قرأ القرآن أربع مرات وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى» «3» . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذي يموت فيه، لم يفنن في قبره وأمن من ضغطة القبر وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة» «4» .

_ (1) رواه الطبراني في المعجم الصغير (2: 20) ، وابن حجر في لسان الميزان (4: 557) ، وابن كثير في التفسير (6: 95) ، والبخاري في التاريخ الكبير (1: 266) ، والسيوطي في الدر المنثور (5: 6) ، والعقيلي في الضعفاء (3: 224) . (2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (7: 146) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 415) . (3) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (7: 145) ، والسيوطي في الدر المنثور (6: 412) ، والقرطبي في التفسير (20: 249) ، والألباني في السلسلة الضعيفة (301) . (4) رواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (6: 2416) .

سورة الفلق

سورة الفلق مدنية، خمس آيات، ثلاث وعشرون كلمة، أربعة وسبعون حرفا قيل: إن الله تعالى أنزل المعوذتين عليه صلّى الله عليه وسلّم ليكونا رقية من العين. وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال: إن عفريتا من الجن يكيدك فقال: إذا أويت إلى فراشك قل: أعوذ برب السورتين. وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء «بسم الله الكريم أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار» . قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) أي الصبح، فإنه وقت دعاء المضطرين، وإجابة الملهوفين، فكأنه يقول: قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم، ولأنه أنموذج من يوم القيامة، لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور، ثم منهم من يخرج عن داره مفلسا عريانا، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس، ومنهم من كان ملكا مطاعا، فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه، وكذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب، عار عن لباس التقوى. فيجر إلى الملك الجبار، وبعضهم كان مطيعا لربه في الدنيا، فصار ملكا مطاعا في العقبى يقدم إليه البراق. وقيل: الفلق واد في جهنم أوجب فيها. روي عن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال: لا أبالي ألبس من ورائهم الفلق. فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، وإنما خصه الله بالذكر هاهنا، لأنه القادر على مثل هذا التعذيب وفد ثبت أن رحمته تعالى أعظم من عذابه فكأنه يقول: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأقدم من عذابك. الفرخ، والقلوب عن المعارف، فكأن الله تعالى هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد وكأنه

تعالى قال: قل أعوذ برب جميع الممكنات وبمكون المحدثات، فيكون التعظيم فيه أعظم ويكون الصبح وجبّ النار أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى، مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) أي من شر كل ذي شر خلقه الرب من إبليس، ومن جهنم، ومن أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما، وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) أي ومن شر قمر إذا طلع، كما أخرجه الترمذي من حديث عائشة قالت: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فأشار إلى القمر فقال: «نعوذ بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب» ، ومعنى غسوق القمر: امتلاؤه فوقوبه دخوله في الخسوف، أو من شر شمس إذا غربت كما قاله ابن شهاب، وإنما سميت غاسقا، لأنها في الفلك تسبح، فسمي جريانها بالغسق ووقوبها دخولها تحت الأرض، أو من شر ثريا إذا سقطت، لأن الأسقام تكثر عند سقوطها وترتفع عند طلوعها، كما قاله عبد الرحمن بن زيد، وعلى هذا تسمى الثريا غاسقا لانصبابه عند وقوعه في المغرب، ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين، أو من شرحية إذا لدغت وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) أي ومن شر النساء اللاتي يبطلن عزائم الرجال بالحيل كما اختاره أبو مسلم، فمعنى الآية: أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن فيهم ويحوّلنهم من رأي إلى رأي، ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد، وعمل بمقتضاه كتهيئة مبادي الإضرار بالمحسود قولا أو فعلا.

سورة الناس

سورة الناس مدنية، ست آيات، عشرون كلمة، تسعة وتسعون حرفا قُلْ يا أشرف المرسلين أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) أي ألتجئ بمصلح الناس والقائم بتدبيره، وذكر الله أنه رب الناس على التخصيص مع أنه رب جميع المحدثات، لأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم، وهو معبودهم. وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، مَلِكِ النَّاسِ (2) عطف بيان، جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي لا بطريق تربية سائر الملاك لمماليكهم، ولا يجوز هاهنا «مالك الناس» بإثبات الألف بخلاف مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ في سورة الفاتحة [الآية: 4] والفرق أن قوله: بِرَبِّ النَّاسِ أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقبه هذا الملك ليفيد أنه تعالى مالك وملك معا، فإن قيل: أليس قال تعالى في سورة الفاتحة: رَبِّ الْعالَمِينَ [الآية: 2] ثم قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الآية: 4] فيلزم وقوع التكرار هناك قلنا: اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين، فهناك «الرب» مضاف إلى شيء موجود الآن، و «المالك» مضاف إلى شيء يوجد في الآخرة، فلم يلزم التكرير، فظهر الفرق، وأيضا فإن جواز القراءات يتبع النزول لا القياس، إِلهِ النَّاسِ (3) عطف بيان جيء به لبيان أن ملكه تعالى بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة، وإيجادا وإعداما، فوصف الله أولا بأنه رب الناس، ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا، فبين بقوله ملك الناس، ثم الملك قد يكون إلها وقد لا، فبين بقوله إِلهِ النَّاسِ لأن الإله خاص بالله تعالى لا يشركه فيه غيره، وأيضا إن أول ما يعرف العبد من معبوده كونه معطيا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا هو الرب، ثم ينتقل من معرفة هذه الصفة إلى معرفة استغنائه عن الخلق، فيحصل العلم بكونه ملكا، لأنه هو الذي يفتقر إليه غيره ويستغني عن غيره، ثم عرف العبد أنه هو الذي ولهت

العقول في عزته وعظمته، فيعرف أنه إله حقيقة مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ بفتح الواو هو بمعنى الموسوس وهو الشيطان الْخَنَّاسِ (4) أي الذي يتأخر عند ذكر الإنسان ربه والوقف هنا كاف لمن رفع ما بعده أو نصبه على الشتم، ولا وقف هنا لمن جعل ما بعده نعتا للوسواس، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) أي في قلوب الغافل عن ذكر الله، وسقوط الياء عن الناس كسقوطها في قوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) بيان للناسي عن ذكر الله فإنهما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى، وعلى هذا لا يحتاج إلى تكلف بعض العلماء من جعل قوله: مِنَ الْجِنَّةِ بيانا للوسواس، وجعل قوله: وَالنَّاسِ عطفا عليه، فكأنه قيل: من شر الوسواس الذي يوسوس، وهو الجن ومن شر الناس اه. ومن جعل قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ عطفا على الْوَسْواسِ بتقدير حرف العطف. فالمعنى: قل أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس، كأنه استعاذ بربه من الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وفي هاتين السورتين لطيفة وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق، والنفاثات، والحاسد. أما في هذه السورة المستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى: سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية: سلامة الدين. وهذا تنبيه على أن مضمرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا، وإن عظمت، والله أعلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد انتهى ما منّ الله به علينا من المعاني الميسّرة والألفاظ المسهّلة في خامس ربيع الآخر ليلة الأربعاء عام سنة 1305 ألف وثلاثمائة وخمسة على يد الفقير إلى الله تعالى محمد نووي غفر الله له ولوالديه، ولمشايخه، ولإخوانه المسلمين، وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين آمين

§1/1