مرآة الجنان وعبرة اليقظان

اليافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم قال العبد الفقير إلى لطف الله الكريم سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة علم العلماء وقدوة العرفاء أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي نزيل الحرمين الشريفين اليمني المعروف باليافعي: اما بعد حمدا لله المتوحد بالإلهية والكمال والعظمة والسلطان مميت الأحياء ومحيي الأموات المعروف بالرحمة والإحسان موجد الوجود ومفيض الفضل والجود في سائر الأكوان، الأزلي الأبدي، الحي الباقي، وكل من عليها فان. وصلواته وسلامه على رسوله الحبيب الكريم المنتخب من نسل عدنان النازل في ذروة علياء المفاخر المجلي عند استباق الأصفياء النجباء يوم الرهان وعلى آله وأصحابه الغر الكرام المعز بهم دين الإسلام السامي على سائر الأديان. فهذا كتاب لخصته واختصرته، مما ذكره أهل التواريخ والسير أولو الحفظ والاتقان في التعريف بوفيات بعض المشهورين المذكورين الأعيان، وغزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشيء من شمائله، ومعجزاته، ومناقب أصحابه وأموره، وأمور الخلفاء والملوك، وحدوثها في أي الأزمان على وجه التقريب لمعرفة المهم من ذلك دون الاستيعاب، واستقصاء ذكر الأوصاف والأنساب لأستغني به في معرفة ما تضمنه عن الحاجة إلى استعارة التواريخ للمطالعة في بعض الأحيان، معتمداً في الشمائل والمناقب على ما أفصح به كتاب الشمائل للترمذي وجامعه والصحيحان، وفي التواريخ على ما قطع به الذهبي، أو أوله وصحح، ومودعه أشياء من الغرائب والنوادر والظرف والملح ملتقطاً ذلك من نفائس جواهر نوادر الفضلاء، ومعظمها من تاريخ الإمام ابن خلكان وشيئاً من تاريخ ابن سمرة في قدماء علماء اليمن أولي الفقه والحكمة والبيان مختصراً في جميع ذلك على الاختصار بين التفييط المخل، والإفياط الممل، محافظاً على لفظ المذكورين في غالب الأوقات حاذفاً للتطويل، وما يكره المتدين ذكره من الخلاعات، على حسب ما أشرت إليه في هذه الأبيات. أيا طالباً علم التواريخ لم تشن ... بإخلال تفييط وإملال إفياط تلق كتاباً قد أتى متوسطاً ... وخير أمور حل منها بأوساط تجلى بأشعار زهت ونوادر ... وما لاق من إثبات ذكر وإسقاط

السنة الأولى من الهجرة

به تجتلى الأسماع عند غرائب ... ولياً منقى من قشور وأخلاط ومن درر الألفاظ عين معاني ... ونجباة خودات نقاوة لقاط بذاك اعبتار واطلاع مطالع ... على علم دهر رافع الخلق حطاط وتصريف أيام حكيم مداول ... لها مسقط في خلقه غير قساط فكم في تواريخ الوقائع عبرة ... لمعتبر خاشي العواقب محتاط فنى من صروف الدهرحزم مجانب ... تعاطى أمور معطيات لمتعاطي قنوع بما فيه الخبير أقامه ... وقدره راضي القضا غير مسخاط أجر رب من كل البلايا وفتنة ... بدنيا بها كم ذي افتنان وكم خاطي وكم غارق في بدرها جاء شطه ... فكيف بمن للبدر قد جاوز الشاطي وسميته مرآة الجنان وعبرة اليقطان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان، وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان، مرتباً على سني الهجرة النبوية، والله الموفق المستعان، والحمد لله رب العالمين على كل حال. السنة الأولى من الهجرة هاجر صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المعظمة إلى المدينة المكرمة بالتأييد والتوفيق في صحبة الصديق السابق بالتصديق، ومعهما عامر بن فهيرة ورجل آخر من أهل الحيرة بالطريق، فدخلها صلى الله عليه وآله وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فبنى صلى الله عليه وآله وسلم مسجده ومساكنه، وآخى بين المهاجرين، والأنصار، رضي الله تعالى عنهم، وأسلم عبد الله بن سلام، وتوفي نقيبان أسعد بن زرارة الأنصاري من بني النجار والبراء بن معرور السلمي.

السنة الثانية

السنة الثانية فيها حولت القبلة إلى الكعبة، قال محمد بن حبيب الهاشمي: حولت في ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه، فجاءت صلاة الظهر في منازل بني سلمة، فصلى بهم ركعتين من الظهر في مسجد القبلتين إلى القدس، ثم أمر في الصلاة باستقبال الكعبة، وهو راكع في الركعة الثانية فاستدار واستدارت الصفوف خلفه صلى الله عليه وآله وسلم، فأتم الصلاة فسمي مسجد القبلتين. وفي شعبان أيضاً فرض صوم رمضان، وفي رمضان كانت وقعة بدر يوم الجمعة في السابع عشر منه، فاستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قلت: هكذا ذكروا في التواريخ، ولم يبينوا من هم، وقد بينهم علماء السير، فقالوا: كان من قريش ستة أولهم أبو عبيدة بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمير بن أبي وقاص الزهري، وذو الشمالين بن عبد عمرو، وعاقل بن البكير ومهجع مولى عمر بن الخطاب، وصفوان ابن بيضاء، ومن الأنصار ثمانية خمسة من الأوس سعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف، وزيد بن الحارث من بني سلمة، ورافع بن المعلى من بني خثيم، وثلاثة من الخزرج من بني النجار، حارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا عفراء، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار سبعرن، وأسر سبعون، ومن المقتولين رأس الكفرة أبوجهل المخزومي، وعتبة بن ربيعة العبشمي، فهما المقدمان في الجيش والكبيران في قريش. وفيها توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجة عثمان رضي الله تعالى عنهما، وفي شوال منها دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعائشة، وفيها بنى علي بفاطمة رضي الله عنهما. وفيها توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه بالمدينة، وهو أول من مات من المهاجرين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد رجوعه من بدر، ولما دفن

السنة الثالثة

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " نعم السلف هو لنا عثمان بن مظغون ". وأعلم صلى الله عليه وآله وسلم قبره بحجر، وكان يزوره، وكان عابداً مجتهداً من فضلاء الصحابة، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شراباً يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني على أن أنكح كريمتي، فلما حرمت الخمر، وأعلم بتحريدها قال: تباً لها، قد كان بصري منها ثاقباً، ورأته امرأته فقالت: ياعين جودي بدمع غير ممنوع ... على رزية عثمان بن مظعون على أمرء بان في رضوان خالقه ... طوبى له من فقيد الشخص مدفون مع أبيات أخرى، ومن فضائله أنه لما مات قبله النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلم على قبره، ودفن بجنبه ولده ابراهيم رضي الله تعالى عنه، وأنه لما سمع لبيداً ينشد شعراً: ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال: صدقت، فلما قال: وكل نعيم لا محالة زائل قال: كذبت نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش أكذب في مجلسكم، فلطم بعض الحاضرين عثمان بن مظعون على وجهه حتى اخضرت إحدى عينيه، وذلك في أول الإسلام، فقال له عتبة بن ربيعة: لو بقيت في منزلي ما أصابك هذا، وقد كان في نزله، ثم رده عليه، وقال له عثمان: ان عيني الأخرى لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله، وفيها ولد عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما. السنة الثالثة في رمضان منها ولد الحسن رضوان الله عليه قلت: ولم أرهم ذكروا تاريخ ولادة أخيه الحسين رضي الله تعالى عنه، والذي يقتضيه ما ذكروا من تاريخ مدة عمرهما وزمان وفاتهما أن تكون ولادة الحسين في السنة الخامسة، والله تعالى أعلم، ثم وقفت على كلام للأمام القطبي المالكي يذكر فيه أنه ولد في شهر شعبان في السنة الرابعة، فعلى هذا ولد الحسين، قبل تمام السنة من ولادة الحسن ومثل هذا غريب في العادة. نادر الوقوع. ويؤيد هذا ما وقفت عليه، بعد ذلك من نقل الواحدي أن فاطمة رضي الله تعالى عنها، علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، والله أعلم. وفي الثالثة أيضا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفصة رضي الله تعالى عنها.

وفي رمضان أيضاً دخل بزينب بنت جحش، وبزينب بنت خزيمة العامرية أم المساكين، وعاشت عنده نحواً من ثلاثة أشهر. ثم توفيت. وفيها تزوج عثمان رضي الله عنه بأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها تحريم الخمر، ووقعة أحد يوم السبت السابع من شوال، وصحح بعضهم أنها في الحادي عشر منه، فاستشهد فيها عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الأسد المتغلب أبو يعلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، ومناقبه مشهورة، وسيرته مشكورة. وشجاعته معروفة. ونجابته موصوفة، وقد ورد أنه لما بلغه أن أبا جهل آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قصده حمزة، فشجه بقوس كانت في يده. جاء بها من الصيد ومشاهده معروفة منها يوم بدر، ويوم أحد قتل فيها جماعة وبلي فيها بلاء حسناً، وكان ممن قتل يوم بدرعتبة بن ربيعة، وقيل: بل أخوه شيبة مبارزة، وما ندبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى البراز يوم بدر للعدى إلا لما علم فيه من النجدة، ومكافحة الأقران أولى الاعتداء، وكان يقال له: أسد الله، وأسد رسوله أسلم في السنة الثالثة، وقيل في السنة السادسة من مبعثه، صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم من إخوته سوى العباس، وكانوا تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثنا عشر، وهم حمزة، والعباس، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والحارث، وهو أكبرهم سناً، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوم، والمغيرة، وضرار، وأبو لهب، واسمه عبد العزى، والغيداق، وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما وقف صلى الله عليه وسلم عليه مقتولاً ممثلاً به يوم أحد حلف ليقتلن به سبعين من قريش، فأنزل الله عز وجل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل نصبر "، وكفرعن يمينه، ورثاه كعب ابن مالك، وقيل عبد الله بن رواحة، فقال: بكت عيني، وحق لنا بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل على أسد ألا له غداة قالوا ... لحمزة ذاكم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعاً ... هناك وقد أصيب به الرسول

أبا يعلى بك الأركان هدت ... فأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك في جنان ... يخالطها نعيم ل ايزول وفيها قتل الذي لبس في الله إهاب كبش، بعدما كان من الذين يلبسون ويتنعمون، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون " مصعب بن عمير العبدري قتل مع تتمة سبعين رجلاً من المسلمين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وفي الحديث هاجرنا، فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله، ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن غمير قتل يوم أحد، وليس له إلا نمرة إن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الأذخر "، ومنا من أينعت له ثمرة فهويهديها، وكان أبواه يحبانه، ويغذيانه بأطعم الطعام والشراب، ويلبس أحسن ملابس الثياب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ما رأيت رجلاً أحسن ملة، ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير "، وكان إسلامه في دار الأرقم ولما قدم من بعض الأسفار بدأ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أمه فغضبت، فقالت قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً أو كانت في يده راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، ويوم أحد فلما قتل أخذها ليث بني غالب علي بن أبي طالب. وغزوة بدر الصغرى في هلال في القعدة، وفيها غزوة بني النضير عند بعضهما، وذكر بعض المحققين أنها في الرابعة. السنة الرابعة فيها غزوة بن معونة في صفر، قال أنس: كانوا سبعين، فقتلوا يومئذ، وقال غيره: وكانوا أربعين، وكان يقال لهم: القراء، فاستشهدوا كلهم، ونزل فيهم قرآن. وغزوة بني النضير في الربيع الأولى، فنزلوا صلحاً، وارتحلوا إلى خيبر. وغزوة ذات الرقاع في أول المحرم. وغزوة الخندق عند بعضهم، وكان مدة إقامة

السنة الخامسة

الأحزاب فيها خمسة عشر يوماً، ثم هزمهم الله تعالى، وكذلك نزول التيمم، وزواج أم سلمة. السنة الخامسة ذكر بعضهم فيها صلاة الخوف، وغزوة دومة الجندل، وغزوات ذات الرقاع عند نعضهم خلإذا لما تقدم، وغزوة الخندق عند بعضهم في شوال، ثم غزوة بني قريظة، وممن ذكر هذا الذهبي، قلت: والعجب من الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله كيف صحح كون غزوة الخندق في الرابعة، وغزوة بني قريظة في الخامسة ذكر ذلك في الروضة مع أنها وقعت عقبها وظاهرهذا النقل التناقض. اللهم إلا أن يكون غزوة الخندق في آخرالرابعة عنده، وغزوة بني قريظة في أول الخامسة. اعني دامت إلى أول الخامسة، فيصح ذلك لكني أراه بعيداً لوجهين: أحدهما ما تقدم من كون غزوة الخندق في شوال، وهذا النقل وإن احتمل خلفه، فالوجه الثاني لايحتمل خلافه، وهو ما قد علم من نصوص الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه إلى بني قريظة في اليوم الذي انصرف فيه الأحزاب من غزوة الخندق بعدما أخبره جبرائيل عليه السلام بأن الله تعالى يأمره بالتوجه إلى بني قريظة، والغزوة إذا أطلقت حملت على ابتدائها دون دوامها، وغزوة الخندق هي غزوة الأحزاب، ولم يكن فيها سوى الرمي بالنبل، والمصابنة أكثر من عشرين يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً، وخرج فيها للمبارزة عمرو بن عبد ود، فبارزه علي رضي الله تعالى عنه فقتله. وفي السنة المذكورة توفي سعد بن معاذ سيد الأوس الذي اهتز عرش الرحمن بموته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: " قوموا إلى سيدكم ". وقال: " لقد حكم بحكم الله " الحديث لما حكم في بني قريظة بما هو معروف، وقال: " لمناديل سعد في الجنة خير من هذا " مشيراً إلى الحرير الذي أعجبهم كل هذه من بعض مناقبه، مات رضي الله عنه شهيداً من سهم أصابه في غزوة الخندق، وعاش بعده حتى حكم في بني قريظة، وعدل في حكمه الذي وافق فيه حكم الله عز وجل.

السنة السادسة

وقال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لقد نزل من الملاتكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطأوا الأرض قبل ذلك ". قال ابن عبد البر: وبلغني عن بعض السلف أن جبرائيل عليه السلام نزل من السماء معتماً بعمامة من استبرق، وقال: يا نبي الله من هذا الذي فتحت له أبواب السماء واهتزله العرش؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعاً يجر ثوبه فوجد سعداً وقد قبض، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار شعراً. وما اهتز عرش الله من موت هالك ... علمنا به إل السعد أبي عمرو السنة السادسة فيها بيعة الرضوان في ذي القعدة، وموت سعد بن خولة بمكة، وذكر بعضهم فيها غزوة بني المصطلق، وفرض الحج فيها، وقيل سنة خمس، وكسفت الشمس ونزل حكم الظهار. السنة السابعة فيها غزوة خيبر، وفتحها في صفر، وأكرم فيها بالشهادة بضعة عشر. وتزوج صلى الله عليه وآله وسلم صفرة، وميمونة، وأم حبيبة، وجاءته مارية القبطية هدية، وبغلته دلدل، وقدم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة رضي الله عنهم، وأسلم أبو هريرة رضي الله عنه. وفيها عمرة القضاء في ذي القعدة التي قضاها المسلمون عن عمرة الحديبية. السنة الثامنة فيها غزوة مؤتة في جمادى الأولى، فاستشهد الأمراء الثلاثة الأجلة السادة زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن فضائله تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإمارة. على الأمراء، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وإن كان خليقأ للأمرة " أي حقيقاً بها، وكان قد أسرته العرب، وهو صبي، فجلب إلى المدينة. فسمع به قرابته، فقدم منهم جماعة لأجله وفيهم أبوه وعمه، فوجدوه قد ملكه النبي صلى الله عليه

وآله وسلم، وأعتقه، فكلموه صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فجعل صلى الله عليه وآله وسلم الخيرة إلى زيد أن اختار قومه أرسله معهم وإن اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام معه، فرغبه أهله إلى أن يختارهم، فأبى، واختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسعادة السابقة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحبه، وفيه نزل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " الأحزاب قيل أنعم الله تعالى عليه بالإيمان، وأنعمت عليه بالعتق والإحسان. وزوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش، فأقامت عنده. إلى أن فارقها لما فهم أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها رغبة موثراً بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه، فزوجها الله تعالى عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أخبر سبحانه بقوله " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكما " عوضها الله تعالى أشرف الخلق وأكرمهم صلى الله عليه وآله وسلم، لما انقادت وأطاعت في زواج زيد بعد أن كانت قد كرهته هي وأخوها لكونه مولى، فلما أنزل الله عز وجل في ذلك: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " الآية إذعناً وأطاعا واستسلما لحكم الله تعالى فأعقبها ذلك السعادة الكبرى في الدنيا والآخرة. وقال ابن عبد البر: كان قد سبي في الجاهلية، وهو غلام، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبناه صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل النبوة، فهو ابن ثمان سنين، فقال أبوه حارثة حين فقده. أشعاراً: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي يرجى أم أتى دونه الأجل فو الله ما أدري وإن كنت سائلاً ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا قارب الطفل وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه وما وجل سأعمل نضر العيش في الأرض جاهداً ... ولا أسأم التطواف أوتشأم الأبل حياتي أو تأتي علي منيتي ... وكل امرء فان وإن غره الأمل فحج بعد ذلك ناس من كلب فرأوا زيداً، فعرفهم، وعرفوه، فقال لهم أبلغوا أهلي الأبيات فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي فأنشد أشعاراً: أحن إلى قومي وإن كنت نائياً ... فإني قعيد البيت عند المشاعر

فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعلموا في الأرض نض الأباعر فإني بحمد الله في خيرأسرة ... كرام معد كابن بعد كابن فانطلق الكلبيون وأعلموا أباه فخرج أبوه وعمه لفدائه، وقدما مكة والياً النبي صلى اله عليه وآله وسلم، وقالا له: يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله. وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، قال: " من هو؟ " قالوا: زيد بن حارثة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " فهلا غير ذلك " قالوا: وما هو؟ قال: " ادعوه فأخبره فإن اختاركم، فهو لكم وإن اختارني، فو الله ما أنا بالذي اختارعلى من اختارني أحداً " قالوا: قد زدتنا على النصف، وأحسنت، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخيره، فقال: ما أنا بالذي اختار عليك أحداً أنت مني مكان الأب والعم، فقالوا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، أدخله الحجر، وقال: " يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فادعي يومئذ زيد بن محمد. وذكر معمر في جامعه عن الزهري، قال: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة قال عبد الرزاق، وما أعلم أحداً ذكر هذا غير الزهري، وقد روي عن الزهري من وجوه أن أول من أسلم خديجة، وشهد زيد بدراً، وزوجه صلى الله عليه وآله وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، وكان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا يقال: لزيد، ثم زوجه صلى الله عليه وآله وسلم زينب على ما تقدم والله أعلم. ثم استشهد بعده جعفربن أبي طالب، وهو ابن إحدى وأربعين سنة. ومن فضائله ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أميراً، وحصول الهجرتين له ولأصحابه، وصدقه بين يدي النجاشي في أن عيسى صلوات الله عليه وسلامه عبد الله ورسوله مع اتخاذ النصارى له إلهاً وقتلهم من يصفه بكونه عبداً، واسهامه صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه يوم خيبر، ولم يكونوا شهدوا الوقعة، وشدة شفقته على المساكين وبره لهم كما ورد في الحديث. قلت: هذا ما لخصته من أقوال العلماء، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في

خلقه وخلقه، وكان أكبر من علي بعشر سنوات، وعقيل أكبر من جعفر بعشر سنين، وطالب أكبر من عقيل بعشر سنين أيضاً، " ولما قتل عوضه الله بقطع يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء " رواه الزبير بن بكار في تاريخه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه ابن أبي شيبة. ثم استشهد بعدهما عبد الله بن رواحة الخزرجي ومن فضائله أنه أحد النقباء ليلة العقبة وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله أميراً بعد جعفر ومنها قوة إيمانه ومن ذلك قوله شعراً. والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إذ لاقينا إن الأعادي قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا وقوله: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أتانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع ثم أخذ الراية خالد بن الوليد المخزومي لما أصيب الأمراء الثلاثة المذكورون من غير إمرة فاستظهر على المشركين، وتحيز بالمسلمين. وهي أول مشاهده في الإسلام قلت وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم أخذها سيف من سيوف الله " مدح عظيم، وفخر وتنويه إلى آخر الدهر. وفي السنة المذكورة فتح مكة في رمضان، وغزوة حنين في شوال، ثم حصار الطائف ونصب المنجنيق عليها، ثم رحل المسلمون عنها وأسلم أهلها في العام القابل، وفيها غزوات ذات السلاسل وغلاء السعر فقالوا سعر لنا يا رسول الله فاعلمهم أن الله تعالى هو المسعر، وهو القابض والباسط. وفيها ولد ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده صلى الله عليه وسلم.

السنة التاسعة

السنة التاسعة فيها وقعت غزوة تبوك في رجب وحج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي صلاة الغائب، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وموته رحمه الله في رجب، وتوفيت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أبي ابن سلول، ي ذي القعمة وقتل عروة بن مسعود الثقفي، قتله قومه إذ دعاهم إلى الإسلام، وكان من دهاة العرب الأربعة المعدودين الآتي ذكرهم بعد إن شاء الله تعالى، وهو أحد الرجلين اللذين قال المشركون: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. هو من الطائف، والوليد بن المغيرة من مكة وتوفي سهل ابن بيضاء الفهري، صلى الله عليه وسلم في المسجد. وقتل ملك الفرس، وملكوا عليهم بوارن بنت كسرى، إليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ". السنة العاشرة فيها حجة الوداع، ووفاة ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن سنة ونصف، فحزن عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: " العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون " قلت: وفي الحديث الصحيح. وقد تقدم إن الشمس كسفت في السنة السادسة. وفيه بعض إشكال، فإنه لم ينقل أن الشمس كسفت. في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، فإن كسفت مرتين فلا إشكال، وإلا فأحد النصين لا يصح، بل كسفت في العاشرة، أو مات ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السادسة، والله أعلم. وقد ذكر بعض أصحابنا الشافعية: أن الشمس كسفت في غير اليوم الثامن والعشرين،

السنة الحادية عشر

محتجاً بكسوفها يوم مات ابراهيم، رداً على أهل علم الفلك، زاعماً أن موت ابراهيم في غير اليوم المذكور، فهذا يحتاج إلى نقل صحيح، فإن العادة المستقرة كسوفها في اليوم المذكور، والله أعلم. ولما ولد ابراهيم رضوان الله عليه، بشر به أبو رافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوهب له عبداً، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ولد لي ولد فسميته باسم أبي ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم " وذكر ابن بكار أن الأنصار تنازعوا في من يرضعه، فدفعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي سيف، فلما توفي قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن له مرضعة في الجنة ". وفيها إسلام جرير ونزول قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " - المائدة: 3 - وظهور الأسود العنسي بالنون بعد العين المهملة الدجال المدعي للنبوة، وكان له شيطان. يخبره ببعض الأشياء الغائبة عن الناس، فضل به خلق كثير واستولى على اليمن، إلى أن قتل في العام القابل في صفر وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر، وكثرت الوفود في السنة العاشرة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وبعضهم ذكر الوفود في التاسعة، وكانت غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وسراياه ستاً وخمسين، وقيل غير ذلك والله أعلم. السنة الحادية عشر توفي فيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في وسط نهار الاثنين في ربيع الأول. قلت وفيما قيل: إنه توفي في الثاني عشر منه أشكال، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت وقفته بالجمعة في السنة العاشرة إجماعاً، فإذا كان ذلك لا يتصور وقوع يوم الاثنين في ثاني عشر ربيع الأول من السنة التي بعدها، وذلك مطرد في كل سنة، تكون الوقفة قبله بالجمعة على كل تقدير، من تمام الشهور ونقصانها، وتمام بعضها ونقصان بعض. ولم يعتمر صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة سوى أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، ما خلا التي مع حجته، فإن أفعالها وقعت في ذي الحجة. وسميت حجة الوداع لأن

النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودع الناس فيها، ولم يحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة سواها. وأما قبل الهجرة فلم يضبط عدد حجاته صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه أقام بعد النبوة بمكة ثلاث عشرة سنة على القول الراجح المشهور، وقيل عشراً، وقيل خمس عشرة، وأقام بالمدينة عشراً بالاجماع، كان مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم على رأس أربعين سنة من مولده. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة وعن عائشة مثل ذلك. وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وفي إقامته بمكة والمدينة يقول أبو ليث صرمة بن قيس الأنصاري. ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... وذكر لو يلقى صديقاً موليا ويعرض في أهل المواسم فنه ... ولم يرمن يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا واستقر به السوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضيا وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد، ولا يخشى من الناس باغيا بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا، عند الوغى ولا ناسيا نادى الذي عادى من الناس كلهم ... جميعاً وإن كان الحبيب الموليا ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا وكان مولده صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل بمكة، في شعب بني هاشم، في الدار التي كانت تدعى بعد ذلك لمحمد بن يوسف أخي الحجاج. وتوفي جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين في أحد الأقوال، وشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء الكعبة وتراضت قريش بحكمه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أحد الأقوال فيما نقل ابن عبد البر. قلت هذا مشكل، فإنهم نقلوا في السيرة أنه كان وهو صبي صغير، وفي ذلك قضية مشهورة وقعت له حين نزع بردته ووضعها على كتفه يتقي بها الحجارة فحصل له في ذلك عشرين سنة على القول المشهور.

وفرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة لعشر سنين وثلاثة أشهر، قيل ليلة سبع وعشرين من رجب، وقيل بل في الربيع الأول، وقيل في الثاني، وقيل في رمضان، وأما الصوم ففرض بعد الهجرة بسنتين، واختلفوا في الزكاة هل فرضت قبل الصوم أم بعده؟!. قلت ومناقبه صلى الله عليه وسلم ومحاسنه قد ملأت الوجود شهرة، ولو اجتمع الخلق على أن يحصوها. كان وصفهم من بحرها قطرة، ولم يتعرض الذهبي لشيء من شمائله صلى الله عليه وسلم، ولا رأيت أحداً من أهل التواريخ تعرض لذلك، مع تعرضهم لأوصاف الناس الذين يؤرخون موتهم، فكان ذكر وصفه صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى وأبهج وأبهى: وها أنا أذكر شيئاً مما رويناه بسندنا من ذلك مما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله غير ملتزم لترتيبه وأذكر شيئاً من أوصافه صلى الله عليه وسلم ومحاسن خلقه وخلقه وأقدم على ذلك ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم. أما نسبه عليه أفضل الصلوات والسلام، المتفق عليه بين العلماء الأعلام، فهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ذا هو نسبه المتفق عليه إلى عدنان. أما ما فوقه ففيه خلاف لا يهتدى إلى معرفة حقيقته بإيضاح وبيان. وأما صفته صلى الله عليه وآله وسلم فقد روينا في كتاب شمائله صلى الله عليه وآله وسلم، تصنيف الشيخ الإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، حمه الله، بسندنا المتصل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالأدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله تعالى على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. قلت وقد تقدم أن القول الراجح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بعد النبوة بمكة

ثلاث عشرة سنة، والصحيح عند جمهور العلماء أن عمره صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وستون سنة. وبسندنا المتصل في الكتاب المذكور أيضا إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه، وفي الرواية الأخرى عنه ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، لم يكن بالقصير ولا بالطويل. وروينا فيه أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لم يكن بالطويل الممعط، لا بالقصير المتردد، كان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، في وجهه تدوير أبيض مشرب أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاس والكتداجرد ذو مسربة شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع، كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت معاً. بين كتفيه خاتم النبوة أجود الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأحسنهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو عيسى: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين، يقول: سمعت الأصمعي يقول في تفسير صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الممعط الذاهب طولاً، والمتردد الداخل بعضه في بعض قصراً وأما القطط فشديد الجعودة، والرجل الذي في شعره حجولة، أي تثن قليلاً يعني الرجل بكسر الجيم وأما المطهم فالبادن الكثير اللحم، والمكلثم المدور الوجه والمشرب الذي في بياضه حمرة. والأدعج الشديد سواد العين، والأهدب الطويل الأشفار، والكتد المجتمع الكتفين، وهو الكاهل، والمسربة الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة والشثن الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين، والتقلع إن يمشي بقوة والصبب الحدور، قول: انحدرنا في صبب وصبوب، قوله: جليل المشاس يريد رؤوس المناكب، والعشرة الصحبة، والعشير الصاحب، والبديهة المفاجأة، يقال: بدهته بأمر: أي فجأته. وروينا فيه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصإذا لحلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين، ازج الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأجله اشم، كث اللحية سهل الخدين، ضليع الفم مفلج الأسنان دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن والصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة، والسرة، بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك لشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف أو قال شائل الأطراف خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا أزال زال قلعاً يخطو تكفياً، ويمشي هوناً ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقي بالسلام. وروينا فيه أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضليع الفم، أشكل العين منهوش العقب قال شعبة: قلت لسماك يعني أحد رواة هذا الحديث: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين: قلت منهوش العقب؟ قال: قليل لحم العقب. وفي رواية أخرى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة أضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. قلت: يعني في حسن لونه وريق بهجته، وأما باقي محاسن صورته. فليس القمر مشاركة في شيء منها. وروينا فيه أيضاًعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " عرض على الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى ابن مريم فإذا هو أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود ورأيت ابراهيم فإذ هو أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم يعني نفسه ورأيت جبرائيل، إذا هو أقرب من رأيت به شبهاً دحية " صلوات الله وسلامه على نبينا، وعليهم أجمعين. وروينا فيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفلج الثنيتين، إذا كلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وآله وسلم. في بياضه حمرة. والأدعج الشديد سواد العين، والأهدب الطويل الأشفار، والكتد المجتمع الكتفين، وهو الكاهل، والمسربة الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة والشثن الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين، والتقلع إن يمشي بقوة والصبب الحدور، قول: انحدرنا في صبب وصبوب، قوله: جليل المشاس يريد رؤوس المناكب، والعشرة الصحبة، والعشير الصاحب، والبديهة المفاجأة، يقال: بدهته بأمر: أي فجأته. وروينا فيه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصإذا لحلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة رجل الشعر، إن

انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين، ازج الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأجله اشم، كث اللحية سهل الخدين، ضليع الفم مفلج الأسنان دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن والصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة، والسرة، بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك لشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف أو قال شائل الأطراف خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا أزال زال قلعاً يخطو تكفياً، ويمشي هوناً ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقي بالسلام. وروينا فيه أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضليع الفم، أشكل العين منهوش العقب قال شعبة: قلت لسماك يعني أحد رواة هذا الحديث: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين: قلت منهوش العقب؟ قال: قليل لحم العقب. وفي رواية أخرى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة أضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. قلت: يعني في حسن لونه وريق بهجته، وأما باقي محاسن صورته. فليس القمر مشاركة في شيء منها. وروينا فيه أيضاًعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " عرض على الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى ابن مريم فإذا هو أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود ورأيت ابراهيم فإذ هو أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم يعني نفسه ورأيت جبرائيل، إذا هو أقرب من رأيت به شبهاً دحية " صلوات الله وسلامه على نبينا، وعليهم أجمعين. وروينا فيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفلج الثنيتين، إذا كلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وآله وسلم.

تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم

تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وعن أنس بن ماللك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه أكاف من ليف. وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السخنة فرجيب. وعنه أيضاً قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على رجل رث وعليه قطيفة خلق، لا يساوي أربعة دراهم، فقال اللهم اجعله حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة. وعنه أيضاً قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه ولم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت أبي عن دخول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءاً لله وجزءاً لأهله وجزءاً لنفسه ثم جزأ جزءاً بينه وبين الناس، فيودي ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئاً للعامة، وكان من سيرته في جزء الأمة، إيثار أهل الفضل باذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم عما أصلحهم، الأمة من مسألتهم عنه. قلت: هذا في الشمائل من مسألتهم عنه وفي كتاب الشفاء، من مسألته عنهم، وأخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وابلغوني حاجة من لا يستطيع ابلاغها، إنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع ابلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلاعن

ذواق، ويخرجون أدلة يعني على الخير ". قلت: وقوله عن ذواق؟ قيل: ذواق العلم والفوائد، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان عنده شيء من الدنيا يسع به الخلايق، قال: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليه، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ولا بخلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل، مخافة أن يغفلوا، أو يميلوا لكل امرىء عنده عتاد، يعني أهبة لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه الذين يلونه من الناس، خيارهم وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومواراة. قال فسألته عن مجلسه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، فإذا انتهى إلى قوم، جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك. يعطي كلا ًنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه ممن جالسه. ومن سأله عن حاجته لم يرده ألا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم. يتعاطفون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير ويوثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت إليه لأجبت ". وعن عمرة قالت: قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها: ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته؟ فقالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يعلف البعير، ويقم البيت ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الشاة، ويأكل مع الخادم ويطحن معه إذا أعيى، وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ويسلم مبتدياً، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف الثمر، وكان هين المؤنة لين الخلق كريم

ذكر شيءمن حيائه

الطبيعة جميل المعاشرة طلق الوجه بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم، لم يتجشأ قط من شبع، ولم يمد يده إلى الطمع، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أصحابه وبارك وشرف كرم. ذكر شيءمن حيائه مما ورد في حيائه صلى الله عليه وآله وسلم روينا في كتاب الحافظ أبي عيسى المذكور عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أشد حياء من العنراء في خدرها، وكان إذا كره الشيء عرفناه في وجهه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقالت ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ذكر شيءمن خلقه يسير مما ورد من محاسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم اعلم إنه ما يهتدي أحد من خلق الله عز وجل، إلى معرفة ما حوى خلقه الحسن من المحاسن الكريمة، وجميل الأخلاق الكاملة العظيمة وقد أجمل الله تعالى من وصفه في محكم تنزيله ما لا تتسع الدفاتر لتفصيله. فقال في الذكر الحكيم: " وإنك لعلى خلق عظيم " فأعظم بما وصفه العظيم بكونه عظيماً. فإنه لا يهتدي الخلق إلى إدراك كنه ذلك العظيم، تفصيلاً لمجموع محاسنه، وتعميماً. ولكني أذكر شيئاً مما ورد في ذلك من الأخبار بحسب التبرك والتذكار. روينا في الكتاب المذكور عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لما تركته. وكان صلى الله عليه وآله وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط، ولا حريراً ولا شيئاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه، وكان عنده رجل به أثر صفرة، فلما قام قال صلى الله عليه وآله وسلم للقوم: " لو قلتم له يدع هذه الصفرة ". وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، لكن يعفو ويصفح.

وعنها أيضاً قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة. وعنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتصراً لنفسه من مظلمة ظلمها قط، ما لم ينتهك من محارم الله شيء فإذا انتهك من محارم الله شيء، كان أشدهم في ذلك غضباً. وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. وعنها قالت: استأذن رجلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عنده فقال بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له، فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول فقال: " يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه ". وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع الحديث " وأوله قالت: جلست إحدى عشرة امرأة. تعاهدن وتعاقدن، أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، ثم ذكرت ما قالت: كل واحدة منهن في حديث طويل، ذكره البخاري رضي الله تعالى عنه. وفي آخره قالت الحادية عشر زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، ويجحني فبجحت إلى نفسي الحديث. قال في آخره: لما ذكرت ما أعطاها زوجها الثاني، بقولها: وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال كلي أم زرع، وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغرآنية أبي زرع. قالت عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً قط فقال لا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حتى ينسلخ فيأتيه جبرائيل عليه السلام، فيعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبرائيل، كان صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله أن يعطيه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما عندي شيء، ولكن اتبع

ذكر شيء من عبادته

علي، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر: يا رسول الله، قد أعطيته، فما كلفك الله ما لا تقدر عليه، وكره صلى الله عليه وآله وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله انفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف البشر في وجهه لقول الأنصاري، ثم قال بهذا أمرت. وعن الربيع بنت معوذ ابن عفراء رضي الله تعالى عنهما، قالت: اتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من رطب، وأجر زغب فأعطاني ملء كفيه حلياً وذهباً. وفي رواية. وعليه أجر من قثاء زغب، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب القثاء، فأتيت بها، وعنده حلية قد قدمت عليه من البحرين، فملأ يده منها وأعطانيه. وعن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يوئس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير إذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده انصتوا له، حتى يفرغ حديثهم عنده، حديث أولهم يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه ويقول: " إذا رأيتم صاحب حاجة يطلبها فارقدوه " ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء، لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام. ن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يوئس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير إذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده انصتوا له، حتى يفرغ حديثهم عنده، حديث أولهم يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه ويقول: " إذا رأيتم صاحب حاجة يطلبها فارقدوه " ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء، لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام. ذكر شيء من عبادته مما جاء في عبادته صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له: اتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحوه إلا أنه قال: يصلي حتى تورمت قدماه. وفي رواية عنه. حتى تنتفخ. وفي الجميع يقول النبي صلى الله عليه وآله سلم " أفلا أكون عبداً شكوراً ".

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان ينام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أول ليلة، ثم يقوم، فإذا كان من السحر، أوتر ثم أتى فراشه فإذا كانت له حاجة ألم بأهله فإذا سمع الأذان وثب فإن كان جنباً إذاض عليه من الماء وإلا توضأ وخرج للصلاة. وعنها وقد سئلت. كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. في رمضان فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً. قالت: قلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك النوم أو غلبت عيناه صلى من النهار اثنتي عشر ركعة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا قام أحدكم من الليل، فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين ". وعن حذيفة اليمان رضي الله تعالى عنهما أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل قال فلما دخل في الصلاة قال الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة، ثم ركع، وكان ركوعه نحواً من قراءته، وكان يقول سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه وكان قيامه نحواً من ركوعه، وهو يقول: لربي الحمد لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، وكان يقول سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه فكان بين السجدتين نحو من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام. شك شعبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآية من القرآن ليلة. وعن عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: صليت ليلة مع رسول الله

صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد، وأدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تطوعه، فقالت: كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس ركع وسجد وهو جالس. وعن معاذة، قالت: قلت: لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى؟ قالت: نعم أربع ركعات. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى ست ركعات. وعن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصلي الضحى إلا أم هاني فإنها حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، فسبح ثماني ركعات ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها غير أنه، كان يتم الركوع والسجود، قلت: الحديث الصحيح المشهور أن ذلك في أعلى مكة عند قدومه لفتحها. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها وبدعها حتى نقول لا يصليها. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى لله عليه وآله وسلم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، وقال إن أبواب السماء تفتح، عند زوال الشمس ولا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير. وفي رواية أخرى. عمل صالح. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب اثنتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر اثنتين. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل

ذكر شيء من بكائه

الظهر أربعاً، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين قلت: وفي حديث آخر: يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً. ركعتين، وقبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين قلت: وفي حديث آخر: يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً. ذكر شيء من بكائه ما ورد من بكائه صلى الله عليه وآله وسلم عن مطرف بن عبد الله بن الشخيرعن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل عثمان بن مظعون، وهو ميت، وهو يبكي، أو قالت: وعيناه تهرقان. وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: اقرأ علي، فقلت: يا رسول الله اقرأ عليك، وعليك أنزل قال: أني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء، حتى بلغت " وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " النساء قال: فرأيت عيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم تهملان. ذكر شيء من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم منها انشقاق القمر. ومنها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره. وتكثير الطعام لبركة دعائه، صلى الله عليه وآله وسلم. وكلام الشجرة وشهادتها له بالنبوة. وأجابتها دعوته لما قال له أعرابي: من يشهد لك؟ والشجرة التي جاءت إليه صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قضى حاجته خلفها. وحنين الجذع إليه، صلى الله عليه وآله وسلم. وتسبيح الطعام الذي كان يأكل منه، صلى الله عليه وآله وسلم. وتسبيح الحصى في كفه، وتسليم الأشجار والأحجار عليه، صلى الله عليه وآله وسلم. ورجف أحد به وببعض أصحابه، صلى الله عليه وآله وسلم. وكلام الضب والذئب له والجمل. وذلك ما روي أن أعرابياً صاد ضباً، فجاءه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فقال: ما هذا؟ قالوا: نبي الله، فقال: واللات والعزى لا آمنت بك أو تؤمن هذا الضب، وطرحه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يا ضب " فأجاب بلسان مبين لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، فقال " من تعبد "؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه قال: " فمن أنا " قإل: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وخاب من كذبك، فأسلم الأعرابي.

وروينا أن ذئباً أخذ ظبياً فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجب من رآه من الكفار، فقال الذئب: أعجب من ذلك، محمد بن عبد الله بالمدينة، يدعوكم إلى الجنة، وتدعونه إلى النار. وروي أن بعيراً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوضع مشفره في الأرض، وبرك بين يديه، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شأنه، فأخبر: ان أهله أرادوا ذبحه. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: إنه يشكو كثرة العمل وقلة العلف. وفي رواية شكا إلي أنكم أردتم ذبحه، بعد أن استعملتموه في شاق العمل من صغره، فقالوا نعم. وروي أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة. وروي أنه أمر حمامتين فوقفتا بفم الغار، وإن العنكبوت نسجت على بابه، فلما رأى ذلك الطالبون له، انصرفوا. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في صحراء فنادته ظبية؟ يا رسول الله: قال: " ما حاجتك ": قال صادني هذا الأعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما، وأرجع، قال: " وتفعلين " قالت: نعم فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها فانتبه الأعرابي وقال يا رسول الله ألك حاجة؟ قال: " أطلق هذه الظبية "، فأطلقها، فخرجت تعدو في الصحراء، وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ومنها حديث الناقة التي شهدت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبها، أنه ما سرقها وإنها ملكه، وكلام الحمار الذي أصابه صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، وقال له اسمي يزيد بن شهاب، فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعفورا. والعنز التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عسكر. وقد أصابهم عطش، فحلبها صلى الله عليه وآله وسلم، فأروى الجند الحديث وفيه طول. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ان يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنب شاة مصلية سمتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لليهودية: " ما حملك على ماصنعت؟ " قالت: إن كنت نبياً لم يضرك

الذي صنعت، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، فأمر بها، فقلت، وفي حديث آخر قالت: أردت قتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك. وأصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، وكانت أحسن عينيه. وعن حبيب بن يزيد: أن أباه ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئاً، فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهما، فأبصر. وتفل في عين علي رضي الله تعالى عنه يوم خيبر، وكان رمداً، فصار بارئاً. وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يطحنها بكفه حتى لم يبق لها أثر. ودعا صلى الله عليه وآله وسلم لعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل، فاستجيب له في عمر رضي الله تعالى عنه. قال ابن مسعود: فما زلنا أعزة مذ أسلم عمر، رضي الله تعالى عنه. ودعا صلى الله عليه وآله وسلم في الاستسقاء فسقوا، ثم شكوا إليه المطر، فدعا فارتفع. ودعا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فصار حتى سمي الحبر وترجمان القرآن ودعا لجماعة بالبركة فظهرت عليهم البركات، وربحوا في التجارات، نهم عبد الله بن جعفر والمقداد وعروة بن أبي الجعد. قال: كنت أقوم بالكراسة فما ارجع حتى أربح أربعين ألفاً. وقال البخاري في حديثه: وكان لو اشترى التراب ربح فيه. ودعا على مضر فقحطوا، حتى استعطفته قريش ودعا لهم. ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق ملكه فلم تبق له باقية. وقال لعتبة بن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك "، فأكله أسد. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: " كل بيمينك ": فقال: لا أستطيع. فقال: " لا استطعت " فلم يرفعها إلى فيه. ودعا على الحكم بن أبي العاص، وكان يختلج بوجهه، ويغمز عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: " كذلك كن " فلم يزد يختلج إلى أن مات. وغير ذلك مما يخرج عن الانحصار. هذا منه قطرة من بحار، وللعلماء في المعجزات تصانيف مستقلات، وإلى شيء من محاسنه الباهية في ظاهره وباطنه أشرت في بعض القصائد هذه الأبيات. نهما اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فصار حتى سمي الحبر وترجمان القرآن ودعا لجماعة بالبركة فظهرت عليهم البركات، وربحوا في التجارات، نهم عبد الله بن جعفر والمقداد وعروة بن أبي الجعد. قال: كنت أقوم بالكراسة فما ارجع حتى أربح أربعين ألفاً. وقال البخاري في حديثه: وكان لو اشترى التراب ربح فيه. ودعا على مضر فقحطوا، حتى استعطفته قريش ودعا لهم. ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق ملكه فلم تبق له باقية. وقال لعتبة بن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك "، فأكله أسد. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: " كل بيمينك ": فقال: لا أستطيع. فقال: " لا استطعت " فلم يرفعها إلى فيه. ودعا على الحكم بن أبي العاص، وكان يختلج بوجهه، ويغمز عند النبي صلى الله

عليه وآله وسلم، فقال: " كذلك كن " فلم يزد يختلج إلى أن مات. وغير ذلك مما يخرج عن الانحصار. هذا منه قطرة من بحار، وللعلماء في المعجزات تصانيف مستقلات، وإلى شيء من محاسنه الباهية في ظاهره وباطنه أشرت في بعض القصائد هذه الأبيات. صلاة وتسليم يفوح شذاهما ... على سيد الكونين من آل هاشم نبي علا فوق النبيين منصباً ... يدا نوره من قبل نشوة آدم وجبة صبيح الوجه مصباح ظلمة ... محا بضيا العدل ظلام المظالم حليم كريم مشفق متعطف ... رؤوف بكل المؤمنين وراحم مبيد للأعادي ذو انتقام وسطوة ... غليظ على الكفار للكفر هادم مقر الندى بجر خضم وفي الوغا ... هزبر من الأسد الليوث الضراغم يروي القنا عند اللقا من دم العدى ... وبالبيض يقري البيض حتى الجماجم سراج الدنيا شرقاً وغرباً نقي الطغى ... بسمر القنا والمرهقات الصوارم به الدهر أضحى ضاحكاً متبسماً ... عبوساً على أعدائه غير باسم مليح فصيح أبيض أدعج إذا ... تبسم خلت البرق بين المباسم إلى شحمة الأذنين يكسوه وفروة ... حكت جنح ليل مظلم اللون فاحم أغر به يستنزل القطر قد سقت ... أنامله جيشاً ربيعا لقادم شفيع البرإيا صاحب الحوض واللوا ... غياث الورى عند الدواهي الدواهم ومخترق سبعاً طباقاً بليلة ... بها في محل القدس أنس التنادم براقاً ومعراجاً من الكون قد علا ... إلى رتبة لا يرتقي بسلالم من الفرش حتى العرش شاهد في ... سرى كسبعة آلاف سنين توامم وكان له الروح الأمين مسائراً ... إلى سدرة من فوقها غير صارم له الرسل والأملاك تخدم في السماء ... فأكرم بمخدوم هناك وخادم يهنيه كل بالكرامة قائلاً ... لأحمد أهلاً مرحباً خير قادم وبات له بعداً محياك باسماً ... على أرضه لا تفخري وتعاظمي أميطت له حجب الجلال فجازها ... إلى مكرمات حازها بعزايم من النور كم حجب تعدى وابحرا ... بها غير محجوب هناك وعايم إلى أن دنا من حضرة القدس والملا ... بعيداً وهم ما بين حان وقائم فوافى شراب الحب في الكلس قد ... صفا وقد طابت الأحباب وقت التنادم

ذكر خاتم النبوة

فقال التي قد رام موسى ولم يقل ... لدى الطور في أعلى السما غير دائم فقال لسان الحال في ذاك منشداً ... يعبر عن موسى بنظم ملائم قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... بسابق علم لست فيه بعالم أنا طالب والغير مطلوب أنا ... بها مغرم أهريق في حبها دمي معنى بها والغير فيها منعم ... ولكم بين مشغوف معنى وناعم فلا نلت ما قد رمت منها ولا أنا ... من العتب أو بلوى هواها بعالم نهار التجلي صعقة قد لقيتها ... بها ضل عقلي زائلاً غير فاهم كفى شرفاً أن الحبيب مثبت ... لمذهب عقل للكليم وكالم لطرف أديب لم يرغ لا ولا طغى ... وقلب لبيب ساكن غيرهائم رأى ووعى ما لم ير غيره ولا ... وعى في السما من آية ومعالم علا فوق كل المصطفين مقرباً ... بأعلى مقام ما له من مزاحم وعاد قرير العين في خلع الرضا ... وغانم ما لم يغتنم كل غانم بيمناه سيف الحق والرأس مكرم ... بتاج العلى والظهر بزهو بخاتم ألا يا رسول الله يا معدن الندى ... ويا بحر جود يا مقر المكارم ويا من ملأ الكونين فضلاً وسؤدداً ... فياضاً لفضل للخلائق عاصم ومن أمتي والرسل نفسي مقالهم ... يقول وهم ما بين جاث وجاثم من الهول يا غوث الورى من جهنم ... إذا ظن كل أنه غير سا لم لعاص فقير يافعي يماني ... لمداحكم يا سيد الرسل خادم أغث وأجر واشفع له ولعشرة ... مضى ذكرهم في نظمه المتقادم فاصل واصل ثم شيخ وأهله ... وصهر وذي الأرحام أهل التراحم وخل وقارىء كتبه ثم سامع ... وجار فكم حق على الجار لازم فأنت الذي لا شك تحت لوائه ... غدا آدم يمشي فمن دون آدم عليك صلاة الله ثم سلامه ... يصوغان نشراً محييا كل شامم وآلك أهل الفضل والفخر والعلى ... وأصحابك الزهر النجوم النواجم وأزواجك الغر القوانت في الدجى ... ذوات الصلاح القانتات الصوائم وسبحان من ذاتاً ووصفاً مقدس ... وأشرف مبد وذكر وخاتم ذكر خاتم النبوة روينا في الكتاب عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله

صفة خاتم كفه وصفة تختمه

صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن اختي وجع، فمسح رأسي وروي برأسي فدعا بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، وقمت خلف ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، فإذا هو مثل زر الحجلة. وعن أبي نضرة قال: سألت أبا سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني خاتم النبوة، فقال: كان في ظهره بضعة ناشزة. وعن عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أناس من الناس من الصحابة، فدرت هكذا من خلفه، فعرف الذي أريد فألقى الرداء عن ظهره، فرأيت مثل الخاتم على كتفيه، مثل الجمع حولها خيلان، أنها ثآليل قلت: قوله مثل الجمع بضم الجيم وسكون الميم. قال في الصحاح جمع الكف بالضم، وهو حين يقبضها يقال: ضربته بجمع كفي. صفة خاتم كفه وصفة تختمه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ورق، وكان فضه حبشياً. وفي رواية أخرى عنه من فضة فصه منه وفي حديث آخر عنه أيضاً كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. وفي رواية أخرى عنه: كأني أنظر إلى بياضه في كفه، وأنه كان إذا دخل الخلاء نزع عن كفه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ورق، فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر وعمر، ثم كان في يد عثمان، ثم وقع. وروي حتى وقع في بيراريس نقشه محمد رسول الله. وعن علي رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس خاتمه في يمينه.

ذكر شعره صلى الله عليه وسلم

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتختم في يمينه. وكذا رواه ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله وآله وسلم اتخذ خاتماً من فضة، وجعل فصه مما يلي كفه. وروى بعض أصحاب الحديث عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يتختم في يساره أيضاً. قال الترمذي وهو حديث لايصح. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب، فكان يلبس في يمينه، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فطرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لا ألبسه أبداً، فطرح الناس خواتيمهم. ذكر شعره صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفية. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالجعد ولا بالسبط، كان يبلغ شحمة أذنيه. وفي رواية أخرى عنه كان إلى انصاف أذنيه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسلمون رؤوسهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم يؤمر بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه. وعن أم هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت شعر رسول الله ذا ضفائر أربع. ذكر شيبة صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما عددت في رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. وقال غيره: نحواً من، عشرين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال أبو بكر: رسول الله قد شبت، قال:

ذكرلباسه صلى الله عليه وسلم

" شيبتني وهود والواقعة والمرسلات وعم تسألون وإذا الشمس كورت: " وفي حديث آخر. شيبتي هود وأخواتها. ذكرلباسه صلى الله عليه وسلم عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القميص. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرسغ. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبسه الحبرة. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً من الناس أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن كانت جمته لتقرب قربا من منكبه صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه بردان أخضران. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه أسمال مليتين كانتا بزعفران وقد نفضه قلت المليتين تصغير ملايتين تثنية ملاءة وهي نوع من الثياب. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط شعر أسود قلت ذكر في الصحاح أن المرط بالكسر كساء من صوف أو خز. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ذكر نعله صلى الله عليه وآله وسلم

" البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ". وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وعليه عمامة سوداء. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أعتم سدل عمامته بين كتفيه. وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينما أنا أمشي بالمدينة. إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك فإنه أنقى وأبقى. فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحا، فقال: " أما لك في اسوة " فنظرت، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه. ذكر نعله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتادة رضي الله عنه قال: قلت: لأنس بن مالك كيف كان نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لها قبالان وفي رواية أخرى أخرج لنا أنس بن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها لما قيل له رأيتك، تلبس النعال السبتية. وعن ابن بريدة رضي الله عنهما أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ، فمسح عليهما. ذكر صفة مشيه صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الأرض تطوى له، انا لنجهد أنفسنا، وأنه لغير مكترث. وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى تكفى

ذكر جلسته صلى الله عليه وسلم

تكفياً، كإنما ينحط من صبب. ذكر جلسته صلى الله عليه وسلم عن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها: إنها رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد قاعداً القرفصاء. عن عباد بن تميم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في المسجد أحبتى بيديه. ذكر خبزه صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيت الليالي متتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النقى يعني الحواري فقال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: ما كانت لنا مناخل: قيل: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نعجنه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خوان ولا سكرجة ولا خبز مرقق، قال: فقلت: لقتادة فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على هذه السفر. ذكر إدامه صلى الله عليه وسلم عن جابر وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " نعم الإدام الخل ". وفي حديث عبد الله نعم الادم أو الادام الخل. وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كلوا

ذكر شرابه صلى الله عليه وسلم

بالزيت وادهنوا به ". وعن ابن عمر مثله. وكذلك عن زيد بن أسلم. وعن يوسف بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبز شعير، فوضع عليها تمرة، وقال هذا دام هذه. ذكر شرابه صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلو البارد. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء من لبن، شرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا عن يمينه وخالد عن شماله، فقال لي: الشربة لك. فإن شئت آثرت بها خالد أفقلت: ما كنت لأوثر على سورك أحداً. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أطعمه الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ومن سقاه الله لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس شيء يجزئك عن مكان الطعام والشراب غير اللبن ". قال أبو عيسى وميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي خالة خالد بن الوليد وخالة ابن عباس وخالة يزيد بن الأصم رضي الله عنهم. ذكر أكله صلى الله عليه وسلم عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلعق أصابعه ثلاثاً وفي رواية أخرى كان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعقهن وفي رواية عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث. وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أما أنا فلا آكل متكئاً ". وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بتمر، فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع قلت: هذا من جلسة الإقعاء المعروفة.

ذكر شربه صلى الله وسلم

ذكر شربه صلى الله وسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرب من زمزم وهو قائم. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه أتي بكوز من ماء، وهو في الرحبة فأخذ منه كفاً فغسل يديه، ومضمض، واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، وهو قائم، ثم قال: " هذا وضوء من لم يحدث " هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاتاً إذا شرب، ويقول: " هو أروى وامرأ ". قوله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، وعندما يفرغ منه عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما أنه د خل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده طعام: فقال: " ادن يا بني فسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ". وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله على طعامه فليقل بسم الله أوله واخره ". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من طعامه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ". وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول: " الحمد لله حمداً كثيرا ًطيبا ًمباركاً فيه غير مودع ولا مستغني عنه ربنا " وفي الحديث الآخر. غير مكفي ولا مكفور ولا مودع إلى آخره. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء اعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو سمى لكفاكم ". وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها ". ذكروضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زاذان عن سلمان رضي الله عنهما قال قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء

ذكر عيشه صلى الله عليه وسلم

بعده، فذكرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته بما قرأت في التوراه، قال رمسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ". ذكر عيشه صلى الله عليه وسلم وما أكل من الألوان أو مدحه عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة لا يخرج فيها، ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ قال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانظر في وجهه وأسلم عليه، فلم يلبث إن جاء عمر، فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنا قد وجدت بعض ذلك " فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وكان رجلاً كثير البخل والشماء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه وقالوا لامرأته: اين صاحبك؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء. فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطاً ثم انطلق إلى نخله، فجاء بقنو فوضعه، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: " أفلا تنقيت لنا من رطبه " فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب طيب وماء بارد " فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تذبحن ذات در " فذبح لهم عناقاً أو جدياً فأتاهم بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " هل لك خادم؟ " قال: لا قال: فإذا أتانا سبي فأتنا فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برأسين ليس منهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اختر منهما " فقال: يا نبي الله اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن المستشار مؤتمن خذ هذا فأني رأيته يصلي واستوص به معروفاً " فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تعتقه. قال: فهو عتيق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالاً ومن

يوق بطانة السوء فقد وقي ". وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال ". وعن نوفل بن إياس الهذلي رضي الله عنه قال: كان عبد الرحمن بن عوف لنا جليساً، وكان نعم الجليس، وأنه انقلب بنا ذات يوم حتى إذا دخلنا بيته، دخل فاغتسل، ثم خرج وأتانا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، وقلت له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ قال: هلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، فلا أرانا أخرنا لما هو خير لنا. وعن أم هانىء بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اما عندك شيء؟ فقلت: لا إلا خبزاً يابس وخل. فقال هاتي: ما أفقر بيت من أدم فيه خل وقد تقدم أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه نعم الأدام الخل وكذلك عن عائشة وعن عبد الله رضي الله عنهما بمعناه. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل لحم الدجاج. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه الدباء. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب الحلواء والعسل. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل القثاء بالرطب. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب. وعنها أيضاً قالت: ما كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب الذراع إلا لأنها أعجل اللحم نضجاً.

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن أطيب اللحم لحم الظهر ". وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه الثفل قال بعض الرواة يعني ما بقي من الطعام. وعن أبي عبيد قال: طبخت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدراً، وكان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال ناولني النراع فناولته، ثم قال ناولني الذراع فقلت: يا رسول الله كم للشاة من ذراع فقال: " والذي نفسي بيده لو سكت لناولتني الذراع ما دعوت ". وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". وعن أنس رضي الله عنه قال: اولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتمر وسويق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي عليه السلام يأتي فيقول أعندك غداء؟ فأقول: لا قالت: فيقول أني صائم قالت: فأتى يوماً فقلت يا رسول الله أهديت لنا هدية قال: وما هي قلت حيس قال أما أني أصبحت صائماً قالت ثم أكل. وعنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض قلت: وأما ما ذكر في الأحاديث من كونه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب الحلواء والعسل. وأنه يأكل لحم الدجاج ونحو ذلك مما يستطاب، فينبغي أن يعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقصد أن يصنع له شيء من ذلك، لكن إذا حضر بين يديه اتفاقا أكله. كما كان يأكل ما حضر من خبز شعير وغيره، ولا يتوقف صلى الله عليه وآله وسلم على طعام مخصوص ولا لباس مخصوص ولا هيئة مخصوصة، وينبغي لغيره إذا اشتهى شيئاً طئباً لا يجعله عادة مستمر، بل إن كان ولا بد فأحياناً، وينبغي مع ذلك أن يطعم منه المساكين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلو البارد. كما تقدم وتقدم أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من أطعمه الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ومن سقاه الله لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " اليس شيء يجزىء مكان الطعام والشراب سوى اللبن ".

ذكر شيء من الوضوء للطعام

ذكر شيء من الوضوء للطعام مما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء للطعام، وما يقال عند الطعام عن سلمان رضي الله عنه قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده " قلت هذا الحديث قد تقدم عن سلمان رواية ولفظاً. وعن راشد بن جندل التابعي عن حبيب بن أوس عن أبي أيوب الأنصاري قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فقرب إليه طعام، فلم أرى أعظم بركة منه أول ما أكلنا ولا أقل بركة في آخره. فقلنا: يا رسول الله: كيف هذا؟ قال: " إنا ذكرنا اسم الله حين أكلنا ثم قعد من أكل ولم يسم فأكل معه الشيطان ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر الله عند طعامه فليقل بسم الله أوله وآخره ". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من طعامه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ". ذكر شيء مما جاء في تطييبه صلى الله عليه وآله وسلم وترجيل شعره وخضابه وتكحيله عن أنس رضي الله عنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكة يتطيب منها. وفي رواية أخرى. كان لا يرد الطيب. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أرجل شعر رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حائض. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته. وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: اتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن لي، فقال " ابنك؟ " فقلت: نعم أشهد به قال: " لا يجني عليك ولا تجني عليه " ورأيت الشيب أحمر. قال أبو عيسى هذا أحسن شيء روي في هذا الباب، وأفسر من الروايات الصحيحة

كلامه صلى الله عليه وسلم

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ الشيب. وعن قتادة رضى الله عنه قال: قلت لأنس هل خضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: لم يبلغ ذلك إنما كان شيبه في صدغه، ولكن أبو بكر خضب بالحناء والكتم. وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخضوباً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيمن في طهوره إذا تطهر، وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " اكتحلوا بالاثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ". ومثله من رواية ابن عمر. وعن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكتحل بالاثمد ثلاثا ثلاثاً قبل أن ينام. كلامه صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً ليعقل عنه. وعن هند بن أبي هالة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، بكلامه فصل لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، غير أنه لم يكن يذم ذواقاً، ولا يمدحه ولا يغضبه الدنياوما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، الحديث. قال في آخره. وإذا غضب أعرض وأشاح جل ضحكه التبسم.

مزاحه صلى الله عليه وسلم

مزاحه صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: " إني لا أقول إلا حقا ". تداعبنا يعني تمازحنا. عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال إني حاملك على ولد الناقة فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " وهل تلد الإبل إلا النوق ". وعن المبارك بن فضالة عن الحسين قال: اتت عجوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال: " يا أم فلان أن الجنة لا يدخلها عجوز " قال: فولت تبكي فقال: " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز " إن الله عز وجل يقول " إنا أنشأناهن انشاء فجعلناهن أبكارًا عرياً أتراباً ". كلامه صلى الله عليه وسلم في الشعر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول طرفة. " ويأتيك بالأخبارما لم تزود ". وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: اصاب حجر إصبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدميت فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: وقد قيل له أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني يوم حنين؟ فقال: لا والله ما ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن سرعان الناس تلقتهم، او قال رشقتهم هوازن بالنبل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

ضحكه صلى الله عليه وآله وسلم

أنا النبي لاكذب ... أنا ابن عبد المطلب وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثرمن مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ساكت، وربما تبسم معهم. ضحكه صلى الله عليه وآله وسلم وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يضحك إلا تبسماً، وكنت إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً " الحديث. وفيه. فيقول: تسخر بي وأنت الملك قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. كلامه صلى الله عليه وسلم في السمر عن عائشة رضي الله عنها قالت حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة نساء حديثاً، فقالت امرأة منهن: كان الحديث حديث خرافة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أتردون ما خرافة؟ ان خرافة كان رجلاً من عذرة أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى الأنس فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب فقال الناس حديث خرافة. نومه صلى الله عليه وآله وسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضجعه وضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن، قال: " رب قني عذابك يوم تجمع عبادك ". وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه فقال " اللهم باسمك أموت وأحيا " وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما، وقرأ فيهما " قل هو الله أحد " والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه ووجهه ثم ما أقبل من جسده، يصنع ذلك

فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثلاث مرات. وفي رواية رويناها في جامعه الكبير يبدأ بهما على رأسه. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي ". وعن أبي قتاة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا عرس بليل اضطجع على شقة الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه. فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان ينام عليه آدماً حشوه ليف. وعن حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنها قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسحاً تثنيه ثنيتين، فينام عليه، فلم كان ذات ليلة ثنيته بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: " ما فرشتموني " وقال " أفرشتموني الليلة " قالت: قلنا هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك قال: " ردوه بحاله الأول فإنه منعتني وطأته صلاتي لليلة ". حجامته صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فوضعوا عنه. وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما: دعا حجاماً فحجمه، وسأله كم خراجك، فقال ثلاثة أصع فوضع عنه صاعاً من خراجه وأعطاه أجره، وقال: " إن أفضل ما تداويتم به الحجامة " أو أن من أمثل دوائكم الحجامة. وروى الترمذي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم في الأخدعين وبين الكتفين، وأعطى الحجام أجره ولو كان حراماً لم يعط. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين.

في أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم

وعن أنس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم بملل على ظهر القدم. في أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ان لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي ". وعن حذيفة رضي الله عنه قال: لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض طرق المدينة، فقال: " أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، وأنا المقفي، وأنا الحاشر ونبي الملاحم " قلت وروى غير الترمذي أن له أسماء أخر يطول عددها. في سنه صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، يعني بعد نبوته، وبالمدينة عشراً. وعن عائشة رضي الله عنها: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ثلاث وستين. في وفاته صلى الله عليه وآله وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كشف الستارة يوم الاثنين، فنظرت الى وجهه، كأنه ورقة مصحف، والناس خلف أبي بكر فأشار الى الناس أن استولوا، وأبو بكر يؤمهم، وألقى السجف وتوفي من آخر ذلك اليوم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: " اللهم أعني على سكرات الموت أو سكرة الموت ". وعنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اختلفوا في دفنه، فقال

استخلافه أبا بكر في الصلاة

أبو بكر رضي الله عنه: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ما نسيته، قال: ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه. وعنها وعن ابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما مات، وفي روايتها الآخرى فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه، وقال: وانبياه واصفياه واخليلاه. وعن أنس رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب، وأنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، وعن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين، فمكث ذلك اليوم وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء، ودفن من الليل. وقال سفيان وقال غيره سمعت صوت المساحي من آخر الليل. استخلافه أبا بكر في الصلاة عن سالم بن عبيد رضي الله عنه وكانت له صحبة قال: اغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، فإفاق، فقال: " حضرت الصلاة "؟ فقالوا: نعم. فقال: " مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل للناس "، او قال بالناس، ثم أغمي عليه، فأفاق، فقال: " مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس ". فقالت عائشة: ان أبى. وفي الحديث الآخر. ان أبا بكر رجل أسيف، اذا قام مقامك يبكي ولا يستطيع، فلو أمرت غيره، قال: ثم أغمي عليه، فأفاق، فقال: " مروا بلالاً فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس "، فإنكن صواحب أو قال صواحبات. وفي الحديث الآخر. صويحبات يوسف، قال: فأمر بلال فأذن وأمر أبو بكر فصلى بالناس ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد خفة، فقال: " انظروا إلى من اتكىء عليه " فجاءته بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما، فلما رآه أبو بكر ذهب لينكص فأومى إليه أن يثبت مكانه ولفظه في صحيح مسلم ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: انا ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر انتهى. رجعنا إلى لفظ الترمذي: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض، فقال عمر: والله لا أسمع أحداً يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض إلا ضربته

في ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم

بسيفي. هذا الحديث قال في آخره: فجاء أبو بكر حتى أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون " فعلموا أنه قد صدق قلت وفي الحديث الآخر، ان أبا بكر رضي الله عنه لما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، قرأ " ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " - آل عمران: 44 - قالوا: ياصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ال نعم. قالوا وكيف قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون حتى يدخل الناس الحديث. قال فيه ثم أمرهم أن يغسله بنو أبيه، واجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه " من صاحبه؟ لا تحزن إن الله معنا، مع من؟ ثم قال: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعه، وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة. وعن أنس رضي الله عنه قال: لما وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرباه: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا كرب على أبيك بعد اليوم، قد حضر بأبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموإفاة يوم القيامة ". في ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: " لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ". وفي الباب عن عمر وعائشة رضي الله عنهما وفي رواية عائشة رضي الله عنها: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً. قال الراوي وأشك في العبد والأمة. رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ". وقي رواية أبي هريرة لا يتصور أو لا يتشبه بي. وفي رواية ابن عباس لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني. وفي رواية أبي قتادة من رآني يعني في النوم، فقد رأى الحق.

وفي رواية أنس لا يتخيل بي، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " انتهى ما لخصت من شمائله، مما رويناه في تصنيف الإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي قلت ولما بلغ سماع هذا التاريخ علي إلى هذا المكان، اخبرني بعض الفقراء الصالحين المجردين الصادقين أنه رأى في المنام تاريخي هذا مكتوباً بالذهب في ورق أصفر بغدادي، ووصف من حسن ذلك ما لا يحضرني الآن ذكره، مما يستحسن ويجل قدره، وكان استماعه في الروضة الشريفة بازاء الحجرة المباركة المنيفة. وفي السنة الحادية عشرة أيضاً توفيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنها، بعد وفاة أبيها بأشهر، وصحح بعضهم أنها ستة أشهر. ومن فضائلها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: " إن فاطمة وفي الرواية الأخرى إن ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما أذاها ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لها: " أما ترضين أن تكوني سيدة نساء الجنة؟ " تزوجها علي رضي الله عنهما، وعمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وعمره إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، كأمها لم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ماتت، وكانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحب بها، وكانت أشبه الناس بأبيها، ثلى الله عليه وآله وسلم في مشيتها وحديثها، ولما توفيت غسلتها أسماء بنت عميس وعلي رضي الله عنه وعن الجميع، ودفنها ليلاً..وفي السنة المذكورة توفيت أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومولاته رضي الله عنها. ومن فضائلها: ان رسول الله صلى الله عه وآله وسلم كان يزورها، فلما توفي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر لعمر: رضي الله عنهما، انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها.

السنة الثانية عشرة

وفيها قتل عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله عنه. ومن فضائله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت منهم " لما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنه " يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً بغير حساب " فقال: ادع الله أن يجعلني منهم الحديث. وفيها قتل خالد مالك بن النويرة الحنظلي مع رهط من قومه، وكان ممن منع الزكاة وهو من الرجال المعدودين، وفيه يقول أخوه. لقد لامني عند القبور على البكا ... صحابي لتذارف الدموع السوافك فقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك فقلت لهم إن الشجى يبعث الشجى ... دعوني فهذا كله قبرمالك قلت وبهذا البيت يستشهد أولو العرفان أن ذكر الشجى يهيج الأشجان ورؤية منازل الأحباب تورث الأحزان، عند تعطلها عن السكان، وفي ذلك يقول القائل. كفى حزناً بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا قلت: يذكرهم عيشاً بنعمان ناعماً ... حمام الحمى تعزي نسيم العواصف ثير الصبا من كل صب صبابة ... فيصبو إلى عهد الصبا والمآلف فهم بين مشتاق وباك وضاحك ... سروراً وصراخ وراج وخائف لذكر اللقا والهجر والوصل والجفا ... وقرب وبعد ناشر جمع لاقف وفي ناشر جمع لأقف معنيان أحدهما الإشارة إلى اللف والنشر المودعين هذين البيتين والثاني أن البعد ينشر الاجتماع وتفرقة بعد القرب. السنة الثانية عشرة فيها غزوة اليمامة - وقتل مسيلمة الكذاب - وفتحت اليمامة صلحاً على يد خالد بعد أن استشهد من الصحابة نحو من أربع مائة وخمسين، وقيل ست مائة، وقتل منهم ومن غيرهم من المسلمين ألفاً ومائتان رجل، ومن الصحابة زيد بن الخطاب، وكان أسن من عمر، وأسلم قبله، وكانت معه راية المسلمين يومئذ، فلم يزل يتقدم بها في نحر العدو حتى

قتل، فوجد عليه عمر، وكان يقول: أسلم قبلي واستشهد قبلي، وما هبت الصبا إلا وانا أجدر ريح زيد، وأبو حذيفة بن عروة بن ربيعة. ومولاه سالم، وثابت بن قيس بن شماس وهو الخطيب الفصيح من الأنصار، كان يخطب عند ورود الوفود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه أحال في الكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أتى مسيلمة يطلب الملك بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: " لن تعدو قدر الله فيك وإذا أدبرت عقرك الله " وذهب وتركه خاسئاً. وقال هذا ثابت بن قيس بن شماس. واستشهد أيضاً أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري الساعدي. ومن مناقبه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ هذا مني؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول أنا أنا قال فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم يعني تأخروا وكفوا، فقال سماك أبو دجانة: انا آخذه بحقه فأخذه فعلق به هام المشركين. قيل وإنه ممن شارك في قتل مسيلمة يوم اليمامة. ومن المقتولين بشر بن سعد الأنصاري. وعباد بن بشر. والطفيل بن عمرو الدوسي. قلت: وفي شهر ذي الحجة توفي صهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ابنته زينب أبو العاص بن الربيع القرشي العبشمي ابن أخت خديجة هالة بن خويلد، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثني عليه، وكانت العرب قد ارتدت ومنعت الزكاة، حتى لم يبق خطبة يخطب بها سوى في ثلاث مساجد: مسجدي الحرمين ومسجد ثالث في البحرين، وإلى ذلك أشار شاعر بقوله: والمسجد الثالث الشرقي كان لنا ... والمنبران وفصل القول في الخطب أيام لا منبر في الناس نعرفه ... إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب فعزم أبو بكر رضي الله عنه على جهادهم، ووافقه أصحابه رضي الله عنهم بعد أن كانوا خالفوا في ذلك محتجين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قال لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله " وكانوا قد متعوه الزكاة، فقال رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: الا بحق الإسلام وروى عصم دمه وماله إلا بحقه أي بحق المال. قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي: فانظر كيف منع من التعليق بعموم الخبر من طريقين أحدهما أنه بين أن الزكاة من حق المال فلم يدخل مانعها في عموم الخبر والثاني أنه بين أنه ينص الخبر في الزكاة كما خص في الصلاة فخص مرة بالخبر وأخرى بالنظر وهذه غاية ما ينتهي إليه المجتهد المحقق والعالم المدقق انتهى قلت ولم يزل بقاتلهم، ويجيش

السنة الثالثة عشرة

الجيوش عليهم حتى ردهم إلى الإسلام. وقام في ذلك مقاماً لم يقمه إلا نبي وإلى ذلك أشرت في الأبيات في ترجمته رضي الله عنه. السنة الثالثة عشرة فيها وقعة اجنادين بالنون بعد الجيم بقرب الرملة واستشهد يومئذ جماعة من الصحابة، ثم كان النصر والحمد لله تعالى وكان قد بعث الصديق فيها البعوث إلى الشام، وأمرعلى الجيش جماعة منهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمه وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة، وبعث إلى العراق خالد بن الوليد فافتتح الأبلة، أغار على السواد، وحاصر عين التمر، وأرى الفرس ذلاً وهواناً ثم خرق البرية إلى الشام واجتمع بجيوش المسلمين هنالك. وفيا توفي ذو المجد والفخار علم المهاجرين والأنصار والسابق بالفضل والتصديق الخليفة المقدم أبو بكر الصديق عبد الله وقيلعتيق بن أني قحافة عثمان بن عامر التيمي القرشي رضوان الله تعالى عليهما في جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، أن يكفن في ثوبيه، وقال: انما هما للبلى، والحي أولى بالجديد. فصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفن في حجرة ابنته عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإلى قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته له حياً وميتاً. وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ". وإلى رده المرتدين عن دين الإسلام وقيامه في ذلك أحسن القيام أشرت بقولي في بعض القصيدات هذه الأبيات. مقام نبي قام يوم ارتداد ... عن الإسلام والسيف أشهرا إلى أن أطاعوه والإسلام رده ... إلى طيه من بعد ما قد تنشرا فوالله لو كان النبي مخالبلاً ... خليلاً سوى الرب الذي خلقه برا لكان أبو بكر خليلاً وسالقاً ... بخلته كلاً يميناً بلا افترا

خليفته المرضي خير خليفة ... وصاحبه في الغار حياً وفي الثرى وأشرت إلى ذلك أيضا في أخرى بقولي. شيخ الوقار وثاني الغار شاهده ... في مجده القبة الحسناء والغار مقدم الفضل والعليا له شرف ... في ذكر كتب أعداء له عار وانجلى له مسفرات عن محاسنها ... بيض العلى عاليات الحسن أبكار على أبي بكر الصديق فائحة من ... نشر علياه آصال وأبكار وأشرت إلى ذلك أيضا في أخرى بقولي. له مفخر في الغارحياً ومفخر ... له في الثرى في مضجع خير مضجع أضاءت به ظلماً دياجي ارتدادهم ... رجوعاً إلى دين الهدى خير مرجع وكم مفخر كم من مناقب كم علا ... وكم سؤدد في فضله المتنوع فصديقهم ذو المجد سابقهم ... إلى علا كل فضل نافياً كل مبدع وقد اقتصرت فيه على أربعة أبيات من كل واحدة من هذه القصائد المذكورات، وفيه يقول حسان رضي الله تعالى عنه. إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا الثاني الثاني المحمود مشهده ... وأول الناس حقاً صدق الرسلا ومناقبه مشهورة غير محصورة. ومن مناقبه رضي الله عه: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " أي ثالثهما بالنظر والمعونة والتسديد والرعاية، وقول صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله قد بعثني فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها الحديث. قلت هذا نهاية المدح لأبي بكر رضي الله عنه، في صدق إيمانه وكمال يقينه، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في هذا الحديث: انهم كذبوه في وجهه، وصدقه أبو بكر في غيبته، وهنا أبلغ ما يكون في التصديق والتكذيب، فإن الإنسان قد يصدق في الوجه ولا يصدق في الغيبة، ويكذب في الغيبة ولا يكذب في الوجه، وهذا واضح لمن تأمله، وهذا مما ظفرت إذ لا أعرف أحداً من العلماء ذكره. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قيل له: من أحب الناس إليك؟ قال: " عائشة ". قيل: ومن الرجال؟ قال: " أبوها ".

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: " وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر "، لما ذكر أبواب الجنة الثمانية، من يدخل منها فقال أبو بكر هل يدعى منها كلها أحد؟. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلأ ". وقول ابن عمر رضي الله عنهما: نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. كل هذه الأحاديث مروية في الصحاح. وفى صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أصبح منكم اليوم صائمأ؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: انا قال رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم: " ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ". قال بعض العلماء: معناه دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال إلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدأ يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال رجل ما نفعني مال أبي بكر، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كان له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم ". الحديث. ومن مناقبه أيضاً: مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بماله كله، وقوله الله ورسوله لما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تركت لأهلك " وغير ذلك مما يطول ذكره بل تعذر حصره. وروينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي، فالتفت الذئب إليه فقال: من لها يوم السبع يوم لبس لها راع غيري، وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفت إليه فقالت: اني لم أخلق لهذا، لكنني إنما خلقت للحرث " فقال الناس: سبحان الله أبقرة تتكلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر " وروينا في صحيح مسلم بتقديم قصه البقرة على قصة الشاة. قلت: وناهيك بهذا فضلاً وشرفاً لهما شهادته بالإيمان الكامل. مع كونهما أنهما كانا غائبين

السنة الرابعة عشرة

عن ذلك المجلس، كما في الحديث. قال العلماء: انما قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لصدق إيمانهما: هما وقوة يقينهما، وفي ذلك لهما فضل ظاهر، وما ورد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صوم ولكن بشيء وقر في صدره " وما جاء أنه كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوية. واختلف في تسميته عتيقاً، فقيل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر ". وقيل لجمال وجهه، وهو في نسبه يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرة بن كعب، وهو في العدد مثله بين كل واحد منهما وبين مرة ستة أباء، لأنه أبو بكر بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وأمه سلمى وهي أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو التيمية. ولد رضي الله عنه بعد عام الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً وهو أول من أسلم من الرجال رضي الله عنه، وكان خلافته سنتين وأشهراً، وولي الخلافة بعده عمر بن الخطاب باستخلافه له، فرضي المسلمون بذلك، ولم يختلف عليه اثنان. وفي السنة المذكورة توفي أمير مكة عتاب بن أسيد الأموي، واستعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة حين خروجه إلى حنين، فأقام للناس الحج تلك السنة. السنة الرابعة عشرة فتحت فيها دمشق في رجب صلحاً من أبي عبيدة وعنوة من خالد، ثم أمضيت صلحاً بعد أن حوصرت حصاراً طويلاً، وعزل عمر خالداً وجعل الأمر كله إلى أبي عبيدة بن الجراح، وخيف من فتنة تحدث من عزل خالد إذا بلغه الخبر، فلما بلغه ذلك قال: والله لو ولي علي عمر امرأة لسمعت وأطعت، فاستصوب ذلك منه واستحسن، وكان قد نفذه أبو بكر إلى العراق أميراً مقدماً لإقدامه وشجاعته، وعزله عمر لأنه كان يرد المهالك ويغدر بالمسلمين، ولأنه نازع أبا عبيدة وكان أميراً في الشام على المسلمين، وكان عمر يحب أبا عبيدة حباً شديداً، وكان يحفظ الغنائم مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم واصفاً له أمين هذه الأمة. مع كون عمر قد أشار على أبي بكر رضي الله عنهما: بتقديم خالد في حرب بني حنيفة، وإنما عزله بعد ذلك لرجحان مصلحة ظهرت له في أبي عبيدة، كان المسلمون

السنة الخامسة عشرة

قد راجعوا عمر في أن يمضوا بالصلح. وفي السنة المذكورة كانت وقعة جسر أبي عبيد، واستشهد يومئذ طائفة منهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، هو والد المختار الكذاب، وكان من أجلة الصحابة، وهذه الوقعة في مكان على مرحلتين من الكوفة. وعن الشعبي قال: قتل أبو عبيد في ثمان مائة من المسلمين. وفيها مصر البصرة عتبة بن غزوان، وأمر ببناء مسجدها الأعظم. وفيها فتحت بعلبك وحمص صلحاً. وهرب هرقل عظيم الروم إلى القسطنطينية. السنة الخامسة عشرة فيها وقعة اليرموك، كان المسلمون ثلاثين ألفاً، والروم أزيد من مائة ألف قد سلسلوا أنفسهم الخمسة والستة في سلسلة لئلا يفروا فداستهم الخيل. وقيل كان المسلمون أربعين أو خمسين ألفاً، والروم ألف ألف مع أربعة من ملوكهم، والرماة منهم مائة ألف، وجبلة بن الأيهم ملك غسان معهم بعدما ارتد هو وقومه من العرب لحقوا بهم فصدروهم لقتال المسلمين، وقالوا أنتم تلتقون بني عمكم من العرب فإن كفيتموناهم وإلا لقيناهم نحن، فتقدموا نحو المسلمين وهم ستون ألفاً، فبرز لهم من المسلمين ستون رجلاً انتقاهم خالد من قبائل العرب، فقاتلوهم يوماً كاملاً، ثم نصر الله ستين من المسلمين فهزموهم، وهرب جبلة، وقتلوهم حتى لم ينج منهم إلا القليل، ثم التقى المسلمون مع الروم مرة بعد أخرى حتى أبادوهم بالقتل، وهرب البقية من تحت الليل. واستشهد في اليرموك طائفة من المسلمين، منهم عكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة المخزوميان، وكان عكرمة قد حسن إسلامه وقوي إيمانه، حتى كان إذا نظر في المصحف يبكي. وعبد الرحمن بن العوام أخو الزبير، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، فظهرت هناك نجدة جماعة من الصحابة منهم الزبير والفضل بن عباس وخالد بن الوليد في آخرين وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. وفي شوال وقعة القادسية بالعراق، وقيل كانت في سنة ست عشرة وأمير المؤمنين يومئذ سعد بن أبي وقاص ورأس المجوس رستم ومعه الجالينوس وذو الحاجب، وكان المسلمون نحواً من سبعة آلاف والمجوس ستين، وقيل أربعين ألفاً، وكان معهم سبعون فيلاً

السنة السادسة عشرة

فحصرهم المسلمون في المدائن وقتلوا رؤوسهم الثلاثة المذكورين، وغيرهم. وممن استشهد عمرو ابن أم مكتوم الأعمى المؤذن المذكور في قوله تعالى " أن جاءه الأعمى ". وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وأبو زيد الأنصاري، واسمه سعد بن عبيد. وفيها افتتحت الأردن عنوة إلا طبرية، فإنها افتتحت صلحاً. وفيها توفي سعد بن عبادة سيد الخزرج بحوران في جش فمات لوقته. فيقال إن الجن أصابته، وأنه سمع قائلاً في بعض آبار المدينة يقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ... ورميناه بسهم فلم يخط فؤاده قلت قوله نحن من الخرم المعروف في علم العروض بالخاء المعجمة وهو ما يزاد في أول البيت زائداً على وزنه وأكثر ما يكون أربعة أحرف. السنة السادسة عشرة فيها افتتحت حلب وانطاكية صلحاً، وفيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة، وأنشأها وفيها نزل عمر رضي الله عنه على بيت المقدس، وكان المسلمون قد حاصروا تلك المدينة المباركة، وطال حصارهم، فقال لهم أهلها: لا تتعبوا فلن يفتحها إلا رجل نحن نعرفه، له علامة عندنا فإن كان إمامكم به تلك العلامة سلمناها له من غير قتال، فأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بذلك، فركب رضي الله تعالى عنه راحلته، وتوجه إلى بيت المقدس، وكان معه غلام له يعاقبه في الركوب نوبة بنوبة، وقد تزود شعيرأ وتمراً وزيتاً، وعليه مرقعة، لم يزل يطوي القفار الليل والنهار إلى أن قرب من بيت المقدس، فتلقاه المسلمون، وقالوا له: ما ينبغي أن يرى المشركون أمير المؤمنين في هذه الهيئة، ولم يزالوا به حتى ألبسوه لباساً غيرها، وأركبوه فرساً، فلما ركب وهسل به الفرس، داخله شيء من العجب، فنزل عن الفرس، ونزع اللباس ولبس المرقعة، وقال أقيلوني، ثم سار في هذه الهيئة إلى أن وصل، فلما رآه المشركون من أهل الكتاب كبروا، وقالوا: هذا هو، وفتحوا له الباب. وفيها توفيت مارية القبطية أم ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اهداها له المقوقس ملك الاسكندرية ومصر.

السنة السابعة عشرة

السنة السابعة عشرة فيها استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقال ما معناه: اللهم أنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا. فسقوا، ثم خرج عمر فيها إلى جهة الشام ورجع لما سمع بالطاعون، بعد ان اختلف المسلمون في ذلك، فأشار عليه بعضهم بالقدوم وأشار بعضهم بالرجوع، فلما عزم على الرجوع قال له أبو عبيدة: افراراً من قدر الله تعالى؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم ضرب له مثلاً في ذلك معناه أن موضع الخصب يرعى وفي يرغب وموضع الجدب لا يقرب، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف، روى لهم حديثاً موافقاً لرأي عمر، معناه أنه لما سمع بالوباء بأرض لا يقدم عليه، وإذا وقع بأرض هو فيها لا يخرج منها، ففرح عمر بذلك، وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه الحديث المذكور، وهذا كله معنى الحديث الصحيح الوارد في ذلك. وفي السنة المذكورة زاد عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها افتتح أمير البصرة أبو موسى الأشعري الأهواز، وفيها كانت وقعة جلولاء، وقتل فيها من المشركين مقتلة عظيمة، وبلغت الغنائم فيها ثمانية عشر ألف ألف، وقيل ثلاثين ألف ألف، وفيها تزوج عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت فاطمة الزهراء، رضي الله عنهما. السنة الثامنة عشرة فيها طاعون عمواس بالعين والسين المهملتين وفتح الأحرف الثلاثة الأولى في ناحية الأردن فاستشهد فيها أبو عنيدة بن الجراح القرشي الفهري أمين هذه الأمة وأمير أمراء الشام، وهو ممن شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وهو الذي انتزع من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلقتي الدرع، والمراد به المغفر ومن مناقبه العظيمة: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لكل أمة أميناً وإن أمينك أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح ". حديث صحيح. وكان من أجمل الناس وجهاً وأشجعهم قلباً، شهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الغزوات، وحجة الوداع، وأردفه خلفه. وممن استشهد فيه أيضاً الفضل بن عباس، ومعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي.

وعمره ست وقيل ثمان وثلاثون سنه، وفضائله مشهوره. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم والله: " إني لأحبك يا معاذ " ومنها أنه بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قاضياً، وقال له " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله. قال: " فإن لم نجد؟ " قال: بسنة رسول الله. قال: " فإن لم نجد؟ " قال: اجتهد برأيي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله " ومعلوم أنه لا يبعث صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً إلا عالماً أميناً، ويكفيك في علمه أنه بين طرق الأحكام فأجاد. قلت فإن قيل: ومن طرق الأحكام أيضاً الإجماع ولم يذكره معاذ فالجواب إن حكم الإجماع متعذر مع بقائه صلى الله عليه وآله وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: " وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ " الحديث ومنها أنه من الأربعة الذين جمعوا القرآن من الخزرج، وذكر بعض المؤرخين أنه لا خلاف أنه الذي بنى مسجد الجند. وفي السنة المذكورة توفي يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي. وأبو جندل بن سهيل. وأبوه سهيل بن عمر والقرشي العامري كان من رؤوس قريش وخطبائها البلغاء الفصحاء، موصوفاً بالحلم والعقل، قام بمكة يوم مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تسكين الناس، مثل ما قام أبو بكر في المدينة بعدما خاف أمير مكة عتاب بن أسيد وتعب، ولعل هذا المقام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله لعمر لعله يقوم مقاماً تحمده عليه، لما قال له عمر: دعني أكسر ثناياه حتى لا يقوم عليك خطيباً بعدها في قريش، بقوله في منصرفهم من بدر بأسرى قريش وهو فيهم. قلت ومن عقله وحلمه ما ذكر أهل السير أنه قدم المدينة في جماعة من شيوخ قريش، منهم أبو سفيان بن حرب. فاستأذنوا على عمر، فلم يأذن لهم، واستأذن عليه أناس من فقراء المسلمين وضعفائهم، فأذن لهم، فقال أبو سفيان، يا معشر قريش: ما رأيت كاليوم عجباً، انه ليؤذن لهؤلاء المساكين، او قال الموالي فيلجون، وكبار قريش في الباب تسقى في وجوههم الريح التراب، ولا يلتفت إليهم، فقام سهيل بن عمرو وقال: تالله إني لأرى ما في وجوهكم من الغضب، فإن كنتم ولا بد غاضبين فاغضبوا على أنفسكم، فإن الله تعالى دعا هؤلاء فأسرعوا، ودعاكم فأبطأ ثم، والله إن الذي سبقوكم فيه، من الخير خير من الذي تنافسون فيه في هذا الباب، ولا أرى لأحد منكم أن يلحق بهم إلا أن يخرج إلى هذا الوجه من الجهاد، لعل الله تعالى يرزقه الشهادة، ثم ركب وسافر إلى الشام ليجاهد مع من فيه من المسلمين، قال الحسن البصري: بعد كلامه في هذه القضية: لله دره ما أعقله!.

السنة التاسعة عشرة

قلت ومن عقله أيضاً انه كان يقرأ القرآن على بعص الموالي بمكه، ويتردد إليه، فعاب عليه بعض المتكبرين من قريش، فقال سهيل ما معناه: هذا الكبر والله الذي حال بيننا وبين الخير. ولما رآه صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية مقبلاً رسولاً من قريش قال سهل لكم أمركم، م وقع الصلح على يده. وفي السنة المذكورة مات شرحبيل ابن حسنة. والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، كلاهما من الرؤوس الجلة وقيل إن الحارث المذكور استشهد في اليرموك، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وفيها افتتحت حران والموصل والسوس وتستر. السنة التاسعة عشرة فيها فتحت تكريت وقيساريه، وتوفي أبو المنذر أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي سيد القراء، رضي الله عنه على اختلاف في زمان موته في أي سنة هو وسيأتي ذكره بعد. ويزيد بن أبي سفيان على الخلاف المتقدم. سنة عشرين فيها افتتح عمرو بن العاص بعض ديار مصر، وتوفي بلال بن حمامة الحبشي مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بداريا من بلاد الشام وفضائله مشهورة: منها تقدمه بالإسلام، وصبره على تعذيبه واذائه، وجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له تجاهه في الجنة. ولما حضرته الوفاة كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه. وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بنت جحش القرشية الأسدية رضي الله عنها، ومن فضائلها: قوله تعالى " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها " - الأحزاب: 37 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه: " اسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً " وكانت أطولهن يدا في الصدقة والجود وفعل الخير، فماتت أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود، وكانت سودة أطولهن يداً بالجارحة، وزينب هي التي كانت تسامي عائشة في المنزلة. وفيها توفي أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري وهو الذي قصده النبي صلى الله عليه وآله

سنة إحدى وعشرين

وسلم وأبو بكر وعمر فأكرمهم، وقال: من أكرم اليوم منا ضيفاً؟. وفيها توفي أسيد بن حضير الأنصاري، وهو الذي رأى السكينة عند قراءة القرآن، والذي قال: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، لما نزلت آية التيمم لما وقفوا في السفر على غير ماء عند فقد عائشة رضي الله عنها العقد. وفيها توفي عياض بن غنم الفهري نائب أبي عبيدة على الشام، وفيها توفي أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وسعيد بن عامر الجمحي، وهرقل ملك الروم، وقيل قتل مسلماً في الباطن. سنة إحدى وعشرين فيها فتح مصر وتوفي الأمير الكبير البطل الشهير ميمون النقيبة ذو الهمة النجيبة سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي ابن ستين سنة على فراشه بعد ارتكابه العظائم بين القتا والصوارم في كثير من المعارك، فسلمه الله من المهالك، وهو من بعثه صلى الله عليه وآله وسلم: الى اليمن، ومناقبه مشهورة ويكفي فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم " أخذها يعني الراية سيف من سيوف الله عن غير إمرة ففتح الله على يده ". وفيها وقعة نهاوند. دامت المصاف فيها ثلاثة أيام، ثم جاء النصرة، واستشهد أمير المؤمنين النعمان بن مقرن المزني، وكان من سادات الصحابة، فنعاه عمر للناس على المنبر، وأخذ حذيفة بن اليمان الراية من بعده، ففتح الله على يده، وولى عمار بن ياسر إمامة الصلاة بالكوفة، لما شكا أهلها سعد بن وقاص، وولى عبد الله بن مسعود بيت المال. وفيها توفي العلاء بن الحضرمي، استشهد فيها بنهاوند طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد ارتد وادعى النبوة، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان يعد بألف فارس. سنة اثنتين وعشرين فيها فتح آذربيجان على يد المغيرة بن شعبة، ومدينة نهاوند صلحاً والدينور مع همدان عنوة على يد حذيفة، وطرابلس المغرب على يد عمرو بن العاص. وفيها افتتحت جرجان، وتوفي أبي بن كعب مع خلاف تقدم فيه في التاسعة عشر. ومن مناقبه أنه من الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله

سنة ثلاث وعشرين

وسلم وكلهم من الأنصار: معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد فييما رواه مسلم وروى غيره حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر بعض العلماء منهم خمسة عشر صحابياً، وثبت في الصحيح قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن، وكانت اليمامة قريباً من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء ممن جمعوه وقيل فكيف بالذين جمعوه ولم يقتلوا، وهذا يرد على بعض الملاحدة في ادعائه عدم تواتر القرآن. ومن مناقب أبي أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " وأقرأكم أبي " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا " قال: وسماني؟ قال: نعم. قال: فبكى، وفي رواية فجعل يبكي، وكان بكاؤه مسروراً واستصغاراً لنفسه عن تأهله لهذه النعمة العظيمة والمنزلة الكريمة. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " ليهنك العلم أبا المننر والأربعة المذكورون الذين حفظوا القرآن من الأنصار كلهم من الخزرج ". وفي الأوس أربعة لهم مناقب يقابل بهم هؤلاء الأربعة، وهم سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، وحنظلة بن الراهب غسيل الملائكة، وقتادة بن النعمان الذي رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عينه بعدما سألت، وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنهم. سنة ثلاث وعشرين فيها توفي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنه شهيدأ، طعنه غلام المغيوة بن شعبة في صلاة الصبح لليالي بقين من ذي الحجة. ومن مناقبه: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر قالوا لعمر " الحديث أخرجه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أوتيت به وفيه لبن فشربت منه حتى انظر إلى الري يجري في ظفري ". او قال في أظفاري " ثم ناولت عمر " قالوا فما أولت؟ قال: " المعلم ". رواه مسلم. وفي رواية الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت منه فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب "

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره " قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: " الدين ". رويناه في الصحيحين وفي رواية مسلم يجره. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك " رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر ". رويناه في الصحيحين واللفظ للبخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رجف بهم أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: " اثبت فما عليك إلا نبي أوصديق أو شهيد ". وفي حديث آخر " أو شهيدان " رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت في المنام أني أنزع بدلو وبكرة على قليبة "، وذكر أبا بكر إلى أن قال: " ثم جاء عمر " فاستحالت غرباً فلم أرعبقرياً يفري فرية حتى روى الناس وضربوا بعطن. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في كلام السبع: " فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر " كما تقدم. وقول علي رضي الله عنه لما توفي عمر: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر " رواه البخاري وفي الترمذي قال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر: " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ". وروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن أهل الدرجات العلى ليتراءون من تحتهم كما تراؤون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ". ومما جاء في فضل عمر أيضاً ما كشف له عند قوله يا سارية الجبل. والحديث المشهور أنه سراج أهل الجنة. وقول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: وافقت ربي في ثلاث في مقام ابراهيم، وفي الحجاب، وفي أسرى بدر، قلت: وقد وافق القرآن أيضاً في ثلاث أخرى مذكورة بنصوص أخرى: وهي عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً

منكن. وفي منع الصلاة على المنافقين، وفي تحريم الخمر، وبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وكذا بشر أبا بكر وعثمان يوم بيراريس، شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه. وروي أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كان نبياً بعدي لكان عمر ". وقال في وصف أمته صلى الله عليه وآله وسلم: " وأشدهم في الله عمر ". وكانت أيامه باهجة زاهرة وسيرته الحسناء محمودة فاخرة، والعناية مؤيدة له ناضرة، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة، وقيل خمس وخمسون، وخلافته عشر سنين وسبعة أشهر وخمس ليال، وقيل غير ذلك ودفن مع صاحبيه في حجرة عائشة رضي الله عنها، بعد أن استأذنها في حياته، وأوصى أن يستأذن أيضاً بعد موته، فأذنت وهو في نسبه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كعب بن لؤي، بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة آباء، وبينه وبين عمر ثماني آباء، لأنه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وقد روي عن بعض السلف الأخيار وهو سليمان بن يسار رحمه الله أنه قال: ناحت الجن على عمر رضي الله عنه. عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض يهتز العصاة بأسوق وفضائله أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وسيرته أحسن من أن تمدح وتشهر، وإلى شيء من فضائله أشرت بقولي: وفاروقهم ما في الطغا منه بالوغا ... لقيصر إرعاد وكسرى وتبع ومن عجب أن الملوك تهابه ... ويخشاه ناء في قميص مرقع أبى عن لذيذ العيش محدث منزل ... وعش، نداه مخصحب كل مرتع سراج جنان الخلد محمود سيرة ... نطوق بحق خائف متورع وقولي في أخرى. أقام شعار الدين أعلى منارة ... على همة فيه وجل وشمرا له سيرة محمودة فيه هيبة ... ومن مهجة الشيطان يبعد مدبرا إذا قال قولاً وافق هيبة ... نطوق بحق ليس في ذاك امترا

سنة أربع وعشرين

لسان هدى لا يخشى لومة لائم ... إدا لامه في الله أو فيه عيرا وقولي في أخرى. ومظهر الدين في أعزازه عمر ... مذلل الكفر قد هابته كفار سراج جنات عدن منه باهجة ... رياضها الغربا لأنوار زهار ولما حضرته الوفاة، قيل له: الا تستخلف؟ قال: لا أتحملها حياً وميتاً فروجع في ذلك، فقال: الخليفة بعدي أحد هؤلاء الستة. وذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف، جعل الأمر شورى بينهم، فتشاوروا، ثم أمضى الأمر إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وفي السنة المذكورة توفي قتادة بن النعمان الظفري الذي وقعت عينه يوم أحد فردها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكانها، فكانت أحسن عينيه، وفي ذلك يقول ابنه: لما سأله بعض الخلفاء من بني أمية من أنت. أنا ابن الذي سألت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد وكان قتادة المذكور بدرياً نزل في قبره عمر رضي الله عنهما. سنة أربع وعشرين في أولها بويع ذو النورين عثمان رضي الله عنه بالخلافة، وقد أوضحت كيفية بيعته في كتاب: في علم الأصول، وتوفي فيها سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان إسلامه حسناً. سنة خمس وعشرين فيها انتقض أهل الري فغزاهم أبو موسى الأشعري، أهل الاسكندرية فغزاهم عمرو بن العاص، فقتل وسبا، واستعمل عثمان على الكوفة أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فجهز سليمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفاً إلى برذعة فقتل وسبا.

سنة ست وعشرين

سنة ست وعشرين فتحت سابور على يد عثمان بن أبي العاص، صالحهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، وزاد عثمان في المسجد الحرام. سنة سبع وعشرين فيها ركب معاوية بالجيش في البحر، وغزا قبرص، لت هذا ذكره بعض المؤرخين قبرس بالسين دون الصاد. وقيل كانت هذه الغزوة في سنة ثمان وعشرين، وعزل عمرو بن العاص بعبيد الله بن سعد بن أبي سرح عن مصر، فغزا عبيد الله إقليم إفريقية وافتتحها، فأصاب كل إنسان ألف دينار، وقتل ملكهم جرجير، وكان في مائة ألف، وبلغ سهم الفارس وفرسه ثلاثة آلاف دينار. وفيها توفيت أم حرام بنت ملحان بقبرس، كانت مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما. سنة ثمان وعشرين فيها انتقض أهل آذربيجان، غزاهم الوليد بن عقبة، ثم صالحوه. سنة تسع وعشرين فيها افتتح عبد الله بن عامر بن كريز بالمثناة من تحت بين الراء والزاي مدينة اصطخر عنوة بعد قتال عظيم. وفيها عزل عثمان أبا موسى عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص عن فارس، وجمع لعبد الله بن عامر، وكان شهماً شجاعاً، فافتتح فتحاً كبيراً بلاد فارس، ثم بلاد خراسان جميعاً في سنة ثلاثين. سنة ثلاثين فيها توفي حاطب بن أبي بلتعة، وكان بدرياً، وفيه قال صلى الله عليه وآله وسلم: لما

سنة إحدى وثلاثين

قال عمر: دعني أضرب عنقه لما كتب إلى قريش بعلمهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قصد مكة بالعساكر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وفي حاطب المذكور نزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " - الممتحنة: 1 -. ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليدخلن حاطب النار: قال صلى الله عليه وآله وسلم: " كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدر أو الحديبية ". وفيها افتتح ابن عامر سجستان مع فارس وخراسان، هرب ابن كسرى، واعتمر ابن عامر، فاستخلف الأحنف بن قيس على خراسان، اجتمعوا جمعاً لم يسمع بمثله، فالتقاهم الأحنف فهزمهم، ولما كثرت الفتوحات في العام المذكور، وأتى الخراج من كل جهة، اتخذ عثمان له الخزائن، وقسمه وكان يأمر للرجل بمائة ألف. سنة إحدى وثلاثين تكامل فيها فتح خراسان، وتوفي أبو سفيان بن حرب الأموي، وقيل في السنة الآتية ومما حصل له من المناقب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما روينا في الصحيح أنه قال: يا نبي الله ثلاث أعطيكهن قال نعم قال عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها قال نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، وقال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم. قال: ابو زميل بضم الزاي وفتح الميم وسكون المثناه من تحت وهو راوي ذلك عن ابن عباس لولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أعطاه، ذلك لأنه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال نعم. قلت هذا الحديث مشكل عند المحدثين لأن أبا سفيان ما أسلم إلا يوم فتح مكة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل، تزوجها وهي في أرض الحبشة كانت مع الذين هاجروا من المسلمين إلى أرض الحبشة، وأبو سفيان المذكور هو المقدم رئيس قريش بعد رؤوسهم المقتولين في بدر، وذهبت كلتا عينيه في الجهاد، احداهما في تبوك، والأخرى في اليرموك. وفيها توفي الحكم بن أبي العاص الأموي والد مروان قرابة عثمان عفان رضي الله عنه، وكان يفشي سر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: كان يحاكيه في مشيه فطرده صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف، فلم يزل طريداً إلى أن استخلف عثمان فأدخله المدينة، واعتذر لما طعن في ذلك بأنه كان قد شفع فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوعده برده.

سنة اثنتين وثلاثين

قلت هكذا رأيت أن أذكر عذر عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك. وأما قول الذهبي: طرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما استخلف عثمان أدخله المدينة وأعطاه مائة ألف من غير ذكر عذر لعثمان، فإطلاق قبيح يستشنعه كل ذي إيمان بفضل الصحابة أولي الحق والإحسان. سنة اثنتين وثلاثين فيها توفي العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن ست وثمانين سنة ومن مناقبه من عقبه جميع الخلفاء المعروفين ببني العباس، وأن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى به في خلافته بكونه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسقوا. وكان يوم حنين هو وابن أخيه أبو سفيان بن الحارث، احدهما آخذ بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر آخذ بركابها لما انهزم المسلمون إلا جماعة منهم، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبادي بأصحاب الشجرة ثم بالأنصار، فردوا لما عرفوا صوته وكان صيتاً ينادي من جبل صلع غلمانه وهم في الغابة من آخر الليل، فيسمعهم، ومسافة ذلك قدر ثمانية أميال. وتوفي في السنة المذكورة عبد الرحمن بن عوف الزهري، احد العشرة المشهود لهم بالجنة، وصنائعه معروفة، وسعة غنائه بالمكارم محفوفة منها أنه باع مرة أرضاً بأربعين ألف دينار، فتصدق بها، ومنها ما ورد أنه تصدق بعير له كبيرة أقبلت من الشام، وبما عليها من أنواع البضائع. قلت وذكر الشيخ الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتاب المقتبس قال: قتل عبيد الله بن معمر التيمي لأربعين سنة برستاق من رساتيق اصطخر في زمن عثمان بن عفان، ولم يبين في أي سنة، وقال اشترى عبيد الله بن معمر جارية فارهة بعشرين ألف دينار، كانت تسمى الكاملة في عمل الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر، وكانت عند فتى قد أدبها لنفسه، وكان بها معجباً وواجداً بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أتلف واحتاج، فحمل يسأل اخوانه. قلت ذلك حيناً، وهو في نكد وضيق شديد في معيشتهما، فقالت الجارية والله إني لأرى لك، وأشفق عليك، وأرغب بك، عن ما أنت فيه، ولو أنك بعتني، نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً، فحملها إلى عبيدة الله بن معمر فأعجبته، فاشتراها بالثمن المذكور، فلما قبض الفتى المال، استشعر كل واحد منهما إلى صاحبه فأنشدت. هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي إلا تفكري أقول لنفسي وهي في عين كربة ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري

إذا لم يكن للمرء عندك حيلة ... ولم تجد شيئاً سوى الصبر فاصبر فقال الفتى: ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكر عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر فقال عبيد الله ورق لهما خذ بيدها، وانصرفا راشدين، والمال الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها، والله لا أخذت منه درهماً، او قال شيئاً قال ومات ابنه عمر بالشام في موضع يقال له ضمير بضم الضاد المعجمة، قيل الراء مثناة، رثاه الفرزدق بأبيات أولها. يا أيها الناس لا تبكوا على أحد ... بعد الذي بضمير وافق القدرا كانت يداه لكم سيفاً يعاذ به ... من العدو وغيثاً ينبت الشجرا أتى قريش أبو حفص فقد رزيت ... بالشام أو فارقتك الناس والظفرا وفي السنة المذكورة توفي مقر الفضائل والسعود عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه ومن مناقبه رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " خذوا القرآن عن أربعة وذكر منهم ابن مسعود ". ومنها أنه كان هو وأمه من رآهما حسب أنهما من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهما ولزومهما له، ومنها إنه كان عالماً بكتاب الله، قال ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه. قال الراوي: فجلست في حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحداً يرد ذلك عليه ولا يعيبه. قال العلماء وفي هذا دليل بجواز ذكر الإنسان بنفسه بالفضيلة والعلم ونحوه للحاجة، ومناقبه كثيرة شهيرة وهو الذي جز رأس أبي جهل يوم بدر بعد ما أثخنته الجراح من الأنصاريين، ولم يبق فيه إلا الرمق. وروي أن أبا جهل قال لما أراد أن يجز رأسه: لقد رقيت مرقى صعباً يا رويغى الغنم وكان رضي الله عنه مفتياً مرجوعاً إليه في المشكلات، بالاتفاق بين علماء الحجاز والشام والعراق، وهو الذي أشار إليه بعض الصحابة: لا تسألوني عن شيء، ما دام هذا الحبر بين أظهركم. وفي السنة المذكورة توفي أبو الدرداء عويمر بن زيد وقيل ابن عبيد الله الأنصاري

سنة ثلاث وثلاثين

الخزرجي، أسلم بعد بدر، وكان حكيم هذه الأمة، ولي قضاء دمشق، وفضائله معروفة ومحاسنه موصوفة، وكان سلمان مواخياً له، وكان يغذ له فيما هو فيه من شدة المجاهدة، وهو القائل لامرأته أم الدرداء لما قالت له ما عندنا شيء يعني من النفقة: يا هذه إن بين أيدينا عقبة كؤدا لا يجوزها إلا المحققون. ولما دخل بيتهم رآها متبذلة، قال لها: ما شأنك؟ قالت: ان أخاك ليس له حاجة في الدنيا. فوعظه وقال إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، واضيفك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه. وفيها توفي أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري الذي عند انتهاك المحارم لا تأخذه في الله لومة لائم وفضائله كثيرة، منها تقدم إسلامه وما تحمل فيه من الشدائد عند إعلانه بالصدق بين ظهراني في كل كفور من قريش معايذاً، ما لاقى في ضمن ذلك من المحن، وتغذيه بماء زمزم حتى ظهر فيه السمن. وتوفي أبو سفيان بن حرب على خلاف فيه تقدم، وعبد الله بن يزيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذن وكان بدرياً. سنة ثلاث وثلاثين فيها توفي المقداد بن الأسود الكندي، وقد شهد بدراً، وهو القائل يومئذ: والله يا رسول الله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن أمامك ومن خلفك. فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، حتى رؤي البشر في وجهه، وكان يومئذ فارساً قطعاً. وفي الزبير اختلاف دون غيرهما بلا اختلاف، وفضائله في الشجاعة والنجابة معروفة، وهو من الصحابة، وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح بلاد حبشة. سنة أربع وثلاثين فيها أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، رضوا بأبي موسى، وكتبوا فيه إلى عثمان، فأمره عليهم، ثم رد عليهم سعيد، فخرجوا ومنعوه. وفيها توفي أبوطلحة الأنصاري أحد النقباء ليلة العقبة، الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: " صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئية " وعبادة بن الصامت الخزرجي أحد النقباء ليلة العقبة مات بالرملة، قيل بالقدس، بعد أن ولى قضاءها. وفيها توفي أعلم أهل الكتاب به وبالآثار المشهور بكعب الأحبار، اسلم في زمان أبي

سنة خمس وثلاثين

بكر وروى عن عمر، وفيها توفي مسطح بن أثاثة وكان بدرياً. سنة خمس وثلاثين فيها توفي عامر بن ربيعة وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان جليلاً نبيلاً من أحسن الناس وجهاً، ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجند بفتح الجيم والنون ومخاليفها من بلاد اليمن. وفي أواخر السنة المذكورة حصر المصريون عثمان بن عفان القرشي الأموي رضي الله عنه ليخلع نفسه من الخلافة، ولم يزالوا حاصرين له إلى أن آن الوقت الذي تصيبه فيه المصيبة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " فتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ". والتي أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى نيله الشهادة بها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما تحرك جبل أحد: " أسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". وكان عليه صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فتجرأ عليه أراذل من رعاء القبائل، واقتحموا عليه داره، فقتلوه، قيل: وكان المتعصبون عليه حينئذ أربعة آلاف. وسبب قتلهم له على ما قيل إنهم طلبوا منه ما لهم من العادة التي يأخذه الجند من ولاة الأمر، فأمر من كتب لهم بذلك إلى عامله في مصر، فلما كانوا في أثناء الطريق، فتحوا الكتاب، فوجدوا فيه الأمر بقتلهم، فرجعوا إليه، وقالوا كيف تأمر بقتلنا؟ فقال: ما كتبت الكتاب وإنما كتبه غيري. فقالوا: ان كان خطك فقد أمرت بقتلنا، وإن كان خط غيرك فقد زور عليك، وتغلب على أمرك، فما تصلح للخلافة. قلت وليس في هذا حجة لهم. بل قولهم ظاهر البطلان، فإن الأخيار ليسوا بمعصومين من تزوير الأشرار. ويقال إن الذي زورعليه مروان. والله أعلم بذلك ممن كان. وروينا في جامع الترمذي أنه جاء عبد الله بن سلام إلى عثمان فقال له: ما جاء بك؟ فقال: جئت في نصرتك. قال: اخرج إلى الناس، فأخبرهم عني فإنك خارج خير لي من داخل، فخرج عبد الله بن سلام، فقال: ايها الناس إنه كان اسمي في الجاهلية فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله. ونزلت عليه آيات من كتاب الله، ونزلت في قوله تعالى " وشهد شاهد من بني

إسرائيل على مثله " الأحقاف الآية ونزلت في " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " الرعد، ان لله سيفاً مغموداً عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم، الله الله في هذا الرجل، ان تقتلوه فو الله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة، وليسلن سيف الله المغمود عنكم، فلا يتغمد إلى يوم القيامة، فقالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان. قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. قال علماء السير والتاريخ: وكان قتلهم له في يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة والمصحف بين يديه، فانتضح الدم، ووقع على قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " البقرة وعمره يومئذ بضع وثمانون سنة، وقيل تسعون، وقيل غير ذلك والله أعلم. وقد اشتهر عنه رضي الله عنه أنه ما أراد القتال، والدفع عن نفسه بل قال لارقائه: وكانوا مائة عبد، وقيل أربع مائة من أغمد سيفه فهو حر لله، فأغمدوا سيوفهم كلهم إلا واحد منهم، فإنه قاتل حتى قتل. وإن علياً كرم الله وجهه أرسل إليه ابنه الحسن بماء للشرب، وقال له إن اخترت أن آتيك للنصر أتيت، فقال رضي الله عنه: لا فإني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي إن قاتلتهم نصرت عليهم، وإن لم تقاتل أفطرت الليل عندنا، وأنا أحب أن أفطر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رضي الله عنه صائماً. ونقل عن علي رضي الله عنه أيضاً أنه لما بلغه قتله قال: الله المستعان ما كنا نظن أن يبلغ الأمر إلى هذا الحد وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل غيره ودفن في البقيع، رضي الله عنه وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وأياماً وقيل الأشهر وكانت ولايته بجعل عمر الخلية بعده شورى بين الستة الجلة من الصحابة المشهورين في الحديث كما تقدم، فتشاورا، بينهم، ثم آل الأمر إليه، واتفق الصحابة كلهم عليه. ونسبه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عبد مناف، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينه ثلاثة آباء، وبين عثمان وبينه أربعة، لأنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة وأم أروى أم حكيم بنت عبد المطلب، الملقبة بالبيضاء توأمة عبد الله بن عبد المطلب. فجدة عثمان من قبل أمه عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال لي بعض من يبغضه على وجه الطعن فيه مع إظهار التبجيل له: ما بال عثمان وهو من سادات الصحابة ما دفن إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام؟ فقلت له: ليس ذلك بأشنع ولا أفظع من تطواف الفجرة بالبلدان برأس الحسين ابن المصطفى من ولد عدنان فخشي وولى وسكت خجلاناً.

واتفق أهل الحق من جميع علماء أهل السنة أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً شهيداً، وللقتل أسباب تقتضيه لم يأت عثمان شيئاً منها، وجميع ما أنكر عليه أجيب عنه رحمة ابثه تعالى عليه ومن أوجب قتله لم يكن ذلك إلى مثل هؤلاء السفلة أولي الشرور وإنما يكون إلى أهل الحل والعقد في الأمور. قلت وليس يحصى فضائل عثمان وما له من المحاسن والإحسان الشاهدة له بالشهادة الحسنة والسعادة بالجنة. منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبوا به لماء جاء يستأذن: " إيذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه " أخرجه البخاري وأخرجه مسلم من طرق قال في إحداها: فقال اللهم صبراً والله المستعان. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف: " اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان " قال الراوي وهو أنس أظنه ركضه برجله وقال اسكن أحد الحديث أخرجه البخاري وقد تقدم. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا أستحيي ممن يستحي منه الملائكة " وفي بعض النسخ: " من رجل يستحي منه الملائكة " لما قالت له عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له، ولم تباله، ثم دخل عمر، ولم تهش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست فسويت ثيابك. ورواية البخاري أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم قاعداً في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته أو ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها. وفي رواية مسلم كان صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر الحديث. وفي حديث مسلم الآخر أن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته. وفي الحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما في تفضيلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. ومن مناقبه أيضاً تزويج النبي عليه السلام بابنتيه رقية وأم كلثوم، ولذلك لقب بذي النورين، يقال إنه ما تزوج من بني آدم ابنتي نبي سواه. ومنها تجهيزه جيش العسرة، وحفره بير رومة روينا في جامع الترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألف دينار حين جهز جيش العمرة، فنشرها في حجره، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقلبها بيده

سنة ست وثلاثين

ويقول: " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ". وروينا في جامع الترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحض على تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان وقال: يا رسول الله علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عن المنبر، ويقول بأعلى صوت: " ما ضر عثمان ما فعل بعد هذه ". ومن مناقبه أيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من جهز جيش العسرة فله الجنة ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من حفر بير رومة فله الجنة ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف أمته: " وأصدقهم حياء عثمان بن عفان ". ومبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عنه بضرب إحدى كفيه على الأخرى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وهذه عن عثمان في بيعة الرضوان لما غاب بإرساله صلى الله عليه وآله وسلم له إلى مكة رسولاً إلى قريش إذ لم يكن في الصحابة من له منعة في قومه مثله. ومنها حفظه القرآن، وكثرة تلاوته، وقيامه به في صلواته، وكثرة نسكه وعبادته، وإلى شيء من فضائله الجليلات أشرت حيث أقول في بعض القصيدات هذه الأبيات. وذي النور والبرهان والحلم والندى ... خشوع وللقرآن بالك يجمع قنوت الدياجي والعيون هواجع ... بلذة عيش بالتهجد مولع لقدمته يستحيي ملائكة السماء ... فما ضرذا لحم شريف مبضع وقلت في أخرى: والصائم القائم المحمود مشهده ... عثمان ذي النورين في قتله جاروا شرار قوم من الأرذال في دمه ... في مصحف ظل للفجار فجار سنة ست وثلاثين فيها وقعة الجمل والكلام فيها طويل وها أنا أشير منه إلى شيء يسير مما ذكره أهل

السير وتلخيص ذلك أنه لما قتل عثمان صبرا توجع له المسلمون، وسقط في أيدي جماعة، وكم بكى عليه من محزون، وسالت من بعده دماء الفتن كما تسيل ماء العيون. وصدق قول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي لمجد الفضائل سما: والله لو كان قتل عثمان حقاً لأمطرتكم السماء رحمة ولكنها أمطرتكم دماً وسار طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنها وعنهم نحو البصرة. قال بعض علماء السنة طالبين الثأر بدم عثمان، وكانت عائشة قد اعتمرت وهي راجعة إلى المدينة، فلما بلغها قتل عثمان رجعت إلى مكة، وأرادوا من ابن عمران يخرج معهم إلى العراق، فامتنع فلما خرجوا من مكة، جاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير، وقال على أيكما أسلم بالإمارة وأنادي بالصلاة؟ فسكتا فقال عبد الله بن الزبير: على أبي، وقال محمد بن طلحة: على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان أتريد أن ترمي الفتنة بيننا، او قالت بين أصحابنا مروا ابن أختي، فليصل بالناس. يعني عبد الله بن الزبير. وقال بعض المحققين من المتأخرين من أئمتنا خرجوا تغيباً عن الفتنة التي أبدت قرنيها من الشام ورجليها من العراق في ذلك الزمان. وذلك أن إمام الحق علياً كرم الله وجهه أرسل إلى أميري الشام والعراق معاوية وابن عامر يستدعيهما الطاعة والوصول إليه فلم يكن من معاوية إلا تجهيز جيوش الشام وجمع العساكر، وخرج أبو الحسن إلى جهة الكوفة وسارت جيوش العراق بين يديه، فالتقيا بعد وقعة الجمل، وكان من قدر الله في سفك دماء الفريقين ما كان. واعتذر عن ذلك أعلام أئمة السنة بأن معاوية كان طالباً أخذ الثأر من قتلة عثمان إذ كان له نسب في بني أمية وأن علياً لم يمكنه تسليمهم لأخذ الثأر منهم في أول خلافته قبل أن تقوى شوكة الهمة العلية. ثم وقعت وقعة الجمل بينه وبين طلحة والزبير ومن معهما، وذلك أنه رآهم خارجين عن طاعته، فاعترضهم من المدينة ليردهم من بعض الطرق، ففاتوه وسلموا من لزمه التعويق، فتقدموا حتى أتوا البصرة، واستعانوا منها ببيت المال ومن أهلها بالنصرة، وأرسل علي رضي الله عنه إذ فاتوا إلى المدينة يستدعي بالعدد والعدد طالباً بذلك الاستعانة على الحرب والمدد. عالماً بأن ما فعلوا ذلك إلا والخلاف منهم وقد اشتد، وأرسل ابنه الحسن إلى الكوفة مع ناصر الحق عمار. يستنفران من فيها رجاء المعونة والانتصار، ثم لما وصل إلى العراق ليردهم إلى طاعته خرج معه أهل الكوفة، وخرج معهم أهل البصرة، وحاول الصلح والرجوع إلى مبايعته، فلما عزموا عليه ثار الأشرار، ورموا بين

الفريقين النار، حين خافوا أن يصطلحوا ما يسوء الفجار، من إقامة الحدود، والأخذ لدم عثمان بالثأر. فأشعلوا نار الحرب بالليل. حتى التقى الرجالة والخيل. وجرى دماء الفريقين كالسيل. فكل من مد يده إلى خطام الجمل الذي عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راكبة لم يرجع إليه يده بل هي بضرب السيوف الماضيات ذاهبة وتقاتل الأقران. وتناشدوا عند ذلك الاشعار. وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة كلما قطعت يد أخذ الزمام آخر وهم ينشدون. نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذ الموت نزل والموت أشهس عنط نط مش العسل وكانوا من حزب عائشة وطلحة والزبير، وبلغت القتلى يومئذ ثلاثة وثلاثين ألفاً على ما ذكر أهل التوإريخ، ل ذلك وعائشة رضي الله عنها راكبة على الجمل، فأمر علي بعقر ذلك الجمل المسمى بعسكر، فخمل الشر عند ذلك وظهر علي رضي الله عنه وانتصر، ثم جاء علي إلى عائشة فقال: غفر الله لك فقالت: ولك، ملكت فاسجح فما أردت إلا الإصلاح فبلغ من الأمر ما ترى، فقال: غفر الله لك، فقال: ولك، ثم إنه أمر معها عشرين امرأة من ذوات الشرف والدين من أهل البصرة يمضين معها إلى المدينة، وأنزلها في دار وأكرمها، ثم سفرها إلى المدينة الشريفة وشيعها بأولاده وودعها. وقتل ذلك اليوم طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي أحد العشرة الكرام المشكورين في الأنام قيل رماه مروان بن الحكم، والله تعالى أعلم، مع أنه كان معهم ومن حزبهم لا من حزب علي رضي الله عنه، لكن قيل رماه من أجل ضغن كان في قلبه منه. ومن مناقبه أنه وقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده يوم أحد، وقول الذي صلى الله عليه وآله وسلم " أوجب طلحة " أي وجبت له الجنة لما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصخرة، وكونه من العشرة المشهود لهم بالجنة. وممن قتل ذلك اليوم محمد بن طلحة، كان فضله مشهوراً، وإليه يشير قائل بقوله: وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما يرى العين مسلم يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم الأبيات إلى قوله فخر صريعاً لليدين وللفم. وقتل الزبير بن العوام القرشي الأسدي حواري النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمته صفرة، وأول من سل سيفاً فى سبيل الله تعالى، الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم في قاتله في بعض الأخبار: " وبشروا قاتل ابن صفرة بالنار ". قتله ابن جرموز بوادي السباع

بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال طالباً للسلامة من الفتن، وما يترتب عليها من الآقات والداء العضال، فلحقه الشيطان المذكور في الوادي المذكور، وأوهمه أنه له مسائر فأمنه، ولم يشعر أنه غادر، فاستغفل الهزبر الذي كانت يكسر العساكر فقتله، وحد أمنه وأخذ سيفه ذلك التعيس الفاجر. ثم جاء إلى علي بسيفه ليبشره بزعمه بذلك، فبشره علي بالنار التي يشربها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتله الخاسر الشقي. فقال له التعيس عندها بطريق الحجاج لا التندم: يا ويلنا إن قاتلناكم ويا ويلنا إن قاتلناكم معكم فنحن في النار. وذكر بعضهم أنه لما نظر على سيف الزبير معه قال بعدما بشره بالنار: طالما فرج به الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: انا لله وإنا إليه راجعون إن قاتلناكم فنحن في النار وإن قاتلنالكم أو قال معكم فنحن في النار. فقال له علي: ويلك ذلك شيء سبق لابن صفرة فقال والله ما قتلته إلا لهواك ثم ولى مغضباً. ومن مناقب الزبير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لكل نبي حواري وحوايي الزبير " والحواري: الناصر، وقيل: الخاصة. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بشر قاتل ابن صفرة بالنار ". ومنها أنه ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأول من سل سيفاً في سبيل الله عز وجل. وكونه من العشرة المشهود لهم بالجنة. وله معارك مشهورة في اليرموك وغير مشهورة. وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه وقال والله إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من أهل هذه الآية: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرد متقابلين " - الحجر: 47 - قلت وما ينكر سعادة الجميع منهم، وغفران الله لهم، ما جرى بينهم إلا باغض ذو ابتداع، او جاهل ليس لهم بفضائلهم سماع. ومن جملة تلك الفضائل والمنحة قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: " أوجب طلحة " أي وجبت له الجنة كما تقدم، وقصته في رفعه له في الحديث مشهورة، وفعلته في وقايته له بيده عن ضرب السيف مشكورة، ولم يزل الفخر في شلل يد طلحة من تلك الوقاية فاخراً. والشرف في فعله ذلك بين الخلائق ظاهراً. ومما يؤيد تلك السعادة التي يخص الله بها من يحب، والكرامة التي يشرح بها الصدور، والقلوب تطرب، ما روي بالإسناد عن بعض الصالحين: انه خرج يوماً إلى ظاهر البصرة مع الولي الكبير العارف بالله الشهيد الشيخ أبي محمد المعروف بابن عبد الله البصري رضي الله عنه، ثم أتى إلى تربة طلحة بن عبيد الله المذكور زائر، قال: فلما رأى الشيخ أبو

سنة سبع وثلاثين

محمد القبر من بعيد رجع القهقرى، ثم بعد ذلك رجع، فأتى القبر وزار وهو مطرق متأدب. قال الراوي المذكور فلما خرج سألته عن ذلك فقال: لما أشرفت على قبره رأيته جالساً عليه حلة خضراء وتاج مكلل بالدرر والجواهر، وقال بالدر والياقوت الأحمر، وعنده حوريتان، فاستحييت، ورجعت لوجهي، فاقسم علي أن أرجع فرجعت إليه رحمة الله ورضوانه عليه. وممن قتل يوم الجمل زيد بن صوحان. وكان من سادة التابعين صواماً قواماً وجملة من قتل ذلك اليوم من الفريقين نحو من عشرة آلاف على ما نقله بعض العلماء الأعلام وهذا خلاف لما تقدم من الأعلام والله سبحانه الخبير العلام. وفي أول السنة المذكورة توفي حذيقة بن اليمان أحد الصحابة أهل النجدة والنجابة. الذي كان يعرف المؤمنين من المنافقين بالسر الذي خصه سيد المرسلين قال: كان الناس يتعلمون الخير من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت أتعلم منه الشر مخافة أن أقع فيه. وكذلك توفي فيها سلمان الفارسي وفضله مشهور مشكور، ومن ذلك الفضل الذي حكيت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلمان منا أهل البيت " وسيرته مشهورة في خروجه من بلاده في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما لاقى في ذلك، وقوة إيمانه وصدقه وحرصه على معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته له وغرسه له صلى الله عليه وآله وسلم بيده عوناً له في براءة ذمته، وما حصل في ذلك من يمنه صلى الله عليه وآله وسلم وظهور بركته. وتوفي أمير مصر عبد الله بن أبي سرح وهو من السابقين. سنة سبع وثلاثين وفيها وقعة صفين بين جيش على العراقيين، وجيش معاوية الشاميين، في شهر صفر. وقال الإمام أحمد في تاريخه في شهر ربيع الأول، ودامت أياماً وليالي، وقتل بين الفريقين على ما نقلوا ستون ألفاً. وروي عن ابن سيرين أنهم سبعون ألفاً منهم أبو اليقظان عمار بن ياسر العنسي رضي

الله عنه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تقتلك الفئة الباغية " وقتلوه أصحاب معاوية. وفي رواية ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية، وسمية أمه وويح كلمة معناها الترحم، وكان من أهل النجابة في سبيل الله، والصدق في دين الله، بمكانة حفيلة بعثه علي رضي الله عنه ومعه ابنه الحسن ليستغفر أهل الكوفة في حرب يوم الجمل كما تقدم، فاستنفراهم، وقال في خطبته والله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا الآّخرة، يعني عائشة رضي الله عنها، ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها، وعاتبه رجلان جليلان ممن توقف عن القتال لما التقى الفريقان في كلام معناه ما رأينا منكم قط شيئاً نكرهه سوى سراعك في هذا الأمر، يعني فى القتال مع علي، او نحو ذلك من المقال. وهذا مما يدل على أن المسلمين اختلف علمهم في ذلك، فالموافقون منهم اتضح لهم الحق مع علي فبايعوه، ومنهم من توهم أن الحق مع معاوية فبايعه، ومنهم من أشكال عليه الحال فتوقف، ومن المتوقفين سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد ومحمد بن سلمة وآخرون رضي الله عنهم، وكان عمار رضي الله عنه من السابقين المهاجرين من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وممن عذب في الله فلم يصده ذلك عن دين الله ومناقبه كثيرة جليلة شهيرة. وقتل مع علي أيضاً ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري ويقال إنه بدري. وأبو ليلى الأنصاري والد عبد الرحمن المعروف بابن أبي ليلى. ومن غير الصحابة عبيد الله بن عمر الخطاب رضي الله عنه العدوي، قتل مع معاوية وكان على جيل الشام يومئذ، ولما طعن والده سل سيفه، ووثب على الهرمزان صاحب تستر فقتله. قلت ويحتمل أن ذلك بسبب كون قاتل عمر له به تعلق، والله أعلم. وذكر أهل التواريخ أشياء أخرى في قتال صفين ما لا ينبغي أن يذكر، وقتل مع علي أيضاً: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المعروف بالمرقال والسيرحال راوية علي يومئذ، ويقال إنه من أصحابه. وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وكان على رجالة علي وأبو حسناء قيس بن المكشوح المرادي. احد الأبطال وأحد من أعان على قتل الأسود العنسي. وجندب بن زهير الغامدي الكوفي، ويقال له صحبة. وقيل وجد في قتلى أصحاب علي رضي الله عنه السيد الجليل العارف بالله الذي ملأ

فضله الآفاق، واشتهر دنوه صلى الله عليه وآله وسلم بفضله في البدو والحضر الولي الكبير المفضل على سائر التابعين من غير شك فيه ولأمراء بشهادة إمام المرسلين وسيد الورى صلى الله عليه وآله وسلم: اويس بن عامر اليمني المرادي. ومناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر ويكفيه من ذلك أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خير التابعين في صحيح مسلم وقد ذكرت شيئاً من فضائله في كتاب روض الرياحين وفيه وفي سائر من سقى شراب المحبة من الساسات قلت هذه الأبيات. سقى الله قوماً من شراب وداده ... فهاموا به ما بين باد وحاضر يظنهم الجهال جنوا وما بهم ... جنون سوى حب على القوم ظاهر سكارى عن الأكوان غابوا فما يرى ... سوى واله فى حب مولاه ذاكر يناجونه في ظلمة الليل عندما ... به قد خلوا منهم أويس بن عامر شهير يماني حوى المجد والعلى ... لنا فيه عالي الفجرعند التفاخر وقتل أيضا مع معاوية: حابس الطائي قاضي حمص وكان على رجالة معاوية، وقتل من أمراء معاوية ذو الكلاع الحميري نزيل حمص وهو أحد من شهد اليرموك وكان على ميمنة معاوية وكان من أعظم أصحابه خطر الشرفة ودينه وطلب منه معاوية أن يخطب الناس ويحضهم على القتال. قال الجوهري في الصحاح: ذو الكلاع بالفتح اسم ملك من ملوك اليمن وقال يزيد بن هارون: سمعت الجراح بن المباهل يقول: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، يعني تحت ملكه، فبعث إليه عمر، فقال: نشتري ونستعين بهم على عدوهم، فقال: لا هم أحرار. فأعتقهم في ساعة واحدة. قال بعض من له اطلاع على علم الحد يث: الجراح متروك الحد يث وكان جيش معاوية سبعين ألفاً، وجيش علي قيل مائة ألف وقيل تسعين وقيل خمسين ألفاً وذكر الزبير بن بكار أن جيش معاوية كان خمسة وثلاثين ومائة ألف وكان جيش علي عشرين أو ثلاثين ومائة ألف وأنشد في ذلك بعض أصحاب معاوية. فلو شهدت حمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوماً شاب منه الذوائب غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لجج موجه متراكب

وجئناهم نمشي كأن صفوفنا ... شهاب حريق رفعتها الجنائب فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... علياً فقلنا بل نرى أن تضاربوا فطارت إلينا بالرماح كماتهم ... وطرنا إليهم بالأكف قواضب إذانحن قلنا استهزموا عرضت لنا ... كتائب منهم وأزحجت كتائب فلاهم مولون الظهور فيدبروا ... فراراً كفعل الجاذرات الذرائب يعني بالذرايب الضواري: يقال ذرب على الشيء إذا تعوده. قال ابن شهاب فأنشدت عائشة رضي الله تعالى عنها أبياته هذه فقالت ما سمعت شاعراً أصدق شعراً منه. قال أهل التاريخ وصح عن أبي وائل عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنه قال رأيت كأن قبابا في رياض، فقيل هذه لعمار بن ياسر وأصحابه، فقلت: وكيف وقد قتل بعضهم بعضأ؟ قال انهم وجدوا الله واسع المغفرة. وممن قتل يومئذ مع معاوية أيضاً كريب بن صباح الحميري أحد الأبطال المذكورين، قتل جماعة بارزة، ثم بازرعلياً، فقتله علي رضي الله عنه. وذكر أن علياً واجه في بعض تلك المعارك معاوية فقال له علي: هلك المسلمون بيني وبينك، ابنزلي، فإذا قتل أحدنا صاحبه استراحوا من القتل والقتال، او كما قال، فسكت معاوية، ثم ذكر ذلك لوزيره عمرو بن العاص، فقال: انصفك الرجل. فقال له معاوية: ما أظنك إلا طمعت فيها قلت يعني إنك تعلم أني ما أنا له بمقاتلة، فإذا قتلني أخذ الخلافة بعدي. وقال بعض أصحاب التواريخ: بلغنا أن الأشعث بن قيس الكندي برز في ألفين وبرز أبو الأعور السلمي في خمسة آلاف، ثم اقتتلوا، فغلب الأشعث على الماء، وأزالهم عنه. التقى أصحاب علي وأصحاب معاوية يوم الأربعاء سابع صفر ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ثم لما خاف أهل الشام الكثرة رفعوا المصاحف بإشارة عمرو بن العاص، ودعوا إلى الحكم بما في كتاب الله، فأجاب علي رضي الله عنه إلى تحكيم الحكمين، فاختلفت عليه جيشه، وخرجت الخوارج، وقالوا لا حكم إلا لله وكفروا علياً ثم حاربهم. فقتل منهم جمعاً كثيراً. ورجع إليه منهم جمع كثير وبقي منهم على الخلاف جمع. ولهم قصص طويلة في القتال والمقال. اوضحتها في كتاب المرهم ففيه لذكرها مجال. وسيأتي ذكر شيء منها في سنة أربعين في ترجمة علي رضي الله عنه. وفي تحكيم الحكمين هو ما روي أنه اجتمع في رمضان أبو موسى الأشعري ومن معه

سنة ثمان وثلائين

من الوجوه وعمرو بن العاص ومن معه كذلك بدومة الجندل للتحكيم فخلى عمرو بأبى موسى وخدعه، وقال له: تكلم قبلي فأنت أفضل وأكبر سابقة، وأرى أن تخلع علياً ومعاوية، ويختار المسلمون لهم رجلاً يجتمعون عليه، فوافقه على هذا ولم يشعر يخدعه، فلما خرجا وتكلم أبو موسى وحكم بخلعهما قام عمرو بن العاص وقال: اما بعد فإن أبا موسى قد خلع علياً كما سمعتم، وقد وافقته على خلعه ووليت معاوية. وقيل إنهما اتفقا على أن يصعد أبو موسى على المنبر وينادي: يا معشر المسلمين اشهدوا علي أن قد خلعت علياً من الخلافة، كما خلعت خاتمي هذا. ففعل ذلك وأخرج خاتمه من اصبعه ورمى به إليهم، ثم صعد عمرو وأخرج خاتمه أولاً وقال أشهدوا علي أني قد أدخلت معاوية في الخلافة كما أدخلت خاتمي هذا في اصبعي، وأدخله في اصبعه. قالوا: ثم سار الشاميون، وقد بنوا على هذا الظاهر، ورجع أصحاب علي إلى الكوفة عارفين أن الذي فعله عمرو حيلة وخديعة لا يعبأ بها. سنة ثمان وثلائين في شعبان قتلت الخوارج عبد الله بن خباب، فيها كانت وقعة النهروان بين علي والخوارج، فقتل رأس الخوارج عبد الله بن وهب الشيباني، وقال بعضهم الراسبي، وقتل أكثر أصحابه، وقتل من أصحاب علي اثنا عشر رجلأ، ويقال كانت هذه الوقعة في العام القابل وتوفي صهيب بن سنان المعروف بالرومي في شوال بالمدينة الشريفة وكان من السابقين الأولين وسهل بن حنيف الأوسي في الكوفة وكان بدرياً ذا علم وعقل ورياسة وفضل صلى عليه علي رضي الله عنهم. وفيها قتل محمد بن أبي بكر الصديق، وكان قد سار إلى مصر واليا عليها لعلي وبعث معاوية عسكراً وأمرعليهم معاوية بن خديج الكندي، فالتقى هو ومحمد فانهزم عسكرمحمد، واختفى هو في بيت امرأة، فدلت عليه، فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن خديج قتلت ثمانين من قومي في دم عثمان، وأتركك وأنت صاحبه، فقتله وصيره في بطن حمار وأحرقه بالنار. يعني بقوله وأنت صاحبه: اي صاحب قتله اشارة إلى ما يقال

سنة تسع وثلاثين

إن محمد بن أبي بكر من جملة قتلته، والله أعلم ولا ينبغي آن يعتقد السوء في السلف إلاما صح، والصحيح يلتمس له محامل ومخارج، مع القطع بأن عثمان قتل شهيداً مظلوماً، ولم يكن له قاتل إلا رعاء اجتمعوا عليه وأراذل. وقال شعبة عن عمرو بن دينار إن عمراً هو الذي قتل محمد بن أبي بكر، قلت هكذا أطلق: عمراً. والله أعلم من أراد به عمرو بن العاص أم عمرو بن عثمان أم غيرهما. وفيها مات الأشتر النخعي، وكان قد بعثه علي أميراً على مصر، وهلك في الطريق، فيقال إنه سم، وإن عبد العثمان لقيه فسقاه عسلاً مسموماً، وكان الأشتر من الأبطال وكان سيد قومه وخطيبهم وفارسهم. وقد ذكر بعض إنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه قلت وقد قيل: ان دهاة العرب أربعة عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وعروة بن مسعود الثقفي والأشتر النخعي اسمه مالك بن الحارث وكأنهم يعنون بالدهاء الكيد والرأي والمكر. وقال في الصحاح الداهية الأمر العظيم والدهى بسكون الهاء، الفكر وجودة الرأي، يقال رجل داهية بين الدهى بسكون الهاء والدهاء ممدود والهمزة فيه منقلبة من الياء لا من الواو وهما دهيا وإن وما دهاك أي ما أصابك. سنة تسع وثلاثين فيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية بسرف في الموضع الذي بنى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه وذلك من الاتفاقات العجيبة وقبرها هنالك معروف بين مكة وبطن مر وفيها تنازع أصحاب علي وأصحاب معاوية رضي الله عنهما في إقامة الحج فمشى في الصلح أبو سعيد الخدري على أن يقيم الموسم شيبة بن عثمان الحجبي أي من أهل حجابة الكعبة. سنة أربعين فيها توفي خوات بن جبير الأنصاري البدري أحد الشجعان المذكورين وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري. نزل بماء، وقيل على ماء بدر، فقيل له البدري، وهو ممن شهد العقبة. وأبو أسيد الساعدي مالك بن ربيعة بدري مشهور، وقيل بقي إلى سنة ستين ومعيقيب الدوسي هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً على اختلاف. وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بالكوفة في ذي القعدة، وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً وله صحبة، ثم إنه ارتد، ثم أسلم فحسن إسلامه، وكان من أجل أمراء علي رضي الله عنه، وتزوج أخت أبي بكر الصديق، وأمر غلمانه أن ينحروا ويذبحوا ما وجدوا من

البهائم في شوارع المدينة، ففعلوا ذلك، فصاح الناس، وقالوا: ارتد الآشعث، اشرف عليهم من الدار، فقال: يا أيها الناس إني قد تزوجت عندكم ولو كنت في بلادي لأولمت وليمة مثلي ولكن قلت: اقتلوا ما حضر من هذه البهائم وكل من له منها شيءفليأتني أسلم له قيمته. وكان في أول الإسلام ممن هاجر من أهل اليمن في ثمانين رجلاً من قومه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عمرو بن معد يكرب الزبيدي من زبيد، رتدا معا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أسلما في أيام أبي بكر وحسن إسلامهما، وشهد المشاهد المشهورة بهما هكذا ذكر الإمام ابن سمرة في كتابه الموسوم بطبقات فقهاء اليمن وعيون من أخبار رؤساء الزمن. وفي السنة المذكورة استشهد أمير المؤمنين سامي المفاخر والمناقب أبو الحسن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ولا زالت نفحات رحمته واصلة إليه، وثب عليه أشقى من أجرم عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، فضربه في يافوخه بخنجر، فبقي يوما ثم قتل ابن ملجم وأحرق وما كان كفوءاً لشجاعة علي رضي الله عنه ولا عليه من ذوي الاقتدار لولا مساعدة الأقدار ولقد صدق فيه الذي قال: وما كنت من أنداده يا ابن ملجم ... ولولا قضاء ما أطقت له عينا وليس في الخلفاء الأربعة ولا في غيرهم من الصحابة من هو أقرب نسباً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواه، فإنه يجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عبد المطلب، بين كل واحد منهما وبينه أب واحد. فهو صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم الرسول وزوج البتول، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أول هاشمية ولدت الهاشمي، ويكنى أبا الحسن، وكناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا تراب لما وجده نائماً في المسجد وقد علق التراب بجسمه، فأيقظه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: " قم أبا تراب " ويلقب أيضاً حيدرة، كانت أمه قد أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة، فخلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قميصه وألبسه إياها وتولى دفنها، وقال: " كانت أحسن خلق الله صنيعاً إلي بعد أبي طالب "، وكان قتله رضي الله عنه صبيحة ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان وقد نيف على ستين. وقيل ابن ثلاث وستين. وقيل ثمان وخمسين، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفن في قصر الإمارة عند الجامع وغيب قبره، وكانت خلافته أربع سنين وأربعة أشهر وأياماً، وكان إسلامه وهو ابن ثمان سنين. وقيل تسع، وقيل غير ذلك.

ومن مناقبه رضي الله عنه: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يجب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " الحديث الصحيح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي " الحديث الصحيح، وفيه خلف رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، قال يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: " أما ترضى " الحديث. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". رواه الإمام أحمد. وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال له: ما منعك إن تسب أبا تراب؟ فقال: اما ما ذكرت ثلاث قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: وذكر ما تقدم من تخليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ". وقوله " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ". ولما نزلت هذه الآية " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " - آل عمران: 61 - دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: " اللهم هؤلاء أهلي ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وأقضاكم علي " ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم له لما بعثه إلى اليمن قاضياً، ففي رواية عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له فقال: " اللهم اهد قلبه ولسانه " فقال علي: فما شككت في قضاء قضيته بين اثنتين. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه له: " اللهم ادر الحق معه حيث دار " رواه الترمذي. قلت وناهيك بفضائله ما اشتهر به من براعته في الشجاعة والعلوم، واهتمامه بنصرة الحق، واظهار شعائر الإسلام على العموم، وفيه أقول في هذا المنظوم. ورابع السادة المولى أبو حسن ... سيف القضاء وبحر العلم زخار ومعدن الجود والدنيا مطلقها ... بتاً ثلاثاً فتى بالفضل مشهار قلت ومناقبه رضي الله عنه، وماله من المفاخر يخرج في التعداد عن حصر الحاضر، وإلى شيء من فضائله الشهيرات أشرت أيضاً في بعض القصيدات بهذه الأبيات.

ونائب وارث علم النبوة عن ... رسوله البدر ماحي الظلمة الجالي وحامل الراية البيضا لسنته ... الغراء والبدعة العوجا لها قالي وكاشف عن محيا كل غامضة ... خمارها المجتلي للحسن والحال وعاء مكنون أسرار مخدرة ... ذي المنهل المستطاب المشرب الحالي ان قيل من ذابلته قل أبوحسن ... عالي المعالي على الضيغم الكالي حازالثلاث التي سعد الرضي روى ... عن سيد الرسل لم يوصف بإرسال مع أنت مني يحب الله ثالثها ... أو لا في أهل ولا يؤتي بأمثال يكفيك في فضائله ما صح مسنده ... فنسجه العالي لم ينسج بأمثال من بعد تفضيلنا الشيخين معتقدي ... نفضله قبل في النورين في بال تفضيل صحب لعثمان عليه أتى ... حال البداية لا في طول آجال ففي النهاية كم حازت محاسنه ... فضائل كان عنها قبلها خال كالروض من بعد محل يانع خضر ... مذيح الوشى بسيفي ويل هطال هذا اعتقادي الذي ما شابه غرض ... ولا تعصب بدعات وإضلال والأكثرون من الأعلام مذهبهم ... تفضيل عثمان عن إطلاق إجمال ومال جمع كبار من أئمتنا ... إلى علي بترجيح وإجلال وفيها من التفاضل بعض قدوتنا ... توافقوا عن شكوك ذات اشكال فاروقهم مسند يروي توقفه ... في ستة في البخاري إسنادها عال والظاهر الآن عندي ما أقول به ... والله أعلم ما في باطن الحال إن الإمام شهيد الدار خاشعهم ... الناسك الجامع القرآن والتالي القانت المنفق الأموال حيث رضي ... مولاه مولى عفيفاً طاهر أذيال مجلل منه تستحيي ملائكة ... ذوحياء وحلم غير مذلال ليست فضائل ذي النورين مذكرة ... لكن كم قوم حاوى لفضل مفضال ليس الذي ينفق الأموال محتسباً ... في نصرة الدين سمحا فيه بالمال كباذل نفسه في الله محتسباً ... في كل هيجا جنود الكفر قتال كل حميد ولكن ليس جود فتى ... بالمال كالجود بالروح الزكي الغالي وليس تالي كتاب الله جامعه ... كناشر لمعالم دينه العالي وبعد هذه الأبيات قولي: ونائب وارث علم النبوة عن ... رسوله البدر ماحي الظلمة الجال الأبيات المتقدمة إلى قول بدعات وإضلال، لأني بديت من وسط أبيات القصيدة

الموسومة بحادي الأظغان في تفضيل علي على عثمان، رضي الله تعالى عنهما ومطلعها: يا سائق الظعن تحدوها بترحال ... ارفق بها أنت بين الشيخ والضال انزل بروض الحمى ما بين ذي سلم ... وبين سلع بقرب المنهل الحال واقرأ السلام على أهل الخيام وبح ... بحب سلما وباهي حسنها الغال وعم بالحب والمدح ولا تحب ... بعضاً وبعضاً مبغضاً قالي كل الصحابة سادات نجوم هدى ... من يخل عن حب كل عن هدى خال وأفضل الغر صديق سبوق عل ... وبعده المساجد الفاروق جاتال أما الإمامان رأس القوم بعدهما ... ففيهما من خلاف بعض أقوال وبعد هذه الأبيات ما تقدم من قولي، والأكثرون من الأعلام مذهبهم إلى آخر ما تقدم، ثم ختمت القصيدة بقوله: ثم الصلاة على أعلى الأنام علي ... المرتضى دون قاب المنصب العالي وآله الغر والصحب الكرام معاً ... ما غنت الورق أو ناحت بأطلال وقد أفهمت ترتيبها كل من أراد أن يكتبها كلها، جملتها خمسة وثلاثون بيتاً. وفي قتل علي رضي الله تعالى عنه قصة مشهورة، وذلك أن الخوارج اجتمعوا وقالوا: إن علياً ومعاوية وعمرو بن العاص قد أفسدوا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهم لعاد الأمر إلى حقه، وزال كل فساد لاحقه، فالتمسوا حيلة يتوصلون بها إلى قتلهم، ودبروا أمرهم بأن يكون قتل الثلاثة في ليلة واحدة، ثم تراجعوا في ثلاثة رجال ينتدبون لقتل الثلاثة، فقال عبد الرحمن بن ملجم: انا أقتل علياً، قالوا: وكيف لك بذلك؟ قال: اغتاله. وقال الحجاج بن عبد الله الضميري: وأنا أقتل معاوية. وقال دادويه العنبري: انا أقتل عمراً واتفقوا على أن يكون ذلك في سبع عشرة من رمضان فدخل ابن ملجم الكوفة وعلي رضي الله تعالى عنه بها، فاشترى سيفاً بألف درهم، وسقاه السم، وكمن لعلي رضي الله تعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه لصلاة الصبح ضربه على رأسه، وقيل كان ذلك في صلاة الجمعة. وأما الذي تكفل بقتل معاوية فدخل دمشق وضربه وهو في الصلاة فجرح إليته، ويقال إنه قطع عرق النسل فما أحبل بعدها. وأما رفيق عمرو بن العاص، فإنه دخل مصر وأراد قتله، وكان من قضاء الله في سلامة عمرو أنه استخلف خارجة بن حذافة في صلاة الصبح، وظن دادويه الخارجي أنه عمرو

فقتله، فأخذ وأدخل على عمرو بن العاص. فقال: من هذا الذي أدخلتموني عليه؟ فقالوا عمرو بن العاص. فقال: فمن قتلت؟ قالوا خارجة فقال: اردت عمراً وأراد الله خارجة. وقيل إن عمراً هو الذي قال ذا القول، فصار هذا مثلاً لمن أراد شيئاً ففعل غيره غلطاً، وذكر أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص أرسل من مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يستمده بثلاثة آلاف فارس، فأمده بالزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وخارجة بن حذافة المذكور، وذكر شجاعة الثلاثة مشهور، وهذا الذي قتل خارجة أعني دادويه على وزن خالويه، يل: هو من بني العنبر بن عمرو بن تميم وقيل مولى لهم. وقيل إن خارجة الذي قتله الخارجي على ظن أنه عمرو بن العاص، نه من بني سهم رهط عمرو بن العاص. وقيل ليس بصحيح، وقيل إن عمرو بن العاص إنما تخلف عن الصلاة واستنابه لأجل وجع أصابه في بطنه وكان عمرو يقول: ما نفعني وجع بطني قط إلا تلك الليلة، وإلى قتل خارجة وسلامة عمرو أشار عبد الحميد بن عبدون الأندلسي في قصيدة من جملتها هذا البيت: وليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بما شاءت من البشر وكان عمرو بن العاص من دهاة العرب وشجعانها. وأما شجاعة علي رضي الله عنه فشائعة في كل مصر وريف، ولا يحتاج في شهرتها إلى تعريف، وكم له من مشاهد يستوجب فيها عظيم الثناء وجميل المحامد عند اضطرام الملاحم وانتهام المعالم، فهو هزبر غاياتها وحبر غامضاتها صارف عن وغاها نارها وكاشف عن حلاها خمارها. قلت: وقد أوضحت في كتاب المرهم في علم الأصول كيفية صفة بيعة أبي بكر واستخلافه عمر، وصفة قتل عمر بطعن الشيطان أبي لؤلؤة له وهو إمام في صلاة الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله الأمر بعده شورى بين ستة عثمان، وعلي وطلحة - والزبير - وسعد - وعبد الرحمن بن عوف، رجوع الأمر إلى تقديم عثمان وصفة والبيعة له، وكذلك صفة البيعة لعلي بعد قتل عثمان، وكذلك صفة خروج عائشة رضي تعالى الله تعالى عنها وطلحة والزبير إلى البصرة، وخروج علي بعدهم، ونباح كلاب الحوأب وهمها بالرجوع عند ذلك لذكرها ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك على ما هو معروف في الحديث. وكذلك صفة خروج الخوارج على علي رضي الله تعالى عنه، وقتاله وقتله لهم بعد إرساله ابن عباس إليهم، ومناظرته إياهم، ورجوع الخوارج

ذكر شيء من قصة الخوارج

بعضهم، وذكر عددهم وها أنا أشير إلى شيء من ذلك. ذكر شيء من قصة الخوارج وما جرى بينهم وبين علي رضي الله تعالى عنه ذكر بعض أهل التواريخ أنهم لما استقروا في حروراء وهم في ستة آلاف مقاتل، وقيل ثمانية آلاف،، مضى إليهم علي بنفسه وخطبهم متوكئاً على قوسه، وقال هذا يوم من فلح فيه يعني من ظهرت حجته فلح يوم القيامة، انشدكم الله هل تعلمون أن لا أحد أكره مني للحكومة، قالوا: اللهم نعم: قال: فهل علمتم أنكم أكرهتموني عليها؟ قالوا: اللهم نعم: قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: اتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله تعالى منه، فتب أنت إليه منه واستغفر نعد إليك، قال: فإني أستغف الله من كل ذنب فرجعوا معه، فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالاً، فأتاه الأشعث بن قيس، وقال له: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا أنك، قد رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، وأنك قد بدا لك، ورجعت عنها، فخطب الناس وقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالاً فهو أضل منها، فلما سمعت الخوارج منه هذا خرجت من المسجد، فقيل إنهم خارجون، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون، فوجه إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فلما أتاهم رحبوا به وأكرموه، وقالوا ما جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: يا ابن عباس إنا أتينا ذنباً عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله تعالى، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا إليه، فقال لهم ابن عباس: انشدكم الله إلا ما صدقتم، اما علمتم أن الله تعالى أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم يصاد في الحرم؟ فقال عز من قائل: " يحكم به ذو عدل منكم هدياً بالغ الكعبة ". - المائدة: 95 - وكذا في شقاق رجل امرأته بقوله تعالى: " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " - النساء: 35 - فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين قريش في الحديبية؟ قالوا اللهم نعم ولكن علياً سما نفسه عن الخلافة بالتحكيم. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محا اسم النبوة يوم الصحيفة، فلم يزل ذلك عنه اسم النبوة، حيث قال لعلي: " اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال المشركون: لو علمنا أنك رسول الله

لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر علياً أن يمحوها، فقال غلي: والله لا أمحوها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرني مكانها "، فأراه مكانها، فمحاها، وكتب: ابن عبد الله فلما سمع الخوارج منه ذلك رجع منهم ألفان، وبقي أربعة آلاف أو ستة على الخلاف فأجمع رأيهم على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي، فبايعوه وخرج بهم إلى النهروان، فتبعهم علي رضي الله عنه، فأوقع بهم فقتل منهم ألفين وثمان مائة رجل. ومنهم ذو الثدية الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علامة على الفرقة التي تمرق مروق السهم من الرمية بعد أن قال لهم علي رضي الله عنه: ارجعوا أو ادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب قالوا: كلنا قتله وشرك في دمه: وذلك أنهم لما خرجوا إلى النهروان لقوا مسلماًونصرانياً فقتلوا المسلم وأطلقوا النصراني، وأوصوا به خيراً، وقالوا احفظوا وصية نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لقوا بعده عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول صلى الله عليه وآله وسلم أعني خباباً وفي عنقه المصحف ومعه جاريته وهي حامل، قالوا: ان هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك فقال: احيوا ما أحيا القرآن وأميتوا ما أمات القرآن. قلت. يعني أحيوا ما حكم القرآن بإحيائه وأميتوا ما حكم بإماتته فقالوا حدثنا عن أبيك قال لهم نعم حدثني أبي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول تكون فتنة بموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وفي عثمان قبل الحديث؟ فأثنى خيراً أيضاً قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: اقول: ان علياً أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه، قالوا: انك لست بمتبع الهدى، فأخذوه وقربوه إلى شاطىء النهر، فذبحوه فاندفق دمه على الماء يجري مستقيماً، وقتلوا جاريته رحمة الله عليهما، وكانت خلافة علي في الظاهر كلها خلاف وكدر، وخلافة عمر على عكس ذلك كلها اتفاق وصفاء، وأول خلافة أبي بكر كدر وآخرها صفاء، وعلى عكس ذلك خلافة عثمان أولها صفاء وآخرها كدر على ما جرى به القلم وسبق به القدر. ومن الأجوبة المعجبة المقحمة ما روي أنه قيل لعلي رضي الله عنه: ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية وخلافتك أنت وعثمان منكدرة؟ فقال: رضي الله عنه للسائل: لأني كنت أنا وعثمان من أعوان أبي بكر وعمر، وكنت أنت وأمثالك من أعوان عثمان وأعواني. ومنها أنه لما قال له بعض اليهود: ما أتي عليكم يا معشر المسلمين بعد موت نبيكم، إلا كذا وكذا من زمان ذكره، حتى علا بعضكم بالسيف رأس بعض. قال له علي رضي الله

سنة إحدى وأربعين

عنه: فإنكم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم معشر اليهود يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. ثم بعد وفاة علي بويع لابنه الحسن رضي الله عنهما، وتمت بخلافته ثلاثون سنة، وتحقق ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً " الحديث. سنة إحدى وأربعين في ربيع الآخر منها سار أمير المؤمنين الحسن بن علي في جيوشه، وسار معاوية في جيوشه، يقصد كل منهما صاحبه للقتال، فالتقوا في ناحية الأنبار فوفق الله تعالى الحسن لحقن الدماء. والتحقيق بما أشار إليه جده المطلع على الأنباء صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". فصالح معاوية، فأخرج نفسه عن أمر الخلافة بعد أن شرط عليه شروطاً، وبرز بين الصفين، وقال: اني قد اخترت ما عند الله وتركت هذا الأمر لك، فإن كان لي فقد تركته لله، وإن كان لك فما ينبغي لي أن أنازعك، فكبر الناس واختلطوا في تلك الساعة وسميت تلك السنة سنة الجماعة. فقيل له: يا مذل المؤمنين فقال: بل أنا معز المؤمنين. هكذا نقل بعض أهل العالم. وروينا في صحيح البخاري عن الحسن البصري قال: سمعت أبا موسى يقول: استقبل والله الحسن بن علي إلى معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: اني لأرى كتائب لا تتولى حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: وكان والله خير الرجلين، اي عمر وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور المسلمين من لي بنسائهم؟ من لي بضعفتهم؟ فبعث معاوية رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الله بن سمرة وعبد الله بن عامر، فقال: اذهبوا إلى هذا الرجل فاعرضوا عليه، وقولا له واطلبا إليه، فأتيا فدخلا عليه وتكلما، فقالا له وتطلبا إليه فقال الحسن بن علي: انا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا فإنه يعرض كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه. قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس تارة وعليه أخرى، ويقول: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". قلت فهذا الحديث الصحيح كما نرى. ورووا في التواريخ: ان أهل العراق بايعوا الحسن، وسار بهم نحو الشام وجعل على مقدمته قيس بن

سنة اثنتين وأربعين

سعد، وأقبل معاوية حتى نزل منبج، فبينما الحسن بالمداين إذ نادى مناد في عسكره: قتل قيس بن سعد، فشد الناس على خيمة الحسن فنهبوها، وطعنه رجل بخنجر، فتحول إلقصر الأبيض وسبهم وقال: لا خير فيكم قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا. ثم ذكروا أمورأ أخرى في الصلح رأيت حذفها أصلح ومن إثباتها أملح. وفي السنة المذكورة توفيت أم المؤمنين حفصة بنت عمر. وقيل توفيت سنه خمس وأربعين. وصفوان بن أمية الجمحي، وكان قد شهد اليرموك أميراً وله رواية في صحيح مسلم. فهو من أشراف قريش وأعيانهم قيل ملك قنطاراً من الذهب. وقيل توفي فيها لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أصلق كلمة قالتها العرب كلمة لبيد ألاكل شيء ما خلا الله باطل "، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن إسلامه. وقيل: مات في إمرة عثمان بالكوفة ابن مائة وخمسين سنة. سنة اثنتين وأربعين فيها توفي عثمان الحجبي، وغزا عبد الرحمن بن سمرة سجستان فافتتح بعضها، وسار راشد بن عمرو وشن الغارات وتوغل في بلاد السند. سنة ثلاث وأربعين فيها افتتح عقبة بن نافع بعض بلاد السودان، وسبي بسر بن أبي أرطأة بأرض الروم وتوفي عمرو بن العاص السهمي أمير مصر ليلة عيد الفطر، وكان من الدهاة أولي الحزم والرأي، وولي امرة جيش ذات السلاسل. وذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهم فقال: يا أبا عبد الله كنت أسمعك كثيراً ما تقول: وددت لو رأيت رجلاً حضرته الوفاة حتى أسأله عن ما يجد. فكيف تجد؟ قال: اجد كأن السماء مطبقة على الأرض، وكأني بينهما، وكأنما وأتنفس من خرم ابنة ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى، فدخل عليه ولده عبد الله فقال له: يا ولدي خذ ذلك الصندوق. فقال: لا حاجة لي به. فقال: انه مملوء مالاً. فقال: لا حاجة لي به، ليته مملوء بعراً، ثم رفع يده وقال: اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فارتكبنا فلا بري فاعتذر، ولا قوي فانتصر، ولكن لا إله إلا

سنة أربع وأربعين

أنت. ثم فاضت روحه. وتوفي عبد الله بن سلام الإسراتيلي رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والذي قالت فيه اليهود قبل أن تعلم إسلامه: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. والمرجوع إلى ما قال في أحكام التوراة. والمراد عند بعض المفسرين بقوله تعالى: " ومن عنده علم الكتاب " - الرعد: 43 -. وتوفي محمد بن مسلمة الأنصاري بالمدينة في صفر، وكان بدرياً اعتزل الفتنة، واتخذ سيفاً من خشب. سنة أربع وأربعين في ذي الحجة منها توفي أبو موسى الأشعري اليمني المقري الأمير عبد الله بن قيس. استعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدن، واستعمله عمر على الكوفة والبصرة، وفتحت على يديه عدة أمصار، وهو الذي استمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قراءته وقال: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي قومه الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " بعد أن وصفهم بأوصاف جميلة وأبو موسى المذكور ممن هاجر من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اثنين وخمسين رجلاً من قومه من أهل زمع وزبيد فوافى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، فقسم لهم ولم يقسم لأحد، لم يشهد الفتح غيرهم وغير أصحاب السفينة التي قدموا فيها مع جعفر بن أبي طالب، وكان أبو موسى قد ركب هو وأصحابه في البحر فألقتهم الريح إلى بلاد الحبشة، وكانوا مع جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين إلى أن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، فوجدوه قد افتتح خيبر، ووصف عمر أبا موسى فقال: كيس ووصفه علي فقال: صبغ بالعلم صبغة، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ومعاذاً إلى اليمن، ثم قال يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا. وفي السنة المذكورة افتتح عبد الرحمن بن سمرة مدينة كابل. وغزا المهلب في أرض الهند، والتقى العدو فهزمهم، وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله عنها. سنة خمس وأربعين وفيها غزا معاوية بن خديج إفريقية، وتوفي أبو خارجة بن ثابت الأنصاري المقري الفرضي الكاتب رضي الله عنه، وله ست وخمسون سنة، وكان عمر رضي الله عنه يستخلفه على المدينة إذا حج، وقيل بقي إلى سنة أربع وخمسين، ومن مناقبه قوله صلى الله عليه وآله

سنة ست وأربعي

وسلم: " أفرضكم زيد " وكونه من الأربعة الذين حفظوا القرآن من الأنصار، وما اجتمع له من شرف العلم والصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يأتي بابه وينتظره حتى يخرج ليسمع منه العلم، فإذا خرج قال: يا ابن عباس هلا كنت لتيك أنا فيقول: العلم يؤتى ولا يأتي فإذا ركب أخذ بركابه فيقول: ما هذا يا ابن عباس؟ فيقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فأخذ زيد كفه ويقبلها ويقول: هكذا أمرنا وعلى الجملة فزيد بن ثابت غصن مجده في أعلى ذروة المعالي نابت. وفيها توفي عاصم بني عدي سيد بني العجلان، وكان قد رده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر في شغل، وضرب له بسهم، وقتل أخوه معن يوم اليمامة. سنة ست وأربعي فيها ولي الربيع بن زياد الحارثي سجستان، زحف كابل شاه في جمع من الترك وغيرهم، فالتقوا فهزمهم وفيها توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان شريفاً جواداً محدوحاً مطاعاً، وعليه كان لواء معاوية يوم صفين. سنة سبع وأربعين فيها غزا رويفع بن ثابت الأنصاري أمراء طرابلس المغرب إفريقية، فدخلها ثم انصرف، وفيها حج بالناس عنبسة بن أبي سفيان. سنة ثمان وأربعين فيها استشهد عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، مات الحارث بن قيس الجعفي صاحب ابن مسعود رضي الله عنه. سنة تسع وأربعين في ربيع الأول منها توفي سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، رضي الله تعالى عنهما، على ما ذكره الواقدي وغيره. والأكثرون قالوا في سنة خمسين. ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد

وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين " وحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على عاتقه وهو صغير. وإعلامه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وأخاه ريحانتاه وقطعه صلى الله عليه وآله وسلم الخطبة، ونزوله إليهما، ورفعه لهما ووضعه بين يديه قلت ومن أعظمهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ". سنة خمسين فيها توفي الحسن بن علي المذكور رضي الله تعالى عنهما على الخلاف المذكور في المدينة الشريفة، وعمره سبع وأربعون سنة، قلت ومناقبه بالأنساب والاكتساب والقرابة والنجابة والمحاسن في الظاهر والباطن معروفة مشهورة، وفي تعدادها غير محصورة، وكان مع نهاية الشرف والارتفاع، في غاية التلطف والاتضاع، ومن ذلك ما روي أنه حج ماشياً على رجليه، والنجائب تقاد بين يديه خمساً وعشرين عمرة وحجة. ومن زهده ما روي أنه خرج لله تعالى، عن ماله ثلاث مرات، وشاطره مرتين حتى في نبله. ومن جوده أنه سأله إنسان فأعطاه خمسين ألف درهم وخمس مائة دينار وقال: ابيت بجمال يحمل لك فأتي بجمال، فأعطاه طيلسانه، قال يكون كراء الجمال من قبلي. ومن جوده أيضاً وشدة تواضعه: ما ذكره جماعة من العلماء في تصانيفهم أنه مر بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه، فنزل من فرسه فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم، وقال اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني وأنا نجد أكثر منه. ومن توكله ما روي أنه بلغه أن أبا ذر يقول الفقر أحب إلي من الغنا والسقم أحب من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يختر غير ما اختار الله له ويروى أيضاً أن هذا الكلام قول أخيه الحسين رضي الله تعالى عنهما. وفيها توفي عبد الرحمن بن سمرة بن جندب بن ربيعة العبسي، كعب بن مالك السلمي أحد الثلاثة الذين خلفوا، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وكان من رجال العزم والحزم والرأي والدهاء، ويقال: انه أحصن ثلاث مائة امرأة وقيل ألف امرأة. وفيها توفيت أم المؤمنين صفرة بنت حيي رضي الله عنها.

سنة إحدى وخمسين

سنة إحدى وخمسين فيها توفى سعيد بن زيد بالمدينة يعني سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي المجاب الدعوة في القصة المشهورة في المرأة التي ادعت عليه أنه غصب شيئاً من أرضها، احد العشرة الكرام المشهود لهم بالجنة على لسان سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، اسلم قبل عمر وهو ابن عمه وتحته أخته فاطمة بنت الخطاب، وبسببها كان إسلام عمر رضي الله عنه وعن الجميع، وضرب صلى الله عليه وآله وسلم له ولطلحة سهميهما يوم بدر، وكان قد أرسلهما إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار ذكر ذلك الواقدي. وفي السنة المذكورة وقيل في التي تليها توفي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، كان عقبياً بدرياً، كثير المناقب رضي الله عنه. قلت ومن أعظمها قدراً وأشرفها فخراً، انه نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته أول قدومه المدينة، وناهيك بها مكرمة ومنقبة معظمة. وفي منزله المذكور بنيت المدرسة المعروفة بالشهابية، وفيها بيت يقال له المبروكة، وبه يتبرك ويذكر أنه موضع مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبروك ناقته صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان من أعظم الدلائل على فضله وفضل من حوله من السكان: وفيها توفيت ميمونة، قلت هكذا قال بعضهم ميمونة وأطلق وقد تقدم وفاة ميمونة أم المؤمنين في، سنة سبع وثلاثين. وفيها قتل حجر بن عدي الكندي وأصحابه، يقال بأمر معاوية. وله صحبة ووفادة وجهاد، وعبادة وفيها توفي زيد بن ثابت بخلف. سنة اثنتين وخمسين فيها توفي عمران بن حصين الخزاعي، عثه عمر رضي الله عنهما يفقه أهل البصرة، وولي قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف ما قدم البصرة خير لهم من عمران، وكان يسمع تسليم الملائكة عليه حتى يكتوي بالنار، فانحبس ذلك عنه عاماً ثم أكرم الله تعالى برد ذلك عليه، وهو الراوي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المتوكلين: " الذين لا

سنة ثلاث وخمسين

يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ". وفيها توفي كعب بن عجرة الأنصاري من أهل بيعة الرضوان، ومعاوية بن خديج الكندي التجيبي الأمير، له صحبة ورواية وفيها توفي أبو بكرة الثقفي نفيع بن الحارث، وقيل: ابن مشروح تدلى من حصن الطائف ببكرة فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلماً، وفيها توفي سيد بجيلة جرير بن عبد الله البجلي على القول الأصح من كرام قومه. ومن مناقبه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: " اللهم اجعله هادياً مهدياً " وقوله ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم وندبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتخريب الكعبة اليمانية وهو بيت أصنام يقال له ذو الخلصة فخربها وحرقها حتى صارت كما قال: كأنها جمل أجرب يعني مطلياً بالقطران، وكان معه من جيل من أحمس مائة وخمسون، دعا لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في انتدابهم لما أمرهم به صلى الله عليه وآله وسلم عما حكاه بقوله وبرك على جيل أحمس خمس مرات، وكان جرير جميلاً باهج الحسن سماه عمر يوسف هذه الأمة، وكان يخضب لحيته بالزعفران، وقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ستة عشر، وأسلم وسكن الكوفة إلى خلافة علي رضي الله عنه، وكان طويلاً ونعله ذراع. سنة ثلاث وخمسين توفي فيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان من الزهاد الشجعان قتل يوم اليمامة سبعة، وفيها توفي الأمير زياد ابن أبيه الذي استلحقه معاوية وزعم أنه ولد أبي سفيان، قالوا: وكان لبيباً فاضلاً يضرب المثل بدهائه جمع له معاوية إمرة العراقين. وفيها وقيل قبلها توفي عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي، لي العمل على نجران وله سبع عشرة سنة. وفيها توفي فيروز الديلمي قاتل الأسود العنسي، له صحبة ورواية وفيها عند بعضهم توفي فضالة بن عبيد الأنصاري قاضي دمشق لمعاوية وخليفته عليها، وقيل توفي سنة تسع. سنة أربع وخمسين توفي فيها أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن حبه، ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمه أميراً على جيش، فيهم الأكابن والسادات من المهاجرين والأنصار، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

سنة خمس وخمسين

بحمص، وفيها توفي جبير بن مطعم بن عبد الله بن نوفل بن عبد مناف، وكان من سادة قريش وحلمائها، فيها توفي حسان بن ثابت الشاعر الأنصاري، وله مائة وعشرون سنة، نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، قيل: وكذا أبوه وجده عاش كل منهما هذا القدر. ومن مناقبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اهجم وجبرائيل معك " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يؤيد حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فاخر ". وكان ينصب المنبر له في المسجد، ومن شعره يخاطب أبا سفيان بن الحارث في قصيدة طويلة منها قوله شعراً: هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء اتهجوه ولست له بكفر ... فشر كما لخير كما فداء فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء ومنها: عدمنا خيلنا إن لم نراها ... تثير النقع موردها كداء يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء ولم يزل يقول إلى أن قال: وكان الفتح وانكشف الغطاء. وكان كما قال: وفيها توفي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد يخلف تقدم، وكان أحد الأشراف الأجواد، باع داراً بستين ألفاً من معاوية فتصدق بها، وأعتق مائة نسمة في الجاهلية ومائة في الإسلام، ثم دخل الكعبة المعظمة المباركة. وقال لابن الزبير: كم ترك أبوك من الدين؟ قال ألف ألف درهم قال علي. ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثيرالنقح من كنفي كداء صحيح مسلم نصفها وكانت والدته ولدته داخل الكعبة المعظمة المباركة وفيها توفي أبو قتادة الأنصاري السلمي الحارث بن ربيع فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شهد أحداً والمشاهد وفيها توفي مخرمة بن نوفل الزهري. سنة خمس وخمسين فيها توفي أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي أحد العشرة ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وأول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، ومناقبه كثيرة شهيرة.

سنة ست وخمسين

ومن مناقبه أنه كان مجاب الدعوة من ذلك قول الذي دعا عليه: اصابني دعوة سعد في الحديث الصحيح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " ليت رجلاً صالحاً يحرسني الليلة " فوفق الله تعالى سعداً لذلك، فجاء وبات يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك قبل نزول قوله تعالى: " والله يعصمك من الناس " - المائدة: 67 -. ومنها ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول " ارم فداك أبي وأمي ". وتوفي أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري السلمي الذي أسر العباس يوم بدر، وتوفي الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي أحد السابقين، وقيل توفي في سنة ثلاث وخمسين. سنة ست وخمسين فيها استشهد قثم بن العباس بن عبد المطلب في جهة سمرقند مع سعيد بن عثمان بن عفان المولى على خراسان بتولية معاوية بن أبي سفيان، وكان قثم يشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلق صورته، وهو آخر من طلع من لحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها توفيت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنها. سنة سبع وخمسين فيها عزل سعيد بن عثمان بن عفان عن خراسان، وأضيفت إلى عبد الله بن زياد، وتوفي عبد الله بن السعدي العمري، له صحبة وفيها وقيل في ثمان وخمسين وفي رمضان توفيت أم المؤمنين الصديقة ابنة الصديق الفقيهة المحدثة الفصيحة ذات التحقيق. ومن مناقبها نزول القرآن الكريم في براءتها، ونزول جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في لحافها، وكونها أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الأطعمة " وعرضها في الحرير على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتزوجها. وقوله صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة رضي الله عنها: " إن كنت تحبيني فأحبي هذه "

سنة ثمان وخمسين

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنها ابنة أبي بكر " يعني في فهمها وحسن نظرها، وقولها قبضه الله بين سحري ونحري، تعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومات صلى الله عليه وآله وسلم في يومها. وقوله صلى الله عليه وسلم لها: " إن جبرائيل يقرىء عليك السلام " ونزول آية التيمم عند انحباس الناس عن السفر بسببها لالتماس، عقدها حين ضاع، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكراً غيرها. وفيها آيات الكتاب المبين تتلى إلى يوم الدين، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض القصائد مخصصاً لابنة الصديق عائشة رضي الله تعالى عنهما، من صورة النور تعلو تلك الأنوار، ذات المحاسن الحميدة والمناقب العديدة، عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وتوفي أبو هريرة الدوسي الحافظ عند بعضهم، وعند جماعة في سنة ثمان، وعند آخرين في سنة تسع وخمسين، وكان كثير الذكر والعبادة حسن الأخلاق، ولي امرة المدينة في أيام معاوية، وتحمل يوماً حزمة حطب على ظهره، وقال طرقوا للأمير. وروي عنه أنه كان يصلي خلف علي رضي الله عنه، ويأكل من سماط معاوية ويعتزل القتال، فسأل عن ذلك وقال: الصلاة خلف علي أفضل، وسماط معاوية إذ سم وترك القتال أسلم، هكذا حكي عنه رضي الله عنه. سنة ثمان وخمسين توفي جبير بن مطعم عند بعضهم، وشداد بن أوس الأنصاري نزيل بيت المقدس وعقبة بن عامر الجهني الأمير بمصر لمعاوية، وكان مقرئاً فصيحاً مفوهاً من فقههاء الصحابة وعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وله صحبة ورواية، وكان أحد الأجواد، لي اليمن العلي رضي الله عنه. ومن جوده أنه كاده بعض الناس وأشاع عنه بأنه يدعو الناس إلى وليمة فحضر الناس وامتلأت داره فقال: ما الخبر؟ فأخبر أنه قيل إنك دعوتهم، فأمر غلمانه أن تهيؤوا طعاماً ويحضروه، فأحضروه، حتى تغدى جميع من حضر، ثم التفت إلى غلمانه وقال: ايمكن أن تهيؤوا لنا كل يوم مثل هذا؟ فقالوا: نعم فأمر أن ينادي في الناس أن يحضروا عنده كل يوم للغداء.

سنة تسع وخمسين

سنة تسع وخمسين توفي أبو محذورة الجمحي المؤذن، وله صحبة ورواية وفيها، وقيل في التي قبلها توفي شيبة بن عثمان الحجبي العبدري المتولي فتح الكعبة. وتوفي سعيد بن العاص التي ولي إمرة الكوفة لعثمان رضي الله عنه، وافتتح طبرستان، وكان ممدوحاً كريماً عاقلاً حليماً، اعتزل يوم الجمل وصفين. وتوفي أبو عبد الرحمن بن عامر بن كريز العبشمي أمير عثمان رضي الله عنهما. سنة ستين توفي معاوية بن أبي سفيان في رجب منها بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة، ولي الشام لعمر ولعثمان رضي الله عنه عشرين سنة، وولي الملك بعد علي رضي الله عنه عشرين سنة أخرى. وتوفي سمرة بن جندب الفزاري في أولها، وبلال بن الحارث المزني وعبد الله بن المغفل المزني من أهل بيعة الرضوان، وفيها أوفى ما قبلها أبو حميد الساعدي. سنة إحدى وستين استشهد فيها يوم عاشوراء ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبطه وسلالة النبوة مقر المحاسن والمناقب والفتوة أبو عبد الله الحسين بن علي بكربلاء، عمره خمس وستون سنة، وكان قد أنف من إمرة يزيد بن معاوية، فلم يبايعه وكان قد بايعه المسلمون كلهم إلا أربعة: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وهو رابعهم رضي الله عنهم، وجاءته كتب أهل الكوفة يحضونه على القدوم عليهم فاغتر، وسار في أهل بيته حتى بلغ كربلاء، فعرض له أعداء الله وقتلوه في قصة طويلة، وقتل معه ولداه علي الأكبر وعبد الله وإخوته جعفر ومحمد وعتيق والعباس الكبير. وابن أخيه قاسم بن الحسن. وأولاد عمه محمد وعون، وابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابناه عبد الله وعبد الرحمن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

قلت هذا ما نقل بعضهم على وجه الإجمال، وها أنا أذكر ما فصل بعضهم على وجه الاختصار، وحاصل ما ذكروا أن يزيد أرسل إلى الوليد بن عتبة أن يأخذ له البيعة على الناس، فأرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير ليلاً فأتى بهما، فقال: بايعا فقالا مثلنا لا يبايع سراً، ولكن نبايع على رؤوس الأشهاد إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلى مكة، وذلك لليليتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شهر شعبان ورمضان وشوال وفي القعدة، وخرج يوم التروية يريد الكوفة، فبعث عبيد الله بن زياد ابن أبيه خيلاً وأمرعليهم أميراً سموه من أولاد بعض الصحابة أكره ذكره فأدركه بكربلاء، وما زال عبيد الله بن زياد يزيد العساكر إلى أن بلغوا اثنين وعشرين الفاً، ووعد الأمير المذكور أن يملكه مدينة الري، فباع الفاسق الرشد بالغي وفيه يقول: أأترك ملك الري والري بغيتي ... وارجع مأثوماً بقتل حسين قلت ولو قال: أأترك ملك الري بل هو بغيتي ... وإن عدت مأثوماً يقتل حسين لكان هذا الإنشاد أدل على المراد، فضيق عليه الفاسق أشد تضييق، وسد بين يديه واضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة وقيل يوم السبت وقيل يوم الأحد، واتفقوا على أنه يوم عاشوراء بقرب الكوفة بموضع يقال له كربلاء، وعليه جبة خز بعد أن حموه عن الماء وفي ذلك يقول الشاعر. فدونك يا ماء العذيب تعرضت ... مياه رحيمات عن الوصل صدت حميت كما كان الحسين بكربلا ... عن الماء يحمي مثل حالته التي وقتل معه اثنان وثمانون من أصحابه مبارزة، ثم قتل جميع بنيه إلا علي بن الحسين المعروف بزين العابدين، فإنه كان مريضاً وأخذ أسيراً بعد قتل أبيه وقتل أكثر إخوة الحسين وأقاربه، وفيهم يقول القائل: عيني أبكي بعبرة وعويل ... أو اندبي إن ندبت آل رسول سبعة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا وستة لعقيل ورووا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه وجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة واختلفوا في قاتله رضي الله تعالى عنه اختلافاً كثيراً وذكر بعضهم أنه قتل معه من أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها سبعة عشر رجلاً.

وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلاً من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم شبيه، وقيل إنه قتل مع الحسين بن علي من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً غير من قتل منهم من غيرهم كما تقدم، وقيل إن ابن زياد كان قد بعث على الجيش أميراً وهو الحارث بن يزيد التميمي، لما حقت له الحقائق ورأى الأمر يؤول إلى ما آل تاب، وانحاز إلى فئة الحسين، وقاتل معهم حتى قتل، وجز رأس الحسين بعض الفجرة الفاسقين، وحمله إلى ابن زياد، ودخل به عليه وهو يقول: أقر ركابي فضة وذهباً ... أنا قتلت الملك الحمجبا قتلت خير الناس أماً وأباً ... وخيرهم إذ يذكرون النسبا فغضب ابن زياد من قوله، وقال: اذا علمت أنه كذلك فلم قتلته، والله لا نلت مني خيرا أبداً، ولألحقنك به، ثم قدمه فضرب عنقه، وقيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل. وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: اتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجعل في طست، فجعل ينكت فني فيه، وقال في حسنه شيئاً، قال أنس كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة قلت وهذا الفعل يدل على عظيم الزندقة والفجور. وذكر الإمام القرطبي في كتاب التذكرة عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف النهار أشعث أغبر ومعه قارورة فيها دم يلتقطه، قال: فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال " دم الحسين وأصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم "، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قتل في ذلك اليوم. وأخرج الإمام أحمد أيضاً في مسنده بسنده إلى أنس رضي الله عنه أن مالك المطر استأذن أن يأتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له، فقال لأم سلمة املكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: وجاءه الحسين ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى منكبيه وعلى عاتقه قال فقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم: اتحبه؟ قال: نعم قال أما أن أمتك ستقتله، وإن شئت لأريتك المكان الذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة، فصيرتها في خمارها. وقيل وضعتها في قارورة، فلما قرب وقت قتل الحسين نظرت في القارورة فإذا الطين قد

استحال دماً. ولما قتل الحسين وأصحابه سيقت حريمهم كما تساق الأسارى قاتل الله فاعل ذلك، وفيهن جمع من بنات الحسين، وبنات علي رضي الله عنهما، وعن الجميع ومعهن زين العابدين مريضاً. روي أنه لما قتل السادة الأخيار، مال الفجرة الأشرار إلى خيام الحريم المصؤنة، وهكتوا الأستار، فقال بعض من حضر: ويلكم إن لم تكونوا أتقياء في دينكم، فكونوا إحراراً في دنياكم، وذكروا مع ذلك ما يعظم من الزندقة والفجور؛ وهو أن عبيد الله بن زياد أمر أن يقور الرأس المشرف المكرم حتى ينصب في الرمح، فتحامى الناس عن ذلك، فقام من بين الناس رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤم المذموم، فقوره ونصبه بباب المسجد الجامع، وخطب خطبة لا يحل ذكرها. ثم دعا بزياد بن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين، ورؤوس اخوته وبنيه وأصحابه، ودعا بعلي بن الحسين، فحمله وحمل عماته وأخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء، والناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد ومنزل حتى قدموا دمشق، ودخلوا من باب توما، وأقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد، فأمر أن يجعل في طست من ذهب وجعل ينظر إليه ويقول مفتخراً بما إليه من الخزي نقل يؤول. صبرنا وكان الصبر منا عزيمة ... وأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما يعلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أغر وأظلما وأمر بالرأس أن يصاب بالشام، واختلف الناس أين حمل الرأس المكرم من البلاد وأين دفن، فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث إلى المدينة فأقدم عليه عدة من موالي بني هاشم، وضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان، ثم بعث ينتقل رأس الحسين ومن بقي من أهله، وجهزهم بكل شيء ولم يدع لهم حاجة إلا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمرو بن سعيد برأس الحسين رضوان. الله عليه فكفن ودفن في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها. قال: هذا أصح ما قيل فيه، وكذلك قال الزبير بن بكار وأن الرأس حمل إلى المدينة.

وما ذكر أنه نقل إلى عسقلان أو القاهرة لا يصح، وقد قتل الله تعالى قاتله صبرأ ولقي حزناً طويلاً وذعراً، ووضع رأس الخبيث المذمم حيث وضع رأس الحسين الطيب المكرم. وروى الترمذي بسنده إلى عمارة بن عمير قال: لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نصبت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليه وهم يقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حية يتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله، فمكثت هنية ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا قد جاءت قد جاءت فدخلت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. قال العلماء وذلك مكإفأة لفعله برأس الحسين رضي الله عنه، وهي من آيات العذاب الظاهرة عليه. قلت هذا تلخيص ما ذكروا في ذلك مختصرأ وأما حكم قاتل الحسين والأمر بقتله، فمن استحل منها قتله فهو كافر، وإن لم يستحل ففاسق فاجر، وكان الحسين رضي الله تعالى عنه يفرعن مبايعة معاوية فضلاً عن مبايعة يزيد. وقد ذكروا أنه لما حج معاوية، وأراد الرجوع إلى الشام، كلم الحسن أخاه الحسين رضي الله عنهما أن يذهبا إليه ويودعاه، فامتنع الحسين من ذلك، وذهب إليه الحسن وودعه، وأعطاه مالاً جزيلاً، وقد علم أنه صالحه على شروط وحقن دماء المسلمين، فتحقق بما أشار إليه سيد المرسلين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". وفي السنة المذكورة توفي حمزة بن عمرو الأسلمي وله صحبة ورواية، وكذلك أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية المعروفة بأم سلمة رضي الله عنها. وقيل توفيت سنة تسع وخمسين رضي الله عنها، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة. ومن مناقبها أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطبها فاعتذرت بأعذار كونها كبيرة السن وذلت أولاد وفيها الغيرة فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها أنه أيضاً كبير وذو أولاد. وأما المغيرة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا أدعو الله أن يذهبها عنك " وكانت امرأة عاقلة جميلة، امرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية أن ينحر ويحلق، وقالت له: اذا فعلت ذلك تابعك أصحابك. قالت له ذاك لما امتنعوا منه، ودخل عليها وهو

سنة اثنتين وستين

مغضب، لما فعل ما أشارت بادر الصحابة إلى فعل ذلك. ومن مناقبها أيضاً رؤيتها جبرائيل عليه السلام في صورة دحية الكلبي، المذكورات من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه التواريخ سبع، ولم أرهم تعرضوا لتاريخ موت اثنين منهن، وهما أم حبيبة وسودة رضي الله تعالى عنهما. سنة اثنتين وستين فيها توفي بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وله صحبة ورواية وكذلك على الأصح علقمة بن قيس النخعي الكوفي الفقيه صاحب ابن مسعود، وكان يشبهه في هدية ودله وسمته، وكان غير واحد من الصحابة يستفتونه. وتوفي أبو مسلم الخولاني بن مخلد السيد الجليل ذو المناقب والمحاسن في الظاهر واالباطن والكرامات العديدة والسيرة الحميدة اليمني من سادات التابعين لا يكاد يوجد له منهم نظير إلا نادراً جداً قليلاً، وقد اشتهر أن الأسود العنسي أمر بنار عظيمة، وألقى أبا مسلم فيها، فلم يضره، فنفاه لئلا يضطرب اتباعه ويحصل فيهم ارتياب، ويرجع بهم الشكل في أمره عن متابعته. وفد رضي الله عنه على أبي بكر مسلماً فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فعل به مثل ما فعل بابراهيم الخليل عليه السلام، وله كرامات أخرى منها أنه لما استبطأ السرية في بعض الغزوات بينما هو يصلي راكز رمحه جاء طير فوقع على رأس الرمح، وخاطبه مبشراً له أن السرية سالمة غانمة، وهي تقدم في وقت كذا وكذا، وكان الأمر كذلك. سنة ثلاث وستين فيها كانت وقعة الحرة: وذلك أن أهل المدينة خرجوا على يزيد لقلة دينه لحربهم

سنة أربع وستين

جيشاً أميره مسلم بن عقبة، فالتقوا بظاهر المدينة لثلاث بقين من ذي الحجه، فقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ما نيف على ثلاث مائة، وقتل من الصحابة معقل بن سنان الأشجعي وعبد الله بن خنظلة بن الغسيل الأنصاري وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وممن قتل يومئذ محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن أبي جهم بن حذيفة ومحمد بن أبي كعب ومعاذ بن الحارث أبو حليمة الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي التراويح بين الناس ويعقوب من نسل طلحة بن عبيد الله التيمي وكثير بن أفلح أحد كتاب المصاحف الذي أرسلها عثمان وأبوه أفلح مولى أبي أيوب. وفي السنة المذكورة توفي مسروق بن الأجدع الهمداني الفقيه العابد المشهور المحمود صاحب عبد الله بن مسعود، وكان يصلي حتى تورم قدماه، وحج فما نام إلا ساجداً. وعن الشعبي قال ما رأيت أطلب للعلم منه، كان أعلم بالفتوى من شريح. سنة أربع وستين في أولها هلك مسلم بن عقبة الذي استباح المدينة، عجل الله قصمه، والعجب أنه شهد الوقعة وهو مريض في محفة كأنه مجاهد في سبيل الله، وكذلك عجل الله تعالى يزيد بن معاوية فمات بعد نيف وسبعين يوماً منها، وله ثمان وثلاثون سنة، بايع له أبوه الناس في حياته، ويقال إنه قال له: قد أسست لك الأمر ومهدته، وبايعت لك الناس، ولم يبق منهم إلا أربعة: الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأما الحسين فاستوص به خيراً المكانة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما عبد الله بن عمر فقد وقذته العبادة، فليس له في الملك حاجة. وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمغرم بالنساء، فأرغبه في المال. وأما الذي يكمن لك ويثب عليك وثبة الأسد فكذا وكذا، وذكروا كلاماً معناه التحذير منه والتحريض على قتاله، والله أعلم بصحة ذلك. وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر، وعهد بالأمر من بعده إلى ابنه معاوية بن

سنة خمس وستين

يزيد، فبقي في الولاية شهرين آو أقل، ومات، وكان يذكر فيه الخير، عاش إحدى وعشرين سنة، ولما احتضر قالوا له ألا تستخلف؟ فامتنع وقال: لم أصب حلاوتها فلا أتحمل مرارتها، وقد تقدم أن عبد الله بن الزبير لم يبايع ليزيد، وكان قد آوى إلى مكة، فحاصره عسكر يزيد، فنصبوا المنجنيق على الكعبة ورموها بالأحجار وبالنار قيل ومما احترق بالنار فيها قرناً كبش إسماعيل عليه السلام. وقتل في الحصار بحجر المنجنيق المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري له صحبة ورواية وشرف، وجاء نعي يزيد، فترحل عسكره وبايع أهل الحرمين ابن الزبير، ثم أهل العراق وأهل اليمن وغيرهم، حتى كاد تجتمع الأمة عليه، وغلب على دمشق الضحاك بن قيس الفهري، في صحبته خلاف، فدعا إلى ابن الزبير، م تركه، ودعا إلى نفسه، وانحاز عنه مروان بن الحكم في بني أمية إلى أرض حوران، فوإفاهم عبيد الله بن زياد ابن أبيه من الكوفة منهزماً من أهلها، فوفى عزم مروان على طلب الملك الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم بعد الثلاثين وسموهم خلافة، فالتقى هو والضحاك بعد أن جرت قصة طويلة، فقتل الضحاك وقتل معه نحو ثلاثة آلاف، وانتصر مروان، سار أمير حمص يومئذ النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي لينصر الضحاك، فقتله أصحاب مروان. وفيها توفي بالطاعون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب، وقد كان جواداً حليماً، عين للخلافة بعد يزيد، وولي امرة المدينة غير مرة. وفيها توفي ربيعة الجرشي بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة وكان فقيه الناس في زمن معاوية. وفيها نقض أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الكعبة، وبناها على قواعد ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وأدخل الحجر في البيت، وكان قد تشقق أيضاً من المنجنيق واحترق سقفه. سنة خمس وستين فيها توجه مروان إلى مصر فتملكها، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز، ومهد قواعده،

سنة ست وستين

ثم عاد إلى دمشق ومات في رمضان، فعهد إلى ابنه عبد المللك بن مروان، وكان مروان من الفقهاء، وكان كاتب السر لابن عمه عثمان، وفيها ولي خراسان المهلب بن أبي صفرة لابن الزبير. وفيها خرج سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب الفزاري صاحب علي في أربعة آلاف يطلبون بدم الحسين، وكان مروان قد جهز ستين ألفاً مع عبيد الله بن زياد ليأخذ العراق، فالتقى مقدمة عبيد الله وعليهم شرحبيل بن ذي الكلاع هم وأولئك بالجزيرة، فانكسروا وقتل سليمان والمسيب وطائفة، وكان لسليمان صحبة ورواية رضي الله عنه. وفيها مات على الصحيح عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، وكان أصغر من أبيه بإحدى عشرة سنة، وكان دينا صالحاً كبير القدر ذا عبادة واجتهاد وورع، يلوم أباه على القيام في الفتنة. وفيها توفي الحارث بن عبد الله الهمداني الكوفي الأعور الفقيه صاحب علي وابن مسعود رضي الله عنهم وحديثه في السنن الأربعة. سنة ست وستين فيها توفي جابر بن سمرة السوائي بالكوفة، وقيل بل في سنة أربع وسبعين وأبوه صحابي أيضاً وزيد بن أرقم الأنصاري. وقيل في سنة ثمان وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع عشرة غزوة، وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، والذين قتلوا الحسين بن علي قاتلهم الله، وجهز المختار بن أبي عبيد جيشاً ضخماً مع ابراهيم بن الأشتر النخعي، وكانوا ثمانية آلاف لحرب عبيد الله بن زياد، وكانت وقعة الجارز بأرض الموصل، وقيل كانت في سبع وستين وصححه بعض المعتمدين، وكان ملحمة عظيمة. وفي السنة المذكورة قويت شوكة الخوارج واستولى نجدة الحروري على اليمامة والبحرين. سنة سبع وستين قيل كانت وقعة الجارز في المحرم وفيه الخلاف المقدم. وفيها حصل الاصطلام لعسكر أهل الشام وكانوا أربعين ألفاً ظفر بهم ابراهيم بن الأشتر، فقتلت امراؤهم عبيد الله بن

سنة ثمان وستين

زياد ابن أبيه وحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير رضي الله عنهما وشرحبيل بن ذي الكلاع، وقيل قتلوا في السنة التي قبلها، وبعث برؤوسهم فنصبت بمكة والمدينة. وفيها وقيل في التي قبلها توفي عدي بن حاتم الطائي رئيس طيىء وله مائة وعشرون سنة رضي الله عنه، ولما أسلم سنة سبع أكرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألقى إليه وسادة، وقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ". ولما تحقق عبد الله بن الزبير كذب المختار بن أبي عبيد الثقفي، بعث أخاه مصعب بن الزبير على العراق، فدخل البصرة وتاهب منها وسار على ميمنته المهلب بن أبي صفرة وعلى ميسرته عمرو بن عبد الله التيمي، فجهز المختار لحربهم جيشاً عليهم احمر بن شميط بالشين المعجمة والمثناة من تحت بين الميم والطاء المهملة وأبو عمرة كيسان، فهزمهم مصعب. وقتل احمر وكيسان، وقتل من عسكر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ابن أخت الصديق وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وقتل من جند المختار عمر الأكبر ابن علي بن أبي طالب، ثم ساق عسسكر مصعب بن الزبير فدخلوا الكوفة وحصروا المختار بقصر الإمارة أياماً إلى أن قتله الله تعالى في رمضان، وكان كذاباً يزعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه، وصفت العراق لمصب رحمة الله عليه. سنة ثمان وستين توفي فيها بحر العلوم. حبر الأمة على العموم، الذي دعا له صلى الله عليه وآله وسلم بالفقه والدين وعلم التأويل: عبد الله بن العباس الهاشمي الفقيه المحدث المفسمر البارع في العلوم، وكان وفاته رضي الله عنه بالطائف وله إحدى وسبعون سنة رضي الله عنه. ومن مناقبه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالفقه وعلم التأويل، وادخال عمر له مع المشايخ الكبار الجلة، وما تميز به من العلوم والفضائل والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد ذهب بصره في آخر عمره، فقال فيما نقل بعضهم عنه. إن يأخذ الله من عيني بنورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي زكي وذهني غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كارم كالسيف مطرور وفيها عزل ابن الزبير أخاه مصعباً، وولى ابنه حمزة، وفيها توفي أبو شريح الخزاعي وأبو واقد الليثي، وكان ممن شهد فتح مكة، وعاش بضعاً وسبعين سنة وفيها قتل عبد الله بن

سنة تسع وستين

عمر وزيد بن أرقم وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهم. سنة تسع وستين فيها كان طاعون الجارف بالبصرة وكان ثلاثة أيام مات في كل يوم نحو من سبعين ألفاً على ما رواه المدائني عمن أدرك ذلك. وروى غيره قال مات لأنس بن مالك رضي الله عنه في الجارف سبعون ابناً وقيل مات في طاعون الجارف عشرون ألف عروس، وأصبح الناس في اليوم الرابع، ولم يبق منهم إلا اليسير، وصعد ابن عامر يوم الجمعة وما في الجامع إلا سبعة ومن النساء امرأة فقال ما فعلت الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب أيها الأمير. وفيها قتل نجدة الحروري، تله أصحابه واختلفوا عليه، وقيل بل ظفروا به أصحاب ابن الزبير، قيل وفيها مات بطاعون الجارف قاضي البصرة أبو الأسود الديلي صاحب النحو انشاء وترتيباً بعد اشارة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتأسيسه رضي الله عنه على ما ذكر بعض أئمة النحو، وكان من سادات التابعين وأعيانهم، وقيل بل مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين، وهناك تبسط الكلام فيما يتعلق بترجمته مما هو من صفته. وفيها مات قبيصة بن جابر الأسدي، كان فصيحاً مفوهاً روى عبد الملك بن عمير عنه قال: قال لي عمر أراك شاباً فصيح اللسان فسيح الصدر وفيها أعاد ابن الزبير مصعباً على الفراق، وعزل ابنه حمزة بن عبد الله، فقصد هو وعبد الملك كل منهما الآخر، ثم فصل بينهما الشتاء فوثب على دمشق في غيبة عبد الملك عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق مريداً للغلافة، جاء عبد الملك وجرى بينهما قتال وحصار، ثم نزل إليه بالإيمان. سنة سبعين فيها قيل غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، وذبحه صبراً بعد أن آمنه وحلف له وجعله ولي عهده من بعده، وفيها توفي عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وكان مولده في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها مات ملك السكسك صاحب معاذ رضي الله عنه.

سنة إحدى وسبعين

وقال ابن جرير: وفيها ثارت الروم وقووا على المسلمين، فصالح عبد الملك بن مروان ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين، قيل: وهذا أول وهن دخل على الإسلام، وما ذاك إلا لاختلاف الكلمة ولكون الوقت فيه خليفتان يتنازعان الأمر، وما شاء الله كان. سنة إحدى وسبعين فيها توفي عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أحد من بايع تحت الشجرة وله روايات أحاديث في غير الكتب الستة. سنة اثنتين وسبعين فيها توفي البراء بن عازب أبو عمارة الأنصاري الحارثي، وكان من أقران ابن عمر استصغر يوم بدر، ومعبد بن خالد الجهني وكان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له حديث عن أبي بكررضي الله عنهم. وفيها على الصحيح عند الذهبي، وقال ابن خلكان في سبع وستين على الأشهر توفي أبو البحر الضحاك بن قيس التميمي المعروف بالأحنف أحد الأشراف ومن يضرب بحلمه المثل المتفق على جلالته بلا خلاف، كان من سادات التابعين، ادرك عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يصحبه وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف: لما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني تميم يدعوهم إلى الإسلام كان الأحنف فيهم، فلم يجيبوا إلى اتباعه، فقال الأحنف: انه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملاءئمها، أسلموا وأسلم الأحنف ولم يفد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان زمان عمر وفد عليه، قلت ما ذكره من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بني تميم يدعوهم إلى الإسلام يوهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم سافر إليهم، وهذا غير معروف، ومعروف أنه خرج إليهم بعد ما وفدوا عليه، وقالوا: يا محمد اخرج إلينا: فإن مدحنا زين وذمنا شين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ذلكم الله " الحديث وفي ذلك نزل قوله تعالى " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " - الحجرات: 4 - وكان الأحنف المذكور من جلة التابعين وأكابرهم سيد قومه موصوفاً بالعقل والدهاء والحلم، روى عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وروى عن الحسن البصري وأهل البصرة، وشهد مع علي رضي الله عنه وقعة صفين ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد من الفريقين، ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوماً فقال

له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزارة في قلبي إلى يوم القيامه. وقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف اك قاتلناك بها لفي أغمادنا، وإن تدن من الحرب فتدانونا منها شبراً، وإن تمش إليها نهرول نحوها، او قال إليها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء الحجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف فارس من بني تميم، لا يدرون فيهم غضب. وروي أن معاوية لما نصب ولده يزيد في ولاية العهد، اقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية: ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها. والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: اخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله خيراً عن الطاعة وأمر له بألوف، فلما خرج لقيه ذلك الرجل، فقال: يا أبا بحر إني لأعلم كذا وكذا وذم يزيد ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والاقفال فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال الأحنف: ان ذ الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجهياً، او قال: لا يكون له عند الله وجه. وقال الأحنف كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروة، من لزم شيئاً عرف به، قلت كلامه هذا من الحكمة الغريبة، وذمه كثرة الضحك مع تلقيه بالضحاك دليل على أنه لقب معروف يعرف به لا صفة متصف بها. وسئل عن الحلم ما هو؟ فقاك: العفو عن الذل مع الصبر، وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه. اني لأجد ما تجدون ولكني صبور، وقال: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري. قيل: وما بلغ من حلمه؟ قال: قتل ابن أخ له بعض بنيه فأتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، قال: ذعرتم الفتى: ثم أقبل عليه، وقال: يا بني بئس ما صنعت نقصت عددك وأوهنت عضدك وأشمت عدوك وأسأت بقومك. خلوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته فإنها غريبة. فانصرف القاتل، وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه، قلت وقيس هذا هو الذي قال الشاعر في مرثيته: شعراً. فما كان قيسى هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما وروي أنه دخل الأحنف بن قيس على أمير العراق في زمانه، وجلس معه على سريره، فغضب الأمير من ذلك، فقال الأحنف عجباً لمن يغسل القذرة بيده كل يوم مرتين، كيف

سنة ثلاث وسبعين

يتكبر؟! ومناقبه رحمه الله كثيرة أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر. وررى الحسن البصري أنه قال: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف. وقد يتوهم بعض الناس أن الأحنف بن قيس أخ الأشعث بن قيس، وهو غلط، فإن الأحنف من تميم، والأشعث كندي كما هو مشهور في ترجمة كل واحد منهما، وكل منهما شريف رئيس في قومه، ولكن الأحنف متميز بفضل الحلم وغيره من المحاسن الدينية. وفي السنة المذكورة توفي عبيدة السلماني المرادي الفقيه المفتي فيها على الصحيح تفقه بعلي وابن مسعود. قال الشعبي: كان يوازي شريحأ في القضاء: وفيها وقعة دير الجاثليق بالجيم ثم المثلثة بين الألف واللام ثم المثناة من تحت ثم القاف تجهز عبد الملك ومصعب كل منهما يطلب صاحبه، فالتقى الجمعان هناك، فخان مصعباً بعض جيشه ولحقوا بعبد الملك، وكان عبد الملك قد كتب إليهم يمنيهم ويعدهم حتى أفسدهم، وجعل مصعب كلما قال لمقدم من امرأته: تقدم. لا يطيعه، فاستظهر عبد الملك، ثم أرسل إلى مصعب يبذل له الأمان، فقال إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموطن إلا غالباً أو مغلوباً، ثم إنهم أثخنوه بالرمي، ثم شد عليه زياد بن عمرو - وكان من جيشه - فخانه وطعنه، وقال بالثارات المختار، وذهب إلى عبد الملك، وقتل مع مصعب ولداه عيسى وعروة، وإبراهيم بن الأشتر سيد النخع وفارسها ومسلمة بن عمر الباهلي، استولى عبد الملك على العراق وما يليها، فأقر أخاه بشراً على العراق، وبعث الأمراء على الأعمال، وجهز الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة لحرب بن الزبير، قلت وفي ولاية بشر المذكور ينشد البيت المشهور: تد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق سنة ثلاث وسبعين فيها توفي عوف بن مالك الأشجعي المشهور المشكور، وأبو سعيد بن العلاء الأنصاري، وله صحبة ورواية وربيعة بن عبد الله التميمي عم محمد بن المنكدر. وفيها نازل الحجاج ابن الزبير فحاصره، ونصب المنجنيق على أبي قبيس، ودام القتال أشهراً إلى أن قتل عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أمير المؤمنين فارس قريش وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وآله رسلم، وأول مولود ولد فى الإسلام بعد الهجرة،

وحنكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان اول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسماه عبد الله، وكان صواماً قواماً منطاقاً فصيحاً بطلاً شجاعاً. قيل: كان حجر المنجنيق يصيب ثوبه وهو ساجد فلا يرفع رأسه، ويأكل أكلة واحدة ما بين مكة والمدينة، ولما طال الحصار على أصحابه وتفرقوا عنه، دخل على أمه أسماء بنت الصديق رضي الله عنهم فأخبرها أن أصحابه قد تفرقوا عنه وأن خصومه قالوا له: ان شئت سلم نفسك لعبد الملك بن مروان يرى فيك رأيه ولك الأمان، واستشارها في ذلك، فقالت له: يا ولدي إن كنت قاتلت لغير الله فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قاتلت لله فلا تسلم نفسك لبني أمية يلعبون بك، فإن قلت: لم يبق معي معين على القتال، فلعمري إنك معذور، ولكن شأن الكرام أن يموتوا على ما عاشوا عليه، فخرج من عندها حينئذ إلى أن التقى جيوش عبد الملك في أعلى مكة فحمل عليهم. وقال رضوان الله تعالى عليه ولو كان قرني واحداً لكفيته فأجابه واحد منهم نعم وألفاً يا غلام، ولم يزل يقاتل إلى أن أصابه في رأسه رمية فراخ رأسه ووقع، فصاحت مولاة لآل الزبير واأميراه! فعرفوه، ولم يكونوا عرفوه في ذلك الحال لما عليه من لباس الحرب، فقصدوه في كل مكان، فقتلوه، قاتلهم الله ثم وقف عليه أميرهم الحجاج وأمير آخر معه، قال ذلك الأمير: ما ولدت بنات آدم أذكر من هذا الرجل يعني أفحل منه فقال له الحجاج: اتقول فيه هذا القول وقد خالف أمير المؤمنين وخرج عن طاعته؟ يعني عبد الملك بن مروان. فقال: ان هذا لا عذر لنا عند أمير المؤمنين، وإلا فما عذرنا في قتلنا له؟ اشهراً وهو يربي علينا فيها بالغلبة. قال الشيخ محيي الدين النواوي رحمة الله عليه في شرح مسلم فذهب لحل الحق: ان ابن الزبير كان مظلوماً، وإن الحجاج ورفقته كانوا خوارج عليه وروي أنه لما ولد كبر الصحابة، ولما قتل كبر أهل الشام، فقال ابن عمر: الذين كبروا على مولده خير من الذين كبروا على قتله، وكان قد ملك الحجاز واليمن والعراق. وقال الشيخ أبو إسحاق: بويع على الخلافة ولا يبايع على الخلافة إلا من كان فقيها " مجتهدا "، واستعمل ابن الزبير على اليمن الضحاك بن فيروز سنة ثم عزله، وولى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي على صنعاء، ثم استعمل جماعة واحداً بعد واحد. ولما قتله الحجاج صلبه بين القبور في موضع هناك معروف إلى الآن ببناء بني هناك علامة، ثم أرسل الحجاج إلى أمه أسماء بنت أبي بكر أعوانه، وقال لهم قبحه الله: هاتوها

فكلموها في أن تمشي معهم إليه، فأبت وقالت: ان كان أمركم أن تسحبوني فاسحبوني، فلما رجعوا إليه بغير مطلوبه لبس نعليه ومشى حتى جاءها، فقال لها: كيف رأيت ما صنعت با بنك؟ فقالت: يا مسكين أي شيء صنعت؟ افسدت عليه دنياه، وأفسد عليك أخرتك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أن في ثقيف كذاباً ومبيرأً " فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، تعني بقولها: رأيناه المختار بن أبي عبيد. والمراد بالمبير المهلك. يقال أباه الله أي أهلكه ويقال أيضاً رجل جائر بائر. قال في الصحاح: البور بضم الباء الموحدة: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قلت ومن هذا قوله تعالى " وكنتم قوماً بوراً " - الفتح: 120 - وقد اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا هو المختار بن أبي عبيد، والمبير هو الحجاج بن يوسف، وكان المختار المذكور شديد الكذب، يزعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه كما تقدم ذكر ذلك. وقتل مع ابن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي من رؤوس مكة، لما حج معاوية قدم له ابن صفوان المذكور ألفي شاة وقيل قتل معه بحجر المنجنيق عبد الله بن مطيع بن الأسد العدوي، وقتل معه أيضاً عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي ممن أسلم يوم الحديبية. وتوفيت أسماء بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير بعد مصاب ابنها بيسير، وهي في عشر المائة وهي من المهاجرات الأول، وتلقبت بذات النطاقين، وسبب ذلك معروف في الحديث، وهو أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شقت نطاقها نصفين، فربطت بأحدهما وعاء زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. وفي السنة المذكورة قوي سلطان عبد الملك بن مروان لقتل ابن الزبير وأنشد لسان حاله: خلا لك الجو فبيضي واصفري وولي الحجاج إمرة الحجاز، فنقض من الكعبة جهة الحجر، وأعادها إلى ما كانت عليه من بناء قريش، فسد بابها الغربي ورفع الشرقي وصيرها على ما هي عليه الآن، مخرجاً من الحجر ما جاء في الحديث أنه من البيت، وهو ستة أذرع أو ستة ونصف أو جميعه على اختلاف روايات وردت في الحديث الصحيح.

قلت هذا هو الصواب الذي ذكره العلماء أنه إنما نقض الحجاج من جهة الحجر خاصة، وأما قول الذهبي: فنقض الكعبة وأعادها إلى بنائها في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظاهره أنه نقض الكعبة كلها، وليس بصحيح. قلت وقد روي أن عبد الملك بن مروان لما حج طاف، وهو متكىء على كتف بعض من عنده معروف، جناء الكعبة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فقال: ما أظن أبا خبيب: يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما يزعم أنه سمع منها. فقال: انا سمعت ذلك منها، فقال سمعتها تقول ماذا قال، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي: " إن قومك استقصروا في النفقة، ولولا حدثان وروى حداثة عهد قومك بالكفر لأعدت البيت على ما كان عليه من زمن إبراهيم " قال فنكت عبد الملك بعود كان بيده في الأرض، وقال: وددت أني تركته وما تحمل، وكان قد كتب إليه الحجاج أن أبا خبيب قد أحدث في البيت، او قال في الكعبة ما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استأذنه في ردها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له في ذلك، وكان ابن الزبير قد استشار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء، لما توهن بناء قريش بما تقدم ذكره من الرمي بالمنجنيق، وقيل جمرت فطارت الشرور واحترق بعض خشبها فتوهنت، وأشار عليه أكثرهم أن لا يفعل ذلك ومنهم ابن عباس وغيره من كبارهم، وقالوا: تخشى أن يفعل ذلك كل من ولي الأمر فيما بعد، ويذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ونحو ذلك من المقال، وأشار عليه القليل منهم بنقضها، فلما عزم على ذلك خرجوا من مكة خشية أن ينزل بهم عقوبة بسبب ذلك، بعضهم خرج إلى الطائف، وبعضهم إلى منى، وأنكر العمال عن نقضها، فعلاها ابن الزبير بنفسه وأخذ في هدمها. قيل واستعمل في ذلك عبداً حبشياً دقيق الساقين بأن يكون ذلك هو ما جاء في الحديث من كونها " يهدمها ذو السويقين من الحبشة "، ولم يرجع من خرج من مكة إليها حتى أخذ في بنائها، وبعضهم حتى أكمل بناؤها، وكان أراد أن يجعل طينها من الورس، قيل له: انه لا يقيم ولا يستمسك البناء كالجص، فأرسل في جص فبعث به إليه من صنعاء اليمن. فلما فرع من بنائها قال من لي عليه طاعة فليخرج يعتمر شكراً لله عز وجل، فخرج في السابع والعشرين من رجب ماشياً، وخرج الناس معه فلم يروا يوم أكثرعتقاً ونحراً وذبحاً وصدقة من ذلك اليوم، قيل نحرهو فيه مائة من الإبل كل ذلك في جهة التنعيم وطرف الحل الذي يحرم منه للحمرة، ومن هاهنا صار كثير من الناس يعتمرون في اليوم المذكور من كل

سنة ولا بأس بذلك إذا سلم من بدع قد أحدثوها في هذه الأزمان من الأجتماع هنالك على وجه التنزه وخروج النسوان متزينات باللباس والحلي واختلاف الألوان، وقد أوضحت ذلك في " الدررالمستحسنة في استحباب العمرة في سائر السنة ". وأما سبب اخراج الحجرمن البيت في بناء قريش فإنه قصر ما عندهم من الحلال عن اكمال بنائها بادخال الحجر فيها، وذلك إن بناءها كان قد توهن في زمانهم فزموا علىنقضها وبناءها، فمنعتهم الحية المشهورة، وهي حية كانت تحرس البيت خمس مائة سنة، رأسها مثل رأس الجدي، وسببها أن أربعة من جرهم تسلقوا جدار الكعبة ليأخذوا ما يهدى إليها من الجواهرولم يكن لها سقف يومئذ فأصابتهم عقوبة في ذلك الوقت، بعضهم سقط فاندقت عنقه فمات، فبعث الله من يومئذ تلك الحية تمنع الناس من دخول الكعبة، لا تزال على بابها، فلما منعت قريشاً من نقضها اجتمع عقلاؤهم وقالوا: اللهم إنا لا نريد ببيتك إلا خيراً فان كانت الخيرة في ذلك فاصرف هذه الحية عنا، فانقض في ذلك الوقت طائر من الجو، فاحتملها ورمى بها في أجياد، ويقال إنه الدابة التي تخرج عند اقتراب الساعة والله أعلم بذلك. ثم إن قريشاً اجتمعوا وقالوا: لا ينبغي أن يبنى بيت الله إلا بالحلال فجمعوا ما عندهم من الحلال فلم يف بإكمالها على ما كانت عليه من زمن ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرجوا الحجر منها كما أشار إليه في الحديث. واختلفوا في الكعبة كم بنيت من مرة؟ فقيل: سبعاً وقيل: خمساً ومنشأ الخلاف هل بنيت قبل بناء ابراهيم أم هو أول من بنائها؟ واحتج للقول الأول بما روي أنه لما حج آدم صلى الله عليه وآله وسلم قالت الملائكة عليهم السلام: حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وللقول الثاني بظاهرالقرآن وما ورد أن ابراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام: ان الله قد أمرني أن أبني له بيتاً فهل أنت معين لي على ذلك؟ فقال: نعم، او كما قال: وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قلت قد أطلت الكلام في بيان ما يتعلق ببناء الكعبة لاستشراف كثير من الناس إلى معرفة ذلك، ولم أرالاقتصارعلى ما ذكروا في التاريخ من قولهم بناها ابن الزبير وهدمها الحجاج، ولم أرلهم زيادة على هذا وهذا الذي ذكرته اعتمادي في إملائه على ما في ذهني مما رويناه في كتاب الأزرقي وغيره عمن بالعلم تقدم، والله سبحانه بكل شيء عليم، رجعنا إلى ذكر أن الزبير قتل في جمادى الأولى نيف برأسه في مصر وغيرها. بنيت قبل بناء ابراهيم أم هو أول من بنائها؟ واحتج للقول الأول بما روي أنه لما حج آدم صلى الله عليه وآله وسلم قالت الملائكة عليهم السلام: حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وللقول الثاني بظاهرالقرآن وما ورد أن ابراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام: ان الله قد أمرني أن أبني له بيتاً فهل أنت معين لي على ذلك؟ فقال: نعم، او كما قال: وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قلت قد أطلت الكلام في بيان ما يتعلق ببناء الكعبة لاستشراف كثير من الناس إلى معرفة ذلك، ولم أرالاقتصارعلى ما ذكروا في التاريخ من قولهم بناها ابن الزبير وهدمها الحجاج، ولم أرلهم زيادة على هذا وهذا الذي ذكرته اعتمادي في إملائه على ما في ذهني مما رويناه في كتاب الأزرقي وغيره عمن بالعلم تقدم، والله سبحانه بكل شيء عليم، رجعنا إلى ذكر أن الزبير قتل في جمادى الأولى نيف برأسه في مصر وغيرها.

سنة أربع وسبعين

سنة أربع وسبعين فيها توفي السيد الجليل، الفقيه المحدث، القدوة ذو الأوصاف الملاح، الذي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاح، ابو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي رضي الله عنهما، وكان قد عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود علي وكبار من الصحابة رضي الله عنهم. ومن مناقبه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أرى عبد الله رجلاً صالحاً والصالح هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل " ثم لما سمع ذلك واظب على الصلاة بالليل ومنها محافظته على اتباع السنة وكثرة تعبده حتى روي أنه اعتمر أكثر من ألف عمرة ولما حضرته الوفاة أمرهم أن يدفنوه ليلاً، ولا يعلم الحجاج لئلا يصلي عليه قال الأزرقي في تاريخ مكة قبره في ذات اذخر يعني فوق القرية التي يقال لها المعايدة وبعض الناس يزعم أنه في الجبل الذي فوق البستان قريباً من السور على يمين الخارج من مكة، متوجهاً إلى المحصب، هو خلاف قول الأزرقي المذكور. قال الإمام المهذب سعيد بن المسيب يوم مات ابن عمر رضي الله عنهما: ما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه. وقوله ابن المسيب: هذا نحو ما قال علي في عمر يوم مات، وقال أبو داود مات ابن عمر بمكة أيام الموسم، يعني سنة ثلاث وسبعين. وتوفي بعده أبو سعيد الخدري وهو سعد بن مالك الأنصاري، وكان من فقهاء الصحابة وأعيانهم، شهد الخندق وبيعة الرضوان وغير ذلك. وسلمة بن الأكوع الأسلمي، كان بطلاً شجاعاً رامياً يسبق الفرس شدا، وله مشاهد محمودة، وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت يوم الحديبية وأبو جحيفة السوائي وقيل تأخر إلى بعد الثمانين. وتوفي محمد بن حاطب بن الحارث الجمحي وله صحبة ورواية، وهو أول من دعى

سنة خمس وسبعين

محمداً في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفي رافع بن حديج الأنصاري، اصابه يوم أحد سهم فنزعه، وبقي النصل في جسمه إلى أن مات، وعاصم بن حمزة السلولي، وفي مالك بن عامر الأصبحي جد الإمام مالك، وتوفي عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي بالمدينة، وكان كثير الحديث والفتيا، وتوفي عبد الله بن عمر الليثي رضي الله عنهم. سنة خمس وسبعين فيها حج عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعزل الحجاج عن الحجاز، وأمره على العراق. وفيها توفي العرباض بن سارية السلمي وأبو ثعلبة الخشني وعمرو بن ميمون الأودي قدم مع معاذ من اليمن فنزل الكوفة، وكان قانتاً صالحاً لله قال بعض الأئمة حج مائة حجة وعمرة وكان إذا رؤي ذكر الله، والأسود بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه العابد، وورد أنه كان يصلي في اليوم والليلة سبع مائة ركعة، وهو الذي استسقى به معاوية بن أبي سفيان فقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا الأسود بن يزيد. ثم قال: ارفع يديك. فرفع يديه فدعا، فسقوا وتوفي بشر بن مروان الأموي أمير العراقين بعد مصعب، وسليم التجيبي قاضي مصر وناسكها. سنة ست وسبعين فيها وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي ابن عم المختار لحرب شبيب بن قيس الخارجي الشيباني، وكان خروجه في ولاية عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف يومئذ مولىعليها، فاستظهر شبيب وقتل زائدة، واستفحل أمره وهزم العساكر مرات. سنة سبع وسبعين فيها بعث الحجاج لحرب شببب عتاب بن ورقاء الرياحي بالموحدة والحاء المهملة، فالتقى شبيباً بسواد الكوفة، فقتل أيضا عتاباً وهزم جيشه، فجهز الحجاج لقتاله الحارث بن معاوية الثقفي فقتل أيضاً الحارث بن معاوية، فوجه الحجاج أبا الورد البصري فقتل أيضاً فوجه طهمان مولى عثمان فقتل أيضاً، ففرق الحجاج وسار بنفسه، فالتقوا واشتد القتال،

وتكاثروا على شبيب فانهزم فقتلت غزالة امرأة شبيب، ونجا هو بنفسه في فوارس من أصحابه، وكانت بحيث يضرب بشجاعتها المثل وكانت نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيها سورة البقرة وآل عمران، فأتوا الجامع في سبعين رجلاًِ، فصلت فيه وخرجت عن نذرها، وحجز بينهم الليل، وسار شبيب إلى ناحية الأهواز وبها محمد بن موسى بن علي التيمي، فخرج لقتال شبيب، ثم بارزه فقتله شبيب، وسار إلى كرمان فتقوى ورجع إلى الأهواز فبعث الحجاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فالتقوا واشتد القتال حتى حجز بينهم الظلام. ثم ذهب شبيب وعبر على جسر دجيل، لما سار على الجسر قطع به فغرق، وقيل: بل نفر به فرسه، وعليه الحديد الثقيل، من درع ومغفر وغيرهما فألقاه في الماء، فقال له بعض أصحابه: اغرقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم. فألقاه دجيل ميتاً في ساحله، فحمل على البريد إلى الحجاج، فأمر بشق بطنه، فاستخرج قلبه فإذا هو كالحجر إذا ضرب به الأرض بناء عليها، فشق فإذا في داخله قلب صغير، كالكرة الصغيرة، فشق أيضاً فوجد في داخله علقة دم، ولما غرق أحضر إلى عبد الملك بن عتبان، فقال له: الست القائل يا عدو الله: فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فقال لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: فمنا حصين والبطين وقنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فاستحسن قوله وأمر بتخلية سبيله، وكان إليه المنتهى في الشجاعة والبأس وأكثر ما يكون في مائتي نفس من الخوارج فيهزمون الألوف. وفيها غزا عبد الملك بنفسه، فدخل في الروم وافتتح مدينة هرقلة قلت وسيأتي أيضاً أنها فتحت في خلافة بني العباس، ويحتمل أن الكفار ملكوها بعد هذا ثم فتحت ثانية في الدولة العباسية. وفي السنة المذكورة توفي أبو تميم الجيشاني، قرأ القرآن على معاذ، وكان من عباد مصر وعلمائهم.

سنة ثمان وسبعين

سنة ثمان وسبعين فيها ولي خراسان المهلب بن أبي صفرة، وتوفي جابر بن عبد الله السلمي الأنصاري، وهو آخر من مات من أهل العقبة، وعاش أربعاً وتسعين سنة، وكان كثير العلم ومن أهل بيعة الرضوان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استشهد أبوه يوم أحد " مازلت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ". وفيها على الأصح توفي زيد بن خالد الجهني من مشاهيرالصحابة، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، كان قد بعثه عمر يفقه الناس، وكان من رؤوس التابعين. وفيها وقيل في سنة ثمانين توفي أبو أمية شريح بن الحارث الكندي القاضي، ولي قضاء الكوفة لعمر فمن بعده وعاش أكثر من مائة سنة، وولي القضاء خمساً وسبعين سنة، واستعفى من القضاء قبل موته بعام فأعفاه الحجاج، وكان فقيهاً شاعراً محسناًَ صاحب مزاح، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء، ومعرفة وعقل وإصابة، وهو أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير - وقيسى بن سعد بن عبادة - والأحنف بن قيس الكندي الذي يضرب به المثل في الحلم والقاضي شريح المذكور والأطلس: الذي شعر في وجهه. وحكي عن بعض أصحاب قيس بن سعد أنه قال: لو كانت اللحى تشترى بالدراهم، او قال بالدنانير، او كما قال، لاشترينا لقيس بن سعد لحية. ومن مزاح شريح المذكور: انه دخل عليه عدي بن أرطأة، فقال له: اين أنت أصلحك الله؟ قال بينك وبين الحائط، قال اسمع مني، قال قل أسمع، قال: اني رجل من أهل الشام قال: مكان سحيق، قال: وتزوجت عندكم قال بالرفاء والبنين، قال وأردت أن أرحلها قال الرجل أحق بأهلها، قال وشرطت لها دارها قال: الشرط لها دارها، او قال: المؤمنون عند شروطهم، قال: فاحكم الآن بيننا قال قد فعلت، من حكمت قال فعلى ابن أمك، قال بشهادة من قال، بشهادة ابن أخت خالتك.

سنة تسع وسبعين

وحكي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل مع خصم ذمي الى القاضي شريح، فقام له فقال: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره الى الجدار وقال لو أن خصمي كان مسلماً لجلست بجنبه. وروي عنه ايضاً كرم الله وجهه أنه قال: اجمعوا إلي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: اني أوشك أن أفارقكم، فجعل يسألهم ما تقولون في كذا؟ وشريح ساكت، ثم سأله، فلما فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس أو قال: من أفضل العرب، وتزوج شريح امرأة من تميم تسمىزينب، فنقم عليها شيئاً فضربها ثم ندم وقال: رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني لو أضرب زينبا أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل في ضرب من ليس مذنبا وزينب شمس والنساء كواكب ... اذا طلعت لم تبصر العين كوكبا ذكر الحكاية صاحب العقد. ويحكى أن زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية: يا أمير المؤمنين إني قد ضبطت العراق لشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر وكان بمكة مقيماً فقال: اللهم اشغل يمين زياد، فأصابه الطاعون، او قال الآكلة في يمينه فجمع الأطباء واستشارهم فأشارواعليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحاً المذكور وعرض عليه ما أشار به الأطباء فقال له: لك أجل معلوم ورزق مقسوم وإني لأكره إن كان لك مدة أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وان كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها قلت بغضاً في لقائكك وفراراً من قضائك. قلت يعني قال له لسان حالك، ويحتمل أنه لسان المقال اذا ختم على الأفواه يوم الخزي والنكال، نسأل الله الكريم العفو والسلامة ونعوذ به من الخزي والندامة. قالوا ومات زياد من يومه، فلام الناس شريحاً على منعه من القطع لبغضهم في زياد، فقال: انه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطعت يده يوماً ورجله وما وسائر جسده يوماً وفي السنة المذكورة قتل أبو المقدام شريح، ابن هاني المدلجي صاحب علي وله مائة وعشرون سنة. سنة تسع وسبعين فيها وقيل في التي قبلها قتل رأس الخوارج قطري بن فجأة التميمي، ثر به فرسه فأهلك، وأتي الحجاج برأسه، وكان الحجاج يستنفر جيشاً بعد جيش وهو يستظهر عليهم،

سنة ثمانين

وكان المباشرلقتله سوادة وقيل سودة بن أبجر الدارمي، وكان رجلاً شجاعاً مقداماً كثير الحروب والوقائع قوي النفس لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطباً نفسه. أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لا تراعي فانك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبراً من مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع سبيل الموت غاية كل حي ... وداعيه لأهل الأرض داعي مع أبيات أخرى وهو معدود في جملة خطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة. وتوفي عبيد الله بن أبي بكرة، وكان قد بعثه الحجاج أميراً على سجستان في العام الماضي، وكان جواد ممدوحاً يعتق في كل عيد مائة عبيد. وفيها مات عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، رحمه الله تعالى. سنة ثمانين فيها بعث الحجاج على سجستان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، فلما استقربها خلع الحجاج وخرج، ثم كانت بينهما حروب يطول شرحها، وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وهو أحد من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغره من بني هاشم، ولد بالحبشة، ويقال لم يكن أحد في الإسلام في جوده، وسخائه، وكان يسمى الجواد. ومن فضائله ومكارمه قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما روي في الصحيح أنه قال لابن الزبير: اتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأنت وابن عباس؟ قال: نعم. فحملنا وتركك. وفيها مات أبو ادريس الخولاني عائذ الله بن عبد الله فقيه أهل الشام وقاضيهم، سمع من أبي الدرداء وطبقته، وقال عمر بن عبد البر سماع أبي إدريس عندنا من معاذ صحيح.

سنة إحدى وثمانين

وفيها مات أسلم مولى عمرو كان فقيهاً نبيلاً، وفيها مات أبو عبد الرحمن جبير بن نفير الحضرمي، عبد الرحمن بن عبد القاري، وفيها صلب عبد الملك معبد الجهني في القدر، وقيل بل عذبه الحجاج بأنواع العذاب، وقتله. وفيها توفي ملك عرب الشام حسان بن النعمان بن المنذر الغاني غازياً للروم، وحاصر المهلب بن أبي صفرة بلاد العجم. سنة إحدى وثمانين فيها قام مع ابن الأشعث عامة أهل البصرة من العلماء والعباد، فاجتمع له جيش عظيم، والتقوا عسكر الحجاج يوم الأضحى فانكشف عسكر الحجاج وانهزم هو، وتمت بينهم عدة وقعات حتى قيل كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، ثلاث وثمانون على الحجاج والآخرة كانت له. وفيها وقيل في التي بعدها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية وخولة بنت جعفر بن قيس، يقال كانت من بني حنيفة من سبي اليمامة، وصارت إلى علي رضي الله عنه، وقيل بل كانت سندية سوداء أمه لبني حنيفة، ولم تكن منهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق من الجواري والعبيد ولم يصالحهم على أنفسهم، وعاش سبعين سنة إلا وتكنيته بأبي القاسم، قيل رخصة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه قال لعلي رضي الله عنه: " سيولد لك غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحد من أمتي بعده ". قلت وقد جمع بين الكنية والاسم المذكورين جماعة كثيرة من أهل الفضل، وفي ذلك مذاهب للعلماء مشهورة، واختار جماعة من العلماء أن النهي عن الجمع بين التسمي باسمه والتكني بكنيته كان مخصوصاً بزمانه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلله بأن اليهود كانوا يقولون يا أبا القاسم فإذا سمعهم صلى الله عليه وآله وسلم التفت إليهم، فيقولون ما عنينك، وكان يحصل منهم في ذلك ايذاء له صلى الله عليه وآله وسلم، فنهى حينئذ عن التكني بأبي القاسم، وقد زالت هذه العلة بعده، فارتفع النهي.

وكان ابن الحنفية المذكور كثير العلم والورع، وقد ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: وكان شديد القوة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها: ما حكاه المبرد في الكامل: ان أباه علياً رضي الله عنه استطال درعاً كانت له فقال له: انقص منها كذا وكذا حلقه، فقبض محمد إحدى يديه على ذيلها والأخرى على فضلها، ثم جذبها فانقطع من الموضع الذي حده أبوه، قال: وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بها غضب واعترته الرعدة، قيل لأنه كان يحسده على قوته، وكان ابن الزبير أيضاً شديد القوة. ومن قوة ابن الحنفية أيضاً ما حكاه المبرد: ان ملك الروم وجه إلى معاوية أن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا وتجهد بعضهم أن يغلب على بعض أفتأذن في ذلك؟ فأذن له، فوجه إليه برسولين أحدهما طويل جسيم والآخر أيد فقال معاوية لعمرو بن العاص: اما الطويل فقد أصبنا كفوه وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما الآخر فقد احتجا إلى رأيك. فقال عمرو: ها هنا رجلان كلاهما إليك بغيض؛ محمد ابن الحنفية وعبد الله بن الزبير. قال معاوية: من هو أقرب إلينا على حال أو قال على كل حال؟ فلما دخل الرجلان للذان بشهما ملك الروم وجه معاوية إلى قيس بن سعد يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله، فرمى بها إلى العلج فلبسها فبلغت ثندوته فأطرق مغلوباً، قيل إن قيساً لاموه في ذلك وقيل له: لما تبذلت هذا التبذل بحضرة معاوية؟ هلا وجهت إليه غيرها؟ فقال: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاد ثمة وثمود وأني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود وبد جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسمي به أعلو الرجال سديد ثم وجه معاوية إلى ابن الحنفية رضي الله عنه فحضر، فخبر بما دعى إليه فقال: قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القاعد وأنا القائم، فاختار الرومي الجلوس فأقامه محمد وعجز هو من إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد فجذبه محمد فأقعده، وعجز الرومي عن اقامته فانصرفا مغلوبين، وكان الراية يوم صفين بيده.

ويحكى أنه توقف أول يوم في حملهما لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثله، فقال له علي: وهل عندك شك في جيش مقدمه أبوك؟ فحملها قلت هكذا ذكر بعضهم. وذكر غيره أنه قال له أبوه يوم الجمل: تقدم بالراية وقد ازدحمت الأقران والرؤوس تقطع عن الأبدان، فقال: إلى أين أتقدم؟ والله إن هذه هي المصيبة العمياء. فقال له علي: ثكلتك أمك أتكون مصيبة وأبوك قائدها؟ وقيل لمحمد كيف كان أبوك يقحمك المهالك، ويولجك المضائق، دون أخويك الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، وكان يقي عينيه بيديه. ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه، وبايعه أهل الحجاز بالخلافة، دعا عبد الله بن العباس ومحمد ابن الحنفية إلى البيعة، فأبيا وقال لانبايعك حتى يجتمع لك البلاد والعباد، فتهددهما وجرى ما يطول شرحه وكان الشيعة قد لقبته المهدي، وتزعم شيعته أنه لم يمت وأنه بجبل رضوى مختفيأ عنده عسل وماء، وإلى ذلك أشار كثير عزة وكان كيسانياً حيث قال: ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء نراه مخيماً بجبال رضوى ... مقيماً عنده عسل وماء وفيها توفي سويد بن غفلة الجعفي بالكوفة، ومولده عام الفيل فيما قيل، وكان فقيهاً إماماً عابداً قانعاً كبير القدر، رحمة الله عليه. وفيها حجت أم الدرداء الوصابية اليمنية الحميرية، وكان لها نصيب وافي من العلم والعمل، ولها حرمة زائدة بالشام، وقد خطبها معاوية بعد أبي الدرداء فامتنعت وقتل مع ابن الأشعث ليلة دجيل أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود الهذلي، وعبد الله بن شداد بن الهاد الليثي

سنة اثنتين وثمانين

ابن خالة خالد بن اللوليد، وكان فقيهاً كثير الحديث، لقي كبار الصحابة، وأدرك معاذ بن جبل رضي الله عنهم. سنة اثنتين وثمانين كانت الحروب تشتعل بين الحجاج وابن الأشعث، وكاد ابن الأشعث أن يغلب على العراق، وبلغ جيشه ثلاثة وثلاثين ألف فارس ومائة وعشرين ألف راجل، ولم يختلف عنه كثير قاموا على الحجاج لله. وفيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي أمير خراسان صاحب الحروب والفتوحات قال وإسحاق السبيعي: لم أر أمير اليمن نقبة ولا أشجع لقاء، ولا أبعد مما يكره، ولا أقرب مما يحب من المهلب. وقال بعض المؤرخين: روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بالحجازوالعراق وتلك النواحي، وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبيد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي، فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ فقال: او ما تعرفه؟ قال: لا. قال: هذا سيد أهل العراق: قال: فهو المهلب بن أبي صفرة؟ قال: نعم. فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال هذا سيد قريش. قال فهو عبد الله بن صفوان؟ قال نعم وكان الذي استعمله على خراسان عبد الملك بن مروان، وكان له كلمات لطيفة واشارات مليحة تدل على مكارمه، وخلف المهلب عدة أولاد نجباء كرام أجواداً أمجاداً قال ابن قتيبة يقال إنه وقع إلى الأرض من صلب المهلب ثلاث مائة ولد، وله آثار حميدة وفضائل عديدة، ولما مات أكثر الشعراء فيه من المراثي من ذلك قول بعضهم: ألا ذهب العز المقرب للفتى ... ومات الندى والجود بعد المهلب أقاما بمرو الروذ لا يبرحانها ... وقد عدلا عن كل شرق ومغرب وفيها توفي زر بن حبيش الأسدي القاري، وله مائة وعشرون سنة، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية فيما قيل، وقتل الحجاج كميل بن زياد النخعي صاحب علي، وكان شريفاً مطاعاً. وفيها قتل أبو الشعثاء مع ابن الأشعث بظاهر البصرة، وفيها قتل الحجاج محمد بن سعد بن أبي وقاص لقيامه مع ابن الأشعث.

وفيها توفي جميل بن عبد الله بن معمر الشاعر المشهور من بني عذرة صاحب بثينة أحد عشاق العرب، تعلق قلبه بها وهو غلام فلما كبر خطبها، فرد عنها، فقال الشعر فيها. قال المؤرخون ومنهم الحافظ ابن عساكر، وكان يأتيها ومنزلها بوادي القرى وله ديوان شعر كثير ذكره لها فيه فقيل له: لو قرأت القرآن كان أعود عليك من الشعر؟ فقال: هذا أنس بن مالك أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن من الشعر لحكمة " وبثينة أيضاً من بني عذرة وكانت تكنى أم عبد الملك والجمال والعشق في بني عنرة، قيل لرجل منهم ممن أنت؟ قال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: هذا عذري ورب الكعبة وقيل لآخر: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير ينماع كما ينماع الملح في الماء؟ اما تتجلدون؟ فقال: انا ننظر إلى محاجرعيون لا تنظرون إليها. وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيرعزة راوية جميل، وجميل راوية هدبة، وهدبة راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير، ومن شعر جميل: وجزعاني أن تبماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف إن قد انقضت ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا قال ابن خلكان ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة مجنون ليلى، وليست له، وتيماء خاصةً منزل لبني عذرة، وفي هذه القصيدة يقول جميل: وما زلتم تأبون حتى لو أنني ... من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا وما زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا ومن شعره أيضاً يقضي الديون وليس ينجز موعدا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر ما أنت بالوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر قلت والبيت الأول منهما وقول كثيرعزة، قضى كل في دين فوفى غريمه. وبيته المعروف، احدهما يستمد من الآخر، ومن شعر جميل: وإني لأستحيي من الناس أن أرى ... رديفاً لوصل أوعلى رديف وإني للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت وراده لعيوف قلت والبيت الثاني من هذين غير مناسب للأول منهما، فإنه في الأول كره لأن يكون

رديفا وأن يكون الذي قبله واحداً، اذ الرديف يصدق على ذلك وفي الثاني قيد العيوف بكثرالوارد. قلت ومما ذكره المؤرخون ما يكره المتدين ذكره، استغفر الله من ذكره واسأل العافية من مثله، قالوا: قال كثيرة عزة لفتى مرة جميل بثينة فقال من أين أقبلت؟ فقلت من عند الحبيبة يعني بثينة، قال: الى أين تمضي؟ فقلت إلى الحبيبة يعني عزة، فقال لابد أن ترجع عودك على بدنك فتتخذ لي موعداً من بثينة، فقلت: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع، فقال: لا بد من ذلك. فقلت: ومتى عهدك ببثينة؟ فقال من أول الصيف وقعت سحابة بأسفل واد الروم، فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثياباً، فلما أبصرتني أنكرتني فضربت يدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية فأعادت الثوب إلى الماء، وتحدثنا ساعة حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد فقالت: اهلي سائرون، وما لقيتها بعد ذلك، ولا وجدت أحداً منه فأرسله إليها. قال كثير فقلت هل لك أن آتي الحي فأتعرض بأبيات شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدرعلىالخلوة بها؟ قال: ذلك هو الصواب، قال فخرجت حتى أنخت بهم. فقال أبوها: ما ردك يا ابن أخي؟ قال قلت أبيات عرضت فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هات. قال: فأنشدته شعراً، وبثينة تستمع، فقلت لها: يا عز أرسل صاحبي ... إليك رسولاً والرسول موكل بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل وآخرعهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل واد الروم والثوب يغسل قال فضربت بثينة خدرها، وقالت: اخسأ اخسأ. فقال لها أبوها: مهيم: يا بثينة قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية، ثم قالت للجارية: ابغينا من الدومات حطباً لنذبح لكثير شاةً ونشويها له، فقال كثير: انا أعجل من ذلك وراح إلى جميل فأخبره، فقال له جميل موعدنا الدومات، وخرجت بثينة وصواحبها إلى الدومات، وجاء جميل وكثير إليهن فما برحوا حتى برق الصبح، وكان كثير يقول ما رأيت مجلساً قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ما أدري أيهما كان أفهم. وقال الحافظ أبو عيسى ابن عسكرفي تاريخه الكبير قال ابن الأنباري أنشدني أبي هذه الأبيات لجميل: ما زلت أبغي الحي أطلب أهلهم ... حتى دفعت إلى رؤيبة هودج فدنوت مختفياً ألم ببيتها ... حتى ولجت إلى حفى المولج

فتناولت رأسي لتعرف سنه ... لمخضب الأطراف غير مشيخ قالت وعيش أخي ونعمة والدي ... لأنبهن القوم إن لم تخرج فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فسلمت أن يمينها لم تلحج قلت وبعد هذا بيت حذفته كراهية ذكره. وقال هارون بن عبد الله القاضي قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز بن مروان ممتدحاً له، فأذن له وسمع مدائحه وأحسن جائزته، وسأله عن حبيبته بثينة فذكر، وحمد كثيراً فوعده في أمرها وأمره بالمقام، وأمر له بمنزل وما يصلحه فأقام قليلاً حتى مات هناك. وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي، فقال هل لك في جميل؟ فإنه ثقيل نعوده، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي ثم قال: يا ابن سهل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله؟ قلت: اظنه قد نجا، وأرجو له الجنة. فمن هذا الرجل؟ قال: انا قنت والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة. فقال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإني في أول يوم من أيام الآخرة آمر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة. قال: فما برحنا حتى مات. وذكر في الأغاني عن الأصمعي قال: حدثني رجل شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعا به فقال: هل لك إن أعطيتك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك؟ قال فقلت نعم قال إذا نامت فخذ حلتي هذه وأعز لها جانباً وكل ما سواها، لك وادمل إلى رهط بثينة فإذا صرت إليها فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها، ثم اعل على شرف وصح بهذين البيتين: صرح البغي وما كنا بجميل ... وثوى بمصر ثوى بغير قفول قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلاًدون كل خليل قال فقلت ما أمرني به فما تممت الإنشاد حتى خرجت بثينة كأنها بدر في دجنة، وهي تنثني في مرطها حتى أتتني، فقالت: يا هذا والله إن كنت صادقاً لقد قتلتني، وإن كنت كاذباً فقد فضحتني، فقلت: والله ما أنا لا صادقاً وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت، فمكثت مغشياً عليها ساعة ثم قامت وهي تقول: وإن سكتموني عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها

سنة ثلاث وثمانين

سنة ثلاث وثمانين فيها في قول غير واحد وقعة دير الجماجم وكان شعار الناس يادبارات الصلاة لأن الحجاج كان يميت الصلاة ويؤخرها حتى يخرج وقتها. وقتل مع ابن الأشعث البحتري والطائي مولاهم، كان من كبار فقهاء الكوفة، وغرق مع ابن الأشعث عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه المقري. قال ابن سيرين رأيت أصحابهم يعظمونه كانه أمير. وتوفي فيها أبو الجوزاء الربعي البصري، وقاضي مصر عبد الرحمن الخولاني، وكان عبد العزيز بن مروان يرزقه في السنة ألف دينار فلا يدخرها. سنة أربع وثمانين فيها فتحث المصيصة على يد عبد الله بن عبد الملك بن مروان. وفيها قتل أيوب بن زيد الهلالي المعروف بابن القرية بكسر القاف وبالراء والمثناة من تحت وتشديدهما في آخرها اسم جدته، كان اعرابياً أمياً وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وكان عامل الحجاج يغدي كل يوم ويعشي، فوقف ابن القرية ببابه فرأى الناس يدخلون، فقال أين يدخل هؤلاء قالوا: الى طعام الأمير، فدخل فتغذى وقال: اكل يوم صنع الأمير ما أرى؟ فقيل: نعم، فكان كل يوم يأتيه للغداء والعشاء الى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل، وهو عربي غريب لا يدري ما هو فأمر لذلك طعامه فجاء ابن القرية فلم ير العامل يتغذى، فقال ما بال الأمير اليوم لا يأكل ولا يطعم؟ فقالوا: غم لكتاب ورد عليه من الحجاج عربي غريب لا يدري ما هو، فقال: ليريني الأمير الكتاب وأنا أفسره إن شاء الله تعالى، وكان خطيباً لسناً بليغاً فذكر أن للوالي فدعي به، فلما قرىء عليه الكتاب عرف الكلام وفسره للوالي حتى عرف جميع ما فيه. فالتمس الوالي منه أن يكتب له الجواب، فقال: لست أقرأ ولا أكتب ولكن أقعد عندي كاتباً يكتب ما أمليه ففعل فكتب جواب الكتاب، فلما قرىء الكتاب على الحجاج رأى كلاماً غريباً فعلم أنه ليس من كلام كتاب الخراج فدعى برسائل عامل عين اليمن فنظر فيها فإذا هي ليست ككتاب ابن القرية فكتب الحجاج إلى العامل.

أما بعد فقد أتاني كتابك بعيداً من جوابك بمنطق غيرك، فإذا نظرت في كتابي هذا فلاتضعه من يدك حتى تبعث إلي بالرجل الذي سطر لك الكتاب والسلام. فقرأ العامل الكتاب على ابن القرية، فقال له تتوجه نحوه، وقال لا بأس عليك، وأمر له بكسوة، ونفقة وحمله إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال ما اسمك؟ قال: ايوب. قال اسم نبي وأظنك أمياً تحاول البلاغة؟ ولا يستصعب عليك المقال وأمر له بنزل ومنزل، فلم يزل يزداد به عجباً حتى أوفده على عبد الملك بن مروان. فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان وهي واقعة مشهورة، بعثه الحجاج إليه فلما دخل عليه قال لتقومن خطيباً ولتخلعن عبد الملك ولتشتمن الحجاج أو لأضربن عنقك. قال: ايها الأمير إنما أنا رسول. قال: هو ما أقول لك فقام وخطب، وخلع عبد الملك وشتم الحجاج، وقام هناك فلما انصرف ابن الأشعث منهزماً كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليها يأمرهم أن لا يمر بهم أحد من قيل أو قال من أصحاب ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيراً إليه، وأخذ ابن القرية في من أخذ فلما دخل على الحجاج قال أخبرني عما أسألك عنه. قال: سلني عمن شئت. قال أخبرني عن أهل العراق؟ قال: اعلم الناس بحق وباطل. قال: فأهل الحجاز؟ قال: اصرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها قال: فأهل الشام؟ قال أطوع الناس لخلفائهم. قال فأهل مصر؟ قال عبيد من خلب يعني من خدع. قال فأهل البحرين؟ قال: بسط استعربوا قال: فأهل عمان؟ قال: عرب استنبطوا قال: فأهل الموصل؟ قال: اشجع فرسان وأقبل للأقران، قال فأهل اليمن؟ قال أهل أهواء أو قال أهواء ونقاء، واصبر عند اللقاء. قال: فأهل اليمامة؟ قال: اهل جفاء واختلاف وريف كثير وقرى يسير. قال: اخبرني عن العرب قال: سلني. قال: قريش؟ قال: اعظمها أحلاماً واكرمها مقاماً. قال: فبنو عامر بن صعصعة؟ قال: اطولها رماحاً وأكرمها صباحاً. قال: فبنو سليم؟ قال: اعظمها مجالس وأكرمها محاسن. قال: فثقيف؟ قال أكرمها جدوداً وأكثرها وفوداً. قال: فبنو زيد؟ قال ألزمها للرايات وأدركها للثارات. قال: فقضاعة؟ قال: اعظمها أحطاراً رأكرمها نجاراً وأبعدها آثاراً يعني النجار بالنون والجيم والراء بعد الألف الأصل والحسب. قال فالأنصار؟ قال أثبتها مقاماً وأحسنها إسلاماً، وأكرمها أياماً. قال: فتميم؟ قال: اظهرها جلداً وأثراها عدداً. قال: فبكر بن وائل؟ قال أثبتها صفوفاً واحدها سيوفاً..قال فعبد القيس؟ قال أسبقها إلى الغايات وأصبرها تحت الرايات. قال فبنو أسد؟ قال أهل عدد وجلد وعز ونكد. قال فلخم؟ قال ملوك وفيهم نوك يعني بالنوك بفتح النون الحمق. قال فجذام؟ قال يسعرون الحرب ويوقدونها ويلحقونها ثم يمرونها. قال فبنو الحارث؟ قال رعاة للقديم حماة عن الحريم. قال فمك؟ قال ليوث جاهدة في قلوب

فاسدة قال فثعلب؟ قال يصدقون إذ ألقوا ضرباً ويسعرون الأعداء حرباً. قال فغسان؟ قال أكرم العرب أحساباً وأبينها أنساباً. قال فأي العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن يضام؟ قال قريش أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها وهضبة لا يرام انتزاؤها في بلدة حمى الله دمارها ومنع جارها. قال فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية؟ قال: كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك، ومذحج أهل الطعان، وهمدان أحداس الخيل يعني يفتنونها ويلزمون ظهورها. والأزدآسات الناس. قال: فأخبرني عن الأرضين قال: سلني. قال: الهند قال بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طعام يقطع الحمام، او قال للقطع الحمام. قال فخراسان قال ماؤها جامد وعدو هنيئاً جاحد. قال فعمان؟ قال حرها شديد وصيدها عتيد. قال فالبحرين؟ قال كماشة بين المصريين. قال فاليمن؟ قال أصل العرب وأهل البيوتات والحسب. قال فمكة؟ قال رجالها على علماء جفاة ونساؤها كساة عراة. قال والمدينة؟ قال رسخ العلم فيها وظهر منها. قال فالبصرة؟ قال شتاؤها جليد وحرها شديد وماؤها ملح وحربها صلح. قال فالكوفة؟ قال ارتفعت عن حرالبحر وسفلت عن برد الشام فطاب ليلها وكثر خيرها. قال فواسط؟ قال جنة بين حماة وكنة قال وما حماتها وكنتها. قال البصرة والكوفة يحسدانها، وما ضراها ودجلة يتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال فالشام؟ قال عروس بين نسوة جلوس. قال: ثكلتك أمك يابن القرية، لولا اتباعك أهل العراق وكنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من تفاقم. ثم دعا بالسيف وأومى إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقف تكن مثلاً بعدي، قال: هات قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة. قال الحجاج ليس هذا وقت المزاح يا غلام رحب جرحه فضرب عنقه. قيل لما أراد قتله قال له العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب أصلح الله الأمير. قال فما آفة الحليم؟ قال الغضب. قال: فما آفة العقل؟ قال العجب. قال فما آفة العلم؟ قال النسيان. قال فما آفة السخاء؟ قال المن عند البلاء. قال فما آفة الحديث؟ قال الكذب. قال فما آفة الكرام؟ قال مجاورة اللئام قال فما آفة الشجاعة؟ قال البغي. قال فما آفة العبادة؟ قال العترة. قال فما آفة الذهن؟ قال حديث النفس. قال فما آفة المال؟ قال سوء التبذير. قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال العدم. قال فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال أصلح الأمير: الآفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكى فرعه، قال: امتلأت شقاقاً وأظهرت شقاق ثم قال اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلاً ندم. ذكر هذا كله بعض المؤرخين في تاريخه ناقلاً له. وفي السنة المذكورة ظفر أصحاب الحجاج بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقتلوه بسجستان وطيف برأسه في البلدان. وتوفي عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي حنكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادته والأسود بن هلال المحاربي. وتوفي عمران بن حطان السدوسي المصري أحد رؤوس الخوارج وشاعرهم البليغ. وتوفي عتبة بن النذر السلمي، روح الجذامي سيد جذام أمير فلسطين وكان منظماًعند عبد الملك لا يكاد يفارقه وكان عنده بمنزلة وزير وكان ذا علم وعقل ورأي ودين. هضبة لا يرام انتزاؤها في بلدة حمى الله دمارها ومنع جارها. قال فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية؟ قال: كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك، ومذحج أهل الطعان، وهمدان أحداس الخيل يعني يفتنونها ويلزمون ظهورها. والأزدآسات الناس. قال: فأخبرني عن الأرضين قال: سلني. قال: الهند قال بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طعام يقطع الحمام، او قال للقطع الحمام. قال فخراسان قال ماؤها جامد وعدو هنيئاً جاحد. قال فعمان؟ قال حرها شديد وصيدها عتيد. قال فالبحرين؟ قال كماشة بين المصريين. قال فاليمن؟ قال أصل العرب وأهل البيوتات والحسب. قال فمكة؟ قال رجالها على علماء جفاة ونساؤها كساة عراة. قال والمدينة؟ قال رسخ العلم فيها وظهر منها. قال فالبصرة؟ قال شتاؤها جليد وحرها شديد وماؤها ملح وحربها صلح. قال فالكوفة؟ قال ارتفعت عن حرالبحر وسفلت عن برد الشام فطاب ليلها وكثر خيرها. قال فواسط؟ قال جنة بين حماة وكنة قال وما حماتها وكنتها. قال البصرة والكوفة يحسدانها، وما ضراها ودجلة يتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال فالشام؟ قال عروس بين نسوة جلوس. قال: ثكلتك أمك يابن القرية، لولا اتباعك أهل العراق وكنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من تفاقم. ثم دعا بالسيف وأومى إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقف تكن مثلاً بعدي، قال: هات قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة. قال الحجاج ليس هذا وقت المزاح يا غلام رحب جرحه فضرب عنقه. قيل لما أراد قتله قال له العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب أصلح الله الأمير. قال فما آفة الحليم؟ قال الغضب. قال: فما آفة العقل؟ قال العجب. قال فما آفة العلم؟ قال النسيان. قال فما آفة السخاء؟ قال المن عند البلاء. قال فما آفة الحديث؟ قال الكذب. قال فما آفة الكرام؟ قال مجاورة اللئام قال فما آفة الشجاعة؟ قال البغي. قال فما آفة العبادة؟ قال العترة. قال فما آفة الذهن؟ قال حديث النفس. قال فما آفة المال؟ قال سوء التبذير. قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال العدم. قال فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال أصلح الأمير: الآفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكى فرعه، قال: امتلأت شقاقاً وأظهرت شقاق ثم قال اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلاً ندم. ذكر هذا كله بعض المؤرخين في تاريخه ناقلاً له. وفي السنة المذكورة ظفر أصحاب الحجاج بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقتلوه بسجستان وطيف برأسه في البلدان.

سنة خمس وثمانين

وتوفي عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي حنكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادته والأسود بن هلال المحاربي. وتوفي عمران بن حطان السدوسي المصري أحد رؤوس الخوارج وشاعرهم البليغ. وتوفي عتبة بن النذر السلمي، روح الجذامي سيد جذام أمير فلسطين وكان منظماًعند عبد الملك لا يكاد يفارقه وكان عنده بمنزلة وزير وكان ذا علم وعقل ورأي ودين. سنة خمس وثمانين فيها توفي عبد العزيز بن مروان بن الحكم أمير مصر والمغرب، عند جماعة وقال بعضهم في السنة التي قبلها، وولي مصر عشرين سنة وكان ولي العهد بعد عبد الملك عقد لهما أبوهما كذلك فلما مات عقد عبد الملك من بعده العهد لولده، وبعث لي عامله إلى المدينة، هشام بن إسماعيل المخزومي ليبايع له الناس بذلك، فامتنع عليه سعيد بن المسيب، وصمم، فضربه هشام بن إسماعيل بستين سوط، وطوف به. وفيها توفي واثلة بن الأسقع الليثي أحد فقراء الصفة، وله ثمان وتسعون سنة وكان فارساً شجاعاً ممدوحاً فاضلاً، شهد غزوة تبوك رضي الله عنه. وفيها توفي عمرو بن حريث المخزومي، هـ صحبة ورواية، ومولده في زمن الهجرة. وفيها توفي عمرو بن سلمة الجرمي البصري، في قول ويقال إن له صحبة، وهو الذي صلى بقومه في عهد النبي صلى الله وآله وسلم، وعمرو بن سلمة الهمداني، وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنبري حليف آل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً ليس بمتصل، خرجه أبو داود له رواية عن الصحابة.

سنة ست وثمانين

وفيها توفي خالد بن يزيد بن معاوية بن أي سفيان الأموي، قيل كان له معرفة بفنون من العلم، منها علم الطب والكيمياء كان متقناً لهما: قال ابن خلكان: وله رسائل دالة على علمه ومعرفته وبراعته، اخذ الصناعة من رجل رومي من الرهبان، وله أشعار مطولات ومقاطع دالة على حسن تصرفه، ومن شعره: تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً تجول ولا قلبا أحب بني العوام من أجل حبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها من قصيدة له طويلة في زوجته رملة بنت الزبيربن العوام، وشكا إلى عبد الملك بن مروان، فقال: يا أمير المؤمنين، ان الوليد بن عبد الملك قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره، يعني أخاه، فقال عبد الملك: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " - النمل: 34 - فقال خالد: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً " - الإسراء: 16 - فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً، فقال له خالد: افعلى الوليد تقول؟ فقال: عبد الملك: ان كان يلحن فإن أخاه سليمان، يعني أنه كان فصيحاً زكياً كما سيأتي ترجمته، فقال خالد: ان كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد فوالله ما تدعي في العير ولا في النفير، فقال خالد: ويحك ومن للعير والنفير غيري؟ وجدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات والطائف رحم الله عثمان لقلنا صدقت، قلت وأشار بذلك إلى العير التي خرج لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليأخذوها، وخرج المشركون من مكة ليقاتلوا دونها، وكان في العير أبو سفيان هو المقدم وهو جده من جهة أبيه، وفي النفير عتبة بن ربيعة مقدم على القوم وهو جده من جهة الأم، فإن ابنته هند أم معاوية. وأما الغنيمات: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفى الحكم جد الوليد إ لىالطائف وكان يرعى الغنم، ولم يزل كذلك إلى أن ولي عثمان بن عفان فرده. وروي أن عثمان كان قد شفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رده، فأنعم له بذلك، وأذن له في رده، وفي ذلك تبكيت للوليد لما صدر منه من الاحتقار له ولأخيه والله أعلم. سنة ست وثمانين فيها ولي قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان، وافتتح بلاد صاغان من الترك صلحاً،

سنة سبع وثمانين

وتوفي أبو إمامة الباهلي رضي الله عنه وله مائة وست وستون سنة. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي رضي الله عنه، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة رضي الله عنهم، وآخر من شهد بيعة الرضوان. وفيها توفي على الصحيح وقيل سنة ثمان عبد الله بن الحارث بن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي مع الهمزة الزبيدي رضي الله عنه، اخر من مات بمصر من الصحابة، وتوفي قبيصة بن ذويب الخزاعي الفقيه بدمشق، روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، قال: مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهري: كان من علماء الأمة. وفي شوال مات خليفتهم عبد الملك بن مروان وله ستون سنة، وكانت ولايته المجمع عليها بعد ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأشهراً، وقد عده أبو الزناد في طبقة ابن المسيب، وقال نافع رأيت أهل المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك، وولي بعده ابنه الوليد بن عبد الملك. ومن المشهور أن عبد الملك المذكور رأى في منامه كأنه بال في المحراب أربع مرات، فوجه إلى سعيد بن المسيب من يسأله عن ذلك، فقال: يملك من ولده لصلبه أربعة، وكان كما قال: فإنه ولي الوليد وسليمان وهشام ويزيد أولاد عبد الملك. وقيل رأى أنه بال في زوايا المسجد الأربع، فقال ابن المسيب يلد أربعة أولاد يملكون الأرض. سنة سبع وثمانين فيها استعمل الوليد على المدينة عمربن عبد العزيز، وفيها ابتدأ ببناء جامع دمشق، ودام العمل والجد والاجتهاد في بنائه وزخرفته أكثر من عشر سنين، وكان فيها اثنا عشر ألف صانع. وفيها توفي عتبة بن عبد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وله أربع وتسعون سنة، والمقدام بن معد يكرب الكندي الصحابي، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، رضي الله عنهما.

سنة ثمان وثمانين

سنة ثمان وثمانين فيها زحفت الترك، وأهل فرغانة والصفد، عليهم ابن أخت ملك الصين في جمع عظيم، يقال كانوا مائتي ألف، فالتقاهم قتيبة بن مسلم وهزمهم، وفيها توفي عبد الله بن بسر المازني، وهو آخر من مات من الصحابة بحمص، قلت هكذا ينبغي أن يقال: وأما قول الذهبي أنه أخر من مات من الصحابة مقتصراً على هذا فغير صحيح، وكلامه بعد هذا ينقصه، توفي سهل بن سعد الساعدي في سنة إحدى وتسعين، وأنس بن مالك في سنة ثلاث وتسعين على القول الراجح الذي قطع به هو في مختصر، وذكر أيضا أن عبد الله بن بسر المذكور أرخه عبد الصمد بن سعيد في سنة تسع وتسعين. قلت وهذا يمكن أن يقال على هذا القول إنه آخر الصحابة موتاً، لكن ينبغي النظر في شيء آخر، وهو: ان الصحابي من هو؟ فعلى أحد الأقوال أنه من رأى النبي صلى اللهء وآله وسلم مسلماً، وكذا في حكم الإسلام متى يصح من الإنسان فإن محمود بن الربيع عقل في مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بير في دارهم وهو ابن أربع سنين، وموته كان في سنة تسع وتسعين. وأبو الطفيل الكناني نقل العلماء أنه آخر من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا يعنون آخرهم موتاً، وموته في سنة مائة، لكن لا أدري هل رآه مسلماً أم لم يسلم بعد؟ فليبحث عن ذلك. وقد علم أيضاً أن الصغيريحكم بإسلامه تبعاً كما هو معروف في كتب الفقه، هذا ما أردت من التنبيه على ذلك فليعلم، والله تعالى بكل شيء أعلم. سنة تسع وثمانين فيها توفي على القول الصحيح عبد الله بن ثعلبة العذري، مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه، ودعا له فوعى ذلك، وسمع من عمر رضي الله عنهما. سنة تسعين فيها ولي امرة مصرقرة بن شريك، وكان جباراً ظالماً. وفيها ظفر قتيبة بأهل

سنة اثنتين وتسعين

الطالقان، قتل منهم صبرا مقتلة لم يسمع بمثلها، وطلب سماطين طول أربعين فراسخ في نظام واحد: يعني طلب تحصيل تسبحين مما يمد عليه السماط لأكل العساكر الممدود عليه. وفيها توفي أبو ظبيان جبير بن جندب الجهني الكوفي والد قابوس. وفيها توفي على الصحيح خالد بن يزيد بن معاوية، وكان موصوفاً بالعلم والدين والعقل، وهو الذي تقدم الكلام بينه وبين عبد الملك بن مروان خاله، وظهر عليه ببلاغة اللسان. وتوفي عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري الفقيه، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني مفتي أهل مصر في وقته، تفقه على عقبة بن عامر. سنة إحدى وتسعين توفي فيها أبو العباس سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، وقد قارب المائة، وهو آخرمن مات بالمدينة من الصحابة، رضي الله عنهم. وفيها توفي وقيل في سنة ثمان وثمانين السائب بن يزيد الكندي، قال حج بي أبي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين، ورأيت خاتم النبوة بين كتفيه. سنة اثنتين وتسعين فيها افتتح اقليم الأندلس على يد طارق مولى موسى بن نصير، تمم موسى فتحه في سنة ثلاث. وتوفي مالك بن أوس بن الحدثان، ادرك الجاهلية، ورأى أبا بكر رضي الله عنهما. وفيها توفي ابراهيم بن يزيد التيمي الكوفي العابد المشهور، قتله الحجاج ولم يبلغ أربعين سنة، روى عن عمرو بن ميمون الأوثي وجماعة. وفيها توفي طويس المغني. قال ابن قتيبة في كتاب المعارف: طويس مولى أروى بنت

سنة ثلاث وتسعين

كريز، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه، واسمه عبد الملك. قال أبو الفرج في كتاب الأغاني: اسمه عيسى بن عبد الله، وقال الجوهري في الصحاح: اسمه طاوس فلما ثخنث أو قال خنث سمي طويس، وكان من المبرزين في الغناء المجيدين فيه، وممن يضرب به الأمثال، وإياه عنى الشاعر بقوله في مدح معبد المغني. يغني طويس والشريحي بعده ... وما قصبات السبق إلآ لمعبد وطويس المذكور هو الذي يضرب به المثل في الشوم، فيقال أشأم من طويس، لأنه ولد في اليوم النمي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفطم في اليوم الذي مات فيه الصديق رضي الله تعالى عنه، وختن في اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقيل بل بلغ الحلم في ذلك اليوم، وتزوج في اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله تعالى عنه، وولد مولود له في اليوم الذي قتل فيه علي رضي الله تعالى عنه، وقيل بل في يوم مات الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فلذلك تشاءموا به. قلت وهذا إن صح من عجائب الاتفاقات، وكان مفرطاً في طوله مضطرباً في خلقه أحول العين، سكن المدينة، ثم انتقل عنها إلى السويداء على مرحلتين من المدينة في طريق الشام، وبها توفي، وطويس تصغير طاوس بعد حذف الزيادات. سنة ثلاث وتسعين فيها افتتح قتيبة عدة فتوح، وهزم الترك، ونازل سمرقند في جيش عظيم، ونصب المجانيق، فجاءت نجدة الترك، فأكمن لهم كميناً، فالتقوا في نصف الليل فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فلم يفلت من الترك إلا اليسير، وافتتح سمرقند صلحاً، وبنى بها الجامع والمنبر وقيل صالحهم على مائة ألف رأس وعلى بيوت النار وحلية الأصنام فسلبت ثم وضعت قدامه، وكانت كالقصر العظيم يعني الأصنام فأمر بتحريقها. ثم جمعوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال. وفيها توفي من سادات الصحابة ذو الفضائل والإنابة خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموهل لذلك السيد الجليل أبو حمزة أنس بن مالك الأنصاري. وقيل توفي سنة تسعين، وقيل في سنة إحدى وتسعين، وقيل في سنة اثنتين وتسعين، قدم النبي صلى عليه وآله وسلم المدينة وهو ابن عشر سنين، ومن فضائله: دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالبركة فيما أعطي حتى أنه دفن من أولاده قبل مقدم الحجاج بن يوسف مائة

وعشرين، وكان نخله يثمر في السنة مرتين. وتوفي فيها بلال بن أبي الدرداء روى عن أبيه، وقد ولي امرة دمشق. وأبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي الفقيه بالبصرة. قال ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول أبي الشعثاء لأوسعهم علماً عما في كتاب الله عز وجل. وفيها توفي أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي المخزومي الشاعر المشهور، قيل لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة، وكان يتغزل في شعره بالثريا ابنة علي بن عبد الله ابن الحارث بن أمية بن عبد شمس الأموية: قال السهيلي في الروض الأنق: وجدتها قتيلة بضم القاف وفتح المثناة من فوق وتسكين المثناة من تحت ابنة النضر بن الحارث التي أنشدت عقب وقعة بدر الأبيات التي من جملتها. ظلت يهوف بني أمية يبسة ... لله أرحام هناك تمزق أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المخنق فالنضر أقرب من تركت وصيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق ويروى فالنضر أقرب أن أردت قرابة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته ". قلت وهذا مما احتج به للقول الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وكان النضر المذكور شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من جملة أسارى بدر، فلما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلغ الصفراء أمرعلياً وقيل المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه بقتله، فقتله صبراً بين يديه، وممن قتل معه عدو الله الآخرعتبة بن أبي معيط، فقال يا محمد من للصبية؟ فقال صلى عليه وآله وسلم: " النار ". وكانت الثريا المذكورة موصوفة بالجمال، فتزوجها سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ونقلها إلى مصر، وكان عمر المذكور يضرب المثل في زواجه بالثريا وسهيل النجمين المعروفين في هذين البيتين المشهورين. أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان؟ هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان

ومن شعر عمر المذكور: أي طيف من الأحبة زارا ... بعدما صرى الكرى السمارا؟ طارقاً في المنام تحت دجى الليل ... ضنيناً بأن يزور نهارا قلت ما بالنا خفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا؟ قال ما كنا عهدنا ولكن ... شغل الحلي أهل أن يعارا قلت ومن شعره أيضاً: ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه في قتال المشركين مستشهدين به على كون المرأة لا تقتل، اعني قوله: إن من أكبر الكبائرعندي ... قتل بيضاء جوده عيطول كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول وكانت ولادته في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: اذا ذكرت الليلة التي قتل فيها عمر وولد فيها عمر أي حق رفع وأي باطل وضع، وكان جده أبو ربيعة يلقب ذا الرمحين، وكان أبوه عبد الله أخا أبي جهل بن هشام المخزومي. قلت ومما يحكى من ذكائه وخلاعته والله أعلم بكذب ذلك وصحته أنه أتته امرأة وقالت له أن امرأة تريد مسامرتك، وكان ذلك بالليل، فقام معها، فغطت عينيه بشيء شدته عليهما حتى لا يعرف البيت الذي يدخل ولا المرأة التي أرادت أن تسمع كلامه، وكانت ذوات المناصب، فأخذ حناه وقيل زعفراناً وعجنه وحمله بيده، فلما وصلت به إلى باب الدار التي المرأة فيها لطخ خارج الباب بالحناء ثم دخل، فبات يتحدث معها وينشدها الأشعار إلى ما شاء الله من الليل، ثم خرج، فلما أصبح قال لغلامه: اذهب وطف بالشوارع وتصفح الأبواب وانظرأي باب فيه حناء أو قال زعفران، وطاف الغلام حتى وجد الباب المذكور فأعلمه بذلك الباب وذكروا لمن هو، ولكني أكره أن أعين ذلك، وكان موته بحرق، غزا في البحر فأحرقت السفينة فاحترق وعمره مقدار سبعين، وقيل ثمانين سنة وتوفي أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم البصري المقري المفسر وقد دخل علىأبي بكروقرأ القرآن على أبي. قال أبو العالية: كان ابن عباس يرفعني على السرير وقريش أسفل، وقال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية وبعده سعيد بن جبير.

سنة أربع وتسعين

وفيها توفي زرارة بن أوفى العامري قرأ في الصبح: " فإذا نقر في الناقور " - المدثر: 8 - فخر ميتاً. وفيها توفي عبد الرحمن بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني، روى عن الصحابة، وولي قضاء المدينة، وعن الأعرج قال: ما رأيت بعد الصحابة أفضل منه. سنة أربع وتسعين فيها توفي السيد المجمع على جلالته وديانته وإمامته الذي سما كل سيد تابعي بعد السيد العارف بالله أويس القرني أبو محمد سعيد بن المسيب المخزومي المدني مفتي الأنام أحد الأئمة الأعلام، وقيل توفي في سنة ثلاث، قال مكحول وقتادة والزهري وغيرهم: ما رأينا أعلم من ابن المسيب. وقال ابن عمر لأصحابه: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسره. وقال الزهري أخذ سعيد علمه عن زيد بن ثابت، وجالس ابن عباس وابن عمر وسعد بن أبي وقاص، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وأم سلمة، وسمع عثمان وعلياً وصهيباً ومحمد بن مسلمة، وجل روايته المسند عن أبي هريرة، وسمع من أصحاب عمر وعثمان، وكان يقال ليس أحد أعلم بكل ما قضى عمروعثمان منه، قال القاسم بن محمد: هو سيدنا وأعلمنا، وقال قتادة: ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء إلا وجدت له عليه فضلاًغيرأنه كان إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب يسأله. وقال زين العابدين علي بن الحسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفضلهم في روايته، وسئل الزهري ومكحول من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ثار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي. ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة ابراهيم النخعي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي فيه غير مدفع سعيد بن المسيب رضي الله

عنهم، ذكر هذه النقولات الشيخ أبو إسحاق في الطبقات. قلت وهو المتقدم في فقهاء المدينة السبعة، جمع بين الحديث والفقه والورع والعبادة، وقال ابن عمر فيه: وقد أفتي في مسألة ألم أخبركم بأنه أحد العلماء، وروي أنه قال: حججت أربعين حجة، وعنه أيضاً أنه قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة منذ خمسين سنة يعني المحافظة على الصف الأول. قيل إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة، وكان قد أخذ من أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر روايته عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته، والمسيب بفتح المثناة من تحت مشددة وروي عنه أنه كان يقول بكسرها ويقول إنه سيب الله من يسيب أبي وفضائله كثيرة معروفة شهيرة وقد أورد بعض العلماء في مناقبه مجلداً مستقلاً، ومن محاسنه وتواضعه وزهادته في الدنيا ومحبته للفقراء دون الأمراء ما اشتهر عنه أنه خطب ابنته بعض ملوك بني أمية فامتنع من تزويجه بها، وزوجها من بعض الفقراء المشتغلين عليه بالعلم، فذكر ذلك الفقير ذلك لأمه فقالت له البعيد مجنون سعيد بن المسيب يزوجك وبنته يخطبها الملوك، فسكت عنها، فلما كان الليل إذا بالباب يدق، فقال من هذا؟ قال سعيد فخرج اليه فإذا هو سعيد بن المسيب وبنته تحت ثوبه، فقال له: خذ إليك أهلك فإني كرهت أن ابنيك عزباً فأخذ زوجته وأدخلها البيت، فقالت أمه والله ما تقربها حتى تصلح من شأنها فأعلمت جارتها فاجتمعن وهيأن لها ما يصلح للعروس على حسب ما تيسر في ذلك الوقت: ثم زادها أبوها بعد ذلك، وبرهما بشيء من الدنيا رضي الله عنه. قلت ومما يناسب هذه القصة: قصة أبي القواس شاه شجاع الكرماني فإنه لما زاد في الملك زهد في الملك، ودخل في طريق القوم خطبت ابنته بعض الملوك فلم يزوجها منه، وطاف في المساجد فوجد فقيراً يحسن صلاته، فقال له: الك زوجة؟ قال: لا. قال: فهل لك في زوجة جميلة تقرأ القرآن؟ فقال أنا رجل فقير ما يزوجني أحد. قال: اما تقدرعلى درهمين؟ قال: بلى. قال: فاشتر بدرهم خبزاً وبدرهم طيباً، فقد تم الأمر، ففعل فزوجه بابنته، فلما دخلت بنته بيت الفقير المذكور رأت قرصاً في البيت رجعت على ورائها، فسألها عن رجوعها فذكرت كلاماً معناه أني لا أرضى أبيت على معلوم، فأما أخرجه وإلا خرجت، فاخرج الرغيف فطابت نفسها، فاستقرت عنده. هذا مختصر القصة وقد أوضحتها في غير هذا الكتاب، رضي الله عنها وعن أبيها وعن سائر الصالحين، ونفعنا الله ببركاتهم أجمعين آمين. وفي السنة المذكورة توفي أيضاً من الفقهاء السبعة السيد الجليل أبو محمد عروة بن الزبيرالجامع بين السيادة والعلم والعبادة، كان حافظاً للعم صواماً قواماً حتى روي أنه مات

وهوصائم، ومما اشتهر عنه أنه قطعت رجله وهو في الصلاة لآكلة وقعت بها ولم تشعر بذلك. وقال الإمام الزهري: رأيت عروة بحراً لا ينزف، ويروى بحراً لا تكدره الدلا، وهذه السنة تسمى سنة الفقهاء، لأنه مات فيها جماعة منهم، وإنما قيل الفقهاء السبعة لأنهم كانوا بالمدينة في عصر واحد. ومنهم انتشر العلم والفتيا. وقيل لأن الفتوى بعد الصحابة صارت إليهم وشهروا بها، وسيأتي ذكر كل واحد منهم في موضعه، وقد جمعهم لعض العلماء فى بيتين فقالى: ألا كل من لا يقتدى بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه وخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه وكان في عصرهم جماعة من العلماء التابعين مثل سالم بن عبد الله بن عمر وأمثاله، ولكن الفتوى لم يكن إلا لهؤلاء السبعة، هكذا قال الحافظ السلفي. ووالدا عروة كلاهما ذو الجلالة والقدر، فأبوه الزبير بن العوام الصحابي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعروة شقيق أخيه عبد الله الزبير بخلاف أخيهما مصعب فإن أمه أخرى سمع عروة من خالته عائشة رضي الله عنها. وروى عنه ابن شهاب الزهري وغيره، وكان عالماً صالحاً ولما قطعت رجله من الأكلة لم يشعر الوليد بن عبد الملك بقطعها، وهو حاضر عنده لعدم تحركه حتى كويت، فوجد رائحة الكي على ما ذكر ابن قتيبة. قال: ولم يترك ورده تلك الليلة، وعاش بعد قطع رجله ثماني سنين ولما قتل أخوه عبد الله قال لعبد الملك بن مروان: اريد أن تعطيني سيف أخي. فقال: هو بين السيوف ولا أميزه فقال عروة: اذا حضرت السيوف فأنا أميزه فأمر عبد الملك باحضارها، فلما حضرت أخذ عروة منها سيفاً مقلل الحد، وقال: هذا سيف أخي. فقال عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ فقال: لا فقال: كيف عرفته؟ فقال: بقول النابغة الذبياني: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وعروة هو الذي احتفر البير المسماة ببير عروة في المدينة الشريفة، وليس فيها بير

أعذب ماء منها، وكان ولادته سنة اثنتين، وقيل سنة ست وعشرين. قال ابن خلكان وتوفي في قرية له دون المدينة، يقال لها فرع بضم الفاء وسكون الراء من ناحية الربذة بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخل ومياه. وذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع بين عبد الله بن الزبير وأخويه عروة ومصعب وعبد الملك بن مروان أيام تألفهم بعد موت معاوية، فقالوا: هلم فلنمنه، فقال عبد الله بن الزبير: منيتي أن أملك الحرمين ويقال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين فأجمع بين جميلتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك: منيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية. فقال عروة: ليست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الأخرى، وإن أكون ممن يروى عنه العلم، فقال: فما ماتوا حتى بلغ كل واحد منهم إلى أمله، وكان عبد الملك بن مروان لذلك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير. وفيها توفي أيضاً من الفقهاء السبعة أبو بكرعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي الملقب براهب قريش لعبادته وفضله، وكان مكفوفاً، وأبوه الحارث من جملة الصحابة، وهو أخو أبي جهل. وفيها توفي زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. روى عن جماعة من السلف إنهم قالوا: ما رأينا أورع وبعضهم قالوا أفضل منه منهم سعيد بن المسيب، وقال أيضاً: بلغني أن علي بن الحسين كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات، قال: وسمي زين العابدين لعبادته، وقال بعضهم كان عبد الملك بن مروان يحبه ويحترمه، وكان الحسين يوم قتل والده مريضاً فلم يتعرض له، وأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس. وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار: ان الصحابة لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فأمر ببيعهن فقال له علي رضي الله عنه إن بنات الملوك لا تعاملهن معاملات غيرهن، فقال: فكيف الطريق إلى بيعهن؟ فقال: تقومهن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومهن وأخذهن علي بن أبي طالب، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولده الحسين، وأخرى

لمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأولد عبد الله من التي آخذ سالماً، وأولد الحسين زين العابدين، وأولد محمد ولده القاسم، فهؤلاء الثلاثة بنو خالة، وأمهاتهم بنات ملك الفرس المذكور. وحكى المبرد في كتاب الكامل أن رجلاً من قريش لم يسمه قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، فقال لي يوماً: من أخوالك؟ فقلت: امي فتاة وكأني نقصت من عينه فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده قلت يا عم من هذا؟ قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟! هذا سالم بن عبد الله بن عمر. قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فجلس ثم نهض قلت يا عم من هذا؟ قال أتجهل من أهلك مثله؟ ما أعجب هذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قلت فمن أمه؟ قال فتاة. قال فأمهلت شيئاً حتى جاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسلم عليه ثم نهض فقلت: يا عم من هذا؟ قال هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن أبي طالب، قلت: من أمه. قال فتاه قلت يا عم رأيتني نقصت من عينك لما علمت أني لأم ولد فما لي في هؤلاء أسوة، قال فجللت في عينه جداً، وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ السراري حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة، وفاقوا أهل المدينة فقهاً وورعاً فرغب الناس في السراري، وقيل إن أم زين العابدين يقال لها غزالة، وقيل سلامة من بلاد السند والله أعلم. وروي أن زين العابدين كان كثير البر بأمه فقيل له إنا نراك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها. وروي أيضاً أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، وإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له ما لك؟ فقال ما تدرون بين يدي من أقوم؟ وكان إذا هاجت الريح سقط مغشياً عليه وقع حريق في بيت هو فيه، وهو ساجد، وجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه. فقيل له في ذلك فيما بعد: فقال ألهتني عنها النار الأخرى. وكان يقول: ان قوماً ما عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبد، وآخرين عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرين عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار، وكان لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، كان يسقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ويأخذ في صلاته، ويقضي ما فاته من ورد النهار. وروي أنه تكلم رجل فيه وافترى عليه فقال له زين العابدين: ان كنت كما قلت

سنة خمس وتسعين

فاستغفرالله، وإن لم تكن كما قلت فغفر الله لك، فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت فاغفر لي. قال غفر الله لك، فقال الرجل الله أعلم حيث يجعل رسالته. وسيأتي الأبيات التي قالها فيه الفرزدق لما جاء يستلم الحجر الأسود أعني قوله: هذا ابن خيرعباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم الأبيات الآتية في سنة عشر ومائة، ومناقبه ومحاسنه كثيرة شهيرة، اقتصرت منها على هذه النبذة اليسيرة. وفيها توفي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الكبار، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. سنة خمس وتسعين فيها أراح الله المسلمين بقلعه الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة لسبع وعشرين من رمضان، وله ثلاث وقيل أربع وقيل خمس وخمسون سنة، قالوا: وكان شجاعاً مقداماً مهيباً فصيحاً مفوهاً بليغاً سفاكاً للدماء عاملاً لعبد الملك بن مروان، ولي الحجاز سنتين ثم العراق وخراسان عشرين سنة، ولما توفي عبد الملك، وتولى ولده الوليد، اقره على ما بيده. وذكر في كتاب التعبير أنه أتي رجل ابن سيرين فقال: اني رأيت على شرفات مسجد المدينة حمامة بيضاء فعجبت من حسنها، فجاء صقر فاختطفها، فقال له ابن سيرين: إن صدقت رؤياك تزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر الطيار. فما مضى إلا يسير حتى تزوجها، فقيل له: يا أبا عبد الله كيف تخلصت إلى ذلك؟ فقال: ان الحمامة امرأة وبياضها نقاء حسنها، والشرفات شرفها، فلم أجد في المدينة امرأة أنقى حسناً ولا أشرف نسباً من ابنة عبد الله بن جعفر، ونظرت في الصقر فإذا هو سلطان ظالم غشوم، فلم أر في السلاطين أصقر من الحجاج بن يوسف. وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن أم الحجاج الفارعة بالفاء والراء والعين المهملة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب، فدخل عليها ذات ليلة في السحر فوجدها تخلل أسنانها، فبعث إليها بطلاقها، فأرسلت إليه: لم فعلت ذلك الشيء رابك مني؟ قال: نعم دخلت عليك في السحر وأنت تخللين، فإن كنت بادرت في الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك، فتزوجها بعده

يوسيف بن أبي عقيل الثقفي، فولدت له الحجاج لا دبر له فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها، فأعياهم أمره، فيقال إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة حكيم العرب المذكور، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابن ولد ليوسف من الفارعة وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جدياً وألقوه، او قال والعقوه دمه فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، واذبحوا له في الثالث تيساً أسود وافعلوا بدمه كما تقدم، ثم اذبحوا له أسود سالخاً. قلت: كأنه يعني ثعبان أسود قد سلخ جلده واستبدل آخر، وأمرهم أن يطعموه دمه، ويطلوا به وجهه، وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ذلك فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، ففعلوا به ذلك فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان عنه في أول أمره. وكان الحجاج يخبر عن نفسه: ان أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. وقيل إن الحجاج خطب يوماً، فقال في أثناء كلامه: ايها الناس إن الصبر عن محارم الله أهون من الصبر على عذاب الله، فقام له رجل وقال: ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياؤك، فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له اجترأت علي، فقال له: اتجترىء على الله فلا تنكره، وتجترىء عليك فتنكره؟! فخلي سبيله. وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم أهل الأثرة أن الفارعة أم الحجاج كانت تحت المغيرة بن شعبة، وإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه طاف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تنشد فيه خدرها. هل من سبيل إلى خمر فاشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج فقال عمر لا أرى معي في المدينة رجلاً يهتف به العواتق من خدورهن، علي بنصر بن الحجاج، فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً بفتح الشين والعين. فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك فأخذ منه فخرج له وجنتان كأنهما فلقتا قمر فقال له: اعتم فاعتم ففتن الناس بعينيه، فقال عمر: والله لا يساكنني ببلدة، فقال ما ذنبي يا أمير المؤمنين: قال: هو ما أقول لك، وسيره إلى البصرة. وأخبار الحجاج كثيرة هو الذي بنى مدينة واسط، وسميت بذلك لتوسطها بين البصرة والكوفة. قالوا ولما حضرته الوفاة دعا منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ فقال نعم ولست، فقال ولم؟ قالط: لأن الذي يموت اسمه كليب فقال الحجاج: والله بذلك سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرض موته ما قاله عبيد بن سفيان العكلي.

يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... ايمانهم أنني من ساكني النار أيحلفون على عمياء ويحهم ... ماظنهم بعظيم العفوغفار وكان مرضه بالآكلة وقعت في بطنه، فدعا بالطبيب فأخذ لحماً وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد علق به دود كبيرة، وسلط الله عليه بها الزمهريرة، وكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدني منه حتى يحرق جلده وهو لا يحس بها، فشكا ما يجده إلى الحسن البصري فقال له: قد نهيتك أن تتعرض للصالحين. وقيل إن الحسن سجد يشكر الله تعالى لما مات الحجاج، فقال: اللهم كما أمته فأمت عنا سنته، وكان قد رأى الحجاج أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة فطلق الهندين ظناً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد إنا الله وإنا إليه راجعون ثم قال من يقول شعراً ليسليني فقال الفرزدق. إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان مثل محمد ومحمد ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد وكان أخوه محمد بن يوسف المذكور والياً على اليمن، وكانت وفاة الحجاج في رمضان كما تقدم. قلت فقصته السم القاتل والشوم العاجل بقتل السيد الفاضل سعيد بن جبير كما سيأتي ذكر قتله له في شعبان من السنة المذكورة فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من الإفساد. وذكرابن عبد ربه في العقد أن الفارعة كانت زوجة المغيرة بن شعبة فطلقها من أجل التخلل المذكور في الحكاية والله أعلم، وإن الحجاج وأباه كانا يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح الجذامي وزير عبد الملك بن مروان وكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وإن الناس لا يرتحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى وزيره المذكور، فقال لهم: ان في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فقال لا

يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان الوزير المذكور، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير ألمؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا ابن اللخناء وكل معناه. فقال لهم: هيهات ذهب ذلك ثم أمرهم فجلدوا بالسياط، وطوف بهم في العسكر، وأمر بفساطيط الوزير فأحرقت بالنار، فدخل الوزير على عبد الملك شاكياً باكياً، فقال: علي به، فلما دخل عليه قال ما حملك على ما فعلت؟ فقال: انا ما فعلت شيئاً، قال: فمن فعل؟ قال أنت فعلت أنا يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يعوض عن ذلك ولا يكسرني فيما قدمني له فعوض الوزير ما ذهب له، وكان ذلك أول ما عرف من كفاية الحجاج وسطوته، ثم كان له في سفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها. ويقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبطه الأمور والقيام بالسياسات فاسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر، فأهلكه الله ودمره. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير السيد الشهير العبد الصالح سعيد بن جبدر الأسدي مولاهم المقري الفقيه المحدث المفسر، قتله الحجاج كما تقدم في شهر شعبان. وكان أحد علماء التابعين، اخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، فقال له ابن عباس: حدث. فقال: احدث وأنت هاهنا؟! فقال: اليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا هاهنا: فإن أصبت فداك، وإن أخطأت علمتك، وكان لا يستطيع أن يكتب مع ابن عباس في الفتيا، فلما عمي ابن عباس كتب وأخذ عنه أيضاً القراءة عرضا وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه، وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وعن بعض السلف قال: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءة أخرى وهكذا أبداً. وقال وفاء بن إياس قال لي سعيد بن جبير في رمضان أمسك علي القرآن فما قام من مجلسه حتى ختم، وقال بعضهم كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير، رحمة الة عليهم. وذكر الإمام أبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصفهان أنه دخلها وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها إلى العراق، وروى محمد بن حبيب أنه كان بأصفهان يسألونه عن الحديث ولا يحدث،

فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل له في ذلك، فقال: انشر يدك حيث تعرف، وقيل للحسن البصري أن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم أنت على فاسق ثقيف، والله لو أن من أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار. وقال الإمام أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد. وذكر بعضهم أنه لما أراد أن يقتله قال له: ما اسمك. قال: سعيد قال ابن من؟ قال: ابن جبير قال الحجاج: بل أنت شقي بن كثير قال: الله أعلم بي إذ خلقني قال: وجهوا به القبلة واقتلوه، فلما فعلوا به ذلك قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين. قال: حولوا وجهه عن القبلة فحولوه، فقال: فأينما تولوا فثم وجه الله. ولما قتله سال منه دم كثير، فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عن ذلك، وعمن كان قبله فإنهم كان يسيل منه دم قليل، فقالوا: لأن هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع النفس، وغيره قتلتهم وأنفسهم ذاهبة من الخوف فلذلك دمهم قليل. وقيل إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغيب ثم يفيق ويقول: ما لي؟ ولسعيد بن جبير وأنه قيل له في النوم بعد موته ما فعل الله تعالى بك؟ قال قتلني بكل قتيل قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة، فإنه كان في مدة مرضه إذا نام رأى سعيد بن جبير أخذ بمجامع ثوبه يقول يا عدو الله فبم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول ما لي ولسعيد؟ كان عمر بن جبير تسعاً وتسعين سنة، وقبره يزار في واسط، رضي الله عنه. وفي السنة المذكورة توفي أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى عن أبيه وسعيد وجماعة. وفيها توفي السيد الجليل الصفوة الفقيه العابد المجاب الدعوة مطرف بن عبد الله بن الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين والتشديد وسكون الياء المثناة من تحت وفي آخره راء العامري البصري روى عن علي وعمار. وفيها توفي فقيه العراق الإمام بالاتفاق أبو عمران ابراهيم بن يزيد النخعي، اخذ عن علقمة والأسود ومسروق، ورأى عائشة وهو صبي، ولما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً فقيل له في ذلك فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه؟ أتوقع رسولاً يرد علي إما بالجنة وأما بالنار والله لوددت أنها تجلجل في حلقي إلى يوم القيامة يعني نفسه والنخع بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة قبيلة كبيرة من مذحج باليمن سميت باسم الجد لأنه

سنة ست وتسعين

انتخع من قومه أي بعد عنهم. وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، سمع من خاله عثمان وهو صغير، وكان عالماً فاضلاً مشهوراً مشكوراً. سنة ست وتسعين فيها قلع الله قرة بن شريك القيسي أمير مصر، قيل كان ظالماً فاسقاً إذا انصرف الصناع من بناء جامع مصر دخله فدعا بالخمر والملاهي، ويقول لنا الليل ولهم النهار. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما روي عنه الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقرة بمصر وعثمان بن حيان بالحجاز امتلأت والله الأرض جوراً. وفيها توفي خليفتهم الوليد بن عبد الملك، وكان مع ظلمه كثير التلاوة للقرآن، قيل كان يختم في ثلاث، ويقرأ في رمضان سبع عشرة ختمة، وعظمت سعادته في الدنيا، ونجاح أشياء من أمور الدين منها: أنشأؤه جامع دمشق وافتتاح بلاد الهند في أيامه وبلاد الترك والأندلس وكثرة الصدقات، وجاء عنه أنه قال: لولا ذكر الله فعل قوم لوط في القرآن ما ظننت أن أحداً يقتله. وفي آخرها قتل قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان بعدما وليها عشر سنين، قبل خلع سليمان بن عبد الملك فقتلوه، وكان بطلاً شجاعاً شهماً مقداماً هزم الكفار غير مرة وافتتح خوارزم وسمرقند وبخارى وقد كانوا كفروا، وكذلك فتح فرغانة بالفاء والغين المعجمة والنون، فلما مات الوليد بن عبد الملك وتولى أخوه سليمان، خافه قتيبة، فخرج عليه وأظهر الخلاف، وكان قتيبة قد عزل وكيع بن أبي الأسود عن رياسة بني تميم، فحقد عليه وكيع وسعى في تأليب الجند سراً ثم عرج عليه فقتله مع أحد عشر من أهله وفي قتله يقول جرير. ندمتم على قتل الأعز ابن مسلم ... وأنتم إذا لاقيتم الله أندم لقد كنتم في غزوة في غيمة ... وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم على أنه أفضي إلي حور جنة ... ويطبق بالبلوى عليكم جهنم والباهلي نسبة إلى باهلة القبيلة المشهورة، وكانت العرب تستنكف من الانتساب إليها حتى قال الشاعر:

سنة سبع وتسعين

وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهلة وقال الآخر: ولوقيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لوم هذا النسب وقال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح: اي رجل أنت؟! لو كانت أخوالك من سلول، فلو بادلت: فقال: اصلح الله الأمير بادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة. سنة سبع وتسعين فيها توفي سعيد بن مرجانة صاحب أبي هريرة والفقيه طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري قاضي المدينة، وهو أحد الطلحات الموصوفين بالجود وفيها أو في سنة ثمان توفي قيس بن أبي حازم الأحمسي البجلي الكوفي وقد جاوز المائة، سمع أبا بكرة وطائفة من البدريين، كان من علماء الكوفة. وفيها أو في سنة ست توفي محمود بن لبيد الأنصاري الأشهلي. قال البخاري له صحبة، وذكره مسلم غيره في التابعين، وله عدة أحاديث. قال بعض المحدثين حكمها لارسال، وحج فيها بالناس خليفتهم سليمان بن عبد الملك، وتوفي معه بوادي القرى أبو عبد الرحمن موسى بن نصير الأعرج الأمير الذي افتتح الأندلس وأكثر المغرب، وكان من رجال العالم حزماً وعزماً ورأياً وهمة ونيلا وشجاعة واقداماً لم يهزم له جيش قط. قلت وكان والده نصير على جيوش معه، ومنزلته عنده مكينة، وكان عبد الله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياًعلى مصر وإفريقية، فبعث ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له: ارسل معي موسى بن نصير إلى إفريقية، وذلك في سنة تسع وثمانين من الهجرة، وقيل سبع وسبعين، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة، فوجه ولده عبد الله فأتاه بمائة ألف رأس - قلت، هكذا هو في نسخة الأصل - وبعده قال الليث فبلغ الخمس ستين ألف رأس، وهذا لا يوافق قوله مائة ألف، ولا بد أن يكون أحد اللفظين غلطاً، فأما أن يكون الصحيح قول الليث ويكون الجملة ثلاث مائة ألف، وأما أن يصح رواية مائة ألف فيكون الخمس عشرين ألفاً، او يكون غلطه الكاتب في قوله ستين ألف رأس، وإنما هي ستون ألف دينار أو درهم على حسب ارتفاع

القيم وانخفاضها والله سبحانه أعلم. وقال أبو شبيب الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير، وكانت البلاد في قحط شديد فأمر الناس بالصلاة والصوم وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، فأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب الناس، ولم يذكر الوليد ابن عبد الملك، فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله عز وجل، فسقوا حتى رووا. وقتل من البربر خلقاً كثيراً، وسبى سبياً عظيماً، حتى انتهى إلى السوس الذي لايدافعه أحد، ونزل بقية البربر على الطاعة، وطلبوا الأمان، وولي عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ومهد البلاد ولم يبق له منازع من البربر ولامن الروم، وترك خلقاً كثيراً من العرب يعلمون البربر القرآن وفرائض الإسلام، فلما تقرر القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر، ليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره وركب البحرمن سنته إلى الجزيرة الخضراء من الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق، لأنه نسب إليه لما حصل عليه وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التغدية، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء حتى مروا، وبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملكاً يقال له الذريق، ولما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب نائب للذريق يقال له تذمير؛ أنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض فأقبل الذريق في سبعين ألف فارس ومعه العجل يحتمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد. فلما دنا من طارق وعسكره قال طارق لمن معه أين المفر والبحرمن ورائكم والعدو أمامكم فليس عليكم والله إلا الصدق والصبر، وليس لكم وزير إلا سيوفكم، فلما التقوا

سنة ثمان وتسعين

حمل طارت على سرير الذريق وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله، وهو في غاية من النبوة والأعلام، وبين يديه المقاتلة والسلاح، وحمل أصحاب طارق معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي الذريق، فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان وكان النصر للمسلمين ولم يزل طارق يفتح البلاد ووموسى بن نصير التحق به إلى أن بلغ ساحل البحر المحيط. سنة ثمان وتسعين فيها غزا المسلمون قسطنطينية وعلى المسلمين مسلمة بن عبد الملك، وفيها افتتح يزيد بن المهلب جرجان. وتوفي أبو عمرو الشيباني الكوفي وله مائة وعشرين سنة، روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما: وكان يقرىء الناس بمسجد الكوفة. وفيها توفي أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية الهاشمي، رحمة الله عليها. وفيهاأوفي التي بعدها توفي عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الفقيه العابد، أدرك عمر وسمع من عائشة رضي الله عنهما. وفيها على الصحيح توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الضريرأحد فقهاء المدينة السبعة، وفيها توفي كنزالعلم كريب مولى ابن عباس، كان كثيرالعلم كبيرالقدر، قال موسى بن عقبة، وضع عندنا كريب عدل بعيرمن كتب ابن عباس، وفيها توفيت الفقيهة عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وكانت في حجرعائشة رضي الله عنهما، فاكثرت في الرواية عنها. سنة تسع وتسعين فيهاعلى اختلاف تقدم ذكره توفي أبوالأسود ظالم بن عمروالديلي، بكسر الدال المهملة وبعدها مثناة من تحت مهموزة من فوق، ويقال: بضم الدال بعدها واو مهموزة من فوق نسبة إلى الديل قبيلة من كنانة بفتح الهمزة في النسبة قال وإنما فتحت لئلا يتوالى الكسرات كما قالوا في النسب إلى نمرة نمري بالفتح وهي قاعدة مطردة والدال اسم دابة بين

ابن عرس والثعلب. وفي اسمه ونسبه اختلاف كثير، كان من سادات التابعين وأعيانهم، وصاحباً لعلي أبي طالب رضي الله عنه، معه شهد وقعة صفين، وهو بصري من أكمل الرجال رأياً وأرجحهم عقلاً، وهو أول من وضع النحو، وفي سبب ذلك اختلاف كثير. قيل: ان علياًرضي الله عنه وضع له: الكلام كله ثلاثة اسم، وفعل وحرف، ثم دفعه إليه وقال: وتم على هذا، وقيل إنه كان يعلم أولاد زياد ابن أبيه وهو والي العراقين يومئذ، فجاء يوماً ماوقال له: اصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقيمون به كلامهم؟ قال: لا فجاء رجل إلى زياد، وقال: اصلح الله الأمير توفي أبونا وترك بنين فقال: ادعوا أبا الأسود، فلما حضر قال ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم. وقيل إنه دخل يوماً بيته فقال له بعض بناته يا أبة ما أحسن السماء وذكرت ذلك برفع النون من أحسن وجرت الهمزة من السماء، فقال: يا بنية نجومها فقالت إني لم أرد أي شيء منها، احسن إنما تعجبت من حسنها، فقال اذن قولي ما أحسن السماء وحينئذ وضع النحو قلت وإنما رد عليها لأنها رفعت النون من أحسن، وجرت الهمزة من آخر السماء، ومثل هذا يقع استفهاماً عن أي شيء في السماء أحسن؟ فلما فهم منها أنها لم ترد ذلك وإنما أرادت التعجب من حسن السماء أمرها أن تفتح النون والهمزة المذكورتين معاً، كما هو المعروف من وضع العربية في التعجب. وحكى ولده أبو حرب: قال أول باب رسم والدي التعجب. وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم يعنون النحو؟ قال: تلقنت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل إن أبا الأسود كان لا يخرج شيئاً أخذه عن علي بن أبي طالب حتى بعث إليه زياد المذكور أن أعمل شيئاً يكون للناس إماماً ويعرف به كتاب الله عز وجل، فاستعفاه أبو الأسود من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر، قال ما ظننت أن أمر الناس يؤول إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال أفعل ما أمر به الأمير، فليعني كاتباً لقناً يفعل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر فقال له أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحررف فانقط بين نقطة فوق، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحروف، فإن كسرت فاجعل النقط من تحت، ففعل ذلك وإنما سمي النحو نحو الآن أبا الأسود المذكور، قال استأذنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحواً والله أعلم. وكان لأبي الأسود بالبصرة داراً وله جاراً يتأذى منه في كل وقت، فباع الدار فقيل له:

بعت دارك؟! فقال: بل بعت جاري. فأرسلها مثلاً قلت يعني سار لفظه هذا مثلاً لمن باع الدار هرباً من الجار، فيقول ما بعت داري بل بعت جاري أو بعت جاري لا داري. ومن كلام أهل المعرفة الجار قبل الدار أي اعرف جوارك قبل أن تشتري دارك. ودخل أبو الأسود يوماً على عبيد الله بن أبي بكرة نقيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، وقيل على المنذر بن جارود، وعليه جبة رثة كان يكثر لبسها، فقال يا أبا الأسود أما تمل لبس هذه الجبة؟ فقال رب مملوك لا يستطاع فراقه، فلما خرج من عنده سير إليه مائة ثوب، فكان ينشد بعد ذلك: كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر وان أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر ويروى وناصر بالنون وياصر بالياء المثناة، من تحت ولكل واحد منها معنى فمعناه بالنون ظاهر لأنه عن النصرة وبالياء من التعطف والحنو يقال فلان ياصر على فلان إذا كان يعطف عليه ويمن وله أشعار كثيرة فمن ذلك قوله: وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء يجيء بملئهاطوراً وطورا ... يجيء بحمأة وقليل ماء ومن شعره أيضاً وله ديوان شعر: صبغت أمية في الدماء أكفنا ... وطوت أمية دوننا دنياها قلت كأنه يعني بني أمية أوردونا معارك القتال وبخلوا علينا بالمال. ويحكى أنه أصابه فالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله، وكان موسراً ذا عبيد واماء، فقيل له قد أغناك الله سبحانه عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك، قال لا ولكني أخرج وأدخل، فيقول الخادم: قد جاء، ويقول الصبي: قد جاء ولو جلست في البيت فبالت الشاة علي ما منعها أحد عني، قلت يحتمل قوله قد جاء معنيين أحدهما الاشارة إلى أنه يجيء بشيء يفرحون به من السوق فيكون في ذلك تجدد فرح لهم بعد فرح، والثاني أنهم يخافون منه فمجيئه يجدد لهم خوفاً بعد خوف ويكون ذلك وسيلة إلى التأدب به والحذرمنه، وآخر كلامه يدل على المعنى الثاني والله أعلم. وحكى خليفة بن خياط أن عبد الله بن عباس كان عاملاً لعلي رضي الله عنهما على البصرة، فلما شخص إلى الحجاز استخلف أبا الأسود عليها، فلم يزل حتى قتل علي رضي الله عنه، وسمع رجلاً يقول من يعشي الجائع؟ فقال: علي به فعشاه، ثم ذهب ليخرج،

فقال أين تريد؟ قال: اهلي، قال: هيهات ما عشيتك إلا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح، وتوفي أبو الأسود بالبصرة. وفيها توفي محمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي، كان قد عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه من بير في دارهم وهو ابن أربع سنين. وفيها توفي نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، وكان هو وأخوه محمد من علماء قريش وأشرافهم، توفي قريباً من أخيه. وفيها توفي عبد الله بن محيريز الجمحي المكي نزيل بيت المقدس، وكان عابد الشام في زمانه رحمةالله عليه. وقال رجاء بن حيوة إن تفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز، وإن كنت لأعد بقاءه أماناً لأهل الأرض. وفي عاشر صفر توفي خليفتهم سليمان بن عبد الملك الأموي، وله خمس وأربعون سنة، وكانت خلافته أقل من ثلاث سنين، وكان فصيحاً فهماً محباً للعدل والغزو ذا همة عالية، جهز الجيوش لحصار القسطنطينية، وسافر فنزل على قنسرين رداً لهم، وقرب ابن عمه عمر بن عبد العزيز وجعله وزيره ومشيره، ثم عهد إليه بالخلافة، وكان أبيض مليح الوجه مقرون الحاجبين يضرب شعره منكبيه. قلت حكي أنه قدم عليه من بلاد الهند حكيم فقال له: بم جئتني؟ قال: جئتك بثلاث قال: ما هي؟ قال: تأكل ولا تشبع، وتنكح ولا تفتر، وتسود شعرك ولا تبيض، فقال له: كلهن يرغب العاقل عنهن. أما كثرة الأكل فأقل ما في ذلك كثرة دخول إلى المرحاض وشم الروائح الخبيثة، وأما كثرة النكاح فأقل ما في ذلك أنه يقبح لمثلي خليفة يبقى أسيرامرأة، وأما تسويد الشر فقبيح أن يسود المرء نوراً أكرم الله تعالى به عبده المسلم مشيراً إلى الحديث من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة الحديث.

سنة مائة

سنة مائة فيها توفي أبو إمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عن عمر وجماعة، وكان من علماء المدينة. وفيها وقيل في سنة عشر ومائة توفي أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الليثي بمكة، وهوآخر من رأى النبي صلى الله عليه وآله رسلم موتاً، ويروى عنه هذا البيت. وما شاب رأسي عن سنين تنابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع وتوفي بسر بن سعيد المدني الزاهد العابد المجاب الدعوة، روى عن عثمان وزيد بن ثابت، وفيها وقيل بعدها بعام أو قبلها توفي سالم بن أبي الجعد الكوفي من مشاهير المحدثين. وفيها توفي خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني المفتي أحد الفقهاء السبعة، تفقه على والده. وتوفي أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل بالبصرة، وكان قد أسلم وأدى الزكاة الى عمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحج في الجاهلية، وعاش مائة وثلاثين سنة، صحب سلمان الفارسي اثنتي عشرة سنة. وفيها توفي شهر بن حوشب الأشعري، قرأ القرآن على ابن عباس، وكان كثير الرواية حسن الحديث. وفيها توفي مسلم بن يسار روى عن ابن عمر وغيره، وكان من عباد البصرة وفقهائها، قال ابن عون: كان لا يفضل عليه أحد في ذلك الزمان، وقال غيره: كان ثقة فاضلاً عابداً ورعاً. وفيها توفي عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي أحد أشراف قريش وحكمائها وعقلائها، وروى عن أبيه وجماعة. سنة إحدى ومائة في رجب منها توفي السيد الفاضل الإمام العادل أميرالمؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي بدير سمعان من أرض المعرة،

وفي موته المذكور يقول جرير نظمه المشهور: لو كنت أملك والأقدار غالبة ... تأتي رواحاً تبياتاً وتتبكر رددت عن عمر الخيرات مصرعه ... بدير سمعان لكن يغلب القدر وجملة عمره أربعون سنة، وخلافته سنتان وخمسة أشهر كأيام مدة خلافة الصديق، وكان أبيض جميلاً نحيف الجسم حسن اللحية بجبهته أثر حافي فرس شجه وهو صغير، وكان يقال له أشج بني أمية، حفظ القرآن في صغره، فبعثه أبوه من مصر فتفقه في المدينة حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد. ومن كلامه المنقول عنه أنه قال: ينبغي أن يكون في القاضي خمس خصال: العلم بما يتعلق به، والحلم عند الخصومة، والنزهة عند الطمع، والاحتمال للأئمة، والاستشارة لذوي العلم. ومناقبه كثيرة شهيرة، وقد صنف فيها غير واحد من العلماء تصانيف مستقلات مشتملات على كثير من المحاسن الغراب، وجده لأمه عاصم بن عمر بن الخطاب، وجدته هي البنية التي سمعها عمربن الخطاب في الليل تقول لأمها المقالة المشهورة في قصة اللبن، لما أمرتها أمها أن تخلط الماء في اللبن فقالت لها البنية أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهي عن ذلك؟ فقالت أمها مقالاً معناه أن عمرلا يدري عنك، فقالت البنية: والله ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سراً. وعمر رضي الله عنه يسمع كلامهما، فأعجبه عقل هذه البنية ودينها، فزوجها من ابنه المذكور. وقال السيد الجليل رجاء بن حيوة بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز: فهم السراج أن يطفأ فقمت إليه لأصلحه، فأقسم علي عمر أن أقعد، فقام هو وأصلحه، فقلت له: تقوم أنت يا أمير المؤمنين: فقال: قمت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر. وقال قومت ثياب عمربن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهماً، كانت قباء وعمامة وقميصاً وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة. وروي أنه كان يؤتي بالحلة قبل أن يلي الخلافة بألف درهم، فيقول ما أحسنها لولا خشونة فيها: ويؤتي بالحلة حين ولي الخلافة بأربعة أو خمسة دراهم، فيقول: ما أحسنها لولا نعومة فيها فسئل عن ذلك فقال: إن لي نفساً ذواقة تواقة، كلما ذاقت شيئاً تاقت إلى ما فوقه، فلم تزل تذوق وتتوق إلى أن ذاقت الخلافة فتاقت إلى ما فوقها، ولم يكن في الدنيا شيء فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى في الدار الآخرة، وذلك لا ينال إلا بترك الدنيا.

وروي أنه دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وهو مريض فرأى ثوبه وسخاً، فقال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: اغسلوا ثوب أمير المؤمنين، فقالت: نفعل إن شاء الله تعالى، ثم كذلك لم يزل يدخل عليه والثوب على حاله، فخاصم أخته فقالت له: إنه ليس ثوب غيره، إذا غسلناه لم يجد ثوباً يلبسه. وروي أن سليمان بن عبد الملك استشار في مرض موته السيد الجليل رجاء بن حيوة فيمن يعهد إليه بأمر الخلافة بعده، فأشار إليه بعمر بن عبد العزيز، فقال: كيف يمكن ذلك وأولاد عبد الملك لا يطيعون؟ فقال: افعل ما آمرك به والأمر يتصلح إن شاء الله تعالى. فقال: ما تأمرني؟ فقال: اكتب كتاب العهد له واختمه. ففعل ذلك ثم قال له: مر منادياً فليناد بالناس يحضرون عندك، فإذا حضروا فمرهم فليبايعوا لمن عهدت له فيه، ففعل ذلك. قال رجاء بن حيوة: فلما انصرفنا من عنده إذا بمركب خلفي فالتفت فإذا بهشام بن عبد الملك، فقال لي يا رجاء: اعلمني من صاحب العهد فإن أكن أنا هو عرفت ذلك، والا تكلمت قبل أن يفرط الأمر. قال: فأجبته بجواب أطمعته فيه من غير تصريح، فسكت وانصرف، ثم التفت: فإذا أنا بعمر بن عبد العزيز. فقال لي: يا رجاء اعلمني لمن كتب هذا العهد فإن لمن لغيري سكت، وإن يكن لي تكلمت في صرفه عني ما دام في الأمر سعة. قال: فأوهمته مراده فلما توفي سليمان أمرت من عنده يكتم موته، وقلت مروا منادياً فليناد بالناس ليبايعوا أمير المؤمنين ثانياًعلى السمع والطاعة لمن في الكتاب، ففعلوا ذلك، فلما حضروا وبايعوا قلت أعظم الله أجوركم في أمير المؤمنين، ثم فتح الكتاب فإذا صاحب العهد عمر بن عبد العزيز، فوخم لذلك بنو عبد الملك ولم يقدروا يفعلون شيئاً. ثم أخرجت جنازته فخرج بنو عبد الملك ركباناً، وخرج عمر بن عبد العزيز ماشياً. فلما رجعوا من دفنه أرسل عمر إلى نسائه رسولاً يقول لهن من أرادت منكن الدنيا فلتلحق بأهلها، فإن عمر قد جاءه أمر يشغله، قال: فسمعت النوائح يومئذ في بيت عمر بن عبد العزيز وعدله رضي الله عنه وحسن سيرته الحسناء وأوصافه الجميلة قد ملأت الوجود شهرة، رحمة الله تعالى ورضوانه عليه. وفيها توفي أبو صالح السمان ذكوان صاحب أبي هريرة رحمه الله. وفيها أو في التي قبلها توفي ربعي بن حراش أحد علماء الكوفة وعبادها، وقيل إنه لم يكذب قط، قال: قد آلى أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار. وفيها وقيل في سنة خمس وتسعين توفي الحسن بن محمد ابن الحنيفة الهاشمي العلوي، ورد أنه صنف كتاباً في الأرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم. وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على امرة العراقين وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب، وكان قد خرج واستقل بالدعوة لنفسه، فحاربه حتى قتل يزيد المذكور في السنة الآتية كما سيأتي. وممن توفي بعد المائة ابراهيم بن عبد الله بن جبير المدني، وابراهيم بن عبد الله بن سعيد بن عياش الهاشمي المدني، والقطامي الشاعر المشهور، ومعاذة العدوية الفقيهة العابدة بالبصرة، وبشير بن يسار المدني الفقيه، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة التيمية التي أصدقها مصعب بن الزبير مائة ألف دينار، وكانت من أجمل النساء، وهي إحدى عقيلتي قريش اللتين تمناهما مصعب فنالهما كما تقدم، والثانية سكينة بنت الحسين، وذو الرمةالشاعر المشهور، وأبو الأشعث الصنعاني الشامي، وزياد الأعجم الشاعر، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري القاضي. يل في سنة خمس وتسعين توفي الحسن بن محمد ابن الحنيفة الهاشمي العلوي، ورد أنه صنف كتاباً في الأرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم.

سنة اثنتين ومائة

وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على امرة العراقين وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب، وكان قد خرج واستقل بالدعوة لنفسه، فحاربه حتى قتل يزيد المذكور في السنة الآتية كما سيأتي. وممن توفي بعد المائة ابراهيم بن عبد الله بن جبير المدني، وابراهيم بن عبد الله بن سعيد بن عياش الهاشمي المدني، والقطامي الشاعر المشهور، ومعاذة العدوية الفقيهة العابدة بالبصرة، وبشير بن يسار المدني الفقيه، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة التيمية التي أصدقها مصعب بن الزبير مائة ألف دينار، وكانت من أجمل النساء، وهي إحدى عقيلتي قريش اللتين تمناهما مصعب فنالهما كما تقدم، والثانية سكينة بنت الحسين، وذو الرمةالشاعر المشهور، وأبو الأشعث الصنعاني الشامي، وزياد الأعجم الشاعر، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري القاضي. سنة اثنتين ومائة وفيها توفي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان أمير البصرة لسليمان بن عبد الملك، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزله وسجنه، فلما توفي عمر أخرجه خواصه من السجن، فوثب على البصرة وفر منه عاملها. عدي بن أرطأة الفزاري، ونصب يزيد رايات سوداً وتسمى بالقحطاني، وقال ادعو إلي سيرة عمر بن الخطاب، فجاء مسلمة وحاربه، ثم قتل يزيد بن المهلب في صفر، وكان جواداً ممدوحاً كثير الغزو والفتوح. قال ابن خلكان وأجمع علماء التاريخ أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة، وقال بعضهم لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه، فقال مه، إن يزيد طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريمأ. وذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء أن يزيد بن المهلب وقعت عليه حية فلم يرفعها عن نفسه، فقال أبوه ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة. وفيها توفي يزيد بن أبي مسلم الثقفي مولاهم، وكان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي

كاتبه، وكان فيه كفاية ونهضة، وقدمه الحجاج بسبب ذلك، ولما حضرته الوفاة استخلفه بالعراق، وأقره الوليد بن عبد الملك، وقيل إن الوليد هو الذي ولاه بعد موت الحجاج، وقال الوليد: يوماً مثلي ومثل الحجاج ويزيد بن أبي مسلم كرجل ضاع له درهم فوجد ديناراً. قلت مثل في هذا الحجاج بالدرهم ويزيد بالدينار، فلما مات الحجاج خلفه يزيد فكأنه وجد ديناراً بعد ضياع الدرهم لما رأى من فضل يزيد وحسن عقله وبلاغة لسانه، ولم مات الوليد وتولى أخوه سليمان عزل يزيد المذكور، واستحضره فرآه دميماً كبير البطن قبيح الوجه فقال لعن الله من أشركك في أمانته وحكمك في دينه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل فإنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة علي لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتله الله ما أشد عقله وأعذب لسانه. ثم قال سليمان: يا يزيد أترى صاحبك الحجاج يهوي بعد في نار جهنم أم قد استقر في قعرها، فقال: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن الحجاج عاد عدوكم ووالى وليكم وبذل مهجته لكم، فهو في يوم القيامة عن يمين عبد الملك وعن يسار الوليد، فاجعله حيث أحببت. وفي رواية أخرى: يحشر بين اثنين أبيك وأخيك فضعهما حيث شئت. قال سليمان: قاتله الله أوفى لصاحبه إذا اصطنعت الرجال فلتصطنع مثل هذا. فقال: بعض الحاضرين: اقتله يا أميرالمؤمنين فقال يزيد: من هذا؟ قالوا فلان ابن فلان، فقال: والله لقد بلغني أن أمه ما كان يوراي شعرها أذنيها، فما تمالك سليمان إن ضحك وأمر بتخليته، ثم كشف عنه سليمان فلم يجد له خيانة في دينار ولا درهم، فهم باستكتابه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه، فاعلمه سليمان أنه لم يخن قط في دينار ولا في درهم، فأجابه عمر بأن إبليس لم يخن فيهما وقد أهلك هذا الخلق، فتركه سليمان. وفيها توفي بخراسان الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حماراً يدورعليهم إذا أعيى. وفيها لما قتل يزيد بن المهلب في المعركة عمد ابنه معاوية فأخرج من الجيش عدي بن أرطأة وجماعة فذبحهم صبراً فقال الأصمعي: إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب يعني في زمن ولاية الحجاج على العراق، قال فسأله أن يخفف عنه العذاب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم، فإن أداها ولا عذبه في الليل، أوقال إلى الليل فجمع يوماً مائة ألف درهم ليشتري بها نفسه من عذاب ذلك اليوم، فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال:

سنة ثلاث ومائة

أبا خالد نادت حراسان بعدكم ... وقال ذووالحاجات أين يزيد فلا نظر الراؤون بعدك منظراً ... ولا اخضر بالمروين بعدك عود فما السرير الملك بعدك بهجة ... ولا الجواد بعد جودك جود قال: فأعطاه المائة الألف، فبلغ ذلك الحجاج فدعى به وقال: أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟! قد وهبت لك عذاب يومك وما بعده. سنة ثلاث ومائة فيها توفي عطاء بن يسار المدني الفقيه مولى ميمونة أم المؤمنين، كان إماماً روى عن كبار الصحابة، وفيها توفي الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي عن نيف وثمانين سنة، قيل: وكان أعلمهم بالتفسير، قال: قرأت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقال لي ابن عمر: وودت أن نافعاً يحفظ حفظك، وقال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحداً أراد لهذا العلم وجه الله إلا عطاء وطاوساً ومجاهداً. وفيها توفي مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، كان فاضلاً كثير الحديث. وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، روى عن عثمان ووالده، وقال أبوحاتم: هو أفضل إخوته بعد محمد، وكان يسمى في زمانه المهدي. وفيها توفي مقرئ الكوفة يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم، اخذ عن ابن عباس وطائفة، قال الأعمش: اذا رأيته قد جاء قلت هذا قد وقف للحساب يعد ذنوبه، رحمهما الله تعالى. وفيها توفي يزيد بن الأصم العامري ابن خالة ابن العباس، روى عن خالته عن ميمونة وطائفة. سنة أربع ومائة توفي فيها وقيل في التي قبلها وقيل بعدها فجأة الحبر العلامة أبو عمرو، وعامر بن

شراحيل السعبي الكوفي، وله بضع وثمانون سنة. قال ابن المديني: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه وسفيان الثوري في زمانه، قيل جد الشعبي من إقبال اليمن من حمير، وهو تابعي جليل القدر وافي العلم، روي أن ابن عمر مر به يوماً وهو يحدث بالمغازي وقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وحكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت جعل لا يسألني إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل عنده فحبسني أياماً كثيرة حتى استحببت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا ولكنني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فرفعت إلي رقعة وقال: اذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسالة عند وصولي إلى عبد الملك، ونسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فقال: قرأها وقال لي: اقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك، قلت: نعم. قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا ولكني من العرب في الجملة ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددت، قال لي: اتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. قال: فاقرأها، فقرأتها، فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت: والله لو علمت ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك. قال: افتدري لم كتبها قلت: لا. قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك، فتأدى ذلك إلى ملك الروم وقال: ما أردت إلا ما قال. قلت وقول الشعبي وإنما قال هذه لأنه لم يرك صدر عن بلاغة فهم ثاقب، واق من الوقوع في المغاضب أعني أنه مدح عبد الملك بما سكن به ثوران الغضب المؤدي عنذ هيجانه إلى سفك الدماء والعطب، وذلك أن مدح ملك الروم للإمام الشعبي مشتمل على أمرين خطيرين: احدهما أنه رفعه رفعاً ينحط به فضل عبد الملك، وحينئذ يكره أن يبقى مرفوعاً، ويقتضي أن يكون في جنبه موضوعاً، فلما مدحه الشعبي فكأنه قال: لو رأى فضلك لاحتقر فضلي في جنب فضلك، وكان ذلك سبباً لتسكين عبد الملك وحقن دم الشعبي. والثاني أن الرومي أوهم عبد الملك أن الشعبي أحق بالملك منه، فخشي أن يؤول الأمر إلى انتقال الملك منه إليه، كما خشي هارون الرشيد أن ينتقل ملكه إلى الأمام الشافعي لما جرى من الفضائل فجرى له معه ما جرى كما هو معررف في سيرة الشافعي. فلما مدح الشعبي عبد الملك، وخلع عن نفسه خلعة الفضل وألبسها إياه، وكأنه قال: تاج الملك لا

يصلح إلا لك، فعند ذلك سحكنت نفس عبد الملك، وسلم الشعبي من الوقوع في المهالك. وقال الزهري: العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة، والحسن بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام. وذكر بعض المؤريخين أن الحجاج قال له يوماً: كم عطاك في السنة؟ قال: الفين، فقال: كم عطاؤك؟ قال: الفان. فقال: كيف لحنت أولاً؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا، فاستحسن ذلك منه وأجازه، قلت وأراد بقوله لحن الأمير: قول الحجاج. ولاكم عطاك أولا بغير واو ولا مد بين الألف والكاف وكان مزحاً. وقد اشتهر عن الشعبي أنه قال: ما أروي شيئاً أو قل ما أحفظ أقل من الشعر، ولوشئت أن أنشده شهراً ولا أعيد بيتاً لفعلت. وقال أبو بكر الهذلي للشعبي: اتحب الشعر؟ قال: نعم. فقال: اما إنه يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثهم. وقال الشعبي ما أودعت قلبي شيئاً فخانني، وقال الشعبي: انما الفقيه من ورع عن محارم الله تعالى، والعالم من خاف الله عز وجل، وقال: اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين. قال: ولقد أدركت خمس مائة أو أكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم عمر وعلي رضي الله عنهم. وحكي أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: انشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه، فقال قول امرىء القيس: صبت عليه وما تنصب عن أمم ... إن الشفاء على الأشقين مكتوب وقول زهير: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يقره ومن لا يتقي الشتم يشتم وقول النابغة: ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب

وقول عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتد وقوله طرفة بن العبد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقول الحطيئة: من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب الخير بين الله والناس مع أبيات أخرى من أشعار العرب، رغبت في حذفها أختصاراً. وقال الشعبي: وقد قيل له: ما تقول في النابغة؟ فقال: خرج عمر بن الخطاب وببابه وفد غطفان، فقال يا معشرغطفان أي شعرائكم الذي يقول: حلفت قلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب لأن كنت قد بلغت عني رسالة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيكم الذي يقول: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع مع أبيات أخرى سأل عن قائلها، فقالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، فقال: هذا أشعر شعرائكم. انتهى مختصراً. وقال أبو العيناء: دخل الشعبي على الحجاج فقال: يا شعبي أدب وافر وعقل فاخر. قال: صدقت أيها الأمير، العقل عزيزة والأدب تكلف، ولولا أنتم معشر الملوك ما تأدبنا، قال: فالمنة لنا في ذلك دونكم، قال: صدقت أيها الأمير. قال: وكنا مع المغيرة بظهرالكوفة، فقيل له هذا دير هند، فقال: لو دخلناه فدخلنا فإذا هي جالسة عليها ثياب صوف سود لم أر قط أجمل منها، فقال لها المغيرة: هل لك فيما أحل الله تعالى؟ فقالت: كأنك أردت أن يقال تزوج المغيرة هند ابنة النعمان، ان ذلك غير كائن إليك فاخرج. قال: وخرجنا مع زياد بعد ذلك إلى ظاهر الكوفة، فمر بدير هند، فقيل له هذا دير هند، فقال: ادخلوا بنا فدخلنا فإذا هند وأختها جالستان عليهما ثياب صوف سود. قال الشعي فما أنسى جمالها فقال زياد: يا هند حدثيني عن ملككم، وما كنتم فيه، فقالت: اجمل أم أفسر؟ قال: اجملي قالت: اصبحنا وكل من رأيت لنا عبيد، وأمسينا وعدونا يرحمنا. قلت لقد أبدعت في بلاغة هذا الإيجاز، وضمنت بمختصره المعاني الكثيرات الغزار،

فانظر إلى ما أدرجت تحت مملكة انقاد لها الإنام عبيداً وطوت تحت زوال نعم يرثي من زوالها من كان حسوداً، وقصرت طول زمان ملك طال أشهراً وسنينا يقولها عند وصف ذلك: فأصبحنا وأمسينا فانظر إلى بعد التفاوت بين هذه الأطراف وما جمعت في ذلك من الحسن المقابل بالاعتراف، ولعل مراد الإمام الشعبي رحمه الله تعالى بقوله: فما أنسى جمالها أي في هذا الخطاب المشتمل على أحسن الجواب، ومما يدل على ذلك أن انسياق الكلام كان في حكاية الشعبي: الإيجاز في الخطاب وحسن النظام، وقد صرحت في بعض قصائدي أن المحاسن المعنوية تفضل على المحاسن الجسمية. وقال المغيرة استقضى الشعبي والحسن في أيام عمر بن عبد العزيز، فشكيا جميعاً فعزلا: قلت هذا النقل غريب لا يكاد يعرف، والشعبي نسبة إلى شعب بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة، قال ابن خلكان بطن من همدان، وقال الجوهري في الصحاح هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به، قلت: وشعب في بلاد اليمن مكان معروف بالقرب من موضعنا، والله اعلم أي لك هو. وفي السنة المذكورة توفي خالد بن معدان الكلاعي الفقيه العابد، قيل إنه كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة، وأنه قال لقيت سبعين من الصحابة. وفيها وقيل قبل المائة توفي عامر بن سعد بن أبي وقاص، وكان ثقة كثير العلم. وفيها وقيل في سنة سبع توفي أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد الإمام البصري وقد طلب للقضاء فهرب، وقدم الشام فنزل بداريا، وكان رأساً في العلم والعمل، وفيها وقيل في التي قبلها وقيل في ست أو سبع ومائة توفي أبو بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قاضي الكوفة، كان أبوه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم علمه من اليمن مع الأشعريين فأسلموا، وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صوته: " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " وقد تقدم هذا مع غيره في ترجمته، ثم صار ابنه المذكور قاضياً على الكوفة، وليها بعد القاضي شريح على ما ذكر بعضهم في الطبقات، وله مكارم ومآثر مشهورة، وتولى ولده بلا قضاء البصرة، وهم الذين يقال فيهم ثلاثة قضاة في نسق. وفيهم قلت: ثلاثة أمجاد قضاة جميعهم ... على نسق للاشعري انتسابهم وأعي أبا موسى الصحابي ذا العلا ... فتى صوته مزمارهم وربابهم وبيان النسق المذكور أن أبا موسى قضى بالبصرة لعمر. ثم بالكوفة لعثمان رضي الله

سنة خمس ومائة

تعالى عنهم، وولده وولده في الكوفة والبصرة كما ذكرنا، وفي بلال المذكور يقول ذو الرمة: سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلا لا وصيدح اسم ناقته، وأبو برده بن أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة. سنة خمس ومائة فيها توفي كثيرعزة عبد الرحمن الخزاعي، كان شيعياً غالياً يؤمن بالرجوع بالدنيا بعد الموت، وهو أحد عشاق العرب المشهورين به صاحب عزة بنت جميل بن حفص من بني حاجب بن غفار، وله معها حكايات نوادر وأمور مشهورة، وأكثر شعره فيها، وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده، وكان كثير التعصب لآل طالب. حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء أن كثير أدخل على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحد أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك لأخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني قال: نعم بينا أنا أسير في بعض الصلوات أذا أنا برجل قد نصب حبالة، فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ قال: اهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيد لهم شيئاً ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا، قلت: ارأيت إن أقمت معك فأصبت صيداً، اتجعل لي منه جزء؟ قال: نعم فبينا نحن كذلك إذ وقعت ظبية في الحبالة، فخرجنا نبتدر، فبدرني إليها، فحلها وأطلقها، فقلت له: ما حملك على هذا؟ قال دخلتني لها رأفة لشبها بليلى، وأنشأ يقول: يا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى محاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره في حربه، ولم تزل تلح عليه في المسألة وهو يمتنع من الإجابة، فلما يئست أخذت في البكاء حتى بكى من كان حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة، يعني كثيراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال: إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه ... حسان عليها نظم در بزينها نهته فلما لم ترالنهي عاقه ... بكت فبكى من ماشجاها قطينها

القطين: الخدم والاتباع. ثم عزم عليها أن تقصر فاقتصرت، وخرج لقصده. قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه حصان بالصاد وحاء مكسورة، وما أراه صحيحاً بل إن كان بالصاد فهو بفتح الحاء، ويحسن أن يكون بالسين والحاء المكسورة جمع حسن، ويقال إن عزة دخلت على أم البنين ابنة عبد العزيز وهي أخت عمر بن عبد العزيز تزوجها الوليد بن عبد الملك الأموي فقالت لها: ارأيت قول كثير: قضى كل ذي ديني فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها ما كان ذلك الدين؟ فقلت: وعدته قبله فتحزجت منها، فقالت أم البنين: انجزيها وعلي إثمها. قلت وذكر بعض العلماء في بعض التصانيف: ان أم البنين المذكورة أعتقت كذا وكذا من رقبة عن هذه الكلمة التي صدرت منها، وقولها فتحرجت منها بالحاء بعد الفاء من الحرج وله معان منها الضيق ومنها الاثم يقال فلان يتحرج من كذا أي تركه خوف الاثم. وكان لكثير غلام عطار بالمدينة وربما باع نساء العرب بالنسأة، فأعطى عزة وهو لا يعرفها شيئاً من العطر، فمطلته أياماً وحضرت إلى حانوته في نسوة، فطالبها فقالت له: حباً وكرامة ما أقرب الوفاء وأسرعه فأنشد متمثلاً. قضى كل في دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها فقالت النسوة تدري من غريمك؟ فقال: لا والله، فقلن: هي والله عزة، فقال: اشهد الله إنها في حلى من مالي في قبلها، ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك، فقال: وأنا أشهد الله أنك حر لوجهه، ووهبه جميع ما في حانوت العطر، وكان ذلك من عجائب الاتفاق وغرائب المحبين العشاق. ولكثير في مطالها بالوعد شعر كثير، فمن ذلك قوله: أقول لها عزيز مطلت ديني ... وشر الغانيات ذوو المطال قالت: ويح غيرك كيف أقضي؟ ... غريماً ما ذهبت له بمال وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيراً خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مطرف، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست ناراً فى روثة، فتافق كثير من وجهها، فقالت: من أنت؟ قال: كثير عزة. فقالت: الست القائل؟: فما روضة زهراء طيبة الثرى ... تمج الندا حثحاثها وعرارها

باطيب من أراد أن عزة موهنا ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها فقال كثير نعم. فقالت: لو وضع المندل الرطب على هذه الروثة لطيب ريحها هلا قلت كما قال امرؤ القيس؟. ألم تراني كلما جئت زائراً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب فناولها المطرف، وقال أشتري على هذا قالت، وقوله نعم بعد قولها: الست القائل؟ فما روضة البيتين صوابه أن يقول بلى، كقوله عز وجل: " ألست بربكم قالوا بلى " - الأعراف: 172 - ولو قالوا نعم لكان كفراً، لأنه تقرير للنفي والحثحاث بالحاء المهملة والراء والثاء المثلثة مكررتين: نبت طيب الرائحه والعرار بالعين المهملة والراء المكررة: بهار البر، وهو طيب أيضاً وإليه أشار الشاعر في قوله: تمتع من شميم عرارنجد ... فما بعد العشية من عرار وكان كثير ينسب إلى الحمق، ويروى أنه دخل يوماً على يزيد بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمتين ما يعني الشماخ بقوله: إذ الأرطا توسدا برديه ... خدود جواري بالرمل عين فاقال يزيد: ما يضرني أن لا أعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف واستحمقه وأمربإخراجه ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان والد عمر يعود في مرضه، وأهله يتمنون أن يضحك، وهو يومئذ أمير مصر، فلما وقف عليه قال: لولا أن سرورك لا يتم بأن تسلم واسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إلي، ولكني أسأل الله عز وجل لك العافية، ولي في كنفك النعمة، فضحك عبد العزيز، وأنشد كثير: ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد لوكان يقبل فديتي لفديته ... بالمصطفى من طارقي وتلادي قلت يعني بقوله المصطفى إلى آخر البيت: الذي يختاره من المال الحادث والقديم. ومما يستجاد من شعركثير: قصيدته النائية التي يقول من جملتها: وإني وتهيامي لعزة بعدما ... تسليت من وجد بها وتسلت لك المرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة، فاشتاق إليها، فسافر للاجتماع بها، فلقيها في الطريق

وهي متوجهه إلى مصر وجرى بينهما كلام يطول شرحه، ثم إنها تمت في سفرها إلى أن قدمت مصر، وتأخر كثير بعدها مدة ثم عاد إلى مصر، فوفاها والناس منصرفون عن جنازتها، وكثير تصغير كثير، وإنما صغر لأنه كان شديد القصر: وفي السنة المذكورة توفي خليفتهم أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان، وجده لأمه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، عاش أربعاً وثلاثين، وولي أربع سنين وشهراً، وكان أبيض جسيماً مدور الوجه، قيل لما استخلف قال سيروا سيرة عمر بن عبد العزيز، فأتوه بأربعين شيخاً شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب، نعوذ بالله مما سيلقى الظالمون من شدة العذاب. وحكى الحافظ ابن عساكر أنه لما حج يزيد بن عبد الملك طلب حالقاً، فجاء فحلق رأسه، فأمر له بألف درهم، فتحير ودهش وقال هذه الألف أمضي بها إلى أمي فلانة أسرها بها، فقال: اعطوه ألفاً أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك فقال: اعطوه ألفين آخرين. قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه ليزيد بن عبد الملك، ولكن هذه القصة وقعت في أثناء ترجمة يزيد بن المهلب، فلا أدري هو غلط من الكاتب أو أدخل حكاية من حكايات ابن عبد الملك مع حكايات ابن المهلب. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة سبع، وقيل في سنة خمس عشرة، توفي عكرمة مولى ابن عباس أحد الأعلام المستضيء بها الأنام، اصله من البربر من أهل المغرب، وهب لابن عباس فاجتهد في تعليمه القرآن والسنين، وسماه بأسماء العرب. حدث عن مولاه عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري والحسن بن علي وعائشة رضي الله عنهم، وهو أحد فقهاء مكة من التابعين فيها، وكان كثير النقل في الأقاليم، خل اليمن وأصفهان وخراسان ومصر والمغرب وغيرها، وكانت الأمراء تكرمه وتصله، قال عكرمة طلبت العلم أربعين سنة. وروي أن عباس قال له: انطلق فأفت الناس، وقيل لسعيد بن جبير: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: عكرمة، وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار والشعبي غيرهم. ولما مات مولاه، باعه ولده علي بن عبد الله بن عباس بن خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار. فاستقاله، فأقاله، ثم أعتقه.

سنة ست ومائة

وروى الواقدي بسنده أنه مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، وصلى عليهما جميعاً، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وكان موتهما بالمدينة الشريفة. وفي السنة المذكورة على الصحيح توفي أبو رجاء العطاردي بالبصرة، وله مائة وعشرون سنة أو أقل، اسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ عن عمر رضي الله عنه وطائفة. وفيها توفي الأخوان عبيد الله وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبان بن عثمان الأموي المدني الفقيه، روى عن أبيه. سنة ست ومائة فيها استعمل هشام بن عبد الملك على العراق خالد بن عبد الله القسري، فدخلها وقبض على متوليها عمر بن هبيرة الفزاري وسجنه، فعمد غلمانه فنقبوا سرباً إلى السجن وآخرجوه منه، وهرب إلى الشام فأجاره مسلمة بن عبد الملك، ثم مات قريباً من ذلك. وفيها توفي القاضي عبد الملك بن عمير، كان قاضياً على الكوفة بعد الشعبي، من كبار التابعين وثقاتهم، رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى عن جابر عبد الله، ومن أخباره؛ قال: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرأني قد ارتعت لذلك، فقال لي: ما لك؟ فقلت: اعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر مع عبيد الله بن زياد، فرأيت رأس الحسين بن علي أبي طالب بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا، فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بين يديك، قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق. وفي السنة المذكورة توفي سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني الفقيه القدوة، كان خشن العيش يلبس الصوف ويخدم نفسه، قال مالك: لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الفضل والزهد منه. وقال أحمد وإسحاق: اصح الأسانيد

سنة سبع ومائة

الزهري عن سالم عن أبيه قلت ورجع غيرهما من المحدثين روايه مالك عن نافع عن ابن عمر، وسيأتي أن رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر يسميها المحدثون سلسلة الذهب، وقال بعض المؤرخين دخل سليمان بن عبد الملك الكعبة، فرأى سالماً واقفاً، فقال: سلني حوائجك. فقال: والله لا سألت في بيت الله غير الله. وفيها توفي الفقيه الإمام آخر سادات الأعلام علماً وعملاً طاوس بن كيسان اليماني الجندي بفتح الجيم والنون الخولاني بمكة. في ذي الحجة، اخذ عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وطائفة، وكان فقيهاً جليل القدر نبيل الذكاء، قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً قط مثل طاوس، ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس: ان أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة، وتوفي حاجاً بمكة قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك في ولايته، قلت كان هشاماً، كان في ذلك الوقت بمكة قادماً للحج، قال بعض العلماء: لم يتهيأ آخراج جنازته لكثرة الناس حتى وجه أمير مكة بالحرس. ولقد رأيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب واضعاً السرير على كاهله، وقد سقطت قلنسوة كانت على رأسه ومزق رداؤه من خلفه. قلت والمشهور عن طاوس رحمه الله تعالى أنه سأل عن مسألة، فقال: اخاف إن تكلمت، وأخاف إن سكت، وأخاف أن اخذ بين الكلام والسكوت. وذكر بعضهم: انه تولى قضاء صنعاء والجند، وأخذ عنه عمرو بن دينار والزهري وابنه عبد الله بن طاوس، وتولى ابنه المذكور القضاء بعده، وكان فقيهاً جليلاً. وفيها توفي أبو مجلز لاحق بن حميد البصري أحد علماء البصرة، لقي كباراً من الصحابة كأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم، قال هشام بن حسان: كان قليل الكلام، فإذا تكلم كان من الرجال. سنة سبع ومائة توفي سليمان بن يسارالمدني أحد فقهاء المدينة السبعة، اخذ عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة، وروى عن الزهري وجماعة، وكان سعيد بن المسيب إذا استفتاه أحد يقول اذهب إلى سليمان بن يسار، فإنه أعلم من بقي اليوم، وله إخوة مشهورون منهم عطاء بن يسار. وفيها وقيل في سنة ثمان. وقيل في سنة اثنتي عشرة ومائة. وقيل إحدى وقيل اثنتين ومائة توفي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني الإمام، نشأ في حجر عمته عائشة، فأكثرمنها، قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا أحداً تفضله بالمدينة على القاسم، وعن

سنة ثمان ومائة

أبي الزناد قال: ما رأيت فقيهاً أعلم منه، وقال ابن عيينة، كان القاسم افضل زمانه، وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان أمر الخلافة إلي لما عدلت عن القاسم، واتفقوا على أنه من كبار سادات التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة الجلة. وقال محمد بن إسحاق: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال: انت أعلم أم سالم؟ يعني سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فقال ذاك مبارك، قال ابن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم فيكذب، او يقول أنا أعلم فيزكي نفسه. سنة ثمان ومائة فيها توفي أبو عبد الله المزني، البصري الفقيه، روى عن المغيرة بن شعبة وجماعة، وفيها وقيل في سنة ست توفي أبو بصرة العبدي المنذر بن مالك أحد شيوخ البصرة، اعا علياً وطلحة والكبار، وقيل في سنة تسع ويزيد بن عبد الله بن الشخير، عاش نحواً من تسعين سنة، وكان ثقة جليل القدر، لقي عمران بن حصين وجماعة، وقيل بقي إلى سنة إحدى عشرة ومحمد بن كعب القرظي، روى عن كبار الصحابة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان كثير العلم موصوفاً بالعلم والورع والصلاح. سنة تسع ومائة فيها توفي أبو نجيح يسار المكي مولى ثقيف، روى عن أبي سعيد وجماعة، قال الإمام أحمد: كان من خيار عباد الله، وفيها توفي أبو الحارث بن أبي الأسود الديلي البصري، روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجماعة. سنة عشر مائة فيها توفي الإمام القدوة المجمع على جلالله وصلاحه وزهادته وفضله وأمانته أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وسمع خطبة عثمان رضي الله تعالى عنهما، وشهد يوم الدار، وكثرة شهرته تغني عن مدحته، قال بعض أهل

الطبقات كان جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً حجة مأموناً عابداً ناسكاً كثير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً، رحمة الله عليه. وقال غيره: كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع من كل من علم وزهد وورع وعبادة، وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه مولاة أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربما غابت أمه في حاجة، فيبكي، فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه، فتدر عليه فيروى، ان تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي. فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. وكان من أجمل أهل البصرة، ولما ولي عمرو بن هبيرة الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: ان يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهودنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أموره فأقلده ما يقلده من ذلك الأمر، فقال ابن سيرين والشعبي: قولاً فيه تقية. فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، فإن الله يمنعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، ويوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصر إلى مضيق قبر، ثم لا ينجيك إلا عملك. يا ابن هبيرة، اياك أن تعصي الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصر الدين الله وعباده، فلا تتركن دين الله وعباده بهذا السلطان، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن، فقال محمد بن سيرين والشعبي: سفسفنا فسفسف لنا. قلت: السفاف الردي من العطية. وروي أنه كتب عمربن عبد العزيز إلى الحسن رضي الله عنهما يقول له: اني قد ابتليت بهذا الأمر، فانظر لي أعواناً يعينوني عليه، فكتب إليه الحسن كتاباً يقول في أثنائه: اما أبناء الدنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك، فاستعن بالله والسلام. ورأى الحسن يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة، فسأل عنه، فقيل: انه يتمسخر للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه أو قال: لله دره ما رأيت أحداً يطلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا، قلت يعني أن الدنيا رذيلة، فأخذها بالرذائل أنسب من أخذها بالفضائل، وكان أكثر كلامه حكماً وبلاغة. ولما حضرته الوفاة أغمي عليه قبل موته، ثم أفاق فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم، وقال رجل كريم قبل موته لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ حصاة بالمسجد، فقال: ان صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن، فتبع الناس جنازته، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، وما علم أنها تركت فيه مذ كان الإسلام

إلا يومئذ، لأنهم تبعوا الجنازة حتى لم يبق من يصلي في المسجد، قلت وله مع الحجاج وقعات عظيمة واجهه فيها بكلام صادع، وسلمه الله من شره، ومما روي من تفحيم الحجاج أنه جاء ذات يوم راكباً على برذون أصفر، فأم الجامع، فلما دخله رأى فيه حلقات متعددة فأم حلقة الحسن، فلم يقم له بل وسع في المجلس، فجلس إلى جنبه. قال الراوي: فقلنا: اليوم ننظر إلى الحسن، هل يتغير من عادته في كلامه وهيئته؟ فلم يغير شيئاً من ذلك بل أخذ على نسق وأخذ عادته من غير زيادة ولانقص. فلما كان في آخر المجلس قال الحجاج: صدق الشيخ عليكم بهذه المجلس، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ". ولولا ما ابتلينا من هذا الأمر لم تغلبونا عليها، او قال لم تسبقونا إليها، ثم افترعن لفظ أعجب به الحاضرون، ثم نهض فمشى طريقه. وذكر أهل علم التعبير أن الحسن رأى كأنه لابس صوف وفي وسطه كستيج بضم الكاف وسكون السين المهملة وكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وفي آخره جيم، وفي رجله قيد وعليه طيلسان عسلي، وهو قائم على مزبلة وفي يده طنبورة يضربه، وهو مستند إلى الكعبة، فقصت رؤياه على ابن سيرين، فقال: اما لبسه الصوف فزهده، وأما كستيجه فقوته في دين الله، وأما عسيلته فحبه للقرآن وتفسيره للناس، وأما قيده فثباته في ورعه، وأما قيامه على المزبلة فدنياه جعله تحت قدميه، اما ضرب طنبوره فنشره حكمته بين الناس، وأما استناده إلى الكعبة فالتجاؤه إلى الله تعالى. وأرى أيضاً في المنام كأنه عريان جرد لا يستحي من الناس، وبيده سيف له بريق يضربه على أحجار وهو يشقها، فأرسل من يقص رؤياه على ابن سيرين، فقال أما تجرده فقلة ذنوبه واخلاصه بين الناس، وأما سيفه فلسانه وكلمته، وأما الأحجار فقلوب الناس، وأما شقها فدخول موعظته وحكمته في قلوبهم والحسن البصري منسوب إلى البصرة، والبصرة في الأصل بفتح الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة حجارة رخوة ترجع إلى البياض، وبها سميت البصرة بصرة فإذا أسقطت الهاء قيل بصر بالكسر، وإنما قالوا بالنسب بصري كذلك قاله ابن قتيبة وغيره. والبصرتان: البصرة والكوفة، والكوفة قديمة جاهلية والبصرة حادثة إسلامية بناها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة أربع عشرة من الهجرة على يد عتبه بن غزوان. وفيها توفي يوم الجمعة في شوال شيخ البصرة مع الحسن في أوانه وإمام المعبرين في زمانه أحد الجلة الورعين محمد بن سيربن، كان إماماً يقتدى به، سمع من أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة، قال أيوب: اريد على القضاء، ففر إلى الشام وإلى اليمامة. وقال بعض السلف: ما رأيت أفقه في ورعه من محمد بن سيرين، وقال هشام بن حسان: حدثني أصدق من رأيت من البشر، او قال من العالمين محمد بن سيرين وقال ابن عون: لم أر مثل محمد بن سيرين. وكان الشعبي يقول عليكم بذاك الأصم، يعني ابن سيرين، فإنه كان في إذنه صمم، كان أبوه عبد أنس بن مالك رضي الله عنه، كاتبه على أربعين ألف درهم وقيل عشرين ألفاً فأدى ما كوتب عليه، وكانت أمه مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعون لها، وحضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب، وكان ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي بعد الحسن بمائة يوم، وكان قد حبس بدين كان عليه، ذكر المعبرون أنه جاءه رجل يقال رأيت على ساقي رجل شعراً كثيراً فقال: يركبه دين ويموت في السجن، فقال له الرجل: لك رأيت هذه الرؤيا، فاسترجع. قيل: ومات في السجن وعليه أربعون ألف درهم قضى عنه ذلك بعض الصالحين، وقيل كان عليه ثلاثون ألف درهم فقضاها ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قوم ماله ثلاث مائة ألف درهم، وولد لابن سيرين ثلاثون ولداً من امرأة واحدة عربية، ولم يبق منهم إلا عبد الله. وحكي إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى، فقالت: يا أبا بكر رأيت رؤيا، فقال لها: تقصين أو تتركين حتى آكل؟ فقالت: بلى أتركك، فلما فرغ، قال لها: قصي رؤياك. فقالت: رأيت القمر قد دخل في الثريا، فناداني مناد أن أمضي إلى ابن سيرين، فقصى عليه هذا، قال: فقبض ابن سيرين يده، وقال: ويلك كيف رأيت؟ فأعادت عليه، فاصفر وجهه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له أخته: ما لك؟ قال: قد زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، قال فعدوا من ذلك اليوم سبعة أيام فدفن في اليوم السابع. وحكي أنه جاء رجل فقال له: اني رأيت طائراً سميناً، ما أعرف ما هو، وقد تدلى من السماء، فوقع على شجرة، وجعل يلتقط الزهر، ثم طار، فتغير وجه ابن سيرين، وقال: هذا، اموت العلماء، فمات في ذلك العام الحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمة الله علبهما. اه جعله تحت قدميه، اما ضرب طنبوره فنشره حكمته بين الناس، وأما استناده إلى الكعبة فالتجاؤه إلى الله تعالى. وأرى أيضاً في المنام كأنه عريان جرد لا يستحي من الناس، وبيده سيف له بريق يضربه على أحجار وهو يشقها، فأرسل من يقص رؤياه على ابن سيرين، فقال أما تجرده فقلة ذنوبه واخلاصه بين الناس، وأما سيفه فلسانه وكلمته، وأما الأحجار فقلوب الناس، وأما شقها فدخول موعظته وحكمته في قلوبهم والحسن البصري منسوب إلى البصرة، والبصرة في الأصل بفتح الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة حجارة رخوة ترجع إلى البياض، وبها سميت البصرة بصرة فإذا أسقطت الهاء قيل بصر بالكسر، وإنما قالوا بالنسب بصري كذلك قاله ابن قتيبة وغيره. والبصرتان: البصرة والكوفة، والكوفة قديمة جاهلية والبصرة حادثة إسلامية بناها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة أربع عشرة من الهجرة على يد عتبه بن غزوان. وفيها توفي يوم الجمعة في شوال شيخ البصرة مع الحسن في أوانه وإمام المعبرين في زمانه أحد الجلة الورعين محمد بن سيربن، كان إماماً يقتدى به، سمع من أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم.

وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة، قال أيوب: اريد على القضاء، ففر إلى الشام وإلى اليمامة. وقال بعض السلف: ما رأيت أفقه في ورعه من محمد بن سيرين، وقال هشام بن حسان: حدثني أصدق من رأيت من البشر، او قال من العالمين محمد بن سيرين وقال ابن عون: لم أر مثل محمد بن سيرين. وكان الشعبي يقول عليكم بذاك الأصم، يعني ابن سيرين، فإنه كان في إذنه صمم، كان أبوه عبد أنس بن مالك رضي الله عنه، كاتبه على أربعين ألف درهم وقيل عشرين ألفاً فأدى ما كوتب عليه، وكانت أمه مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعون لها، وحضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب، وكان ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي بعد الحسن بمائة يوم، وكان قد حبس بدين كان عليه، ذكر المعبرون أنه جاءه رجل يقال رأيت على ساقي رجل شعراً كثيراً فقال: يركبه دين ويموت في السجن، فقال له الرجل: لك رأيت هذه الرؤيا، فاسترجع. قيل: ومات في السجن وعليه أربعون ألف درهم قضى عنه ذلك بعض الصالحين، وقيل كان عليه ثلاثون ألف درهم فقضاها ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قوم ماله ثلاث مائة ألف درهم، وولد لابن سيرين ثلاثون ولداً من امرأة واحدة عربية، ولم يبق منهم إلا عبد الله. وحكي إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى، فقالت: يا أبا بكر رأيت رؤيا، فقال لها: تقصين أو تتركين حتى آكل؟ فقالت: بلى أتركك، فلما فرغ، قال لها: قصي رؤياك. فقالت: رأيت القمر قد دخل في الثريا، فناداني مناد أن أمضي إلى ابن سيرين، فقصى عليه هذا، قال: فقبض ابن سيرين يده، وقال: ويلك كيف رأيت؟ فأعادت عليه، فاصفر وجهه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له أخته: ما لك؟ قال: قد زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، قال فعدوا من ذلك اليوم سبعة أيام فدفن في اليوم السابع. وحكي أنه جاء رجل فقال له: اني رأيت طائراً سميناً، ما أعرف ما هو، وقد تدلى من السماء، فوقع على شجرة، وجعل يلتقط الزهر، ثم طار، فتغير وجه ابن سيرين، وقال: هذا، اموت العلماء، فمات في ذلك العام الحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمة الله علبهما. وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، التي أصدقها الديباج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ألف ألف درهم، قلت وقد تقدم أن أختها سكينة تزوجها

مصعب بن الزبير هي وعائشة بنت طلحة، وأنه أصدق عائشة المذكورة مائة ألف دينار. وفيها توفي جرير والفرزدق الشاعران الشهيران، قال ابن خلكان: كان جرير من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة، قال وهو أشعر من الفرزدق عند أكثرأهل العلم بهذا الشأن. وقال أجمعت العلماء أنه ليس في شعراء الإسلام أشعر من ثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل. قال: ويقال: ان بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء وتشبيب، وفي الأربعة فاق جرير غيره، في الفخر قوله: إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا ويروى وجدت الناس. وفي المديح قوله: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وفي الهجاء قوله: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وفي التشبيب قوله: إن العيون التي في طرفها حور ... يقتلننا ثم لا يحيين قتلابا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له ... وهن أضعف خلق الله أركانا قلت قوله: قد أجمعت العلماء على أنه ليس في شعر الإسلام مثل ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل، ليس بصحيح، بل الخلاف بينهم واقع، وقد رجح كثير من المتآخرين بل أكدرهم قول ثلاثة آخر على الثلاثة المذكورين، وهم أبو تمام والبحتري - والمتنبي -، ثم اختلفوا أيضاً اختلافاً كثيراً في الثلاث المتآخرين، ايهم أرجح؟ وفصل بعضهم في التفضيل بينهم في أشياء يطول ذكرها، وقد أوضحت ذلك في الشرح الموسوم بمنهل المفهوم المروي من صداء الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المتنبي إيضاح ذلك مشبعاً موصولاً ومفرعاً. ومن أخبار جرير ما حكى صاحب الجليس والأنيس في كتابه أنه قيل لجرير: ما كان أبوك صائغاً؟ حيث يقول: لو كنت أعلم أن آخرعهدهم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل

قال: كان يقلع عينيه، ولا يرى مظعن أحبابه. وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغانى في ترجمة جرير أنه قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شبب لعب، وإذا طلب جد، فإذا لعب أطمعك لعبه، وإذا رميته أو قال رمته بعد عنك وإذا جد فيما قصدته آيسك من نفسه، قال: مثل من. قال: مثل جرير حيث قال: إن الذين غد وابليلي غادروا ... وشدا بعينك ما يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا ثم قال حين جد شعراً: إن الذي حرم المكارم تغلبا ... جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا قال: فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله، قال: ما زادا ابن كذا وكذا على أن جعلني شرطياً له، اما أنه لو قال: لو شاء ساقكم إلي قطينا لسقتهم إليه كما قال. قلت وهنا الانكار الذي أنكره عليه عبد الملك ظاهر حتى لقد أدركه ولدي عبد الرحمن وهو صغير حين أمليته على الكاتب ووصلت إلى قوله لو شئت أنكره وقال لو شاء، ثم قال أرى أنه يحب أنه عنده عزيز يفعل له ما يشاء، فأعجبني ذلك من نباهته بارك الله تعالى فيه، ووفقنا جميعاً لما يرضيه. وأبيات جرير المذكورات في مهاجاة الشاعر المذكور المشهور المعروف بالأخطل التغلبي وقوله: جعل النبوة والخلافة فينا لأنه تميمي النسب وتميم ترجع إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله يا خزر تغلب خزر بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي وبعدها راء هو جمع أخزر مثل أحمر وحمر والأخزر الذي في عينه ضيق وصغر، وهذا الوصف موجود في العجم أو في بعضهم كما هو معروف في الترك، وكأنه نسبه إلى غير العرب. قالوا: وهذا عند العرب من النقائص الشنيعة وقوله: هذا ابن عمي في دمشق يريد بذلك عبد الملك بن مروان والقطين بفتح القاف الخدم والاتباع. ومن أخبار جرير أيضاً أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده قصيدة أولها: أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح تقول العاذلات علاك شيب ... لهذا الشيب يمنعني مزاحي

تغرب أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي اللقاح ثقي بالله ليسى له شريك ... ومن عند الخليفة يا لنجاح سأشكر إن رددت إلي رئيتي ... وأثبت القوادم من جناح ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح قال جرير: فلما انتهيت إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئاً فاستوى جالساً، وقال من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم التفت إلي وقال يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم بني كلب؟ فقلت يا أمير المؤمنين: ان لم تروها فلا أرواها الله. قال: فأمر بها لي كلها سود الحدق. قلت: يا أمير المؤمنين نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، والإبل أباق فلو أمرت لي بالرعاء، فأمر لي بثمانية، وكان بين يديه صحاف من الذهب وبيده قضيب، فقلت: يا أمير المؤمنين، والمحلب وأشرت إلى أحد الصحاف، فنبذها إلي بالقضيب، وقال: خذها لنفسك. قالوا ولما مات الفرزدق بكى. وقال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجمنا واحداً وكل واحد منا مشغول بصاحبه، وقال ما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه، وكذلك كان، وتوفي في سنة عشر ومائة التي فيها مات الفرزدق، وكانت وفاته باليمامة ونيف في عمره على ثمانين سنة، وهو جرير بن عطية ويكنى أبا حزرة بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء. وعن أبي عمرو قال: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه فما رأيت أحسن ثقة بالله منه. فلم أنشب أن قدم جرير من اليمامة فاجتمع إليه الناس فما أنشدهم ولا وجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: اطفأ موت الفرزرق والله جمرتي، وأسأل عبرتي، وقرب مني منيتي، ثم شخص إلى اليمامة فنعى لنا في شهر رمضان من تلك السنة، وقيل كان عمر بن عبد العزيز لا يأذن لأحد من الشعراء أن يدخلوا عليه إلا لجرير. وذكروا أنه أدينهم وأن أبا عمرو بن العلاء رأى في يده سبحة فقل له: ويحك يا جرير أليس هذا خير لك من المهاجاة؟ فقال: والله ما هجوت أحداً ابتداء. وأما الفرزدق فهو أبو الأخطل همام بن غالب من جلة قومه وسراتهم يرجع في نسبه إلى مجاشع بن دارم وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. قيل له ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة. من ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي، وكان هو رئيس قومه، وكان آخر يقال له سحيم بن وثيل بعد المثلثة مثناة من تحت الرياحي بالياء المثناة من تحت من بعد الراء رئيس قومه أيضاً، فخرجوا إلى مكان على

مسيرة يوم من الكوفة، فعقر غالب لأهله ناقة وصنع منها طعاماً، وأهوى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفانا من ثريد، ووجه إلى سحيم جفنة، فكفأها، وضرب الذي أتاه بها، وقال: انا مفتقر إلى طعام غالب؟ اذا نحر ناقة نحرت أنا آخرى، فعقر ناقة لأهله. فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثة، فعقر سحيم ثلاثاً، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة ولم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً. وأسرها في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر هلا نحرت مثل ما نحروا كنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر أن ابله كانت غائبة وعقر ثلاث مائة، وقال للناس: شأنكم ولا أكل كان ذلك على خلافة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فاستفتى في حل الأكل منها فقضى بحرمتها، وقال: هذي ذبحت لغير مأكلة، ولم يكن المقصود منها إلا المفآخرة والمباهاة، فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم. وهي قصة مشهورة عمل فيه الشعراء أشعاراً كثيرة من ذلك قول جرير يهجو الفرزدق في قصيدة منها مذا البيت: تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم ... بني ضعطر هلا الكمى المقنعا يقول تفتخرون بالكرم هلا افتخرتم بالشجاعة؟ وبينهما من المهاجاة والتجاوب ما شاع في المشرق والمغرب. وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجي له بها الرحمة في دار الآخرة؛ وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر، فجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينهما هو كذلك إذا أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، قلت بل أطيبهم وأشرفهم ذاتاً وطبعاً وأصلاً وفرعاً، وطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال: انا أعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس؟ فقال: هذا الذي يعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا النقي التقي الطاهر العلم إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

ينمي إلى ذروة العز الذي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... عند الحطيم إذا ما جاء يستلم في كفة خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم يبين نور الهدى عن بدر غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم منشقة عن رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا الله شرفه قد ما وعظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم فليس قولك من هذا بضايره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم حمال أثقال أقوام إذا قد حوا ... حلو الشمائل يحلو عنده نعم لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعترم عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه العناية والإملاق والعدم من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجأ ومعتصم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم لا يستطيع جواد يعد غايتهم ... ولا يداينهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى الباس محتدم مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء مختوم به الكلم يأبى لهم أن ينحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم من يعرف الله يعرف أولية ذا ... والدين من بيت هذا ناله الأمم ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردها، وقال: ما مدحته إلا لله تعالى لا للعطاء، فقال زين العابدين: " إنا أهل البيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده " فقبلها الفرزدق. وقوله في الأبيات ميمونة النقيبة أي مظفر بالمطلوب. قالوا: وصعد الوليد بن عبد الملك فسمع صوت ناقوس، فقال: ما هذا؟ فقيل: البيعة، فأمر بهدمها وتولى نقض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: ان هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: من يجيبه؟ فقال الفرزدق: يكتب إليه " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا

سنة إحدى عشرة ومائة

آتينا حكماً وعلماً " - الأنبياء: 78و79 -. قلت وحكي أنه سأل بعض أهل العلم عن السبايا المزوجات من الكفار هل يحل لمن سباها وطيبها؟ فأبطأ المسؤول في الجواب فأجاب الفرزدق بقوله: وذات خليل أنكحتها رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم يطلق وأخبار الفرزدق كثيرة ذات اشتهار، والأولى عند خوف الإملال الاختصار وتوفي بالبصرة قبل جرير بأربعين وقيل ثمانين يوماً، قال قتيبة: وقد قارب المائة. وقال المبرد: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا لست بخيرهم ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله مذ ستين سنة. وقيل إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بحقائق الأمور أوائلها وعواقبها وفي السنة المذكورة توفي سليم بن عامر الكلاعي الحمصي، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى عن أبي الدرداء وغيره، وتوفي فيها عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخو الفقيه عبد الله، امام زاهد قانت واعظ كثير العلم، لقي ابن عباس والكبار. سنة إحدى عشرة ومائة فيها توفي عطية بن سعد العوفي الكوفي، روى عن أبي هريرة وطائفة، وضربه الحجاج أربع مائة سوط على أن يشتم علياً رضي الله تعالى عنه فلم يشتم. وتوفي القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي، روى عن أبي سعيد وعلقمة، وكان عالماً نبيلاً زاهداً نجيباً. سنة اثنتي عشرة ومائة فيها توفي أبو المقدام رجاء بن حيوة الكندي الشامي الفقيه، كان شريفاً نبيلاً كامل السؤدد، قال مطر الوراق: ما رأيت شامياً أفقه منه: وقال مكحول: هو سيد أهل الشام. وقال مسلمة: الأمير في كندة رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي، ان الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء انتهى وكان رجاء بن حيوة يجالس عمر بن عبد العزيز، وكان يوماً عند عبد الملك بن مروان، وقد ذكر عنده شخص بسوء، فقال عبد الملك: والله

سنة ثلاث عشرة ومائة

إن أمكنني الله منه لأفعلن به ولأصنعن، فلما أمكنه الله منه هم بإيقاع الفعل به، فقام إليه رجاء بن حيوة المذكور، وقال: يا أمير المؤمنين، قد صنع الله لك ما أحببت، فاصنع ما يحب الله من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه، وقد تقدم أنه هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يجعل ولي العهد بعده عمر بن عبد العزيز، ففعل، وكتب ذلك في كتاب ثم ختمه، وجمع الناس وأمرهم أن يبايعوا المذكور في باطن الكتاب فبايعوا وهم لا يدرون من فيه، ثم كذلك لما مات سليمان جمع الناس قبل أن يعلموا بموته فقال لهم أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب فبايعوا، ثم قال لهم أعظم الله أجركم في أمير المؤمنين، ثم فتحوا الكتاب فعرفوا أن المبايع فيه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كل ذلك بإشارة رجاء بن حيوة ونصيحته وتوفيقه للصواب وهدايته، رحمة الله تعالى. وفيها توفي القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي الفقيه. قال أبو إسحاق الحواني: كان خياراً فاضلاً، ادرك أربعين من المهاجرين والأنصار. وفيها توفي طلحة بن مصرف الهمداني الكوفي، وكان يسمى سيد القراء. وقال فيها أبو معشر: ما يرى بعده مثله. سنة ثلاث عشرة ومائة فيها توفي فقيه الشام أبو عبد الله مكحول مولى بني هذيل، سمع من طائفة من الصحابة، وأرسل عن طائفة منهم، قال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال سعيد بن عبد العزيز: اعطوا مكحولاً عشرة آلاف دينار، وكان يعطي الرجل خمسين وقال الزهري: العلماء أربعة سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام. ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطىء ويصيب. وفيها وقيل في العام القابل توفي أبو إياس معاوية بن قرة المزني المصري، وفيها توفي في شهر بن حوشب. سنة أربع عشرة ومائة فيها توفي فقيه الحجاز ذو الأوصاف الملاح الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح

المكي مولى قريش، سمع من عائشة وأبي هريره وابن عباس وجابر بن عبد الله وابن الزبير وخلق كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة ومالك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير، وإليه والي مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما. وقال إبراهيم بن كيسان: وكان في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحاً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ما رأيت أفقه منه. وقال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة. وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس، وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد، وقال غيره: كان لا يفتر من الذكر. قلت وأما ما نقل في بعض كتب الفقه أنه كان يرى إباحة وطي الجواري بإذن أربابهن، وما نقل بعضهم أنه كان يبعث جواريه إلى ضيفانه، فقد قال بعض أهل العلم الذي أعتقد أن هذا بعيد، فإنه لو رأى الحل كانت المروة والغيرة تأبى ذلك، فكيف يظن هذا بمثل ذلك السيد الإمام والله. سبحانه العلام. قلت وينبغي أن يحمل ذلك على بعث الجواري لسماع القول منهن على تقدير صحة ذلك عنه، فنحو من هذا ما نقل المشايخ في كتب التصوف في باب السماع أنه كان يأمر جواريه يسمعن أصحابه عند اجتماعهم، وفي ذا ما فيه أيضاً، فإن صح فينبغي أن يحمل على ما إذا لم يخش فتنة بحضورهن وسماع أصواتهن، وإذا قلنا إن صوت المرأة ليس بعورة. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة تسع عشرة وقيل في ثماني عشرة وهو الذي إليه مال جماعة من المؤرخين - توفي أبو محمد علي بن عبد الله بن عباس جد السفاح والمنصور. كان سيداً شريفاً بليغاً، وكان أصغر أولاد أبيه وأجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة، وكان يدعى السجاد لذلك له خمس مائة أصل، وكان يصلي كل يوم إلى كل أصل ركعتين، فيجتمع من الجميع ألف ركعة.

وروي أنه لما ولد أتى، علي بن أبي طالب إلى أبيه رضي الله عنهما فهنأه وقال شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته؟ قال: او يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟ فأمر به وأخرج إليه فحنكه ودعا له، ثم رده إليه، وقال خذ إليك أبا الأملاك، ويروى أبا الخلائف، قد سميته علياً، وكنيته أبا الحسن، فلما كان زمن ولاية معاوية قال: ليس لكم اسمه وكنيته، وقد كنيته أبا محمد فجرى عليه، هكذا قال المبرد في الكامل. وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له: غير اسمك وكنيتك فلا صبر لي عليهما، فقال أما الاسم فلا وأما الكنية فأكنى بأبي محمد، فغير كنيته انتهى. قيل وإنما قال عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. إذ اسمه وكنيته كذلك. وذكر الطبري في تاريخه أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال لا يجمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد، وسأله هل له من ولد فأخبره بولده محمد، وكناه أبا محمد. وقال الواقدي ولد أبو محمد يعني علي بن عبد الله المذكور في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والله أعلم بالصواب. قلت هذا يناقض ما تقدم من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حنكه ودعا له، ولا يصح أن يقال فعل ذلك، ثم قتل من ليلته، اذ ورد أنه حنكه بعد صلاة الظهر. وقال المبرد: ضرب علي المذكور بالسياط مرتين كلتاهما ضربه الوليد بن عبد الملك. إحداهما في تزويجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها وكان أبخر، فدعت بسكين فقال: ما تصنعين بها؟ فقالت أميط عنها الأذى، فطلقها، وتزوجها علي بن عبد الله المذكور، فضربه الوليد، وقال: انما يتزوج بأمهات الخلفاء ليضع منهم، ان مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه، فقال علي بن عبد الله: انما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها محرماً. وأما ضربه إياه في المرة الثانية: فقد حدث محمد بن شجاع بإسناد متصل. قال: رأيت علي بن عبد الله مضروباً بالسوط، يدار به على بعير، ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح هذا علي بن عبد الله الكذاب، فأتيته. وقلت: ما هذا الذي نسبوا إليك من الكذب؟ قال: بلغهم أني قلت إن هذا الأمر سيكون في ولدي، والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه، واختلفوا في الذي تولى ضرب علي، وذكر بعضهم أنه مات مقتولاً.

وروي أن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان السفاح والمنصور، فأوسع له على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم علي دين، فأمر بقضائها. قال ويستوصي بابني هذين خيراً، ففعل فشكره، وقال وصلتك رحم فلما ولي قال هشام لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينقل إلى ولده، فسمعه علي وقال: والله ليكونن ذلك وليملكن هذان وكان عظيم المحل عند أهل المحجاز، حتى روي أنه كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلسه إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعاً حوله حتى يخرج من الحرم، وكان طويلاً جسيماً ذا لحية طويلة وقدم عظيم جداً لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله مفرطاً في طوله، اذا طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب ذكر هذا كله المبرد. وذكر أيضاً أن العباس كان عظيم الصوت، جاءته مرة غارة وقت الصبح، فصاح بأعلى صوته. واصباحاه فلم تسمعه حامل في الحي إلا وضعت. وذكر الحازمي ما تقدم وأن العباس كان يقف على سلع وهو جبل عند المدينة فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذلك من آخر الليل وبين الغابة وسلع ثمانية أميال. وفيها توفي علي بن عبد الله رحمه الله ابن ثمانين سنة، وكانت ولادته ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين، وقيل غير ذلك. وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك أخرج علي بن عبد الله من دمشق، وأسكنه الميمة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيف وعشرون ولداً ذكراً. وفيها توفي أبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، احد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق، لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه، ومنه سمي الأسد باقر البقرة بطن فريسة وفيه يقول الشاعر: بعين، وقيل غير ذلك. وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك أخرج علي بن عبد الله من دمشق، وأسكنه الميمة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيف وعشرون ولداً ذكراً. وفيها توفي أبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، احد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق، لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه، ومنه سمي الأسد باقر البقرة بطن فريسة وفيه يقول الشاعر:

يا باقر العلم لأهل التقى ... وخير من ركب على الأجبل وقال عبد الله بن عطاء ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند محمد بن علي ومن كلامه رضي الله عنه: من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه، وما عسى أن تكولن الدنيا؟ هل هو إلا مركب ركبته، او ثوب لبسته، او امرأة أصبتها، او أكلة أكلتها. وقال إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة وأكدرهم معونة، ان نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله تعالى قوامين بأمر الله عز وجل، فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت عنه، او كما أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، وقال الغناء والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصل إلى مكان فيه التوكل استوطنا. قلت يعني وإن لم يجدا فيه توكلا رحلاً عنه، وفي معنى ذلك قلت: يجول الغنا والعز في قلب مؤمن ... فإن الذيا جوف القلوب توكلا أقاما فأمسى العبد بالله ذاعناً ... عزيز وإن لم يلقياه ترحلا وقال رضي الله عنه: كان لي أخ في عيني عظيماً، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، عاش رضي الله تعالى عنه ستاً وخمسين سنة، ودفن في البقيع مع أبيه وعم أبيه الحسن بن علي والعباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وفي السنة المذكورة توفي أبو عبد الله وهب بن منبه اليماني الصنعاني الإمام العلامة، وله ثمانون سنة. روي عن ابن عباس، وقيل عن أبي هريرة وغيره من الصحابة، وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز، وكان شديد الاعتناء بكتب الأولين وأخبار الأمم وقصص الماضيين بحيث كان يشبه بكعب الأحبار في زمانه. وحكى عنه ابن قتيبة قال: قرأت من كتب الله اثنتين وسبعين كتاباً وله تصنيف ترجمة بذكر الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم في مجلد واحد وهو من الكتب المفيدة. وكان له إخوة منهم همام بن منبه كان أكبر من وهب. وروى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهو معدود من جملة الأبناء، ومعنى قولهم فلان من جملة الأبناء: ان أبا مرة سيف بن ذي يزن الحميري صاحب اليمن لما استولت الحبشة على ملكه توجه إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس يستنجده عليهم، وقصته في ذلك مشهورة وخبره طويل وخلاصة الأمر أنه سير معه سبعة آلاف وخمس مائة فارس من الفرس وجعل مقدمهم وهوز، هكذا قاله ابن قتيبة. وقال محمد بن إسحاق: لم يسر معه سوى ثمان مائة فارس فغرق منهم في

سنة خمس عشرة ومائة

البحر مائتان وسلم ست مائة. قال أبو القاسم السهيلي: والقول الأول أشبه بالصواب إذ يبعد مقاومة الحبشة بست مائة فارس، فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الوقعة بينهم وبين الحبشة فاستظهرت الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن ووهوز وأقاموا أربع سنين، وكان سيف بن ذي يزن قد اتخذ من أولئك الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً وهو في مصيد له فرموه بحرابهم فقتلوه، وهربوا في رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً، وانتشر الأمر باليمن، ولم يملكوا عليهم أحداً غير أن كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير، فكانوا ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام، ويقال إنها بقيت في أيدي الفرس ونواب كسرى فيها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباليمن من قواد ملكهم عاملان، احدهما فيروز الديلمي والآخر دادويه، فأسلما، وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح لما دعى الأسود النبوة باليمن وقتلوه، والمقصود من هذا كله إن جيش الفرس لما استوطنوا اليمن تأهلوا ورزقوا الأولاد، فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء لأنهم من أبناء أولئك الفرس، وكان طاوس العالم المقدم ذكره في سنة ست ومائة منهم، وتوفي وهب المذكور بصنعاء اليمن وعمره تسعون سنة، رحمة الله عليه. سنة خمس عشرة ومائة فيها وقيل في التي قبلها توفي الفقيه أبو محمد الحكم بن عتيبة الكوفي مولى كندة، كان إذا قدم المدينة أخلوا سارية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إليها، قال الأوزاعي: قال لي عبدة بن أبي لبابة ألقيت الحكم؟ قلت: لا قال: فألقه فما بين لابتيها أفقه منه. وفيها توفي القاضي أبو سهل عبد الله بن بريدة الأسلمي، روى عن عائشة وطائفة، وفيها توفي الضحاك بن فيروز الديلمي من أبناء الفرس الذين سكنوا اليمن، صحب ابن الزبير وعمل له على بعض بلاد اليمن، وروى عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم. سنة ست عشرة ومائة فيها توفي عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي وعمرو بن مرة المرادي، وكان حجة حافظاً. قال معمر: ما أدركت أحداً أفضل منه، وفيها توفي محارب بن دثار الدوسي قاضي الكوفة، سمع ابن عمر وجابر أو طائفة رضي الله عنهم.

سنة سبع عشرة ومائة

سنة سبع عشرة ومائة فيها توفي أبو الجناب سعيد بن يسار المدني مولى ميمونة، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المدني، ولى القضاء لابن الزبير، وكان مؤذناً في الحرم. وفيها توفي فقيه أهل دمشق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وكان عمر بن عبد العزيز يجلسه معه على السرير، وقال أبو مسهر: كان سيد أهل المسجد أو قال أهل دمشق قيل: بم سادهم؟ قال بحسن الخلق. وفيها وقيل في سنة ثمان عشرة توفي الحافظ أبو الخطاب قتادة بن دعامة الدوسي عالم أهل البصرة، قال أقمت عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال في اليوم الثالث: ارتحل أعمى فقد أبرمتني. وقال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعده على ما سمعت شيئاً إلا وعاه قلبي. وفيها توفي قاضي الجزيرة ميمون بن مهران، وكان من العلماء العاملين، روى عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما. وفيها توفي فقيه المدينة أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، كان نبيلا من كبار التابعين، سمع مولاه وأبا سعيد الخمري. وروى عنه الزهري وأيوب السختياني ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم الضابطين الإثبات وكان قد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصريعلمهم السنن، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد، وأهل الحديث يقولون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب بجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة. وفيها توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وقيل اسمها أمينة وقيل أميمة وهو الراجح، وسكينة لقب لها، وأمها الرباب ابنة امرئ

القيس بن عدي، وكانت سكينة المذكورة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسهن أخلاقا، تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عفان ثم عبد الله بن حكيم بن حزام ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فأمره سليمان بن عبد الملك طلاقها ففعل، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا. ولها نوادر وحكايات ظريفة: من ذلك أنها سمعت بعض أشعار عروة بن أذينة، وكان من اعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة، فانكرت عليه أشياء بلطافة وظرافة، لا أطول الكتاب بذكرها وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فرثاه عروة بقوله: سرى همي وهم المرء يسري ... وغاب النجم إلا قيد فتر أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض أو على المجارة تجري لهم ما أزال له قريناً ... كأن القلب أبطن حر جمر على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا؟ فوصف لها، فقالت: اهو ذاك الأسيود الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت. ويحكى أن بعض المغنين غنى بهذه الأبيات عند الوليدبن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه، فقال للمغني: من يقول هذا الشعر؟ قال: عروة بن أذينة، فقال الوليد: اي العيش يصلح بعد بكر؟ هذا العيش الذي نحن فيه. والله لقد تحجر واسما. وكان عروة المذكور كثير القناعة وله في ذلك أشعار سائرة، وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال: الست القائل: ولقد علمت وما الإسلاف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى له فيمييني تطلبه ... ولوقعدت أتاني لايعنيني وما أراك فعلت كما قلت، فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق. فقال: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فما بلغت في الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه للدهر، وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز، فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان فى الليل استيقظ من منامه وذكره، وقال: هذا رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي فجبهته

ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا اّمن لسانه، فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه. فقال: لا جرم ليعلم أن الرزق يأتيه ثم دعا بمولى له وأعطاه الذي دينار، وقال له: الحق بهذا عروة بن أذينة فأعطه إياها. قال: فلم أدركه إلا وقد دخل في بيته، فقرعت عليه الباب فخرج فأعطيته المال، فقال أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيت فاكذبت ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق، وهذه الحكاية وإن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها. ولبعض الشعراء وهو محمد بن ادريس الأندلسي في معنى هذين البيتين وأحسن فيه. مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لاتدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك وتوفيت سكينة بالمدينة الشريفة رحمها الله تعالى. قلت: هكذا ذكر موتها بالمدينة في كل تاريخ، وقفت عليه خلاف ما يقوله العامة من أنها مدفونة خارج مكة في القبة التي في الزاهر في طريق العمرة. وفي السنة المذكورة توفي ذو الرمة أبو الحارث غيلان بن عقبة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء، ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل، فجاء الفرزدق فوقف عليه وسمعه، فقال ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟ فقال: ما أحسن ما تقول: قال: فما لي لا أذكر مع الفحول؟ قال قصرتك عن غايتهم بكاؤك في الدمن ووصفك للأباعر والعطن. وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك ومعشوقته مية ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه الشاعر يرثيه: وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما والذي مدحه الأحنف بن قيس بالحلم كما تقدم، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " هذا سيد أهل الوبر " لما قدم عليه في وفد بني تميم، وهو أول من وأد البنات غيرة وانفة، وكان ذو الرمة كثير التشبيب بمية المذكورة في شعره وإياها عني أبو تمام الطائي بقوله في قصيدة له: ما ربع مية معمورا يطوف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: قال أبو ضرار الغنوي، رأيت مية وإذا معها بنون

لها، فقلت: صفها لي، فقال: مستوية الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وسم جمال. قلت: اكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة؟ قال نعم. ومن شعره السائر: إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... فقد هاج في قلبي تشوق هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها وكان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء، وهي من بني عامر بن صعصعة، وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي فإذا خرقاء خارجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق أدواته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: اني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أداوتي فأصلحها لي. فقالت: اني والله لا أحسن العمل، وأني لخرقاء، والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها، فشبب بها ذو الرمة وسماها خرقاء. قلت الخرق في اللغة ضد الرفق، ومنه قول الإمام الشافعي في الطهارة بالماء قد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير لا يكفي، ومن شعره المشار به إلى خرقاء بطريق المبالغة المفرطة قوله: وما شبنا خرقاء واهبة الكلا ... سقى بهما ساق ولم يتبلل باضيع من عينيك للدمع كلما ... تذكرت ربعا أو توهمت منزل اوقال أبو الفضل العتبي كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة؟ فقلت: ان فعلت فقد بررتني فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميل، ثم أتينا أبيات شعر واستفتح بيتا ففتح له فخرجت علينا امرأة طويلة حسناء بها قوة، وسلمت وجلست تحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قط؟ قلت غير مرة فقالت أما سمعت قول ذي الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء كاشفة اللثام أما علمت أني من مناسك الحج؟ مع كلام آخر حذفت ذكره. وإنما قيل لها ذو الرمة لقوله في الوتد أشعث باقي رمة التقليد والرمة بضم الراء الحبل وبكسرها العظم البالي. ومن قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه مخاطبا ناقته: إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليك حارز وهذا المعنى أخذه من قول الشماخ في عرابة الأوسي يخاطب ناقته:

سنة ثمان عشرة ومائة

إذا بلغتني وحملن رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وجاء بعدهما أبو نواس فأوضح هذا المعنى بقوله في الأمير محمد بن هارون الرشيد: وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام فأحسن في هذا المعنى لأنهما أوعدا ناقتيهما بالذبح، وأبو نواس وعدهما بتحريم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار، وقابلها بالاحسان لكونها بلغته إلى احسان استغنى به عن الأسفار، وإن كان هذا الاستغناء مفهوماً من قولهما قبله لكن هما جازاها بالذبح والانعطاب، وهو بالاستراحة من الأسفار وما فيها من العذاب. سنة ثمان عشرة ومائة فيها توفي علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب جد الخلفاء العباسية بأرض البلقاء. ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان من أجمل قريش وأجلها، قال الأوزاعي وغيره: كان يسجد كل يوم ألف سجدة ولذلك يقال له السجاد قلت وقد تقدم هذا مع غيره. وفيها توفي عمرو بن شعيب، وأبو عشانة بالعين المهملة والشين المعجمة والنون. سنة تسع عشرة ومائة فيها توفي إياس بن سلمة بن الأكوع، وحبيب بن أبي ثابت فقيه الكوفة ومفتيها، وقيس بن سعد المكي صاحب عطاء وكان المفتي بمكة في وقته. سنة عشرين ومائة فيها توفي أنس بن سيرين، وفقيه الكوفة أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي، روى عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان سريا محتشما يفطر كل ليلة في رمضان خمس مائة إنسان، وقال شعبة: كان صدوق اللسان، وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري شيخ محمد بن إسحاق، وكان اخبارياً علامة بالمغازي، وأبو معبد عبد الله بن كثير الكناني مولاهم الفارسي الأصل قارىء أهل مكة وقاضي الجماعة فيها، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي وعلى مجاهد، وحدث عن أبي الزبير وغيره.

سنة احدى وعشرين ومائة

وفيها توفي علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي، كان نبيلاً في الحديث، وقيس بن مسلم، ومحمد بن إبراهيم التيمي المدني الفقيه. سنة احدى وعشرين ومائة فيها توفي مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان موصوفاً بالشجاعة والاقدام والرأي والدهاء، قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بالكوفة، وكان قد بايعه خلق كثير، وحارب متولي العراق يومئذ الأمير يوسف بن عمر الثقفي فقتله يوسف المذكور وصلبه، قلت وقد يتوهم بعض الناس أن يوسف بن عمر الثقفي هذا أبو الحجاج، وليس كذلك بل الحجاج بن يوسف عم أبيه، فإنه يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، هكذا ذكر بعض المؤرخين نسبه، ولما خرج زيد أتته طائفة كثيرة وقالوا له تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك، فقال: بل أتبرأ ممن يتبرأ منهما. فقالوا: اذن نرفضك فمن ذلك الوقت سموا الرافضة وسميت شيعة زيد زيدية. سنة اثنتين وعشرين ومائة فيها توفي قاضي البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني اللسن البليغ والألمعي المطيب والمعدوم مثلاً في الذكاء والفطنة ورأساً لأهل البيان والفصاحة، كان صادق الظن لطيفاً في الأمور مشهوراً بفرط الذكاء، وإياه عنى الحريري بقوله في المقامة السابعة: فإذا ألمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إياس أحد من يضرب به المثل في الذكاء، وهو المشار إليه في قول أبي تمام: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس ولي قضاء البصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقيل لوالده معاوية بن قرة: كيف ابنك لك؟ قال: نعم. الابن كفاني أمر دنياي، وفرغني لآخرتي، وكان إياس المذكور أحد العقلاء الفضلاء الدهاة. ويحكى من فطنته أنه كان في موضع، فحدث فيه ما يقتضي الخوف، وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، فقال: ينبغي أن يكون هذه حاملاً وهذه مرضعاً وهذه عذراء، فكشف عن ذلك فكان كما تفرس، فقيل له من أين لك هذا؟ فقال: عند الخوف لا يضع الإنسان يده إلا على أعز ما له ويخاف عليه، فرأيت الحامل وضعت يدها على جوفها فاستدللت بذلك على

حملها، والمرضع وضعت يديها على ثديها فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها بين رجليها أوكما قال فعلمت أنها بكر. وسمع يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون، فقال له: افكلما تأكله تحدثه؟ قال: لا لأن الله تعالى يجعله غذاء، قال: فلم تنكر أن تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء. ونظر يوماً إلى آجرة بالرحبة وهو بمدينة واسط، فقال: تحت هذه الآجرة دابة. فرفعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية، فسألوه عن ذلك فقال: اني رأيت ما بين الآجرتين ندياً من بين تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس. وقال رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين، فجريا معاً فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستاً وسبعين سنة وها أنا فيها، فلما كانت آخر لياليه قال: هذه ليلة استكمل فيها عمر أبي، ونام، فأصبح ميتاً رحمه الله تعالى. وله من ذا غرائب وعجائب يعجز عن حصرها الكاتب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى نائبه بالعراق عدي بن أرطأة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجرشي قبول قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما، فقال إياس: ايها الأمير سل عني وعنه فقيهي المصر الحسن وابن سيرين، وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال: لا تسأل عنه ولا عني، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه أفقه وأعلم بالقضاء مني. فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنحى نفسه عنها بيمين كاذبة يستغفر الله تعالى منها وينجو مما يخاف فقال عدي بن أرطأة: اما إذ فهمتنا فأنت لها فاستقضاه. وروي عن إياس إنه قال ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني وذكر حدوده هو ملك فلان، فقلت له كم عدد شجره فسكت، ثم قال: لي منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت: منذ كذا. فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت: الحق معك، وأجزت شهادته. وكان يوماً في برية فأعوزهم الماء وسمع نباح كلب، فقال: هذا على رأس بير فاستقرؤوا النباح فوجدوه كما قال، فقيل له في ذلك فقال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من بير أو قال كأنه يخرج من بير.

سنة ثلاث وعشرين ومائة

سنة ثلاث وعشرين ومائة فيها توفي بالبصرة السيد الجليل الولي الكبير الفاضل الشهير ثابت البناني من سادات التابعين علماً وشغلاً وعبادة وزهداً، وفيها توفي سماك بن حرب الهذلي الكوفي أحد الكبار، قال أدركت ثمانين من الصحابة وذهب بصري فدعوت الله عز وجل فرده علي. وفيها توفي السيد الجليل الولي الحفيل محمد بن واسع الأزدي الملقب زين القراء ذو الفضائل المشهورة والسيرة المشكورة الذي قال فيه بعضهم: كنت إذا وجدت فترة أو قال قسوة نظرت في وجه محمد بن واسع فاعمل على ذلك جمعة وقال شهراً، والذي قال له مالك بن دينار: ما أحوج مثلي بمعلم مثلك لما نبهه على بعض دقائق الورع في قضية ذكرتها في غير هذا الكتاب. سنة أربع وعشرين ومائة فيها توفي في رمضان الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري أحد الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين، حفظ علم الفقهاء السبعة، ورأى عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، سمع من سهل بن سعد وأنس بن مالك وخلائق، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة. قال ابن المديني: له نحو الذي حديث، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وقال عمر بن عبد العزيز: لم يبق اعلم بسنة ماضية من الزهري، وكذا قال مكحول. وقال الليث. قال ابن شهاب: ما استودعت قبي علماً فنسيته. وقال غيره: من أهل العلم كان معظماً وافر الحرمة عند هشام بن عبد الملك أعطاه مرة سبعة آلاف دينار. وقال عمرو بن دينار ما رأيت الدينار والدرهم عند أحد أهون منه عند الزهري، كأنها عنده بمنزلة البعر، وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، ولم يزل مع عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، واستقضاه يزيد بن عبد الملك. وحضر يوماً مجلس هشام وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، فقال هشام: اي شهر كان يخرج العطاء فيه لأهل المدينة؟ فقال الزهري: لا أدري. فسأل أبا الزناد فقال: في المحرم. فقال هشام للزهري: يا أبا بكر هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس المؤمنين

سنة خمس وعشرين ومائة

أهل أن يستفاد منه العلم وقيل له الزهري بضم الزاي نسبة إلى زهرة ين كلاب بن مرة: فخذ من أفخاذ قريش. ومنهم آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد الرحمن بن عوف كما تقدم وخلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. سنة خمس وعشرين ومائة فيها توفي أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي خليفتهم، وكانت ولايته عشرين سنة إلا شهراً، وكانت داره عند الحوامر بدمشق، فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال، عاش أربعاً وخمسين سنة، وكان أبيض جميلاً يخضب بالسواد. ومما يحكى عن هشام بن عبد الملك أنه خرج ذات يوم إلى الصيد، فنظر إلى ظبي فتبعه، فأحالته الكلاب إلى أن وصل به إلى صبي يرعى غنماً، فقال له: يا صبي دونك الظبي أيتني به. فقال له الصبي: فقدت الحياة لو نظرت إلي باستصغار وعاشرتني باحتقار وكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار. قال: يا غلام أو لم تعرفني قال بلى قد عرفني بك سوء أدبك إذ بدأتني بكلامك قبل سلامك. قال له: وأنا هشام بن عبد الملك. قال: لا قرب الله دارك ولا حيا قرارك. قال: فوألله ما استتم كلامه حتى أحدقت به الخيول والجيوش من كل جانب ومكان، كل له يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: اقصروا من السلام واحفظوا بالغلام، والحقوني به، قال: ثم ركب مغضباً إلى داره، فلما وصل إلى داره وركب على سرير ملكه أقبلت إليه الحرفاء والوزراء والأمراء والكتاب، كل يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين السلام عليك يا أمير المؤمنين، وذلك الصبي ساكت، قد أرسل ذقنه على صدره، وقرن عينيه وسكت عن الكلام وامتنع عن السلام. فقال له بعض الوزراء: يا كلب العرب ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟ قال: يا بردعة الحمار منعني من ذلك طول الطريق ونهر الدرجة. فقال له بعض الحرفاء: يا جحش العرب بلغ من فضولك أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة. فقال: رمتك الجندل ولامك الهبل أو ما سمعت قول الله عز وجل في كتابة المنزل على نبيه المرسل " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " - النحل: 111 - فإذا كان الله تعالى يجادل جدالاً، فمن هشام حتى لا يخاطب خطاباً فعند ذلك اغتاظ الملك من كلامه، وقال: علي برأس الغلام فقد أكثر الكلام، فوضع ذلك

الصبي في نطع الدم، وخرد سيف النقمة ليضرب عنقه، فقال له الضراب: يا سيدي عبدك المذل بنفسه المنقلب إلى رمسه أضرب عنقه وأنا بريء من دمه. قال: اضرب عنقه: فاستأذنه ثانية فأذن له، ثم استأذنه ثالثة فأذن له، فضحك ذلك الصبي وهو في نطع الدم، فقال أقيموه، ثم قال له: يا غلام أنت تضحك في الممات، وتجادل في الحياة، اتستهزىء بنا أم بنفسك؟ قال: يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمتين وأفعل ما بدا لك قال: قل قال: فوالله إن هذا أول أوقاتي من الآخرة وآخر أوقاتي من الدنيا، فوالله لئن كان من المدة تقصير وفي الأجل تأخير لا يضرني من كلامك هذا لا قليل ولا كثير، ولكن يا أمير المؤمنين أبيات من الشعر حضرتني اسمعها مني قل: قال: فقال: نبئت أن الباز خلف مرة ... عصفور برساقه المقدور فتكلم العصفور في أظفاره ... والباز منهمك عليه يطير ما في ما يغني لمثلك شبعة ... ولئن أكلت فأنني لحقير فتعجب الباز المدل بنفسه ... عجباً وأفلت ذلك العصفور قال فخر هشام بن عبد الملك على وجهه ضاحكاً، وقال: والله لو تلفظ بهذا الكلام في وقت من أول أوقاته وطلب ما دون الخلافة لأعطيته إياه، يا غلام احش فاه دراً وجوهراً، قال: فحشى فاه دراً وجوهراً وأعطاه الجائزة والكسوة وراح إلى أهله مسروراً. وفي السنة المذكورة توفي أبو سعيد بن أبي سعيد المقبري، روى عن سعد بن أبي وقاص، وأكثر عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفيها توفي أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي الكوفي. وتوفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي والد السفاح والمنصور، عاش ستين سنة، وكان وسيماً جميلاً مهيباً نبيلاً، وكانت دعاة بني العباس يكاتبونه يلقبونه بالإمام، وكان سبب انتقال الخلافة إلى بني العباس أن محمد ابن الحنفية كانت الشيعة تعتقد إمامته بعد أخيه الحسين، فلما توفي محمد ابن الحنفية انتقل الأمر إلى ولده أبي هاشم، وكان عظيم القدر وكانت الشيعة تتولاه، فحضرته الوفاة بالشام ولا عقب له، فأوصى إلى محمد بن علي المذكور وقال له أنت صاحب هذا الأمر وهو في ولدك، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة نحوه، ولما حضر محمد الوفاة أوصى إلى ولده إبراهيم

سنة ست وعشرين ومائة

المعروف بالإمام، فلما حبسه مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وتحقق أن مروان يقتله أوصى أخيه السفاح، وهو أول من ولي الخلافة من أولاد العباس. هذه خلاصة الأمر والشرح فيه طويل. وفيها وقيل في سنة أربع توفي يزيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي بضم الراء الحافظ أحد علماء الجزيرة، عاش أربعين سنة، روى عن جماعة من التابعين. وفيها أو بعدها توفي زيادة بن علاقة الثعلبي الكوفي، روى عن طائفة وكان معمراً، ادرك ابن مسعود وسمع من جرير بن عبد الله وصالح مولى التوأمة المدني. سنة ست وعشرين ومائة فيها في جمادى الآخرة قتل خليفتهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر، وكان من أجمل الناس وأقواهم وأجودهم نظماً، ولكن ذكروا عنه أشياء قبيحة في الدين والعرض أكره ذكرها، والله أعلم بذلك، قالوا: ولذلك قاموا عليه مع ابن عمه يزيد بن الوليد الملقب بالناقص لكونه نقص الجند عطياتهم، وبويع ليزيد بن المذكور، فمات في العشرين من ذي الحجة في السنة المذكورة وله ست وثلاثون سنة، وكان فيه زهد وعدل وخير ولكن كان قدرياً. قال الإمام الشافعي رضي الله: ولي يزيد بن الوليد فدعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه. وفيها وقيل في سنة تسع، وقيل في سنة خمس وعشرين ومائة، توفي عمرو بن ديناراليمني الصنعاني عن ثمانين سنة، من أبناء الفرس الذين أرسلوا مع سيف بن ذي يزن وتوالدوا في اليمن، تفقه عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله زيد وطاوس والزهري وسعيد بن جبير، وسكن مكة، وعده الشيخ أبو إسحاق هو وعطاء في فقهاء التابعين بمكة، اخذ عنه سفيان بن عيينة الهلالي المكي أحد شيوخ الشافعي، وأبو الوليد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، قال سفيان بن عيينة: قيل لعطاء: بمن تأمر قال بعمرو بن دينار، وقال طاوس لابنه: يا بني إذا قدمت مكة فجالس عمرو بن دينار فإن أذن قمع العلماء، يعني القمع بكسر القاف وسكون الميم وبعدها عين مهملة، إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل يصب فيه الدهن ونحوه فينزل في إناء تحته لئلا يتبدد. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر المدني الفقيه، كان إماماً

ورعاً كثير العلم، وفيها توفي سعيد بن مسروق والد سفيان الثوري رحمه الله. وفيها هلك تحت العذاب الشاق خالد بن عبد الله القسري الدمشقي أمير العراق، تولى من قبل هشام بن عبد الملك، وولي قبل ذلك مكة، وكان معدوداً من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وكان جواداً كثير العطاء، خل فيه عليه شاعر يوم جلوسه للشعراء، وكان قد أراد مدحه ببيتين، فلما رأى اتساع الشعراء في القول، استصغر قوله فسكت حتى انصرفوا، فقال له خالد: ما حاجتك؟ قال: مدحت الأمير فلما سمعت قول الشعراء احتقرت بيتي، فقال: وما هما؟ فأنشدته: تبرعت لي بالجود حتى تعيشني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... حليف الندى، ما للندى عنك مذهب فقال: ما حاجتك؟ فقال علي دين. فأمر بقضائه وأعطاه مثله. وكتب إليه هشام بن عبد الملك: بلغني أن رجلاً قام إليك فقال: ان الله جواد وأنت جواد، وإن الله كريم وأنت كريم، حتى عد عشر خصال، والله لئن لم تخرج من هذا لأستحلن دمك. فكتب إليه خالد: نعم يا أمير المؤمنين، قام إلي فلان فقال: ان الله كريم يحب الكريم فأنا أحبك بحب الله إياك ولكن أشد من هذا مقام ابن سقي البجلي إلى أمير المؤمنين، فقال خليفتك أحب إليك أم رسولك؟ فقال: بل خليفتي. فقال: انت خليفة الله ومحمد رسول الله، والله لقتل رجل من بجيلة أهون على العامة والخاصة من كفر أمير المؤمنين، هكذا ذكره الطبري في تاريخه، ان هشاماً عزل خالداً عن العراقين وولي يوسف بن عمر الثقفي ابن عمر الحجاج مكانه، وأمر بمحاسبة خالد وعماله، فأخذ خالداً وعماله وحبسه، وعذبه بأن وضع قدميه بين خشبين وعصرهما حتى انقصفا، ثم إلى وركيه ثم إلى صلبه فلما انقصفت صلبه ومات وهو في ذلك لا يتأوه ولا ينطق، وكان ذلك في الحيرة منزل نعمان بن المنذر أحد ملوك العرب على فرسخ من الكوفة، ولما كان خالد في السجن مدحه أبو الأشعث العبسي بهذه الأبيات: ألا أن خير الناس حياً وميتاً ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل لعمري لقد عمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل لقد كان نهاضاً بكل ملمة ... ومعطي اللها غمراً كثير النوافل وقد كان يبني المكرمات لقومه ... ومعطي اللها في كل حق وباطل يعني باللها العطية. يقال فلان يعطي اللها: اذا كان جواداً يعطي الشيء الكثير. وكان يوسف قد جعل على خالد في كل يوم حمل مال معلوم أن لم يقم به من يومه

سنة سبع وعشرين ومائة

عذبه، فلما مدحه العبسي بهده الأبيات كان قد حصل من قسط يومه سبعين ألف درهم، فأنفذها إليه، فقال اعذرني فقد ترى ما أنا فيه فردها، وقال لم أمدحك لمال وأنت على هذه الحالة ولكن لمعروفك وافضالك، فأنفذها إليه ثانياً، فاقسم عليه لتأخذنها فأخذها، وبلغ ذلك يوسف، فدعاه وقال ما جرأك على فعلك ألم تخش العذاب؟ فقال لئن أموت عذاباً أسهل علي من كفي، لاسيما على من مدحني. وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن خالداً كان من ولد شق الكاهن، وذكروا أنه كان شق ابن خالة سطيح الكاهن، وكان شق وسطيح من أعاجيب الدنيا. أما سطيح فكان جسداً ملقى لا جوارح له، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس، وقيل كان يطوى مثل الأديم وينقل من مكان إلى مكان إذا أراد الانتقال، وكان شق نصف إنسان، وكانت له يد واحدة ورجل واحدة، وفتح عليهما في الكهانة ما هو مشهور عنهما، وكان ولادتهما في يوم واحد. وفي ذلك اليوم توفيت ظريفة الكاهنة الحميرية زوجة عمر، ومزيقيا بن عامر ماء السماء. ولما ولد ادعت لكل واحد منهما وتفلت في فيه، وزعمت أنه سيخلفها في كهانتها، ثم ماتت لساعتها ودفتت في الجحفة، وعاش كل واحد من شق وسطيح. وسطيح هو الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصته في تأويل الرويا مشهورة وذكرها مستوفي في السيرة. وفي السنة المذكورة توفي الكميت الأسدي الشاعر. سنة سبع وعشرين ومائة فيها سار مروان بن محمد بن مروان من أرمينية إلى دمشق يطلب الأمر لنفسه لما بلغه وفاة يزيد الناقص، فجهز إبراهيم الخليفة أخويه بشراً ومسروراً بالجيش فكسرهما مروان وحبسهما، ثم نزل بمرج دمشق فحاربه سليمان بن هشام بن عبد الملك، ثم انهزم سليمان فعسكر خليفتهم ابن الوليد بظاهر دمشق وبذل الخزائن فخذلوه، فهرب وبايع الناس مروان، فأتاه إبراهيم فخلع نفسه وبايع مروان.

وفي السنة المذكورة قتل يوسف بن عمر الثقفي الذي كان أمير العراق في السجن بدمشق، ذكر بعض المؤرخين أنه ولى هشام بن عبد الملك يوسف بن عمر اليمن، فلم يزل والياً بها حتى كتب له هشام أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بك، واشفني من ابن النصرانية يعني خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً عل العراق فاستخلف يوسف ابنه الصلت على اليمن، وسار إلى العراق في سبعة عشر يوماً، ودخل المسجد مع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام، فانتهره فأقام وتقدم يوسف فصلى وقرأ إذا وقعت الواقعة وسأل سائل، ثم أرسل إلى خالد وخليفته طارق وأصحابهما، وكان طارق قد ختن ابنه فأهدي إليه ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة سوى المال والثياب، فحبس يوسف خالداً، فصالحه أبان بن الوليد عنه وعن أصحابه بتسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف وقيل له لو لم تقبل هذا المال لأخذت منه مائة ألف ألف درهم، وقيل غير ذلك مع قصص يطول ذكرها، وعاقبة ذلك أنه مات خالد المذكور تحت العذاب الشاق وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في سنة ست وعشرين. ثم آل الأمر بعد أمور يطول ذكرها إلى أن تولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك، واطاعة أهل الشام وانبرم له الأمر، فولى منصور بن جمهور العراق، فبلغ خبره يوسف بن عمر، فهرب وسلك طريق السماوة حتى أتى إلى البلقاء فاستخفى بها، وكان أهله مقيمين فيها، فلبس زي النساء وجلس بينهن، فبلغ يزيد بن الوليد خبره، فأرسل إليه من يحضره، فوصل إليه وأخذه بعد أن فتش عليه كثيراً فوجده جالساً على تلك الهيئة بين نسائه وبناته، فجاءوا به في وثاق، فحبسه يزيد عند الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وكان يزيد بن الوليد قد حبسهما عند قتله أباهما في الحضراء وهي دار بدمشق مشهورة قبل جامعها. قال ابن خلكان وقد خربت ومكانها معروف عندهم فأقام يوسف بن عمر في السجن إلى أن مات يزيد بن الوليد، وتولى بعده أخوه إبراهيم بن الوليد، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج، ثم تولى بعد الكل مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وغلب على الأمر، خافت جماعة إبراهيم بن الوليد أن يدخل مروان دمشق فيخرج الحكم وعثمان ابني الوليد من السجن ويجعل لهما الأمر فيفتكان فيهم، فأجمع رأيهم على قتلهما، فأرسلوا يزيد بن خالد القسري ليتولى ذلك، فانتدب في جماعة من أصحابه لذلك، فدخلوا السجن، وشدخوا

الغلامين بالعمد وأخرجوا يوسف بن عمر، فضربوا عنقه لكونه قتل خالد بن عبد الله القسري والد يزيد المذكور. ولما قتلوه أخذوا رأسه عن جسده وشدوا أرجله، وقتل في مذاكيره حبل وهو يجر في ذلك الموضع نعوذ بالله من جميع الشرور ونسأله حسن عاقبة الأمور. وفيها توفي الحكم وعثمان ولدا الوليد بن عبد الملك المذكوران. وفيها توفي عبد الله بن دينار. مولى ابن عمر، وعمير بن هاني العنسي بالنون بعد العين المهملة الداراني، روى عن أبي هريرة وعن معاوية قال له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: اراك لا تفتر من الذكر فكم تسبح؟ قال: مائة ألف إلا أن يخطي الأصابع رحمه الله تعالى. وفيها توفي عبد الرحمن بن مالك الحراني الحافظ، ووهب بن كيسان، وقاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال شعبة: كان يصوم الدهر ويختم كل يوم، وقيل مات في سنة ست والإمام السدي المفسر الكوفي المشهور. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي أبو إسحاق السبيعي شيخ الكوفة وعالمها، عاش نحو المائة. وفيها توفي السيد الكبير الولي الشهير ذو الإيمان الوثيق والورع الدقيق والمناقب العديدة والسيرة الجميلة الجليل الفضل والمقدار: ابو يحيى مالك بن دينار صاحب الهمة العلية والفضائل السنية، روي أنه أقام أربعين سنة لم يأكل من رطب البصرة ولا من تمرها. وروي أنه قد وقع حريق في البصرة، فقال شباب الحي بيت أبي يحيى مالك بن دينار، فخرج متزراً ببارية وبيده مصحف وقال: فاز المخففون أو قال: نجا المخففون، وكان عالماً زاهداً ورعاً لا يأكل إلا من كسبه، وكان يكتب المصاحف بالأجرة. وحكى أبو القاسم بن خلف الأندلسي في كتابه قال: بينا مالك بن دينار يوماً جالساً إذ جاءه رجل، فقال: يا أبا يحيى ادع الله لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب المالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أننا أنبياء، ثم قرأ ثم دعا فقال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاماً فإنك تمحو ما يشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ثم رفع مالك يده فما حطها حتى طلع الرجل من باب المسجد

سنة ثمان وعشرين ومائة

وعلى رقبته غلام ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه وما قطعت جراره. وقال مالك: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني إلى الباب أحد وقيل له: الا تستسقي له؟ فقال: انتم تنتظرون المطر وأنا أنتظر الحجارة قلت وقد اقتصرت من ذكر فضائله الكثيرة على هذه الألفاظ اليسيرة. سنة ثمان وعشرين ومائة فيها ظهر الضحاك بن قيس الخارجي وقتل متولي الموصل واستولى عليها، وكثرت جموعه وأغار على البلاد، فخافه مروان فسار بنفسه فالتقى الجيشان بنصيبين، وكان قد أشار على الضحاك أمراؤه أن يتقهقر، فقال: ما لي في ديناكم من حاجة، وقد جعلت لله علي إن رأيت هذا الطاغية أن أحمل عليه حتى يحكم الله بيننا وعلي دين سبعة دراهم معي منها ثلاثة دراهم، فدار الحرب إلى آخر النهار وقتل الضحاك في المعركة في نحو ستة آلاف من الفريقين، اكدرهم من الخوارج، وانهزم مروان ولكن ثبت أمير الميمنة وجاء بعض الخوارج فملك مخيم مروان وقعد على سريره، فنظف، نحو ثلاثة آلاف فأحاطت بذلك الخارجي فقتل، وقام بأمر الخوارج شيبان فتحيز بهم فخندقوا على نفوسهم وجاء مروان فنازلهم وقاتلهم عشرة أشهر كل يوم راية مروان مكسورة، وكانت فتنة هائلة تشبه فتنة الأشعث من الحجاج، ثم رحل شيبان نحو شهرزور، ثم توجه إلى كرمان، ثم كر إلى ناحية البحرين، فقتل هناك، وفيها ولي العراقين يزيد بن عمر بن هبيرة. وفيها توفي عاصم بن أبي النجود الأزدي مولاهم قارىء الكوفة في زمانه وأحد القراء السبعة، وكان صالحاً حجة للقرآن صدوقاً في الحديث، قرأ على عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش رضي " الله عنهم. وفيها توفي يحيى بن يعمر العدواني البصري كان تابعياً، لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. وغيرهما من الصحابة، وروى عنه قتادة السدوسي وإسحاق العدوي، وهو أحد القراء بالبصرة، وانتقل إلى خراسان وتولى القضاء بمرو، وكان عالماً بالقرآن

الكريم والنحو ولغات العرب، اخذ النحو عن أبي الاسود الديلي، وكان يحيى المذكور من الذين يقولون بتفضيل أهل البيت على غيرهم من غير تنقيض لذي فضل من غيرهم. وحكى عاصم بن أبي النجود المقري إن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب إلى قتيبة بن مسلم وإلى خراسان أن أبعث إلي يحيى بن يعمر، فبعث به إليه، فلما قام بين يديه قال: انت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله والله لآلقين الأكثر منك شعراً أو لتخرجن من ذلك. فقال: فهو أماني إن خرجت؟ قال: نعم قال فإن الله جل ثناؤه يقول " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " - الأنعام: 84 - وزكريا ويحيى وعيسى الآية وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له الحجاج ما أراك إلا قد خرجت، والله لقد قرأتها وما عملت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة الغريبة المجيبة، فلله دره ما أحسن ما استنبط مع شدة التهديد من ما في وعيده أفرط، قال عاصم: ثم إن الحجاج قال له: اين ولدت؟ قال: بالبصرة قال: ايزننشأت؟ قال: بخراسان قال: فهذه العربية إني مع ذلك قال: رزق قال: خبرني عني هل ألحن؟ فسكت. فقال: اقسمت عليك. قال: اما إذا سألتني أيها الأمير فإنك ترفع ما يوضع وتضع ما يرفع. قال: ذلك والله اللحن السيىء، وقال ثم كتب إلى قتيبة إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمرعلى قضاءك والسلام. وعن يونس بن حبيب قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: اتسمعني ألحن؟ قال في حرف واحد، قال في أي؟ قال في القرآن، قال ذلك أشنع ما هو؟ قال تقول: قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم إلى قوله أحب إليكم، فتقرأها بالرفع، قال الراوي: كأنه لما طال الكلام نسي ما ابتدأ به، قال الحجاج: لا جرم لا تسمع لحناً أبداً، وقال: خالد الحذاء: كان لابن سيرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر، وكان ينطق بالعربية المحضة واللغة الفصحاء، طبعه فيه غير متكلف، وأخباره ونوادره كثيرة. وفيها توفي أبو عمران الجوني البصري، وأبو الزبير المكي محمد بن مسلم أحد العقلاء والعلماء، وفيها فقيه مصر وشيخها أبو رجاء بن أبي حبيب الأزدي مولاهم، قال لليث: هو مولانا وسيدنا.

سنة تسع وعشرين ومائة

سنة تسع وعشرين ومائة في رمضان منها كان ظهور أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس بمرو. وفيها توفي عالم المغرب وعابدها خالدبن أبي عمران التجيبي التونسي قاضى إفريقية. وفيها توفي على الصحيح يحيى بن أبي كثير أبو نصر أحد الأعلام في الحديث، وفيها توفي قاري المدينة الزاهد العابد أبو جعفر يزيد بن القعقاع، اخذ عن أبى هريرة وابن عباس، وقرأ عليه نافع، وله ذكر في سنين أبي داود. سنة ثلاثين ومائة فيها وقيل فى السنه الآتية توفي السيد الفقيه القدوة الحافظ القانت الزاهد محمد بن المنكدر، وسمع من عائشة وأبي هريرة، وكان بيته مأوى الصالحين ومجتمع المفلحين من الزاهدين والعابدين. وتوفي فيها يزيد بن رومان المدني، احد شيوخ نافع في القراءة، رحمه الله. سنه إحدى وئلاثين ومائه فيها استولى أبو مسلم صاحب الدعوة على ممالك خراسان، وهزم الجوش، وأقبلت دولة بني العباس، وولت دولة بني أمية. وفيها توفي فقيه أهل البصرة أيوب السختياني أحد الأعلام قال شعبة: كان سيد الفقهاء، وقال ابن عيينة: لم ألق مثله، وقال حماد بن زيد: كان أفضل من جالسته وأشد اتباعاً للسنة، وقال ابن المديني: له نحو ثمان مائة حديث. وفيها توفي أبو الزناد الفقيه أحد علماء المدينة، وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن ذكوان، لقي عبد الله بن جعفر وأنساً. قال الليث: رأيت أبا الزناد حلقه ثلاث مائة تابع من

طالب فقه وعلم وشعر وصوف، تم لم يلبث أن بقي وحده، وأقبلوا على ربيعه، وكذا ربيعة أقبلوا على مالك وتركوه، صدق الله العظيم: " وتلك الأيام نداولها بين الناس " - آل عمران: 140 - قال أبو حنيفة: وكان أبو الزناد أفقه من ربيعة. وفيها توفي واصل بن عطاء المعتزلي المعروف بالغزال أحد أئمة المعتزلة، كان من البلغاء المتكلمين في العلوم، وكان ألثغ يبدل الراء غيناً. قال المبرد: كان أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان قبيح اللثغة في الراء وكان يخلص كلامه من الراء، ولا يلقن لذلك لقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: عليهم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله وقال آخر: ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطراً والقول يجعله ... فعاد بالغيث إشفاقاً من المطر وذكر السمعاني في كتاب الأنساب: ان واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف: وقالت الخوارج بتكفير مرتكب الكبائر، وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر، خرج واصل بن عطاء من الفريقين وقال: ان الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه، واعتزل عنه، وجلس إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهم المعتزلة. قال وكان واصل بن عطاء يضرب به المثل في اسقاطه حرف الراء من كلامه، واستعمل الشعراء ذلك في شعرهم كثيراً، فمنهم قول أبي محمد الخازن في قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد. نعم تجنبت لايوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لفظة الراء وقال آخر: أعد لثغة لو أن واصل حاضر ... يسمعها ما أسقط الراء واصل وقال آخر: أجعلت وصل الراء لم ينطق به ... وقطعتني حتى كأنك واصل ولقد أحسن في قوله: وقطعتني حتى كأنك واصل، حسبنا بالغاً عند من يفهم المعاني

سنة اثنتين وثلاثين ومائة

الحسان، وقد عمل الشعراء في هذه اللثغة كثيراً، ففي ابدال ااثاء من السين ما يعزى إلى أبي نواس من قوله: وشادن سألته عن اسمه ... فقال لي: اثمي مرداث بات يعاطبني سخامية ... فقال لي: قد هجع الناث أما ترى حيشاً كليلتنا ... زينها الذيران والآث فعدت من لثغة الثغا ... فقلت: اين الطاث والكاث قوله سخامية هو بضم السين المهملة والخاء المعجمة وبعد الميم مثناة من تحت وهي: الحمر اللينة السلسلة. قلت وما سمعت من بعض شيوخنا في هذا المعنى: والثغ سألته عن اسمه ... فقال لي إثمي عباث فعدت من لثغة الثغا ... فقلت: اين الطاث والكاث وقال المبرد في كتاب الكامل: لم يكن واصل بن عطاء غزالاً ولكن كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين ليعرف المنقطعات من النساء فيجعل صدقته لهن، قال: وكان طويل العنق وله عدة تصانيف في علم الكلام وغيره، وأقواله في الا! عتقاد في كتب الأصول. وفي السنة المذكورة توفي عبد الله بن يحيى بن أبي يحيى المكي المقري صاحب مجاهد. وفيها توفي السيد الكبير الوالي الشهير أحد زهاد البصرة العابدين الشيوخ المباركين من السلف الصالح فرقد السبخي، كان هو ومحمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وثابت البناني وصالح المري متصاحبين، رحمهم الله، حدث عن أنس رضي الله عنه. وفيها توفي متصور بن زاذان شيخ البصرة وزاهدها وعابدها، روى عن أنس وجماعة، وكان يصلي من بكرة إلى العصر، ثم يسبح إلى الغروب. وفيها توفي همام بن منبه اليماني صاحب أبي هريرة، قال أحمد: كان يعرف بمجالس أبي هريرة، وكان يشتري الكتب لأخيه وهب. ؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة اثنتين وثلاثين ومائة فيها، ابتداء دولة بني العباس حتى بويع السفاح أبو العباس عبد الله بن محمد بالكوفة

، وجهز عمه عبد الله بن علي لمحاربة مروان فزحف إليه مروان إلى أن نزل بقرب الموصل، فالتقوا في جمادى الآخرة، فانكسر مروان، واستولى عبد الله بن علي على الجزيرة، وطلب الشام فهرب مروان إلى مصر، وخذل وانقضت أيامه. فنزل عبد الله على دمشق وحاصرها وبها ابن عم مروان الوليد بن معاوية بن مروان، فأخذت بالسيف وقتل بها من الأمويين عدة ألوف منهم أميرها الوليد وسليمان بن هشام بن عبد الملك وسليمان بن يزيد بن عبد الملك. وفيها توفي عبد الله بن طاوس اليماني النحوي، روى عن أبيه قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية وأحسنهم خلقاً، ما رأيت ابن فقيه مثله. وروي أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاوس ومالك بن أنس، فلما دخل عليه أطرق ساعة ثم التفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك، فقال حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك أبو جعفر ساعة قال مالك قصرت ثيابي خوفاً أن يصيبني دمه، ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة. ثلاث مرات فلم يفعل، فقال: لم لا تناولني؟ فقال: اخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك بها، فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضيلة من ذلك اليوم. وفيها توفي الإمام الحافظ أبو عتاب منصور بن المعتمر السلمي الكوفي أحد العلماء، أخذ من أبي وائل وكبار التابعين، وقال ما كتبت حديثاً قط، وقال عبد الرحمن بن مهدي: لم يكن بالكوفة أحفظ منه. وقال زائدة: صام منصور أربعين سنة، وقام ليلها. وكان يبكي الليل كله، وقيل كان قد عمش من البكاء، وأكره على قضاء الكوفة فقضى شهرين، ومناقبه كثيرة شهيرة. وتوفي بالمدينة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري الفقيه، وكان مالك لا يقدم عليه أحداً. وفيها توفي أبو عبيد الله صفوان بن سليم المدني الفقيه القدوة، روى عن ابن عمرو جابر وجماعة، قال أحمد بن خنبل: ثقة من خيار عباد الله يستنزل بذكره القطر. وفيها توفي يونس بن ميسرة المقري الأعمى، عاش مائة وعشرين سنة روى عن الكبار، وكان موصوفاً بالفضل والزهد كبير القدر، وقتل الأمير محمد بن عبد الملك بن مروان، والأمير أبو خالد يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين لمروان، وله خمس وأربعون سنة، وكان شهماً شجاعاً خطيباً مفوهاً مفرط الأكل، واقع بني العباس فهزموه،

وتحصن بواسط فحاصره أبو جعفر المنصور أخو السفاح مدة ثم أمنه وغدر به، وقال لا يغير ملك وهذا فيه، فقتله، وهو معدود من جملة من جمع له العراقان، فكان أولهم زياد ابن أبيه، استخلفه معاوية، وآخرهم يزيد المذكور، ولم يجمعا لأحد بعده. وقيل بل أن أبا مسلم الخراساني وصل إلى السفاح، يحضه على قتله، ويقول: طريق السهل لا يصلح أن يكون فيها حجر، وكان يركب في موكب كبير وعسكر كثر إذا جاء إلى أبي جعفر المنصور، فمنع من ذلك، فصار يأتي في نفر يسير، ثم صار يأتي في ثلاثة، ولما قتل رثاه أبو عطاء السندي بقوله: ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك يجاري دمعها بجمود عشية قام النائحات وشققت ... جيوبها بأيدي مأتم وخدود وكان قد قاتل دونه ولده داود، فقتل مع جماعة من أصحابه، ثم قتل هو ساجد لله تعالى. وذكر بعض المؤرخين أنه لما طال حصار ابن هبيرة ثبت معن بن زايدة معه، وكان أبو جعفر المنصور يقول: ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء، وبلغ ابن هبيرة ذلك، فأرسل أليه المنصور: انت القائل كذا؟ ابرز إلي لترى فأرسل إليه ما أجد لي ولك مثلاً إلا كالأسد لقي خنزيراً فقال له الخنزير بارزني: فقال الأسد ما أنت بكفؤ لي، فإن بارزتك فنالذي منك سوء كان عاراً علي، وإن قتلتك قتلت خنزيراً فلم أحصل على حمد ولا في قتلك فخر، فقال الخنزير: لئن لم تبارزني لأعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال الأسد: احتمالي لذلك أيسر من تلطيخ براثني بدمك. ثم إن المنصور كاتب القواد، وفهم ابن هبيرة، فطلب الصلح، فأجابه. وقال له ابن هبيرة يوماً إن دولتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تصل محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلنا منتظرين لدعوتكم. وكان بينهما ستر فرفعه المنصور وقال في نفسه: عجباً لمن يأمرني بقتل هذا، فصار ابن هبيرة يتردد إليه ويتغذى ويتعشى عنده، وبالغ السفاح في حث أبي جعفر في قتله وعنف عليه إن لم يفعل، وهو يمتنع من ذلك، فلم يزل به إلى أن أمر بقتله كما تقدم بإشارة أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. قال ابن عساكر: كان ابن هبيرة إذا أصبح أتي بقدح كبير من لبن قد حلب على عسل أحياناً بسكر، فيشربه بعد طلوع الشمس، ويدعوا بالغداء فيأكل دجاجتين وفرخي حمام ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل

فيدعوا بالغداء فيأكل ويعظم اللقم ويتابعها ومعه جماعة من الأعيان، فإذا فرغوا من الأكل تفرقوا، ثم دخل إلى نسائه ثم يخرج إلى صلاة الظهر، وينظر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت للناس كراسي، فإذا أخذوا مجالسهم أتوهم بأقداح اللبن والعسل وأنواع الأشربة، ثم يوضع الأطعمة والسفرة للعامة، ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ويسامره سماره حتى يذهب عامة الليل، وكان يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصجح قضيت، وكان رزقه ست مائة ألف، وكان يقسم في كل شهر في أصحابه ووجوه الناس وأهل البيوتات. وفيها قتل مروان بن محمد بن مروان الخليفة، وهو الملقب بالجعد، عبر الذيل طالباً الحبشة، فلحقه صالح بن علي عم السفاح وبيته ببوصير، فقاتل حتى قتل وكان بطلاً شجاعاً ظالما أشهل العينين كثير اللحية أبيض ربعة، عاش بضعاً وخمسين سنة، ذكره بعضهم فقال: لله دره ما كان أحزمه وأسوسه وأعفه عن الغي. وقتل معه أخ لعمر بن عبد العزيز كان أحد الفرسان، ولكن تقنطر به فرسه فقتله. وفيها توفي الأمير سليمان بن كثير الخزاعي المروزي أحد نقباء بني العباس، قتله أبو مسلم الخراساني، وقتل بمصر عبد الله بن أبي جعفر الليثي مولاهم البصري الفقيه أحد العلماء وا لزهاد. وفيها وقيل في سنة ثمان وعشرين، وقيل ثلاثين ومائة، توفي أبو جعفر يزيد ابن القعقاع القارىء مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، اخذ القراءة عرضاً عن ابن عباس، وعن مولاه عبد الله بن عياش، وعن أبي هريرة وسمع عبد الله بن عمر، ويقال قرأ على زيد بن ثابت، وروى القراءة عنه عرضاً نافع بن عبد الرحمن وسليمان بن مسلم وغيرهما، وكان يقرأ بالمدينة الشريفة، وقيل هو مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من أفضل الناس، وكان بياض بين نحره وفؤاده قيل هو نور القرآن، ورؤي بعد موته في المنام وهو على ظهر الكعبة بخبر أنه من الشهداء الكرام رحمة الله عليهم.

سنة ثلاث وثلاثين ومائة

سنة ثلاث وثلاثين ومائة فيها بعث أبو مسلم الخراساني مرار الضبي فقتل الوزير أبا مسلمة السبيعي مولاهم الكوفي وفيه قيل هذا البيت: إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يسأل كان وزيرا وفيها توفي أبو أيوب بن موسى الأموي المكي الفقيه، روى عن عطاء ومكحول. وفيها مات بمكة الأمير داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان فصيحاً مفوهاً. وفيها أو في الماضية توفي يحيى بن يحيى بن قيس الغساني سيد أهل دمشق في وقته. وفيها توفي مغيرة بن مقسم الضبي مولاهم الكوفي الفقيه الأعمى أحد الأئمة وعمر بن أبي سلمة على ما ذكر بعضهم. سنة أربع وثلاثين ومائة فيها تحول الخليفة السفاح عن الكوفة ونزل الأنبار، وفيها توفي الفقيه يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي الدمشقي، روى عن مكحول وطائفة، وقال أبو داود: اجازه الوليد بن يزيد مرة بخمسين ألف دينار، وذكر القضاء فإذا هو أكبر من القضاء، وفيها توجه من العراق موسى بن كعب إلى حرب منصور بن جمهور الكلبي الدمشقي، فالتقى منصوراً في اثني عشر ألفاً فهزم منصور ومات في البرية عطشاً وكان قدرياً. سنة خمس وثلاثين ومائة فيها توفي أبو العلاء برد بن سنان الدمشقي نزيل البصرة، وأبو عقيل زهرة بن معبد التيمي بالاسكندرية، قال الدارمي زعموا أنه من الأبدال. وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني شيخ مالك والسفيانين. روى عن أنس وجماعة، وكان كثير العلم. وفيها توفي عطاء الخراساني نزيل بيت المقدس، وهو كثير الارسال عن الصحابة، قال ابن جابر كنا نغزو معه، وكان يحيي الليل صلاة إلا نومة السحر، وكان يعظنا ويحضنا على التهجد.

وفيها توفيت السيدة الولية ذات المقامات العلية والأحوال السنية رابعة ابنة إسماعيل العدوية الشهيرة الفضل البصرية، على ما ذكره ابن الجوزي في شذور العقود وقال غيره: توفيت في سنة خمس وثمانين يعني ومائة، قلت وليس صحيحاً قول من ذكر لها حكاية مع السري السقطي، فإنه عاش حتى نيف على خمسين ومائتين من الهجرة. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته كانت تقول في مناجاتها: الهي تحرق بالنار قلباً يحبك فهتف بها هاتف مرة: ما كنا نفعل هذا، فلا تظنني بنا ظن السوء. وقال عندها يوماً سفيان الثوري: واحزناه، فقالت: لا تكذب بل قل: واقلة حزناه. لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس. وروي أنها سمعته مرة يقول: اللهم إنا نسألك رضاك. فقالت: اما تستحي أن تسأل رضا من لست عنه براض؟. قلت ومثل هذا ما أخبرني بعض أهل العلم قال: سمعني الشيخ عمر الهوري وأنا أقول في الملتزم: الهي إني أسألك رضاك، فقال لي: يا فقيه، لقد تجرأت، انا منذ ثلاثين سنة ما جسرت أدعو الله تعالى بهذا الدعاء. وقالت رابعة: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار وقال بعضهم كنت أعود الرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمر بمناديل من نور، وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي لا أعده شيئاً. ومن وصاياها اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيآتكم، وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف. إني جعلتك في الفؤاد محمدي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي فالجسم مني للجليس مؤانس ... وتجيب قلبي في الفؤاد أنيسي قال ابن خلكان قبرها على رأس جبل يسمى الطور بظاهر القدس. قلت وسمعت من بعض أهل بيت المقدس يذكر أن المدفونة في الجبل المذكور رابعة أخرى غير العدوية، والله أعلم. وروى ابن الجوزي بسند له متصل إلى عبدة خادمة رابعة العدوية، قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت

سنة ست وثلاثين ومائة

أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة يا نفس إلى كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور، وكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. ولما حضرتها الوفا دعتني وقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً، وكفني في جبتي هذه جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفناها في تلك الجبة وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة استبرق وخمار من سندس أخضر لم أر قط شيئاً أحسن منه، فقلت: يا رابعة ما فعلت الجبة التي كفناك فيها وخمار الصوف؟ قالت: انه والله نزع عني وأبدلت به ما ترينه علي، وطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليين يكمل لي بها ثوابها يوم القيامة، فقلت لها: لهذا كنت تحملين أيام الدنيا؟ فقالت وما هذا عند ما رأيت من كرامة الله عز وجل لأوليائه فقلت لها: وما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات. والله سبقتنا إلى الدرجات العلى. فقلت: وبم وقد كنت عند الناس أكبر منها؟ قالت: انها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت على الدنيا أو أمست، فقلت لها ما فعل أبو مالك أعني ضيغما؟ قالت: يزور الله عز وجل متى شاء. فقلت فما فعل بشربن منصور؟ قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يؤمل. قلت فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل قالت: عليك بكثرة ذكره، يوشك أن يعطي بذلك في قبرك. سنة ست وثلاثين ومائة فيها توفي حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الحافظ عن ثلاث وتسعين سنة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الفقيه أبو عثمان عالم المدينة، ويقال له ربيعة الرأي، سمع أنساً وابن المسيب، وكانت حلقة الفتوى أخذ عنه مالك. قال عبيد الله بن عمر العمري: هو صاحب معضلاتنا وعالمنا وأفضلنا، وذكروا أنه أدرك جماعة من الصحابة. وقال بكر بن عبد الله الصنعاني أتيت مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا يوماً: ما تصنعون بربيعة؟ وهو، او قال: ها هو نائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة وقلنا له: انت ربيعة؟ قال: نعم قلنا: انت الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم قلنا، كيف حظي بك مالك وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم. وكان يوماً يتكلم في مجلسه، فوقف عليه أعرابي، فأطال الوقوف والإنصات إلى

سنة سبع وثلاثين ومائة

كلامه فظن ربيعة أنه قد أعجبه كلامه فقال: يا أعرابي عندكم؟ قال: الإيجاز مع اصابة المعنى، فقال: وما المعنى؟ قال ما أنت فيه منذ اليوم، فخجل ربيعة. وتوفي في الهاشمية مدينة بناها السفاح بأرض الأنبار وكان يسكنها ثم ينتقل إلى الأنبار. قال مالك بن أنس في ما حكى ابن خلكان: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي، رحمة الله عليه. وفيها توفي زيد بن أسلم العدوي مولاهم الفقيه العابد، لقي ابن عمر وجماعة وكانت له حلقة الفتوى والعلم بالمدينة. قال أبو حازم: لقد رأينا في حلقة زيد بن أسلم أربعين فقيهاً، ادنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا ونقل البخاري: ان زين العابدين علي بن حسين بن علي كان يجلس إلى زيد بن أسلم. وفيها توفي أبو العباس السفاح عبد الله بن محمد الخليفة العباسي أول خلفاء بني العباس، كانت دولته خمس سنين، وكان طويلاً أبيض جميلاً حسن اللحية مات بالجدري في الأنبار. وفيها توفي العلاء بن الحارث الحضرمي الفقيه الشامي صاحب مكحول، روى عن عبد الله بن بسر بضم الموحدة وسكون المهملة وطائفة، وكان ثقة نبيلاً مفتياً جليلاً. وفيها توفي عطاء بن السائب الثقفي الكوفي الصالح، روى عن عبد الله بن أبي أوفى الصحابي وطائفة، قال أحمد بن حنبل: هو رجل صالح، كان يختم كل ليلة من سمع منه قديماً كان صحيحاً. سنة سبع وثلاثين ومائة في أولها بلغ عبد الله بن علي موت ابن أخيه السفاح، فدعا إلى نفسه بالإسلام وعسكر، وزعم أن السفاح عهد إليه بالأمر وأقام شهوداً بذلك، فجهز أبو جعفر المنصور لحربه أبا مسلم الخراساني، فالتقى الجمعان بنصيبين في جمادى الآخرة، فاشتد القتال، ثم انهزم جيش عبد الله، وهرب هو إلى البصرة وبها أخوه، وحاز أبو مسلم خزائنه، وكانت خزائن عظيمة، لأنه كان قد استولى على جميع أموال بني أمية، فبعث المنصور إلى أبي مسلم أن احتفظ بما في يدك، فصعب ذلك على أبي مسلم وعزم على خلع المنصور، وسار نحو خراسان فأرسل إليه المنصور يستعظمه ويمنيه، وما زال به حتى ظفر به فقتل في

شعبان، ولما حج أبو مسلم المذكور أمر منادياً في طريق مكة: برئت الذمة من رجل أوقد ناراً في عسكر الأمير. فلم يزل يغديهم ويعشيهم حتى بلغ مكة، وأوقف في المسعى خمس مائة وصيف على رقابهم المناديل، يسقون الأشربة من سعى من الحاج بين الصفا والمروة، ولما وصل الحرم نزل وخلع نعليه ومشى حافياً تعظيماً للحرم، وهو أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم صاحب دعوة بني العباس منشىء دولتهم، خل خراسان وهو شاب فما زال يتحيل بإعانة وجوه شيعة بني العباس ونقبائهم حتى وثب على مرو فملكها. وحاصل الأمر أنه خرج من خراسان بعد أن حكم عليها وضبطها، فقاد جيشاً هائلاً، ومهد لبني العباس بعد أن قتل خلقاً لا يحصون محاربة وصبراً قيل كان حجاج زمانه. وذكروا أن أباه رأى في المنام أنه جلس للبول فخرج من إحليله نار، وارتفعت في السماء وسدت الآفاق وأضاءت الأرض ووقعت بناحية المشرق، فقص رؤياه على عيسى بن معقل فقال: ان في بطن جاريتك غلاماً يكون له شأن أو كما قال، ثم فارقه ومات، فوضعت الجارية أبا مسلم، ونشأ عند عيسى فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه في صغره، ثم إنه اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه ادريس جد أبي دلف العجلي بقايا من الخراج تقاعدا من أجلها من حضور مؤدي الخراج بأصفهان، فأنهى عامل أصفهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسري وإلى العراقين، فأنقذ من الكوفة من حملهما إليه، فتركهما في السجن، فصادفا فيه عاصم بن يونس العجلي محبوساً ببعض الأسباب، وقد كان عيسى بن معقل أرسل أبا مسلم إلى قرية من رستاق. فابق لاحتمال غلتها، فلما بلغه أن عيسى حبس باع ما كان احتمله من الغلة وأخذ ما اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى، فأنزله عيسى في بني عجل، وكان يختلف إلى السجن، ويتعهد عيسى وإدريس ابني معقل، وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمدبن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب مع عدة من شيعته، فدخلوا على العجليين السجن مسلمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وأدبه وكلامه، ومال هو إليهم، ثم إنه عرف أمرهم وأنهم دعاة، واتفق مع ذلك هرب عيسى وادريس من السجن، فعدل أبو مسلم من دور بني عجل إلى هؤلاء النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة حرسها الله تعالى، فأورد النقباء على إبراهيم بن محمد بن علي، وقد تولى الإمامة بعد وفاة أبيه عشرين دينار ومائتي ألف درهم، وأهدوا إليه أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه فأقام أبو مسلم عنده يخدمه حضراً أو سفراً.

ثم إن النقباء عادوا إلى إبراهيم الإمام وسألوه رجلاً يقوم بأمر خراسان فقال: إني قد جربت هذا الأصفهاني وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدته حجر الأرض. ثم دعا أبا مسلم وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان، وكان من أمره ما كان، وكان أبو مسلم يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم، وأقام على ذلك سنين وفعل في خراسان وتلك البلاد ما هو مشهور، فلا حاجة للإطالة بذكره. وكان مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يحتال على الوقوف على حقيقة الأمر، وإن أبا مسلم إلى من يدعو، فلم يزل على ذلك حتى ظهر له أن الدعاء لإبراهيم الإمام، وكان مقيماً عند أهله وإخوته، فأرسل إليه وقبض عليه وأحضر مالي حران، فأوصى إبراهيم بالأمر بعده لأخيه السفاح، ولما وصل إبراهيم إلى حران حبسه مروان بها، ثم غمه بجراب طرح فيه نؤرة، وجعل فيه رأسه، وسد عليه إلى أن مات. ثم سار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس السفاح، وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثيات لما رأوا في ذلك عن سلفهم أن هذا الأمر يتم لابن الحارثيه، فلما قام عمر بن عبد العزيز بالأمر أتاه محمد وقال: اني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب، افتأذن لي؟ قال تزوج من شئت فتزوج ريطة بنت عبد الله منهم فأولدها السفاح فتولى الخلافة. وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار أن أبا مسلم نهض بالدعوة وهو ابن ثمان عشرة سنة، وقيل هو ابن ثلاث وثلاثين، فإنه كان عظيم القدر يلقاه القاضي ابن أبي ليلى المشهور فقبل يده، فقيل له في ذلك فقال: قد لقي أبو عبيدة بن الجراح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وقبل يده، فقيل له: اتشبه أبا مسلم بعمر؟ فقال: اتشبهونني بأبي عبيدة. وكان أول ظهور أبي مسلم بمرو من خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة والوالي بها يومئذ من جهة مروان نصر بن سيار الليثي وكتب إليه قول ابن هريم البجلي الكوفي. أرى خلل الرماد وبيص نار ... ويوثسك أن يكون لها ضرام فإن النار بالزندين توري ... وإن الحرب أولها كلام

لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام فهذا مثل ما يحكى من قول بعضهم لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم علي أبي جعفر المنصور. أرى ناراً أنست على يفاع ... لها في كل ناحية شعاع وقد رقدت والعباس عنها ... وباتت وهي آمنة رتاع كمارقدت أمية ثم هبت ... تدافع حين لا يغنى الدفاع وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة وثب أبو مسلم على مقدم خراسان فقتله، وقعدا في الدست، وسلم عليه بالأمرة وخطب ودعا للسفاح، وانقطعت ولاية بني أمية عن خر اسان. ولما مات السفاح وتولى أخوه أبو جعفر المنصور صدرت عن أبي مسلم إساءات وقضايا غيرت قلب المنصور عليه فعزم على قتله وقتله كما تقدم. وقيل إن منصوراً قال لسالم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما ترى أبي مسلم؟ فقال: " لوكان فيهما الهة إلا الله لفسدتا " - الأنبياء: 22 - فقال: حسبك يا بن قتيبة لقد أودعتها أذناً واعية. وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها، وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلاد الروم، كان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى ولم يخطر لأبي مسلم أنها موضع قتله، بل راح وهمه إلى بلاد الروم، وكانت رومية المذكورة قد بناها الإسكندر ذو القرنين لما أقام بالمدائن، وكان قد طاف الأرض شرقاً وغرباً ولم يختر منها منزلاً سوى المدائن، فنزلها وبنى رومية المذكورة على ما ذكروا والله أعلم. فلما عاد أبو مسلم من سفر حجه المتقدم ذكره دخل على المنصور، فرحب به ثم إمره بالانصراف إلى مخيمه، وانتظر المنصور فيه الغرض والغوائل، ثم إن أبا مسلم ركب إليه مراراً فأظهر له التحني، ثم جاءه يوماً فقيل له أنه يتوضأ للصلاة، فقعد تحت الرواق، ورتب له المنصور جماعة يقفون وراء السرير فإذا عاتبه وضرب يداً على يد ظهروا وضربوا عنقه، ثم جلس المنصور وأذن له فدخل وسلم فرد، وأمره بالجلوس وحادثه ثم عاتبه، وقال: فعلت وفعلت فقال أبو مسلم: ما يقال هذا بعد بيعتي واجتهادي، وما كان مني، فقال له: يا ابن الخبيثة إنما فعلت ذلك تحرياً وحفظاً ولو كان مكانك أمة سوداء لعملت عملك. ألست

الكاتب إلي تبدأ بنفسك قبلي؟ ألست الكاتب يخطب عني آسية وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعباً، فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: وهو آخر كلامه قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، والمنصور يصيح اضربوا قطع الله أيديكم، وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، فقال لا أبقاني الله أبداً وأي عدو أعدى منك؟ ولما قتله أدرجه في بساط، فدخل عليه جعفر بن حنظلة، فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال له المنصور وفقك الله ها هو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قالى: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك، ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد. زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مخرم اشرب بكأس كنت تسقي ... بها أمر في الحلق من العلقم وكان المنصور بعد قتله كثيراً ما ينشد جلساؤه نظماً لبعضهم من جملته. وأقدم لما لم يجد عنه مذهباً ... ومن لم يجد بداً من الأمر أقدما قيل ومن ها هنا أخذ البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله، ولقد لقي أسداً على طريقه فلم يقدم عليه، ثم أقدم عليه فقتله الفتح، والمقصود منها قوله: فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد منك مهربا واختلف في نسب أبي مسلم: فقيل من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة: أبا مخرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إن أهل الغدر أباؤك الكرد أبا مخرم خوفت بالقتل فاتحاً ... عليك بما خوفتني الأسد الورد ووصف المدائني أبا مسلم فقال كان قصير السمر جميلاً حلواً أنقى البشرة أحور العين عريض الجبهة حسن اللحية وافرها طويل الشعر قصير الساق والفخذ خافض الصوت فصيحاً بالعربية والفارسية حلو المنطق راوية للشعر عالماً بالأمور، ولم يرى ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر

سنة ثمان وثلاثين ومائة

السرور، وتنزل به الحوادت القادحة فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستقره الغضب، ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة، وكان من أشد الناس غيرة، وقيل له: بم بلغت ما بلغت؟ فقال: ما أخرت أمر يومي إلى غد قط. وفيها قتل أحد الأشراف بدمشق وهو عثمان بن سراقة الأزدي، وكان قد وثب عند موت السفاح وسب بني العباس على منبر دمشق، وأقام قي الخلافة هاشم بن يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، فبعثهم يحيى بن صالح عم السفاح، فلم يقووا لحربه، واختفى هاشم، وضرب عنق ابن سراقة. سنة ثمان وثلاثين ومائة فيها أقبل طاغية الروم قسطنطين في مائة ألف حتى نزل بدابق بكسر الموحدة بعد الألف، فالتقاه صالح بن علي عم المنصور، فهزمه والحمد لله على ظهور دين الإسلام على كل دين. وفيها توفي العلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم يخلف فيه، وزيد بن واقد. سنة تسع وثلاثين ومائة فيها توفي يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الفقيه الأعرج يروي عن شرحبيل بن سعد وطبقته من التابعين، ويونس بن عبيد شيخ البصرة، رأى أنساً وأخذ عن الحسن وطبقته، قال سعيد بن عامر: ما رأيت رجلاً قط أفضل منه، وأهل البصرة على ذا. قال أبو حاتم: هو أكبر من سليمان التيمي، ولا يبلغ سليمان منزلته، وقال يونس: ما كتبت شيئاً قط يعني لحفظه وذكائه. وفيها توفي خالد بن يزيد المصري الفقيه، يروي عن عطاء والزهري وطبقتهما. سنة أربعين ومائة فيها نزل جبريل بن يحيى الأمير من جهة صالح بن علي بالمصيصة مرابطاً فأقام بها سنة حتى بناها وحصنها. وفيها توفي أبو حازم سلمة بن دينار الفارسي المدني الأعرج عالم أهل المدينة

سنة إحدى وأربعين ومائة

وزاهدهم وواعظهم، قال ابن خزيمة: لم يكن في زمانه مثله، له حكم ومواعظ. وفيها توفي داود بن أبي هند البصري الفقيه الحافظ المفتي النبيل السيد الجليل، وففيه واسط أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين، وسهل بن أبي صالح السمان، روى عن أبيه وطبقته وأخذ عنه مالك والكبار. وفيها توفي عمرو بن قيس الكندي السكوني، عاش مائة تامة، وروى عن عبد الله بن عمر والكبار، وقيل إنه أدرك سبعين صحابياً. سنة إحدى وأربعين ومائة قال بعضهم فيها ظهر قوم خراسانيون، يقولون بتناسخ الأرواح وإن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم المنصور، وإن الهيثم بن معاوية جبرائيل، فأتوا قصر المنصور وطافوا به، فقبض على مائتين من كبارهم وحبسهم، فغضب الباقون وحفوا بنعش وحملوا هيئة جنازة ثم مروا بالسجن، فشدوا على الناس وفتحوا السجن، وأخرجوا أصحابهم، وقصدوا المنصور في ست مائة مقاتل، فأغلقوا باب البلدة وحاربهم العسكر مع معن بن زائدة، ثم وضعوا السيف فيهم وأصيب عثمان بن نهيك الأمير، فاستعمل المنصور مكانه على الحرمين أخاه عيسى وكان ذلك بالهاشمية قال المدائني: فحدثني أبو بكر الهذلي قال: اطلع المنصور فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة الذي يطعمنا ويرزقنا، تعالى الله الملك الحق المبين عن مقالة أهل الضلالة الملحدين. وفي السنة المذكورة توفي موسى بن عقبة المدني صاحب المغازي، قال الواقدي: كان موسى فقيهاً يفتي رحمه الله. وفيها توفي أبان بن تغلب الكوفي القارىء المشهور، رحمه الله. وفيها توفي موسى بن كعب التميمي المروزي أحد نقباء بني العباس. وفيها أو في التي يليها توفي أبو إسحاق الشيباني الكوفي سليمان بن فيروز، وقيل ابن خاقان. سنة اثنتين وأربعين ومائة وفيها توفي خالد الحذاء البصري الحافظ، يروي عن كبار التابعين، وقد رأى أنساً،

سنة ثلاث وأربعين ومائة

وكان يجلس بالحذائين فلقب بالحذاء، وفيها توفي عاصم بن سليمان، احد حفاظ البصرة، رحمة الله عليهم. وفيها أو في التي بعدها توفي عمرو بن عبيد البصري الزاهد العابد المعتزلي القدري، صحب الحسن ثم خالفه واعتزل خلقته، فلذا قيل المعتزلة. وفيها توفي محمد بن أبي إسماعيل الكوفي، روى عن أنس وجماعة قال شريك: رأيت أولاد أبي إسماعيل أربعة، ولدوا في بطن واحد، وعاشوا. وفيها توفي أبو هانىء حميد بن هانىء الخولاني المصري، روى عن علي بن رباح وعدة، وأدركه ابن وهب. سنة ثلاث وأربعين ومائة وفيها ثارت الديلم وقتلوا خلائق من المسلمين، فانتدب أهل الإسلام لغزوهم. وفيها سار الأمير محمد بن الأشعث إلى المغرب، فالتقى الاباضية فهزمهم، وقتل زعيمهم أبو الخطاب في المصاف، وفيها توفي حجاج بن أبي عثمان أحد حفاظ البصرة المعروف بالصواف، روى عن الحسن وغيره. وفيها على الصحيح توفي حميد الطويل أحد ثقات التابعين البصريين، كان فيها قائماً يصلي فسقط ميتاً سمع أنساً وطائفة. وكنيته أبو عبيدة. وفي ذي القعدة توفي سليمان بن طرخان أبو المعتمر التيمي أحد علماء البصرة وعبادها سمع أنساً وطائفة. قال شعبة: كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير لونه، وما رأيت أصدق منه، وقال المعتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي الفجر بوضوء العشاء، وعاش سبعاً وتسعين سنة. وفيها توفي مطرف بن طريف الكوفي الزاهد، وفيها توفي يحيى بن سعيد الأنصاري المدني الفقيه أحد الأعلام، ولي قضاء المنصور، ومات بالرصافة قبل أن يبني بغداد. قال ايوب السختياني: ما رأيت بالمدينة أفقه منه، وكان يحيى القطان يقدمه على الزهري، وقال الثوري: كان من الحفاظ.

سنة أربع وأربعين ومائة

وفيها توفي على الأصح ليث بن أبي سليم الكوفي أحد الفقهاء. قال الفضيل بن عياض: كان أعلم أهل زمانه في المناسك. سنة أربع وأربعين ومائة فيها حج بالناس المنصور، وأهمه شان محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم لتخلفهما عن الحضور عنده، فوضع عليها العيون وبذل الأموال وبالغ في طلبهما لأنه عرف مرامهما، وجرت أمور يطول شرحها، وقبض على أبيهما فسجنه، وجهز جيش العراق والجزيرة لغزو الديلم وعلى الناس محمد بن السفاح. وفيها توفي سعيد بن إياس محدث البصرة، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة في حبس المنصور. قال الواقدي: كان من العباد، وله شرف وهيبة ولسان شديد بالشين المعجمة على ما ضبط في الأصل المنقول منه. وفيها توفي عمرو بن عبيد المعتزلي المتكلم الزاهد المشهور ومولى بني عقيل، كان أبو يختلف إلى أصحاب الشرط بالبصرة، فكان الناس إذ رأوا عمراً مع أبيه قالوا: هذا خير الناس من شر الناس فيقول أبوه صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر. وإذا قيل لأبيه عبيد إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري ولعله أن يكون منه خير، فقال: وأي خير يكون من ابني وأمه؟ اصبتها من غلول وأنا أبوه، ثم صار عمرو شيخ المعتزلة في وقته. وسئل الحسن البصري عنه فقال للسائل: سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، ان قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه. ودخل يوماً على الخليفة أبي جعفر المنصور وكان صديقاً له قبل الخلافة، فقربه وقال عظني، فقال: ان هذا الأمر الذي في يدك لو بقي في يد أحد ممن كان قبلك لم يصل إليك، فاحذر من ليلة تمحض بيوم لا ليلة بعده، وغير ذلك من المواعظ فلما أراد النهوض قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم قال: لا حاجة لي فيها. قال: والله تأخذها. قال: والله لا آخذها، وكان المهدي حاضراً فقال يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا المهدي ولدي وولي عهدي. فقال: اما فقد ألبسته

لباساً ما هو لباس الأبرار وسميته باسم ما استحقه ومهدت له أمراً أمنع ما يكون به أشغل ما يكون عنه، ثم التفت إلى المهدي وقال: نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك اخشه، لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل من حاجة؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، فقال المنصور: اذن لا نلتقي. قال عمرو: هي حاجتي فاتبعه المنصور نظره، وقال: كلكم يمشي رويدا ... كلكم يطلب صيدا غير عمرو بن عبيد ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه: نزل بي الموت ولم أتأهب، ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضى لك، وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هوائي فاغفر لي، وتوفي وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران بفتح الميم وبعدها راء مشددة، وفيه دفن أيضاً تميم بن مر الذي ينسب إليه بنو تميم القبيلة المشهورة، ورثا المنصور عمراً المذكور بقوله: صلى الإله عليك من متوسد ... قبراً به قبرعلى مران قبراً تضمن مؤمناً متحنفاً ... صدق الإله ودان بالعرفان لو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أنقى لنا عمراً أبا عثمان قالوا ولم يسمع بخليفة رثى من هو دونه سواه، ولعمرو المذكور رسائل وخطبات، وكتاب التفسير عن الحسن البصري، وكتاب الرد على القدرية، قلت هكذا قال بعض المؤرخين، والذي حكى أصحابنا عنه في كتب الأصول: قول شنيع وكفر فظيع في نفيه المقدر، وهو ما روى الإمام الطبري أنه قال: ان كان تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ، فما على أبي لهب من لوم. وذكر الإمام الطرسوسي المالكي في كتابه، في الخلاف عنه، أنه لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان، المشتمل على قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين: " ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ". قال: لو سمعته من الأعمش لكذبته، ولو سمعته من أن مسعود لما صدقته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقلت: ما بهذا بعثت الرسل، ولو سمعته من الله عز وجل ما على هذا أخذت مواثيقنا، قال أئمتنا: وليس يزيد على كفره كفر.

سنة خمس وأربعين ومائة

وفيها توفي فقيه الكوفة أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي، روى عن أنس والتابعين، وكان عفيفاً عارفاً عاقلاً، يشبه النساك، شاعراً جواداً. وفيها توفي عقيل بضم العين المهملة مولى بني أمية، وكان حافظاً حجة، ومجالد بالجيم ابن سعيد الهمداني الكوفي صاحب الشعبي. سنة خمس وأربعين ومائة قالوا فيها ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن الحسني، وخرج في مائتين وخمسين نفساً بالمدينة، وهو راكب على حمار وذلك في أول رجب، فوثب على متولي المدينة فسجنه، وتتبع أصحابه، ثم خطب الناس، وبايعه بالخلافة أهل المدينة قاطبة طوعا وكرهاً، وأظهر أنه قد خرج غضباً لله عز وجل، وما تخلف عنه من الوجوه إلا نفر يسير، واستعمل على مكة عاملاً وعلى اليمن وعلى الشام، فلم يتمكن عماله وندب المنصور لحربه ابن عمه عيسى بن موسى، وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه، وإنما قال ذلك لأن عيسى المذكور كان ولي العهد بعد المنصور على ما عهد في ذلك السفاح. قيل: وكان المنصو يود هلاكه ليولي ولده المهدي مكانه، فسار عيسى في أربعة آلاف، وكتب إلى الاشراف يستميلهم ويمنيهنم، فتفرق عن محمد ناس كثير، وأشير عليه بالمسير إلى مصر ليتقوى منها، فأبى وتحصن في المدينة وعمق خندقها، فلما وصل عيسى تفرق عن محمد أصحابه حف بقي في طائفة قليلة، فراسله عيسى يدعوه إلى الإنابة ويبذل له الأمان فلم يسمع، ثم أنذر عيسى أهل المدينة ورغبهم ورهبهم أياماً، ثم زحف على المدينة فظهر عليها، ونادى محمداً وناشده الله ومحمد لا يرعوي. قال عثمان بن محمد بن خالد أني لأحسب محمداً قتل بيده يومئذ سبعين رجلاً وكان معه ثلاث مائة مقاتل، ثم قتل في المعركة، وبعث عيسى برأسه إلى المنصور. وفي السنة المذكورة خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، وكان قد سار إليها من الحجاز فدخلها سراً في عشرة أنفس، فجرت له أمور غريبة في اختفائه، ربما يقع به بعض الأعوان فيصطنعه، ثم دعى إلى نفسه سراً بالبصرة حتى تابعه نحو أربعة آلاف، وجاء خير أخيه وما جرى له بالمدينة فوجم واغتم. ولما بلغ المنصور خروجه تحول فنزل الكوفة حتى يأمن غايلة أهلها، وألزم الناس

لبس السواد، وجعل يقتل كل من اتهمه أو يحبسه، وكان بالكوفة ابن عامر يبايع لإبراهيم سراً وتهاون متولي البصرة في أمر إبراهيم حتى اتسع الخرق وخرج أول ليلة من رمضان، وتحصن منه متولي البصرة، وأقبل الخلق إلى إبراهيم ما بين ناصر وناظر، ونزل متوليها بالأمان، ووجد إبراهيم في الحواصل ست مائة ألف ففرقها بين أصحابه خمسين خمسين، وبعث عاملاً إلى الأهواز ليفتحها، وبعث آخر إلى فارس، وآخر إلى واسط، فجهز المنصور لحربه خمسة آلاف، ثم التقوا فكان بين الفريقين عدة وقعات، وقتل خلق من أهل البصرة وواسط، وبقي إبراهيم سائر رمضان يفرق العمال على البلدان ليخرج على المنصور من كل جهة، فأتاه مصرع أخيه بالمدينة قبل الفطر بثلاث، فعيد الناس وهم يرون فيه الانكسار، وكان المنصور في جمع يسير وعامة جيوشه في النواحي، فالتزم بعد ذلك أن لا يفارقه ثلاثون ألفاً، فلم يبرح إلى أن رد من المدينة عيسى بن موسى، فوجهه إلى إبراهيم، ومكث المنصور لا يقر له قرار، وجهز العساكر ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية هذا ومائة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك إلى أن هدم عزه وذهث وهو بالمثلثة، وكان مع ذلك صقراً أحوذياً مشمراً ذا عزم ودهاء. وعن داود بن جعفر قال: احصى ديوان إبراهيم بالبصرة فبلغوا مائة ألف، وقال غيره: بل قام معه عشرة آلاف، فلو هجم الكوفة لظفر بالمنصور، ولكنه كان فيه دين، قال: اخاف إن هجمتها أن يستباح الصغير والكبير، فقيل له: فخرجت على مثل المنصور، وتتوقى قتل الصغير والكبير، وكان أصحابه مع قلة رأيه يختلفون عليه، وكل يشير برأي، إلى أن التقى الجمعان على يومين من الكوفة، فاشتد الحرب وظهر أصحاب إبراهيم، وكان على مقدمة جيوش المنصور حميد بن قحطبة فانهزم، وجعل عيسى بن موسى يثبت الناس، وقد بقي في مائة من حاشية، فأشاروا عليه بالفرار، فقال: لا أزول حتى أظفر أو أقتل، وكان يضرب المثل بشجاعته، ثم دار أبناء سليمان بن علي في طائفة، وجاءوا من وراء إبراهيم، وحملوا على عسكره، قال عيسى لولا أبناء سليمان لافتضحنا، ومن صنع الله عز وجل أن أصحابنا انهزموا فاعترض لهم نهر ولم يجدوا مخاضة، فرجعوا، فوقعت الهزيمة على أصحاب إبرأهيم حتى بقي في سبعين، وأقبل حميد بن قحطبة فحمل بأصحابه واشتد القتال حتى تفانى خلق تحت السيف طول النهار، وجاء سهم غرب لا يدرى من رمى به في حلق إبراهيم، فأنزلوه وهو يقول وكان أمر الله قدراً مقدوراً أردنا أمراً وأراد الله غيره، واجتمع

اصحابه يحمونه، فأنكر حميد اجتماعهم، فحمل عليهم فتفرقوا عن إبراهيم، فنزل جماعة واحتزوا رأسه وبعث به إلى المنصور في الخامس والعشرين من ذي القعدة وعمره ثمان وأربعون سنة، وكان قد أذاه يومئذ الحرب وحرارة الزردية فحسروها عن صدره فأصيب في ليته، ووصل إلى المنصور خلق كثير منهزمين، وهيىء النجائب ليهرب إلى الري، وكان يتمثل. ونصبت نفسي للرماح درية ... إن الرئيس لمثل ذاك فعول قال: الأصمعي الدرية غير مهموز وهي دابة يستتر بها الصائد فإذا أمكنه الصيد رمى، وقال أبو زيد هو مهموز لأنها تدرأ نحو الصيد أي تدفع قال الأخطل: فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك فالرامي يصيب ولا يدرا أي لا يستتر ولا يختل يقال: اقصد السهم: اي أصاب فقتل، فلما أسرعوا إليه بالبشارة وبالرأس تمثل بقول البارقي: فألقت عصاها واستقرت لها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر قال خليفة: خرج مع إبراهيم هيثم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعباد بن العوام ويزيد بن هارون، وكان أبو حنيفة يجاهر في أمره ويأمر بالخروج معه، قال أبو نعيم: فلما وصل قتل إبراهيم، هرب أهل البصرة براً وبحراً واستخفى الناس. وفي السنة المذكورة أمر المنصور فأسست بغداد وابتدأ بإنشائها ورسم هيئتها وكيفيتها أولاً بالرماد، وفرغت في أربعة أعوام بالجانب الغربي، قيل وبغداد في وقتنا اكثرها من الجانب الشرقي. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ست توفي إسماعيل بن أبي خالد البجلي مولاهم الكوفي الحافظ، احد أعلام الحديث، وكان صالحاً ثبتاً حجة. وفيها توفي عمرو بن ميمون بن مهران الجزري الفقيه، وكان يقول: لو علمت أنه بقي علي حرف من السنة باليمن لأتيتها. وفيها توفي عبد الملك بن أبي سليمان الكوفي الحافظ أحد المحدثين الكبار، كان شعبة مع جلالته يتعجب من حفظ عبد الملك.

سنة ست وأربعين ومائة

وفيها توفي محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، كان حسن الحديث كثير العلم مشهوراً، اخرج له البخاري، وفيها توفي أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي الكوفي، وكان ثقة إماماً صاحب سنة. سنة ست وأربعين ومائة في صفر منها تحول المنصورإلى بغداد قبل تمام بنائها، وكان لا يدخلها أحد راكباً، حتى إن عمه عيسى اشتكى إليه المشي فلم يأذن له. وفيها توفي الأشعث بن عبد الملك الحمراني مولى الحمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ثقة ثبتاً حاقظاً. وفيها توفي محمد بن السائب الكلبي، الكوفي صاحب التفسير والأخبار والأنساب، قال: انما سميت العرب شعوباً لأنهم قيل لهم ذلك حين تفرقوا من ولد إسماعيل صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن ولد قحطان وتشعبوا، وقال: العرب كلهم بنو إسماعيل إلا اربع قبائل السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف، وأول من تكلم العربية يعرب بن الهميسع ابن بنت ابن إسماعيل، قال: وكل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير ادريس ونوح ولوط وهود وصالح، قلت وكأنه لم يستثن آدم صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم لشهرة كونه أباً للكل، وقال: لم يكن في العرب في الأنبياء إلا هود وصالح وإسماعيل ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وروي عن ابن عباس أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلاً، نزلوا فمكثوا حتى كثروا، وملكهم نمرود بن كنعان بن حازم بن نوح، فلما كفروا ابدل الله ألسنتهم وتفرقوا على الاثنين وسبعين لساناً، وفهم الله العربية عمليق واميم وطسم بني لاوذ بن سام، وعاد وعبيل بن عوص بن آرم بن سام، وثمود وجديش ابني جابر بن أرم بن سام، وبني قنطور بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم، قلت وقع في كلام الكلبي تناقض، فإنه ذكر أن اللغة العربية فمها الله تعالى عمليقاً، وذكر من بعده من ذرية نوح، بعدما ذكر أن أول من تكلم بالعربية يعرب من ذرية إسماعيل، وهذا أيضاً مخالف لما جاء إن إسماعيل عليه السلام تعلم العربية من جرهم لما نشأ بينهم. والكلبي المذكور فيه مطاعن من جهة المذهب وغيره. وقد قيل إنه لما نزل نوح صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن معه من السفينة،

سنة سبع وأربعين ومائة

وكانوا ثمانين، خلق الله تعالى في قلوبهم لغات مختلفة فأصبح كل واحد منهم يتكلم بلغة، والله تعالى أعلم. وفيها توفي هشام بن عروة بن الزبير الفقيه أبو المنذر أحد أثمة الحديث، ادرك عمه عبد الله بن الزبير، وقال: مسح ابن عمر برأسي ودعا لي، قال وهيب: قدم علينا هشام بن عروة وكان مثل الحسن، وابن سيرين وكان من المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين، ورأى جابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وسهل بن سعد، وقيل إنه سمع من عمه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، روى عنه جماعة من جلة المحدثين منهم يحيى بن سعيد القطان ووكيع، وقدم الكوفة في أيام أبي جعفر المنصور فسمع منه الكوفيون، وقيل ولد عمر بن عبد العزيز وهشام بن عروة والزهري وقتادة والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة، وقدم هشام بغداد على المنصور، وتوفي بها، فصلى عليه المنصور، ودفن بمقبرة الخيزران، رحمه الله تعالى. سنة سبع وأربعين ومائة فيها ألح المنصور وأكثر وتحيل بكل ممكن على ولي العهد عيسى بن موسى بالرغبة والرهبة حتى خلع نفسه كرهاً، وقيل بل عوضه عشرة آلاف درهم على أن يكون ولي العهد بعده المهدي بن منصور. وفيها توفي رؤبة بن العجاج البصري التميمي السعدي، هو وأبوه راجزان مشهوران، كل منهما له ديوان رجز ليس فيه شعر. قلت هكذا قال بعضهم مع أن الصحيح أن الرجز شعر وهو مذهب سيبويه والصحيح عند المحققين خلافاً للأخفش وتابعيه، وهما مجيدان في رجزهما، وكان رؤبة بصيراً باللغة عارفاً بوحشيها وعريبها. حكى يونس بن حبيب النحوي، قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه شبيل بن عزرة الضبعي، فقام إليه أبو عمرو وألقى إليه لبد بغلته فجلس عليه، ثم أقبل عليه يحدثه، فقال: يا أبا عمر، وسألت رؤبتكم عن اشتقاق اسمه فأعرفه يعني رؤبة. قال يونس: فلم أملك نفس عند ذكره فقلت له لعلك تظن أن معد بن عدنان أفصح منه ومن أبيه؟ افتعرف ما الرؤبة والرؤبة والرؤية والرؤبة والرؤبة غلام رؤبة؟ فلم يخرج جواباً، فقام مغضباً وأقبل على أبي عمرو، وقال: هذا رجل شريف يزور مجالسنا ويقضي حقوقنا، وقد أسأت فما فعلت

سنة ثمان وأربعين ومائة

مما واجهته به، فقلت: لم املك نفسي عند ذكر رؤبة، فقال: او قد سلطت على تقويم الناس ثم فسر يونس ما قاله فقال الرؤبة خميرة اللبن والرؤبة قطعة من الليل والرؤبة الحاجة، يقال فلان لا يقوم برؤبة أهله أي بما أسند إليه من خوائجهم، والرؤبة حمام ماء الفحل، والرؤبة بالهمز القطعة التي يشعث بها الإناء والجميع بسكون الواو وضم الراء التي قبلها إلا رؤبة فإنه بالهمز، وكان رؤبة مقيماً بالبصرة. فلما ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وخرج على أبي جعفر المنصور، وجرت الواقعة المشهورة، خاف رؤبة على نفسه فخرج إلى البادية ليجتنب الفتنة، فلما وصل إلى الناحية التي قصدها أدركه أجله بها، فتوفى هناك وكان قد اسن، ورؤبة بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الموحدة في آخرها هاء وهي في الأصل قطعة من الخشب يشعث بها الإناء وجمعها رياب وباسمها سمي الراجز المذكور. وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، كان فقيهاً عالماً، وفيها انهزم الجيش على الأمير عبد الله ابن عم المنصور الذي هزم مروان وافتتح دمشق، وكان من رجال الدهر رأياً ودهاء وشجاعة وحزماً. وفيها توفي الإمام أبو عثمان عبيد الله بن عمربن حفمص بن عاصم بن عمربن الخطاب، وكان أفضل إخوته وأكثرهم علماً وصلاحاً وعبادة، وروى عن القاسم وسالم ونافع. وفيها توفي هشام بن حسان الأزدي الحافظ محدث البصرة. سنة ثمان وأربعين ومائة فيها توفي الإمام السيد الجليل سلالة النبوة ومعدن الفتوة أبوعبد الله جعفر الصادق ابن أبي جعفر محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين الهاشمي العلوي، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهو علوي الأب بكري الأم، ولد سنة ثمانين في المدينة الشريفة، وفيها توفي ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده زين العابدين وعم جده الحسن بن علي رضوان الله عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام أولي المناقب، وإنما لقب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد ألف تلميذه جابر بن حيان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائله وهي خمس مائة رسالة. وذكر بعض المؤرخين أنه سأل أبا حنيفة فقال: ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟ فقال يا ابن رسول الله ما أعلم ما فيه فقال له: انت ابتداء ولا تعلم أن الظبي لا يكون له

رباعية وهو ثني أبداً، يعني من الدهاء في قوة الفهم وجوعة النظر، وجعفر المذكور معدود عند الإمامية الاثني عشرية من أئمتهم الاثني عشر، وكل واحد منهم مذكور في موضعه. وفيها توفي الإمام محدث الكوفة وعالمها أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم الأعمش. روي عن ابن ابي أوفى وأبي وائل والكبار، قال يحيى القطان: هو علامة الإسلام، وقال وكيع: بقي الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وقال غيره: الأعمش الكوفي الإمام المشهور كان ثقة عالماً فاضلاً، وقال السمعاني كان يقارب بالزهري في الحجاز، ورأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكلمه لكنه لم يسمع عليه وما يرويه عنه فهو ارسال أخذه عن أصحابه ولقي كبار التابعين. وروى عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وحفص بن غياث وخلق كثير من جلة العلماء، وكان لطيف الخلق مزاحاً، جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه فخرج إليهم وقال لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم. وجرى بينه وبين زوجته كلام يوماً فدعا رجلاً ليصلح بينهما، فقال لها الرجل: لا تنظرين إلى عموشة عينيه وخموشة ساقيه فإنه إمام وله قدر، فقال له ما أردت إلا أن تعرفها عيوبي، وقال له داود بن عمر الحايك ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال تقبل مع عدلين، وعاده جماعة في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام وقال: شفى الله مريضكم بالعافية. وقيل عنده يوماً: قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه " فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني. وقال أبو معاوية الضرير بعث إليه هشام بن عبد الملك أن أكتب إلي مناقب عثمان ومساوىء علي، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة فلاكته، وقال للرسول: قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: انه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمل عليه باخوانه، وقالوا له: يا أبا محمد نجه من القتل، فلما ألحوا عليه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي مساوىء أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك والسلام، وقيل إنه ولد يوم قتل الحسن رضي الله عنه يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، رحمة الله عليه

وفيها توفي شبل بن عباد قارىء أهل مكة وتلميذ ابن كثير، وفيها توفي أبو حاتم الرازي، احفظ الناس في زمانه. وفيها توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصارية الفقيه قال أحمد بن أبي يونس: كان أفقه أهل الدنيا، تولى القضاء بالكوفة، وأقام حاكماً ثلاثاً وثلاثين سنة، ولي لبني أمية ثم لبني العباس، وكان فقيهاً مفتياً، تفقه بالشعبي وأخذ عنه الثوري، وقال دخلت على عطاء فجعل يسالذي فأنكر بعض من عنده وكلمه في ذلك، فقال: هو أعلم مني، وفيها توفي محمد بن عجلان المدني، وكان عابداً ناسكاً صادقاً له حلقة بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفتوى. ؟ سنة تسع وأربعين ومائة فيها توفي المثنى بن الصباح اليماني بمكة، يروي عن مجاهد وعمرو بن شعيب وطائقة، وكان من أعبد الناس. وفيها توفي كهمس بن الحسين البصري يروي عن أبي الطفيل وجماعة. وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة، وفيها توفي أبو عمر عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، قيل كان مولى خالد بن الوليد ونزل في ثقيف، فنسب إليهم وكان صاحب تقعير في كلامه استعمال للغريب فيه وفي قراءته، وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة، ولهما مسائل ومجالس، وأخذ سيبويه عنه النحو، وله الكتاب الذي سماه الجامع في النحو، ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه وهو كتاب سيبويه المشهور. والذي يدل على صحة هذا القول: ان سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى فقال صنف نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو، وأن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت، ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين، احدهما اسمه الإكمال وهو بأرض فارس عند فلان، والآخر الجامع وهو هذا الكتاب الذي استعمل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة، ثم رفع رأسه. وقال رحم الله عيسى وأنشد: ذهب النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر أشار بالإكمال إلى الغائب، وبالجامع إلى الحاضر الكتابين المذكورين، وكان الخليل قد أخذ عنه أيضاً، ويقال إن أبا الأسود الديلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط، وإن عيسى بن عمر وضع كتاباً على الأكثر، وبوبه وهذبه وسمي ما شذ على الأكثر لغات، وكان يطعن على العرب، ويخطىء المشاهير منهم مثل النابغة في بعفر أشعاره وغيره، روى الأصمعي قال: قال عيسى بن عمر لأبي عمرو بن العلاء: انا أفصح من معد بن عدنان، فقال له أبو عمر: ولقد تعديت فكيف تنشد هذا البيت: قد كن يخبئن الوجوه تسترا ... فاليوم حين بدأن للنظار أو بدين للنظار فقال عيسى بدأن، فقال له أبو عمرو: اخطأت يقال بدأ يبدوا إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا أسرع في المشي. ومن جملة تقعيره في الكلام: ما حكاه الجوهري في الصحاح، انه سقط عن حمار له فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة أفرنقعوا عني معناه ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على مجنون انكشفوا عني ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراقين كان قد ضربه بالسياط وهو يقول وقد أخذه الجزع: والله إن كانت إلا اثباتاً في اسقاط فنصبها عشاروك وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمر أمير العراقين. وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبد الله القسري تتبع أصحابه، وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى المذكور وديعة، فتنهى الخبر إلى يوسف فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا حداداً أو أمر بتقييده، فلما قيده قال له الوالي لا بأس عليك إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال فما بال القيد اذن؟ فبقيت هذه الكلمة مثلاً بالبصرة. قلت يعني مثلاً لمن توهم أنه يراد به خير ويفعل به ما يدل على الشر كالقيد المذكور، ووصل إلى يوسف فسأله عن الوديعة فأنكر، فأمر به فضرب، فقيلت المقالة المذكورة. ؟ سنة خمسين ومائة فيها توفي أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالزاي الخراساني، كان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز، وله التفسير المشهور، اخذ الحديث عن مجاهد بن جبر

وعطاء بن أبي رباح وأبي إسحاق السبيعي والضحاك بن مزاحم ومحمد بن مسلم الزهري وغيرهم، وروى عنه بقية وعبد الرزاق الصنعاني وحرمي بن عصارة وعلي بن الجعد، وكان من العلماء الأجلاء. حكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام. وروي أن أبا جعفر كان جالساً فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد إليه فألح عليه وجعل يقع على وجهه وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له مقاتل بن سليمان، فقال علي به، فأذن له فلما دخل عليه، قال هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم ليذل الله عز وجل به الجبابرة فسكت المنصور. وقال مرة مقاتل سلوني عن ما دون العرش، فقيل له من حلق رأس آدم عندما حج، فقال ليس هذا من علمكم، ولكن الله تعالى أراد أن يبتليني لما أعجبتني نفسي. وقال له آخر الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها؟ فبقي لا يدري ما يقول له. قال الراوي: فظننت أنها عقوبة عوقب بها. وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، وطعن فيه خلق كثير من الأئمة، ونسبوه إلى الكذب. وفيها توفي فقيه العراق الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة، ومولده سنة ثمانين، رأى أنساً، وروى عن عطاء بن أبي رباح وطبقته، وتفقه على حماد بن أبي سليمان، وكان من الأذكياء جامعاً بين الفقه والعبادة والورع والسخاء، وكان لا يقبل جوائز الولاة، بل ينفق ويؤثر من كسبه، له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع الخز. قال الثمافعي: كل الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة، رضي الله عنه. وعن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعاً. وقيل إن المنصور سقاه سما فمات شهيداً رحمه الله، سمه لقيامه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان قد أدرك أربعة من الصحابة، هم أنس بن مالك بالبصرة وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكه رضي الله عنهم.

قال بعض أصحاب التواريخ: ولم يلق أحداً منهم ولا اخذ عنه، واصحابه يقولون لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، قال: ولم يثبت ذلك عند النقاد. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد: انه رأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما تقدم، وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمرو وهشام بن عروة وسماك بن حرب، روى عنه عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم، وكان عالماً عاملاً زاهداً ورعاً تقياً كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى. ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد على أن يوليه القضاء فأبى، فحلف لتفعلن وحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل، فقال الربيع بن يونس الحاجب: الا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فقال أبو حنيفة أمير المؤمنين على كفارة أيمانه قد رمني على كفارة أيماني، وأبى أن يبلى فأمر به إلى الحبس في الوقت، والعوام يدعون أنه تولى أياماً ولم يصح هذا من جهة النقل. وقال الربيع رأيت المنصور يكلم أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول اتق الله ولا تدع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضى، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم علي ثم تهددتني أن تغرقني في الفرات أو إلى الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم، ولا أصلح لذلك، فقال له: كذبت أنت تصلح، فقال قد حكمت لي على نفسك، فكيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب؟. قال الخطيب أيضاً في بعضى الروايات: ان المنصور لما بنى مدينة ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي وبنى مسجد الرصافة، ارسل إلى أبي حنيفة فجيء به، فعرض عليه قضاء الرصافة فأبى، فقال له: ان لم تفعل ضربتك بالسياط. قال: او تفعل؟ نعم، فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد، فلما كان في اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن تور صفر. فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، فقال ليس علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال: استحلفه لي فقال أبو حنيفة: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة مقداماً على اليمين قطع عليه وأخرج من صرة في كمه درهمين ثقيلتين، وقال للصفار خذ هذا عوض ما لك عليه، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أرده للقضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه، وضربه مائة سوط وعشرة سواط، كل يوم عشرة أسواط. وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله، وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد إن ضرب الإمام أحمد على ترك القول بخلق القرآن، يعني البكاء والترحم. وذكر الخطيب في تاريخه أيضاً أن أبا حنيفة رضي الله عنه رأى في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فبعث من سأل محمد بن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته وروى حرملة ين يحيى عن الشافعي، قال: الناس عيال على هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ين سليمان، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على بن محمد بن إسحاق. وفيها توفي وقيل في التي قبلها وقل في التي بعدها أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح القرشي مولاهم المكي، كان أحد العلماء المشهورين، ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام، قال رحمه الله: كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج، فلم يخطر لي نية، فخطر ببالي قول عمرو بن ربيعة: اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن تور صفر. فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، فقال ليس علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال: استحلفه لي فقال أبو حنيفة: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة مقداماً على اليمين قطع عليه وأخرج من صرة في كمه درهمين ثقيلتين، وقال

سنة إحدى وخمسين ومائة

للصفار خذ هذا عوض ما لك عليه، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أرده للقضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه، وضربه مائة سوط وعشرة سواط، كل يوم عشرة أسواط. وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله، وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد إن ضرب الإمام أحمد على ترك القول بخلق القرآن، يعني البكاء والترحم. وذكر الخطيب في تاريخه أيضاً أن أبا حنيفة رضي الله عنه رأى في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فبعث من سأل محمد بن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته وروى حرملة ين يحيى عن الشافعي، قال: الناس عيال على هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ين سليمان، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على بن محمد بن إسحاق. وفيها توفي وقيل في التي قبلها وقل في التي بعدها أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح القرشي مولاهم المكي، كان أحد العلماء المشهورين، ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام، قال رحمه الله: كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج، فلم يخطر لي نية، فخطر ببالي قول عمرو بن ربيعة: بالله قولي له من غيرمعتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت حاولت ذنباً أونعمت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن قال فدخلت على معن فأخبرته أتي قد عزمت على الحج، فقال لي: ما يدعوك إليه؟ ولم تكن تذكره، فقلت: وذكرت بيتين لعمرو بن أبي ربيعة، وأنشدته إياهما فجهزني وانطلقت. سنة إحدى وخمسين ومائة فيها توفي شيخ البصرة وعالمها الإمام عبد الله بن عون، والإمام محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة، وكان بحراً من بحور الحلم ذكياً حافظاً طلابة للعلم اخبارياً نسابة ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلا يجهل إمامته.

قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق وذكره البخاري في تاريخه. وروي عن الشافعي أنه قال: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. وقال سفيان بن عيينة ما أدركت أحداً يتهم ابن إسحاق في حديثه. وقال شعبة بن الحجاج محمد بن إسحاق أمير المؤمنين يعني في الحديث. وحكي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن إسحاق واحتجوا بحديثه، وإنما لم يخرج البخاري عنه وقد وثقه وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الزجر من أجل طعن مالك بن أنس فيه وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال هاتوا حديث مالك فأنا طبيب لعلله. وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى، ودفن في مقبره الخيزران بالجانب الشرقي، وهي منسوبة إلى الخيزران أم هارون الرشيد وأخيه الهادي، وإنما نسبت إليها لأنها مدفونة فيها، وهي أقدم المقابر التي في الجانب الشرقي، ومن كتب ابن إسحاق المذكورأخذ عبد الملك بن هشام سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كل من تكلم في هذا الباب فعليه اعتماده وإليه استناده. وفيها قتلت الخوارج غيلة الأمير معن بن زائدةالشيباني أمير سجستان أحد الأبطال والأجوا د. ومن أخباره ما حكى عنه مروان بن أبي حفصة قال: اخبرني معن بن زائدة وهو يومئذ متولي بلاد اليمن أن المنصورجد في طلبه وجعل لمن يحمله إليه مالاً قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخفعت أوقال وخففت عارضي، ولبست جبة صوف وركبت جملاً متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، فلما خرجت من باب حرب، وهو أحد أبواب بغدادتبعني أسود متقلداً بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت ما لك؟ فقال: أنت طلبة - أميرالمؤمنين، فقلت ومن أنا حتى أطلب؟ قال: انت معن بن زائدة، فقلت: يا هذا اتق الله عز

وجل أين أنا من معن، فقال: دع هذا فو الله اني لأعرف منك بك، قال: فلمارأيت منه الجد قلت له: هذا عقد جواهرقد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يأتيه بي فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك، فقلت قل قال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط؟ قلت: لا قال: فنصفه؟ قلت لا. قال: فثلثه؟ قلت: لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت أظن أني قد فعلت هذا، فقال ما ذاك بعظيم أنا والله رجل ورزقي من المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثوربين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحتقر بعد ذلك كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري وترك خطام البعير وولى منصرفاً، فقلت له: يا هذا قد والله نصحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فأني عنه غني، فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالتي هذه فو الله لا آخذ به ولا آخذ بمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله. قال: فوالله لقد طلبت بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته، وإنما كان معن خائفاً من المنصور لأنه كان في أيام بني أمية منتقلاً في ولايتهم موالياً لابن هبيرة، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس قاتل معن مع ابن هبيرة المنصور، فلما قتل ابن هبيرة خاف معن من المنصور فاستتر عنه، قال الراوي ولم يزل معن مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور، ووثبوا عليه وجرت مقتلة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية التي بناها السفاح بالقرب من الكوفة، وقد تقدم ذلك في سنة احدى وأربعين وكان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكراً معتماً ملثماً، وتقدم إلى القوم وقاتل قتالأ بان فيه عن نجدة وشهامة، وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور قال له من أنت ويحك فكشف لثامه وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فأمنه المنصور وأكرمه وحباه وكساه وزينه، أو قال: ورتبه وصار من خواصه. ثم دخل بعد ذلك عليه في بعض الأيام، فلما نظر إليه قال: هيه يا معن تعطي مروان ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله: معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان فقلت: كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة: مازلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن

فمنعت حوزته وكنت وقايةً ... من وقع كل مناهل وسنان فقال أحسنت يا معن، وقال له يوماً يا معن ما أكثر وقوع الناس في قومك؟ فقال أمير المؤمنين: إن العراقين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا ودخل عليه يوماً قد اسن، فقال له: لقد كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أميرالمؤمنين. فقال: انك المجلد. فقال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. فقال: وفيك تقية. فقال: هي لك يا أمير المؤمنين. وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة، فقال: ويح هذا ما ترك لربه شيئاً. وحكى الأصمعي قال وفد اعرابي على معن بن زائدة فمدحه وطال مقامه على بابه ولم تحصل له جائزة، فعزم على الرحيل، فخرج معن راكباً إليه فقام وأمسك عنان دابته فقال: وما في يديك الخيريا معن كله ... وفي الناس معروف وعنك مذاهب ستدرين بنات العم ما قد أتيته ... إذا فتشت عند الإياب الحقائب فأمر معن باحضار خمس نوق من كرام ابله وأوقرهن له ميرة وبراً وثياباً، وقال انصرف يا ابن أخي في حفظ الله إلى بنات عمك فلئن فتشن الحقائب لتجدن فيها ما يسترهن، فقال: صدقت وبيت الله. ومما يحكى عن معن بن زائدة أنه كان ذات يوم من الأيام جالساً على سرير مملكته، وحوله الوزراء والأمراء والحرفاء والكتاب والمذاكرون في النوادر والغرائب، إذ أقبل أعرابي يتخطى الصفوف صفاًصفاً حتى وقف بين يديه، وقال: أتعرف إذ قميصك جلد كبش ... وإذ نعلاك من جلد البعير قال نعم اعرف ذلك. قال: فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير قال ذاك بحمد الله لا بحمدك قال: فلست مسلماً لوعشت دهراً ... على معن بتسليم الأمير قال إذن والله لا أبالي بك قال: ولا آتي بلاداً أنت فيها ... ولو جار الزمان على الفقير

قال أفتعلم لك موضعاً تختفي فيه؟ قال: فمرلي يا بن زائدة بمال ... وزاد إذ عزمت على المسير قال يا غلام أعطه ألف درهم قال: قليل ما أمرت به وأني ... لأطمع منك بالشيء الكثير قال: يا غلام زيادة ألف درهم. كأنك إذ ملكت الملك زرنا ... بلا عقل ولا جاه خطير قال يا غلام زيادة ألف درهم قال: ملكت الجود والأفضال جميعاً ... فبذل يديك كالبحر الغزير قال ضاعف له الحسنات، فضاعف له الحسنات بستة آلاف، ولمعن تروى أشعار جيدة، فمن ذلك قوله في خطاب ابن أخي عبد الجبار وقد رآه يتبختر بين السماطين بعدما لقي الخوارج وفر منهم: هلا مشيت كذا غداة لقيتهم ... وصبرت عند الموت يا خطاب نجاك خوار العنان كأنه ... تحت العجاج إذ كان تحت عقاب وتركت صحبك والرماح تنوشهم ... وكذاك من قعدت به الأحساب ومما روى الخطيب في تاريخه عن أبي عثمان المازني النحوي قال: حدثني صاحب شرطة معن قال: بينما أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع، فقال معن ما أحسب الرجل يريد غيري، ثم قال لحاجبه لا تحجبه، قال فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد. أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إن كثروا ألح دهر ألقى بكلكلة ... فأرسلوني إليك وانتظروا فقال معن وأخذته أريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك. ثم قال: يا غلام الناقة الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه، قلت وهذا كله مما يدل على عظم جود معن وشجاعته. ومما يدل على حلمه وشماحته: ما حكي أنه لما طلب أبو جعفر المنصور الإمام سفيان الثوري لينتقم منه بزعمه لما كان سفيان ينكر عليه ويغلظ له القول، سافر إلى أرض اليمن متغيباً عن شره، فلم يزل ينتقل في اليمن من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، وكان يقرأ عليهم حديث الضيافة ليضيفوه ويسلم من سوء الهم، فلما أوى بعض القرى ذات ليلة

سرق فيها لبعض الناس شيء، فاتهموا سفيان لكونه غريباً عندهم، وأتوا به إلى معن بن زائدة وقالوا له: اصلح الله الأمير، هذا سرق متاعنا وأنكر، فقال له معن: ما تقول؟ قال ما أخذت لهم شيئاً. فقال لمن حوله: فقوموا فلي معه كلام، فلما بعدوا عنه قال ما اسمك؟ قال: أنا عبد الله، قال ابن من؟ قال: ابن عبد الله، قال: قد علمت أن الناس كلهم عبد الله وأبناء عبيد الله، قال ما اسمك الذي سمتك به أمك؟ قال سفيان، قال: ابن من؟ قال ابن سعيد، قال الثوري قال: أبغية أمير المؤمنين؟ قال: فنكت بعود بيده في الأرض ساعة، ثم رفع رأسه لي وقال: اذهب حيث شئت فلو كنت تحت قدمي هذه ما حركتك هذا معنى ما حكي في ذلك إن لم يكن لفظه بعينه، والله تعالى أعلم. وأخبار معن ومحاسنه كثيرة، وكان قد ولي سجستان في آخر أمره، وله آثار وقصده الشعراء بها، فلما كان سنة إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقيل ثمان وخمسين ومائة بينما هو في داره والصناع يعملون له شغلاً، اندس بينهم قوم من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم، ثم تبعهم ابن أخيه يزيد بن مرثد بن زائدة فقتلهم بأسرهم. ولما قتل معن رثاه الشعراء بأحسن المراثي، فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة: مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا كأن الشمسس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالا هوالجيل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا فعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروى بها الأسل النهالا وأظلمت العراق وأوترتنا ... مصيبه المخللة اختلالا وظل الشام يرجف جانباه ... ويركن العز حين وهي فمالا وكانت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا فإن تعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياء أكرمهم فعالا وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا إلى آخر ما قاله من قصيدة فيه طويلة من أولها هذه العشرة الأبيات. وقال عبد الله بن المعتز في كتاب طبقات الشعراء: ادخل مروان بن أبي حفصة على جعفر البرمكي، فقال له: ويحك أنشدتي مرثيتك في معن بن زائدة. فقال: بل أنشدك

مدحي فيك، فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن، فانشأ يقول القصيدة المشهورة الى أن قال: وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيال واستمر حتى فرغ منها، وجعفر يرسل دموعه على خده، فلما فرغ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً؟ قال: لا. قال: فلو كان معن حياً، ثم سمعها كم كان يثيبك عليها؟ قال: أصلح الله الوزير ربع مائة دينار. قال جعفر: فإنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك، قد أمرنا لك عن معن رحمه الله الضعف بما ظننت، وزدناك مثل ذلك، فاقبض من الحارث ألفاً وست مائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك، فقال مروان يذكر جعفراً وما سمع به عن معن: نفخت مكافياًعن قبرمعن ... لنامما تجود به سجالا فعجلت العطية يا بن يحيى ... لراثيه ولم ترد المطال فكأني عن صداء معن جواد ... بأجود راحة بذل النوال بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن تنال كأن البرمكي بكل مال ... يجود به نداه يفيد مال ثم قبض المال وانصرف. وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن محمد البيذق النديم: أنه دخل على هارون الرشيد قال له: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة، فأنشده بعضها فبكى الرشيد. ويقال إن مروان بعد هذه المرثية لم ينتفع بشعره، فإنه كان إذا مدح خليفة أو من دونه قال له أنت قلت مرثيتك: وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا فلا يعطيه الممدوح شيئاً ولا يسمع ما يقوله فيه من المدح. وحكى الفضل بن الربيع قال: رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء، فأنشده مديحاً، فقال له: من أنت؟ فقال شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال: ألست القائل: فقلنا أين نرحل بعد معن البيت المذكور؟ وقد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال لا شيء عندنا جروه برجله. قال فجروه برجله حتى آخرجوه.

سنة اثنتين وخمسين ومائة

فلما كان من العام المقبل، تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء كل عام مرة، فمثل بين يديه وأنشد قصيدته التي أولها: طرقتك زائرة فجاء خيالها فأنصت لها المهدي، ولم يزل يرجف كلما سمع شيئاً منها حتى زال عن البساط اعجاباً بما سمع، ثم قال له: كم بيتاً هي فقال: مائة ألف، فأمر له بمائة ألف درهم. ويقال إنها أول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس. قال الفضل بن الربيع: فلم يلبث من الأيام إلى أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، فأنشده شعراً، فقال له: من أنت؟ فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال: ألست القائل كذا؟ وأنشده البيت، ثم قال خذوه بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا، ثم تلطف حتى دخل بعد ذلك، فأنشده وأحسن جائزته. ومن المراثي النادرة أيضاً أبيات الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي في معن بن زائدة أيضاً وهي من أبيات الحماسة: ألما على معن وقولاً لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا فيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا مع أبيات أخرى. وقال الصاحب بن عباد: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لوعلمت أن الله سبحانه خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه. قال بعض المؤرخين: ولولا خوف الإطالة لا تبت من محاسنه بكل نادرة بديعة. سنة اثنتين وخمسين ومائة فيها توفي عباد بن منصور. روى عن عكرمة وجماعة، وفيها توفي يونس بن يزيد صاحب الزهري، روى عن القاسم وسالم وجماعة. وفيها توفي واصل بن عبد الرحمن البصري، روى عن الحسن وطبقته. سنة ثلاث وخمسين ومائة فيها غلبت الخوارج الإباضية على إفريقية، وهزموا عسكرها، وقتلوا متوليها عمر بن

سنة أربع وخمسين ومائة

حفص الأزدي، وكانت الإباضية في مائة وعشرين ألف فارس وأمم لا يحصون من رجالة. وفي السنة المذكورة ألزم المنصور الناس لبس القلانس المفرطة الطول، وكانت تعمل من كاغذ ونحوه على قصب، ويعمل عليها السواد. وفيها توفي أبو خالد ثور بن يزيد الكلاعي الحافظ محدث حمص. قال يحيى القطان: ما رأيت شامياً أوثق منه، قال أحمد: كان يرى القدر ولذلك نفاه أهل حمص. وفي رمضان منها توفي معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري الحافظ قال أحمد ليس يضم معمر إلى أحد إلا وجدته فوقه، وقاك غيره كان صالحاً خيراً، وهو أول من ارتحل في طلب الحديث إلى اليمن، فلقي بها همام بن منبه اليمني، فسمع منه ومن الزهري وهشام بن عروة، وارتحل إليه الثوري وابن عيينة وابن المبارك وغندر وهشام بن يوسف قاضي صنعاء، وأخذ عنه عبد الرزاق فقيه اليمن ومحدث صنعاء، وله الجامع المشهور والمنسوب إليه في السنن، وهو أقدم من الموطأ. وفيها توفي هشام بن عبد الله الدستوائي البصري الحافظ، قال أبو داود الطيالسي كان أمير المؤمنين في الحديث، وقال غيره بكى هشام حتى فسدت عينه. وفيها توفي وهيب بن الورد المكي الولي الكبير السيد الشهير صاحب المواعظ والرقائق والمعارف والحقائق: قلت وكان يحكى عنه في الورع أمر عظيم، وكان لا يأكل مما في الحجاز شيئاً، فسأل عن سبب ذلك فقال: فيه المصافي. يعني أن ولاة الأمر اصطفوا منه مواضع لا تفهم ولمن شاء من حاشيتهم فقيل له: ومن الشام ومصر أيضاً كذلك؟ فوجم من ذلك حتى غشي عليه، فلما أفاق قال الفضيل لو درينا أنه يبلغ بك هذا المبلغ ما حركناك، أو كما قيل رضي الله تعالى عنهم أجمعين. سنة أربع وخمسين ومائة فيها أهم المنصور أمر الخوارج واستيلاؤهم على بلاد المغرب، فسار إلى الشام وزار القدس، وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألف فارس وعقد له على المغرب فقيل إنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم. وفيها توفي وزير المنصور سليمان بن مخلد، وقيل ابن داود المورياني، كان وزير

أبي جعفر المذكور، تولى وزارته بعد خالد بن برمك جد البرامكة، وتمكن منه تمكناً بالغاً، وسبب ذلك أنه كان في ابتداء أمره يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلب الأزدي وكان المنصور قبل الخلافة ينوب عن سليمان المذكور في بعض كور فارس، فاتهمه أنه أخذ المال لنفسه، فضربه بالسياط ضرباً شديداً، وغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه، وكان سيمان قد عزم على قتله عقب ضربه، فخلصه منه كاتبه أبو أيوب المذكور، فاعتدها المنصور له واستوزره، ثم إنه فسدت نيته فيه ونسبه إلى أخذ الأموال، وهم أن يوقع به، فتطاول ذلك فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به، ثم يخرج سالماً، فقيل إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحراً وكان يدهن به حاجبيه إذا دخل على المنصور فصار في العامة دهن أبي أيوب وصار مثلاً. ومن ملح أمثاله ما ذكر خالد بن يزيد بن الأرقط قال: بينا أبو أيوب المذكور جالس في أمره ونهيه، اتاه رسول منصور فتغير لونه، فلما رجع تعجبنا من حالته، فضرب مثلا لذلك، وقال: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض حيوان أقل وفاء منك. قال وكيف ذلك؟ قال أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم، وأطعموك في أكفهم، ونشأت بينهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وصدت، وأخذت أنا مسيباً من الجبال فعلموني وألقوني ثم تخلى عني فأخذ صيداً في الهواء وأجيء به إلى صاحبي. فقال له الديك: انكم لو رأيتم من البزاة في سفافيد هم المعدة للشيء مثل الذي رأيت من الديوك لكنتم أنفر مني، يعني أيها البزاة ولكنكم أنتم لو علمتم أعلم لم يتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي ثم إنه وقع به في سنة ثلاث وخمسين ومائة وعذبه وأخذ أمواله. ثم مات في السنة التي تليها والمورياني بضم الميم وسكون الواو وكسر الراء وبالمثناة من تحت وبعد الألف نون ثم ياء النسبة إلى موريان وهي قرية من قرى الأهواز. وفيها توفي الحكم بن أبان العدني، روى عن طاوس وجماعة، وكان شيخ أهل اليمن وعالمهم بعد معمر، وكان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر الله حتى يصبح. وفيها توفي مقرىء البصرة أبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي المازني البصري أحد السبعة القراء وعمره أربع وثمانون سنة، قرأ على أبي العالية وجماعة وروى عن أنس وغيره. قال أبو عمرو كنت رأساً والحسن حي ونظرت في العلم قبل أن أختن. وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية، والشعر وأيام العرب. قال: وكانت دفاتره ملء بيت

إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، وهو في النحو من الطبقة الرابعة من علي بن ابي طالب رضي الله عنه. قال الأصمعي سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابري فيها بألف حجة. وكان أبو عمرو رأساً في حياة الحسن البصري مقدماً في عصره، وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاً له إلى قريب من السقف كما تقدم. ثم ذكر إحراقه لها. قال: فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه يقلبه، وكانت عامة أخباره عن إعراب قد أدركوا الجاهلية. قال الأصمعي جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج، فلم أسمعه يحتج ببيت إسلامي قال وفيه يقول الفرزدق: ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار والصحيح أن كنيته اسمه وكان رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي. وعنه أنه قال ما زدت في شعر العرب قط إلا بيتاً واحداً وهو أنكرتني وما كان الذي أنكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا. وهذا البيت يوجد في جملة أبيات للأعشى مشهورة. قال أبو عبيدة دخل أبو عمرو بن العلاء على سليمان بن علي وهو عم السفاح، فسأله عن شيء، فصدقه، فلم يعجبه ما قال، فوجد أبو عمرو في نفسه فخرج وهو يقول: أنفت من الذل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا إذا ما صدقتم خفتهم ... ويرضون مني بأن أكذب قلت وهذا يعرفك بجواز الإقواء المعروف في علم القافية لوقوعه من هذا الإمام الذي هو للاحتجاج من أقوى دليل أعني رفعه للباء من: اكذب لموافقة القافية المتقدمة، مع دخول أن الناصبة للفعل المضارع، وقد اعتذر عنه بعضهم ذاهباً إلى ألن أن هاهنا وقعت مخففة من الثقيلة، او أنها ملغاة من العمل. وفي قوله هذا نظر، فإن كونها مخففة من الثقيلة يحتاج إلى شروطه: منها أن يكون الفعل بمعنى العلم أو الظن على أحد الوجهين، وشرط بعضهم السين في الفعل كقوله تعالى علم أن سيكون. وحكي عن ابن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يقول: قلت لأبي عمرو بن العلاء: اخبرني عما وضعت مما سميته عربية لم يدخل فيه كلام العرب كله، فقال: لا. فقلت: فكيف تصنع؟ فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة قال: اعمل على الأكثر واسمي ما خالفني لغات.

قلت وذكر شيخنا الإمام الرضي الطبري رحمة الله عليه في كتاب شهاب القبس عن أبي عمرو بن العلاء، انه قال: اول العلم الصمت، والثاني حسن الاستماع، والثالث حسن السؤال، والرابع حسن اللفظ، والخامس نشره عند أهله. وذكر عن أبي عبيدة أنه فاخر مصري يميناً بحضرة أبي عمرو، فاستعلاه اليمني، فقال أبو عمرو المصري: قل له لنا النبوة والخلافة والكعبة والسدانة وزمزم والسقاية واللواء والرفادة والشورى والندوة والسبق بالإيمان والهجرة، ولنا فتوح الآفاق وتفرقة الأرزاق، وبنا سميت الأنصار أنصاراً، ومنا أول من تنشق عنه الأرض وصاحب الحوض وأول شافع ومشفع وأول من يدخل الجنة وسيد ولد آدم وكرم الناس أباً وأماً صلى الله عليه وسلم. ومنا الأسباط والأنبياء عليهم السلام، وجبابرة الملوك العظماء، فمن عزمنكم فنحن أعززناه، ومن ذل فنحن أذللناه، قال: فعجب الناس من كلامه حتى أنه لو كان قد أعده أو قرأ، من كتاب ما زاد على ذلك، وقال فوت الحاجة خير من طلبها من غير أهلها، وقال: ما تساب اثنان إلا غلب ألامهما، وقال: اذا تمكن الإخاء فتح الثاء، وقال ما ضاق مجلس بين متحابين، وما اتسعت الدنيا بين متباغضين، وقال: احسن المراثي ابتداء قول فضالة بن كندة العبسي: أيتها النفس اجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا بان الذي جمع السماحة ... والنجدة والبر والتقى جمعا الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا وقال ما قالت العرب بيتاً أبدع من قول النابغة: والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع وقال الأصمعي: سمع أبو عمرو رجلاً ينشد، وكان مستتراً من الحجاج. اصبرالنفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال لاتضيقن في الأمور فقد ... تكشف غماؤها بغير احتمال ربما تجزع النفس في الأمر ... ماله فرجة كحل العقال سمعها بسحره وكان ... قد خرج يريد الانتقال فقال له ما الأمر؟ فقال: مات الحجاج. فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم

سنة خمس وخمسين ومائة

بقوله فرجة وكنا نقول فرجة من الفرج وغيره وبالضم فرجة الحائط وفي رواية قال يقال فرجة بالفتح بين الأمرين وبالضم بين الجبلين يعني بالفتح والضم في الفاء وقال أبو عمرو: وحججنا سنة فمررنا ذات ليلة بواد، فقال لنا المكري: ان هذا واد كثير الجن فأقلوا الكلام حتى تقطعوه، قال: مررنا بهم في الرمل مخبتين يتبين منهم الرؤوس واللحى، نسمع حسهم ولا نراهم، فسمعنا منهم هاتفاً يقول: وإن امرءاً دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور قال فوالله لقد ذهب عنا ما كنا فيه من الغم، وأخبار أبي عمرو كثيرة وفضائله شهيرة، وكانت ولادته سنة سبعين وقيل ثمان وستين وقيل خمس وستين من الهجرة بمكة، وتوفي سنة أربع وقيل ست وقيل تسع وخمسين ومائة بالكوفة، وقال ابن قتيبة مات في طريق الشام ونسب في ذلك إلى الغلط، فقد ذكر بعض الرواة أنه رأى قبر أبي عمرو بالكوفة مكتوباً عليه هذا قبر أبي عمرو بن العلاء، فلما حضرته الوفاة كان يغشى عليه ويفيق، فأفاق من غشيته فإذا ابنه بشر يبكي، فقال: وما يبكيك وقد أتت على أربع وثمانون سنة، ورثاه بعضهم بقوله: رزينا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن فجع فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي حلة ما في انسداد لها طمع فقد جز نفعاً فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع قيل رثاه بها عبد الله بن المقنع، وقيل يحيى بن زياد الشاعر المشهور خال السفاح، وقيل غير من ذكر. سنة خمس وخمسين ومائة فيها فتح يزيد بن حاتم إفريقية، واستعادها من الخوارج، وهزمهم وقتل كبارهم، ومهد قواعدها أميراً من جهة المنصور. وفيها توفي الراوية حماد بن أبي ليلى الديلمي الكوفي، وقال ابن قتيبة: انه مولى لابن زيد الخيل الطائي الصحابي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، هو الذي جمع السبع الطوال، فيها ذكره أبو جعفر بن النحاس، وكانت ملوك بنى أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفيد عليهم وينال منهم، ويسألونه عن أيام العرب وعلومها. وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه: بما استحققت هذا الاسم فقيل

لك الراوية؟ فقال: اني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي الأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا أسمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا حديثاً إلا ميزت القديم من الحديث، فقال له: فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ فقال: كثير، ولكنني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، فقال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استخلفه إن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة جاهلية، فأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم. وذكر الحريري صاحب المقامات في كتابه درة الغواص ما مثاله: قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بخلافته، وكان أخوه هشام يحقدني لذلك، فلما مات يزيد وتولى هشام خفته، ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً فلما لم أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت فخرجت يوماً أصلي الجمعة بالرصافة، فإذا شرطيان قد وقفا علي، وقالا يا حماد، اجب الأمير، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم ثم أسير معكما؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما، فمثلت إلى الأمير على العراق، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ورمى إلي كتاباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عند هشام أمير المؤمنين إلى فلان ابن فلان أمير العراق. أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمس مائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، قال: فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا جمل مر حول، فركبته وسرت، حتى وافيت دمشق في اثنتي ليلة، فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه فرد علي السلام، فاسدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال: كيف أنت يا حماد؟ وكيف حالك؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: اتدري فيما بعثت إليك؟ قلت: لا فقال: بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله،

قلت: وما هو؟ قال: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق قلت يقوله عدي بن يزيد العبادي في قصيدة، فقال: انشدنيها، فأنشدته: بكر العاذلون في وضح الصبح ... يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد ... الله والقلب عندكم موثوق لست أدري إذا كثر العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق قال: فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق مع أبيات أخر يطول ذكرها، قال: فطرب هشام، ثم قال: احسنت يا حماد. قال ابن خلكان: وفي هذه الحكاية زيادة قال اسقيه يا جارية فسقتني، قال: وهذا ليس بصحيح، فإن هشاماً لم يشرب، ثم قال: يا حماد سل حاجتك، فقلت كائنة ما كانت، قال: نعم. قلت: احدى الجاريتين، قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، وأنزله في داره، ثم نقله إلى دار أعدها له، فوجد فيها جاريتين وكل ما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة، وصله بمائة ألف درهم، ولما مات حماد رثاه عبد الأعلى المعروف بابن كناسة: لو كان نجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر فهكذا يفسد الزمان ويفنى ... العلم وتدرس الأثر ودفن بقرية من أعمال ماسبدان، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة شعراً منه هذا البيتان، وقد غيرت المصراع الأول من الأول منهما ليكون عدولاً عما لا يجوز من لفظ: سقى الله قبراً من سحائب رحمة ... ثوى فيه حماد بماسبدان عجبت لأيد هالت الترب فوقه ... ضحى، كيف لم ترجع بغير بنان ولفظه الذي غيرته هو قوله: وأكرم قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بما سبدان فقد فضله كما ترى على جميع الأولياء، بل على جمع الأنبياء غير نبينا، صلى الله عليه

سنة ست وخمسين ومائة

وآله وسلم، على ما نقله عنه أهل التواريخ، وبئس القول والقائل. وفيها توفي مسعر بن كدام الهلالي الكوفي، وصفوان بن عمرو السكسكي، وعث ابن أبي العاتكة الدمشقي. سنة ست وخمسين ومائة فيها توفي شيخ البصرة وعالمها، وأول من دون العلم بها، الإمام أبو النضر سعيد ابن أبي عروبة العدوي، وشيخ إفريقية وقاضيها الزاهد الواعظ عبد الرحمن بن زياد الشعباني الإفريقي. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي قارىء الكوفة أبو عمارة حمزة بن حبيب التيمي، مولى تيم بن ربيعة الكوفي الزيات السيد الجليل، احد القراء السبعة، قرأ على التابعين، وتصدر للإقراء فقرأ عليه جل أهل الكوفة، وكان رأساً في القرآن والفرائض قدوة في الورع، وقال القرآن ثلاث مائة ألف حرف وثلاثة وسبعون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفاً، وقصته في رؤيته الحق سبحانه في المنام وتضميخه له بالغالية وما ذكر فيها من وعده تعالى بالكرامة لأهل القرآن مشهورة. سنة سبع وخمسين ومائة فيها توفي الفقيه القدوة العلامة إمام الشاميين أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، روى عن الزهري وعطاء وخلق كثير من التابعين، وروى عنه الثوري وأخذ عنه ابن المبارك وجماعة كثيرة، وكان رأساً في العلم والعمل كثير المناقب بارعاً في الكتابة والترسل. قال الفضل بن زياد: اجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة. وقال إسماعيل بن عياش سمعت الناس سنة أربعين ومائة يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة، وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي. وقال أبو مسهر: كان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء، ومات في الحمام أغلقت عليه امرأته باب الحمام ونسيته فمات رحمه الله يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في شهر

سنة ثمان وخمسين ومائة

ربيع الأول من السنة المذكورة، ورثاه بعضهم بقوله: جاد الحيا بالشام كل عشية ... قبراً تضمن لحده الأوزاعي قبر تضمن فيه طود شريعة ... سقياً له من عالم نفاع عرضت له الدنيا فأعرض مقلعاً ... عنها بزهد أيما إقلاع قلت ولو كان في البيت الأول سقى عوض جاد، كان صواباً لأنه حينئذ ينصب قبراً وتقديره أسقى الحبا قبراً وأما نصبه بجاد فلا يحسن بل لا يصح إلا بتعصب يعيد وإضمار محذوف يكون تقديره جاد فسقى قبراً وكذلك قوله في البيت الثاني تضمن فيه كان يعني قوله تضمن عن فيه فقوله فيه من التكرر المذموم العاري عن تضمن فائدة من تأكيد وغيره ورأى أن يكون بالمثناة من تحت أصح من المثناة من فوق وحينئذ يكون تضمن للحال ولا يكون لفظ فيه مذموماً على هذا بل يكون معناه يودع فيه بخلاف المثناة من فوق فإن معناه تضمن هو فلفظ في هذا بعد مستقبح والأوزاعي نسبة إلى الأوزاعي وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل الأوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس ولم يكن منهم وإنما نزل فيه فنسب إليهم وقيل غير ذلك. وقال بعض المعبرين: قال يعلى بن عبيد: كنت عند سفيان الثوري فقال له رجل: رأيت البارحة كأن ريحانة رفعت إلى السماء من ناحية المغرب حتى توارت في السماء، فقال سفيان: ان صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فوجده قد مات في تلك الليلة. وروي أن الإمام سفيان الثوري المذكور والمشهور السيد المشكور لما حج الأوزاعي خرج حتى لقيه بذي طوى فحل سفيان الحبل المقود به رأس بعيره ووضعه على رقبته، ومشى وهو يقول الطريق للشيخ. وفيها توفي الحسن بن واقد المروزي قاضي مرو ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة ثمان وخمسين ومائة فيها صادر المنصور خالد بن برمك وأخذ منه ثلاثة آلاف درهم، ثم رضي عنه، وأمره

على الموصل. وفيها في ذي القعدة بمكة توفي المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد العباسي وله ثلاث وستون سنة، وكانت خلافته اثتين وعشرين سنة، وكان ذا حزم وعزم ودهاء ورأي وشجاعة وعقل، وفيه جبروت وظلم، ولي بعده ولده المهدي، ولما عزم المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس كتب إليه ابن عمه عيسى بن موسى: إذا كنت ذا رأي فكن ذا روية ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا وكتب إليه المنصور. إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا ومن أخبار المنصور: ما رووا عن أبي بكر الهذلي الشاعر المشهور، قال: قال لي المنصور: قد بلغت أربعين سنة وأريد الحج، وأنا داخل على أبي العباس أكلمه أن يعينني على سفري، يعني أخاه السفاح، فأعني بالقول، قال: قلت: افعل فلما دخل عليه ودخلت كلمه واستغنى عن كلامي، فحج، فما كان ببعض الطريق أتاه نعي أبي العباس، فأقبل على كل صعب وسهل حتى أتى دار الخلافة فظفر بالأموال. قال الراوي فلما توفيت امرأة الهذلي المذكور، وكانت أم ولده والقيمة في منزله، وجد عليها، فبلغ ذلك المنصور، فأمر حاجبه الربيع أن يأتيه ويعزيه ويقول له: ان أمير المؤمنين متوجه إليك الليلة بجارية نفيسة لها أدب وطرب وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك، وتسد موضعها وتقوم بأمر منزلك، ويأمر لك مع ذلك بفرش وكسوة، قال: فلم يزل الهذلي يتوقع ذلك فلم يره، ونسيه المنصور فلم يذكره، ولم يذكره بذلك أحد ثم إن المنصور لما حج وكان الهذلي منه قال وهو بالمدينة الشريفة: اني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فأنظروا إلي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها يكون معي فيعرفني ذلك، فقالوا له: ما نعلم أحداً أعلم بذلك ولا أعرف به من أبي بكر الهذلي، فأمره بالحضور، فلما كان في الليل خرج المنصور على حمار يطوف في سكك المدينة وهو معه، فجعل يسأله عن ربع ربع وسكة سكة وموضع وموضع فيخبره بمن هو ولمن كان، يقص قصة الحال فيه حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة

الذي قال فيه الأحوص بن محمد الأنصاري: يا بيت عاتكة التي أتعزله ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل وأنشد القصيدة حتى بلغ قوله: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل فقال المنصور له: ويحك يا أبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولا ينجز ويقول ما لا يفعل؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، اذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت أذكرتني ما كنت وعدتك، لا جرم والله لا تصبح حتى يأتيك ذلك، قال: فلم يصبح حتى وجه إلي بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها وآلاتها ووصلني بمال. قلت ذكر بعضهم إن العاتكة المذكورة هي بنت عبد الله بن أبي سفيان الأموي، وذكروا أيضاً في بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، وروي عن الهذلي أيضاً أنه قال: طلبت الإذن على المنصور فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدا قليلاً ثم خرج الأذن لنا فدخلنا، وقد كنت هيأت كلاماً ألقى به المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك، فلما رأيناه ارتج علينا، وكان جهدنا أن أقمنا التسليم فسلمنا فأومى برأسه وأقبلت ألاحظ أبا حنيفة أعجبه مما نالني وناله من الدهش، فرفع عمرو رأسه فقال. بسم الله الرحمن الرحيم " والفجر وليال عشر " - الفجر: 1 - إلى قوله تعالى: " فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " - الفجر: 13و14 - يا أمير المؤمنين: بالمرصاد، لمن عمل مثل عملهم إن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين فإن وراءك نيراناً تأجج من الجور ما يعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. قلت أرى في هذا الكلام شيئاً ساقطاً في موضعين. أحدهما قوله: ان ينزل به يحتمل أن يكون فليحذر أن ينزل به، والثاني قوله تأجج من الجور ما يعمل، يحتمل أن يكون من الجور لمن يعمل، فقال: يا أبا عثمان، انا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع، فقال: يا أمير المؤمنين، مثل أذن فأر يجزيك من الطوامير، تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، انك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل، اذن ليقرب إليك من لانية له فيه.

ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو، فقال له عمرو: يا ابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد أن ينصحه يا أمير المؤمنين، ان هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله يا أمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك، ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئاً، قال: فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادماً على رأسه فسار بشيء، فأتاه الخادم بمنديل فيه دنانير، فقال: يا أبا عثمان بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت، قال ما كنت لآخذها، قال لتأخذها والله قال لا آخذها، قال والله لتأخذنها، قال والله لا آخذها، فقال له المهدي وكان حاضراً، يحلف أمير المؤمنين لتأخذه وتحلف أنت لا تأخذه؟! قال عمرو: يا ابن أخي إن أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني، فقال أبو جعفر للمهدي اسكت فإن عمك بناء واثق، قال: فسكت وقعد قليلاً ثم قمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: انا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاء به عمرو ومن كتاب الله؟!. قلت عمرو بن عبيد المشهور بالزهادة والعبادة من المعتزلة، وله في الاعتقاد أقوال شنيعة في الابتداع مضيعة في الأسماع، ذكرت بعضها في الكتاب الموسوم بالمرهم، ولما اعتزل هو وأصحابه حلقة الحسن البصري وباينوا أهل السنة، سموا معتزلة من يومئذ. وقال الهذلي المذكور: قال السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم ما بلغ؟ يعني الحسن البصري. قلت: يا أمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة فلم يجارز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهماً في تجارة، ولم يل للسلطان امارة ولم يأمر بشيء فيهم حتى يفعله، ولا يترك شيئاً حتى بدعه، او كما قال، فقال: بهذ بلغ الشيخ ما بلغ. وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: قال المنصور للمهدي: يا عبد الله إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وذكر في المقتبس أيضاً: انه لما أتم المنصور بناء مدينة السلام بغداد، وأراد النقلة إلى قصره بباب الذهب، وقف على باب القصر يتأمله، فإذا على الحائط مكتوب.

سنة تسع وخمسين ومائة

ادخل القصر لا تخاف زوالا ... بعد ستين من سنيك رحيل فوقف ملياً، وتغرغرت عينه، ثم قال: بقية لعاقل وفسحة لجاهل، كأنه حسب ما بقي من عمره من السنين، وكان قد مكث قبل بنائها سنة يتردد ليرتاد موضعاً يبنيه، فبينا هو كذلك إذا براهب قد أشرف عليه من بنيان مقيم فيه، فقال: اراك منذ شهور تدور وتكثر الترداد في هذا الموضع، فقال: اريد أن أبني فيه مدينة، فقال له الراهب: لست صاحبها، انا نجد أن صاحبها يقال له مقلاص. فقال أبو جعفر: انا والله صاحبها، كنت أدعى وأنا صبي في الكتاب بمقلاص، فأمر حينئذ ببنائها، وكتب إلى البلدان أن يوجه إليه ما يحتاجه ويتوقف عمارتها عليه، ثم قال لنوبخت بالنون ثم بالموحدة بعد الواو ثم الخاء المعجمة والمثناة من فوق في آخره المنجم: اختر لي موضعاً أضع له فيه الأساس والبناء، فاختار له فوضع الأساس، ثم قال له: احكم الآن فقال: يتم بناؤها وتكون مدينة ليس في شرق ولا غرب لها نظير، ويعمرعمراناً لم ير مثله، قال أبو جعفر: ثم ماذا؟ قال: ثم تخرب بعد موتك خراباً ليس بصحراء ولكن دون العمران، ووزنت لبنة سقطت من السور فكان وزنها اثنتين وثمانين رطلاً، وكان قد وضع المنصور أول لبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. وفي السنة المذكورة على الصحيح توفي حيوة بن شريح التجيبي المصري أحد العلماء السادة الزهاد أولى التوفيق والسعادة وكان مجاب الدعوة. وفيها توفي الإمام زفر بن الهذيل صاحب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم. سنة تسع وخمسين ومائة فيها ألح المهدي على ولي العهد عيسى بن موسى بكل ممكن وبالترغيب والترهيب في خلع نفسه ليولي العهد ولده موسى الهادي، فأجاب خوفاً على نفسه، فأعطاه المهدي عشرة آلاف ألف درهم وإقطاعات، وفيها توفي السيد الجليل عبد العزيز بن أبي رواد. ومما يحكى من فضائله أن امرأة بمكة تقرأ القرآن رأت كأن حول الكعبة وصائف عليهن معصفرات وبأيديهن ريحان، وكأنها قالت: سبحان الله هذا حول الكعبة، يعني هذا التزين المتخذ للهو، فقيل لها: اما علمت أن عبد العزيز بن أبي رواد زوج الليلة، فانتبهت

سنة ستين ومائة

فإذا عبد العزيز بن أبي رواد قد مات رحمه الله. وفيها توفي الإمام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي يزيد القرشي المدني، روى عن عكرمة ونافع وخلق، قال الإمام أحمد: كان يشبه بسعيد بن المسيب وما خلف مثله، قال: وكان أفضل من مالك إلا أن مالكاً كان أشد تنقية للرجال. وقال الواقدي كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة، فلو قيل له أن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد، وقال أخوه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرده، وكان شديد الحال يتعشى بالخبز والزيت، وكان من رجال العلم صواماً قوالاً بالحق، وقال أحمد: ادخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر يعني المنصور، فلم يهله من الهول أن قال: ان الظلم ببابك فاش وأبو جعفر قلت يعني في الهيبة والغلظة والانتقام، ومعناه: مدح ابن أبي ذئب بهذا الاقدام. وفيها توفي مالك بن مغول البجلي الكوفي، روى عن الشعبي وطبقته، وكان كثير الحديث ثقة حجة، قال ابن عيينة: قال له رجل: اتق الله، فوضع خده بالأرض. سنة ستين ومائة في أولها كان خلع عيسى بن موسى، وفيها افتتح المسلمون مدينة كبيرة بالهند، وفيها فرق المهدي في الحرمين أموالاً عظيمة، فيل ثلاثين ألف ألف درهم، وفرق من الثياب مائة ألف وخمسين ألف ثوب، وحمل محمد بن سليمان الأمير الثلج للمهدي حتى وافاه به مكة، قيل: وهذا شيء لم يتهيأ لأحده. وفيها توفي الإمام أبو بسطام العتكي مولاهم الواسطي شعبة بن الحجاج بن الورد شيخ البصرة وأمير المؤمنين في الحديث، روى عن معاوية بن قرة وعمرو بن مرة وخلق من التابعين؛ قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وقال ابن المديني: له نحو ألفي حديث، وقال سفيان لما بلغه موت شعبة: مات الحديث، وقال أبو زيد الهروي: رأيت شعبة يصلي حتى يدمي قدماه، وأثنى جماعة من كبار الأئمة عليه ووصفوه بالعلم والزهد والقناعة والرحمة والخير، وكان رأساً في العربية والشعر سوى الحديث، رحمة الله عليه. وفيها توفي المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، روى

سنة إحدى وستين ومائة

عن الحكم بن عتيبة وعمرو بن مرة وخلق، وقال ابو حاتم: كان أعلم زمانه بحديث ابن مسعود، رضي الله عنه. سنة إحدى وستين ومائة فيها ظهر عطاء الساحر الشيطان الذي ادعى الربوبية بناحية مرو، واستغوى خلائق لا يحصون، وأري الناس قمراً ثانياً فيئ السماء، كان يرى ذلك إلى مسيرة شهرين. وفيها توفي أبو دلامة بن زند بن الجون، وكان صاحب نوادر وحكايات وأدب ونظم، ذكر ابن الجوزي أنه توفيت لأبي جعفر المنصور ابنة عم فحضر جنازتها وحو متألم لفقدها كئيب، فاقبل أبو دلامة وجلس قريباً فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا المكان؟ وأشار إلى القبر، فقال: ابنة عم أمير المؤمنين، فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال له: ويحك فضحتنا بين الناس. ولما قدم المهدي بن منصور من الري إلى بغداد، خل عليه أبو دلامة للسلام والتهنية بقدومه، فقال له المهدي: كيف أنت يا أبا دلامة؟ فأنشد: إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر لتصلين على الرسول محمد ... ولتملأن دراهماً حجري فقال له المهدي: اما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا، فقال: جعلني الله فداك، انهما كلمتان لا تفرق بينهما، فقال: يملأ حجر أبي دلامة دراهم، فقعد وبسط حجره فملأه دراهم، وقال له: قم الآن يا أبا دلامة، فقال: ينحرق قميصي يا أمير المؤمنين، فردها إلى الاكياس، ثم قام. ومن أخباره: انه مرض ولده فاستدعى طبيباً ليداويه، وشرط له جعلا معلوماً، فلما برأ قال له والله ما عندنا شيء نعطيك، ولكن ادع على فلان اليهودي، وكان ذا مال كثير بمقدار الجعل، وأنا وولدي نشهد بذلك، فمضى الطبيب إلى القاضي يومئذ، وحمل اليهودي إليه، وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر اليهودي، فقال: ان لي عليه بينة وخرج لاحضار البينة، فأحضر أبا دلامة وولده، فدخلا إلى المجلس، وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية فأنشد في الدهليز قبل دخوله إلى القاضي بحيث يسمع القاضي: إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث وإن ينبثوا بيري نبثت بيارهم ... ليعلم قوم كيف تلك البثائث ثم حضر بين يدي القاضي وأديا الشهادة، فقال له القاضي: كلامك مسموع وشهادتك

مقبولة، ثم غرم القاضي المبلغ من عنده، واطلق اليهودي، وما امكنه أن يرد شهادتهما خوفاً من لسانه، فجمع بين المصلحتين بتحمل الغرم من ماله، وكان القاضي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل عبد الله بن شبرمة. وفي كتاب أخبار البصرة أن أبا دلامة كتب إلى سعيد بن دعلج، وكان يومئذ يتولى الأحداث بالبصرة، وأرسل الكتاب من بغداد مع ابن عم له. إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم له ألف علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم فسير له دعلج ما طلب: وكان روح بن حاتم المهلبي والياً على البصرة، فخرج إلى حرب الجيوش الخراسانية ومعه أبو دلامة، فخرج من صف العدو مبارزاً فخرج إليه جماعة، فقتلهم واحداً بعد واحد، فتقدم روح إلى أبي دلامة لمبارزته، فامتنع، فألزمه ذلك فاستعفاه، فلم يعفه، فأنشد: إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى القتال فيخزي بي بنو أسد إن المهاب حب الموت أورثكم ... ولم أورث قط حب الموت من أحد إن الدنو إلى الأعداء أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد فاقسم عليه ليخرجن، وقال: لماذا تأخذ رزق السلطان؟ قال: لأقاتل عنه. قال: فما بالك الآن لا تبرز إلى العدو؟ فقال: ايها الأمير إن خرجت إليه لحقت بمن مضى، وما الشرط أن أقتل عن السلطان بل أقاتل عنه، فحلف روح ليخرجن إليه فتقتله أو تأسره أو تقتل دون ذلك، فلما رأى أبو دلامة الجد منه قال: ايها الأمير تعلم أن هذا أول يوم من أيام الآخرة ولا بد فيه من الزوادة، فأمر له بذلك فأخذ رغيفاً على دجاجة ولحم وسطيحة من شراب وشيئاً من بقل، وشهر سيفه وحمل، وكان تحته فرس جواد فأقبل يجول ويلعب بالرمح وكان مليحاً في الميدان والفارس لا يلحظه، ويطلب منه غرة حتى إذا وجدها حمل عليه، والغبار كالليل فأغمد أبو دلامة سيفه وقال للرجل: لا تعجل، واسمع مني عافاك الله كلمات ألقيهن إليك، فإنما أتيتك في مهم، فوقف مقابله، وقال: ما هو المهم؟ قال أتعرفني؟ قال: لا. قال: انا أبو دلامة. قال: قد سمعت بك، حياك الله، فكيف برزت إلي وطمعت في بعد من قتلت من أصحابك ممن رأيت؟ قال: ما خرجت لأقتلك ولا أقاتلك ولكني رأيت لياقتك وشهامتك فاشتهيت أن تكون لي صديقاً، وإني لأدلك على ما هو أحسن

من قتالنا، قال: قل على بركة الله تعالى، قال: أراك قد تعبت وأنت سقيان ظمآن قال: كذلك هو، قال: فما علينا من خراسان والعراق. إن معي خبزاً ولحماً وشراباً وبقلاً كما يتمنى المتمني، وهذا غدير ماء تميز بالقرب منا، فهلم بنا إليه نصطبح، وأترنم إليك بشيء من إحدى الأعراب، فقال: هذا غاية أملي، قال: فها أنا انتظر ذلك فاتبعني حتى تخرج من حلقة النضال، ففعلا وروح يتطلب صاحبه. فلا يجده، والخراسانية تتطلب فارسها فلا تجده، فلما طابت نفس الخراساني قال له أبو دلامة: ان روحاً كما علمت من أبناء الكرام، وحسبك يا بن المهلب جوداً، وأنه يبذل لك خلعة فاخرة وفرساً جواداً ومركباً مفضضاً وسيفاً محداً ورمحاً طويلاً وجارية بربرية، وأنه ينزلك في أكبر العطاء وهذا خاتمه معي لك بذلك، فقال: ويحك وما أصنع بأهلي وعيالي، قال: استخر الله تعالى وأسرع معي ودع أهلك فالكل يخلف عليك، فقال سر بنا على بركة الله تعالى فسارا حتى قدما من وراء العسكر، فهجما على روح، فقال يا أبا دلامة، اين كنت؟ قال في حاجتك، اما قتل الرجل فما أطيقه، وأما سفك دمي فما طبت به نفساً وأما الرجوع خائباً فلم أقدم عليه، وقد تلطفت وأتيتك بالرجل أسير كرمك، وقد بذلت له عنك كيت وكيت، فقال: يمضي إذا وثق لي. قال بماذا؟ قال: ينقل أهله فقال الرجل: اهلي على بعد ولا يمكنني نقلهم الآن، ولكن أمدد يديك أصافحك وأحلف لك متبرعاً بطلاق الزوجة أني لا أخونك، فإن لم أف إذا حلفت بطلاقها لم ينفعك نقلها، قال: صدقت، فحلف له وعاهده ووفى بما ضمنه أبو دلامة وزاد عليه، وانقلب الخراساني معهم يقاتل الخراسانية وينكأ فيهم أشد نكاية، وكان أكثر أسباب ظفر روح وكان المنصور قد أمر بهدم دور كثيرة منها دار أبي دلامة فكتب إلى المنصور: يا ابن عم النبي دعوة شيخ ... قد دنا هدم داره وبواره فهو كالماخض الذي اعتادها ... الطلق، وما تقر قراره لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما أحتوى عليه جداره وفي شعبان منها توفي الإمام العالم أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي الفقيه سيد أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً وزهداً وعمره ست وستون سنة. روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير. قال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان. وقال شعبة ويحيى بن معين وغيرهما: سفيان أمير المؤمنين فى الحديث، وقال أحمد بن حنبل لا يتقدم سفيان في قلبي أحد، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحداً احفظ من الثوري وهو فوق مالك في كل شيء، وقال سفيان ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني، وقال ورقاء لم ير الثوري مثل نفسه، وقال الشيخ أبو اسحاق في الطبقات: قال عبد الله بن المبارك: لا نعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان، قال: وقال علي بن

المديني: سألت يحيى بن سعيد فقلت أيما أحب إليك؟ رأي مالك أو رأي سفيان؟ فقال: سفيان لا نشك في هذا، ثم قال يحيى: سفيان فوق مالك في كل شيء. قال وقال أحمد بن حنبل: دخل الأوزاعي وسفيان على مالك فلما خرجا قال مالك: احدهما أكبر علماً من صاحبه، ولا يصلح للإمامة، والآخر يصلح للإمامة، فسأل من الذي عنى مالك أنه علم الرجلين، اهو سفيان؟ قال: نعم. سفيان أوسعهما علماً. وعن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني، وكان أحد السادة الأئمة الكبار في الحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء سفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم إن لم تدركوا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فقد أدركتم سفيان الثوري ألا اقتديتم به. وكان سفيان كثير الحظ على المنصور، فهم به وأراد قتله، فما أقدره الله تعالى على ذلك قلت وقصتهم معه مشهورة أعني في أمر المنصور يلزم سفيان في مكة لما قرب المنصور من دخولها، واقسام سفيان رضي الله تعالى عنه في الملتزم برب الكعبة أنه لا يدخلها، فلم يدخلها، بل مات خارجاً عنها، وقد اجتمع الناس على جلالة سفيان وإمامته وصلاحه وزهادته وورعه وعبادته. ويقال كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأس الناس في زمانه، وكان بعده ابن عباس في زمانه، وكان بعده الشعبي في زمانه، وكان بعده الثوري في زمانه، سمع الحديث من أبي إسحاق السبيعي والأعمش ومن في طبقتهما من الجلة، وسمع منه الجلة كمالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك والأوزاعي وابن جريج ومحمد بن اسحاق ومن في طبقتهم. وذكر المسعودي في مروج الذهب ما مثاله قال القعقاع بن الحكم: كنت عند المهدي فأتى سفيان الثوري فلما دخل عليه سلم تسليم العامة، ولم يسلم عليه بالخلافة، والربيع قائم على رأسه، متكىء على سيفه، يرقب أمره، فاقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا هاهنا وهاهنا، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، فما عسى أن نحكم فيك بهواناً، فقال سفيان: ان تحكم في يحكم فيك ملك قادرعادل، يفرق في حكمه بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويحك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فتشقى بسعادتهم أو قال لسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفعه إليه فأخذوه وخرج، فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولاه

شريك بن عبد الله النخعي قال الشاعر: تحرز سفيان وفز بدينه ... وأمسى شريك مرصداً للدراهم وحكي عن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني وكان أحد الأئمة الكبار السادة المشهورين بالحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله تعالى على الخلق. توفي رحمه الله تعالى بالبصرة سنة إحدى. وقيل اثنتين وستين ومائة متوارياً من السلطان، ومولده في سنة خمس. وقيل ست. وقيل سبع وتسعين من الهجرة، وله رضي الله تعالى عنه من المناقب والمحاسن الجميلات ما لا يسعه إلا مجلدات، قلت وهو القائل رضي الله عنه لمن رآه بعد موته فسأله عن حاله فيما رآه كثير من الشيوخ العارفين والأئمة الهادين: نظرت إلى ربي عياناً فقال لي ... هنياً رضاي عنك يا بن سعيد لقد كنت قواماً إذا ظلم الدجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني عنك غير بعيد وفي أول السنة المذكورة توفي أبو الصلت زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي الحافظ. قيل وفي السنة المذكورة توفي أبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه إمام النحو الحارثي مولاهم، اخذ النحوعن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب وخليل بن أحمد، واللغة عن أبي الخطاب الأخفش وغيره، وقال المبرد: لم يقرأ أحد كتاب سيبويه عليه، وإنما قرىء بعده على ابن الحسين سعيد بن مسعدة الأخفش، وكان ممن قرأه على الأخفش صالح بن إسحاق الجرمي. وقال أبو زيد النحوي: كلما حكى سيبويه في كتابه بقوله أخبرني الثقة فأنا أخبرته، يفتخر بذلك، وقال الأخفش: جاءنا الكسائي إلى البصرة، وسألني أن أقرئه كتاب سيبويه، ففعلت، فوجه إلي خمسين ألف ديناراً، قيل وكان الأخفش أسن من سيبويه، وقال ابن سلام: سألت سيبويه عن قوله عز وجل: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس " - يونس: 98 - على أي شيء نصبت إلا؟ قال: الا إذا كانت بمعنى لكن نصبت.

سنة اثنتين وستين ومائة

وقال ابن دريد: مات سيبويه بشيراز، وقبره بها. وقال ابن قانع: مات بالبصرة سنة احدى وستين ومائة، وقال المرزباني وهم فيهما جميعاً، يعني المكان والزمان، قال: وعمره ثمان وثلاثون سنة، وقيل له في علته التي مات فيها ما تشتهي؟ قال: اشتهي أن أشتهي. قلت: كأنه يشير إلى أن المرض حال بينه وبين الشهوات، ولكن قيل لبعض الصالحين في وقت الصحة ما تشتهي: فقال: اشتهي أن أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أشتهي، وهذا يشير إلى أن صحة قلبه واشتغاله بالله ومحبته له حال بينه وبين اشتهاء الشهوات، فهو يشتهي شيئاً منها ليخالف نفسه، ويتركها الله عز وجل، فلا يشتهي شيئاً. سنة اثنتين وستين ومائة فيها توفي السيد الكبير الولي الشهير ذو السيرة الزاهرة والآيات الباهرة العارف بالله المقرب المكرم أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم، قلت: وهذا اشارة إلى قطرة من بحر مناقبه ومحاسنه وما يليق بوصفه في ظاهره وباطنه. وأما قول بعض المؤرخين: الذهبي وغيره: وفيها توفي إبراهيم بن أدهم البلخي الزاهد واقتصارهم في وصفهم له في الزهد الذي هو من أوائل مقامات المريدين المبتدين في مقامات السالكين فذلك غض من قدره وعلو مرتبة، وحط له عن رفيع منزلته، كذلك فعلوا في غيره من السادات العارفين الأولياء المقربين، فالعجب منهم في ذلك كل العجب في اقتصارهم في وصفهم على وصف من هو بالنسبة إلى جلالة قدرهم حقير مع وصفهم لمن هو حقير بالنسبة إليهم ومدحهم له بمدح كثير، والعجب الأكبر قول الذهبي روي عن منصور ومالك بن دينار وطائفة وثقه النسائي وغيره. يا للعجب كل العجب ممن يستشهد على التوثيق والتعديل يقول معدل للمولى المعظم الذي اشتهرت فضائله وكراماته في العرب والعجم. وأغنى من مدحته تلفظ مادحه بابن أدهم. كأنه فيما يخبر به منهم. وهو القائل رضي الله تعالى عنه. تركت الخلق طراً في رضاكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا فلو قطعتني في الحب إرباً ... لما حن الفؤاد إلى سواكما وقد ذكرت في غير هذا الكتاب نبذة من مناقبه وكراماته ومحاسن سيرته وسياحاته، وكيف كان أول خروجه وسماعه الهاتف من قربوس سرجه، وها أنا هنا أقتصر على ذكر

سنة ثلاث وستين ومائة

كرامة واحدة من كراماته مما نقلها العلماء والاولياء منهم الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته. قال محمد بن المبارك الصوري: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس، فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، وسمعت صوتاً من أصل تلك الرمانة: يا أبا إسحاق أكرمنا بأن تأكل منا شيئاً فطأطأ رأسه ثلاث مرات ثم قال: يا محمد كن شفيعاً إليه ليتناول منا شيئاً، فقلت: يا أبا إسحاق، لقد سمعت، فقام وأخذ رمانتين فأكل واحدة وناولني الأخرى فأكلتها وهي حامضة، وكانت شجرة قصيرة، فلما رجعنا من زيارتنا إذا هى شجرة عالية ورمانها حلو، وهي تثمر في كل عام مرتين، وسموها رمانة العابدين، ويأوي إلى ظلها العابدون. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ستين توفي السيد الجليل الولي الفضيل البارع في العلم والعمل زهداً وورعاً وعبادة لله عز وجل: داود بن نصير الطائي الكوفي. ومن كلامه رضي الله عنه: صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس فرارك من الأسد. وفيها توفي قاضي السراق أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي شبرمة القرشي العامري المدني، وولي القضاء بعده القاضي أبو يوسف. وفيها توفي أبو المنذر بن زهير بن محمد المروزي الخراساني. سنة ثلاث وستين ومائة فيها بالغ سعيد الجرشي في حصار عطاء المقنع الساحر الفاجر، فلما أحس الشيطان بالغلبة استعمل سماً وسقى نساءه فمتن، ثم سقى نفسه، فهلك الجميع، ودخل المسلمون الحصن، فقطعوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي، وكان يقول بالتناسخ، وأن الله تعالى عن قوله تحول إلى صورة آدم ولذلك سجدت له الملائكة، ثم تحول إلى صورة نوح، ثم إلى غيره من الأنبياء والحكماء، ثم إلى صورة أبي مسلم الخراساني، ثم إلى صورته هو الفاجر، تعالى الله العظيم الشأن عما يقول الظالمون علواً كبيراً وكل شيطان وكل مفتر ذي بهتان وعن كل ما لا يليق بجلال كماله من حدث ونقصان، وكان لا يسفر عن وجهه، فلذلك قيل له المقنع، اتخذ وجهاً من ذهب فتقنع به كي لا يرى وجهه وقبح صورته، وكان قد عبده خلق وقاتلوا دونه مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته وإنما غلب على عقولهم

سنة أربع وستين ومائة

بالتمويهات التي أظهرها من ذلك صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب وإليه أشار المعزي بقوله: أفق أيها البدر المقنع رأسه ... ضلال وغي مثل بدر المقنع وكان في قلعة في ما وراء النهر. وفيها توفي إبراهيم بن ظهران الخراساني، وفيها عيسى بن علي عم المنصور. سنة أربع وستين ومائة فيها توفي الماجشون يعقوب سمع ابن عمرو عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن المنكدر، وروى عنه ابناه يوسف وعبد العزيز وابن أخيه عبد العزيز عبد الله، وقال ابن الماجشون: عرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل فدخل غاسل إليه يغسله فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدميه، فلم يعجل بغسله، فمكث ثلاثاً على حاله، والناس يترددون إليه ليصلوا عليه، ثم استوى جالساً، وقال: ائتوني بسويق، فأتي به فشربه، فقلنا له: خبرنا ما رأيت فقال: نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتى إلى سماء الدنيا، فاستفتح فقتح له، ثم عرج هكذا في السموات حتى انتهى إلى السماء السابعة، فقيل له: من معك؟ قال الماجشون. قيل: لم يأن له بعد بقي من عمره كذا وكذا سنة وكذا وكذا شهراً وكذا وكذا ساعة، ثم هبطت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الذي معي: من هذا؟ قال عمر بن عبد العزيز، قلت إنه لقريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: انه عمل بالحق في زمن الجور وإنهما عملا بالحق في زمن الحق، ذكر هذا يعقوب بن أبي شيبة في ترجمة الماجشون هكذا ذكر ابن خلكان وفاته ووفاة عمه في السنة المذكورة، ولم يذكر الذهبي عمه المذكور. وفيها عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني الفقيه، وكان إماماً مفتياً صاحب حلقة. وفيها توفي مبارك بن فضالة البصري مولى قريش، كان من كبار المحدثين والنساك. قال: جالست الحسن ثلاث عشرة سنة، قال أحمد: ما رواه عن الحسن يحتج به.

سنة خمس وستين ومائة

سنة خمس وستين ومائة فيها غزا المسلمون غزوة مشهورة، وعليهم هارون الرشيد وهو صبي أمرد، فساروا حتى بلغوا خليج قسطنطينية، وقتلوا وسبوا وفتحوا ماجدة، وغنموا مالاً لا يحصى حتى بيع الفرس بدرهم، وصالحتهم ملكة الروم على مال جليل. وفيها توفي عبد الرحمن بن ثابت الدمشقي الزاهد المجاب الدعوة ومعروف بن مشكان قارىء أهل مكة، سمع من عطاء وغيره، والحافظ وهيب بن خالد البصري، وخالد بن برمك وزير السفاح جد جعفر البرمكي. سنة ست وستين ومائة فيها توفي صدقة بن عبد الله السمين من كبار محدثي دمشق، ومعقل بن عبد الله الجزري من كبار علماء الجزيرة، روى عن عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران والكبار. سنة سبع وستين ومائة فيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، وغرم على ذلك أموال عظيمة ودخلت فيه دور كثيرة. قلت ذكر الأزرقي في تاريخ مكة كلاماً معناه أنه: لما حج المهدي رأى الكعبة في شق المسجد غير متوسطة فيه، فقال: ما ينبغي أن يكون بيت الله هكذا، وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد فاشتريت بثمن كثير، وأدخلت فيه، وهو الذي عمر المسجد الحرام بأساطين الرخام، والله تعالى أجل وأعلم. وفيها توفي عالم البصر الحافظ حماد بن سلمة، سمع قتادة وأبا جمرة الضبعي وطبقتهما وكان سيد وقته: قال ابن المدائني: كان عند يحيى ابن فلان سماه عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، وقال غيره: كان فصيحاً مفوهاً إماماً في العربية صاحب سنة له تصانيف في الحديث، وقيل كان يعد من الابدال. وقال موسى بن إسماعيل: لو قلت ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً لصدقت، كان يحدث أو يسبح أو يقرأ أو يصلي قد قسم النهار على ذلك.

وفيها توفي الحسن بن صالح الهمداني فقيه الكوفة وعابدها، قال وكيع: كان يشبه سعيد بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزءا الليل ثلاثة أجزاء، فماتت أمهما فقسما الليل بينهما، فمات علي، فقام الحسن الليل كله. وفيها توفي فقيه الشام بعد الأوزاعي أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عاش نحواً من ثمانين سنة، كان صالحاً قانتاً خاشعاً، قال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة. وفيها توفي أبو حمزة محمد بن ميمون المروزي السكري، كان شيخ بلده ؤ والفضل والعبادة. وفيها وقيل في التي تليها، قتل بشار بن برد، العقيلي مولاهم الشاعر المشهور، كان أكمه جاحظ العينين قد تغشاها لحم أحمر، وكان ضخماً عظيم الخلق طويلاً، وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء والمجيدين في الشعر، ومن شعره المشهور: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... قريش الخوافي تابع قوة للقوادم وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم وفي شعره أيضاً: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا قالوا لمن لا ترى تبدي فقلت لهم ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كان أخذ معنى البيت الأول أبو حفص المعروف بابن الشحنة الموصلي في قوله قصيدة يمدح بها السلطان صلاح الدين: وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق وشعر بشار كثير سائر شاهد ببلاغته، فلا حاجة إلى التطويل بالاكثار من كتابته، وكان يمدح المهدي بن المنصور أمير المؤمنين العباسي فرمي عنده بالزندقة، فأمر بضربه، فضرب سبعين سوطاً، فمات من ذلك في البطيحة بالقرب من البصرة، فجاء بعض أهله فحمله إلى البصرة فدفنه بها، وقد نيف على التسعين وقيل والله أعلم به أنه كان يفضل النار على الأرض يعني الطين، ويصوب رأى إبليس في امتناعه عن السجود لآدم صلى الله عليه وآله

سنة ثمان وستين ومائة

وسلم، وينسب إليه من الشعر في التفضيل المذكور هذا البيت: الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار يقال إن هذا قوله والله أعلم، ولهذا قلت: وينسب إليه هذا البيت. وأما قول ابن خلكان: وينسب إليه في ذلك قوله: فمختل المعنى، لأنه إذا كان قوله لا يصح أن يقول وينسب إليه، ولكن يقال ويدل على ذلك قوله: وقيل إنه فتشت كتبه فلم يوجد فيها شيء مما كان يرمي به. وقال الطبري في تاريخه إن سبب قتل المهدي له أن المهدي ولى صالحاً أخا يعقوب بن داوود وزير المهدي ولاية، فهجاه بشار بقوله ليعقوب: هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب، فجاء فدخل على المهدي فقال له: ان بشاراً هجاك، قال ويحك ماذا قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاء ذلك، فقال لا بد فأنشده: خليفة يزني بعماته ... يلعب بالبيوق والصولجان إبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في زيارة حر الخيزران ثم ذكر كلمة فظيعة في آخر هذا البيت أكره ذكرها غير أني أذكر حرفاً حرفاً هجاها وهما ح ر وبعدهما لفظ الخيزران وهي امرأة المهدي وإليها ينسب دار الخيزران بمكة، فطلبه المهدي، فخاف يعقوب أن يدخل عليه فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من تلقاه في البطيحة وقتله والله أعلم. سنة ثمان وستين ومائة فيها مات السيد الأمير أبو محمد الحسن بن يزيد بن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب شيخ بني هاشم في زمانه وأمير المدينة للمنصور ووالد الست نفيسة، خافه المنصور فحبسه، ثم أخرجه المهدي وقربه. وفيها توفي أبو الحجاج خارجة بن مصعب من كبار المحدثين بخراسان وقيس بن الربيع الأسدي الكوفي الحافظ، وفيها توفي الأمير عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن

سنة تسع وستين ومائة

عبد الله بن عباس، ولي عهد السفاح بعد أخيه المنصور، وقد مضى ذكر خلعه. سنة تسع وستين ومائة فيها عزم المهدي على أن يقدم هارون في العهد، ويؤخر موسى الهادي، فطلبه وهو بجرجان فلم يقدم، وفيها توفي المهدي أبو عبد الله بن أبي جعفر المنصور وهو في طلب الصيد، وذلك أنه ساق خلف صيد فدخل خربة، فتبعه المهدي فوقع به صدمة في باب الخربة لشدة سوقه فتلف لساعته، وقيل بل أكل طعاماً سمته جاريته لضرتها، فلما وضع يده فيه ما جسرت تقول هيأته لضرتي، وكانت خلافته تنيف على عشرين سنة، وكان ممدوحاً محباً إلى الناس وصولاً لأقاربه قصاماً للزنادقة طويلاً أبيض مليحاً جواداً، يقال إن المنصور خلف في الخزائن ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ففرقها المهدي كلها، ولم يل الخلافة أحد أكرم منه ولا أبخل من أبيه، ويقال إنه أعطى شاعراً مرة خمسين ألف دينار. وذكر بعض المؤرخين أن المهدي خرج إلى الأنبار متنزهاً، فدخل عليه الربيع بن يونس ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين قد عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من هذه الرقعة، جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين، لوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق، هذا خطي وهذا خلقي، افلا أخبركم بالقصة كيف كانت؟ قلنا: يا أمير المؤمنين أعلى رأياً في ذلك، فال: خرجت أمس إلى الصيد في غير سيمائي فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد، وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما الله به أعلم، فتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاء سمعته من أبي يحكيه عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله عنهم يرفعه قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقي وكفي وهدي وشفي من الحرق والغرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع الله لي ضوء نار، فقصدتها فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له، وإذا هو يوقد ناراً بين يديه، فقلت: ايها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل فنزلت، فقال لزوجته هاتي ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه فابتدأت بطحنه، فقلت: اسقني ماء، فإني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثرها ماء، فشربت منها شربة ما شربت شيئاً قط إلا وهي أطيب منه، وأعطاني حلساً له يعني كساء رقيقاً وهو بالحاء والسين المهملتين وبينهما لام ساكنة قال: فوضعت رأسي عليه ونمت نومة ما نمت أطيب منها وألذ، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شويهة فذبحها، وإذا امرأته تقول له:

ويحك قتلت نفسك وصبيتك، انما كان معاشكم من هذه الشاة فذبحتها، فبأي شيء نعيش؟ قال: فقلت: لا عليك هات الشاة، وشققت جوفها، واستخرجت كبدها بسكين كانت في خفي، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلتها، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة من جراب، وأخذت عوداً من الرماد الذي بين يديه، وكتبت له هذا الكتاب، وختمته بهذا الخاتم، وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا فيها خمس مائة ألف درهم فقال: والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جدت بخمس مائة ألف درهم لا أنقص والله منها درهماً واحداً، ولم يكن في بيت المال غيرها، احملوها معه، قال فما كان إلا قليل حتى كثرت إبله وشاءه وصار منزله من المنازل ينزله الناس من أراد الحج وسمي منزل مضيف أمير المؤمنين المهدي. ولما مات المهدي أرسلوا بالخاتم والقضيب إلى الهادي فأسرع على البريد وقدم بغداد. وفيها خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسين بن علي بالمدينة، وبايعه عدد كثير، وحارب العسكر الذي بالمدينة، وقتل مقدمهم خالد بن اليزيد ثم تأهب وخرج في جمع إلى مكة، فالتفت عليه خلق كثير فأقبل ركب العراق معهم جماعة من أمراء بني العباس في عدة وخيل المهدي فالتقوا بفخ. قلت هذه اللفظة سمعتها من بعض عوام مكة بالفاء والخاء المعجمة ورأيتها في بعض التواريخ فيها نقطة الجيم وهو اسم مكان على يسار الخارج من مكة للعمرة وهو إلى أدنى الحل أقرب منه إلى مكة، فقتل في الموضع المذكور الحسين المذكور في مائة من أصحابه، وقتل الحسن بن محمد بن عبد الله الذي خرج أخوه على المنصور، وهرب ادريس بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب، فقام معه أهل طنجة، ثم تخيل الرشيد وبعث من بينهم ادريس فقام بعده ادريس بن ادريس. وفيها توفي نافع بن أبي نعيم أبو عبد الرحمن الليثي مولاهم قارىء أهل المدينة وأحد القراء السبعة، قال موسى بن طارق: سمعته يقول قرأت على سبعين من التابعين، وقال مالك: نافع إمام الناس في القراءة، وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك قرأت على نافع ومن المشهور أنه كان له راويان: ورش وقالون. الناس في القراءة، وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك قرأت على نافع ومن المشهور أنه كان له راويان: ورش وقالون.

سنة سبعين ومانة

سنة سبعين ومانة وفيها توفي الخليفة الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله، قيل مات من قرحة أصابته، وقيل قتلته أمه الخيزران لما هم بقتل أخيه هارون الرشيد. وفيها توفي أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري، احد فصحاء البصرة ومحدثيها، روى عن الحسن والكبار. وفيها توفي أبو معشر السندي صاحب المغازي والأخبار، وفيها مات كاتب المهدي ووزيره معاوية بن عبد الله، وكان من خيار الوزراء، صاحب علم وفضل وعبادة وصدقات. وفيها توفي الربيع بن يونس حاجب المنصور، كان كثير الميل إليه، حسن الاعتماد عليه، فقال له يوماً: يا ربيع سل حاجتك، قال: حاجتي أن تحب ابني، فقال: ويحك إن المحبة تقع بأسباب، فقال: قد أمكنك الله من ايقاع سببها، قال: وما ذاك؟ قال: تفضل عليه فإنك إذا فعلت ذلك أحبك، وإذا أحبك أحببته، قال: والله قد أحببته وقد حببته إلي قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟ قال لأنك إذا أجبته كبرعندك صغير إحسانه، وصغرعندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك كحاجة الشفيع العريان، قيل: اشار بذلك إلى قول الفرزدق: ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا وهذا البيت من جملة أبيات له في عبد الله بن الزبير بن العوام، لما طلب الخلافة لنفسه، واستولى على الحجاز والعراق واليمن في أيام خلافة عبد الملك بن مروان، وكان قد اختصم الفرزدق هو وزوجته النوار، فمضيا من البصرة إلى مكة ليفصل الحكم بينهما عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق عند ابنه حمزة، ونزلت النوار عند زوجته، وشفع كل واحد منهما لنزيله، فقضى عبد الله للنوار، وترك الفرزدق، فقال الأبيات المذكورة، فصار الشفيع العريان مثلاً يضرب لكل من قبلت شفاعته. قلت وهذا يرد قول من يزعم أن هذا المثل في هذا النظم من اختراع أبي نواس مخاطباً

به هارون الرشيد كما سيأتي في ترجمته. وقال المنصور له يوماً: ويحك يا ربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذلك؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قلت يعني أنه لو لم يمت الخليفة الذي قبلك لما وصلت الخلافة إليك، بل لو لم يمت أول ملك من ملوك الدنيا لما ملك أحد بعده، قال: صدقت، وقال له المنصور لما حضرته الوفاة: يا ربيع بعنا الآخرة بنومه. وقال ربيع: كنا يوماً وقوفاً على رأس المنصور، وقد طرحت للمهدي، وهو ولي عهده وسادة، اذا أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رسخه لتولية بعض أموره، فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، وقال يا بني، واعتنقه، ونظر إلى وجوه الناس، هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله، وكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفة منه، فقام شبة بضم الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ابن عقال التميمي، فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين: ما أفصح لسانه وأحسن بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقه! وكيف لا يكون كذلك، وأمير المؤمنين أبوه، والمهدي أخوه، وهو كما قال الشاعر: هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أويسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قد، ما من صالح سبقا فعجب من حضر لجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي. قال الربيع: فقال لي المنصور: لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم، فلم يخرج إلا بها. وقال الطبري: مات الربيع في سنة تسع وستين ومائة خلاف ما قدمناه وقيل: ان الهادي سمه، وقيل: بل مرض ثمانية أيام، والله سبحانه العلام. وفي السنة المذكورة توفي يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، كان والياً على إفريقية خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان جواداً سرياً ممدوحاً، قصده جماعة من الشعراء فأعطاهم عطايا سنية، وهو الذى قصده ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي فأحسن إليه، وكان ربيعة المذكور قد مدح يزيد بن أسيد بضم الهمزة السلمي، فقصر يزيد في حقه، فقال يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد السلمي بقصيدته التي من جملتها: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأعز بن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا تحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم

هوالبحر إن كلفت نفسك خوضه ... تهالكك في أمواجه بالتلاطم وقد قيل إن يزيد بن حاتم المذكور توفي سنة خمس وثمانين ومائة، وسنعيد ذكر ترجمته هناك مع زيادات على ترجمته هنا، ان شاء الله تعالى، ويزيد بن حاتم المذكور أخوه روح بضم الراء وسكون الواو قبل الحاء المهملة ابن حاتم من الكرماء الأجواد، ولي لخمسة من الخلفاء: السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ويقال: انه لم يتفق مثل هذا إلا لأبي موسى الأشعري الصحابي، رضي الله تعالى عنه، فإنه ولي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكروعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم. وكان روح والياً على السند بتولية المهدي بن أبي جعفر المنصور في سنه تسع وخمسين، وقيل ستين ومائة، وكان قد ولاه في أول خلافته الكوفة، ثم عزله عن السند سنة إحدى وستين ومائة، ثم ولاه البصرة. فلما توفي أخوه يزيد في السنة المذكوره بإفريقية في مدينة القيروان، وكان قد قال أهل إفريقية: ما أبعد ما يكون بين قبري هذين الأخوين: فإن هذا هنا وأخاه بالسند، فاتفق أن الرشيد عزل روحاً عن السند، وسيره إلى موضع أخيه يزيد، فوصل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها، فدفن مع أخيه في قبر واحد، فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد والافتراق، وكان تولية المنصور يزيد المذكور على إفريقية عندما قتلت الخوارج عامله فيها، وجهز معه خمسين ألف مقاتل حين زار المنصور بيت المقدس، وكان قد ولاه قبل ذلك على مصر. وفي السنة المذكورة توفي إمام اللغة والعروض والنحو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، وقيل في سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل في ستين ومائة، وقيل ثلاثين ومائة، وغلط ناقل هذا القول الأخير، وممن نقله ابن الجوزي والواقدي، وهو الذي استنبط علم العروض وحصر أقسامه في خمس دوائر، استخرج منها خمسة عشر بحراً، ثم زاد فيه الأخفش بحراً، سقاه المجتث، قلت وله أسماء أخرى ذكرتها في علم العروض، وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق علماً لم يسبق إليه أحد، فلما رجع من حجه فتح عليه بعلم العروض، وله معرفة بالايقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ. وقال حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى بالتنبيه على حدوث التصحيف: وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع العلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول إلا

من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممر له بالقصارين من وقع مطرقة على طست، وقيل: وهو في اختراعه عالم العروض الذي هو لصحة الشعر وفساده ميزان كارسطاطاليس الحكيم في اختراعه علم المنطق الذي هو ميزان المعاني وصحة البرهان، وفي ذلك أقول على طريق التشبيه والبيان: بميزان حبر بارع كن بما أتى ... يجيء أرسطاطاليس صنعاً ويبدعا بحيث سما علياً النجابة واضعاً ... عروضاً حكت روضاً زها متنوعا يظل به من يهتدي الحسن مولعاً ... ومن لايحسن يهتدي متولعا كأن بها الحسن من تلك بدرة ... بدا من سما مجد الخليل مشعشعا ومن تأسيس الخليل بناء كتاب العين الذي يحضر فيه لغة أمة من الأمم، ثم من إمداد سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه المشهور، ومن براعة ذكائه: ما ذكر في كتاب المقتبس أنه كان للناس رجل يعطي دواء لظلمة العين ينتفع الناس به، فمات، فاحتيج إلى ذلك الدواء، ولم يعرف ما هو، فذكر ذلك للخليل فقال: اله نسخة معروفة؟ قالوا: لم نجد نسخته. قال: فهل كانت له آنية يعمل فيها؟ قالوا: نعم إناء كان يجمع فيه الأخلاط، قال: فأتوني به، فجاءوه به، فجعل يتشممه ويخرج نوعاً نوعاً حتى ذكر خمسة عشر نوعاً، ثم عمله وأعطاه الناس فشفوا به، ثم وجدت النسخة والأخلاط المذكورة فيها ستة عشر، لم يغفل إلا واحداً. قلت ومما يناسب هذا الفهم العظيم ما حكي عن حكيم، وذلك أنه عمي بعض الحكماء في بلاد الشام، ولم يدر ما سبب عماه حتى يعالجه بما يناسبه من أضداد العلة المفذهبة للبصر، فسمع بحكيم في بلاد الهند، فارتحل إليه، فلما قدم عليه عرض عليه ما أصاب عينيه، فنظر فيهما ذلك الحكيم، ثم قال له: العلة في ذهاب نور بصرك أنك بلت في يوم حار على حية ميتة في سبخة من الأرض، فطلع في عينيك بخارها، ثم استدعى بغلامه، فأتي بكحل، فكخل به عينيه، فأبصر في الحال، ثم رجع إلى بلاده فأراد أن يختبر صحة ما قاله الحكيم، فتتبع موضع الحياث حتى ظفر بحية فقتلها، ثم رمى بها في سبخة تشرق عليها الشمس، وتهب عليها الريح مدة من الزمان، ثم أتى فبال عليها فعمي في الحال، ثم قال لغلامه: الرحيل فرحل إلى ذلك الحكيم، وتنكر جهده حتى لا يعرفه، وقال لغلامه: اذا رفع المرود ليكحل به عيني فخذه من يده وضعه في فمي، فقال: نعم إن شاء الله، فلما وصل إليه قال له: انا رجل غريب وقد ذهب بصري، عسى من أجل الله تعالى أن تعالجه بما يرد

عليه نوره، فقال له: كأني قد رأيتك قبل هذا اليوم، فغالطه فاستدعى ذلك الحكيم بالدواء الذي كحله به أولاً، فلما وضع طرفي المرود فيه ورفعه إلى عينيه خطف غلامه المرود من يده ووضعه في فم سيده فطعمه وشمه، فعرف فيه تسعاً وتسعين نوعاً من الأدوية، وغرب عنه نوع منها تمام المائة لم يعرف، فعرف ذلك الحكيم، فسأله فأخبر بذلك الذي لم يدركه، فرجع إلى بلاده وجمع تلك الأدوية من العقاقير، واكتحل فعاد إليه بصره، فسبحان اللطيف الخبير، الذي هو على كل شيء قدير، مسبب الأسباب، وميسر الأمور الصعاب. رجعنا إلى ذكر الخليل، والخليل أول من جمع جميع الحروف في بيت واحد حيث قال: صف خلق جود كمثل الشمس إذ بزغت يخطي الضجيع بها بخلاء معطار وقال النضر بن شميل جاء رجل من أصحاب يونس، فسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكر، وأطال إلى أن انصرف الرجل، فعجبنا منه وعاتبناه، فقال لنا: ما كنتم أنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فإن قال لكم كذا؟ قلنا: كنا نقول كذا. قال: فيزيدكم كذا فلم يزل يعترض على قولنا إلى أن انقطعنا وأقبلنا نتفكر، فقال: ان المجيب إذا ابتدأ في الجواب قبح به أن يفكر بعد ذلك، ثم قال: ما أجبت بجواب قط إلا وأنا أعرف ما علي فيه، يعني من الاعتراضات والمؤاخذات. وقال بعض المؤرخين: كان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً حليماً وقوراً، وقال تلميذه النضر بن شميل: اقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال، قال ولقد سمعته يوماً يقول: اني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي، وكتب إليه سليمان بن حبيب بن المهلب يستدعي حضوره، وكان في ولايته أرض فارس والأهواز، فكتب إليه الخليل جوابه: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غيرأني لست ذا مال شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال والرزق عن قمر لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال وقيل: اجتمع الخليل وابن المقنع ليلة يتحدثان إلى الغداة، فلما تفرقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقنع؟ فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقنع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه. وللخليل عدة تصانيف. وقال الخليل

كان يتردد إلى شخص يتعلم العروض، وهو بعيد الفهم، فأقام مدة، ولم يعلق على خاطره شيء منه، فقلت له يوماً: قطع هذا البيت: إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فشرع في تقطعيه على قدر معرفته، ثم نهض ولم يجىء بعد إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته في ذلك البيت مع بعد فهمه. ويقال إن أبا الخليل أول من سمي بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذكره صاحب كتاب المقتبس نقلاً عن أحمد بن أبي خيثمة، ومن النظم المنسوب إلى الخليل قوله: وما هي إلا ليلة تم يومها ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر مطايا يقربن الجديد إلى البلى ... ويدنين أرحال الكرام إلى القبر ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر وقوله: ألا ينهاك شيبك عن صباكا ... ويترك ما أضلك من هواكا أترجو أن يعطيك قلب سلمى ... وتزعم أن قلبك قد عصاك وغير ذلك من الأشعار التي يطول ذكرها، وكان كثيراً ما ينشد قول الأخطل: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال وسأل الأخفش الخليل: لم سميت بحر الطويل طويلاً؟ قال: لأنه تمت أجزاؤه. قال فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط على يدي الطويل. قال فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه. قال فالوافر؟ قال: لوفورالأجزاء وتداً بوتد. قال فالكامل؟ قال لأن فيه ثلاثين حركة، لم يجتمع في غيره. قال فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. قال فالرمل؟ قال: لأنه يشبه رمل الحصير بضم بعضه إلى بعض. قال فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب شبه هزج الصوت. قال فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان. قال فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته قال فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات. قال فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من الشعر لقلته. قال فالمضارع؟ قال لأنه ضارع المقتضب. قال والمجتث؟ قال: لأنه اجتث أي قطع من طول دائرته. قال فالمتقارب؟ قال لتقارب أجزائه، وإنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً. وقيل: لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو، فجلس في حلقته، ثم

سنة إحدى وسبعين ومائة

انصرف ولم ينطق، فقيل له: ما منعك؟ قال: نظرت فإذا هو رائس من خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد فلن أكلمه. سنة إحدى وسبعين ومائة فيها توفي أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري الذي روى عن نافع، كان محدثاً صالحاً، قلت وهو الذي وعظ هارون الرشيد، وهو في السعي على الصفا، فقال له: يا هارون، قال: لبيك يا عم، قال: انظر إليهم هل تحصيهم يعني الحجيج؟ فقال: ومن يحصيهم؟ قال: اعلم أن كلاً منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت مسؤول عنهم كلهم، ثم قرعه بكلام قال في آخره: والله إن الرجل يسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف من يسرف قي أموال المسلمين؟ وسمي العمري لانتسابه إلى عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ممن واجه الرشيد بالموعظة الغليظة البالغة، وكذلك الفضيل بن عياض رضي الله عنه، وقد ذكرت موعظته البالغة الدامغة في كتابي روض الرياحين، وممن وعظه أيضاً ابن السماك وبهلول المجنون، رضي الله عنهم. وفي السنة المذكورة توفي أبو دلامة الشاعر المشهور، وكان عبداً حبشياً فصيحاً صاحب نوادر ومزاح، وقد تقدم شيء من ذلك. سنة اثنتين وسبعين ومائة فيها توفي الإمام أبو محمد سليمان بن بلال المدني مولى آل أبي بكر الصديق، كان حسن الهيئة عاقلاً مفتياً بالمدينة. وفيها توفي عم المنصور الفضل بن صالح بن علي أمير دمشق، وهو الذي أنشأ القبة العربية التي بجامع دمشق، وتعرف بقبة المال. وفيها توفي صاحب الأندلس أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، فر إلى المغرب عند زوال ولايتهم، فقامت معه اليمانية، فتولى الأندلس بعد أن هزم صاحبها يوسف، وولي بعده ولده هشام، وبقيت الأندلس لعقبه إلى حد الأربع مائة. قلت والمراد باليمانية من دخل بلاد المغرب من عرب اليمن، وقد تقدم ذكر سبب دخول من دخل منهم فيها مستنجداً بهم للنصرة.

سنة ثلاث وسبعين ومائة

وفيها أو في سنة ست وسبعين توفي حادي قلوب المشتاقين القارىء الواعظ تحفة الزاهدين وطرفة العابدين الصالح الولي صالح المري البصري، روى عن الحسن وجماعة، وكان شديد الخوف من الله، اذا وعظ كأنه ثكلى. سنة ثلاث وسبعين ومائة فيها توفي الإمام أبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة، روى عن سماك بن حرب وطبقته، وكان أحد الحفاظ الأعلام. وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي الموال المدني، مولى آل علي، رضي الله عنه، روى عن أبي جعفر الباقر وطائفة، وضربه المنصور على أن يدله على محمد بن عبد الله بن حسن، فلم يدله، وكان من شيعته. وفيها توفي جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، روى عن نافع والزهري، وكان ثقة كثير الحديث. سنة أربع وسبعين ومائة فيها توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الحضرمي، روى عن الأعرج وعطاء بن أبي رباح وخلق كثير، وقد ولي قضاء مصر في خلافة المنصور. سنة خمس وسبعين ومائة فيها توفي شيخ الديار المصرية وعالمها، سامي المجد والعلا بالعلم والسخاء، الذي سما بها الملا، ابو الحارث ذو المجد والسعد، المشهور بالليث بن سعد الفهمي مولاهم وأصله فارسي أصفهاني، روى عن عطاء وابن أبي مليكة ونافع وخلق كثير، توفي يوم الجمعة يوم النصف من شعبان، وله إحدى وثمانون سنة، قال الشافعي الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك، لكن الحظوة لمالك، وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط، وكان من الكرماء الأجواد، روي أنه كان لا يتغدى كل يوم حتى يطعم ثلاث مائة وستين مسكيناً. وحكى بعضهم أنه ولي القضاء بمصر، وأن الإمام مالكاً أهدى إليه صينية فيها تمر،

سنة ست وسبعين ومائة

فأعادها مملوءة ذهباً، وأنه كان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير ليحصل لكل من أكل من أصحابه كثير، وكانت وفاته يوم الخميس منتصف شعبان، ودفن يوم الجمعة بمصر في القرافة الصغرى، وقبره أحد المزارات رحمة الله عليه، وقد أراده المنصور لإمرة مصر، فامتنع. سنة ست وسبعين ومائة فيها فتحت مدينة ريسة من أرض الروم، واشتد البلاء والقتل بين القيسية واليمانية في الشام، واستمرت بينهم إحن وأحقاد ودماء يهيجون لأجلها في كل وقت إلى اليوم. وفي السنة المذكورة توفي قاضي بغداد الرشيد أبو عبد الله سعيد بن عبد الرحمن الجمحي المدني، وكان من أولي العلم والصلاح، وتوفي أبو عوانة الوضاح مولى يزيد بن عطاء الواسطي البزار أحد الحفاظ الأعلام. وفيها توفي حماد بن أبي حنيفة، كان على مذهب أبيه، وكان من أهل الصلاح والخير، وكان ابنه إسماعيل قاضي البصرة، فعزل عنها بالقاضي يحيى بن أكثم، فلما وصل يحيى إلى البصرة فسافر إسماعيل نشيعه القاضي يحيى المذكور. وحكى إسماعيل المذكور قال: كان لنا جار طحان رافضي، وكان له بغلان، سمي أحدهما قاتله الله أبا بكر والآخر عمر، فرمح ذات ليلة أحد البغلين فقتله، فأخبر جدي أبو حنيفة به، فقال: انظروا فإني أخال أن البغل الذي سماه عمر هو الذي رمحه، فنظروا، فكان كما قال. سنة سبع وسبعين ومائة وفيها توفي الولي الكبير السيد الشهير عبد الواحد بن زيد البصري الذي قيل إنه صل الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة. وقد ذكرت في كتاب روض الرياحين بعض حكاياته المشتملة على كراماته ومحاسن صفاته.

سنة ثمان وسبعين ومائة

وفيها توفي شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي أحد الأعلام وله نيف وثمانون سنة. سنة ثمان وسبعين ومائة فيها توفي جعفر بن سليمان الضبعي وكان أحد علماء البصرة، روى عن أبي عمران الجوني وطائفة، وأخذ عنه الشيخ عبد الرزاق اليماني. سنة تسع وسبعين ومائة فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي قالت أخته المسماة بالفارعة لما قتل: أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف ولا الذخر إلا كل جردا هلدم ... معاودة للكد بين صفوف كأنك لم تشهد هناك ولم تقم ... مقاماً على الأعداء غير خفيف حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لا يرضى الندى بحليف فقدناك فقدان الشباب وليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجا لعدو أو ملجأ لضعيف ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بحلى برجوف ألا يا لقومي للنوأئب والردى ... ودهر ملج بالكرام عنيف وللبدر من بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس لما أزمعت بكسوف هو الليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف ألا قاتل الله الحثا حيث أضمرت ... فتى كان بالمعروف غير عنوف فإن يك أراده يزيد بن مرثد ... فرب رجوف لفها برجوف عليه سلام الله وقفا فإنني ... أرى المرت وقاعاً بكل شريف وأول هذه المرثية: بتل نباثي رسم قبر كأنه ... على جبل فوق الجبال منيف تضمن مجداً عد مكياً وسؤددا ... وهمة مقدام ورأي خصيف

والعد مكي بالعين والدال المهملتين: المديم، ولها فيه مراثي كثيرة، قالوا: وكان يوم المصاف ينشد: أنا الوليد بن الطريف الشاري ... قسورة لا يصطلي بناري ويقال إنه لما انكسر جيشه وانهزم، تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة، فقتله وأخذ رأسه، ولما علمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد، فقال يزيد: دعوها، ثم خرج فضرب بالرمح فرسها. وقال أعرابي: عرب الله عليك، فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت، والخابور نهر معروف يصب في الفرات، وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها، وطريف بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الراء المثناة من تحت وبعدها فاء، وتل نباثي معروف مضاف إلى نباتي بضم النون وبعدها موحدة وبعد الألف مثلثة مفتوحه في برية الموصل والحثا في قولها ألا قاتل الله الحثا جمع حثية وقولها: فتى لا يريد الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من فتى وسيوف قلت هذا البيت ظاهرة التناقض، فإن القائل يقول إن حصول المال بالقنا والسيوف ظاهره القتل والقتال ونهب الأموال، وهذا مناف للتقوى والجواب فيما يظهر والله تعالى أعلم: ان هذا لا تناقض فيه على مذهب الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنب ويرون الخروج عليهم، والدليل على كونه منهم قوله أنا الوليد بن الطريف الشاري، فنسب نفسه إلى الشراة، وهم الخوارج المتسمون بهذا الاسم بكونهم بزعمهم باعوا نفوسهم بالجنة، وقد أبدعت أخته في شعرها المذكور، وبلغت في بلاغته نهاية من النظم المشكور، وما سمعت من أشعار النساء أبلغ من شعرها وشعر الخنساء، كلتاهما رثت أخاها، ومن شعر الخنساء البليغ فيه: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار أبدعت في التشبيه وناسبت بين طرفي البيت، لأنها لما جعلته هادي الهداة شبهته بدليل على دليل، وهما الجبل والنار، وأخت ابن طريف أيضاً أبدعت في مواضع من هذه الأبيات ومنها: تبكيتها لشجر الخابور، ومعاتبتها له على عدم تساقط ورقه لاحتراقه بنار الحزن على قتل أخيه الوليد المذكور، فاستعارت استعارة بالغة مشعرة بكون الكون جديراً بأن يحزن ويأسى على فقد من اتصف بالأوصاف الجميلة الثناء حيث قالت: أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف

وقال بعضهم: أظنه في بلد نصيبين، وهو موضع الوقعة والشاري بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء واحدة، الشراة بضم الشين وهم الخوارج سموا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة. وكان الوليد المذكور أحد الشجعان الأبطال، وكان رأس الخوارج، خرج في خلافة هارون الرشيد وبغى وحشد جموعاً كثيرة، فأرسل إليه هارون جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فأغروا به الرشيد، وقالوا إنه يراعيه لأجل الرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب، وقال: لو وجهت أحد الخدام أو قال أصغر الخدم لقام بأكثر ما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين، فالتقيا فظهر على الوليد فقتله، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة في شهر رمضان، وهي وقعة مشهورة مسطورة في التاريخ. وفي السنة المذكورة توفي إمام دار الهجرة وشيخ الأئمة الجلة أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، نسبة إلى بطن من حمير، يقال له ذو أصبح، ولد سنة أربع وتسعين، وسمع من نافع والزهري وطبقتهما وأخذ القراءة عرضاً عن نافع بن أبي نعيم، قال الإمام الشافعي: اذا ذكر العلماء فلمالك النجم. وكان مالك طويلاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية، وقيل تبلغ لحيته صدره، وقيل كان أشقر أزرق العينين يلبس الثياب العدنية الرفيعة البيض. وقال أشهب: كان مالك إذا أعتم جعل منها تحت ذقنه، ويسدل طرفيها بين كتفيه، وقال خالد بن خداش: رأيت على مالك طيلساناً وثياباً مروية جياداً، قيل: وكان يكره خلق الثياب، يعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه. وقال ابن عيينة لما بلغه موت مالك: ما ترك على وجه الأرض مثله. وقال أبو مصعب: سمعتعت مالكاً يقول: ما أفنيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وعنه أنه قال: قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني. قلت أخبر رضي الله عنه بنعمة الله تعالى عليه، وقد يقع مثل هذه الغيرة وقد والحمد لله وقع لي ذلك، فبعض شيوخي التمس مني أن يقرأ علي بعض العلوم وبعضهم سألني عن بعض الأحكام الفقهية، وبعضهم رجع عن بعض ما أفتى به لما وقف على ما أفتيت به

مخالفاً لفتياه، وبعضهم جاء بمسائل عديدة من بلاد بعيدة اشكلت عليه، وسالني أن أنظرفيها رجاء وضوحها وزوال إشكالها، وهو شيخنا وسيدنا وبركتنا الإمام العالم العامل العابد، الخاشع الصالح الورع الزاهد حليف المحراب وبركة الأصحاب، بل بركة الزمن. ونور اليمن، جمال الدين محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة وبالموحدة المثناتين من تحت المشهور بالنصال، قدس الله روحه ونور ضريحه، وزاده من الأنعام والأفضال. وبعض شيوخي المتصدرين للقضاء والتدريس وغيرهما من الفضائل الشرعية والمناصب العلية، لما قرأت عليه كتاب الحاوي في الفقه قال بعد ما أكملته للحاضرين به اشهدوا على أنه شيخي فيه، وقال لي لقد استفدت منك فيه أكثر ما استفدت مني وهو الامام الفاضل، ذو المحاسن والفضائل والأوصاف الحميدة، الجميلة العديدة، القاضي نجم الدين الطبري، رحمه الله تعالى. وبعض الفضلاء النجباء العلماء الألباء قال: لي ما نتكلم في فن إلا حسب سامعك أن ذلك فنك دون غيره، وبعضهم كان يسميني الفرضي لكونه حضر عندنا يوماً في حساب الفرائض مع أن اشتغالي بعلم الفرائض كان أقل من اشتغالي بغيره من العلوم، واشتغالي بالعلوم كان أقل من نصف عشر اشتغال غيري من العلماء، وكنت آتي جماعة من شيوخ الفقراء والفقهاء والصلحاء وأتبرك بهم، فلم يمض كثير من الزمان حتى جاءوني زائرين، وقد كانوا من العلماء المقتدين بهم والشيوخ المشار إليهم، وأنا إذ ذلك أمي لا أقرأ ولا أكتب، والحمد لله ذو الجلال والإكرام على ما عود فضله من الجميل والأنعام. رجعنا إلى ذكر الإمام مالك، قال ابن وهب: سمعت منادياً ينادي بالمدينة ألا لايفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب، وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس صدر فراشه، وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: احب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائماً أو مستعجلاً، ويقول: احب أن أفقههم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله: عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله

وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله: سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك ... من المزن مرعاد السحائب مبراق إمام موطأه الذي طبقت به ... أقاليم في الدنيا فساح وآفاق أقام به شرع النبي محمد ... له حذر من أن يضام وإشفاق له مسند عال صحيح وهيبة ... فللكل منه حين يرويه إطراق وأصحابه بالصدق تعلم كلهم ... إنهم إن أنت سألت حذاق

سنة ثمانين ومائة

ولو لم يكن إلا ابن ادريس وحده ... كفاه على أن السعادة أرزاق وفي السنة المذكورة توفي خالد بن عبد الله الواسطي الحافظ المعروف بالطحان، قال إسحاق الأزرق: ما أدركت أفضل منه، وقال أحمد كان ثقة صالحاً، بلغني أنه اشترى نفسه من الله ثلاث مرات. وفيها توفي سلام بن سلم، احد الحفاظ الأثبات، وفي رمضان منها توفي امام أهل البصرة أبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم الأزدي مولاهم، سمع أبا عمران الجوني وأنس بن سيرين وطبقتهما. وقد تقدم قول عبد الرحمن بن مهدي: ائمة الناس أربعة: الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز وحماد بن زيد بالبصرة والأوزاعي بالشام. وقال يحيى بن يحيى التميمي: ما رأيت شيخاً أحفظ من حماد بن زيد، وقال أحمد العجلي حماد بن زيد ثقة، كان حديثه أربعة آلاف حديث يحفظها، ولم يكن له كتاب. وقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد. سنة ثمانين ومائة فيها كانت الزلزلة العظمى التي سقط منها رأس منارة الاسكندرية، وفيها نزل الرشيد الرقة، واتخذها وطناً. وفيها توفي حفمى بن سليمان قارىء الكوفة وتلميذ عاصم، وقد حدث عن علقمة بن مرثد وجماعة، وعاش تسعين سنة، رحمة الله عليه. وفيها توفي محدث البصرة بعد حماد بن زيد عبد الوارث بن سعيد الحافظ، اخذ عن أيوب السختياني وطبقته، رحمة الله عليهم. وفيها توفي مبارك بن سعيد، اخو سفيان الثوري، وفقيه مكة: ابو خالد مسلم بن خالد الزنجي أحد شيوخ الإمام الشافعي، عاش ثمانين سنة، روى عن ابن أبي مليكة والزهري وطائفة، قال أحمد بن محمد الأزرقي كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، يلقب بالزنجي في صغره، وكان أشقر. وفيها توفيت الولية الكبيرة العارفة بالله الشهيرة ذات المقامات العلية والأحوال السنية:

سنة احدى وثمانين ومائة

رابعة العدوية البصرية، على خلاف ما تقدم في سنة خمس وثلاثين ومائة، وذكر شيء مما يتعلق بفضلها. سنة احدى وثمانين ومائة فيها توفي الإمام محدث الشام ومفتي أهل حمص إسماعيل بن عياش بالشين المعجمة العنسي قال يزيد بن هارون: ما رأيت شامياً ولا عراقياً أحفظ من إسماعيل بن عياش، ما أدري ما الثوري، وقال أبو اليمان: كان إسماعيل جارنا وكان يحيي الليل كله. وقال داود بن عمرو: ما حدثنا إسماعيل إلا من حفظ، وكان يحفظ عشرين ألف أو قال أكثر من عشرين ألف حديث. وفيها توفي قاضي مصر أبو معاوية، ومفضل بن فضالة القتباني كان زاهداً ورعاً قانتاً مجاب الدعوة عاش أربعاً وسبعين سنة. وفيها في شهر رمضان توفي الإمام العالم العامل مقر المحاسن والفضائل أبوعبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد العابد ذو المناقب العديدة والسيرة الحميدة، تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس، وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع محباً للخلوة شديد التورع، كذلك كان أبوه ورعاً. يحكى عنه أنه كان يعمل في بستان لمولاه، اقام فيه زماناً طويلاً، ثم إن مولاه جاءه يوماً وقال له: اريد رماناً حلواً، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً وكسره فوجده حامضاً، فحرد عليه وقال: اكلت الحلو وأحضرت لي الحامض، هات حلواً، فمضى وقطع من شجرة آخرى، فلما كسره وجده حامضاً، فاشتد حرده عليه، ثم كذلك مرة ثالثة، فقال له بعد ذلك: انت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا فقال: وكيف ذلك؟ فقال: لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولم لا تأكل؟ فقال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه وزوجه ابنته، قيل إن عبد الله بن المبارك من تلك الابنة فظهرت عليه بركة أبيه. قلت هكذا ذكر بعض أصحاب التواريخ، والذي كنا نعرفه، وذكرته في بعض كتبي أن سبب زواجه إياها: ان سيده استشاره، وكانت له بنت قد خطبت إليه، ورغب فيها كثير من الناس، فقال له: يا مبارك، من ترى أن تزوجه هذه البنية؟ فقال له: يا سيدي الناس مختلفون في الأغراض فأما أهل الجاهلية فكانوا يزوجون للحسب، وأما اليهود فيزوجون

للمال، وأما النصارى فيزوجون للجمال، وأما هذه الأمة فيزوجون للدين، يعني الأخيارمنهم الدينين قلت والى هذه الأربع الخصال أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله " تنكح المرأة لأربع " وذكرها ثم قال: " فاظفر بذات الدين " الحديث الصحيح، فلما سمع منه ذلك أعجبه عقله، فقال لأمها: والله ما لها زوج غيره، فزوجها منه، فجاءت له بهذه الدرة الفاخرة المشتملة على نفائس المحاسن الباطنة والظاهرة، وفي شيء من مناقبه المشتملة على فضائله ومحاسنه في ظاهره وباطنه، كتاب مستقل لبعض العلماء، وإلى وصفه الحسن أشار القائل وصدق وأحسن: إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار عنها نورها وجمالها وقد تتبع أصحابه ما ظهر لهم من مناقبه، فبلغت خمساً وعشرين من العلوم والصلاح والكرم والشجاعة في سبيل الله وحسن الخلق والعبادة والنجابة والفصاحة وحسن اللفظ في النثر والنظم. ومن شجاعته وصلاح سريرته ما روي عنه: خرج مرةً في بعض الغزوات، فبرز بعض العلوج ودعا المسلمين إلى المبارزة، فخرج إليه جماعة من المسلمين واحد بعد واحد، فقتل الجميع، فبرز إليه إنسان مثلهم، فقتل ذلك العلج، قال الراوي: فدنوت منه وتأملته، فإذا هو ابن المبارك، رضي الله عنه. ومن كرمه وشفقته على إخوانه وحسن صحبته ما اشتهر عنه أنه كان إذا أراد الحج يأتيه اخوانه، ويكلمونه في الصحبة، فينعم لهم، ويقول هاتوا ما أعددتم لذلك من النفقة، فاذا أتوه بها قبضها وكتب على كل نفقة اسم صاحبها، وأقفل على الجميع في صندوق، ثم يحج بهم وينفق عليهم ذهاباً وإياباً من أطيب الأطعمة، ويشتري لهم الهدية من مكة والمدينة، زادهما الله شرفاً، ثم إذا وصل إلى الموطن صنع لهم طعاماً نفيساً، ومد سماطاً عظيماً، قيل عد ما في سماط له من جفان الفالوذج وحده فبلغت خمساً وعشرين جفنة، ثم يناديهم من شاء الله من الفقراء والصلحاء فإذا فرغوا من. أكل الطعام جمع إخوانه الذين حجوا معه، فكساهم لباساً جديداً، ثم استدعى بالصندوق ففتحه، ورد إلى كل واحد منهم نفقته التي عليها اسمه. قلت وهذا مختصر ما روي في ذلك، معنى القصة إن لم يكن لفظ جميعه والفالوذج بالفاء والذال المعجمة وهو نوع من الحلواء ويحتمل أنه الخبيصة قال في الصحاح وقيل الأعرابي أتعرف الفالوذج قال اصفر رعديد. وذكر الجوهري أن الرعديد الرخص ويقال ذلك للمرأة الرخصة ويقال أيضاً للجبان

سنة اثنتين وثمانين ومائة

ومنه قول المتنبي: إن ترمني نكبات الدهر عن كثب ... ترام امرأًغير رعديد ولا نكس والرعديد بكسر الراء المهملة وسكون العين المهملة وكسر الدال والمثناة من تحت بين الدالين المهملتين والكثب بفتح الكاف والمثلثة وفي آخره موحدة القرب والنكس بكسر النون: الرجل الضعيف قلت ويحتمل أنهم أرادوا ضعيف الجسم ويحتمل ضعيف القلب. وأما ما ورد في الحديث: " أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف " فالأصح عند أئمة الحديث أن المراد به قوة القلب كما أن الغني المطلوب في الحديث هو غني النفس عندهم. وقد ورد عن بعض السلف أن الفالوذج لباب الحنطة يطبخ بالعسل، وقد اقتصرت على هذا القدر من محاسن ابن المبارك البحر، وعمره ثلاث وستون سنة، وسمع من هشام بن عروة وحميد الطويل ومن في طبقتهما، وصنف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث. قال أحمد بن حنبل لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وعن شعيب بن حرب: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه، وقال غيره: كانت له تجارة واسعة، وكان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم، وكان يحج سنة ويغزو سنة. وروي عن الإمام سفيان الثوري أنه قال: رددت أن عمري كله بثلاثة أيام من أيام ابن المبارك، وموته قيل في هيت عند انصرافه من الغزو في شهر رمضان من السنة المذكورة، وقيل توفي في بعض البراري سائحاً مختاراً للعزلة والخمول بعد الشهرة والجاه العظيم الذي شرحه يطول، والله أعلم بحقيقة الأمور. سنة اثنتين وثمانين ومائة فيها سملت الروم عيني طاغيتهم قسطنطين، وملكوا عليهم أمه وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الكوفي الحافظ، وفيها توفي عمار بن محمد الثوري الكوفي ابن أخت سفيان، قال ابن عرفة: وكان لا يضحك، وكنا لا نشك أنه من الأبدال. وفيها على الأصح توفي عالم أهل الكوفة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الحافظ، عاش

ثلاثا وستين سنة، قال ابن المديني: انتهى العلم في زمانه إليه ما كان بالكوفة بعد الثوري أثبت منه. وفيها توفي الحافظ اللبيب يزيد بن زريع، قال يحيى القطان: ما كان هنا أثبت منه، وقال أحمد بن حنبل: كان ريحانة بالبصرة، وقال نصر بن علي الجهضمي: رأيته في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: دخلت الجنة. قلت: بماذا؟ قال: بكثرة الصلاة. وفيها توفي أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم الكوفي قاضي القضاة، وهو أول من دعي بذلك، تفقه على الإمام أبي حنيفة، وسمع من عطاء بن السائب وطبقته. قال يحيى بن معين: كان القاضي أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء كل يوم مائتي ركعة. وقال يحيى بن يحيى الذيسابوري: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، سمع جماعة من كبار الأئمة، وجالس محمد بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة، وكان الغالب عليه مذهبه، وخالفه في مواضع كثيرة، وروى عنه محمد بن الحسن الشيباني الحنفي والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون. وكان قد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي وابنه الهادي والرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويجله، وكان عنده حظياً مكيناً، وسأله الرشيد يوماً عن إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحده؟ قال أبو يوسف، فقلت: لا. فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك، ثم قال لي: من أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " وهذه شبهة فسقط الحد معها، فقال: وأي شبهة في المعاينة؟ قلت ليس يوجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحدود لا تكون بالعلم، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، فسجد مرة آخرى، وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية ممن شوهد منه ذلك، وهدية من أمه وجماعته، وصار ذلك أصلاً للنعمة، ولزمت الدار، فصار هذا يستفتيني وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى حتى قلدني القضاء. قال ابن خلكان وهذا يخالف ما نقلوا: انه ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء والله أعلم، انتهى كلام ابن خلكان. قلت وقول أبي يوسف وليس لأحد أخذ حقه بعلمه غير مسلم، بل إذا كان له حق على أحد، ولم يكن له من يشهد بذلك، وظفر بماله فله أن يأخذ قدر حقه، ولو قال وليس للقاضي أن يقضي في حدود الله بعلمه، كان صواباً.

قال هو أول من نشرعلم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وقال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة فأجبته فيها، فقال لي: من أين لك هذا؟ فقلت: من حديثك الذي حدثتنا به أنت، ثم ذكر له الحديث، فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ من هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله إلا الآن. وذكر بعضهم أنه كان يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أول علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف، رحمه الله. وقال حماد بن أبي حنيفة: رأيت أبا حنيفة يوماً، وعن يمينه أبو يوسف، وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولاً إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر شيئاً إلا أفسده أبو يوسف، الى وقت الظهر. فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده، فضرب بها فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رئاسة ببلدة فيها أبو يوسف، وقضى لأبي يوسف على زفر. وقيل كان يجلس إلى أبي يوسف رجل يطيل الصمت، فقال أبو يوسف ألا تتكلم؟ فقال بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: اذا غابت الشمس، فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف، وقال أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثم تمثل وأنشد: عجبت لإرزاء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للغبي وانما ... صحيفة لب الأمر أن يتكلما ومن كلام أبي يوسف: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة. وقيل كان يقول أبو يوسف: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك كنت من أعطاه البعض على غرر. وقال بشر بن الوليد الكندي: قال لي القاضي أبو يوسف بينما أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، وإذا داق يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي إزاري وخرجت فإذا رسول الرشيد. فقال أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا فلان هذا وقت كما ترى، ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين قد دعاني لأمر من الأمور، فإن أمكنك أن تدفع ذلك إلى غد، فلعله يحدث له رأي، فقال ما إلى ذلك سبيل قلت: كيف كان السبب؟ قال: خرج إلي مسرور الخادم، فأمرني أن آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: تأذن لي أن أصب علي ماء؟ وأتحفظ، فإن كان لأمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، لهان رزق الله العافية فلن يضرني، فأذن، فدخلت

فلبست ثياباً جدداً، وتطيبت بما أمكن من الطيب، ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا دار أمير المؤمنين هارون الرشيد، فإذا هو واقف، فقال الرسول: قد جئت به، فقلت للمسرور: يا أبا هاشم، افتدري لم طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت: ومن؟ قال: ما عندهما ثالث، ثم قال لي مر فإذا صرت في الصحن فإنه في الرواق، وهو جالس، فحرك رجلك، فإنه سيسألك، فقل: انا فلان. قال أبو يوسف: فجئت ففعلت ذلك، فقال: من هذا؟ فقلت يعقوب، قال: ادخل، فدخلت، وهوجالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت عليه فرد علي السلام، قال: اظننت روعناك فقلت اي والله، كذلك من خلفي، فقال: اجلس فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إلي وقال: اتدري يا يعقوب لم دعوتك؟ قلت: لا، قال دعوتك لأشهدك على هذا أن عنده جارية سألته أن يهبها إلي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، ووالله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال أبو يوسف: فالتفت إلى عيسى، فقلت: وما بلغ الله جارية تمنعها أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة، قال: فقال: لي: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي، قلت: وما في هذا من الجواب؟ قال: ان علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فالتفت الي الرشيد، فقال: هل له من ذلك من مخرج؟ قلت: نعم قال: وما هو؟ قلت: يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهب ولم يبع، قال عيسى ويجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال: فأشهدك أني قد وهبت ته نصفها وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار، ثم قال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها. فقال الرشيد: يا يعقوب بقيت واحدة، قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها ليلتي هذه إني لأظن أن نفسي ستخرج، فقلت يا أمير المؤمنين، تعتقها وتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ، فقال: اني قد أعتقتها فمن يزوجنيها؟ افقلت: انا فدعي بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله تعالى ثم زوجته إياها على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها، ثم قال لي يا يعقوب انصرف ورفع رأسه إلى مسرور، فقال يا مسرور، قال: لبيك، فقال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وكذا وكذا من الثياب، فحمل ذلك معي، قال بشر بن الوليد: فالتفت إلي أبي يوسف وقال، هل رأيت بأسا فيما فعلت؟ فقلت: لا. قال خذ حقك منها، قلت: وما حقي؟ قال: العشر، قال بشر: فشكرته ودعوت له وذهبت لأقوم، فاذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف إن بنتك تقرئك السلام وتقول لك: والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي قد عرفته، وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما احتاج إليه. فقال: رديه ووالله لا أقبلها أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا؟ قال بشر فلم نزل نتلطف

به أنا وعمومتي حتى قبلها، وأمر لي منها بألف دينار، وقال أبو عبد الله اليوسفي بأن أم جعفر زبيدة ابنة جعفر زوجة الرشيد كتبت إلى أبي يوسف ما ترى في كذا؟ وأحبا الأشياء إلى أن يكون الحق فيه كذا فأفناها بما أحبت، فبعثت بجفن فضة فيه حقان مطبقان في كل واحد لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير، فقال له جليس له: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " فقال أبو يوسف ذ لك حين كانت الهدايا بالتمر واللبن. وقال يحيى بن معين كنت عند أبي يوسف القاضي، وعنده جماعة من أصحاب الحديث، وغيرهم، فوافته هدية أم جعفر احتوت على تخوت ديبقي ومصمت وشرب وطيب وثماثيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أتته هدية وعنمه قوم جلوس فهم شركاؤه فيها ". فسمعه أبو يوسف، فقال لي: اتعرف ذلك إنما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهدايا يومئذ الاقط والتمر والزبيب ولم يكن الهدايا ما ترون، يا غلام أمثل إلى الخزائن. وذكر بعضهم أن قاضي المبارك بلدة بين بغداد وواسط على شاطىء دجلة بلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحرافة فقال عبد الرحمن القاضي لأهل المبارك: اثبتوا علي عند أميرالممؤمنين وعند القاضي أبي بوسف، فأبوا عليه ذلك، فلبس ثيابه: وقلنسوة طويلة وطيلساناً أسود وجاء إلى الشريعة، فلما أقبلت الحرافة رفع صوته وقال: يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضينا، قاضي صدق، ثم مضى إلى شريعة أخرى، فقال مثل مقالته الأول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب، هذا شرقاض في الأرض في موضغ ص لا يثني عليه إلا رجل واحد، فقال له أبو يوسف: وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه، قال: فضحك هارون وقال هذا أظرف الناس، هذا لا يعزل أبداً وكان الرشيد إذا ذكره يقول: هذا لا يعزل أبداً. وقال محمد بن سماعة سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أؤخر في حكم حكمت فيه بين اثنين، من عبادك تعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله من يعرف أمرك، لا يخرج عن الحق وهو يعلمه. قال ابن خلكان: وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه، قال:، وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه ألفاظاً عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون ومحمد بن إسماعيل البخاري وهارون بن يزيد وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم، ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، والله أعلم بحالة، وأخباره كثيرة، عاش قريباً من سبعين سنة رحمة الله عليه. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، توفي يونس بن حبيب النحوي، كان مولى، قيل عاش مائة سنة وسنتين، وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وحماد بن أبي سلمة، وكان النحو أغلب عليه، وسمع من العرب، وروى سيبويه عنه كثير أو سمع منه الكسائي والفراء وكان من الطبقة الخامسة في الأدب. قال أبو عبيد معمربن المثنى: اختلفت إلى يونس أربعين سنة، قال أبو زيد: جلست إلى يونس بن حبيب عشر سنين، وجلس إليه خلف الأحمر عشرين سنة، وله عدة تصانيف. وقال يونس: والعرب تقول فرقة الأحباب سقم الألباب وأنشد: " من أتته هدية وعنمه قوم جلوس فهم شركاؤه فيها ". فسمعه أبو يوسف، فقال لي: اتعرف ذلك إنما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهدايا يومئذ الاقط والتمر والزبيب ولم يكن الهدايا ما ترون، يا غلام أمثل إلى الخزائن. وذكر بعضهم أن قاضي المبارك بلدة بين بغداد وواسط على شاطىء دجلة بلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحرافة فقال عبد الرحمن القاضي لأهل المبارك: اثبتوا علي عند أميرالممؤمنين وعند القاضي أبي بوسف، فأبوا عليه ذلك، فلبس ثيابه: وقلنسوة طويلة وطيلساناً أسود وجاء إلى الشريعة، فلما أقبلت الحرافة رفع صوته وقال: يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضينا، قاضي صدق، ثم مضى إلى شريعة أخرى، فقال مثل مقالته الأول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب، هذا شرقاض في الأرض في موضغ ص لا يثني عليه إلا رجل واحد، فقال له أبو يوسف: وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه، قال: فضحك هارون وقال هذا أظرف الناس، هذا لا يعزل أبداً وكان الرشيد إذا ذكره يقول: هذا لا يعزل أبداً. وقال محمد بن سماعة سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أؤخر في حكم حكمت فيه بين اثنين، من عبادك تعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله من يعرف أمرك، لا يخرج عن الحق وهو يعلمه. قال ابن خلكان: وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه، قال:، وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه ألفاظاً عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون

ومحمد بن إسماعيل البخاري وهارون بن يزيد وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم، ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، والله أعلم بحالة، وأخباره كثيرة، عاش قريباً من سبعين سنة رحمة الله عليه. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، توفي يونس بن حبيب النحوي، كان مولى، قيل عاش مائة سنة وسنتين، وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وحماد بن أبي سلمة، وكان النحو أغلب عليه، وسمع من العرب، وروى سيبويه عنه كثير أو سمع منه الكسائي والفراء وكان من الطبقة الخامسة في الأدب. قال أبو عبيد معمربن المثنى: اختلفت إلى يونس أربعين سنة، قال أبو زيد: جلست إلى يونس بن حبيب عشر سنين، وجلس إليه خلف الأحمر عشرين سنة، وله عدة تصانيف. وقال يونس: والعرب تقول فرقة الأحباب سقم الألباب وأنشد: ثنتان لوبكت الدماءعليهما ... عيناي حتى تؤذنا بذهاب لم تبلغا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب وقال أبو عبيد: قدم جعفر بن سلمان العباسي من عند المهدي الخليفة، فبعث الى يونس بن حبيب، فقال: اني وأمير المؤمنين اختلفنا في هذا البيت. والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار فما الليل والنهار؟ فقال: اليل الذي لا يعرف، والنهار الذي يعرف. وحكي عنه أنه قال: اصل المثل في قولهم الصيد كل الصيد في جوف القرى أنه خرج رجال يتصيدون، فاصطاد رجل منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون ما بين ضب وأرنب، واجتمعت نساؤهم، فجعلت المرأة تقول اصطاد زوجي كذا فيقول صاحبة الحمار: كل الصيد في جوف الفرى. سئل يونس المذكور عن مجير أم عامر في قول القائل: ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر أعد لها لما استجارت ببيته ... قراها من ألبان اللقاح البهازر فأشبعها حتى إذا ما تيظرت ... فرته بأنياب لها وأظافر

فقل لبني المعروف هذا جزاء من ... يجود لمعروف إلى غير شاكر فقال أصل ذلك أنه خرج فتيان من العرب إلى الصيد، فأثاروا ضبعاً، فانقلبت من أيديهم ودخلت خباء بعض الأعراب، فخرج إليهم فقال: والله لا تصلون إليها قد استجارت بي فخلوها، فلما انصرفوا عمد إلى خبز ولبن وسمن فثرده وقربه إليها، فأكلت حتى شبعت، وتمددت في جانب الخباء، فغلب الأعرابي النوم، فلما استثقل وثبت عليه فقرضت حلقه وبقرت بطنه وأكلت حشوته وخرجت تسعى، فجاء أخو الأعرابي فلما نظر إليه أنشأه يقول الأبيات المذكورات. وفيها وقيل في التي قبلها توفي مروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور من أهل اليمامة قدم بغداد، ومدح المهدي وهارون الرشيد، وهو من الشعراء المجيدين والفحول المقدمين. حكي أنه لما أنشد المهدي قصيدته التي يقول فيها: إليك قسمنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر بعد شهر نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... إليك ولكن أهنأ الخيرعاجله قال له المهدي: بحثت أنت كم في قصيدتك هذه من بيت؟ قال: سبعون بيتأ، قال: فلك سبعون ألف درهم، لا يتم إنشادك حتى يحضر المال، فأحضر المال وأنشد القصيدة وقبضه وانصرف. وذكره ابن المعتز في كتاب طبقات الشعراء فقال في حقه: وأجود ما قال مروان قصيدته الغراء اللامية، وهي التي فضل بها على شعراء زمانه، يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني، ويقال إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، ولم ينل أحد من الشعراء الماضين ما ناله مروان بشعره، فما ناله صرة واحدة ثلاث مائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد، انتهى كلام ابن المعتز، وقصيدته اللامية المذكورة تتناهى بستين بيتاً، ومن أبياتها: بنو مطريوم اللقاء كأنهم ... أسود لهم في بطن خفان أشبل هم يمنعون الجبار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول هم القوم إن قالوا أصابوا وان دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا وله في مدائح معن المذكور ومراثيه كل معنى بديع، وبعض ذلك مذكور في ترجمة

معن، في سنة احدى وخمسين ومائة. وحكى ابن المعتز أيضاً عن شراحيل بن معن بن زائدة أنه حج يحيى بن خالد البرمكي هو والقاضي أبو يوسف الحنفي متعادلين، فعرض رجل من بني أسد ليحيى بن خالد، فأنشده شعراً، فقال له يحيى: يا أخا بني أسد، اذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول، فأنشد أبيات مروان اللامية في معن بن زائدة، فقال له أبو يوسف وقد أعجبته جداً: من قائل هذه الأبيات يا أبا الفضل؟ فقال يحيى: قالها مروان يمتدح بها أبا هذا الفتى، قال شراحيل: وأشار إلي وأنا على فرس أسير تحت قبة هما فيها، فرمقني أبو يوسف بعينيه، وقال: من أنت يا فتى؟ حياك الله قلت: انا شراحيل بن معن بن زائدة الشيباني، قال شراحيل؟ فو الله ما أنت علي قط ساعة كانت أقر بعيني من تلك الساعة ارتياحأ وسروراً. ويحكى أن ولداً لمروان بن أبي حفصة المذكور دخل على شراحيل المذكور فأنشده: أيا شراحيل بن معن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب أعطى أبوك أبي مالاً فعاش به ... فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي ما حل أرضاً أبي ثاو أبوك بها ... إلا وأعطاه قنطاراً من الذهب قلت هكذا صواب هذا البيت، وإن كان بعض ألفاظه يخل وزنه، في الأصل المنقول منه: فأعطاه شراحيل قنطاراً من الذهب. ومما يقارب هذه الحكاية، ما روي: انه لما حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر المشهور لبذاءة لسانه وكثرة هجوه الناس، كتب إليه الحطيئة. ماذا تقول لأفراخ بني مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم هداك مليك الناس يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهي البشر ما آثروك بها إذا ما قدموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر فأطلقه وشرط عليه أن يكف لسانه عن الناس، فقال له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري، فامتنع عمر من ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما عليك من ذلك، فعلقمة ليس هو من عمالك، وقد تشفع بك إليه، فكتب له بما أراد فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون عن قبره وابنه حاضر، فوقف عليه ثم أنشد: لعمري لنعم من آل جعفر ... يجوز إن أمسى علقته الحبائل

سنة ثلاث وثمانين ومائة

فإن أححى لا أملك حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وما بين الغنى إلا ليال قلائل فقال له ابنه كم ظننت أن علقمة كان يعطيك لو وجدته حياً؟ قال: مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها، فأعطاه ابنه إياها، والبيتان الأخيران يوجدان في ديوان النابغة الذبياني، في قصيدة له يرثي بها اليعمر بن أبي شعير الغساني، وأخبار مروان بن أبي حفصة كثيرة، ونوادرة شهيرة. سنة ثلاث وثمانين ومائة فيها خرج أعداء الله الخزر بالخاء المعجمة والزاي والراء ومن قصتهم أن سبتت بنت ملك الترك خاقان خطيها الأمير الفضل بن يحيى البرمكي، وحملت إليه في عام أول، فماتت في الطريق، فرد من كان معها في خدمتها من العساكر، وأخبروا خاقان أنها قتلت غيلة، فاشتد غضبه، وتجهز للشر وخرج بجيوشه من الباب الحديد، وأوقع بأهل الإسلام وأهل الذمة، وقتل وسبى وبدع، وبلغ السبي مائة ألف، وعظم ما أصيب به المسلمون، انا لله وإنا إليه راجعون، فانزعج هارون الرشيد واهتم لذلك، وجهز البعوث، فاجتمع المسلمون وطردوا العدو عن أرمينية، ثم سدوا الباب الذي خرجوا منه. وفي السنة المذكورة توفي الإمام أبو معاوية هشيم بن بشير السلمي الواسطي، محدث بغداد، روى عن الزهري وطبقته، قال يعقوب الدورقي: كان عند هشيم عشرون ألف حديث، وقال يحيى القطان: هو أحفظ من رأيت بعد سفيان وشعبة قلت والمراد بسفيان إذا أطلقوه الثوري وعن عمرو بن عون قال: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء العشاء عشرين سنة قبل موته. وفيها توفي السميد الجليل المشكور محمد بن السماك الكوفي الواعظ المشهور مولى بني عجل، روى عن الأعمش وجماعة، وروى عن الإمام أحمد ونظراؤه، ومن كلامه: من جزعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جزعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها، وكان كبير القدر، خل على الرشيد فوعظه وخوفه، وكان هارون الرشيد قد حلف أنه من أهل الجنة، فاستفتى العلماء فلم يفته أحد أنه من أهل الجنة، فقيل له: سل عن ابن السماك، فاستحضره وسأله، فقال له: هل قدر أمير المؤمنين على معصية فتركها خوفاً من الله تعالى؟ فقال: نعم، كان لبعض الناس جارية فهويتها وأنا إذ ذاك شباب، ثم أني ظفرت بها مرة،

وعزمت على ارتكاب الفاحشة منها، ثم إني فكرت في النار وهولها، وأن الزنا من الكبائر، فأشفقت من ذلك، وكففت عن الجارية مخافة من الله تعالى، قال ابن السماك: قال الله عز وجل: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأةى " - النازعات: 40 - فسر هارون بذلك، قلت هذا الاستذلال فيه ما فيه، فإن الظاهر والله أعلم أن المراد بذلك استمرار الخوف من الله، والنهي للنفس عن ارتكاب الكبائر إلى الموت، فأما إذ وقع ذلك، ثم أعقبه الوقوع في الكبائر، ولقي الله تعالى عاصياً، فهو في خطر المشية مع الموت على الإسلام، فان لم يمت على الإسلام والعياذ بالله، فهو من أهل النار قطعأ، وعليه يحمل أول الآية: فأما من طغى إلى آخرها، نسأل الله التوفيق والغفران، ونعوذ به من الزيغ والخذلان، وقيل وعظ ابن السماك يوماً فأعجبه وعظه، ثم رجع إلى منزله ونام فسممع قائلاً يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هذا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم وأردت تلقح بالرشاد عقولنا ... قولاً وأنت من الرشاد عديم تصف الدواء الذي السقام من الضنى ... ومن الضنى والداء أنت سقيم لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم فانتبه وآلى على نفسه أن لا يعظ، شهراً. وفيها توفي السيد أبو الحسن موسى الكاظم ولد جعفر الصادق، كان صالحاً عابداً جواداً حليمأ كبير القدر، وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية، وكان يدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخيأ كريمأ، كان يبلغه عن الرجل أن يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيهما ألف دينار، وكان يسكن المدينة، فأقدمه المهدي بغداد فحبسه، فرأى في النوم أعني المهدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول يا محمد " فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ". قال الربيع وأرسل الي المهدي ليلاً، فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً، وقال علي بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من أولادي، فقال: والله لا فعلت ذلك، وما هو من شأني، قال: صدقت أعطوه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلئ أهله إلى المدينة، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو في الطريق، خوف العوائق ثم إن هارون

سنة أربع وثمانين ومائة

الرشيد حبسه في خلافته إلى أن توفي في حبسه. وروي أن هارون لما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال السلام عليك يا ابن عم مفتخر بذلك، فقال موسى الكاظم السلام عليك يا أبة، فتغير وجه هارون، وروي أن هارون الرشيد قال: رأيت في المنام كأن حسيناً قد أتاني ومعه حربة، وقال إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، فلما أتاه وأعطاه ما أمره به قال له موسى الكاظم: رأيت في منامي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اتاني فقال: " يا موسى حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس " فقلت بأبي وأمي ما أقول؟ قال لي: قل " يا سامع كل صوت. ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً، ويا منشرها بعد الموت، اسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحمد من المخلوقين يا حليماً ذا أناءة لا يقوى على أناءته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً فرج عني ". وله أخبار شهيرة ونوادر كثيرة. وفيها توفي شيخ أصفهان وعالمها أبو المننر النعمان بن عبد السلام التيمي تيم الله بن ثعلبة، كان فقيهاً إماماً زاهداً عابداً صاحب تصانيف، اخذ عن الثوري وأبي حنيفة وطائفة، رحمهم الله تعالى. وفيها توفي الفقيه أبو عبد الرحمن بن يحيى بن حمزة الحضرمي السلمي قاضي دمشق ومحدثها، عاش ثمانين سنة. سنة أربع وثمانين ومائة فيها توفي السيد الجليل الزاهد العمري عبد الله بن عبد العزيز، كان إماماً فاضلاً رأساً في الزهد والورع، وفيها فقيه المدينة عبد العزيز بن أبي حازم. سنة خمس وثمانين ومائة وفيها توفي أو في التي تليها الإمام الغازي القدوة أبو إسحاق الفزاري، كان إماماً قانتاً مجاهداً مرابطاً اماراً بالمعروف، اذا رأى بالشعر مبتدعاً أخرجه. وفيها توفي يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون المدني ابن عم عبد العزيز الماجشون. وقيل وفيها توفى أبو خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن صفرة الأزدي، ولاه

أبو جعفر المنصور مصر في سنة ثلاث وأربعين ومائة، ثم زار ابو جعفر المدكور بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة، ومن هناك سير يزيد بن حاتم المذكور إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهز معه خمسين ألف مقاتل، واستقر يزيد المذكور والياً بإفريقية من يومئذ، وكان جواداً سرياً مقصوداً ممدوحاً، وقصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم، وهو الذي قال فيه أبو أسامة ربيعة بن ثابت الأزدي الرقي وفي يزيد بن أسيد بضم الهمزة السلمي وكان والياً على أرمينية من جهة أبي جعفر المنصور، وكان يزيد المذكور من أشراف الناس وشجعانهم، ومن ذوي الآراء الصائبة، فمدحه أبو أسامة المذكور بشعر أجاد فيه، وقصر هو في جائزته، فقال فيهما هذه الأبيات، وقد ذكرتها في غير هذا الموضع. لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم يزيد سليم سالم المال والغنى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم قيل لبعض الشعراء: من أشعركم؟ فقال: ايسرنا بيتاً. قال: من هو؟ قال: الذي يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم ولما عقد أبو جعفر ليزيد المهلبي المذكور على بلاد إفريقية، وليزيد المذكور على ديار مصر، خرجا معاً، فكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيش، فقال ربيعة الرقي: وقدم أشعب المشهور بالطمع على يزيد وهو بمصر، فجلس في مجلسه، فدعا يزيد بغلامه فساره بشيء، فقام أشعب، فقبل يده، فقال له يزيد: لم فعلت هذا؟ فقال: اني رأيتك تسار غلامك، فظننت أنك قد أمرت لي بشيء، فضحك منه وقال: ما فعلت، ولكني أفعل، ووصله وأحسن إليه. قلت ومما يحكى من طمع أشعب المذكور أنه رأى في المنام كأن له كباشاً، وكأن إنساناً ساومه فيها، وقال له: بكم تبيع كل واحد منها؟ فقال: بكذا وكذا، وذكر قيمة كثيرة، فقال له: بل بدرهمين. فقال: لا ثم استيقظ ولم يجد الكباش ولا الدراهم، فتغمض عينيه وتناوم، ومد يده وقال هات، يعني الدراهم في كل واحد. ومما يحكى أيضاً عن أشعب أنه كان يدخل وقت الفطور في شهر رمضان مع جماعة يفطرون عند بعض القضاة، وكان القاضي يضع كل ليلة فوق الطعام كبشاً مشوياً، وكان الجماعة يأكلون من حواليه ولا يجتري أحد منهم يمد يده إلى الشواء إلى أن كان بعض

الليالي، فقصد أشعب الشوي وسلخه بيده، فحرزه القاضي بعينيه، ثم قال: يا جماعة أعلموني من يصلي بالمحبوسين في هذا الشهر؟ قال يا سيدي: ما أحد يصلي بهم، فقال: المصلحة أن يذهب أشعب يصلي بهم في هذا الشهر، فقال أشهب: او المصلحة في غير ذلك، اصلح الله القاضي، قال: وما هي؟ قال: اتوب، فسكت عنه القاضي وضحك من فهم ذلك، ولم يعد إلى جذب الشواء يعدها. وقال الطرسوسي في كتاب سراج الملوك قال سحنون بن سعيد كان يزيد بن حاتم حكيماً يقول: والله ما هبت شيئاً قط هيبتي لرجل لطمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبك الله بيني وبينك. وقيل وفد التميمي الشاعر على يزيد بن حاتم بإفريقية، فأنشده هذين البيتين: إليك قصرنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر ثم شهر نواصله فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ البر عاجله فأمريزيد بوضع العطاء في جنده، وكانوا خمسين ألف مرتزق كما تقدم، فقال: من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه بدرهمين، فاجتمع له مائة ألف درهم، وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف أخرى، ودفعهما إليه. قال ابن خلكان ثم وجدت البيتين المذكورين لمروان بن أبي حفصة، والله أعلم، انتهى كلامه. قلت وقد تقدم ذكرهما في ترجمة مروان المذكور في سنة اثنتين وثمانين ومائة في مدحه للمهدي. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: ان يزيد المذكور قال لجلسائه: استبقوا إلى ثلاثة أبيات. فقال صفوان بن صفوان: افيك؟ قال: فيمن شئتم، وكأنها كانت في فمه فقال: لم أدر ما الجود إلا ما سمعت به ... حتى لقيت يزيداً عصمة الناس لقيت أجود من يمشي على قدم ... مفضلاً برداء الجود والبأس ولو نيل بالجود مجد، كنت صاحبه ... وكنت أولى به من آل عباس ثم كف وقال أتمم، فقال: لا يصلح، وقال: يسمع هذا منك أحد. وفي يزيد بن حاتم أيضاً قال الشاعر: وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بايعها وأنت المشتري

وإذا تخيل من سحابك لامع ... صدقت مخيلته لدى المستمطر وإذا الفوارس عددت أبطالها ... عدوك في أبطالهم بالخنصر يعني عدوك أولهم. وقال فيه آخر: يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقر فدعا يزيد بخازنه، وقال، وكم في بيت مالي؟ قال: فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار، فقال: ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي المعذرة إلى الله تعالى ثم إليك، والله لو كان في ملكي غيرها لما أدخرتها عنك. وفيها توفي المطلب بن زياد، والمعافى بن عمران. وفيها عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي عنهم. وذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه كانت فيه عجائب منها: انه ولد في سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد السفاح والمنصور سنة ستين، فبينهما ست وخمسون سنة، ومنها أنه حج يزيد بن معاوية في سنة خمسين، وحج عبد الصمد بالناس سنة خمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء، ومنها إنه أدرك السفاح والمنصور هما ابنا أخيه، ثم أدرك المهدي وهوعم أبيه، ثم أدرك الهادي وهو عم جده، ثم أدرك الرشيد، وفي أيامه مات. وقال يوماً للرشيد: هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعمه وعم عمه وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر هو عم الرشيد، والعباس عم سليمان، وعبد الصمد عم العباس. ومنها أنه مات بأسنانه التي ولد بها ولم يثغر، يقال ثغر الصبي يثغر فهو مثغر ومثغور إذا سقطت أسنانه، وأثغر إذا نبتت، وأثغر بالمثلثة وبالمثناة من فوق مع التشديد أيضاً. وفيها توفي يزيد بن مزيد ابن أخي معن بن زائدة الشيباني، وكان من الأمراء المشهورين والشجعان المعروفين، كان والياً بأرمينية وآذربيجان، ولاه الرشيد ووجهه لحرب الوليد بن طريف الشيباني الخارجي لما خرج على هارون ببلاد الجزيرة بعدما وجه

إليه موسى بن حازم التيمي في جيش كثيف، فهزمهم الوليد وقتله، فوجه الرشيد معمر بن عيسى العبدي وكانت بينهما وقائع، وكثرت جموع الوليد، فوجه إليه الرشيد يزيد المذكور في عسكر ضخم، فقصده وجعل الوليد يراوغه، وكان ذا مكر ودهاء، وكانت بينهما حروب صعبة ثم بعث الرشيد خيلاً بعد خيل إلى يزيد، وأرسل إليه يعنفه على ترك جده في حربه، فالتقيا ودعاه يزيد إلى المبارزة فبرز إليه الوليد، ووقف العسكران فتطاردا ساعة، ولم يقدر أحداً منهما على صاحبه حتى مضت ساعات من النهار، فأمكنت يزيد فيه الفرصة فضرب رجله، فسقط وضاح بخيله، فبادروا إليه واجتزوا رأسه، فوجه به إلى الرشيد، ورثت الوليد أخته بأبيات تقدمت في ترجمة الوليد في سنة تسع وسبعين ومائة. وروي أن هارون لما جهز يزيد المذكور إلى حرب الوليد أعطاه ذا الفقار سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال خذه يا يزيد فإنك ستنصر به، فأخذه ومضى، وكان من قتله الوليد ما ذكروا في ذلك يقول مسلم بن الوليد الأنصاري في قصيدة يمدح فيها يزيد المذكور: أذكرت سيف رسول الله، سنته ... وبأس أول من صلى ومن صاما يعني بالبأس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، اذ كان هو الضارب به. وذكر بعضهم أن ذا الفقار كان مع العاصي بن نبيه في يوم بدر، فقتل هو وأبوه نبيه وعمه منبه ابنا الحجاج، وكانا سيدي بني سهم في الجاهلية، وكانا من المطعمين، وكان الذي قتل العاصي هو علي، فأخذ منه ذا الفقار. وذكر بعضهم أن ذا الفقار كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاه علياً. وكان سبب وصول السيف المذكور إلى هارون فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل أنه تلقاه من أخيه الهادي، والهادي من أبيه المهدي، والمهدي من جعفر بن سليمان العباسي، وجعفر من رجل من التجار، والتاجر من محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فعه إليه يوم قتل بأربع مائة دينار كانت له عليه وعن الأصمعي قال: رأيت في ذي الفقار ثماني عشرة فقارة. وذكر الخطيب أن الرشيد قال ليزيد من الذي يقول فيك؟: لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه ... ولا تمسح عينيه من العجل قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل فقال لا أدري يا أمير المؤمنين، فقال يقال فيك مثل هذا ولا تعرف قائله؟! فانصرف

سنة ست وثمانين ومائة

خجلاً، فاجتمع به الوليد بن مسلم، وأنشده هذه القصيدة فقال لوكيله: بع ضيعتي الفلانية وأعطه نصف ثمنها، واحبس نصفه لنفقتنا، فباعها بمائة ألف درهم، فأعطى مسلماً خمسين ألفاً، فبلغ ذلك الرشيد فأعطاه مائتي ألف درهم، وقال: استرجع الضيعة بمائة ألف، وزد الشاعر خمسين ألفاً، واحبس لنفسك خمسين ألفاً، وللشعراء فيه أشعار يطول ذكرها، وفي معنى البيت الذي ذكر فيه أن الطير تتبعه أشعار لجماعة من الشعراء منها قول أبي تمام: وقد ظللت عقبان راياته ضحى ... بعقبان طير في الدماء تواحل أقامت على الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل وقال يزيد استدعى بي الرشيد يوماً فأتيته لابساً سلاحي، فضحك، وقال: من الذي تقول فيك. تراه من الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوأة لك من سيد قوم، تمدح بمثل هذا ولا تعرف قائله؟ وقد بلغ أمير المؤمنين، فرواه ووصل قائله وهو مسلم بن الوليد. قال فانصرفت فدعوت به ووصلته. وروي أن عمه معن بن زائدة كان يقدمه على أولاده فعاتبته امرأته لذلك، فقال لها: إني لأجد عندهم من الغنى ما ليس عنده، فلو كان ما يصنع به يزيد بعيداً لصار قريباً، أو عدواً لصار حبيباً، وسأريك في هذه الليلة ما تبسطين به عذري، ثم قال: يا غلام اذهب فادع لي حساناً وزائدة وعبد الله وفلاناً وفلاناً حتى أتى على جميع ولده، فجاؤوا في العلالي الطيبة والنعال السندية بعد ليل، فسلموا وجلسوا، ثم قال معن: يا غلام ادع يزيد، فجاء عجلاً وعليه سلاحه، فوضع رمحه بباب المجلس ودخل،، فقال له معن: ما هذه الهيئة يا أبا الزبير؟ فقال: جاء في رسول الأمير فسبق إلى وهمي أنه يريدني وهمتي، فلبست سلاحي، فقال معن: انصرفوا في حفظ الله، فلما خرجوا قالت له زرجته: قد تبين لي عذرك. سنة ست وثمانين ومائة فيها توفي الحافظ خالد بن الحارث البصري، وفقيه المدينة بعد مالك أبو هشام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، قيل عرض عليه الرشيد قضاء المدينة فامتنع.

سنة سبع وثمانين ومائة

سنة سبع وثمانين ومائة فيها خلعت الروم من الملك السبت ايريني، وهلكت بعد أشهر وأقاموا عليهم تقفور، والروم تزعم أنه من ولد حفصة الغساني الذي تنصر، وكتب تقفور إلى هارون الرشيد من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفاً من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون أمير المؤمنين إلى تقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً فقتل وسبى، وذل تقفور وطلب الموادعة على خراج يحمله، فلما رد الرشيد إلى الرقة نقض تقفور العهد، فلم يجسر أحد أن يبلغ الرشيد، حتى عملت الشعر أبياتاً يلوحون بذلك، فقال: او قد فعل بها، فكر راجعاً في شقة الشتاء حتى أناخ بفنائه ونال منه مراده، وفي ذلك يقول أبو العتاهية: ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب غدا هارون يرعد بالمنايا ... يبرق بالمذكرة العضاب ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب وفي السنة المذكورة أو التي قبلها توفي بشر بن المفضل أحد حفاظ البصرة، قال الإمام علي بن المديني: كان يصلي كل يرم أربع مائة ركعة، ويصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها توفي عبد العزيز بن عبد الصمد العمي الحافظ، وعبد العزيزبن محمد الدراوردي المدني، وكان فقيهاً صاحب حديث، وتوفي عبد السلام بن حرب الكوفي الحافظ. وفيها توفي أبو الخطاب السدوسي البصري المكفوف الحافظ، والإمام أبو محمد معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي الحافظ أحد شيوخ البصرة. وقال بعضهم: كان عابداً صالحاً حجةً. رفيها توفى معاذ بن مسلم الكوفي النحوي شيخ الكسائي، عاش نحو مائة سنة وفيها

غضب الرشيد على البرامكة وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكي الوزير أحد الأجواد والفصحاء، قال بعض المؤرخين: كان من علو القدر ونفاذ الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بمنزلة الفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وكان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف حتى علمه وفقهه. ومما يحكى عنه أنه وقع إلى بعض العمال وقد شكا منه. فقال: كثر شاكوك فأما اعتذرت واما عتزلت. ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم من أجل أن يهودياً زعم أن الرشيد يموت تلك السنة، فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم، فقال لليهودي: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا أو كذا يوماً؟ قال: نعم. قال: وأنت كم عمرك؟ قال كذا وكذا. ذكر مدى طويلاً، فقال للرشيد اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله فذهب ما كان بالرشيد من الغم، وشكره على ذلك، وأمر بصلب اليهودي، فقال أشجع السلمي في ذلك. سل الراكب الموفي على الجزع هل رأى ... براكبه نجماً بدا غير أعورا ولو كان نجم مخبراً عن منية ... لأخبره عن رأسه المتحيرا يعرفنا موت الإمام كأنه ... يعرفه أبناء كسرى وقيصرا أيخبرعن نحس لغيرك شؤمة ... ويحمل بادي النحس يا شر مخبرا وكان جعفر من الكرم وسعة العطاء كما هو مشهور، ويقال إنه لما حج اختار في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فأعرضت امرأة وأنشدت: إني عبرت على العقيق وأهله ... يشكون من مطر الربيع تزورا ما ضرهم إذ جعفر جاز بهم ... أن لا يكون ربيعه ممطورا فأجزل للمرأة المذكورة العطاء، وقيل والبيت الثاني مأخوذ من قول الضحاك بن عقيل الجناحي من جملة أبيات له: ولو جاوزتنا العام سمراء لم ينل ... على جدبنا أن لا يصوب ربيع

قال بعضهم: لله دره ما أحلى هذه الحشوة، وهي قوله على جدبنا، ومن مكانته عند الرشيد ونفوذ كلمته: ما ذكر صاحب كتاب الأماثل والأعيان عن جعفر في قصة ذكر في آخرها أن جعفر بن يحيى قال لعبد الملك بن صالح الهاشمي: اذكر حوائجك، قال: ان في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه وتعيده إلى جميل رأيه في، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك، فقال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم ديناً، فقال يقضي عنك وانها لحاضرة ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف لك وأدل على حسن ما عنده منك، قال: وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، فقال قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال الراوي: وهو إبراهيم بن المهدي، فخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه على ذاك من غير استئذان فيه، ثم ركبنا من الغد إلى باب الرشيد ودخل جعفر، ووقفنا فما كان أسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه. وقد عقد له على العالية بنت الرشيد، وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح، وخرج جعفر فتقدم إلينا بأتباعه إلى منزله، وصرنا معه، فقال: اظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأصبتم علم آخره، قلنا هو كذا وكذا، قال: وقلت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه، وهو يقول أحسن أحسن، قلت: يعني قضيته وقعت له معه كرهت ذكرها لاشتمالها على خلاعات ومنادمات ومحرمات لا يليق ذكرها بأرباب الديانات، واسترسال عبد الملك المذكور مع جعفر على طريق المو فقة بأشياء ليست له، بإعادته حيز القلب واسعاً، قال باريه وتوسد استمالته وتوصل إلى قضاء حاجته، وهي معروفة عند من له إلمام بمطالعة ما سطر في تواريخ الملوك والوزراء، واطلاع على أخبار الوقائع والأمراء. رجعنا إلى ذكر ما ذكره عن الرشيد قال: ثم قال فما صنعت معه فعرفته ما كان من قولي له فاستصوبه وأمضاه، وكان ما رأيتم، قال الراوي فوالله ما أدري أيهم أعجب فعلا، عبد الملك في تعاطيه ما ليس له بعادة، وكان رجل جد وتعفف ووقار وناموس، او إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، او إمضاء الرشيد ما حكم به عليه جعفر. وحكي أنه كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساتة، فأمر جعفر بازالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها حتى يأتي بقصدها لي خيراً، فإنهم يزعمون ذلك فأمر له جعفر بألف دينار، وقال: تحقق زعمهم، وأمر بتنحيتها، ثم قصدته ثانياً فأمر له جعفر بألف دينار أخرى.

وحكى ابن القادسي في أخبار الوزراء أن جعفراً اشترى جارية بأربعين ألف دينار، فقالت لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمناً، فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال، ولم يأخذ منه شيئاً، وأخبار كرمه كثيرة، وكان أبلغ أهل بيته. قالوا: وكان الفضل أجود منه، وأول من وزر من آل برمك خالد بن برمك لأبي العباس السفاح، ولم يزل خالد على وزارته حتى توفي السفاح، وتولى أخوه أبو جعفر المنصور فأقر خالد على وزارته سنة وشهوراً، وكان أبو أيوب المورياني بالمثناة من تحت بين الراء والألف وفي آخره قيل ياء النسبة نون قد غلب على المنصور، فاحتال على خالد باشارته على المنصور أن يوليه أمرة بعض البلدان البعيدة، فلما بعد عن الحضرة استبد أبو أيوب بالأمر. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق: ولد خالد سنة تسعين من الهجرة وتوفي سنة خمس وستين ومائة، وكان جعفر متمكناً من عند الرشيد غالباً على أمره، واصلاً منه بالغاً علو والمرتبة عنده ما لم يبلغ سواه، حتى أن الرشيد اتخذ ثوباً له زيقان، وكان يلبسه هو وجعفر جملة، ولم يكن للرشيد صبر عنه، وكان الرشيد أيضاً شديد المحبة لأخته العباسة ابنة المهدي، وهي من أعز النساء عليه، لا يقدر على مفارقتها، كان متى غاب جعفر وهي، لا يتم للرشيد سرور، فقال: يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة، واني سأزوجها منك ليحل لكما أن تجتمعا. يعني عندي، لكن إياكما أن تجتمعا يعني اجتماع الرجال بالنساء، فتزوجها على هذا الشرط، ثم تغير الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم آخر الأمر، وملهم وقتل جعفراً، واعتقل أخاه الفضل وأباه يحيى بن خالد كما سيأتي في ترجمتهما إن شاء الله تعالى. وقد اختلف أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها: أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها

بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها: الدهريفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور ولأبي نواس أبيات تدل على طرف من الواقعة التي ذكرها ابن بدرون. ألا قل لأمين الله ... وابن القارة الساسه إذا ما ناكث سرك ... أن يفقده رأسه فلا تقتله بالسيف ... وزوجه بعباسه وذكره غيره: أن الرشيد سلم إلى جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسن، وكان قد خرج على خلفاء بني العباس، وأمره بحبسه عنده، فقال يحيى لجعفر: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد، فقال أخاف أن أوخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد فدعا به، وقال: يا جعفر ما فعل يحيى؟ قال:

يحيا له قال: بحياتي، فوجم وأحجم وقال لا وحياتك أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، قال نعم الفعل وما عددت ما في نفسي، فلما نهض جعفر اتبعه بصره، قال قتلني الله إن لم أقتلك، وقيل: ما كان من البرامكة جناية توجب غضب الرشيد، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، ولقد استطال الناس الذي هم خير الناس أيام عمر بن الخطاب وما رأوا مثلها عدلاً وأماناً وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان فقتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، وآمالهم فيهم، ونظرهم إليهم دونه، او كما قيل وللملوك تنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإزلال خصوصاً جعفر والفضل دون يحيى فإنه أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاز بهم قوم من أعدائهم بالرشيد كالفضل بن الربيع وغيره فستروا منهم المحاسن وأظهروا القبائح حتى كان ما كان، وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد ما معناه وغالب ألفاظه هذا: أقول ملا ما لا أبا لأبيكم ... عن القوم أو سدوا المكان الذي سدوا وقيل السبب أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها، وفيها هذه الأبيات: قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحل والعقد هذا ابن يحيى قد غدا ملكاً ... مثلك، وما بينكما حسد أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد وقد بنى الدار التي ما بنى ... الفرس لها مثلا ولا الهند الدر والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والند ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد فوقف الرشيد عليها، وأضمر له السوء. وحكى بعضهم أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد ايقاعه بالبرامكة: يا سيدي ما رأيت لك يوماً سروراً تاماً منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال لها: لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته. وقال السندي بن شاهك: كنت ليلة نائماً في غرفة الشرطة في الجانب الغربي، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى واقفاً بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر وهو ينشد: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها وأبا دنا ... صروف الليالي واللحود العواثر

قلت ويروى هذا البيت السنون العواثر، يروى أنه أنشده عمرو بن مضاض الجرهمي بعد أن أخرج قومه من مكة، ونزلوا بلاد اليمن. قال: فانتبهت فزعاً وقصصتها على أحد خواصي، فقال: اضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر فعاودت مضجعي فلم تمتلي عيناي غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة نجم البريد ودق باب الغرفة، فأمرت بفتحها فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمرني بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتابأ، فقرأته وإذا فيه: هذا كتابنا بخطنا مختوم، بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فإذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك امض إلى دار يحيى بن خالد لاحاطه الله، وسلام الأبرش معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتتقدم إلى بآدام بن عبد الله، وتأمره أو كما قال بالمسير إلى الفضل ابنه، مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر تفعل به مثل ما تقدم إليك في يحيى، وأن تحمله أيضا إلى حبس الزنادقة، ثم ابعث بعد فراغك من أمر هذين أصحابك في القبض على يحيى وأولاده وإخوته وقراباته، وذكر أشياء أخرى يطول ذكرها اقتضى الاقتصار حذفها. قال الراوي: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتنكيل بالبرامكة وكتاباتهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي، ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر بضم العين المهملة ومعه جعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار بالزاي قبل الكاف والراء في آخره وجواريه، ونصب الستائر وأبو زكار يغنيه. ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا إنما همهم أن ... يظهرواما قد دفنا ودعا الرشيد ياسراً غلامه، وقال له: لقد انتخبتك لأمر، ولم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى، وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يجيب جواباً، فقال مالك: ويلك، قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر، وأبو زكار يغنيه: فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أويغادي وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وأن بقيت يصير إلى نفاد ولو فديت من حديث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد فقال! له: يا ياسر، سررتني بإقبالك، وسوأتني بدخولك من غير إذن، قال: الأمر أكبر

من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين كذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر قال: دعني أدخل وأوصي، قال: لا سبيل إليه أوص بما شئت، فقال: لي عليك حق ولا تقدر على مكافاتي إلا الساعة، قال: تجدني سريعاً إلا في ما يخالف أمير المؤمنين، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك وإلا أنفذت أمره في، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: اما هذا فنعم. ثم انه صار إلى مضرب الرشيد، فلما جمع حسه قال له: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر فيه، وقال: والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع فقتله وجاء برأسه، فلما وضعه بين يديه أقبل عليه ملياً ثم قال: يا ياسر جئني فلان وفلان، فلما أتى بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أن أرى قاتل جعفر، وقيل الذي هجم عليه مسرور الخادم بإرسال الرشيد له، وبعد ضرب عنقه صلب على الجسر ببغداد. وحكي أن جعفر آخر أيامهم أراد الركوب، فدعا بالاصطرلاب ليختار وقتاً وهو في داره على دجله، فمر رجل في سفينة وهو لا يرى جعفر ولا يدري ما يصنع، وهوينشد هذا البيت: مريد بالنجوم وليس تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد فضرب بالاصطرلاب الأرض وركب. وحكي أنه رأى على باب قصر علي بن ماهان بخراسان صبيحة الليل التي قتل فيها جعفر كتاباً بقلم جليل فيه هذان البيتان. إن المساكين بني برمك ... صتت عليهم غيرالدهر إن لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبر ساكن ذا القصر ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إلى القبلة، وقال: اللهم إنه كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة، فلما قتل جعفر أكثر الشعراء في ورثائه ورثاء آله فقال الرقاشي: هدى الخالون من شجوي فناموا ... وعيني لا يلائمها منام وما سهرت لأني مستهام ... إذا سهر المحب المستهام ولكن الحوادث أرقتني ... فلي سهر إذا هجع الأنام أصبت بسادة كانوا نجوماً ... بهم نسقي إذا انقطع الغمام ولم يزل يقول إلى أن قال:

على المعروف والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمك السلام فلم أر قط قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فله السيف الحسام وأما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام وقال أيضاً يرثيه وأخاه الفضل. ألا ان سيفاً برمكياً مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند فقل للمطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي وقال آخر: ولما رأيت السيف صبح جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى بكيت على الدنيا وأيقنت إنما ... قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا وغير ذلك مما رثوه من الأشعار مما يخرج عن حيز الاختصار إلى حيز الإكثار مع أن ترجمة جعفر، من أطال الكلام فيها فقد قصر. قال بعض المؤرخين ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها ما حكى بعضهم قال: دخلت على والدتي في يوم عيد الأضحى وعندها امرأة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي أتعرف هذه؟ قلت: لا قالت لي: هذه أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها وتحادثنا زمانأ ثم قلت يا أمه، ما أعجب ما رأيت؟ فقالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، واني لأعد ابني عاقاً لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما منازي إلا جلدا شاتين، افترش أحدهما وألتحف بالآخر، قال: فدفعت لها خمس مائة درهم، وكادت تموت فرحاً بها، سبحان مقلب الدهور ومدبر الأمور. وفي السنة المذكورة توفي السيد الجليل الولي الخليل الإمام أبو علي المعروف بالفضيل أحد الأعلام الذين يقتدي بهم الأنام، قال ابن المبارك: ما على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض، قالوا: وكان قد قدم الكوفة شاباً، فحمل عن منصور وطبقته، وقال القاضي شريك الفضيل حجة لأهل زمانه. ويحكى أن الرشيد قال للفضيل يوماً: ما أزهدك؟ فقال: الفضيل: انت أزهد مني فقال: وكيف ذلك؟ فقال لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، والدنيا فاتنة، والآخرة باقية، قلت: وللفضيل مع هارون حكاية عجيبة ذكرتها في غيرهذا الكتاب.

ومن كلام الفضيل: اذا أحب الله تعالى عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً وسع عليه دنياه، وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي لأحاسب عليها، لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن يصيب ثوبه، وقال ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، وقال لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الامام أمن البلاد والعباد. وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً الا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك: فقال: ان الله تعالى أحب أمراً فأحببت ذلك الأمر، وكان ولده المذكور شاباً محبباً من كبار الصالحين. وقيل للفضيل: ان ابنك علياً يقول: وددت أني في مكان أرى الناس من حيث لا يروني، فبكى وقال: يا ويح علي، ليته أتمها فقال: لا أراهم ولا يروني. وكان ابن المبارك يقول: اذا مات الفضيل ارتفع الحزن من الدنيا، وهو معدود من الجماعة الذين شغفتهم محبة الله. ومناقب الفضيل كثيرة مشهورة، وسيرته بين الخلق جميلة مشكورة، ومولده بسمرقند، وقيل بغيرها من بلاد العجم وقدم الكوفة، وسمع الحديث بها، ثم انتقل إلى مكة فجاور بها إلى أن مات، وقبره فيها مزور مشهور. قلت: والمشهور من كلام المشايخ في كتب السلوك أنه كان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق، وكانت سبب توبته أنه عتق جارية فبينا هو يرتقي الجدار إليها سمع تالياً: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر ال " - الحديد: 16 - فقال: بلى يا رب قد آن، فرجع وأواه الليل إلى خربة، فاذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل وقال بعضهم: حتى نصبح فان فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمنهم. وروي أنه قال للرشيد: يا حسن الوجه، انت الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك لقد تقلدت أمراً عظيماً، فبكى الرشيد ثم أعطى كل واحد من الأولياء والعلماء الحاضرين بدرة، فكل قبلها إلا الفضيل، فقال له الرشيد: يا أبا علي، ان لم تستحل أخذها فأعطها ذا دين، او أشبع بها جائعاً، او إكس بها عارياً، فاستعفاه منها: قال الراوي وهو سفيان بن عيينة: فلما خرجنا قلت له: يا أبا علي أخطأت أن لا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذ بلحيتي ثم قال، يا أبا محمد، انت فقيه البلد والمنظور إليه، وتغلط مثل هذا الغلط، لو

طابت لأولئك لطابت لي. وفي السنة المذكورة توفي يعقوب بن داود السلمي، كان كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، الذي خرج هو وأخوه علي أبي جعفر المنصور بالبصرة ونواحيها، وقتلا في سنة خمس وأربعين ومائة، وقصتهما مشهورة، وقد تقدم ذكرهما هنالك، وكان قد نشأ يعقوب المذكور في صنوف من العلوم، ولما ظهر المنصور على إبراهيم بن عبد الله المذكور، ظفر بيعقوب المذكور فحبسه في المطبق، وكان يعقوب سمحاً جواداً كثر البر والصدقة واصطناع المعروف مقصوداً ممدوحاً، مدحه أعيان شعراء عصره، فلما مات المنصور وقام بالأمر ولده المهدي، جعل يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه حتى خرج كتابه إلى الدواوين: ان أمير المؤمنين قد آخى يعقوب بن داود، فقال في ذلك سالم بن عمرو: قل للإمام الذي جاءت خلافته ... يهدى إليه بحق يخر مردود نعم القرين على التقوى أعنت به ... أخوك في الله يعقوب بن داود فلم يكن ينفذ شيء من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب، الى أن تكلم فيه الواشون والعذال، واكثر فيه الأعداء المقال، وذكروا خروجه على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله، فوجد المهدي عليه، فأراد أن يمتحنه في ميله إلى العلوية، فقال له: هذا البستان، وأشار إلى بستان فيه صنوف من الأشجار، وهذه الجارية، وأشار إلى جارية عنده، لك وأمرت لك بمائة ألف درهم، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي بقضائها. فقال: السمع والطاعة، فقال: والله؟ قال: والله ئلاث مرات. فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثقه قال له: هذا فلان ابن فلان رجل من العلوية أحب أن تكفيني مؤنته، وتريحني منه، يعني نقتله، فأمره بتحويل الجارية وما في المجلس من الأثاث والمال المذكور، فاشتد سروره بالجارية، وجعل فلان العلوي عنده في مجلس، فقال له العلوي ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدم رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له يعقوب: خذ هذا المال، وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا آمن لي، فقال: امض مصاحباً بالسلامة، او كما قال، فسمعت الجارية الكلام كله، ووجهت مع بعض خدمها إلى الخليفة تعلمه بذلك، وقالت: هذا جزاء من آثرته بي على نفسك، فوجه المهدي في تلك الطريق من لحق العلوي، فرده إليه ومعه المال، وجعله في مجلس، ووجه إلى يعقوب، فلما حضر قال له: ما فعل الرجل؟ قال أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قال: نعم، فحلفه على ذلك. فحلف وأقسم برأسه، فقال: يا غلام آخرء إلينا من في

سنة ثمان وثمانين ومائة

هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي والمال بعينه، فبقي يعقوب متحيراً لا يدري ما يقول، فقال له المهدي: لقد حل دمك ولو آثرت إراقته لأرقته، ولكن احبسوه في المطبق، فحبسوه، وأمر بأن يطوى خبره عن كل واحد، فأقام فيه سنتين وشهوراً في أيام المهدي والهادي وخمس سنين في أيام الرشيد، ثم شفع فيه يحيى بن خالد البرمكي، فأمر هارون بإخراجه، فخرج وقد ذهب بصرة، فأحسن إليه الرشيد ورد ماله، وخيرة المقام حيث يريد، فاختارمكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات، رحمه الله تعالى. وفي رواية عن أبيه قال: اخبرني أبي أن المهدي حبسه في بير، وبنى عليه قبة مكث فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلي إليه كل يوم برغيف وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلوات، قال فلما كان في رأس ثلاث عشرة أتاني آت في منامي فقال: حنا على يوسف رب فأخرجه ... من قعر جب وبيت حوله غمم قال فحمدت الله تعالى، وقلت أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أدري شيئاً فلما كان في رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فأنشدني: عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر قال ثم مكثت حولاً آخر ثم أتاني ذلك فقال: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي والغريب قال: فلما أصبحت نوديت، فظننت أن أوذن بالصلاة، فدلي لي حبل وقيل لي: اشدد به وسطك، ففعلت فأخرجوني، فلما قابلت الضوء غشي بصري، فانطلقوا بي، فأدخلت على الرشيد، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت السلام على أمير المؤمنين المهدي ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال لست به، فقلت السلام على أمير المؤمنين الهادي، فقال: لست به، فقلت: السلام على أمير المؤمنين الرشيد، فقال: يا يعقوب بن داود، والله ما شفع فيك إلي أحد، غير أني حملت الليلة صبيةً لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فوثبت لك من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، وكان يعقوب يحمل الرشيد وهو صغير. سنة ثمان وثمانين ومائة فيها توفي محدث الري الحافظ أبو عبد الله جرير بن عبد الحميد الضبي، وفيها على

سنة تسع وثمانين ومائة

الصحيح توفي الإمام أبو عمرو عيسى بن يونس بن أبي إسحاى السبيعي. وفيها أو في السنة الماضية توفي مرحوم بن عبد العزيز العطار بالبصرة، وكان محدثاً عابداً صالحاً. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن ماهان التميمي مولاهم المعروف بالنديم الموصلي، ولم يكن من الموصل وإنما سافر إليها وأقام بها مدة، وهو من بيت كبير في العجم، وأول خليفة سمعه المهدي بن منصور، ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان. وحكي أن هارون الرشيد كان يهوى جارية هوى شديداً، فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب، فقال جعفر البرمكي للعباس بن الأحنف: احب أن تعمل في ذلك شيئاً فعمل: راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قل ما يتجنب إن التجنب إن تطاول منكما ... رب السلو له فعز المطلب وأمر إبراهيم الموصلي يغني به الرشيد، فلما سمعه بادر فترضاها، فسألت عن السبب فأخبرت بذلك، فأمرت لكل واحد من العباس بن الأحنف وإبراهيم بعشرة آلاف درهم، وسألت الرشيد أن يكافيهما، فأمر لهما بأربعين ألف درهم، وتوفي إبراهيم المذكور في السنة المذكورة بالقولنج وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، والأول أصح. سنة تسع وثمانين ومائة فيها الفداء الذي لم يسمع بمثله، حتى لم يبق في أيدي الروم مسلم إلا فودي به، وفيها توفي شيخ القراءات والنحو الإمام أبو الحسن علي بن حمزة الأسدي مولاهم الكوفي المعروف بالكسائي، احد القراء السبعة، كان إماماً في النحو واللغة والقراءات، ولم يكن له في الشعر يد حتى قيل: ليس من علماء العربية أجهل بالشعر من الكسائي، وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، وقيل والرشيد أيضاً، ولم يكن له زوجة ولا جارية فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هنه الأبيات: قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة بذلي؟ ما زلت مذ صار الأمير معي ... عبدي يدي، ومطيتي رجلي وعلى فراشي من ينبهي ... من نومة، وقيامه قبلي

أسعى برجل منه بالية ... موقودة مني بلا رجل وإذ ركبت أكون مرتدفاً ... قد أم سرجي راكب مثلي فامنن علي بما يسكنه ... عني وأهدي الغمد للنصل فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها، وخادم وبرذون بجميع آلاته. واجتمع يوماً بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد، فقال الكسائي من يتجر في علم يهدي إليه جميع العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو؟ هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا قال: لم ذا؟ قال: لأن النحاة تقول المصغر لايصغر. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكو والفراء، وهما ابنا خالة، قال ابن خلكان: وجدت هذه الحكاية على القول الأول في عدة مواضع، والله أعلم بالصواب. رجعنا إلى بقية الحكاية، فقال محمد: فما تقول في تعليق الطلاق أيصح؟ قال: لا يصح قلت يعني لا يصح وقوعه؟ قبل وجود الصفة المعلق عليها؟ قال: لم قال: لأن السيل لا يسبق المطر، وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات وسيأتي ذكر بعضها في تراجم أربابها إن شاء الله تعالى. روى الكسائي عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم، وروى عن الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما، وتوفي بالري، وكان قد خرج إليها بصحبة هارون الرشيد، وقال السمعاني: وفي ذلك اليوم توفي محمد بن الحسن بالري أيضاً بزيتونة، قرية من قرى الري كذا قال ابن الجوزي في شذور العقود، وقيل إن الكسائي مات بطوس والله أعلم، ويقال إن الرشيد كان يقول: دفنت العربية والفقه بالري. قلت وقد تقدم قول الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، وإنما قيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وجاء إلى حمزة بن حبيب الزيات، وهو ملتف بكساء، فقال حمزة: من يقرأ؟ فقيل له: صاحب الكساء، فبقي عليه هذا اللقب. وقيل بل أحرم في كساء فنسب إليه، رحمه الله تعلى. وفيها توفى قاضي القضاة وفقيه العصر محمد بن الحسن الكوفي منشأ الشيباني، مولى

سنة تسعين ومائة

أصله من قرية على باب دمشق فقدم أبوه من الشام إلى العراق وأقام بواسط، فولد محمد ونشأ بالكوفة، قال الشافعي لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت، لفصاحته. وقال أيضاً ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن. وقال غيره: لقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وصنف الكتب الكبيرة النادرة، ومنها الجامع الكبير والجامع الصغير وغيرهما، وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصاً المتعلقة بالعربية ونشر علم أبي حنيفة، وكان أفصح الناس، اذا تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته، ولما دخل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بغداد كان بها، وجرى بينهما مجالس ومسائل فظهر علو شأن الشافعي وبراعته في العلوم. وقد ذكرت شيئاً من ذلك في مختصر مناقب الإمام الشافعي، وروي عن الشافعي أنه قال: ما رأيت سميناً ذكياً إلا محمد بن الحسن. وحكى محمد بن الحسن أنه أتى أبو حنيفة بامرأة ماتت وفي جوفها ولد يتحرك، فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوا الولد، وكان غلاماً فعاش حتى طلب العلم، وكان يتردد إلى مجلس محمد بن الحسن رحمه الله، وسمي ابن أبي حنيفة. قلت وقد حكيت هذه الحكاية على غير هذا الوجه، فقيل إن الإمام الشافعي هو الذي أفتى بشق بطن أمه واخراج الولد، وكان بعض العلماء قد أفتى بالدفن مع الحمل، فنشأ الولد وتسلم العلم فسأل عن الذي كان قد أفتى بدفنه مع أمه فقال الإمام الشافعي هذا الذي أفتيت بقتله، والله أعلم أي ذلك كان ويحتمل أن تكونا قضيتين. قال محمد بن الحسن خلف أبي ثلاثين ألف درهم فأنفقت نصفها على النحو والشعر وأنفقت الباقي على الفقه ولما توفي هو والكسائي قال الرشيد دفنا الفقه والنحو بالري كما تقدم، ومحمد بن الحسن هو ابن خالة الفراء صاحب النحو واللغة. سنة تسعين ومائة فيها فتح هرقلة واستعد الرشيد وأمعن في بلاد الروم، ودخلها في مائة ألف وبضع وثلاثين ألف سوى المجاهدين تطوعاً، وبث جيوشه تغير وتغنم وتخرب، فلما فتح هرقلة

أخذها وسبى أهلها، وكان مقامه عليها شهراً وبلغ السبي من قبرس سته عشر الفاً، وكان فيهم اسقف قبرس، فنودي عليه فبلغ ألفي دينار وبعث تقفور جزية عن رأسه وامرأته وخواصه، وكان ذلك خمسين ألف دينار، واشترط عليه الرشيد أن لايعمر هرقلة، وأن يحمل في العام ثلاث مائة ألف دينار، وكتب تقفور إليه أما بعد فلي إليك حاجة أن تهب لابني جارية من سبي هرقلة كنت خطبتها له فاستعفني بها فأحضر الرشيد الجارية فزينت، وأرسل معها سرداقاً وتحفاً فأعطى تقفور للرسول خمسين ألفاً وثلاث مائة ثوب وبراذين وبزاة. وفيها توفي أبو عبيدة الحداد البصري. وعبيدة بن حميد الكوفي الحذاء الحافظ، وكان صاحب قرآن وحديث ونحو، ادب الأمين بعد الكسائي. وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن الرواسي الكوفي، ويحيى بن خالد البرمكي توفي في سجن الرشيد، وبرمك من مجوس بلخ ولا يعلم هل أسلم أم لا قلت: ولأجل كون أصلهم مجوسياً أتهم الرشيد جعفر على ما حكي أنه استشاره في هدم إيوان كسرى، فأشارعليه بترك ذلك، فما طاب ذلك على هارون، وظن أنه أراد بها مشرف آثار المجوس، وربما قيل إنه شافهه بذلك مبكتاً له، فقال له: اهدموا فلم شرعوا في هدمه صعب الهدم، وتعسر لقوة أحكام بنائه، فاستشاره ثانياً في ترك الهدم، فأشار عليه بأن لا يترك ما شرع فيه من الهدم، فقال له: سبحان الله، اشرت أولاً بترك الهدم وأشرت ثانياً بالهدم، فقال ما معناه: اني إنما أشرت بترك الهدم ليعرف شرف الإسلام وعلوه وقوة تأييده كل من رأى تلك الآثار التي ظهر عليها الإسلام وأذل أهلها وأزال ملكهم الذي زواله لا يرام وعزة لا يضام، فلما لم تقبل مشورتي وشرعتم في هدمه واستشرتني في ترك ذلك، اشرت عليك بعدم الترك لئلا يدل ذلك على ضعف الإسلام، ويقال: عجز المسلمون عن هدم ما بناه المخالفون لدينهم، فعند ذلك عرف صواب رأيه وغزارة عقله، وقد كان غرم على هدم قطعة يسيرة أموالاً كثيرة. رجعنا إلى ذكر أولاد برمك: وساد ابنه خالد، وتقدم في الدولة العباسية، وتولى الوزارة لأبي العباس السفاح، وقال أبو الحسن المسعوعي في كتاب مروج الذهب: لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع حاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله، ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته، ولا جعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ولا محمد بن يحيى في شرفه وبعد همته، ولا موسى في شجاعته وبأسه.

ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد على العراقين، وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه، فنزلوا في طريقهم بقربة بينما هم على سطح بعض دورها يتغدون، اذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبلت منها أقاطيع الوحوش من الظباء وغيرها حتى كادت تخالط العسكر، فقال خالد لقحطبة: ايها الأمير ناد في الناس ومرهم يسرجوا ويلجموا قبل أن يهجم عليهم الخيل، فقام قحطبة مذعوراً فلم ير شيئاً يروعه، فقال: يا خالد ما هذا الرأي؟ فقال: قد نهز إليك العدو أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت إن وراءها لجمعاً كثيفاً، فما ركبوا حتى رأوا الغبار، ولولا خالد لهلكوا، وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميل الخلال على أكمل حال، وكان المهدي قد ضم إليه ولده هارون الرشيد وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف له حقه، وقال له: يا أبت أجلستني في هذا المجلس وببركتك ويمنك وحسن تدبيرك وقد قلدتك الأمر، ودفع له خاتمه، وفي ذلك يقول المولى الموصلي: ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندا ... فهارون واليها ويحيى وزيرها وكان يعظمه إذا ذكره، ويجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، الى أن نكب البرامكة، فغضب عليه وخلده في الحبس إلى أن مات فيه، وقتل ابنه جعفر حسب ما تقدم شرحه في ترجمته، وكان من العقلاء الكرماء البلغاء. ومن كلامه ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية والكتاب والرسول، وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وقال الفضل بن مروان: سمعت يحيى بن خالد يقول من لم أحسن إليه فأنا مخير فيه، ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن له. وقال القاضي يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد ولولده أحد كفؤاً في الكتابة والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل حيث يقول: أولاد يحيى أربع كأربع الطبائع ... فيهم إذا اختبرتهم طبائع الصنائع قال القاضي: فقلت له يا أمير المؤمنين، اما الكتابة والبلاغة والسماحة فتعرفها بقي الشجاعة، فقال: في موسى بن يحيى، ولقد رأيت أن أوليه ثغر السند. وحكى إسحاق النديم، قال كانت صلاة يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي

درهم، فركب ذات يوم فتعرض له شاعر وأنشد: باسمي الحضور يحيى أبيحت ... لك من فضل ربنا جنتان كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان مائتا درهم لمثلي قليل ... هي منكم للقابس العجلان قال له يحيى: صدقت، وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر أنه قد تزوج، وقد أخذ بواحدة من ثلاث: اما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم للمرأة منزلاً وخادماً وما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف لثمن منزل وأربعة آلاف للكفاية وأربعة آلاف للخدمة وما يتعلق بها، او كما قال وأربعة آلاف يستظهر بها، فانصرف بعشرين ألفاً. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي أنه قال: كنت خياطاً بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق، فقصدت يحيى بن خالد، فجلست في دهليزه وأنست الخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: اذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحداً، ونحن ندخلك إليه ذلك الوقت، فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني معه على المائدة فسألني من أنت وما قصتك؟ فأخبرته، فلما رفع الطعام غسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، وقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك وعد إلينا من الغد، فأخذته وعدت إليه في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة، فأنشأ يسألني كما سألني في اليوم الأول، فلما رفعوا الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال له: كما قال في الأول ثم عاد إليه في اليوم الثالث، ثم كذلك إلى اليوم الرابع كل يوم يعطيه كيساً فيه ألف دينار، ثم بعد إعطاء الأربعة الأكياس مكنه من تقبيل رأسه وقال له: انما منعتك ذلك قبل هذا لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يقتضي هذا، والآن قد لحقك بعض النفع مني يا غلام أعطه الدار الفلانية يا غلام افرشه الفراش الفلاني يا غلام أعطه مائتي ألف درهم، يقضي دينة بمائة ألف، ويصلح شأنه بمائة ألف، ثم قال الزمني فكن في داري فقلت: اعز الله الوزير لو أذنت لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي، قال: قد فعلت وأمر بتجهيزي فشخصت إلى المدينة وقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته.

ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده: رأيت يحيى، اتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد ينسى الذي كان من معروفه ... أبداً إلى الرجال ولا ينسى الذي بعدا ولمسلم بن الوليد الأنصاري: أجدك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر صبرت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال. قلت رفي جوده وجود عقبة ينشد هذان البيتان. سألت الندى والجود حران أنتما ... فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد فقلت شرى ذلك الملك قال لا ... ولكن ورثنا والداً بعد والد قلت هكذا قسم الكرم إلى الندى والجود والمعروف إنهما شيء واحد قال في الصحاح: والندى الجود وكان يحيى يقول إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى، وفي هذا المعنى يقول الشاعر: ولا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والعبد مدبر ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه، فقال: سمعت يحيى بن خالد يقول: يدل على حلم الرجل سوء أدب كلمانه، وكان يحيى يساير الرشيد يوماً، فوقف له رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، عطبت دابتي، فقال الرشيد: يعطي خمس مائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزلوا قال له الرشيد: يا أبة أومأت إلي بشيء فلم أعرفه، فقال: مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف عشرة آلاف، فقال: فإذا سأل مثل هذا كيف أقول؟ قال: تقول تشترى له دابة وأخبارهم كثيرة ومكارمهم شهيرة، فلنقتصر على هذا المقدار رغبة في الاختصار. ولم يزل يحيى في الحبس إلى أن مات كما تقدم، ودفن في شاطىء الفرات، فوجدت في جنبه رقعة فيها مكتوب بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجوز فلا يحتاج إلى بينة، وحملت الرقعة إلى الرشيد فلم يزل يبكي يومه كله، وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه.

سنة إحدى وتسعين ومائة

سنة إحدى وتسعين ومائة فيها توفي محمد بن الحسين الأزدي المهلبي البصري، وكان من عقلاء زمانه وصلحائه، ومعمر بن سليمان الرقي، وكان من أجلاء المحدثين ومحمد بن سلمة الحراني الفقيه محدث حران ومغنيها، وفيها توفي أبو أيوب مطرف بن مازن الكناني بالولاء، وقيل القيسي بالولاء اليماني الصنعاني ولي القضاء بصنعاء اليمن. وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير، وطعن في روايته خلق كثير من المحدثين، وقال بعضهم: كان رجلاً صالحاً. سنة اثنتين وتسعين ومائة وفيها أول ظهور الخرمية، ثاروا بجبال آذربيجان، فغزاهم حازم بن خزيمة، فقتل وسبى. وفيها توفي الإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن ادريس الأزدي الكوفي الحافظ العابد. وفيها توفي مفتي الأندلس وخطيب قرطبة، صعصعة بن سلام الدمشقي، اخذ عن الأوزاعي والكبار. وفيها توفي الأمير الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، مات في السجن وقيل في السنة التي تليها، وقد ولي أعمالاً جليلة، وكان أندى كفاً من أخيه جعفر، وله أخبار في السخاء المفرط حتى أنه وصل مرة بعض أشراف العرب بخمسين ألف دينار، وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر فأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى: يا أبة وكان يدعوه كذلك، اني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر، وكان يدعو الفضل بأخي فإنهما متقاربان في المولد وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد واسمها زبيدة من مولدات المدينة، قال وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكتب أنت إليه فكتب والده إليه قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك فكتب إليه الفضل: سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي، وأطعت وما انتقلت عني عن نعمة صارت إليه، ولا غربت عنى، وقال شمس رتبة طلعت عليه فقال جعفر لله أخي،

ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه وأقوى العقل منه وأوسع في البلاغة درعه، وكان الرشيد قد ولاه خراسان، فأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبة اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه ما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظاهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمنع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به والسلام. وكتب في أسفله أبياتاً مضمونها التحريض على التستر في الليل بما لا ينبغي إظهاره، والظهور بالنهار بما ينبغي اشتهاره، كرهت ذكرها في هذا الكتاب، فحذفتها، لتضمنها التحريض على التستر بالذات، وإيهام التنسك مع إخفاء تناول الشهوات المحرمات، وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: ابلغت يا أبة، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن ينصرف عن عمله، وقيل له ما أحسن كرمك لولايته فيك فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: كان أبي عاملاً على بعض بلاد فارس فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف درهم لا يعرف لها وجهاً، والطلب عليه حثيث، فبقي حائراً في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة لكنه علم أنه لا يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوماً وأنا صبي امض إلى عمارة وسلم عليه عني، وعرفه الضرورة التي صرنا إليها، واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرضة إلى أن يسهل الله سبحانه وتعالى، فقلت له أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة؟ وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك، فقال: لا بد أن تمضي إليه، لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته وخرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى أتيت داره، واستأذنت عليه في الدخول فأذن لي، فلما دخلت وجدته على صدر إيوانه متكئاً على مفارش وثيرة، وقد غلف شعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط، وكان من شدة بهته لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت أسفل الإيوان وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة فسكت ساعة، ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادماً على نقل خطواتي إليه. موقناً بالحرمان عاتباً على أبي كونه كلفني إذلال نفسه ونفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظاً منه، فغبت عنه ساعة، ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت بغالاً محملة، فقلت: ما هذه؟ فقيل إن عمارة قد سير المال فدخلت على أبي

ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كي لا أكدر عليه إحسانه، فمكثنا قليلاً، وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة فدفع لي ذلك المبلغ وقال تحمله إليه، فجئت به ودخلت عليه فوجدته على الهيئة الأولى فأسلمت عليه فلم يرد، وسلمت عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول: هـ عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى

وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول: ويفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل ويعرف فيه الخير عند ولادة ... ببذل الندى والجود والمجد والفضل قال: فتهلل وجهه فرحاً وقال: ما سررت قط بمثل هذا، وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال: خذها يا محمد فهو أول حقك، فأخذت المال وخرجت وأنا من أشد الناس فرحاً، واشتريت به أرضاً وعقاراً وفتح الله علي وكثر مالي وعظم جاهي، فما أقمت إلا يسيراً حتى دارت على البرامكة الدائرة وكان عندي حمام بإزاء داري، فأمرت قيم الحمام أن ينظفه ولا يدخله أحد، ثم دخلت فيه وقضيت ما أحتاج إليه وأرسلت إلي قيم الحمام أطلب منه أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني، فأرسل إلي بصبي حسن الوجه فدلكني وغمزني، فلما استلقيت على قفاي ذكرت أيام البرامكة، ان جميع ما أملكه من فضل الله تعالى هو على يد الفضل وذكرت البيتين فقلت: ويفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل ويعرف فيه الخير عند ولادة ... ببذل الندى والجود والمجد والفضل قال فرأيت الصبي الذي كان يدلكني قد انقلبت عيناه وانتفخت أوداجه وسقط مغشياً عليه، فظننت أنه مجنون فأخذت ثيابي ومضيت إلى منزلي وأمرت إلى قيم الحمام، فلما حضر قلت: ارسلت إلي المجنون يدلكني ويغمزني الحمد لله على السلامة منه، قال والله يا سيدي ما به جنون، وإان له عندي سنا كثيرة ما رأيت منه شيئاً، فقلت: علي به الساعة، فلما حضر أنسته من نفسي حتى اطمأنت نفسه وقلت: وما ذلك العارض الذي رأيته منك؟ قال لي

ما رأيت مني قلت رأيت منك ما استحيي من ذكره، فقال: رأيت أني جننت؟ قلت: نعم. قال فما كنت تنشد في ذلك الوقت؟ قلت: بيتين من الشعر قال: ومن قائلهما؟ قلت: أنا قال: ففي من قلتهما؟ قلت: في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد؟ قلت: لا أدري قال: انا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وأنا صاحب ذلك السابع، وفي قلت البيتين، كنت قد سمعتهما من قبل، فلما سمعتهما منك ضاقت علي الأرض بأجمعها، ورأيت مني ما رأيت، قال فقلت له: يا ولدي أنا والله شيخ كبير ولا لي قرابة يرثني وأرثها وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك فتأخذ المال وكون أعيش في فضلك إلى أن أموت، فتغرغرت عيناه بالدموع، وقال: والله لا انثنيت عليك في هبة وهبها لك والدي، وإن كنت محتاجاً إلى ذلك. قال: فحلفت عليه أن يأخذ الكل أو البعض فكره، وكان آخر عهدي به. ومما حكي في كتاب طرف الألباب وتحف الأحباب من حكايات بعض الشعراء والأعراب أنه خرج الفضل بن يحيى البرمكي يوماً إلى الصيد ومعه الأصمعي ومحمد بن يزيد العقيلي والحسن بن هاني، فلما قضى وطره من صيده ورجع يريد مضربه اعترضه أعرابي على راحلة له، فلما رأى الأعرابي المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير والجم الغفير، نزل عن راحلته وتقدم حتى مشى بين يديه وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: ويلك احفظ عليك ما تقول يا أخا العرب، فقال: السلام عليك أيها الوزير، قال: ويحك دون هذا، فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته الآن قاربت فاجلس، فجلس بين يديه، فلما مثل بين يديه، قال: يا أخا العرب، من أين أقبلت؟ قال: من أرض قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: بل من أقصاها، قال الأصمعي: فالتفت إلي الفضل وقال يا أصمعي، كم بين أقصى أرض قضاعة إلى العراق؟ قال قلت: ثمان مائة فرسخ، قال يا أخا العرب مثلك من يقصد من ثمان مائة فرسخ إلى العراق فلأي شيء قصدت؟ قال: قصدت هؤلاء الأنجاد الذين صار معروفهم شائعاً في البلاد، قال: من هم؟ قال: البرامكة. فقال: يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير وكلهم جليل خطير ولكل منهم خاصة وعامة، فهل اخترت من قصدته لنفسك وابتديته لحاجتك؟ قال: اجل. قال: من هو؟ قال: اطر لهم باعاً واسمحهم كفاراً أظهرهم أو قال وأشهرهم كرماً. قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك. قال: يا أخا العرب، ان الفضل جليل المقدار عظيم الخطر إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمذاكرون، افعالم أنت؟ قال: لا.

قال: فأديب أنت؟ قال: لا. قال: افعالم أنت بأخبار العرب وبأشعارها ونوادرها؟ قال: لا. قال: فوردت على الفضل بكتاب وسيلة؟ قال: لا. قال يا أخا العرب، لقد غرتك نفسك مثلك من يقصد الفضل وهو على ما عرفتك من جلاله بلا ذريعة ولا وسيلة؟ قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لحسبه المعروف ولكرمه المألوف، وببيتين من الشعر قلتهما. قال: يا أخا العرب، اسمعني البيتين فإن كانا مما يصلح أن تلقى بهما الفضل أشرت عليك بلقائه، وإن كانا مما لا يصلح أن تلقى بهما الفضل بررتك بشيء من مالي ورجعت إلي ناديتك، ولم يخف نفسك، ولم يستخف شعرك، قال وتفعل ذلك لي أيها الأمير، قال: نعم. قال: فإني والله الذي يقول: ألم تر أن الجود من لدن آدم ... نجود حتى صار يملكه الفضل فلو أم طفل مسها جوع طفلها ... وغذته باسم الفضل لاستعصم الطفل قال أحسنت والله: يا أخا العرب، قال: فإن قال لك الفضل هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر غيرك وأخذ الجائزة عليهما: فأنشد غيرهما ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير: قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحواء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم غيلة الأبناء قال أحسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل وهذان البيتان أيضاً مسروقان ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير. ملت جهابذ فضل دون نائله ... ومل كاتبه إحصاء ما يهب لولاك فضل لم يمدح بمكرمة ... خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس، انشدني غيرهما، وقد رمقتك الأدباء بأبصارهم، وامتدت إليك الأعناق فتحتاج أن تناضل عن نفسك، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير: وللفضل صولات على صلب ماله ... يرى المال فيه بالمذلة مذعنا ولو أن رب المال أبصر جوده ... لصلى على مال الأمير وأذنا قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسموعان، انشدني غيرهما، ماذا كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير: ولو قيل للمعروف ناد أخا الندى ... لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل

ولو أن ما أنفقت من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مقولان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير: وما الناس إلا اثنان صب وباذل ... وإني لذاك الصب، والباذل الفضل على أن لي مثلاً إذا ذكر الهوى ... وليس لفضل في سماحته مثل قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مذكوران أنشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير: حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقاربه التقوى وقاربه البذل وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ... ولم يك للمعروف بعد ولا قبل قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل ضجرنا من الفضل والفضل أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير. ألا يا أبا العباس يا أوجه الورى ... ويا ملكاً جد الملوك له نمل إليك يسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم غل قال: احسنت والله يا أخا العرب، فمان قال لك الفضل أنشدني بيتين بغير الكنية وبغير الاسم وعلى غير القافية، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير: يا جبل الله المنيف الذي ... تسعى إليه في الملمات الورى تؤم أبوابك طلاب الغنى ... كما يؤم البيت حجاج منى قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسروقان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: والله لئن زاد امتحاني الفضل لأقولن أربعة أبيات، ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي، ولئن زاد امتحاني لأدخلن قوائم ناقتي هذه في كذا من أم الفضل، ولأرجعن إلى قضاعة خائباً خاسراً، ولا أبالي، قال: فنكس الفضل رأسه ملياً، ثم رفعه وقال: يا أخا العرب أسمعني الأبيات، فقال: ولائمة لامتك يا فضل في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر أرادت لتنهي الفضل عن بذل ماله ... ومن ذا الذي ينهي السحاب عن القطر كأن نوال الناس من كل وجهة ... تحدر صوب المزن في مهمة قفر كأن وقود الناس من كل بلدة ... إلى الفضل، لاقوا عنده ليلة القدر

قال فخز الفضل على وجهه ضاحكاً ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب، انا والله الفضل فقل ما شئت، قال: عزمت عليك يا أيها الأمير أنت الفضل؟ قال: انا الفضل قال: فأقلني على ما مضى من الكلام مني إليك، قال: اقالك الله، اذكر حاجتك، قال: عشرة آلاف دينار. قال: يا أخا العرب أزريت بنا وبنفسك لك عشرة ومثلها. قال: فحسده بعض الجلساء، وقال له: يا أمير تعطي شاعراً عشرين ألف دينار كان يقنع بالقليل عن الكثير، بالله يا أمير ألا ما ربيت عليه فإن دفع عن نفسه بيت من الشعر وإلا أخذت النصف، وكان في النصف الكفاية، قال: فسمع كلامه وأوتر القوس وركب السهم وقال يا أخا العرب ادفع عن نفسك ببيت من الشعر وإلا أخرجت هذا السهم من عينيك، فأنشأ الأعرابي يقول: فقوسك قوس المجد والوتر الندي ... وسهمك سهم الجود فاقتل به فقري فقال: زيدوه عشرين على العشرين. رجعنا إلى ذكر ما نزل بالبرامكة من البلاء، واستحالة تلك السراء إلى الضراء وتلك النعم إلى النقم وبهجة السرور إلى بؤس الشرور، قال أهل التاريخ: ثم إن الرشيد لما قتل جعفراً على ما تقدم في ترجمته، قبض على أبيه بيحيى وأخيه الفضل المذكور، وكانا بالرقة، فسجنهما بها، واستصغى أموال البرامكة، ويقال: ان الرشيد سير مسرور الخادم إلى السجن فجاءه وقال للموكل بهما: اخرج إلي الفضل، فأخرجه إليه، فقال له: ان أمير المؤمنين يقول لك إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم، فزعمت أنك قد فعلت وقد صح عندي أنك أبقيت لك مالاً كثيراً، وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مائتي سوط، وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك، فرفع الفضل رأسه إليه وقال: والله ما كذبت فيما أخبرت به، ولو خيرت بين الخروج من ملك الدنيا وبين أن أضرب سوطاً واحداً لاخترت الخروج، وأمير المؤمنين يعلم ذلك، وأنت تعلم أنا نصون أعراضنا بأموالنا، فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا؟ فان كنت قد أمرت بشيء فامض له، فأخرج مسرور سوطاً كان معه في منديل فضربه مائتي سوط، وتولى ضربه بنفسه، فضربه أشد الضرب، وهم لا يحسبون الضرب، وكاد أن يتلفه، وكان هناك رجل بصيراً بالعلاج فطلبوه لمعالجته، فلما رآه قال: يكون قد ضربوه خمسين سوطاً، فقيل له: بل مائتي سوط، فقال: ما هذا إلا أثر خمسين لا غير، ولكن يحتاج أن ينام على ظهره على بارية وعدوس على صدره، ثم أخذ بيده فجذبه على البارية فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم أقبل يعالجه إلى أن نظر يوماً إلى ظهره فخر المعالج ساجداً، فقيل له: ما بالك؟ قال: قد برىء وقد نبت في ظهره لحم حي، ثم

قال: الست قلت هذا قد ضرب خمسين سوطاً؟ فقال: اما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا، وإنما قلت هذا حتى يقوى بنفسه فيعنني على علاجه، ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها إليه، فردها عليه، فاعتقد أنه استقلها، فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها إليه، فأبى أن يقبلها، وقال: ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء، والله لو كانت عشرين ألف ديناراً ما قبلتها، فلما بلغ الفضل ذلك قال: والله إن الذي فعله هذا بلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم، وكان قد بلغه أن ذلك المعالج في شدة وفاقة، وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات، قيل كأنها لأبي العتاهية: إلى الله في ما نالنا نرفع الشكوى ... ففي يده كشف المضرة والبلوى خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا: السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا وكان الفضل كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء، فيحكى أنه لما كان في السجن لم يقدر على تسخين الماء، وكان يأخذ إبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زماناً عساه ينكر برودته بحرارة بطنه أو قال باطنه حتى يستعمله أبوه، وأخباره كثيرة وغرائبه غزيرة. وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومائة، وتوفي في السجن في السنة المذكورة، وقيل بل في سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم، ولما بلغ الرشيد موته قال: امري قريب من أمره، وكذا كان فإنه توفي في سنة ثلاث وتسعين ومائة. وفي السنة المذكورة وقيل قبلها وقيل بعدها توفي العباس بن الأحنف اليمامي الشاعر المشهور، ومن شعره: إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع فأقسم ما تزكي عتابك عن قلبي ... ولكن لعلمي أنه غير نافع وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً ... فلا بد منه مكرهاً غير طائع حكى عمر بن شبة قال: ثم مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا؟ قالوا: ابراهيم الموصلي فقال: اخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف، نا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر؟ فأنشد بيتين من نظم العباس، ثم قال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة.

سنة ثلاث وتسعين ومائة

قلت وهذا فيه اعتراض من وجهين: احدهما أن الكسائي كان أولى بالتقديم لفضائله المشهورة ولو لم يكن إلا كونه إماماً في قراءة الكتاب العزيز العربي ولسان اللغة العربية، والثاني أن في موته خلافاً، اين كان من البلاد، وقد قيل إنه مات بالري، وفي ذلك أيضاً إشكال، فإن بعضهم حكى أنه رأى العباس بعد موت هارون الرشيد، وبعضهم حكى أنه توفي قبل هذه السنة، وقد قدمنا ذكر ذلك فالله أعلم أي ذلك كان. سنة ثلاث وتسعين ومائة فيها سار الرشيد إلى خراسان ليمهد قواعدها، وكان في العام الماضي قد بعث من قبض الأمير علي بن عيسى بن ماهان، واستصفى أمواله وخزائنه، فبعث بها إلى الرشيد على ألف وخمس مائة جمل، فوافقته بجرجان. وفيها توفي الإمام العالم أبو بشر إسماعيل ابن علية البصري الأسدي مولاهم، قال شعبة ابن علية: سيد المحدثين، وقال يزيد بن هارون: دخلت البصرة وما بها أحد يفضل في الحديث على ابن علية. وتوفي بعده بأيام الحافظ محمد بن محمد بن جعفر المعروف بغندر، قال ابن معين: كان من أصح الناس كتاباً، وقال غيره: مكث خمسين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها توفي السيد الجليل الإمام أبو بكر بن عياش الأسدي، مولاهم شيخ الكوفة في القراءة والحديث، قال بعضهم: كان لا يفتر من التلاوة قرأ اثني عشر ألف ختمة، وقيل أربعة وعشرين ألف ختمة، وعمره بضع وتسعون سنة، قال رحمه الله رأيت أعرابياً واقعاً بالكناسة على نجيب له ينشد: خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بمهجور جزوى فأبكيا بالمنازل لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى عليل البلابل فخلوت بنفسي فبكيت فاسترحت من مصيبة أصابتني، هذا ما رواه المبرد عنه. وفيها توفي الخليفة أبو جعفر هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور بطوس، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة.

سنة أربع وتسعين ومائة

ومولده بالري سنة ثمان وأربعين ومائة، روى عن أبيه وجده، ومبارك بن فضالة، وحج مرات في خلافته، وغزا عدة غزوات حتى قيل فيه: فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور وكان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدوحاً، فيه دين وسنة وتخشع، وقيل: كان يصلي في اليوم مائة ركعة، ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم، ووعظه الفضيل وابن سماك وبهلول وغيرهم، وله مشاركة قوية في الفقه وبعض العلوم والأدب، وفيه انهماك على الذات ولقيان الجواري الفائقات الجمال وسماع أشعار مغازلاتهن بلسان الحال مما نظمه الشعراء من الأبيات النفائس، وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة أبي نواس، وكذلك سيأتي في ترجمة الأصمعي ذكر أشياء كثيرة جرت له معه ومع غيره، فيها غرائب وعجائب. سنة أربع وتسعين ومائة فيها مبدأ الفتنة بين الأمين والمأمون، وكان الرشيد أبوهما قد عقد العهد للأمين ثم من بعده للمأمون، وكان المأمون على أمرة خراسان، فشرع الأمين في العمل على خلعه ليقوم ولده وهو ابن خمس سنين، وأخذ يبذل الأموال للقواد ليقوموا معه في ذلك، ونصحه أولو الرأي فلم يرعو حتى آل الأمر إلى قتله. وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحافظ، والشيخ العارف بالله السيد الجليل شقيق البلخي شيخ خراسان، وشيخ حاتم الأصم. وفيها على خلاف ما تقدم توفي إمام أئمة العربية حامل راية النحو الراقي فيه المرتبة العلية: ابو بشر عمر بن عثمان، الملقب بسيبويه الحارثي مولاهم، قيل: كان في علم النحو أعلم المتقدمين والمتأخرين، لم يوضع فيه مثل كتابه، وذكره الجاحظ يوماً فقال: لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال. وقال الجاحظ: اردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، ففكرت في أي شيء أهديه له، فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت له: لم أجد شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال:

والله ما أهديت إلي أحب إلي منه. وفي بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره إليه، فقال له ابن الزيات: او ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟ فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، يعني نفسه، فقال ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد وأعزها، فأحضرها إليه، فسر بها، وقعت منه أجل موقع. أخذ سيبويه النحو من الخليل بن أحمد وعن عيسى بن عمرو ويونس بن حبيب وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره. وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل مرحباً بزائر لا يمل. قال أبو عمرو المخزومي، وكان كثير المجالسة للخليل: ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا سيبويه، وكان قد ورد إلى بغداد من البصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس يطول شرحه، وزعم الكسائي أن العرب تقول كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من النحلة، فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل فإذا هو هي، وتشاجرا طويلاً واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام الحضر، وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه، فاستدعى عربياً وسأله، فقال كما قال سيبويه، فقال له يزيد أن يقول كما قالى الكسائي، فقال: ان لساني لا تطاوعني على ذلك، فانه ما يسبق إلا على الصواب، فقرروا معه: ان شخصاً يقول قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما؟ فيقول العربي مع الكسائي، فقال هذا يمكن، ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي، فقيل له ذلك، فقال: الصواب مع الكسائي، وهو كلام العرب، فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه، وقصد بلاد فارس، فتوفي بقرية من قرى شيراز، يقال لها البيضاء، وقيل بل توفي بالبصرة، وقيل بل بمدينة ساوة. وفي السنة التي توفي فيها وفي مقدار عمره خلاف كثير، والذي ذكره الحافظ أبو الفرج بن الجوزي أنه توفي في السنة المذكورة وعمره اثنتان وثلاثون سنة، قيل وكان قلمه أبلغ من لسانه، وهو أثبت من حمل عن الخليل، وقال أبو زيد الأنصاري: كان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذوابتان وإذا سمعته يقول حدثني من أثق به فإنما يعينني، وقال إبراهيم

سنة خمس وتسعين ومائة

الحربي: سمي سيبويه لان وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان في غاية الجمال، وقال غيره: هو لقب فارسي معناه بالعربي رائحة التفاح. سنة خمس وتسعين ومائة فيها تسمى المأمون بإمام المؤمنين لما تيقن أن الأمين خلعه، وجهز الأمين علي بن عيسى بن ماهان في جيش عظيم أنفق عليهم أموالاً لا تحصى وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، فبلغ إلى الري وأقبل طاهر بن الحسين الخزاعي في نحو أربعة آلاف، فأشرف على جيش عيسى بن ماهان - وهم يلبسون السلاح، وقد امتلأت بهم الصحراء بياضاً وصفرة في العدد المذهبة، فقال طاهر: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن اجعلوها خارجية واقصدوا القلب، ثم قيل ذلك ذكروا ابن ماهان البيعة التي في عنقه للمأمون فلم يلتفت وبرز فارس من جند ابن ماهان، فحمل عليه طاهر بن الحسين فقتله، وشد داود على علي بن عيسى بن ماهان فطعنه طعنة صرعه بها وهو لا يعرفه، ثم ذبحه بالسيف فانهزم جيشه، وحمل رأسه على رمح قلت: هكذا في الأصل رشد داود ولم يتقدم له ذكر، ولا بين من هو وأعتق طاهر مماليكه شكراً لله عز وجل. قلت: وقد ذكرت في غير هذا الكتاب ما حكى بعضهم أن الوزير علي بن عيسى المذكور ركب في موكب عظيم، فصار الغرباء يقولون من هذا؟ فقالت امرأة، الى كم تقولون من هذا من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله تعالى فابتلاه بما ترون، فسمعها علي بن عيسى فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة، ولحق بمكة فجاور بها إلى أن توفي رحمه الله، وهذان النقلان مختلفان، والله أعلم أي ذلك كان. وشرع أمر الأمين في سفال وملكه في زوال، قيل إنه بلغه قتل ابن ماهان وهزيمة جيشه، وكان يتصيد سمكاً فقال للبريد: ويلك دعني لكوثر، قد صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئاً بعد، وندم في الباطن على خلع أخيه، وطمع فيه أمراؤه، وفرق عليهم أموالاً لا تحصى حتى فرغ الخزائن وما نفعوه، وجهز جيشاً فالتقاهم طاهر أيضاً بهمدان، وقتل في المصاف خلق كثير من الفريقين، وانتصر طاهر بعد وقعتين أو ثلاث، وقتل مقدم جيش الأمين عبد الرحمن الأنباري أحد الفرسان المذكورين بعد أن قتل جماعة، وزحف طاهر حتى نزل بحلوان. وفي السنة المذكورة ظهر بدمشق أبو العميطر السفياني، فبايعوه بالخلافة، واسمه علي بن عبد الله بن خليل ابن الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فطرد عاملها الأمير

سنة ست وتسعين ومائة

سليمان بن المنصور، فسير الأمين عسكر الحربة، فنزلوا الرقة ولم يقدموا عليه. وفيها توفي إسحاق بن يوسف الأزرق محدث واسط، روى عن الأعمش وطبقته، وكان شيخاً حافظاً عابداً، يقال إنه بقي عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء. وفيها توفي أبو معاوية الضرير الكوفي الحافظ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي الحافظ. وفيها أو في التي قبلها توفي محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم الكوفي الحافظ، ومحدث الشام أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي، توفي بذي المروة راجعاً من الحج، روى عن ابن أبي مريم وخلائق، وصنف التصانيف، قال بعضهم: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد، صلح أن يلي القضاء، وهي سبعون كتاباً. وفيها توفي مروج بن عمرو السدوسي النحوي البصري، اخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما وكان الغالب عليه الفقه والشعر، وله عدة تصانيف وشعر ومنه: وفارفت حتى ما أراعي ما النوى ... وإن غاب جيران علي كرام فقد جعلت نفسي على الناس تنطوي ... وعني على هجر الصديق تنام سنة ست وتسعين ومائة فيها توفي الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ببغداد، فخلع الأمين في رجب وحبسه، ودعا إلى بيعة المأمون، فلم يلبث أن وثب الجند عليه فقتلوه، وأخرجوا الأمين وجرت أمور طويلة وفتنة كثيرة. فيها توفي قاضي البصرة أبو المثنى معاذ بن العنبري، وكان أحد الحفاظ. وفيها توفي قاضي شيراز ومحدثها سعد بن الصلت، روى عن الأعمش وطبقته وكان حافظاً. وفيها توفي أبو نواس الحسن بن هانىء الشاعر المشهرر، وذكر محمد بن داود بن الجراح أن أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة، ئم سار إلى بغداد. وقال

غيره: ولد بالأهواز، ونقل منها وعمره سنتان، وأمه هوزانية، وكان أبوه من جند مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وكان من أهل دمشق، فانتقل إلى الأهواز وتزوج وأولد عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ، فأما أبو نواس فأسلمته أمه إلى بعض العطارين، فرآه أبو أسامة بن الحباب، فاستخلاه وقال له: ارى فيك مخائل أرى لا تضيعها، وستقول فاصحبني أخرجك فقال له: ومن أنت؟ قال أبو أسامة بن الحباب. قال: نعم أنا والله في طلبك، ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك وأسمع منك شعرك، فصار أبو نواس معه، وقدم به بغداد، وأول ما قاله من الشعر وهو صبي. حامل الهوى تعب، يستخفه الطرب ... إن بكى بحق له، ليس مابه لعب تضحكين لاهية، والمحب ينتحب ... تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب قالوا وهو في الطبقة الأولى من المولدين، وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في العشرة، وقد اعتنى بجمع شعره جماعة، فلهذا يوجد ديوانه مختلفاً. وحكي في بعض الكتب أن المأمون كان يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس: ألا كل حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين غريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وإنما قيل له أبو نواس لذوابتين كانتا له تنوسان على عاتقه، وعن ابن عيينة أنه قال: هو أشعر الناس، وقال الجاحظ: ما رأيت أعلم باللغة منه، وقال أبو حاتم السجستاني: كانت المعاني مدفونة حتى أثرها أبو نواس، وقال: لولا أن العامة استبذلت هذين البيتين لكتبتهما بماء الذهب، وهما لأبي نواس: ولو أني استزدتك فوق مالي ... من البلوى لأعوذك المزبد ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا قلت: ويحكى له من النوادر والغرائب والمخترعات العجائب ما يطول في تعداد الحاسب، من ذتك ما حكي عن هارون الرشيد أنه كان ذات ليلة من الليالي يطوف في داره، فلقي جارية من جواريه، وكان يجد بها وجداً ويلتمس منها حاجته فتأبى عليه، فوجدها في تلك الليلة سكرى، فجمشها، فانحل إزارها وسقط خمارها عن منكبيها، فقالت: امهلني تلك الليلة يا أمير المؤمنين، فغداً أسير إليك، فخلاها، فلما كان الصبح أرسل إليها خادماً وقال: اجيبي أمير المؤمنين، فقالت: ارجع عليه وقل له: كلام الليل يمحوه النهار، فرجع إليه وعرفه بذلك، فقال له: انظر من على الباب من الشعراء، فلقى الرقاشي وأبا مصعب

وأبا نواس، فرجع إليه وعرفه بهم، فقال أدخلهم إلي، فلما حضروا بين يديه، قال لهم: عرفتم لم طلبتكم يا شعراء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: اشتهي من كل واحد منكم شعراً في آخره كلام لليل يمحوه النهار فقال الرقاشي: متى تصحو وقلبك مستطار؟ ... وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة، لا تزور، ولا تزار إذا وعدتك صدت ثم قالت ... كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو مصعب: أما والله لو تجدين وجدي ... لأذهب للكرى عنك الشرار فكيف وقد تركت العين عبرى ... وفي الأحشاء من ذكراك نار فقالت: انت مغرور بوعدي ... كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وليلاً أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمان صغار وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التجميش وانحل الإزار مددت يدي لها أبغي التماساً ... فقالت: في غد منك المزار فقلت الوعد سيدتي؟ فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار فأمر لكل واحد من الاثنين بألف دينار، وقال علي بسيف ونطع واضربوا فيه رقبة أبي نواس، فقال: ولم تضرب رقبتي يا أمير المؤمنين؟ فقال: كأنك كنت معنا البارحة، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بت إلا في داري، وإنما استدللت على ما قلت بكلامك، فقبل منه وأمر له بعشرة آلاف دينار. ومما يحكى من غرائب أبي نواس وعجائب اختراعاته أيضاً ما معناه: ان هارون الرشيد طرقه ذات ليلة قلق وسهاد منع الراحة منه والرقاد، ففكر فيما يزيل عنه ذلك، ويجلب له الانشراح، ودار في مواضع فيها النزهة والارتياح فما حصل له الغرض من ذلك حتى دخل على بعض سراريه، فوجدها نائمة وجواريها يضربن بالمعازف على رأسها، فلما دخل تفرقن من حولها، فكشف عن وجهها وقبل موضع خال في خدها، فانتبهت ذات فزع وقالت: من هذا؟ فقال: ضيف، فقالت: نكرم الضيف بسمعي والبصر فلما أصبح استدعى بأبي نواس، فقال: ابو نواس قل له إن ثيابي مرهونة عند الخمارة بست مائة درهم، ان استنفكها لي لبست وجئت، فالتزم الرشيد ذلك القدر فجاء فقال له أحب أن تنظم لي أبياتاً

على هذا اللفظ: نكرم الضيف بسمعي والبصر فقال: طال ليلي عاودني السهر ... ثم فكرت وأحسنت النظر جئت أمشي في زوايات الخبا ... ثم طوراً في مقاصير الحجر إذ توجه فمر قد لاح لي ... آية الرحمن من بين البشر ثم أقبلت إليه مسرعاً ... ثم طاطيت فقبلت الأثر فاستقامت فزعاً قائلة ... يا أمين الله ما هذا السفر قلت ضيف طارق في داركم ... هل تضيفوني إلى وقت السحر؟ فأجابت بسرور سيدي ... نكرم الضيف بسمعي والبصر فقال هارون: يا تارك كنت البارحة تحت السرير تسمع كلامنا اضربوا عنقه، فحلف ما كان هذا، وشفعوا فيه، فقال: ان كنت صادقاً فقل في شيء أنا أبصره في هذه الساعة، وكانت جارية قبالة الرشيد تضرب شذراً في ظل شذرتين، لابسة في إحدى كفيها خاتمين، وهي في مكان لا يراها أبو نواس ولا أحد غير الرشيد من سائر الناس فقال: نظرت عيني لحيني واشتكى ... وجدي لبني عند في السدرتين شحنا مثل اللجين تضرب الشذر ... بكف وبأخرى خاتمين فقال الرشيد أنت تبصرها يا فاعل اقتلوه، فحلف ما يبصر شيئاً، وتشفع فيه فلم يقبل، فقالت جارية بالقرب من الرشيد لا يبصرها غيره، ولا إلى سواها يبلغ كلامه بالله يا سيدي خله يروح، فقال لها الرشيد سراً إليها: ما أخليه حتى تمشي إلي عريانة فخلت ثيابها ومشت حتى جاءته، فخلاه فلما صار أبو نواس عند الباب قال إي والله يا سيدي: ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا فقال له يا شيطان، فخرج هارباً من ذلك بعدما أبدع فيما يقول، واخترع ما سحر به العقول. قلت وهذا البيت للفرزدق وهو مذكور في موضع آخر من هذا الكتاب في قضية مختصرها أنه اختصم هو وامرأته النوار إلى عبد الله بن الزبير، ونزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله، ونزلت امرأته على امرأته، فتشفع كل واحد منهما لنزيله، فقبل ابن الزبير شفاعة امرأته دون شفاعة ابنه، فقال الفرزدق: ليس الشفيع إلى أخر البيت المذكور. ومما نحن بصدده مناسباً لما ذكرنا من حب الجواري الغانيات وأشعار أبي نواس الرائقات ما حكى الأصمعي قال: كنت عند الرشيد فأتي بجارية ليبتاعها فأعجبته، فقال

لمولاها: بكم الجارية؟ فقال: بمائة: الف درهم، فقال: ادفع المال إليه يا غلام، فلما ولى قال: ردوا الجارية، فردت، فقال: يا جارية أبكر، انت أم ثيب؟ فقالت: بل ثيب. فقال: ردوها على مولاها ثم أنشد. قالوا عشقت صغيرةً فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم تركب كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب فقالت الجارية: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الجواب؟ قال: نعم فأنشدت: إن المطية لا يلد ركوبها ... حتى تذلل بالزمان وتركبا والحب ليس بنافع أربابه ... حتى يفضل بالنظام ويثقبا قال فضحك الرشيد، وقال يا غلام ادفع ثمنها إلى مولاها، وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها، قلت: والبيتان اللذان أنشدهما الرشيد هما من شعر أبي نواس، واللذان أنشدتهما الجارية هما من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري. قلت ولي قصيدة في الحكم بين هذين المختلفين، وفي تفضيل ألوان الغواني بعضها على بعض، ووصف أعضائها ومحاسنها الحسناء، وذكر غرور الدنيا منها هذه الأبيات: يا مسرعاً نحو الحسان لتخطبا ... تأن واختر مورداً مستعذبا هذا الأجيرع والعوير مورد ... ماء العذيب الخالي المستعذبا ودع المويلج والأزيلم جانباً ... يا من غدا بالغانيات معذبا من بيض مجد عاليات الحسن أو ... من خضر سعد إن نشا أن تخطبا أو صفر وجد من هوى راقي العلى ... حامي الذمار الماجد المستنجبا عند الغواني والمعالي أيما ... تشأ فاختر بعد وصفي مذهبا سلطان ألوان الغواني أبيض ... وله وزير أصفر قد قربا والأخضر الميمون أضحى عنده ... أيضاً أميراً بالسعادة مخضبا لم يبق إلا جندي أو سائس ... فاختر لما يهواه طبعك فاصحبا كل امرء بالطبع يهوى مشرباً ... يحلو ولو أضحى أجاجاً مشربا لكن بيض الغانيات تفاوتت ... ألوانها فاسمع مقالاً صوبا أبهى أزهاها بياض مشرب ... من صفرة يحكي لجيناً مذهبا إن عذب ما للظما جاء مذهبا ... فظمي الهوى تلقى له ذا مذهبا ذاك الذي ما زلت أهوى والذي ... أختار من بين المذاهب مذهبا دري لون معجب في ناهج ... في كفه العناب يزهو معجبا

في خده تفاح روض يحببا ... وبصدره رمانً مرة أرطبا والدر منثوراً يرى في لفظه ... ومنظماً في بسمه مترتبا والسفل في لحظ بأكحل فاتر ... ويرى مريضاً بالجفون محجبا طرف المهمامع جيد ريم نفرت ... وتميزت بالحسن من بين الظبا من بين نحري بدر حسن حاجز ... كالسيف لم يجر بحر يسكبا والمسك مع شهد الماء حايم ... في درة ظلم المفلج أشيبا في فرد بيت حدثاني ما حوى ... بعدها بيت أتى مستنجبا ودعص رمل غصن بان مثقل ... على عمودي وبردي قد ركبا وطول جعد كالغراب مجاور ... وجهأ حكى بدر الدياجي مذهبا ولون بيض من نعام شبه ... المولى به الحور الحسان مرغبا لكن على مقدار أفهام الورى ... قد شبه الرحمن تلك مقربا هيهات ابن البيض ممن لو بدت ... في مشرق ليلاً أضاءت مغربا أو في الأجاج البحر تبرق أودجا ... تبسمت ذا ضاء وذاك استعذابا والمخ في ساق تراه من ورا ... سبعين من جلبابها لن يحجبا وعجبت من قوم صفر رجحوا ... منها وممن مدح خضر أطيبا مع أن لون الحور أقوى حجة ... للبيض لا تلقى بذلك مكذبا والكل ذموا لون جص لم يكن ... ما رونق أو لون در أشربا ولسمع لما في فضل بكر أنشدوا ... لأبي نواس في قولاً هذبا قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم تركبا كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... ليست، وحبة لؤلؤ لم تثقبا مع قول هادي العيس أعني مسلما ... بخل الوليد المستنجد المغربا إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركبا والحب ليس بنافع أربابه ... حتى يفضل بالنظام ويثقبا وجوابا جلد يافعي في الحمى ... أبداً مع التفضيل تفضيل النبا أبدا قريضا في يراع حاكما ... ومبينا فضلا لكل مطيبا أولى مطايا العبد ما لم يمتطي ... لن يعد روض ما يرى مستصعبا والدر سهل الانتفاع تقية ... وغير ممغوث سهى جربا هذا لعمري في الحكومة قد كفى ... فضلاً وإن فضلاً ترم يا مرحبا فالبسط في نظم وشر عادة ... لي حببت والقلب مع ما حببا مستثنياً قل في روض هجت ... محبوبة تلك الرعات تحببا

سنة سبع وتسعين ومائة

ما تهتدي فيه ثواني سهلة ... وتريك ما لا تهتديه مطربا في الكل فضل معجب لكنه ... في غير ممغوث تراه أعجبا هذا إذا ما في الجمال تساويا ... ما اختص بعض منهلاً مستطيبا أما إذا إحداهما في حسنها ... فاقت فلن فيما سواها ترغبا إلا إذا اختصت ببعض مرغب ... كالدين أو مال وجاه أو صبا مهلاً هديت الرشد يا من قلبه ... نحو الغواني والأغاني قد صبا اعلم بأناكم نفيس مطية ... قد امتطينا واختبرنا المركبا فالكل الفينا سراباً كالهبا ... في قاع دنيا حين جر الهبا وإليه عن حصب رأى كم سالك ... في سفره ملنا تام المجدبا فلا سراباً فيه ألقينا ولا ... سرنا فألقينا البهيج المخصبا مع ما ارتكبنا من مخوف كالتي ... عن ركبها مالت اليه لتشربا ظنته ماء فانتحته فلم تجد ... شيئاً وخافت عنده أن ينهبا وهكذا الأيام تنهب عمرنا ... في غير خير يختشى أن تذهبا سنة سبع وتسعين ومائة فيها حوصر الأمين ببغداد وأحاط به طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وزهير بن المسيب في جيوشهم، وقاتلت مع الأمين الرعية وقاموا معه قياماً لا مزيد عليه، ودام الحصار سنة، واشتد بالبلاء وعظم الخطب. وفيها توفي قاضي صنعاء هشام بن يوسف من أبناء الفرس، سمع معمراً وابن جريج، وأخذ عنه ابن المدائني، وهو من رواة الصحيحين. وفيها توفي محدث الشام الإمام أبو محمد بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي الحافظ رحمه الله. وفيها توفي شعيب بن حرب المدائني الزاهد، احد علماء الحديث. وفيها توفي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح، روى عن الأعمش قال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، قلت وهو الذي أشار إليه القائل بقوله:

سنة ثمان وتسعين ومائة

شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأوصاني إلى ترك المعاصي وعلله بأن العلم فضل ... وفضل الله لا يحويه عاصي قال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعاً، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة، وقال أحمد: ما رأت عيني مثل وكيع. وفيها توفي الإمام أحد الأئمة الأعلام عبد الله بن وهب الفهري مولاهم الفقيه المالكي المصري، صحب الإمام مالك عشرين سنة، وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير، وقال أحمد بن صالح: حدث بمائة ألف حديث، وقال مالك في حقه: عبد الله بن وهب إمام، وكان مالك يكتب إليه إذا كتب في المسائل: الى عبد الله بن وهب المفتي، ولم يكن يفعل هذا مع غيره. وذكر ابن وهب وابن القاسم عند الامام مالك فقال: ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه، وقال يونس بن عبد الأعلى: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فخير نفسه ولزم بيته، فاطلع عليه بعضهم يوماً وهو يتوضأ في صحن داره، فقال له ألا تخرج الى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله؟ فرفع إليه رأسه وقال: الى هاهنا انتهى عقلك أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين، وكان صالحاً جامعاً بين الفقه والرواية والعبادة، وله تصانيف معروفة، وسبب موته أنه قرىء عليه كتاب الأهوال من جامعه فأخذه شيء كالغشيان، فحمل إلى داره فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه، رحمه الله. سنة ثمان وتسعين ومائة فيها ظفر طاهر بن الحسين بعد أمور يطول شرحها بالأمين فقتله، وصلب رأسه رمح، وكان مليحاً أبيض اللون جميل الوجه طويل القامة، عاش سبعاً وعشرين سنة، واستخلف ثلاث سنين وأياماً، وخلع في رجب سنة ست وتسعين، وحارب سنة ونصفاً، وهو ابن زبيدة بنت جعفر بن المنصور. وفي أول رجب منها توفي شيخ الحجاز وأحد الأعلام أبو محمد سفيان بن عييبة الهلالي مولاهم الكوفي الحافظ نزيل مكة، وله أحد وتسعون سنة، وحج سبعين حجة، قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وقال ابن وهب: لا أعلم أحداً أعلم

سنة تسع وتسعين ومائة

بالتفسير من ابن عيينة، وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أعلم بالسنن من ابن عيينة. وقال غيرهم من العلماء: كان إماماً عالمأ ثبتاً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته. روى عن الزهري وأبي إسحاق السبيعي وعمرو بن دينار ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد وعاصم بن أبي النجود المقري والأعمش وعبد الملك بن عمير وغير هؤلاء من أعيان العلماء. وروى عنه الإمام الشافعي وشعبة بن الحجاج ومحمد بن إسحاق وابن جريج والزبير بن بكار وعمرو بن مصعب وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ويحيى بن أكثم القاضي وغير هؤلاء من العلماء الأعلام ممن يكثر عددهم من الأنام. وقال الشافعي: ما رأيت أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف عن الفتيا منه، وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال فجاء الناس يسألوني عن عمرو بن دينار، فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته فقال لي يا بني ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث يضطرب في حفظ تلك الأحاديث توفي سفيان رحمة الله عليه بمكة، قلت: وقبره معروف مكتوب عليه بالخط الكوفي اسمه. وفي جمادى الآخرة منها توفي الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي البصري اللؤلؤي الحافظ أحد أركان الحديث بالعراق، وله ثلاث وستون سنة. وفيها توفي الإمام أبو يحيى معن بن عيسى المدني القزاز صاحب مالك، وفي صفر توفي الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان البصري الحافظ أحد الأعلام، قال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط، قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله، وقال ابن معين: اقام يحيى القطان عشرين سنة يختم في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. سنة تسع وتسعين ومائة فيها توفي يونس بن بكير الشيباني الكوفي الحافظ صاحب المغازي. وفيها توفي سليمان بن إسحاف الرازي، وكان عابدأ خاشعاً، يقال إنه من الأبدال.

سنة مائتين

وفيها توفي حفص بن عبد الرحمن البلخي، كان ابن المبارك يزوره ويقول، اجتمع فيه الفقه والوقار والورع. سنة مائتين فيها توفي أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن مسلم المدني الحافظ رحمه الله تعالى. وفيها على القول الصحيح توفي الولى الكبير العارف بالله الشهير المجتبي المقرب الترياق المجرب مطلع الأنوار ومنبع الأسرار مظهر الآيات ومقر الكرامات العلية والأحوال السنيه أبو محفوظ معروف الكرخي، من موالي علي بن موسى الرضا وكان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب وهو صبي وكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول معروف: بل هو الله الواحد القهار، فضربه المعلم يوماً على ذلك ضرباً مبرحاً فهرب منه، وكان أبواه يقولان ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه، ثم إنه أسلم على يدي علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه، فدق الباب فقيل له: من بالباب؟ فقال: معروف، فقل: على أي دين؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهوراً بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان السري تلميذه، فقال له يوماً: اذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى فأقسم عليه بي. وأتاه مرة بإنسان إلى دكانه وأمره أن يكسوه فكساه، فقال معروف بغض الله اليك الدنيا، فقام من مجلسه ذلك وقد بغضت إليه الدنيا. وأتت امرأةً إلى معروف في بغداد وهي حزينة على ولد لها صغير ضاع، وقد سألته أن يدعو لها بردة عليها، فقال: اللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك، وما بينهما لك فاحفظه واردده على أمه، او كما قال في دعائه، فإذا به قد جاء، فقالت له أمه: اين كنت؟ فقال: كنت الساعة في باب الأنبار. وقال السري: رأيت معروفاً في النوم كأنه تحت العرش، والباري جلت قدرته يقول للملائكة: من هذا؟ وهم يقولون: انت أعلم يا رب منا، فقال هذا معروف الكرخي، سكر من حبي، فلا يفيق إلا بلقائي.

وقال محمد بن الحسين: سمعت أبي يقول: رأيت معروفاً الكرخي في النوم بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقلت: بزهدك وورعك؟ قال: لا بل بقبول موعظة ابن السماك ولزومي الفقر ومحبتي للفقراء. وكانت موعظة ابن السماك قوله: من أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملته ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته عليه، وأقبل بوجوه الخلق إليه، ومن كان مرة ومرة فالله يرحمه وقتاً ما، قال فوقع كلامه في قلبي وأقبلت على الله تعالى وتركت جميع ما كنت عليه. وذكر بعضهم، انه سمع مشايخ بغداد يحكون أن عون الدين بن هبيرة كانت سبب وزارته أنه قال: قد ضاق ما بيدي. حتى فقدت القوة أياماً، فأشار علي بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه، واسأل الله عنده، فإن الدعاء عنده مستجاب، قال: فأتيت قبر معروف الكرخي، فصليت عنده، ودعوت، ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد، فاجتزت بمحلة من محال بغداد، فرأيت مسجداً مهجوراً، فدخلله لأصلي فيه كعتين، فإذا بمريض ملقى على بارية، فقعدت عند رأسه وقلت له: ما تشتهي؟ فقال: سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك، فرهنت ميزرتي على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك، فأكل من السفرجلة ثم قال أغلق باب المسجد فأغلقته فتحنى عن البارية، وقال: احفرها هنا، فحفرت فإذا بكوز، فقال: خذ هذا فأنت أحق به، فقلت أما لك وارث؟ قال: لا إنما كان لي أخ، وعهدي به بعيد، وبلغني أنه مات، ونحن من الرصافة، قال: فبينما هو يحدثني إذ قضى نحبه، فغسلته وكفنته ودفنته، ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمس مائة ينار، وأتيت إلى دجلة لأعبرها، وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة، فقال: معي معي، فنزلت معه وإذا به من أكبر الناس شبهاً بذلك الرجل، فقلت: من أين أنت؟ فقال: من الرصافة ولي بنات، وأنا صعلوك، فقلت: ما لك أحد؟ قال: لا وكان لي أخ ولي عنه زمان وما أدري ما فعل الله به، فقلت: ابسط حجرك، فبسط فصببت المال فيه، فبهت فحدثته الحديث، فسألني أن آخذ نصفه، فقلت: والله ولا حبة، ثم صعدت إلى دار الخليفة، وكتبت رقعة، فخرج عليها أشراف المخزن، ثم تدرجت إلي الوزارة، ومناقب معروف كثيرة، وفضائله شهيرة، وموضع ذكر شيء منها كتب السلوك. وفيها توفي أبو البختري وهب بن وهب القرشي الأسلي المدني، حدث عن العمري وجعفر الصادق وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه غير واحد، وكان متروك الحديث، ينسب إلى وضعه، وتولى القضاء

بالمدينة وغيرها، ثم عزل وأقام ببغداد إلى أن توفي بها، وكان فقيهاً أخبارياً نسابةً جواداً سرياً سخياً يحب المديح ويثيب عليه الجزيل، وكان إذا أعطى قليلاً أو كثيراً أتبعه عذراً إلى صاحبه، وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه حتى لو رآه من لا يعرفه لقال: هذا الذي قضيت حاجته، وكان جعفر الصادق وقد تزوج أمه. وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وبالغ في مدحه، وقال دخل شاعر فأنشده: إذا افتر وهب خلته برق عارض ... ينعق في الأرضين أسعده السكب وما ضر وهباً ذم من خالف الملا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب لكل أناس من أبيهم ذخيرة ... وذخرتي، فهو عقيد الندى وهب فاستهل ضاحكاً وأمر له بصرة فيها خمس مائة دينار، وقوله ينعق أي ابتعج السحاب بالمطر، وقوله عقيد الندى وهو بمعنى قولهم فلان عقيد الكرم، وفي البخل يقولون عقيد اللؤم إذا بالغوا في المدح والذم، قلت ولعله مأخوذ من عقد العسل إذا أثخن، قال الجوهري يقال عقد الرب وغيره إذا غلظ فهو عقيد. وحكى الخطيب أن أبا البختري قال: لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم، لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هو أعلم مني استفدت. قلت: والتعليل بغير هذا أحسن وأصوب، وهو أنه إذا كان أعلم منهم تقلد الأمور الخطيرة، وأسندت إليه الخطوب المضرة التي لعله لا يكمل للقيام بها، ولا يأمن الوقوع في عطبها، وإذا كانوا أعلم منه انتفى عنه ذلك المحذور، وأمن من الخوف في عواقب الأمور، وله تصانيف، منها كتاب فضائل الأنصار، وأخباره ومحاسنه كثيرة، وأقوال المحدثين في الطعن فيه شهيرة.

اثنتين ومائتين

/إحدى ومائتين فيها عهد المأمون إلى علي بن موسى الرضا العلوي بالخلافة من بعده، وأمر الدولة بترك السواد، ولبس الخضرة، وأرسل إلى العراق بهذا، فعظم على بني العباس الذي ببغداد، ثم خرجوا عليه، وأقاموا منصور بن المهدي، ولقبوه بالمرتضى، وسيأتي ذكر ذلك، مع غيره في تاريخ موت علي بن موسى المذكور، في سنة ثلاث ومائتين إن شاء الله تعالى. وفي السنة المذكورة أعني الأولى بعد المائتين أول ظهور بابك الخرمي، من الفرق الباطنية الزنادقة، فعاث وأفسد، وكان يقول بتناسخ الأرواح. وفيها توفي حماد بن أسامة الكوفي الحافظ مولى بني هاشم، قال أحمد: ما كان أثبت، لا يكاد يخطىء، روى عن الأعمش والكبار. وفيها توفي أبو الحسن الواسطي محدث واسط، روى عن الحسين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب والكبار، وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفاً، فقال وكيع: أدركت الناس، والحلقة لعلي بن عاصم بواسط. وقال بعض المؤرخين: كان إماماً ورعاً صالحاً جليل القدر، وضعفه غير واحد لسوء حفظه. اثنتين ومائتين فيها توفي الإمام المقرىء النحوي اللغوي صاحب التصانيف الأدبية يحيى بن المبارك العدوي المعروف باليزيدي،، لصحبته يزيد بن منصور خال المهدي. كان نحوياً لغوياً شاعراً فصيحاً، أخذ عن الخليل من الغريب واللغة، وكتب عنه العروض، وله " كتاب النوارد في اللغة " ودخل مكة في رجب، فأقبل على العبادة والاجتهاد والصدقة الكثيرة، وقد حدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريج. وروى عنه محمد ابنه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي،

وجماعة من أولاده، وأبو عمر الدوري، وأبو شعيب السوسي، وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل، وأبو خلاد سليمان بن خلآد وغيرهم. وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة من القرآن، وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور خال المهدي، وإليه كان ينسب كما تقدم، ثم اتصل بهارون الرشيد، فجعل ولده المأمون حجره،. فكان يؤدبه، وكان ثقة، وهو أحد الفصحاء العالمين بلغات العرب، وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد. وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو الخليل بن أحمد كما مر، ومن كان معاصرهما، وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد، ويقرآن الناس، أن الكسائي يؤدب الأمين، ويأخذ عليه حرف حمزة، وهو يؤدب المأمون، ويأخذ عليه حرف أبي عمر، وقال: وجه إليه يوماً بعض خدمه فأبطأ عليه، فوجه إليه آخر فكذلك، قال: فقلت إن هذا الفتى ربما اشتغل بالبطالة. فلما خرج مرت بحلة، وقومته، أو كما قال لتدلك عينه من البكاء، إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منه منديلاً فمسح عينيه، وجمع ثيابه عليه، وقام إلى فراشه، مد عليه متربعاً، ثم قبل ليدخل فدخل، وقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه، وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه. فلما هم بالحركة دعا بدابتة، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ على ما بقي من حزبي، فقلت: يا أيها الأمير أطال الله بقاءك لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر، فقال: حاشا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا. فكيف بجعفر يطلع على أني محتاج إلى الأدب؟ يغفر الله لك، لقد بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا يكون أبداً، ولو عدت في كل يوم مائة مرة. وحكى المرزباني وغيره قالوا: سأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درك، ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظها. انتهى. قلت: وإنما حسن وضع الواو في لفظه المذكور، لأنه لو حذفها منه لاستحق بذلك الأدب من الملوك، بل القتل، لأنه حينئذ يكون نافياً لجعله فداء له، وإثباتها يثبت جعله فداء نفسه الكريمة مقدماً بقاءه على بقاء نفسه عند نزول النوائب، وذلك من أعظم الآداب وأحسن التخاطب.

وقال بعضهم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد، وهو جالس على وسادة، فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق موضع على متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين. وقال اليزيدي: دخلت على المأمون والحنيا غضة وعنده " نعم " تغنيه، وكانت من أجمل أهل دهرها، فأنشدت. وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا مثل ربي كف ذاك الآخذ فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي، أيكون شيء أحسن مما نحن فيه؟. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم فقال: أحسنت وصدقت. ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، وحكي: أنه وقع بين اليزيدي والكسائي تنازع في هذا البيت: لا يكون العير مهراً ... لا يكون المهر مهر فقال الكسائي: يجب أن يكون مهراً منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على التقدير أقوال، وقد علم كون حرف الروي فيما قبله مرفوعاً، فقال اليزيدي: الرفع صواب، لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، وهي مؤكدة للأولى ثم استأنف وقال: المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض، وقال: أنا أبو محمد، فقيل له: اتكتني بحضرة أمير المؤمنين. والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، لأحسن من صوابك مع سوء أدبك. فقال: إن حلاوة الظفر أذهب عني حسن التحفظ. وفيها: توفي الفضل بن سهل وزير المأمون أبو العباس السرخسي أخو الحسن بن سهل وعم بوران التي تزوجها المأمون، قالوا: لما وزر للمأمون، استولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، وكانت فيه فضائل. وتلقب بذي الرياستين، وكان من أخبر الناس بعلم النجوم وأكبرهم إصابة في أحكامه فيها. حكى أبو الحسين السلامي في تاريخ ولاة الخراسان أنه لما عزم المأمون على إرسال

طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه الأمين، نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء،. وكان ذا عينين، فأخبر المأمون بأن طاهراً يظفر بالأمين. وتلقب بذي اليمينين، فكان الأمر كذلك. فتعجب المأمون من إصابة الفضل، ولفب طاهراً بذلك. وولع المأمون بالنظر في علم النجوم، قال السلامي: ومما أصاب الفصل بن سهل فيه من أحكام النجوم، أنه اختار للطاهر بن الحسين حين سمي للخروج إلى الأمين وقتاً عقد فيه لواء، فسلمه إليه ثم قال له: لقد عقدت لك لواء لا يحل خمساً وستين سنة. وكان بين خروج طاهر بن الحسين إلى وجه علي بن عيسى بن هامان مقدم جيش الأمين وقبض يعقوب بن الليث بنيسابور، خمساً وستين سنة. ومن إصاباته أيضاً ما حكم به على نفسه. وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلفه، فحملت إليه سكة مختومة مقفلة، ففتح قفلها فإذا صندوق صغير مختوم، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة حرير مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمان وأربعين سنة، ثم يقتل بين ماء ونار، فعاش هذه المدة ثم قتله غالب " خال المأمون " في حمام بسرخس كما سيأتي إن شاء الله تعالى وله غير ذلك إصابات كثيرة. ويحكى أنه قال يوماً لثمامة بن الأشرس: ما أدري ما أصنع في طلاب الحاجات، فقد كثروا علي وأضجروني. فقال له: زل عن موضعك، وعلي أن لا يلقاك أحد منهم، قال: صدقت. وانتصب لقضاء أشغالهم. وكان قد مرض بخراسان، وأشفى على التلف. فلما أصاب العافية، جلس للناس، فدخلوا عليه، وهشوا بالسلامة، وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم، أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعماً، لا ينبغي للعاقل أن يجهلها بمحيص الذنوب والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة، وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء، وفيه يقول بعضهم، وقيل ابن أيوب التيمي: لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عظموا للفضل إلا ضائع ترى عظماء الناس للفضل خشعاً ... إذا ما بدا والفضل لله خاشع تواضع لما زاده الله رفعة ... وكل جليل عنده متواضع وقال فيه مسلم بن وليد الأنصاري من جملة قصيدة:

ثلاث ومائتين

أقمت خلافة، وأزلت أخرى ... جليل ما أقمت، وما أزلتا قالوا: ولما ثقل أمره على المأمون، دس عليه خاله غالباً، فدخل عليه الحمام بسرخس، ومعه جماعة فقتلوه مفاوضة، وذلك يوم الجمعة ثاني شعبان من السنة المذكورة، وقيل في التي تليها، وعمره أربعون، وقيل إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر والله أعلم ولما قتل مضى المأمون إلى والدته، ليعزيها، فقال لها: لا تأسي عليه، ولا تجزعي لفقده، فإن الله قد أخلف عليك مني ولداً به يقوم مقامه، فمهما كنت تنشطين إليه فيه، فلا تنصصي عني منه. فبكت ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد النسبي، ولد مثلك " وسرخس " المذكور بالسين المهملة مكررة قبل الراء وبعد الخاء المعجمة الساكنة مدينة بخراسان. ثلاث ومائتين فيها استوثقت الممالك للمأمون، وقدم بغداد في رمضان، من خراسان، واتخذها سكناً. وتوفي الإمام المقرىء الحافظ حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي، روى عن الأعمش وجماعة، قال أحمد: ما رأيت أفضل منه ومن سعد بن عامر الضبعي، وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: إن بقي أحد من الأبدال، فحسين الجعفي، وقال بعضهم: كان مع تقدمة في العلم رأساً في الزهد والعبادة. وفيها: توفي زيد بن الحباب أبو الحسين الكوفي، كان حافظاً صاحب حديث، واسع الدخل، صابراً على الفقر والفاقة. وفيها توفي محمد بن بشر العبدي الكوفي الحافظ، قال أبو داود: هو أحفظ ممن كان بالكوفة في وقته. وفيها: توفي أبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي مولاهم الكوفي، قال أبو حاتم: كان ثقة حافظاً عابداً مجتهداً. وفيها توفي أبو جعفر محمد بن جعفر الصادق، الملقب بالديباج، مات

بجرجان، ونزل المأمون في لحده. وكان عاقلاً شجاعاً متنسكاً. كان الديباج يصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها: توفي الإمام أبو الحسن النضر بن شميل المازني البصري. كان رأساً في الحديث واللغة والنحو، والفقه والغريب والشعر وأيام العرب، صاحب سنة. وهو من أصحاب الخليل بن أحمد. ذكره أبو عبيدة وقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري بالبصرة، فخرج يريد خراسان فتبعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو اخباري، فلما صار بالمربد، جلس فقال: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلاً ما فارقتكم. قال: فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك، وسار حتى وصل خراسان، وجمع بها مالاً، وكانت إقامته بمرو ونظير ضيق المعيشة عنه على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة القاضي عبد الوهاب المالكي، وضيق معيشته ببغداد، وانتقاله إلى مصر، سمع النضر بن هشام بن عروة واسماعيل بن أبي خالد، وحميد الطويل، وعبد الله بن عون، وهشام بن حسان، وغيرهم من التابعين. وروى عنه يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وكل من أدركه من أئمة عصره. ودخل نيسابور فسمع عليه أهلها، وله مع المأمون نوادر، منها: أن المأمون روى عن هشيم بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيها سداد من عود. ورواه بفتح السين من سداد، فرواه النضر من طريق آخر، عن عوف بن أبي جميلة بسنده المتصل: سداد، بكسر السين، فقال له المأمون تلحنني؟ فقال: إنما لحن هشيم. قال: فما الفرق بينهما. قال: السداد: بالفتح: القصد في الدينه والسبيل. والسداد بالكسر: البلغة. وكل ما سددت به شيئاً، فهو سداد. قال: أو تعرف العرب ذلك. قال: نعم، هذا العرجى يقول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له. ثم أخذ القرطاس وكتب، ولا يدري ماذا كتب، ثم قال: إذا أمرت أن تترب يعني الكتاب كيف تقول؟ قال: أترب. قال: فهو ماذا قلت: مترب. قال: فمن الطين؟ قال: طين. قال: فهو ماذا؟ قال: مطين: فقال هذه أحسن من الأولى. ثم قال: يا غلام أتربه وطينه، ثم أرسل بالكتاب إلى وزيره الفضل بن سهيل مع غلامه، وبعث معه النضر بن شميل، فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر: إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبره، فقال: لحنت أمير المؤمنين قال: كلا، إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لحانه. فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذ ثمانين ألف درهم بحرف استفيد منه. والبيت الذي استشهد به هو لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي الشاعر المشهور، وهو من جملة أبيات، منها قوله: أضاعوني، وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر وصبر عند معترك المنايا ... وقد شرعت أسنتها بنحر وسبب عمله لهذه الأبيات أنه حبسه محمد بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك، وكان والياً على مكة. وأقام في حبسه تسع سنين حتى مات في الحبس، من أجل أنه كان يشبب بأمه، ولم يكن ذلك عن محبة له فيها، بل ليفضح ولدها المذكور، وعاش ثمانين سنة. وفيها: توفي الإمام الحبر أبو زكريا يحيى بن آدم الكوفي المقرىء الحافظ الفقيه صاحب التصانيف. وفيها: توفي أزهر بن سعد الباهلي مولاهم البصري. روى الحديث عن حميد الطويل، وروى عنه أهل العراق، وكان صحب أبا جعفر المنصور قبل أن يلي الخلافة، فلما وليها جاءه مهنئاً، فحجبه المنصور فترصد له في يوم جلوسه العام وسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد سمعت أنك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف درهم، وقال: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعد إلي فإني قليل الأمراض. فمضى وعاد في قابل، فحجبه، فدخل عليه في مثل ذلك المجلس، فسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ فقال: سمحت منك دعاء، فجئت لأتعلمه منك، فقال له: يا هذا إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني وأنت تأتيني. وله وقائع وحكايات مشهورة، قلت: وهذا من المنصور حلم، وطول روح، وهو

غريب بالنسبة إلى سطوته، ولو وقع مثل هذا التكرار والمعاودة مع الحجاج لكان يفضي إلى قتل أو عقوبة شديدة، ووقوع مثل هذا مع المنصور مع بذل هذه الأموال أمر عجيب. وفيها: توفي الإمام الجليل المعظم سلالة السادة الأكارم أبو الحسن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الأثني عشر، أولي المناقب الذين انتسبت الإمامية إليهم، وقصروا بناء مذهبهم عليه. وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيية، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم. وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً بين كبير وصغير، واستدعى علياً المذكور، فأنزله أحسن منزل، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحداً في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة من علي الرضا فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وإبدال ذلك بالخضرة. ونمي الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا إن في ذلك خروج الأمير عليهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا منصور بن المهدي عم المأمون، ولقبوه بالمرتضى، فضعف عن الأمر وقال: إنما أنا خليفة المأمون. فتركوه وعدلوا إلى أخيه إبراهيم بن المهدي، بايعوه بالخلافة، ولقبوه بالمبارك، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من المحرم من السنة المذكورة، وقيل سنة اثنتين وثلاث مائة. وجرت بالعراق حروب شديدة وأمور مزعجة، والشرح في ذلك يطول. وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل: بل ولد في سابع شوال، وقيل: ثامنه، وقيل سادسه سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي: خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث، وقيل: في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملتصق قبر أبيه الرشيد. وكان سبب موته على ما حكوا، أنه كل عنباً فكثر منه، وقيل: بل مات مسموماً،

أربع ومائتين

وفيه يقول أبو نواس لما عتب عليه بعض أصحابه، وقال له: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا معنى إلا قلت فيه شيئاً، هذا علي بن موسى الرضا في عصرك، ما قلت فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلا إعظاماً له، وليس قدر مثلي يستحسن أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة: قيل لي أنت أحسين الناس طراً ... قي فنون من المقال النبيه لك من جيد القريض مديح ... يثمر الدر في يدي مجتنيه فعلى ما تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي ذهبت هي فيه قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادماً لأبيه قلت: وفي هذه الأبيات لفظان أصلحتهما، لاختلال وزنهما من جهة الكاتب. وقال فيه أيضاً أبو نواس: مطهرون بقبات حياتهم ... تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا من لم يكن علوياً حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخر الله لما برا خلقاً فأتقنه ... صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاءت به السور وقال المأمون يوماً لعلي بن موسى المذكور: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟ فقال: ما يقولون؟ رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه فأمر له بألف ألف درهم. وكان قد خرج أخوه زيد بن موسى بالبصرة على المأمون، وفتك بأهلها، فأرسل إليه المأمون أخاه علياً المذكور، يرده عن ذلك، فجاءه وقال له: ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله، لأشد الناس عليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يا زيد، ينبغي لمن أخذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعطي به، فبلغ كلامه المأمون، فبكى وقال: فكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: هذا الكلام مأخوذ من كلام زين العابدين، فقد قيل: إنه كان إذا سافر كتم نسبه، فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أعطي به. أربع ومائتين فيها توفي إمام الأنام، وحيد الدهر وفقيه العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس بن

فأسر العباس بن العثمان بن شلفع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القريشي المطلبي الشافعي، يجتمع نسبه مع نسب رسول الله عليه وسلم في عبد مناف وهو رابع آباء رسول الله صلي الله عليه وسلم وعاشر آباء الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والشافعي نسبه كما تقدم قريباً، وكونه مطلبياً، هو من جهة الأب، وهو أيضاً هاشمي من جهات أمهات أجداده، وأزدي من جهة أمة. وقد أوضحت ذلك في اختصار مناقبه منقولاً عن العلماء الأعلام الأئمة الحفاظ منهم الحاكم أبو عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وذلك لأن أم السائب هي الشفا بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف، وأم الشفا هي خليدة " بفتح الخاء المعجمة والدال المهمله وكسر اللام وسكون المثناة من تحت بينها وبين الدال " ابنة أسد بن هاشم بن عبد مناف، وأم عبد يزيد هي الشفا بنت هاشم بن عبد مناف، وذلك أن المطلب زوج ابنه هاشماً الشفا بنت هاشم بن عبد مناف، فولدت له عبد يزيد، فالشافعي ابن عم رسول الله عليه وسلم، وابن عمته، لأن المطلب عم رسول الله عليه وسلم، والشفا بنت هاشم بن عبد مناف أخت عبد المطلب، عمة رسول الله عليه وسلم. وأيضاً قد نقل عن الشافعي أنه كان يقول: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ابن عمي وابن خالتي. وأما كونه ابن عم له فواضح، لكونه ثبت أنه مطلبي من طريق عديدة، منها قول الإمام ابن دريد في الأبيات الآتي ذكرها. ترى ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع وقول الإمام المسلم بن الحجاج القشيري قال: عبد الله بن السائب والي مكة هو أخو شافع بن الشائب جد محمد بن إدريس الشافعي. قال بعض الأمة: ولا أن عبد الله بن السائب كان من بني المطلب، وقال الإمام داود بن علي الأصفهاني وقد ذكر بعض أقوال الشافعي قال: هذا قول المطلبي الذي علا الناس بنكته، وقهرهم بأدلته، وباينهم بشهامته، وظهر عليهم بديانته، التقي في دينه، النقي في حسبه، الفاضل في نفسه، المتمسك بكتاب ربه، المقتدي بسنة رسوله، الماحي لأرباب أهل البدع، الذاهب بخبرهم، الطامس لسيرهم، حتى أصبحوا كما قال الله تعالى: " فأصبح هشيماً تذروه الرياح ". ومن ذلك إقرار الخليفة هارون الرشيد في ذلك قوله: أما علم محمد بن الحسن أنه إذا ناظر رجلاً من قريش أنه يقطعه لما بلغله أن الشافعي قطعه؟ وقوله؟ أيضاً: ألا إن بني

المطلب ما فارقوا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرف ولا في سخاء حين بلغه أن الشافعي فرق جميع ما أعطاه من الدنانير الألف وقول الرشيد لأبي يوسف أيضاً: ومحمد لن توازياه ولن تعادلاه، والله، قد أثبت الله له حق القرابة من رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق الشرف وحق القرآن وحق العلم وقوله أيضاً للشافعي: كثر الله في أهلي مثلك. كل هذا مما نقله العلماء في مناقبه. ومن ذلك شيوع ذلك واستفاضته، قالوا: وقد ثبت بالتواتر أن الشافعي كان يفتخر بهذا النسب، وأما كونه ابن خاله علي فلأنه قد تقدم أن أم السائب بن عبيد جد الشافعي هي الشفا بنت الأرقم بن عبد مناف، وأم هذه المرأة هي خليدة بنت أسد بن هاشم، وأم علي هي فاطمة بنت أسد بن هاشم. قلت: وقد رويت السند الصحيح المتصل إلي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: ما مات الشافعي حتى قطب. رواه الشيخ الأمام العارف بالله شهاب الدين بن المليق عن الشيخ الفقيه الأمام العارف بالله تاج الدين بن عطاء الله، عن شيخه الشيخ الكبير المعظم ذي النون القدسي العارف بالله أبي العباس المرسي عن شيخه الشيخ الكبير العارف بالله ذي المقام العالي المشهود له بالقطبية أبي الحسن الشاذلي قدس الله أرواح الجميع. وسبب رواية الشيخ ابن المليق لذلك أنه قال: قد جئت إلي الشيخ إمام تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي المالكي، يا سيدي، أريد أن أصحبك بشرط أن تتركني على مذهبي، فإني أحب مذهب الشافعي، فقال: نعم، وأزيدك زويدة وهي أنه: ما مات الشافعي حتى قطب، روى ذلك بالسند المذكور إلى الشيخ القطب أبي الحسن الشاذلي رحمه الله. قلت: وأرى لهذه القطبية احتمالين: أحدهما: القطبية التي تنتقل من واحد إلى واحد، وإليها الإشارة بقول بعضهم: محجوبة لن يراها اثنان في زمن. الثاني: أن يكون للعلماء قطب للأولياء قطب والله أعلم. قلت: ومن المشهور المذكور في رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري وغيرها عن الشيخ الكبير العارف بالله، الشهير ببلال الخواص رضي الله عنه أنه سأل الخضر عليه السلام عن الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال: هو من الأوتاد. قلت: وذلك قبل أن يرتقي إلي مقام القطبية. رجعنا: إلى ذكر نسب الشافعي رضي الله عنه، قال العلماء: وجده " شافع " لقي رسول الله عليه وسلم، وهو متزعزع وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر،

فأسر وفدى نفسه، ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت لأحرم المؤمنين طمعاً لهم في. وباقي نسب الشافعي إلى معد بن عدنان معروف، وكان الشافعي رضي الله عنه كثير المناقب، جم المفاخر، عديم النظير، منقطع القرين، اجتمع فيه العلوم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وكلام العرب من النحو واللغة والشعر وغير ذلك ما لم يجتمع في غيره، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين، وحتى أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الجميع قال: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي. وقال له إسحاق بن راهويه وهو بمكة أكثر من عشر مرات: تعال أريك رجلاً ما رأت عيناك مثله، فأوقفه على الشافعي قلت: وحتى الزمخشري من أئمة المعتزلة أثنى على الإمام الشافعي، وعظمه، ورجح قوله، وقوى حجته، وجعله من أئمة اللغة المعتبرين، ومدحه مدحاً حسناً كما سيأتي ذكره. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: كا رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي، وقال الإمام أحمد: الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما عوض. وقال يحيى بن معين: كان الإمام أحمد نهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوماً، والشافعي راكب بغلته، وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهي عنه، وتمشي خلفه، قال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت. وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن الحكم أنه قال: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري قد خرج من فرجها، حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية فتأؤل أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق سائر البلدان. وذكر الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه أول من صنف في أصول الفقه، وقال: اتفق الناس على ذلك، وأنه الذي رتب أبوابه، وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبها في الضعف والقوة، قيل وما مثل الشافعي ومثل غيره إلا كما قال القائل: نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وذكر هو وغيره من الأئمة ما هو مشهور في مناف الشافعي، وهو أن إمام الحديث في،

زمانه المشكور المشهور عبد الرحمن بن مهدي التمس من الإمام الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً يذكر فيه شرائط الإستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص، فوضع الشافعي له كتاب الرسالة، وبعثها إليه، فلما قرأها قال: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل، قلت: يعني من أئمة العلماء. وكان الإمام أحمد يقول في الشافعي: فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة وإختلاف الناس والمعاني والفقه. وقال في الحديث الوارد: في أحداث الله من يجدد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة، إنه كان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائة الثانية محمد بن الحرشي الشافعي، وقد أوضحت في " كتاب المرهم في الأصول " من ذكر الأئمة المعتبرين من بعده على رؤوس المئين يكونون. وقال الشافعي: رأيت في زمان الصبا بمكة رجلاً ذا هيئة، يؤم الناس في المسجد الحرام، فلما فرع، أقبل على الناس يعلمهم، قال: فدنوت منه، وقلت: علمني، فأخرج ميزاناً من كمه، فأعطانيه، وقال: هذا لك. قال: وكان هناك معبر، فعرضت عليه الرؤيا فقال: إنك ستصير إماماً في العلم، وتكون على السنة، لأن إمام المسجد الحرام أفضل الأئمة كلهم، وأما الميزان فإنك تعلم حقيقة الشيء في نفسه. قلت: لا جرم أن الإمام الشافعي استنبط علوماً لم يستبق إليها، كاستنباطه علم أصول الفقه، وتلخيصه باب القياس تلخيصاً سنياً، ووضعه للخلق قانوناً كلياً، يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، كما سيأتي ذكر ذلك، فهو كما ذكر بعض العلماء أن نسبته إلى علم الأصول كنسبة أرسطا طاليس الحكيم إلى وضع المنطق في معرفة تركيب الحدود والبراهين، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض والأصول في معرفة وزن الشعر، والتمييز بين صحيحه وفاسده، وسيأتي ذكر مقامات أخرى له، رضي الله تعالى عنه. وقال محمد بن عبد الحكم: ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه، ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر، فيبين لهم معانيه. وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل بإعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.

وكان لمزني يقول: لو وزن عقل الشافعي بعقل نصف أهل الأرض رجح. قلت: هكذا قال: أرض بالتنكير، فليعلم ذلك، وقال: لو رأيتم الشافعي لقلتم في كتبه أنها ليست من تصانيفه، والله إن لسانه كان أكثر من كتبه. وقال القاسم بن سلام: ما رأيت رجلاً قط أضل ولا أورع ولا أفصح ولا أبسل من الشافعي، وكان أبو حاتم الرازي يقول: لولا الشافعي لكان أصحاب الحديث في عمى. وقال بعض الأئمة: كان أئمة الحديث مأسورين في أيدي المعتزلة. حتى ظهر الإمام الشافعي، وقال الحسن بن محمد الزعفراني: إن محمد بن الحسن يعني صاحب الإمام أبي حنيفة قال: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي. وقال بشر المريسي من أئمة المبتدعة لما رجع من مكة إلى بغداد: رأيت شاباً بمكة من قريش ما أخاف على مذهبنا إلا منه، وكان الجاحظ من أئمتهم يقول: نظرت في كتب هؤلاء التابعة الذين اتبعوا في العلم يعني أهل السنة فلم أر أحسن تأليفاً من المطلبي، أن لسانه ينظم الدرر، وكذلك الزمخشري من أئمتهم، ومكانه من علم العربية معروف، صدر منه الإعتراف في كتابه " الكشاف " للشافعي: بالتقدم في علم العربية وإرتقائه في الفضل لدرجة العلية في تفسير قوله تعالى: " ذلك أدنى أن لا تعولوا ") النساء: 13، (وذكر فيه الوجوه المروية عن الشافعي، ثم بين وجه تصحيحها، ثم قال: وكلام مثل الشافعي من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بأن يحمل على الصحة والسداد. قال: كفى بكتابنا المترجم " كتاب شافي العي من كلام الشافعي " شاهداً بأنه كان أعلى كعباً أطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا. قلت: يعى في قول الشافعي معناه: يكثر عيالكم، وقول المفسرين معناه، تعيلوا وتجوروا، وإنه يقال: أعال، لا عال، إذا أريد كثرة العيال. قيل: إلا أن يحمل على العقبى، لأن المعيل قد يعول. وأنشد بعضهم على قول المفسرين: وميزان حق لا يعول شعيره ... ووزان صدق، وزنه غير عائل وأنشد أيضاً على قول الشافعي: وإن الموت يأخذ كل حي ... بلا شك وإن أثرى وعالاً وقال الأصمعي: قرأت شعر الشنفري " بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح الفاء والراء " الأزدي على محمد بن إدريس الشافعي. وقال المازني: قول محمد بن إدريس حجة في اللغة، وذكر نحوه عن ثعلب

والأزهري، ولما استدعى به هارون الرشيد قال: بعد قصص كثيرة: ما علمك بكتاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن علوم القرآن كثيرة، أفتسألني عن محكمه ومتشابهه؟. أو عن تقديمه وتأخيره؟ أو عن ناسخه ومنسوخه. أو عما ثبت حكمه وارتفعت تلاوته. أو عن عكس ذلك. أو عما ضرب الله به مثلاً. أو عن ما جعله الله اعتباراً؟ . أو عن أخباره، أو عن أحكامه، أو عن مكية ومدنية؟. أو عن ليلية ونهارية؟ أو عن سفرية وحضرية؟. أو عن تنسيق رصفه أو تسوية سوره؟. أو نظائره أو إعرابه؟. أو وجوه قراءته أو حروفه؟ أو معاني لغاته أو عدد آياته؟. قال الراوي: فما زال الشافعي يعدد هذه حتى عدد ثلاثة وسبعين نوعاً من أنواع علوم القرآن. قال هارون: لقد أوعيت من القرآن علماً عظيماً، فقال: المحنة على الرجل كالنار على الذهب. وكذلك سأله عن السنة، فأجابه أنه يعرف منها ما خرج على وجه الإيجاب، وعلى وجه الخطر، وعلى وجه الخصوص، وعلى وجه العموم، وما خرج جواب سائل، وما خرج لإزدحام العلوم في صدره صلى الله عليه وآله وسلم، وما فعله فاقتدى به غيره، وما خص به صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرشيد أجدت ووضعت كل قسم في مكانه، فقال: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، فقال: كيف بصرك بالعربية؟ فقال: هي مبدأنا طباعنا وألسنتنا، فقال: كيف معرفتك بالشعر. فقال: إني لأعرف الجاهلي منه والمخضرم والمحدث وطويله ومديده وكامله وسريعه ومجتثه ومنسرحة وخفيفه ورجزه وهزجه ومتقاربه وغزله وحكمته، وكذلك سأله عن الطب، فأجابه بأنه يعرف ما قاله علماؤه، وعددهم وغير ذلك من العلوم. وكان شيوخ مكة يصفون الشافعي من أول صغره بالذكاء والعقل والصيانة، ويقولون: لم يعرف له صبوة. وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس، وقد حفظت الموطأ، فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا القارىء، فقرأت عليه الموطأ حفظاً، فقال: إن يك أحد يفلح، فهذا الغلام. وروى الإمام أبو نعيم الأصفهاني أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تؤموا قريشاً، وأتموا بها الحديث "، قال فيه فإن عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً، وكان سفيان بن عيينة إذا جاء شيء من التفسير أو من الفتيا، التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا. وقال الحميدي: سمعت مسلم بن خالد الزنجي، يعني شيخ الشافعي يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله لآن لك أن تفتي. وهو إذاك ابن. خمس عشرة سنة.

وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت الإمام أحمد عند الإمام الشافعي في لمسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، قال: إن هذا يفوت، وذلك لا يفوت. وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم تعظيمه للشافعي. وقال الشافعي: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: يا غلام، من أنت. قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فأخذ من ريقه المبارك، فتحت فمي، فأمر من ريقه على لساني وفمي وشفتي، وقال: امض، بارك الله فيك. قال: ورأيت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في النوم أيضاً، فسلم، فصافحني، وخلع خاتمه وجعله في إصبعي، وكان لي عم، ففسرها لي فقال: أما مصافحتك لعلي فهو أمان من العذاب، وأما خلعه خاتمه وجعله في أصبعك، فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في المشرق والمغرب. قلت: ومن التحدث بنعم الله، مما يقرب من مناسبته، هذا ما رأيت، والحمد لله، كأني أطوف بالكعبة، ومعي الملك الناصر، وفي إصبعي خاتم علي، فعسى أن يكون تأويلها إن شاء الله تعالى البركة والهدى والنصر والعلو في الدين. وكذلك رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مراراً عديدة، دعا لي في بعضها، وفي بعضها أعطاني من ثمار الفاكهة الخضراء، وفي بعضها شكوت عليه شيئاً بلسان الحال، فتبسم وقال: أنا ظهرك، وأنا سندك، وسماني شيخاً وإماماً وفقيهاً، وأكلت من طبق رطب بين يديه، وحرص بعض الأخيار على حضور مجلس، وحملني صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعني على منبر، وأركبت فرساً، وحملت الغاشية بين يدي. رأى كل هذا لي جماعة من الأولياء السادات. ورأيت بعضه، ورأى بعضهم أني جالس على سجادة بيضاء مفروشة تجاه وجهه صلى الله عليه وآله وسلم وناس من خلفي، والحمد لله على جميع الآلاء والأفضال، وعلى كل، حال من الأحوال. رجعنا إلى ذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه وذكر غير واحد من الأئمة ما تقدم من إن الشافعي أول من تكلم عن أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وأول من علل الحديث،

وكان حاذقاً في الرمي يصيب تسعة من عشرة، وروي عنه أنه قال: استعملت اللبان سنة للحفظ فأعقبني صب الدم. وقال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي. وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه. وقال الإمام أحمد: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة. وقال الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقوداً، حتى جاء الشافعي، فأيقظهم، فتيقظوا، وفضائله أكثر من أن تعد، ومناقبه أجل من أن تحد فقد صنف الأئمة الجلة كالبيهقي وفخر الدين الرازي وداود الظاهري وغيرهم من العلماء فيها تصانيف قيل: ثلاثاً عشر مصنفاً. وقد ذكرت نبذة مختصرة من مناقبه، وما جرى له في العراق من المناظرات وغيرها بحضرة الرشيد، وتصنيف كتبه المشتملة على قوله القديم في العراق وفي مصر المشتملة على فتيا " القول الجديد الموسوم بمنهل الفهوم " المروي من صدى الجهل المذموم في شر ألسنة العلوم، عند ذكر المراجعة في فن البديع بقولي: فقلت لها: ما العلم. قالت: دراية ... وما ذاك في محض الروايات مسمعاً وما الفقه؟. قالت: وصفا الفهم، ليس في ... مجرد ثقل صادق من له وعى ويكفيك قول المصطفى، رب حامل ... دليلاً إذا ما فيه نودي: وتوزع وعرف صلاح علم أحكام شرعنا ... بكسب وتفصيل الدليل تفرع ومن جهة الإجمال علم أصوله ... دعا الله خيراً ذلك النهج أبدعا إمام الهدى السامي على أو براعة ... ونور الوجود الباهج المتشعشعا وبحر العلوم الزاخر الطامي الخضم ... تاج العلى الراقي المقام المرفعا فتى نجل إدريس الرضا لأئمة ... بدور الدياجي قدوة الدين متبعا فضائله تزهو الوجود بحسنها ... بها سارت الركبان غرباً ومطلعا وما لخصال المدح في ذكر بعضها ... مجال نعتها الكتب، ضاقت لها وعا إلى ذكره أتجر الكلام، ولم أرم ... مناقب ذي العلياء أمدح متبعا ترى هل حصاني حين أرخى عنانه ... عتيقاً جواداً شافع السر سلفعا ترى قاطعاً في شاوة من مساحة ... تطول لفضل الشافعي القطب إصبعا كذاك بإسناد صحيح مقطب ... له قبل ما ناعى منيته نعى

عن الشاذلي المشهور شيخ زمانه ... إمام الهدى القطب الرضي المتورعا وأيضاً من الأوتاد من قبل ذا إلى ... شهير روايات عن الخضر مسمعا عليه سلام الله أكرم سيد ... حضيض اصطفى في قلبه السر أودعا ومولده: سنة خمسين ومائة، وقد قيل أنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. قلت: وبيننا وبين الحنفية مقاولة على سمبيل المزاح، فهم يقولون إمامكم كان مخفياً حتى ذهب إمامنا، ونحن نقول: لما ظهر إمامنا هرب إمامكم. وكان مولده رضي الله تعالى عنه في بلاد غزة، وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، والأول أصح. وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها وقرأ القران الكريم. وحديث رحلته مشهور فلا نطول بذكره، وقدم بغداد، فأقام بها سنتين، وصنف بها كتبه القديمة، ووقع بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات كثيرة، وبارتفاع شأن الشافعي عند هارون الرشيد شهير، وقد أوضحت ذلك في غير هذا الكتاب. وذكر بعضهم: أنه لما ظهر عليه الإمام الشافعي في بعض مناظراته، أمر الرشيد الشافعي بجر رجل محمد بن الحسن، فأخذ الشافعي عند ذلك يمدح محمد بن الحسن، ويقول: يا أمير المؤمنين، ما رأيت سمينا أفقه منه، فخلع الخليفة عليهما، وحمل كل واحد منهما على مركوب، وأمر للإمام الشافعي بخمسين ألف درهم، فما وصل الشافعي بيته، حتى تصدق بجميع ذلك، ووصل به الناس. ثم رجع إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها شهراً ثم خرج إلى مصر، وصنف بها كتبه الجديدة، ولم يزل بها إلى أن توفي في اليوم الجمعة آخر يوم من رجب، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الكبرى، وقبره يزار بها، وعليه ضربت قبة عظيمة. قال: الربيع المزادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجع من جنازته، قال: ورأيت في المنام قبل موت الشافعي بأيام، كأن آدم صلى الله عليه وآله وسلم مات، والناس يريدون أن يخرجوا بجنازته، فلما أصبحت سألت بعض أهل العلم عن ذلك، فقال: هذا موت أعلم أهل الأرض، لأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسيراً، حتى مات الشافعي رحمه الله عليه.

قال: ورأيته بعد موته في المنام، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك. فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب. وقال شيخنا الكبير العارف بالله الخبير نور الدين علي بن عبد الله المعروف بالطواشي نسباً، الشافعي ثم الصوفي مذهباً، قدس الله روحه: رأيت الشافعي رضي الله تعالى عنه تحت سدرة المنتهى، وأشك، هل ذلك في المتام. أو في حال ورد عليه. وقد اتفق العله قاطبة من أهل الفقه والحديث والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على جلالته وبراء وفضيلته وإمامته وتقواه وديانته وورعه وزهادته وجوده وسماحته ومروؤته ونزاهته وحسن سيرته ولطافته. وله من الأشعار ما يخرج عن حيز الإنحصار، وقد ذكرت شيئاً من ذلك كتابي المذكور قريباً، ومن القول المنسوب إليه: بقدر الكد تكتب المعالى ... ومن رام العلى سهر الليالي وقوله: تغرب عن الأوطان في طلب العلى ... وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم، واكتساب معيشة ... علم وآداب وصحبة ماجد وقوله: أخي، لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مكنونها بيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان ولما مات رثاه خلق كثير بمرات كثيرة. من ذلك قول بعض أئمة اللغة وهو ابن دريد: ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي قوارع مناهج فيها للورى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع ظواهرها حكم ومستنبطاتها ... لما حكم التفريق فيها، جوامع ترى ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع إذا المعضلات المشكلات تشابهت ... سما منه نور في دجاهن لامع وقول نفطويه: مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء. قلت: وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله أن الإمام الورع الزاهد أبا جعفر محمد بن أحمد الترمذي رحمه الله تعالى، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام المدينة في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم عام حج، فسأله عمن يأخذ بقوله من أئمة

المذاهب، في كلام طويل قال في آخره: قلت: فأخذ يقول: الشافعي، قال ما هو له، يقول: إنه أخذ بسنتي ورد على من خالفها. فكذلك ذكر الإمام الشيخ أبو إسحاق أيضاً في الطبقات، عن الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، أنه كان قاعداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأغفى إغفاءة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله عمن يأخذ بقوله كما تقدم، فعد إماماً بعد أمام، حتى جاء إلى الإمام الشافعي، قال: فقلت كتب رأي الشافعي؟ ، فطأطأ صلى الله عليه وآله وسلم رأسه. شبه الغضبان، وقال: تقول رأي ليس بالرأي، وهو رد على من خالف سنتي. وشيوخ الشافعي الذين أخذ عنهم جماعة منهم: مسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة، كلاهما في مكة، ومالك بن أنس في المدينة. وأما أصحابه الذين أخذوا عنه، فمنهم الذين رووا كتبه القديمه في العراق، وهم جماعة منهم: الإمام أحمد بن حنبل، والزعفراني والكرابيسي وأبو ثور، ومنهم الذين رووا كتبه الجديدة بمصر وهم جماعة أيضاً، منهم المزني والبويطي وحرملة وابن عبد الأعلى وابن عبد الحكم، والربيعان المرادي، والحيري. ثم رجع ابن عبد الحكم بعد موت الشافعي إلى مذهب أبيه، وكان مالكياً، قيل: إنما فعل ذلك لما عدل الشافعي عن استخلافه وتقديمه في حلقته بعد موته، وقد كان استشرف بها إلى يعقوب البويطي، فإن الشافعي سئل: من يخلفك؟ فقال: سبحان الله، أيشك في هذا؟ يخلفني أبو يعقوب البويطي، فراعى الشافعي النصيحة والمصلحة محافظة على الدين، ولم يمل عن ذلك إلى محمد بن عبد الحكم مع كونه محبباً ومحسناً إليه. وفي السنة المذكورة توفي فقيه الديار المصرية أشهب بن عبد العزيز العامري، صاحب الأمام مالك، وكان ذا مال وحشمة وجلالة. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب، لولا طيش فيها، وذكروا أن المناقشة كانت بينه وبين ابن القاسم، وانتهت الرئاسة بمصر، بعد ابن القاسم. وقال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت، فذكر ذلك للشافعي فقال متمثلاً: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزود بأخرى غيرها، وكأن قد.. قال: فلما مات الشافعي، اشترى أشهب من تركته عبداً، ثم مات أشهب، فاشتريت أنا ذلك العبد، وذكروا أنه كان موت أشهب بعد الشافعي بشهر وقيل بثمانية عشر يوماً.

خمس ومائتين

وفيها: توفي الإمام أبو علي الحسن بن زياد اللؤلؤي قاضي الكوفة صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما، وكان يقول: كتبت عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث وكان رأساً في الفقه. وفيها: توفي الإمام أبو داود الطيالسي سليمان بن داود البصري الحافظ صاحب المسند، وكان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث. وفيها: توفي شجاع بن الوليد أبو بدر السكوني الكوفي، كان من صلحاء المحدثين وعلمائهم. وفيها: وقيل في سنة ست توفي هشام بن محمد بن السائب الحلبي الأخباري النسابة، صاحب كتاب الجمهرة في النسب، وكان حافظاً علامة، إلا أنه متروك الحديث عند المحدثين، قيل فيه رفض، وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً في التاريخ والأخبار، وأحسنها وأنفعها كتاب الجمهرة في معرفة الأنساب، لم يصنف في بابه مثله. خمس ومائتين توفي فيها أبو محمد روح بن عبادة القيسي البصري الحافظ. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو سليمان الداراني العنسي بالنون بعد العين كان كبير الشأن، وله كلام رفيع معتبر في التصوف والمواعظ والعبر. ومن كلامه من أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة، ذهب الله سبحانه بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له، وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وقال رضي الله تعالى عنه: نمت ليلة عن وردي، فإذا الحوراء تقول: أتنام وأنا أربى لك في الخيام منذ خمسمائة عام؟ والداراني نسبة إلى داريا بتشديد الياء وفتح الراء في أوله دال مهملة وهي قرية بغوطة دمشق، والنسبة إليها على هذه الصورة شافة والعنسي نسبة إلى عنس بن مالك، رجل من مذحج، قلت: وللشيخ أبي سليمان كرامات وحكايات عجيبات، ذكرت شيئاً منها في كتاب " روض الرياحين في حكايات الصالحين ". وفي السنة المذكورة توفي محمد بن عبيد الطنافسي الكوفي الحافظ، وفيها توفي

ست ومائتين

قارىء أهل البصرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي مولاهم المقرىء النحوي، أحد الأعلام من أهل بيت العلم والفقه المقرىء الثامن، له من القراءات رواية مشهورة، أخذ عنه جماعة من حرمين والعراقين والشام وغيرهم، وأخذ هو القراءة عوضاً عن سلام بن سليمان، ومهدي بن ميمون، وأبي الأشهب العطار وغيرهم، وروى عن حمزة حروفاً، لحروف من أبي الحسن الكسائي، وسمع من جده زيد بن عبد الله وشعبة. أما إسناده في القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قرأ على سلام المذكور، وقرأ سلام على عاصم، وعاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وأبو عبد الرحمن كرم الله وجهه، وعلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. روى القراءة عن يعقوب المذكور عرضاً جماعة منهم: روح بن عبد المؤمن، بن المتوكل، وأبو حاتم السجستاني وغيرهم، وسمع منه الزعفراني، واقتدى به في عامة البصريين بعد أبي عمرو بن العلاء، فهم وأكثرهم على مذهبه، وقال أبو حاتم السجستاني: كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا، ورأينا بالحروف والإختلاف في القرآن وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحويين في القرآن الكريم، وله كتاب سماه " الجامع " جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات، ونسب كل حرف إلى من قرأ به، وبالجملة فإنه كان، البصرة في عصره في القراءة. ست ومائتين فيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي، فوليها مدة طويلة، وهو الذي امتحن الناس بخلق القرآن في أيام المأمون والمعتصم والواثق. وفيها توفي أبو علي محمد بن المستنير النحوي اللغوي البصري المعروف بقطرب، أخذ الأدب عن سيبويه وجماعة من العلماء البصريين، وكان حريصاً على الإشتغال وكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة، فقال له يوماً: ما أنت إلا قطرب، فبقى عليه هذا اللقب، وقطرب: اسم دويبة لا تزال تدب، ولا تفتر، وهو بضم الراء وسكون الطاء المهملة بينهما، وكان من أئمة عصره. من التصانيف: " كتاب فعاني القران "، و " كتاب الإشتقاق "، و " كتاب القوافي "، " كتاب النوادر "، و " كتاب الأزمنة "، و " كتاب الأصوات "، و " كتاب الصفات "، و " كتاب النحو "، و " كتاب الأضداد "، و " كتاب خفق الفرس "، و " كتاب خلق الإنسان "، " كتاب غريب الحديث "، و " كتاب الثمر "، و " كتاب فعل وأفعل "، و " كتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن " وغير ذلك، قيل: وهو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه

وإن كان صغيراً فله فضيلة السبق، وبه اقتدى عبد الله ابن السيد البطليوسي، وكتابه كبير، وهناك مثلث آخر للخطيب أبي زكريا التبريزي، وهو كبير أيضاً اقتصر فيه على ما قيل، وكان قطرب معلم أولاد أبي دلف العجلي. وفي السنة المذكورة توفي العباس بن وهب الأزدي البصري الحافظ. وفيها توفي السيد الجليل الإمام الحفيل أبو خالد يزيد بن هارون الواسطي الحافظ، وروى عن عاصم الأحول والكبار، قيل: هو أحفظ من وكيع وعنه أنه قال: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بأسنادها، ولا فخر، وقيل: إنه كان يحضر في مجلسه سبعون ألفاً. وفيها وقيل في التي بعدها توفي الهيثم بن عدي الطائي، وكان راوية أخبارياً، نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها الكثير، وله عدة تصانيف، واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وروى عنهم. قال الهيثم: قال لي المهدي: ويحك يا هيثم، إن الناس يخبرون عن الأعراب سخاء ولؤماً وكرماً وسماحاً، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟ قال: فقلت: على الخبير سقطت، خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد لي، ومعي ناقة أركبها، إذ ندت، فذهبت، فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها، ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها، فقالت رتة الخباء، من أنت. فقلت: ضيف، فقالت: وما يصنع الضيف عندنا. إن الصحراء لواسعة، ثم قامت إلى بر وطحنته وخبزته، ثم عجنته، ثم قعدت فأكلت، ولم ألبث أن أقبل زوجها، ومعه لبن، فسقم ثم قال: من الرجل؟ فقلت: ضيف، فقال: حياك الله، ثم قال: يا فلانة، ما أطعمت ضيفك شيئا؟ فقالت: نعم، فدخل الخباء، وملأ قعباً من لبن، ثم أتاني به، فقال اشرب فشربت شراباً هنياً، فقال: ما أراك أكلت شيئاً. وما أراها أطعمتك، فقلت: لا والله، فدخل عليها مغضباً، فقال: ويلك، أكلت وتركت ضيفك؟ قالت: ما أصنع به؟ أطعمه طعامي. وأخزاها الكلام حتى شجها، ثم أخذ شفرة، وخرج إلى ناقة، فنحرها. فقلت: ما صنعت عافاك الله. قال: لا والله ما يبيت ضيفي جائعاً، ثم جمع حطباً وأجج ناراً وأقبل يكبب ويطعمني، ويأكل ويلقي إليها، ويقول: كلي لا أطعمك الله حتى إذا أصبح، تركني ومضى، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل، ومعه بعير ما يسأم الناظر، أن ينظر إليه، فقال: هذا مكان ناقتك، ثم زودني من ذلك اللحم، ومما حضره، فخرجت من عنده، فضمني الليل إلى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء السلام، وقالت: من الرجل؟ فقلت: ضيف،

سبع ومائتين

فقالت: مرحبا بك، حياك الله، وعافاك الله، فنزلت، ثم عمدت إلى بر وطحنته وعجنته، ثم خبزته، ثم نبضته قبضة روتها بالزبد واللبن، ثم وضعتها بين يدي وقالت: كل ذا غدر، فلم، أن أقبل أعرابي كريه الوجه، فسلم، فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل. فقلت: ضيف، فقال: وما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل إلى أهله فقال: أين طعامي. فقالت: أطعمته الضيف، فقال: أتطعمين طعامي الأضياف؟. فتحاربا الكلام، فرفع عصاه، وضرب رأسها فشجها، فجعلت أضحك، فخرج إلي وقال: ما يضحكك. فقلت: خير، فقال: والله لتخبرني، فأخبرته بقصة المرأة والرجل اللذين نزلت عليهما قبله، فأقبل علي وقال: إن هذه التي عندي، أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي، فبت متعجباً وانصرفت. وحكى الهيثم أيضاً قال: صار سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي الذي كان يسمى الصمصامة، إلى " موسى الهادي " فجرد الصمصامة وجعله بين يديه، وأذن للشعراء، فدخلوا عليه، ودعا بمكتل فيه بدرة، وقال: قولوا في هذا السيف، فبدر ابن يامين البصري، وأنشد: حاز صمصامة الزبيدي عمرو ... من بين جميع الأنام موسى الأمين سيف عمرو، وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون أخضر اللون بين خديه برد ... من دباج، يمس فيه المنون أوقدت فوقه الصواعق ناراً ... ثم شابت به الذعاف المنون فإذا سللته بهر الشمس ... ضياء فلم تكد تستبين ما يبالي من انتضاه لضرب ... أشمال سطت به أم يمين؟. وكأن الفرند والجوهر الجا ... ري في صفحته ماء معين مع أبيات أخرى، فقال الهادي: أصبت والله ما في نفسي، واستخفه السرور، فأمر له كتل والسيف، فلما خرج، قال للشعراء: شأنكم بالمكتل، ففي السيف عناني، قال في مروج الذهب: فاشتراه الهادي منه بخمسين ألفاً. سبع ومائتين فيها توفي طاهر بن الحسين الخزاعي وقيل: مولاهم الملقب ذا اليمينين، كان من أعوان المأمون، فسيره إلى محاربة أخيه الأمين من خراسان، لما خلع الأمين بيعته، تقدم ذكر ذلك، وما جرى له في كسر الجيش الذي سيره الأمين مع علي بن عيسى بن ماهان وأخذه بغداد وقتله للأمين، وكان المأمون يرعى له خدمته ومناصحته، وكان أديباً

شجاعاً جواداً، ركب يوماً ببغداد في حراقته، فاعترضه مقدس بن صيفي الشاعر فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن تسمع مني أبياتاً، فقال: قل، فأنشد يقول: عجبت لحراقة ابن الحسين ... لا غرقت كيف لا تغرق وبحران: من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق وأعجب من ذاك أعوادها ... وقد مسها، كيف لا تورق فقال طاهر: أعطوه ثلاثة آلاف درهم على هذه الثلاثة الأبيات، وقال: قولوا له: في زدنا حتى نزيدك، فقال: حسبي، وتواعد طاهر المذكور بالقتل الكاتب خالد بن جيلويه بالجيم والمثناة من تحت مكررة بعد الواو على وزن حمدويه فبذل له خالد من المال شيئاً كثيراً، فلم يقبل منه، فقال خالد قلت شيئاً فأسمعه، ثم شأنك وما أردت، فقال طاهر وكان يعجبه الشعر قل فأنشده: زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور فتكلم العصور فوق جناحه ... والصقر منقض عليه يطير ما كنت يا هذا لمثلك لقمة ... ولئن سويت فإني لحقير فتهاون الصقر المذل بصيده ... كرماً فأفلت ذلك العصفور فقال طاهر أحسنت وعفا عنه. قلت: هذه الأبيات قد ذكرها بعضهم في قضية جرت لإنسان مع هشام بن عبد الملك، فأنشده إياها لما تهدده بالقتل، وقد تقدم ذكرها في ترجمة هشام مع اختلاف في ألفاظ يسيرة من هذه الأبيات. ويحكى أن إسماعيل بن جرير البجلي، كان مداحاً لطاهر المذكور، فقيل له: إنه يسرق الشعر ويمدحك به، فأراد أن يمتحنه في ذلك، وكان طاهر بفرد عين، فأمره أن يهجوه، فامتنع، فألزمه ذلك، فكتب إليه: رأيتك لا ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلاً فأما إذا أصبت بفرد عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلاً فقد أيقنت أنك عن قريب ... بظهرالكف تلتمس السبيلا فلما وقف عليه قال له: احفر أن ينشد هذا أحد، ومزق الورقة، وأخبار طاهر كثيرة، وسيأتي ذكر ولده عبد الله في سنة ثلاثين، وولد ولده في سنة ثلاث مائة. وحكي: أنه دخل طاهر على المأمون في، فقضاها وبكي، فقال له طاهر: يا

أمير المؤمنين، لم تبكي، لا أبكى الله عينك وقد دانت لك الدنيا وبلغت الأماني؟ فقال: كي لا عن ذل ولا حزن، ولكن لا تخلو نفسي عن شجن، فاغتنم طاهر وقال لحسين الخادم، حب المأمون في خلواته: أريد أن تسأل أمير المؤمنين عن موجب بكائه لما رآني، ثم أنفذ طاهر للخادم المذكور مائتي ألف درهم. فلما كان في بعض خلوات المأمون، سأله عن ذلك فقال: مالك ولهذا؟ ويلك، فقال: غمني بكاؤك، فقال: هو أمر إن خرج من رأسك أخذته، فقال: يا سيدي، ومتى أبحت لك سراً؟ فقال: إني ذكرت أخي محمداً وما ناله من الزلة، فخنقتني العبرة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره، فأخبر الخادم طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن المأمون، فقال: مه، سأفعل، فبكر إلى غداء، وركب ابن خالد إلى المأمون فقال: لم أنم البارحة، فقال: ولم. قال: لأنك وليت خراسان غساناً وهو من أكلة رأس، وأخاف أن يصطلمه مصطلم، قال: فمن ترى. قال: طاهراً، فقال: هو جائع، قال: أنا ضامن له، فدعا به المأمون، وعقد له على خراسان، وأهدى له خادماً كان رباه، مره إن رأى ما يريبه أن يسمه، فلما تمكن طاهر من ولاية خراسان، قطع الخطبة للمأمون يوم الجمعة، فأصبح يوم السبت ميتاً، فقيل: إن الخادم سمه في كامخ، ثم إن المأمون استخلف ولد طاهر طلحة، وقيل: جعله بها نائباً لأخيه عبد الله بن طاهر، والله أعلم. وفيها توفي الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني العلامة قاضي بغداد، كان يقول: حفظي أكثر من كتبي، وكانت كتبه مائة وعشرين جملاً في وقت انتقل فيه، لكن أئمة الحديث ضعفوه، وكان إماماً عالماً صاحب تصانيف في المغازي لمجرها، ومنها " كتاب الرعة " ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حاربة الصحابة رضي الله تعالى عنهم بطلحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي ومسيلمة الكذاب، وما أقص في الكتاب المذكور. سمع من ابن أبي ذئب، ومعمر بن راشد، ومالك بن أنس، والثوري وغيرهم، وروى عنه كاتبه محمد بن سعد الزهري وجماعة من الأعيان، وتولى القضاء بشرقي بغداد، وضعفوه في الحديث، وتكلموا فيه، وكان المأمون يكرم جانبه، ويبالغ في رعايته، فكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته ودنيا ركبته يسبها، وعين مقداره في قضة، فرفع المأمون فيها بخطه: فيك خلتان، سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرت لك بضيف ما سألت، فإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك، فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك، فزد في بسط يدك، فإن خزائن الله

مفتوحه، ويده بالخير مبسوطه، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للزبير: يا زبير: إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عنه، قال الواقدي وكنت نسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته، وروى عنه بشر الحافي رضي الله عنه أنه يكتب للحمى يوم السبت على ورقة زيتون، والكاتب على طهارة " جهنم غرثى "، وعلى ورقة أخرى " جهنم عطشى "، وعلى أخرى: " جهنم مقزورة "، ثم يجعل في خرقة وتشد في عضد المحموم الأيسر، قال الواقدي: جربته فوجدته نافعاً، هكذا نقل أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب أخبار بشر الحافي. وروى المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الواقدي قال: كان لي صديقان، أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيساً مختوماً، ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي، فوتجهت إليه، الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد، فأقمت فيه ليلتي مستحياً عن امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني، ولم تعنفني عليه، وبينا أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على وجهه، فقال لي: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، فكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه كيسي بخاتمي. قال الواقدي: فيواسينا الألف فيما بيننا، فأخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك، ونما الخبر إلى المأمون، فدعاني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار. وذكر الخطيب أيضاً هذه الحكاية في تاريخ بغداد مع اختلاف يسير بين الزوايتين. وفيها توفي الإمام البارع النحوي يحيى بن زياد الفراء الكوفي أجل أصحاب الكسائي، كان رأساً في النحو واللغة، أبرع الكوفيين وأعلمهم بفنون الأدب على ما ذكر بعض المؤرخين. وحكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لولا الفراء لما كانت عربية، لأنه خلصها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية، لأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل واحد. أخذ الفراء النحو عن أبي الحسن الكسائي، وهو الأحمر من أشهر أصحابه وأخصهم به.

وحكي عن ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي وكان خصيصاً بالمأمون أنه صادف الفراء، على باب المأمون يروم الدخول عليه، قال: فرأيت أبهة أديب، فجلست إليه، ففاتشته عن اللغة، فوجدته بحراً، وفاتشته عن النحو، فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وبالنجوم ماهراً، وبالطب خبيراً، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً، فقلت: من تكون؟. وما أظنك إلا الفراء؟. قال: أنا هو، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فأمر بإحضاره لوقته، وكان ذلك سبب إيصاله به. وقال قطرب: دخل الفراء على الرشيد، فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى بن البرمكي: إنه قد لحن يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: أتلحن؟ فقال الفراء: يا أمير المؤمنين، إن طباع أهل البدو الأعراب، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا تحفظت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد قوله. قلت: وأيضاً فإن عادة المنتهين في النحو لا يتشدقون بالمحافظة على إعراب كل كلمه عند كل أحد، قد يتكلمون بالكلام الملحون تعمداً على جاري عادة الناس، وإنما يبالغ في النحو والتحفظ عن اللحن في سائر الأحوال، فالمبتدئون إظهاراً لمعرفتهم بالنحو وكذلك يكثرون البحث والتكلم بما هم مترسمون به من بعض فنون العلم، ويضرب لهم مثل في ذلك، فيقال، الإناء إذا كان ملآن كان عند حمله ساكناً، وإذا. كان ناقصاً اضطرب، وتخضخض بما فيه. وحكى الخطيب: أن المأمون أمر الفراء أن يؤلف ما يجمع أصول النحو، وما سمع من العربية، وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار، وأن يوصل إليه كل ما يحتاج إليه،، فأخذ في جمع ذلك والوراقون يكتبون حتى فرغ من ذلك في سنتين، وسماه " كتاب الحدود " وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وبعد الفراغ خرج من ذلك إلى الناس، وابتدأ " بكتاب المعاني ". قال الراوي: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني، فلم يضبطهم عدد، فعددنا القضاة وكانوا ثمانين قاضياً، لم يزل يمليه إلى أن أتمه. ولما فرغ من " كتاب المعاني " خزنه الوراقون عن الناس ليكتبوا، وقالوا: لا نخرجه إلا من أراد أن ينسخه على خمس أوراق بدرهم، فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك، فقالوا: إنا صحبناك لننتفع بك، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة، ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعيش به، قال: فقاربوهم ينتفعوا وتنتفعوا، فأبوا عليه، فأراد أن ينشىء للناس كتاباً أحسن من ذلك، فجاء الورقون إليه، ورضوا بإن يكتبوا للناس كل

عشرة أوراق بدرهم، وقال لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتاباً في القرآن، فلما حضروا أمر قارئاً أن يقرأ فاتحة الكتاب، فقرأها ففسرها حتى مر في القرآن كله على ذلك. وكتابه المذكور نحو ألف ورقة، وهو كتاب لم يعمل مثله. وكان المأمون قد وكله يلقن ابنيه النحو، فلما كان يوما أراد النهوض لبعض حوائجه، فابتدرا إلى نعليه، أيهما يسبق بتقديم النعلين إليه، فتنازعا ثم اصطلحا، على أن يقدم كل واحد منهما نعل إحدى رجليه، وكان للمأمون على كل شيء صاحب خبر برفع الخبر إليه، فأعلمه بذلك، فاستدعى بالفراء وقال له: من أعز الناس؟ قال ما أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى، من إذا نهض يقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، أو كسر نفوسهما عن شريعة حرصًا عليها. وقد روي عن ابن عباس، أنه أمسك للحسن والحسير رضي الله تعالى عنهم ركابيهما حين خرجا من عنده، فقيل له في ذلك، فقال: لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل، فقال المأمون لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً، وألزمتك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما، فليس يكسر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه بسلطانه، ووالده ومعلمه، وقد عوضتهما مما فعلاه عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. وقال الخطيب: كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء، فقال الفراء يوماً له، قل رجل أمعن النظر في باب من العلم، فأراد غيره، إلا سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا، قد أمعنت النظر في العربية، فنسألك في باب من الفقه، فقال: هات على بركة الله، قال: ما تقول في رجل سها في السجود السهو؟ ففكر الفراء ساعة ثم قال: لا شيء عليه، فقال له: ولم؟ فقال: لأن المصغر لا يصغر ثانياً، وإنما السجدتان تمام الصلاة، فليس للتمام تمام، فقال محمد: ما ظننت آدمياً يلد مثلك. قلت: وهذه الحكاية مذكورة في ترجمة الكسائي، وإنه هو صاحب هذا الجواب، والله تعالى أعلم. وقال سلمة بن عاصم: إني لأعجب من الفراء، كيف كان يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه، وقال الفراء: أموت، وفي نفسي شيء من " حتى "، لأنها تخفض وترفع وتنصب، وله من التصانيف كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في المشكل، وكتاب اللغات، وكتاب المصادر في القرآن، وكتاب الوقف والإبتداء، وكتاب النوادر، وكتب أخرى. وقال سلمة بن عاصم: أملى الفراء كتبه كلها حفظاً، لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين: كتاب ملازم وكتاب نافع، وإنما قيل له الفراء ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها

ثمان ومائتين

لأنه كان يفري الكلام، ذكر ذلك الحافظ السمعاني في كتاب الأنساب. وذكر أبو عبيد الله المرزباني أن والد الفراء كان أقطع، لأنه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقطعت يده في تلك الحرب. ثمان ومائتين فيها توفي أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبى منصور المنجم البغدادي الأديب الفاضل، كان حافظاً راوية الأشعار، وحسن المنادمة، لطيف المجالسة، صنف " كتاب البارع " في أخبار الشعراء، والذي جمع فيه مائة وإحدى وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح واختار في من شعر كل واحد عيوبه، وأثبت منها الزبد دون الزبد، إلى غير ذلك من الكتب. وفيها توفي سعيد بن عامر الضبعي البصري أحد الأعلام في العلم والعمل. وفيها توفي الأمير الفضل بن الربيع، صاحب الرشيد لما أراد أن يروم التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، وكان في نفسه منهم أحناء وشحناء. ويحكى أن الفضل بن الربيع دخل يوماً على يحيى بن خالد البرمكي وقد جلس لقضاء حوائج الناس، وبين يديه ولده جعفر يوقع في القصص، فعرض عليه الفضل عشر رقاع للناس، فتعلل يحيى في كل رقعة بعلة، ولم يوقع في شيء منها البتة، فجمع الفضل الرقاع وقال: ارجعن خائبات خاسئات، ثم خرج وهو يقول: وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حال، والزمان عبور فتقضى لبانات وتسعى حسائف ... ويحدث من بعد الأمور أمور قوله حسائف: جمع حسيفة " بالحاء والسين المهملتين والفاء " وهي: الطفيفة. فسمعه يحيى، وهو ينشد ذلك، فقال له: عزمت عليك يا أبا العباس إلا رجعت، فرجع، فوقع له في جميع الرقع، ثم ما كان إلا قليلاً حتى نكبوا على يديه، وكان أبوه وزيراً للمنصور،

تسع ومائتين

وتولى هو بعد البرامكه وزاره الرشيد، وفي ذلك يقول أبو نواس: ما دعى الدهر آل برمك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع إن دهراً لم يرع عهداً ليحيى ... غير راع ذمام آل ربيع ومات الرشيد، والفضل مستمر على وزارته، فكتب إليه أبو نواس يعزيه بالرشيد ويهنئة بولاية ولده الأمين: تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان، أو هو كائن حوادث أيام، يدور صروفها ... لهن مساوي مرة ومحاسن وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن وفي السنة المذكورة توفيت السيدة الكريمه صاحبة المناقب الجسيمة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، صاحبة المشهد الكبير المفخم الشهير بمصر، دخلت إليها مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وعن الجميع، وقيل: بل مع أبيها الحسن، وكانت نفيسة من النساء الصالحات. ويروى أن الإمام الشافعي لما دخل مصر، حضر عندها، وسمع عنها الحديث، ولما توفي، أدخلت جنازته إليها، فصلت عليه في دارها، وكانت في موضع مشهدها اليوم، ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان من السنة المذكورة، ولما ماتت عزم زوجها إسحاق بن جعفر على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، فدفنت في الموضع المعروف بها اليوم بين القاهرة ومصر، وكان يعرف ذلك المكان بدرب السباع، فخرب الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد، وقبرها معروف مزور مشهور، قيل: الدعاء عنده مستجاب رضي الله تعالى عنها. قلت: وقد قصدت زيارة مشهدها، فوجدت عنده عالماً من الرجال والنسوان والصحاح والعميان، ووجدت الناظر جالساً على الكرسي، ققام لي، وأنا لا أعرفه، فمضيت للزيارة، ولم ألتفت إليه، ثم بلغني أنه عتب علي، فأجبته بما معناه: إني غير راغب في الميل إلى أولي الحشمة والمناصب. تسع ومائتين فيها توفي عثمان بن عمر بن فارس العبدي البصري الرجل الصالح ويعلى بن

عبيد الطنافسي، والحسن بن موسى الأشيب بالشين المعجمة وبعدها مثناة من تحت ثم وفي السنة المذكورة، وقيل في سنة إحدى عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ست عشرة مائتين، توفي الإمام العلامة معمر بن المثنى التيمي، تيم قريش مولاهم أبو عبيدة. قال الحافظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، وقال ابن قتيبة في العوارف: كان الغريب وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه، وكان مع معرفته، ربما لم يقم لبيت من الشعر، بل يكسره، وذكر فيه أشياء مما تقدح فيه، قال: وكان يرى رأي الخوارج. وذكر غيره أن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقرأ عليه بها شيئاً من كتبه، وأسند الحديث إلى هشام بن عررة وغيره، وروى عن علي بن المغيرة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وعمر بن شعبة النميري وغيرهم، وقال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تحيره، فأذن لي، فدخلت عليه وهو في جلس طويل عريض، فيه بساط واحد قد ملىء وفي صدره فرش عالية لا يرتقى عليها إلا كرسي، وهو جالس على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني من فرشه، ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال: فأنشدني، فأنشدته من عيون أشعار جاهلية أحفظها، فقال: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من مليح الشعر، فأنشدته، فطرب وضحك وزاد شاطاً، ثم دخل رجل في زي الكتاب، وله هيئة حسنة، فأجلسه إلى جانبي، وقال: أتعرف هذا؟ قلت: لا، فقال: هذا أبو عبيدة، علامة أهل البصرة، قدمنا لنستفيد من علمه، فدعا له لرجل، ثم التفت إلي وقال لي: كنت إليك مشتاقاً، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟. قلت: هات، فقال: قال الله تعالى: " طلعها كأنه رؤوس الشياطين ":) الصافات: 65، (وإنما وقع الوعد والإيعاد بما قد عرف، وهذا لم يعرف، قال، فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرىء القيس: أتقتلني، والشر في مضاجعي ... ومسنونه زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما أمر الغول بهولهم أو عدوا به، فاستحسن الفضل والسائل في ذلك، وأزمعت منذ ذلك اليوم أن ضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سميته " المجاز "، وسألت عن الرجل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه.

وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، وقال يتكلم في كتاب الله برأيه، فسأل عن مجلس الأصمعي، في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده، وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد ما تقول في الخبز، أي شيء هو. فقال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله برأيك، فإن الله تعالى قال حكاية " أحمل فوق رأسي خبزاً ") يوسف: 36، (فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، ولم أفسر برأي، فقال أبو عبيدة، والذي تغيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه، ولم نفسره برأينا، وقام يركب حماره وانصرف. وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني، أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي، اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردي الأخبار والأشعار، حتى يحسن عنده القبيح، والفائده عنده مع ذلك قليلة، وأن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة. قال المبرد: كان أبو زيد الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان. وكان أبو عبيدة كمل القوم، لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة الأصمعي إلى مجلس هارون للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة. وقيل لأبي نواس: ما تقول في الأصمعي. فقال: بلبل في قفص، قيل: فما تقول في أبي عبيدة. قال: ذاك أديم وطغوى علم، قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علوم الناس وفهمها. ولما قدم أبو عبيده على موسى بن عبد الرحمن الهلالي، وطعم من طعامه، صب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي: ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت. وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، وقيل: كان مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلي مذهب الخوارج، وإلى بعض الأمور القبيحة والله أعلم، وكانت تصانيفه تقارب مائتي مصنف.

عشرة ومائتين

عشرة ومائتين في السنة المذكورة، كان بني المأمون ببوران بواسط، فقام بضعة عشر يوماً، فقام أبوها الحسن بن سهل فقام أمير المؤمنين بمصالح الجيش تلك الأيام، وغرم خمسين ألف ألف درهم، وكان العسكر خلقاً لا يحصى، فلم يكن فيهم من اشترى لنفسه ولا لدوائه حتى على الحمالين والمكارية والملاحين وكل من حضر في ذلك العسكر، فأمر له عند منصرفه بعشرة آلاف درهم، وكان عرساً لم يسمع بمثله في الدنيا، نثر فيه على الهاشميين والقواد والوجوه والكتاب بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع، وأسماء جوار ودواب وغير ذلك، وكل من وقع في حجره شيء منها ملك ما هو مكتوب فيها من هذه المذكورات، سواء كانت ضيعة أو فرساً أو جارية أو مملوكاً أو ملكاً أو غير ذلك، ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وفرش للمأمون حصير منسوج بالذهب، فلقا وقف عليه نثرت على قدميه لالىء كثيرة، فلقا رأى تساقط اللآلىء المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب، قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحالة حين قال في صفة الخمر والحباب الذي تعلوها عند المزج: كأن صغرى وكبرى من مواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب وقد غلطوا أبا نواس في هذا البيت المذكور لكونه ذكر فعلي أفعل التفضيل من غير إضافة ولا تعريف. ثم إن المأمون أطلق له خراج فارس والأهواز مئة سنة وقالت الشعراء والخطباء فأطنبوا في ذلك. ومما يستطرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي: بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن يا ابن هارون قد ظفر ... ت ولكن ينت من فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري خيراً أراد أم شراً. قال الطبري: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله، فلما جلس نثرت عليها جدتها ألف درة، وكانت في طبقة ذهب، فأمر المأمون أن يجمع، وسألها عن عدد الدر كم هو؟. فقالت ألف حبة، فوضعها في حجرها، فقال لها: هذه تحيتك وسلي

إحدى عشرة ومائتين

حوائجك قالت لها جدتها كلمي سيدك، فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر، وزنها أربعون مناً في تور من ذهب، فأنكر المأمون عليهم ذلك وقال: هذا سرف. وقال غير الطبري: لما طلب المأمون الدخول عليها، دافعوه لعذرها، فلم يندفع، فلما أدنيت إليه وجدها حائضاً فتركها، فلما قعد للناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب، وقال: يا أمير المؤمنين، هناك الله بما أخذت من الأمير باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر بالمعركة، فأنشده المأمون: فارس ماض بحرمته ... صادق بالطعن في الظلم رام أن يدمي فريسته ... فأتقته من دم بدم تعرض محيضها وهو من أحسن الكنايات، حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب الكنايات. وفي السنة المذكورة توفي أبو عمرو الشيباني إسحاق بن مرار الكوفي اللغوي صاحب التصانيف وله تسعون سنة، وكان ثقة خيراً فاضلاً. وفيها توفي علي بن جعفر الصادق، وكان من جلة السادة الأشراف، ومحمد بن صالح الكلابي أمير عرب الشام وسيد قيس وفارسها وشاعرها والمقاوم للسفياني والمحارب له، حتى شتت جموعه فولاه المأمون دمشق، وفيها توفي مروان بن محمد الدمشقي صاحب سعيد بن عبد العزيز، كان إماماً صالحاً خاشعاً من جلة الشاميين. وفيها توفي أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري اللغوي العلامة الأخباري صاحب التصانيف، روى عن هشام بن عروة وأبي عمرو بن العلاء وكان أحد أوعية العلم، وقيل توفي في سنة إحدى عشرة. إحدى عشرة ومائتين فيها توفي أبو العتاهيه، إسماعيل بن هشام العنزي الشاعر المشهور، ومن شعره ما حكى أشجع الشاعر المشهور، قال: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه، فدخلنا، وأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد " بضم الموحدة " يعني الشاعر المشهور، قال: وسكت المهدي، فسكت الناس، فسمع بشاراً فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، قال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، قال: فأمره المهدي

أن ينشد فأنشد: ألا ما لسيدتي ما لها ... أدلت فأحمل إدلالها؟ قال: فنخشني بشار بمرفقه وقال: ويحك، أرأيت من ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع؟ حتى بلغ إلى قوله: أتته الخلافة منقادة ... إليه تجر جرأ ذيالها فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها قال فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن فرشه. قال: فو الله ما انصرف من ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية، ومن شعره أيضاً هذه الأبيات في عمرو بن العلاء. إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالاً لو بست طبع الناس من إجلاله ... تحذو له خشية الحدود فعالاً إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك أسبابها ورمالاً فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ... وإذا صدرن بنا صدرن ثفالاً قال: فأعطاه سبعين ألفاً، وخلع عليه، فغار الشعراء لذلك، فجمعهم وقال: يا معشر الشعرا، عجباً لكم، ما أشد حسدكم بعضكم بعضا، إن أحدكم يأتينا يمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقه بخمسين بيتاً، فما يبلغها حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية يشبب بأبيات يسيرة، ثم قال كذا وكذا وأنشد الأبيات المذكورة، فما لكم منه تغارون. انتهى الكلام، وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس وتلك الطائفة. ويحكى أنه لقي أبا نواس، فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر. فقال البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكني أعمل في اليوم المائة والمائتين، فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك. يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه وإنما أعمل مثل قولي، ثم أنشد شيئاً أبدع فيه، وقال: لو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر، قلت: والذي أنشده كرهت ذكره ولا شتماً له على خلاعة وضيعة. وحكى صاحب النصوص في اللغة أن أبا العتاهية زار يوماً بشار بن برد فقال له أبو

العتاهية: إني لا أستحسن قولك إعتذراً من البكاء إذ تقول: كم من صديق سار لي ... فيه البكاء من الحياء فإذا اتعظن لا منى ... فأقول ما بي من بكاء لكن ذهبت لأرتدي ... فطرقت عيني بالرداء فقال له: أيها الشيخ ما عرفته إلا من بحرك، ولا يحبه إلا من دخل، وأنت السابق حيث تقول: وقالوا قد بليت، قلت كلا ... وهل يبلى من الجزع الخليل فقالوا ما ولد معها سواء ... أقلت مقلتيك أصاب عود؟. وحكي أن أبا العتاهية كان قد امتنع من الشعر، فأمر المدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخل دهش، ورأى فنظر ما أهاله، فطلب موضعاً يأوي إليه فإذا هو يلهك حسن البزة، والوجه عليه سيماء الخير، فقصده وجلس إليه من غير سلام عليه شغلاً بما هو فيه من الجزع والحيرة، فمكث كذلك ليالي وإذا بالرجل ينشده: تعود في الضر حتى ألقته ... أسلمني حسن العزاء إلى الصبر وصرت في بأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنع الله من حيث لا أدري قال: فاستحسنت البيتين، وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فقلت له: تفضل أعزك الله علي بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل، ويحك ما أسوأ دبك وأقل عقلك ومروءتك، دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني مسألة الراد على المقيم، حتى سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً ولا معاشاً غيره، فطفقت تستنشدني ابتداء كان بيتاً لأنسها، وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك، ولا اعتذرت، غير ما ترى بدا من إساءة أدبك، فقلت: اعذرني متفضلاً، فدون ما أنا فيه مدهش، قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسبيلك إليهم، لا يدرون بقوله، فتطلق، وأنا يدعى الشفاعة بي، فأطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذللت لقيت الله بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصمي فيه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك.، وأنت ترى صبري؟ فقلت: يكفيك الله، وخجلت منه، فقال: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين، ثم أعادهما علي مراراً حتى حفظتهما، ثم دعي به وبي، فقلت له: من أنت أعزك الله؟ قال: أنا حاضن صاحب عيسى بن زيد، فأدخلنا على المهدى، فلما وقفنا بين يديه قال للرجل: أين عيسى بن زيد. فقال: وما أدري أين عيسى بن زيد، طلبته فهرب منك في البلاد وحبستني، فمن أين أقف

اثنتي عشرة ومائتين

على خبره؟ قال له: أين كان متوارياً؟. ومتى آخر عهدك به؟. وعند من لقيته؟. منذ توارى، ولا عرفت له خبراً، قال: والله لتدلن عليه أو لأضربن عنقك الساعة، قال: اصنع ما بدا لك، فو الله لا أدلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقى الله ورسوله بدمه، ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه، قال: اضربوا عنقه، فأمر به فضربت عنقه، ثم دعاني وقال: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ فقلت: بل أقول، قال: أطلقوه، فأطلقت. ولما حضرت وفاة أبي العتاهية قال: أشتهي أن يجيء فلان المغني ويغني عند رأسي. إذا ما انقضت علي من الدهر ... مدتي فإن عزاء الباكيات قليل سيعرض عن ذكري وينسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العلامة المرتحل إليه من الآفاق الشيخ الإمام عبد الرزاق بن همام اليمني الصنعاني الحميري صاحب المصنفات عن ست وثمانين، روى عن معمر وابن جريج والأوزاعي وطبقتهم، ورحل إليه الأئمة إلى اليمن، قيل: ما رحل إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما دخل الناس إليه، روى عنه خلائق من أئمة الإسلام، منهم: الإمام سفيان بن عيينة والإمام أحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمود بن غيلان. وفيها توفي عبد الله بن صالح العجلي الكوفي المقرىء المحدث والد الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي نزيل المغرب. اثنتي عشرة ومائتين فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مع ما أظهر في السنة الماضية من التشييع، فاشمأزت منه القلوب. فيها توفي أسد بن موسى الأموي الملقب بأسد السنة والحافظ أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني محدث البصرة والحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابي، رحل إليه الإمام أحمد، فلم يدركه، بل بلغه موته بحمص، وإسماعيل بن حماد ابن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم، وكان موصوفاً بالزهد والعبادة والعدل في الأحكام، ولي القضاء ببغداد ثم بالبصرة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون صاحب الإمام مالك رحمه الله وكان فصيحاً مفوهاً وعليه دارت الفتيا في زمانه بالمدينة، ومفتي الأندلس " الغافقي " كان صالحاً ورعاً مجاب الدعوة مقدماً في الفقه على يحيى بن يحيى.

ثلاث عشرة ومائتين

ثلاث عشرة ومائتين فيها توفي علي بن جبلة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء المبرزين، من الموالي، ولد أعمى، قيل: بل عمي من جدري أصابه وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص. قال ابن خلكان ومن فضائله الفائقة القصيدة التي يقول فيها: إنما الدنيا أبو دلف ... بين مغزاه ومختضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره يستعير منك مكرمة ... مكتبها يوم مفتخره قلت: وحكى بعض أهل المعاني والبيان أن المأمون قال لأبي دلف الأمير المشهور: أنت الذي قال فيك الشاعر: إنما الدنيا أبو دلف، وأنشد الأبيات، قال: لا يا أمير المؤمنين، بل أنا الذي قال في علي بن جبلة أو قال الشاعر: أبا دلف، يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب فأعجب المأمون ذلك منه، ورضي عنه، لقه عزه في ظرافته وسرعة فهمه المنجي له من الردىء بما اتقى به من الهجاء، فلم يمشه البلاء، بل دفع حيلة باتقائه بهجاء ابن جبلة. ويحكى أن ابن جبلة المذكور مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بالقصيدة المذكورة، فقال له حميد: ما عسى أن تقول فينا بعد قولك في أبي دلف كذا وكذا. فقال: أصلح الله الأمير، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا، قال: وما هو. فأنشد: إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام ... فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام فتبسم ولم يرد جواباً، فأجمع من حضر المجلس من أهل العلم والمعرفة بالشعر أن هذا أحسن مما قاله في أبي دلف، فأعطاه، وأحسن جائزته، وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء: ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً، وقال: اطلبوه حيثما كان، وأتوني به، فطلبوه فلم يقدروا عليه، لأنه كان مقيماً بالجبل، فلما اتصل به الحزب هرب إلى الجزيرة الفراتية، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان، فهرب من

الجزيرة حتى توسط البلدان الشاميات، فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون، فلما صار بين يديه قال له: يا ابن اللخناء أنت القاتل في قصيدتك للقاسم بن عيسى، يعني أبا دلف " كل من في الأرض من عرب "، وأنشد البيتين، جعلنا ممن يستعير المكارم والإفتخار به. قال: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقدس بكم، لأن الله تعالى أحبكم لنفسه على عباده، وآتاكم الكتاب والحكم ملكاً عظيماً، وإنما ذهبت في قولي إلى أقران القاسم بن عيسى من هذه الناس وأشكاله، قال: والله ما أبقيت أحداً، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكن استحله بكفرك في شعر، حيث قلت في عبد ذليل مهين، فأشركت بالله العظيم، وجعلت معه ملكاً قادراً، وهو قولك: أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال ذاك الله عز وجل يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه، فمات، وذكره صاحب كتاب الأغاني، كما ذكر ابن المعتز في قضيته مع المأمون. قال ابن خلكان: ورأيت في " كتاب البارع " في أخبار الشعراء المولدين تأليف ابن المنجم هذين البيتين لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة والله أعلم بالصواب مع بيت ثالث وهو: تزور سخطاً فتمسي البيض راضية ... ويستهل فتبكي أعين المال لقد أبدع في هذا البيت بمدحه جامعاً وصفين محمودين عند العرب مع حسن صنيعه في كليهما، وهما الشجاعة والكرم، فالشجاعة في قوله: " تزور سخطاً فتمسي البيض راضية "، يعني: يقصد الأعداء فتمسي السيوف راوية بدمائهم، فكنى عن ربها برضائهما والكرم في قوله: " ويستهل فتبكي أعين المال " يعني: يضحك استبشاراً بالضيفان، فيعقر ويذبح لهم السمان، وفي ضمن ذلك بكاؤها بما عرض لها من الأحزان. ومن مدحه لحميد: ويكفي سابهن الدنيا حميد ... فقد أضحوا له فيها عيالاً كأن أباه آدم حين أوصى ... إليه أن يعولهم فعالاً ولما مات حميد المذكور في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيدة من جملتها: فآدابنا ما أدب الناس قبلنا ... ولكنه لم يبق للصبر موضع

أربع عشرة ومائتين

ورثاه أبو العتاهية بقوله: أبا غانم أما فناك فواسع ... وقبرك معمور الجوانب محكم وما ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم قلت: لفظ فناك في البيت الأول ليس هو في الأصل المنقول منه، وإنه فيه " دارك " وهو لا يتزن فأبدله " بفناك ". وفي السنة المذكورة توفي صاحب المسائل الأسدية التي كتبها عن ابن القاسم. وفيها توفي الحافظ الزاهد العابد عبد الله بن داود، سمع الأعمش والكبار، وكان من أعبد أهل زمانه. وفيها توفي إسحاق بن مرار " بكسر الميم وبالراء قبل الألف وبعدها " النحوي اللغوي الشيباني منزلاً، كان من الأئمة الأعلام أخذ عنه جماعة كبار منهم الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام ويعقوب بن السكيت، وقال في حقه: عاش مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات. وقال ابن كامل: مات في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم النديم الموصلي. وقيل توفي في سنة ست ومائتين، وعمره مائة وعشر سنين. قال ابن خلكان: وهو الأصح، وله مصنفات عديدة في اللغة وغريب الحديث والخيل والإبل وخلق الإنسان والنوادر وأشعار العرب ونحو ذلك، وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب وأراجيز العرب، وقال ولده لما جمع أشعار العرب ودونها كانت نبفاً وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً وجعله في مسجد الكوفة حتى كتب نيفاً وثمانين مصحفاً. وفي السنة المذكورة توفي عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي الحافظ، وكان إماماً في الفقه والحديث والقرآن، موصوفاً بالعبادة والصلاح لكنه من رؤوس الشيعة. وفيها توفي الهيثم بن جميل البغدادي الحافظ نزيل أنطاكية، كان من صلحاء المحدثين وإثباتهم، رحمة الله عليهم. أربع عشرة ومائتين فيها التقى محمد بن حميد الطوسي وبابك الخزمي، وهزم بابك، وقتل

خمس عشرة ومائتين

الطوسي، وفيها تقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين أميراً على خراسان، وأعطاه المأمون خمسمائة ألف دينار. وفيها توفي أبو عمر معاوية بن عمرو الكندي البغدادي الحافظ المجاهد، روى عن زائدة وطبقته، وأدركه البخاري، وكان بطلاً شجاعاً معروفاً بالإقدام كثير الرباط. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم الفقيه المالكي البصري انتهت إليه رئاسة الطائفة المالكية بعد أشهب، روى عن مالك الموطأ سماعاً، وكان من ذوي الأموال والرياع، وله جاه عظيم وقدر كبير، ويقال أنه دفع للإمام الشافعي عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله، وأخذ له من تاجر ألف دينار، ومن رجلين آخرين ألف دينار، وهو والد أبي عبد الله محمد صاحب الإمام الشافعي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وأجل ما روى بشر بن بكير قال: رأيت مالك بن أنس في النوم بعدما مات بأيام، فقال: إن ببلدكم رجلاً يقال له ابن عبد الحكم خذوا عنه فإنه ثقة والله أعلم. خمس عشرة ومائتين فيها توفي الحافظ إسحاق بن عيسى بن الطباع البغدادي، وفيها توفي العلامة أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري البصري اللغوي، قال أصحاب التاريخ: كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغات النوادر والغريب، وكان ثقة في روايته. وقال أبو عثمان المازني: رأيت الأصمعي، وقد جاء إلى حلقة أبي زيد المذكور، فقبل رأسه، وجلس بين يديه، وقال: أنت أديبنا وسيدنا منذ خمسين سنة. وكان الإمام سفيان الثوري يقول: أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيد الأنصاري فأوثقهم. وكان النضر بن شميل يقول: كنا ثلاثة في كتاب واحد، أنا وأبو زيد الأنصاري وأبو محمد اليزيدي، وكان أبو زيد المذكور له في الأدب مصنفات مفيدة منها: " كتاب اللغات "، و " كتاب النوادر "، و " كتاب خلق الإنسان "، و " كتاب الإبل "، و " كتاب الوحوش "، و " كتاب المصادر "، و " كتاب الفرق "، و " كتاب المياه "، و " كتاب حسن في البيان "، جمع فيه أشياء غريبة و " كتاب غريب الأسماء " وغير ذلك جميعها يقارب عشرين مصنفاً.

وحكى بعضهم قال: كنت في حلقة شعبة بن الحجاج، فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس، فقال: يا أبا زيد، فجاءه، فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال بعض أصحاب الحديث: يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضباً شديداً ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح إلي أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك، قلت: كأنه والله أعلم يشير إلى ترويح القلب بالشعر عند سأمته، كما قال أبو الدرداء: إني لاحم نفسي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق، ولأنه عند شرح الأحكام نخشى من الوقوع في خطر يؤدي إلى الأنام، وعمر رحمه الله تعالى حتى قارب المائة وقال بعض العلماء: كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وكان أبو زيد يحفظ ثلثها، وكان صدوقاً صالحاً، رحمة الله عليه. وفيها، وقيل: في سنة سبع عشرة ومائتين توفي أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد الكاتب، أحد وزراء المأمون وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وخيرها، شديد المقاصد والمعاني، أمره المأمون أن يكتب كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والإعتناء بأمره، فكتب له: كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معتبي لمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعتابة بوصله والسلام، وقيل هذا من كلام الحسن بن وهب، والأول أصح وأشهر، وله كل معنى بديع، وله رسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء، وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها، وذهب عنه ما كان يجده، وهي الحمد لله الذي كفر عنا شر الخيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات استنزلاً للنفوس الأبية عن الحمية، حمية الجاهلية، ثم عرض بجزيل الأخذ من استسلم لواقع قضائه، وعرض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهناك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك التسليم لمشيئته والرضا بقضيته. قلت: هذا بعض الرسالة المذكورة، وقيل أنها لأبي الفضل ابن الحميد. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: وصلت إلى المأمون وهو ممسك كتاباً بيده، وقد أطال النظر فيه زماناً، وأنا ملتفت إليه، فقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، قلت: نعم، وقى أمير المؤمنين المكاره وأعاده من المخلوف، قال: فإنه لا مكروه فيه، ولكني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد، يقول في البلاغة، كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، أو قال: على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت

هذا الكتاب، قال: ورمى به إلي، وقال: هذا الكتاب من عمرو بن مسعده إلي، فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قواده وسائر أخياره في الأنقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت عطياتهم، واختلت، كذلك أحوالهم، والثابت معهم أمورهم، فلما قرأته قال: إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند بعطياتهم بسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب لما يستحقه من جل محله في صياغته أو صناعته. وفيها توفي الأخفش الأوسط، إمام العربية، أبو الحسن سعيد بن مسعدة النحوي البلخي المجاشعي، أحد نحاة البصرة. وأما الأخفش الأكبر فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، وكان نحوياً لغولاً، وله ألفاظ لغوية انفرد بها عن العرب، وعنه أخذ أبو عبيدة وسيبويه وغيرهما، فمن في طبقتهما، ووقت وفاته مجهول فلهذا لم يفرد بترجمة. وأما الأخفش الأصغر، وهو أبو الحسن علي بن سليمان البغدادي النحوي، أخذ عن ثعلب والمبرد، وسيأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في سنة خمس عشرة وثلاث مائة، فبين موت أخفش الأوسط الأصغر مائة سنة، والأوسط المذكور كان من أئمة العربية، أخذ النحو عن سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه علي، وكان يرى أنه أعلم مني وأنا اليوم أعلم به، وهذا الأخفش المذكور، وهو الذي زاد في العروض واحداً من البحر على ما وضعه الخليل المشهور. وحكى أبو العباس ثعلب عن أبي سعيد بن سلمة قال: دخل الفراء على سعيد بن مسعدة المذكور، فقال لنا: جاءكم ممتد أهل اللغة العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا، وللأخفش المذكور عدة تصانيف، منها " الكتاب الأوسط " في النحو و " كتاب تفسير معاني القرآن "، و " كتاب الإشتقاق "، و " كتاب العروض "، و " كتاب القوافي "، و " كتاب معاني الشعر "، و " كتاب الملوك "، و " كتاب الأصوات "، و " كتاب المسائل الكبير "، و " كتاب المسائل الصغير " وغير ذلك، وكان أخلع " وهو الذي لا تنضم شفتاه على أسنانه "، " والأخفش " هو الصغير العينين مع سوء بصرهما، وكان يقال له الأخفش الأصغر حتى ظهر علي بن سليمان المعروف بالأخفش الأصغر فصار هذا وسطاً " ومسعدة " بفتح الميم وسكون السين وفتح الدال والعين المهملات وبعدهن هاء ساكنة " والمجاشعي " بضم الميم وقبل الألف جيم وبعدها شين معجمة مكسورة مهملة ثم عين ثم ياء النسبة إلى

الشاعر المشهور: فوا عجباً حتى كليب يشينني ... كأن أباها مغهل أو جاشع وفيها توفي محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة وعالمها وسيدها، وهو من كبار شيوخ البخاري، عاش سبعاً وتسعين سنة. وفيها توفي محمد بن المبارك الصوري أبو عبد الله الحافظ صاحب سعيد بن عبد العزيز، قلت: وهذا الإسم نسبة لمحمد بن المبارك الصوري تشفعت به شجرة الرمان إلى إبراهيم بن أدهم أن يتناول منها شيئاً أو بأقل من رمانها شيئاً، وقد تقدم ذكر ذلك، ومحمد بن المبارك هذا كان صحب إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن أدهم توفي قبل هذا التاريخ بثلاث وخمسين سنه، فإنه توفي سنة اثنتين وستين ومائة، ويحتمل أنه هو والله أعلم. وفيها: توفي أبو السكن " مكي بن إبراهيم البلخي الحافظ "، وأبو عامر قبيصة بن عقبة الكوفي الحافظ العابد الذي يقال له راهب الكوفة، وكان هناد بن السرفي إذا ذكره دمعت عيناه وقال: الرجل الصالح. وفيها توفي محدث مرو علي بن الحسن كان حافظاً كثير العلم، كتب الكثير، حتى كتب التوراة والإنجيل، وجادل اليهود، وفيها توفي الحافظ يحيى بن حماد البصري الحافظ. سنة ست عشرة ومائتين فيها غزا المأمون، فدخل بلاد الروم، وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتح آخره عدة حصون، وأغار جيشه، فغنموا وسبوا، ثم رجع إلى دمشق، ودخل الديار المصرية. وفيها توفيت زبيدة بنت جعفر بن المنصور أم محمد الأمين بن هارون الرشيد، وكان لها معروف كثير وفعل خير شهير، وقصتها في حجتها وما اعتمدته في طريقها شهيرة، وذكر ابن الجوزي أنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وأنها أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال، ويجوب الصخرة، حتى عللت من الحل إلى الحرم، عملت عقبه البستان، فقال لها دليلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: اعمل ولو كانت ضربة

فاس بدينار. قلت: وهذه العين المذكورة التي أجرتها، أثارها باقية مشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه " برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة، ذات بنيان محكم في الجبال، تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جداً لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط " كالبير يسمونه " لظلمته، يفزع بعض الناس إذا ترك فيه وحده نهاراً، فضلاً عن الليل. قالوا: وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن، لكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل في قراءة القرآن، وأسمها أمة العزيز، ولقبها جدها المنصور زبيدة لبياضها ونضارتها، وقال الطبري: أعرس بها هارون في سنة خمس وستين ومائة. قلت: لعل هذه عاشت بعد الرشيد فوق عشرين سنة. وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي الأصمعي المشهور اللغوي الأخباري البصري المشبه بنغمات بلبل الألفاظ المطربة على فتن بوجه فنون النوادر المعجمة، سمع ابن عون والكبار وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء، وكانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته، عاش ثمانياً وثمانين سنة، وله عدة مصنفات، وكان إماماً في اللغة والأخبار والنوادر والمالح والغرائب والأشعار، وهو من أهل البصرة، ثم قدم بغداد في أيام هارون الرشيد. قيل لأبي نواس: قد حضر أبو عبيدة والأصمعي عند الرشيد، فقال: أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والأخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربك بنغمات. وعن الأصمعي أنه قال: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، ويروى: أربعة عشر ألف أرجوزة، منها المائة والمائتان. وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي، وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئاً من العلم، فيكون أحد أعلم به منه. وقال أبو أحمد العكبري: لقد حرض المأمون على الأصمعي، وهو بالبصرة أن يصير إليه، فلم يفعل، واحتج بضعفه وكبره، وكان المأمون يجمع المشكل من المسائل، ويثير ذلك إليه، فيجيب عنه. وذكر في كتاب المقتبس عن ابن عريد أو أبي حاتم قال: كنا عند الحسن بن سهل، وبالحضرة جماعة من أهل العلم، منهم جرير بن حازم، ومعمر بن المثنى، والأصمعي، والهيثم بن علي، في جماعة من هذا السن، وحاجب الحسن يعرض عليه قصصاً، وهو يوقع في كل قصة ما ينبغي لها، حتى مر بخمسين قصة، فلما نفض ما بين يديه أقبل علينا، فقال: قد فعلنا في يومنا خيراً كثيراً، ورفعنا في هذه القصص بما فيه فرح لأهلها، ونرجوا أن نكون في كل ذلك مثابين مشكورين، فأفيضوا بنا في حق أنفسنا نتذاكر العلم، فتكلم أبو عبيدة والأصمعي

والهيثم إلى أن بلغوا من ذكر ألفاظ من أصحاب الحديث، فأخذوا في الزهري والشعبي وقتادة وشعبة وسفيان، فقال أبو عبيدة: وما الحاجة إلى ذكر هؤلاء الجلة. وما ندري: أصدق الخبر عنهم أم كذب. إن بالحضرة رجلاً يزعم أنه ما نسي شيئاً، وأنه ما يحتاج أن يعيد نظره في دفتر، إنما هي نظرة، ثم قد حفظ ما فيه، " يقصد الأصمعي " فقال الحسن: نعم يا أبا سعيد، تخبر من هذا إنما ينكر جداً، فقال الأصمعي: نعم أصلحك الله ما أحتاج أن أعيد النظر في دفتر، وما أنسيت شيئاً قط، فقال الحسن: فنحن نجرب هذا القول بواحدة، يا غلام، هات الدفتر الفلاني، فإنه يجمع كثيراً مما قد أنشدتناه، وحدثتناه، قال: فأدبر الغلام ليأتي بالدفتر، فقال الأصمعي: أعزك الله وما الحاجة إلى هذا. أنا أريك ما هو أعجب منه، أنا أعيد القصص التي مرت وأسماء أصحابها وتوقيعاتها كلها، فامتحن ذلك بالنظر إليها، وقد كان الحسن قد عارض بتلك التوقيعات، وأثبتها في دفتر البيت، قال: فأكبر ذلك من حضر، وعجبوا واستضحكوا، فقال الحسن: يا غلام، اردد القصص، فردت وقد شدت في خيط كي يتحفظ، فابتدأ الأصمعي، فقال: القصة الأولى لفلان ابن فلان قصة كذا وكذا، ووقعت أعزك الله بكذا وبكذا - حتى أنفذ على هذا السبيل سبعاً وأربعين قصة، فقال الحسن بن سهل: يا هذا حسبك الساعة، والله أقبلك بعين، يعني أصبتك بعيني، يا غلام، أحضر خمسين ألفاً، فأحضرها بحراً، ثم قال: يا غلمان، احملوا معه إلى منزله، قال: فتبادر الغلمان بحملها، فقال: أصلحك الله تنعم بالحامل كما أنعمت بالمحمول. قال: هم لك، ولست منتفعاً بهم، واشتريتهم منك بعشرة آلاف درهم، احمل يا غلام مع أبي سعيد ستين ألفاً، قال: فحملت معه، وانصرف الباقون بالخيبة، فقال أبو حاتم: ما رأيت رجلاً أحسن ترجمة من الأصمعي، وسألته: لأي شيء قدم جرير بن قدامة. قال: كان أعرفهم وأعز لهم وأقدمهم رقة، وأتحمهم هجاء، قال أبو حاتم: معنى التحكم " بالمثناة من فوق والحاء المهملة " التي أنصبتهم. وروى الرياشي عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة، وما مات حتى أخذ وفي رواية أخرى: ما مات حتى كتب: أو رد عليه الحرف الذي لا يعرفه، فيقبله مني ويتعقد ثقة. وذكر في " المقتبس " أنه لما قدم الرشيد البصرة، قال جعفر بن يحيى للصباح بن

عبد العزيز: قد عزم أمير المؤمنين على الركوب في زلال في نهر الأبلة ثم يخرج إلى دجلة، ويرجع في نهر معقد، وأحب أن يكون معه رجل عالم بالقصور والأنهار والقطائع، ليصفها له، فقال: لا أعرف من يفي بهذا، ويصلح له غير الأصمعي، قال: فأتني، فأتيته فتحدث بين يدي جعفر، فأضحكه وأعجبه، فأدخله إلى الرشيد، فركب معه، فجعل لا يمر بنهر ولا أرض إلا أخبر بأصلها وفرعها، وسمى الأنهار، ونسب القطائع، فقال الرشيد لجعفر: ويحك، ما رأيت مثل هذا قط، من أين غصت عليه؟ فلما قارب البصرة قال للرشيد: يا أمير المؤمنين والذي شرفني بخطابك، إن لي من كل ما مررت به موضع قدم، فضحك الرشيد وقال: اشتر يا جعفر أرضاً، فاشترى له بنهر الأبلة أربعة عشر جريباً بألف وأربع مائة دينار، وكان جعفر قد نهاه عن سؤاله، ووعده بكل ما يريد، فقال له: أما نهيتك عن سؤاله؟ قال: انتهزت الفرصة، فأخبرته خبري فكرم. وقال الأصمعي: كنت بالبادية. كتب كل شيء أسمعه، فقال أعرابي منهم: أنت كمثل الحفظة، تكتب اللفظة، فكتبه أيضاً، قال: خرجت مع صديق لي بالبادية، فبينا نحن نسير، إذ ضللنا الطريق،، ثم نزلنا فإذا خيمة، فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، وقالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم مارون أضللنا الطريق، فرأيناكم، فأنسنا بكم، فقالت: ولوا وجوهكم حتى أقضي من زمانكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فطرحت لنا مسحاً وقالت: اجلسا حتى يجيء ابني، فيقوم بما يصلحكم، فجلسنا، فجعلت ترفع طرف الخيمة وتنظر، إلى أن نظرت فقالت: أسألك الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فجاء الراكب حتى وقف عليها، فقال: يا أم عقيل عظم أجرك في عقيل، قالت: ويحك، أمات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت الإبل على ابنك، فرمت به في البير، قالت: انزل، فاقض زمام القوم، فنزل فذبح لنا كبشاً وأصلحه مع ملح، وقربه إلينا، فأكلنا ونحن نتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا فقالت: يا هؤلاء: هل، فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً؟ قال: قلت نعم، قالت: فاقرأ علي آيات من كتاب الله أتعزى بها، قال: فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "، فقالت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: فالسلام عليك، ثم قامت فصفت قدميها، ثم صلت ركعتين، ورفعت يديها، وهي تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، ثم قالت: اللهم إتني قد فعلت ما أمرتني، فأجزل ما وعدتني.

وقال: سهرت ليلة بالبادية، وأنا نازل على رجل من بني الصيد، وكان واسع الرحل كريم المحل، وأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أنا مثواي، فقلت له: إني قد هلعت من طول الغربة، واشتقت أهلي، ولم تفدني قدمتي هذه إليكم كبير علم، وإنما كنت أفتقر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة، فقال: فأظهر توجعا، ثم أبرز غداء له، فتغديت معه، وأمر بناقة له مهرية، كأنها سبيكة لجين، فارتحلها واكتفلها، ثم ركب وأردفني وأقبلها مطلع الشمس، فما سرنا كثير مسير حتى لقينا شيخ على حمار، ذو جمة قد نعمها بالورس كأنها " قنبيطة " بالقاف المضمومة ثم النون المشددة ثم الموحدة ثم المثناة من تحت ثم الطاء المهملة وهو يترنم، فسلم صاحبي عليه، وسأله عن نسبه، فاعتزى أسدياً من بني ثعلبة، فقال له: يا ابن عم، أتنشد أم تقول؟ فقال: كلا قال: فأين تنزل؟ فأشار إلى ماء قريب، فأناخ الشيخ وقال لي: خذ بيد ابن عمك، فأنزله عن حماره، ففعله فألقى له كساء كان اكتفل به بعيره، فقال له: أنشدنا رحمك الله وتصدق على هذا الغريب بأبيات يعيهن عنك، ويذكرك بهن فأنشد: لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفوائد تمنيتها غدواً وغيمكم غدا ... أصاب فلا صحواً ولا الغيم جامد إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم نجد ... بفضل الغنى ألقيت ما لك حامد وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثاً وواراك لأحد إذا أنت لم يعزل بجنبك بعض ما ... تربت من الأدنى ورباك الأباعد إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... حبيباً كما استبلى لجيشة فائد إذا أنت لم تترك طعاماً تحبه ... ولا مقعد أتدعى إليه السوائد تجللت عاداً لا يزال بسبه ... سباب رجال نثرهم والقصائد وأنشد: تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على شرب الزمان مقول فإن تكن الأيام فينا تبدأت ... ببؤس ونعم والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صلابة ... ولا ذللتنا للذي ليس يحمل ولكن نحلناها نفوساً كريمة ... فتجهل ما لا نستطيع فنجمل وقينا بعزم الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراض والناس هزل

قال الأصمعي: فنمت والله قد أنسيت أهلي، وهانت علي الغربة وشطف العيش " يعني خشونته " سروراً بما سمعته. وقال: رأيت بالبادية شيخاً قد سقط حاجباه على عينيه، فسألته عن سنه فقال: مائة وعشرون سنة، فقلت: أرى فيك بقية، فقال: تركت الحسد فبقي علي الحسد، فقلت له: هل قلت شيئاً؟ فقال: بيتين في إخواني فاستنشدته فقال: ألا أيها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني، فقد أفنيت كل خليل أراك بصيراً بالذين تبيدهم ... كأنك تنحو نحوهم بدليل وقال وكان بالبصرة أعرابي من بني تميم، يطفل أو قال: يتطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هدية إلا لتقبل، فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقلاً ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً، وأقتحم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، وآكل برغمه، وأوذعه بغمه، فما أعد للهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق عليه درهم، ولا يعنى فيه خادم، ثم أنشأ يقول: كل يوماً دور في عرصة الحي ... اسم القتار ثم ألف باب فإذا ما رأيت آثار عرس ... وختان ومجمع للصحاب لم أودع دون التقحم لا ... أرهب دفعاً ونكرت البواب مع أبيات أخرى، وقال عمرو بن الحارث الحمصي ما رأى الأصمعي مثل نفسه قط، لقد قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ما قيل في العقاب، فعذر القوم، ولم يأتوا بشيء، فقال الأصمعي من أحسنه: باتت بورقها في وكرها شعب ... وناهض مخلص الأقرات من فيها ثم استمر بها عزم فحذرها ... كأنما الريح هبت من خوافيها ما كان إلا كرجع الطرف أو رجعت ... فلا تمطرن مما في أسافيها ثم قال: وهذا امرؤ القيس يقول: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والخشف البالي فقال الرشيد: لله درك ما من شيء إلا وجدت عندك فيه شيئاً، وقال عمرو: دخل العباس بن أحنف على الرشيد، وعنده الأصمعي، فقال له: أنشدنا من مكحل العربية، فأنشده:

إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الناسا ... فصور هاهنا فوراً صور ثم عباسا ودع بينهما شبراً، فإن زدت فلا بأسا ... وإن لم يدنوا حتى ترى رأسيهما رأسا فكذبها وكذبه بما قاست وما قاسا قال: فلما خرج قال الأصمعي: يا أمير المؤمنين؟ مسروق من العرب والعجم، فقال لي: ما كان من العرب. فقلت: رجل يقال له عمر، هوى جارية يقال لها قمراء: إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب السرا ... فصور هاهنا قمراً وصورها هنا عمرا فإن لم يدنوا حتى ترى بشريهما بشراً ... فكذبها بما ذكرت، وكذبه بما ذكرا وقال: فما كان من العجم؟ قلت: رجل يقال له فلق " بسكون اللام بين الفاء المفتوحة والقاف " هوى جارية يقال لها روف، فقال: إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الخلقا ... فصور هاهنا روفا وصورها هنا فلقا فإن لم يدنوا حتى ترى خلقيهما خلقا ... فكذبها بما لقيت وكذبه بما يلقى قال: فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب، فقال: عباس بالباب، فقال: ائذن له فدخلت فقال: يا عباس تسرق معاني الشعر، وتدعيه؟ فقال: ما سبقني إليه أحد، فقال هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثم قال: يا غلام ادفع الجائزة إلى الأصمعي قال: فلما خرجنا قال العباس: كذبتني وأبطلت جائزتي، فقلت: أتذكر يوم كذا، ثم أنشأت أقول: إذا ودندت امرؤاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنها. قلت: وقد خطر لي حال إملائي على الكاتب أن أردف هذا البيت بيتين مما يناسب فقلت: ومن من الخير لم يغرس بخيل علا ... لم يجتن من حسن الدنى رطبا ومن بدنياه لم يتعب بطاعته ... فداركم يلقى لها تعبا وقال الأصمعي: قال هارون الرشيد ليلة وهو يسير في قبة: يا أصمعي، حدثني، قلت: يا أمير المؤمنين، إن مزرد بن مرار كان شاعراً مليحاً ظريفاً، وإن أمه كانت تبخل عليه بزادها، وإنها غابت عن بيتها يوماً، فوثب مزرد على ما في بيتها فأكله وقال: ولما غدت أمي تزوز بناتها ... أغرت على العلم الذي كان يمنع خلطت بصاعي عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتردع

ودلت بأمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقبا ذرفت لا تجمع وقلت ليتني لسر اليوم أنه ... حمى أمنا مما يفيد ويجمع فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم يشبع قال: فضحك الرشيد، وقال: الدنيا ليس فيها مثلك حسن، قال: فدعوت له وفضلته على الملوك بحبه العلم وإحسانه أهله " قوله علم بكسر العين هو نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها "، وكان الرشيد يحب الوحدة، وكان إذا ركب عاد له الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه، وإسحاق الموصلي يسير قريباً من الفضل، وكان الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا وسر به وضحك، فحسده إسحاق، فقال إسحاق للفضل: كل ما يقوله كذب، فقال الرشيد: أي شيء قال؟ فأخبره، فغضب الرشيد، فقال: والله إن كان ما يقوله كذباًً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس. قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أما ترى قبيح أسماء سكك بغداد، مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك، فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال: الراجز: " ما ترى ملح بارف سقيت ماؤه بير فشر ورى فقر درى لحنونا فلحسه " فقال: ولله درك يا أصمعي، ما رأيت مثلك، خلقت لهذا الشأنه وحدك. وقال: قدمت على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ما لاقتني أرض حتى رأيت أمير المؤمنين، فلما خرج الناس، قال: ما معنى ما لاقتني؟ قلت: ما ألصقتني بها، ولا قبلتني، فقال: هذا حسن، ولكن لا تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه، حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ما شئت، وإنه لقبيح بالسلطان أن يسمع ما لا يدري، فإما أن يسكت ويعلم الناس أنه ما فهم، أو يجيب بغير الجواب، فيتحقق عندهم ذلك، فقلت: قد والله أفسدت إفساداً في أمير المؤمنين عن التأدب أكثر مما أفسدته، وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟ ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار فقلت: لابن عيينة المهلبي، فقال: كلام شريف، ثم قال لي: يا أصمعي، كأنه من قول الشاعر: وأن يقوم سوده كالفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد فقلت له: والله جاؤا به الأمير، وعجبت من فهمه مع صغر سنه.

قال: الأصمعي: كنت مع الرشيد في بعض أسفاره، فعطش، وقد تقدمته حمولة الثلج، فأتي بماء من ماء الرحل، فلما صار في فمه، مجه فقال له أبو البختري: يا أمير المؤمنين إني كنت ألتمس موضعاً لوعظك، فلا أقدر عليه، وقد وجدته، أفتأذن يا أمير المؤمنين. قال: نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو أكلت الطيب والخبيث وشربت الحار والقار، ولبست اللين والخشن، لكان أصلح لك، فإنك لا تدري ما يكون من صروف الزمان، قال: فانتفخ في ثوبه حتى خلته سمعت أرغته، ثم سكن فقال: يا أبا البختري، تلبس هذه النعمة ما لبسنا؟ فإذا أعوذ بالله زالت عنا رجعنا إلى عود غير حوار. وسأل الرشيد يوماً أهل مجلسه عن صدر هذا البيت: ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه، فلم يعرفه أحد، فقال إسحاق الموصلي: الأصمعي عليل، وأنا أمضي إليه وأسأله عنه، فقال الرشيد، احملوا إليه ألف دينار لنفقته، قال: فجاءت رقعة الأصمعي، وفيها أنشد في خلق الأحمر لأبي نسناس النهشلي. وسائلته أين الرحيل وساءل ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟ ودوابه يخشى بها الري سرت ... بأبي النسناس فيها ركائبه ليدرك ناراً أو ليكسب مغنماً ... جزيلاً وهذا الدهر جم عجائبه وذكر القصيدة كلها، وقال الأصمعي: بينما أنا مع الرشيد بمكة، إذ عارضه العمري فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام غليظ، احتمله لله عز وجل، فقال: أفعل، فو الله لقد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: فقولا له ليناً. قلت: ومما يناسب هذا الكلام ما شاع في بلاد اليمن بين العلماء والعوام، إن الإمام الكبير الولي الشهير إمام الفريقين وموضع الطريقين محمد بن إسماعيل الحضرمي، قدس الله روحه، كتب إلى الملك المظفر صاحب اليمن في سقيفة خزف: يا يوسف، فكتب المد يعاتبه ويقول: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني. وفي رواية: دع أنك موسى، ولست بموسى، وأني فرعون ولست بفرعون، وقد قال الله تز وحل: " فقولا له قولا ليناً " " طه: 44، " أما تكتب إلي في ورقة بفلس؟ قلت: وقدم ذكر وعظ العمري لهارون في ترجمته. وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد بالرقة، فبعث إلي فقمت وأنا وجل،. فدخلت هو جالس على بسط، وإذا كرسي خيزران إلى جانبه وجويرية خماسية جالسة على ذلك

فسلمت فلم يرد علي، وجعل ينكت في الأرض، فأيست من الحياة، فقال: يا أصمعي؟ ألم تر هذا الكذاب عبد بني حنيفة يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد عبيدي: أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا يزيد به وبالاً وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالاً وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالاً فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب، فما تصنع بنا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، وهو بالباب، فقال علي به، فأدخل، فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط، وهو يصيح ويقول: يا أمير المؤمنين، استبقني، واذكر قولي فيك وفي أبيك، قال: وما قلت فينا. فأنشده قصيدته التي يقول فيها: ما تطفئون من السماء نجومها ... أو تمحقون من السمع هلالها أم ترفعون مقالة عن ربه ... جبريل بلغها النبي فقالها شهدت من الأنفال أحزابه ... إن أتهم فأرتمو إبطالها فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... ألا تولغ دماءكم أشبالها وقال: فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه، فلما خرج قال لي: يا أصمعي من هذه؟. قلت: لا أدري، قال: هذه مواسية بنت أمير المؤمنين، قم فقبل رأسها، فقلت: أفلت من واحدة، ووقعت في أخرى، إن فعلت أدركته الغيرة فقتلني، فقمت، وما أعقل، فوضعت كمي على رأسها وفمي على كفي، فقال لي: والله لو أخطأتها لقتلتك، قلت: يعني لو أخطأت هذه الفعلة التي فعلتها بهذه الصفة، قال: ثم قال: أعطوه عشرة آلاف درهم. وقال الأصمعي: حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلداً، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسكه عضواً عضواً منه، فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته من العرب، فقال لي: قم يا أصمعي، وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته، وشرعت أذكر عضواً عضواً، وأضع يدي عليه، وأنشده ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة كتبته إليه. وروي عن طريق أخرى أن ذلك عند هارون الرشيد، وأن الأصمعي لما فرغ من كلام في أعضاء الفرس، قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول في ما قال؟ قال: أصاب في بعض، وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلم، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به.

وقال أبو العيناء: أنشدني أبو العالية الشامي: لا در در بباب الأرض أن فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا قلت: وقد روي عن أبي العيناء في ذم الأصمعي، عن أبي قلابة بيتان يضادان ما مد في هذين البيتين، كرهت ذكرهما لكون ما مدح به معلوماً عند الخلق، وما ذمه به مجهولاً عندهم، وفهرست أسماء تصانيفه على ثلاثين كتاباً. ومن مسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً ". وبإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الكنز مر به الخضر عليه السلام، كان لوحاً من ذهب مضروباً مكتوباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجباً لمن يعرف الموت كيف يفرح، ولمن يعرف النار كيف يضحك، ولمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، ولمن يؤمن بالقضاء والقدر، كيف ينصب في طلب الرزق، ولمن يؤمن بالحساب كيف يعمل الخطايا، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبإسناده عن سلمة بن بلال قال: قال علي رضي الله تعالى عنه: لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه ... فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه وللشيء على الشيء مقاييس مقاييس ... يقاس المرء بالمرء إذا هو ما شاء وبإسناده عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: هذا المال لا يصلحه إلا ثلاث: أخذه من فضله، ووضعه في حقه، ومنعه من السرف. وقال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطرف الجمرة رجلاً فقال له: ما اسمك؟ قال: طارق، قال: ابن من. قال: ابن شهاب، قال: ممن. قال: من الحرقة، قال: أين منزلك؟ قال بجمرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات لظى، قال: أدرك أهلك فقد حرقوا فرجع إلى أهله فرجع إلى أهله فوجدهم قد احترقوا. وبإسناده قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من أنعم الله عليه، فليحمد الله ومن استبطأ عليه الرزق، فليستغفر الله، ومن حزبه أمر، فليقل: لا حول ولا قوة بالله ".

سبع عشرة ومائتين

سبع عشرة ومائتين وفيها توفي، وقيل في التي قبلها حجاج بن المنهال البصري الأنماطي الحافظ سمع شعبة، وطائفة رحمة الله عليهم. وفيها توفي سريج بن النعمان البغدادي الحافظ وموسى بن داود الضبي الحافظ هشام بن إسماعيل الخزاعي الدمشقي الزاهد القدوة رحمة الله عليهم. ثمان عشرة ومائتين فيها: امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن، وكتب إلى نائبه على بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام متعبد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه، وتوقف طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك، وتهدد على ذلك بالقتل، فلم يقف، ولم يثبت من علماء العراق إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، قيل: وارسلا إلى المأمون، وهو بطرسوس، فلما بلغوا الرقة جاءهم الفرج بموت المأمون، وعهد بالخلافة إلى أخيه المعتصم. وفيها: دخل كثير من أهل بلاد همدان في دين الخرمية وعسكروا فندب المعتصم لهم أمير بغداد إسحاق بن إبراهيم، فالتفاهم بأرض همذان، فكسرهم وقتل منهم ستين ألفاً، وانهزم من بقي إلى ناحية الروم. وفيه: توفي أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري الحميري الأصل المعافري اليمني النحوي صاحب المغازي، الذي هذب السيرة وتخصها، وكان أديباً أخبارياً نسابة، سكن مصر وبها توفي في شهر رجب. وفيها توفي بشر المريسي رأس الضلالة الداعي إلى البدعة بالقول بخلق القرآن وغير ذلك من العقائد المخالفة لمذهب أهل الحق. قيل: وكان مرجئاً، وإليه ينسب الطائفة المريسية من المرجئة، وكان يناظر الإمام شافعي، وهو لا يعرف النحو، بل يلحن لحناً فاحشاً، وقيل: كان أبوه يهودياً صباغاً

تسع عشرة ومائتين

بالكوفة. " والمريسي " منسوب إلى مريس، قيل: قرية من قرى مصر، وقيل: بين بلاد النوبة والسودان وقيل: بل منسوب إلى درب المريس ببغداد حيث كان يسكن. وفي السنة المذكورة أيضاً توفي المأمون أبو العباس عبد الله بن الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور العباسي، وله ثمان وأربعون سنة وكأن أبيض ربعة، حسن الوجه أعين، طويل اللحية ذا رأى وعقل ودهاء وشجاعة وكرم وحلم ومعرفة بعلم الأدب وعلوم أخرى، وكان من أذكر العالم وله همة عالية، ذا رأي في الجهاد وغيره، وكان يقول: معاوية لعمرو " بفتح العين المهملة " وعبد الملك لحجاجه، وأنا لنفسي، وكان في اعتقاده شيعياً استقل بالخلافة عشرين سنة بعد قتل أخيه الأمين لما خلعه. ومما يحكى من ذكائه وحسن أدبه، أنه كان أبوه الرشيد يميل إليه أكثر من أخيه الأمين، وكانت أم الأمين زبيدة تغار من ذلك، وتوبخ الرشيد على ميله إلى ولد الجارية فقال لها على طريق الإعتذار، سأبين لك فضلهما، أو قال: فضله على أخيه، فاستدعى بالأمين وكانت عنده مساويك فقال له: ما هذه يا محمد. فقال: مساويك، فقال: اذهب، ثم استدعى بالمأمون، فلما أحضر قال: ما هذه يا عبد الله؟ فقال: ضد محاسنك أمير المؤمنين، أو كما قال له من العبارة، كل ذلك وزبيدة تسمع ليمهد عذره عندها. قلت: وهذا ما اقتصرت عليه في ترجمته، وله ما يكثر ذكره من الفضائل، وقد وقع ذكر شيء منها في غير هذا المكان. وفيها توفي ناصر السنة محمد بن نوح العجلي، المحمول مقيد مع الإمام أحمد، مرض ومات في الطريق وكان يثبت أحمد ويشجعه. تسع عشرة ومائتين فيها: وقيل في التي بعدها: امتحن المعتصم الإمام أحمد وضرب بين يديه بالسياط حتى غشي عليه، فلما صمم ولم يجبهم إلى مرادهم أطلقه وندم على ضربه، وقد أوضحت في كتاب " المرهم في الأصول " كيفية ذلك الإمتحان، ومن حرض عليه من علمائهم، لحق المتولين ذلك من العقوبة. وفيها توفي أبو أيوب سليمان بن علي الهاشمي، كان إماماً فاضلاً شريفاً، روي أن الإمام أحمد بن حنبل أثنى على سليمان بن علي، وقال: يصلح للخلافة.

عشرين ومائتين

وفيها توفي الإمام أبو نعيم الفضل بن دكين محدث الكوفة الحافظ. قال ابن معين: ما رأيت أثبت من أبي نعيم وعفان، وقال أحمد: كان يقظان في الحديث عارفاً، وقام في أمر الإمتحان بما لم يقم به غيره، وكان أعلم من وكيع بالرجال وأنسابهم، ووكيع أفقه منه، وقال غيره لما امتحنوه: قال: والله، عنقي أهون من زري هذا، ثم قطع زره ورمى به. وفيها توفي أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي الحافظ رحمة الله تعالى عليه عشرين ومائتين فيها عهد المعتصم للأفشين على حرب بابك الخرمي الذي هزم الجيوش وخرب البلاد منذ عشرين سنة، فالتقى الأفشين بابك، فهزمه وقتل من الخرمية نحو الألف، وهرب بابك، ثم جرت لهما أمور يطول شرحها، وفيها أمر المعتصم بإنشاء مدينة يتخذها داراً للخلافة، وسميت سر من رأى. وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف دينار. وفيها توفي آدم بن أبي إياس الخراساني ثم البغدادي نزيل عسقلان، كان صالحاً قانتاً لله، ولما احتضر قرأ الختمة ثم قال: لا إله إلا الله. وفارق الدنيا، " وعبد الله " بن جعفر الرقي الحافظ، " وعفان " بن مسلم الحافظ البصري أحد أركان الحديث، قال يحيى بن معين: أصحاب الحديث خمسة: ابن جريج ومالك والثوري وشعبة وعفان. قال حنبل: كتاب المأمون إلى متولي بغداد يمتحن الناس، وكتب: إن لم يجب عفان فاقطع رزقه، وكان له في الشهر خمسمائة درهم، فلم يجبهم وقال: وفي السماء رزقكم وما توعدون. وفيها: توفي الإمام قالون قارىء أهل المدينة، صاحب نافع. وفيها: توفي الشريف أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، أحد الإثني عشر إماماً الذين يدعي الرافضة فيهم العصمة، وعمره خمس وعشرون سنة، وكان المأمون قد نوه بذكره، وزوجه بابنته، وسكن بها المدينة، وكان المأمون ينفذ إليه في السنة ألف ألف درهم. قلت: وقد تقدم أن المأمون

إحدى وعشرين ومائتين

زوج ابنته من أبيه " علي الرضى " وكان زوج الأب والإبن بنتيه، كل واحد بنتاً، وقدم الجواد إلى بغداد وافدا على المعتصم، ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون، فتوفي فيها، وحملت امرأته أم الفضل إلى قصر عمها المعتصم، فجعلت مع الحرم، وكان الجواد يروي مسنداً عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: يا علي، ما جار، أو قال: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، يا علي، عليك بالدلجة، فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار، يا علي، أغد، فإن الله بارك لأمتي في بكورها، وكان يقول: من استفاد أخاً في الله، فقد استفاد بيتاً في الجنة. ولما توفي دفن عند جده موسى بن جعفر في مقابر قريش، وصلى عليه الواثق بن المعتصم. إحدى وعشرين ومائتين وفيها: توفي الإمام الرباني أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي المدني القعنبي الزاهد، سكن البصرة ثم مكة وبها توفي، وقيل بالبصرة، وهو أوثق من روى الموطأ، قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني من القعنبي، وقال أبو حاتم: ثقة لم أر أخشع منه، وقال غيرهما من الأئمة هو والله عندي خير من مالك، وقال الفلاس: كان القعنبي مجاب الدعوة، وقال محمد بن عبد الوهاب الفراء: سمعتهم بالبصرة يقولون القعنبي من الإبدال. قال عبد الله بن أحمد بن الهيثم: سمعت جدي يقول: كنا إذا أتينا عبد الله بن مسلمة القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم نعوذ بالله منها قلت: وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح البخاري: روينا عن أبي مرة الحافظ قال: قلت للقعنبي: حدث، ولم يكن يحدث، قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، فصيح بأهل العلم، فقاموا فقمت معهم، فصيح. اجلس، فقلت: إلهي ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى، ولكنهم نشروه وأخفيته، فحدث، قال النووي: وروينا عن الإمام مالك أن رجلاً جاءه فقال: قدم القعنبي، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، وقال محيي الدين المذكور: سمع مالكاً والليث وحماد بن سلمة وخلائق لا يحصون من الأعلام وغيرهم. وروى عنه الذهلي والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والخلائق من الأعلام، وأجمعوا على جلالته وإتقانه وحفظه وإخلاصه وورعه وزهادته، وكانت وفاته يوم الجمعة لست خلت من المحرم من السنة المذكورة.

اثنتين وعشرين ومائتين

اثنتين وعشرين ومائتين فيها التقى الأفشين والخرمية، فهزمهم ونجا بابك، فلم يزل الأفشين يتحيل عليه حتى أسره، وقد عاث هذا الشيطان وأفسد البلاد والعباد، وامتدت أيامه نيفاً وعشرين سنة، وأراد أن يقيم ملة المجوس، واستولي على كثير من البلدان. وفي أيامه ظهر المازيار القائم بملة المجوس بطبرستان وبعث المعتصم إلى الأفشين بثلاثين ألف ألف درهم ليتقوى بها، وافتتحت مدينة بابك في رمضان بعد حصار شديد فاختفى بابك في غيضة وأسر جميع خواصة وأولاده، وبعث إليه المعتصم الأمان، فخرق به وسبه، وكان قوي النفس شديد البطش صعب المراس، فطلع من تلك الغيضة في طريق يعرفها في الجبل، وانفلت ووصل إلى جبال أرمينية، فنزل عند " البطريق سهل " فأغلق عليه، وبعث ليعرف الأفشين، فجاء الأفشينية فتسلموه، وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حياً ألفي ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، وكان يوم دخل ببغداد يوماً مشهوداً. وفيها توفي أبو اليمان الحكم بن نافع اليماني الحمصي الحافظ " وأبو عمرو " مسلم بن إبراهيم الفراهيدي مولاهم الحافظ محدث البصرة، سمع من ثمانية شيوخ بالبصرة، وكان يقول: ما أتيت حراماً ولا حلالاً قط. ثلاث وعشرين ومائتين فيها أتي المعتصم ببابك، فأمر بقطع رأسه وبصلبه. وفيها توفي خالد بن خداش المهلبي البصري المحدث، وعبد الله بن صالح الجهني المصري الحافظ، وأبو بكر بن أبي الأسود قاضي همدان، وكان حافظاً مفتياً، وموسى بن إسماعيل البصري الحافظ أحد أركان الحديث رحمة الله عليهم. أربع وعشرين ومائتين فيها ظهر مازيار " بالزاي ثم الياء المثناة من تحت وفي آخره راء " بطبرستان، فسار لحربه عبد الله بن طاهر، وجرت له حروب وأمور، ثم اختلف عليه جنده، وكان قد ظلم وأسف وصادر وخرب أسوار بلدان منها: الري وجرجان وغير ذلك، وسيأتي ذكر قتله. وفيها توفي الأمير إبراهيم بن المهدي العباسي، وكان فصيحاً أديباً شاعراً رأساً في معرفة الغناء وأبوابه، ولي أمرة دمشق لأخيه الرشيد، وبويع بالخلافة ببغداد، ولقب بالمبارك

عندما جعل المأمون ولي عهده علي بن موسى الرضى، وحورب فانكسر مرة بعد أخرى، واختفى، وبقي مختفياً سبع سنين، ثم ظفروا به، فعفا عنه المأمون. وفيها توفي قاضي مكة أبو أيوب سليمان بن حرب الأزدي الواشجي البصري الحافظ، حضر مجلسه المأمون من وراء ستر. وأبو الحسن علي بن محمد المدائني البصري الأخباري صاحب التصانيف والمغازي والأنساب، وكان يسرد الصوم. وفيها توفي العلامة العالم أبو عبيد القاسم بن سلام " بتشديد اللام " البغدادي صاحب التصانيف، سمع شريكاً وابن المبارك وطبقتهما، وقال إسحاق بن راهويه الحق يحدث الله: أبو عبيد أفقه مني وأعلم. وقال أحمد: أبو عبيد أستاذ، ووصفه غيره بالدين والسيرة الجميلة وحسن المذهب والفضل البارع، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل هراة، اشتغل أبو عبيد بالحديث والفقه والأدب. وقال القاضي أحمد بن كامل: أبو عبيد فاضل في دينه وعلمه، متفنن في أصناف علوم الإسلام من القرآن والفقه والعربية والأخبار وحسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحداً من الناس ظفر عليه في شيء من أمر دينه. وقال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح، يحسن كل شيء، ولي القضاء بمدينة طرسوس ثماني عشرة سنة، وروى عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والكسائي والفراء وجماعة كثيرة وغيرهم. وروى الناس من كتبه المصنفة نيفاً وعشرين كتاباً في القرآن الكريم والحديث وغريبه والفقه، وله مصنف " في الغريب " و " كتاب الأمثال "، و " معاني الشعر والمقصور والممدود "، و " القراءات والمذكر والمؤنث "، و " كتاب النسب "، و " كتاب الأحداث "، و " أدب القاضي "، و " عدداي القرآن "، و " الأيمان والنذور "، و " كتاب الأموال "، وغير ذلك من الكتب النافعة، ويقال أنه أول من صنف في غريب الحديث، ولما وضع كتاب الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه وقال: إن عاقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق أن لا يخرج إلى طلب المعاش، وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر. وقال محمد بن وهب المسعودي: سمعت أبا عبيد يقول: كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائده من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من

الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني، فيقيم أربعة أو خمسة أشهر، فيقول قد أقمت كثيراً. وقال الهلال بن العلاء الرقي: من الله تعالى على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: " بالشافعي " تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، " وبالإمام أحمد " ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس أو قال ابتدعوا، " ويحيى بن معين " نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام، فسر غريب الحديث، ولولا ذلك لإقتحم الناس الخطأ. وقال أبو بكر الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثاً: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتاب ثلثه. وقال أبو الحسن إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا جمعاً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً، وكان يخضب بالحناء، أحمر الرأس واللحية، ذا وقار وهيبة، قدم بغداد فسمع الناس منه كتبه، ثم حج بمكة سنة اثنتين أو ثلاثاً وعشرين ومائتين، وقال البخاري: في سنة أربع وعشرين. وذكر الإمام ابن الجوزي أنه لما قضى حجته، وعزم على الإنصراف، اكترى إلى العراق، فرأى في الليلة التي عزم على الخروج في صبيحتها في منامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس وعلى رأسه قوم يحجبونه، وأناس يدخلون، ويسلمون عليه ويصافحونه. قال: فكلما دنوت لأدخل منعت، فقلت: لم لا تخفون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: والله، لا تدخل إليه، ولا تسلم عليه، وأنت خارج غداً إلى العراق، فقلت لهم: إني لا أخرج إذن، فأخذوا عهدي، ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلت وسلمت عليه، وصافحني، وأصبحت ففسخت الكري، وسكنت بمكة، قال: ولم يزل بها إلى أن توفي رحمة الله عليه. قال أبو عبيد: كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكية، وكانت من العارفات، فقالت لي: يا أبا عبيدة يقال أنك من أهل العلم، اسمع مني ما أقوله لك: لا تجالسه إلا بالأدب وإلا محاك من ديوان العلماء، أو قالت: من ديوان الصالحين، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها.

خمس وعشرين ومائتين

خمس وعشرين ومائتين فيها توفي الإمام المالكي اصبغ بن الفرج مفتي مصر، قال ابن معين: كان من أعلم خلق الله، يرى برأي مالك، أو قال: لمذهب مالك، يعرفه مسألة مسألة، متى قالها مالك؟ ومن خالفه فيها. وله تصانيف حسان. وفيها توفي أبو عبيد بن فياض اليشكري البصري. وفيها توفي الأمير أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي صاحب الكرخ، أحد الأبطال المذكورين والأجواد المشهورين، وهو أحد أمراء المأمون ثم المعتصم، وله وقائع مشهورة وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء الفضلاء، وله صنعة في الغناء، وله من الكتب " كتاب البزة والصيد "، و " كتاب السلاح "، و " كتاب سياسة الملوك " وغير ذلك، ولقد مدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وكذلك بكر بن النطاح وفيه يقول: يا طالباً للكيمياء وعلمه ... وابن عيسى الكيمياء الأعظم لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم ويقال أنه أعطاه على هذين البيتين عشرة آلاف درهم فأغفله قليلاً ثم دخل عليه، وقد اشترى بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلة فأنشده: بك ابتعت في نهر الأبلة قرية ... عليها قصير بالرماح مشيد إلى جنبها أخت لها يعر ضونها ... وعندك يا للهبات عقد معقد فقال له: وكم ثمن هذه الأخت؟ فقال: عشرة آلاف درهم فدفعها له، ثم قال: تعلم أن نهر الأبلة عظيم، وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها أخرى، وإن فتحت هذا الباب اتسع علي الخرق فامتنع بهذه، فدعا له وانصرف، وكان أبو دلف قد شهد معركة فطعن فيه فارساً فنفذت الطعنة إلى أن وصلت إلى فارس فار آخر وراءه، فنفذت فيه السنان، فقتلهما، وفي ذلك يقول بكر بن النطاخ. قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج، ولا تراه كليلاً لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل إذن نظم الفوارس ميلاً وكان أبو عبد الله أحمد بن أبي صالح مولى بني هاشم أسود سيء الخلق، وكان فقيراً فقالت له امرأة: يا هذا، أن الأدب أراه قد سقط نجمه وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وفرسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، عسى الله أن ينفلك من الغنيمة شيئاً فأنشد:

مالي ومالك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين، قف أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف تمسي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف ظننت أن نزال الناس من خلقي ... أو أن قلبي في جنبي أبي دلف فبلغ خبره أبا دلف، فوتجه إليه ألف دينار، وكان أبو دلف بكثرة عطائه، قد ركبته الديون، واشتهر ذلك عنه، فدخل عليه بعضهم وأنشده: أيا رب المنائح والعطايا ... ويا طلق المحيا واليدين لقد خبرت أن عليك دينا ... فزد في رقم دينك واقض ديني فوصله وقضى دينه، ودخل عليه بعض الشعراء فأنشده: الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديك العلم يا أبا دلف ما خط لي كاتباه في صحيفته ... كما يخط لي في سائر الصحف نادى الرماح فأعطى وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف وقد تقدم أنه حضر أبو دلف بين يدي المأمون فقال: يا أبا دلف، أنت الذي يقول فيك الشاعر: إنما الدنيا أبو دلف ... بين بادية ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره قال: لست ذاك يا أمير المؤمنين ولكنني الذي يقول فيه علي بن جبلة. أبا دلف ما كذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب فرضي عنه وتعجب من ذكائه، واستنشد أبو دلف أبا تمام القصيدة التي رثا بها محمد بن حميد، فلما بلغ قوله: توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر وما كان إلا مال من قلة ماله ... وذخر المراثي، وليس له زخر تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر فبكى أبو دلف وقال: وددت أنها في، فقال أبو تمام: بل سيطيل الله عز وجل الأمير، فقال: لم يمت من، قيل، فيه هذا و " السفر " بفتح السين، وسكون الفاء، جمع سافر، مثل

صاحب وصحب، يقال سفرت آسفر سفوراً أي خرجت إلى السفر، فأنا مسافر، وسفرت بين القوم أسفر سفاراً أي أصلحت، والسفير: الرسول، قلت: ولاشتقاق هذه اللفظه معان كثيرة، أوضحتها في " شرح المرسوم بمنهل الفهوم في شرح ألسنة العلوم ". وحكى جماعة من أرباب التواريخ عن دلف " بضم الدال المهملة وفتح اللام وبعدها فاء "، ابن أبي دلف، قال: رأيت في المنام أتاني آت، فقال لي: أجب الأمير، فقمت معه فأدخلني داراً وحشة ذعرة، سوداء الحيطان مقلعة السقوف والأبواب، مشوهة البنيان وأصعدني على درج فيها، ثم أدخلني غرفة، في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر رمال، وإذا بأبي وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه كالحزين زماناً فقال لي، كالمستفهم: دلف. قلت: دلف، فأنشأ يقول: أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الحيات قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي ثم قال فهمت قلت: نعم، ثم أنشد: فلو كنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء ثم قال: أفهمت، قلت: نعم، انتهت الحكاية، قلت: وإذا كانت بهجة الدنيا عاقبتها هذه العاقبة فتجارتها خاسرة، وصفقتها خائبة، وأحسن أحوالها أن يصحبها تقوى الله في أقوال النفوس وأفعالها، ولما وقفت على هذا المنام وما تضمنه من هذه الأمور الهائلات عن لي إنشاء نظم نقلت هذه العشرة الأبيات. تسمع من الأيام تخبرك بالذي ... قضى في جميع الكائنات قديماً ستبديه شيئاً بعد شيء إلى الورى ... يسوق شقاء نحوهم ونعيماً فيا سعد ذي عيش يدوم نعيمه ... وخيبة مقطوع يؤول جحيماً ويا ليت لذات مضت لم تكن ويا ... ضياع كريم، كم أتاك كريماً إذا ضاع من أنفاس عمر جواهر ... به جل خسران يراه مقيماً وما نفع من أمسى بدنيا مرقعاً ... وما ضر من طوطا بها وعديماً إذا انعكس الحال القديم فأصبح ... الذميم حميداً والحميد ذميماً سألتك بالقرآن من رحمة مع ... اللطف يا من لا يزال رحيماً

ست وعشرين مائتين

ووفق لما ترضى بجاه محمد ... وواصل له أزكى الصلاة مديماً وللشمال أجمع غداً بأحبة ... يداولها نعم النديم نديماً فنسأل الله الكريم التوفيق لسلوك منهج الهدى والسلامة من ارتكاب مسالك الزيغ الرديء، ومدائح أبي دلف كثيرة، وله أيضاً أشعار حسنة وكان أبوه شرع في عمارة مدينة الكرخ ثم أتمها هو وكان بها أهله وأولاده وعشيرته عفا الله عنه وعنا ورحمنا جميعاً وسامحنا. وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الجرمي العلامة النحوي، كان فقيهاً عالماً بالنحو واللغة، وهو من البصرة، فقدم بغداد، وأخذ النحو من الأخفش وغيره، ولقي يونس بن خبيب، ولم يلق سيبويه، أخذ اللغة من أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وطبقتهم، وكان ديناً ورعاً حسن المذهب صحيح الإعتقاد، وله في النحو كتب جيدة، وناظر ببغداد الفراء، وروى الحديث، وحدث المبرد عنه. قال: قال لي أبو عمرو: قرأت ديوان الهذليين على الأصمعي، وكان أحفظ له من أبي عبيدة فلما فرغت منه قال لي: يا أبا عمرو، إذا فات الهذلي أن يكون شاعراً ورامياً أو ساعياً، فلا خير فيه، وقال المبرد: كان الجرمي أثبت القوم في كتاب سيبويه، وعليه قرأت الجماعة، وكان عالماً باللغة حافظاً لها، وله كتب انفرد بها، وكان جليلاً في الحديث والأخبار، وله كتب في السير عجيب و " كتاب غريب سيبويه "، و " كتاب العروض "، و " كتاب الأبنية "، و " مختصر في النحو ". والجرمي: " بفتح الجيم وسكون الراء " نسبة إلى جرم، وفي العرب عدة قبائل، كل واحدة منها يقال لها جرم، منها من ينتسب إلى جرم بن علقمة بن أنمار، ومنهم من ينسب إلى جرم بن زبان، وذكر بعضهم أن الجرمي المذكور مولى جرم بن زبان. ست وعشرين مائتين فيها غضب المعتصم على أفشين، وسجنه وضيق عليه، ومنع من الطعام حتى مات أو خنق، ثم صلب إلى جانب بابك، قيل: أتي بأصنام من داره أتهم بعبادتها، فأحرقت، وكان أقلف متهماً في دينه، وخاف المعتصم منه أيضاً، وكان من أولاد الملوك الأكاسرة، واسمه حيدر بن كاؤس، وكان بطلاً شجاعاً مقداماً مطاعاً، ليس في الأمراء أكبر منه، وظفر المعتصم أيضاً بمازيار الذي فعل الأفاعيل بطبرستان وصلبه أيضاً إلى جانب بابك.

سبع وعشرين ومائتين

وفيها توفي سعيد بن كثير أبو عثمان المصري الحافظ العلامة قاضي الديار المصرية، وكان فقيها أخبارياً نسابة شاعراً كثير الإطلاع، قليل المثل شهير الفضل. وفيها توفي شيخ خراسان الإمام يحيى بن يحيى بن بكير التميمي النيسابوري، كان يشبه بابن المبارك في وقته طرفاً، وروى عن مالك والليث وطبقته. قال ابن راهويه: ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، ولا أحسبه رأى مثل نفسه، ومات وهو إمام لأهل الدنيا. سبع وعشرين ومائتين وفيها قدم أبو المغيث أميراً على دمشق، فخرجت عليه قيس وأخذوا خيل الدولة من المرج، لكونه صلب منه خمسة عشر رجلاً، فوجه إليهم جيشاً فهزموه وحاصروا دمشق، وجاءهم جيش من العراق مع أمير، فأنذرهم القتال يوم الأثنين ثم كبسهم يوم الأحد وقتل منهم ألفاً وخمسمائة. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف الرباني معدن الأسرار والمعارف الموفق في الورع والزهد المعروف بالحافي، أبو نصر بشر بن الحارث، ذكروا أنه سمع من حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد، واعتنى بالعلم، ثم أقبل على شأنه، ودفن كتبه، وحدث بشيء يسير، وكان في الفقه على مذهب الثوري، وقد صنف العلماء في مناقبه وكراماته تصانيف، وهو مروزي الأصل من أولاد الرؤساء والكتاب. وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة، فيها اسم الله مكتوب، وقد وطيها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية، فطيب بها الورقة، وجعلها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول: يا بشر، طيبت اسمي، لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة، فلما انتبه من نومه تاب. ويحكى أنه كان في داره مع جماعة ندماء له في اللعب واللهو، فدق عليه الباب داق، فقال للجارية، اذهبي، فانظري من بالباب، فذهبت وفتحت، وإذا فقير على الباب، فقال لها: سيدك حرام عبد؟ فقالت: بل حر، فقال: صدقت، لو كان عبداً لاستعمل داب العبيد، ثم ذهب وخلاها، فرجعت فسألها بشر عمن وجدت بالباب، وما قال لها، فأخبرته، فخرج يعدو

حافياً، وهو يقول: بل عبد فلم يلحقه، فرجع ولم يزل حافياً، فسئل عن ذلك فقال: الحالة التي صولحت وأبا عليها، لا أحب أن أغيرها. ويحكى أنه أتى باب المعافي بن عمران، فدق عليه، فقيل: من هذا. فقال: بشر الحافي، فقالت بنت من داخل الدار لو اشتريت نعلاً بدانقين لذهب عنك اسم الحافي. قيل: وإنما لقب بالحافي، لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه، وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس، فألقى النعل من يده، والأخرى من رجله، وحلف لا يلبس بعدها نعلاً، وقيل له: بأي شيء تأكل الخبز؟. فقال: اذكر العافية، فأجعلها إداماً، ومن دعائه. " اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة، فاسلب ذلك عني "، " ومن كلامه "، عقوبة العالم في الدنيا أن ينمي بصر قلبه، وقال: من طلب الدنيا فتهيأ للذل. وقال بعضهم: بعث بشر يقول لأصحاب الحديث: ما زكاة هذا الحديث؟ فقالوا: وما زكاته.، قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وقيل له: لم لا تحدث؟ فقال: أني أحب أن أحدث، ولو أحببت أن اسكت لحدثت، يعني أخاف نفسي في هواها، وكان له رضي الله تعالى عنه ثلاث أخوات، كلهن زاهدات عابدات ورعات، مصنفة وهي الكبرى ومنحة وزبدة. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي، وقالت له: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفىء السراج، فأغزل على ضوء القمر، فهل علي أن أبين غزل السراج من غزل القمر؟ فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك، فقالت: يا أبا عبد الله، أتبين المريض؟ هل هو شكوى؟ فقال لها: إني لأرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكى، وإلى الله قال عبد الله فقال لي أبي: يا بني ما سمعت قط إنساناً يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة فاتبعها، قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت إنها أخت بشر، فأتيت أبي، فقلت: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقيل: اتق الله، هذا هو الصحيح، محال أن يكون هذه إلا أخت بشر. وقال عبد الله أيضاً: جاءت " منحة " أخت بشر الحافي إلى أبي، فقالت: يا أبا عبد الله، رأس مالي دانقان أشتري بها قطناً فأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقاً من الجمعة إلى الجمعة، وقد مر الطائف ليلة ومعه مشعل، فاغتنمت ضوء المشعل، وغزلت طاقين في ضوء، فعلمت أن الله سبحانه مطالب لي، فخلصني من هذا خلصك الله

ثمان وعشرين ومائتين

فقال: تخرجين الدانقين، ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيراً منه، فقال عبد الله، فقلت لأمي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، قال: يا بني، سؤالها لا يحتمل التأويل، فمن هذه المرأة؟ قلت: هي منحة أخت بشر، فقال: من ها هنا أنت، قلت: وفي رواية أخرى: إن أخت بشر قالت له: إن مشاعيل الولاة تمر بنا، ونحن على سطوحنا، أفيحل لنا أن نغزل في شعاعها. فقال: من أنت رحمك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي، فقال: صدقت، من بينكم يخرج الورع الصافي، قال: الصادق، لا تغزلي في شعاعها. وتكلم بشر في الورع وعدم طيب المطاعم، فقيل له: ما نراك تكل إلا من حيث تأكل. فقال: ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك، وفي رواية: أكلتموها كباراً وأكلتها صغاراً. وفي السنة المذكور توقني أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني الحافظ صاحب السنن. وفي السنة المذكورة توفي الخليفة المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن منصور العباسي، عهد إليه بالخلافة المأمون، وكان شجاعاً شهماً مهيباً، لكنه كثير اللهو مسرف على نفسه، وهو الذي افتتح عمورية من أرض الروم. ويقال له المثمن، لإنه ولد سنة ثمانين ومائة، في ثامن عشر منها، وهو ثامن الخلفاء من بني العباس، وفتح ثمان فتوحات، ووقف في خدمته ثمانية ملوك من العجم، ثم قتل ستة منهم، واستخلف ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخلف ثمانية بنين وثماني بنات، وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف ألف درهم، ومن الخيل ثمانين ألف فرس، ومن الجمال والبغال مثل ذلك، ومن الممالك ثمانية آلاف مملوك وثمانية آلاف جارية، وبنى ثمانية قصور، هكذا قيل في التواريخ، فان صحح هذا فهو من جملة العجائب. قالوا وكانت له نفس سبعية، إذا غضب لم يبال بمن قتل ولا بما فعل، وعمره سبع وأربعون سنة، وأقام بعده ابنه الواثق. ثمان وعشرين ومائتين فيها توفي عبد الله، وقيل: عبيد الله بن محقد بن حفص القريشي التيمي العائشي البصري الأخباري، أحد الفصحاء الأجواد، أمه عائشة بنت طلحة. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: هي بنت عبد الله بن عبيد الله بن مغمر التيمي، قال يعقوب بن شبة: أنفق ابن عائشة على أخواته أربع مائة ألف دينار في الله، وقيل: جاءه وكيله

يوماً يثمن له مائة دينار وثلاث مائة درهم، وهو في المسجد، فوافاه سائل، فأدخل يده في كم الوكيل، فأخرج منها شيئاً، فدفعه إليه، فلم يزل السؤال يوافونه، وهو يرفع إليهم، حتى أفنى الدنانير والدراهم، وقال عبد الله بن شبة: رأيت ابن عائشة، وقف على قبر ابن له قد دفن، فرفرف مرة ثم قال: إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكاء ... أجاب البكاء طوعاً ولم يجب الصبر فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر وكان يقول: أو روي عن أبيه أنه كان يقول: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك، وكذلك روي عنه أنه قال: لا يعرف كلمة بعد كلام الله، وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخصر لفظاً ولا أكمل وضعاً، ولا أعم نفعاً من قول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرىء ما يحسن، وقال ابن عائشة المذكور لرجل من العرب أعجبه: أنت والله كما قال الشاعر: لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا ... ونفعل مثل ما فعلوا وقال العايشي: أول الفراعنة سنان بن غلوان بن عبيد بن عوج بن عمليق، وهو الذي نزل به البلاء لما مد يده إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وآله وسلم، فوهب لها هاجر أم إسماعيل عليهما السلام. والفرعون الثاني فرعون يوسف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو خير الفراعنة، واسمه الريان بن الوليد، ويرجع في نسبه إلى عمرو بن عمليق، ويقال أنه أسلم على يده صلى الله عليه وآله وسلم. والفرعون الثالث فرعون موسى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أخبث الفراعنة، واسمه الوليد بن مصعب بن معاوية، يرجع إلى عمرو بن عمليق. والفرعون الرابع نويفل الذي قتله بخت نصر حين غزا. والفرعون الخامس كان طوله ألفي ذراع، وكانت قصيراه جسراً لنيل مصر دهراً طويلاً. وقال ابن عائشة: دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع، فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس، فقال: يا أبا فراس، والله لو أن نسوة يوسف رأينك لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن، فقال: وأنت والله لو أن نسوة مدين رأينك: لما قلن: استأجره، إن خير من استأجرت القوي

الأمين، وأنشد ابن أبي عائشة للزبير بن بكار: ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لغزة قدر أو علو مكان لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان قلت: وهذا القول غير لائق بجلال الله تعالى ولا جائز في صفاته، فإنه يفهم أن الله سبحانه غير مستغن عن شكر العباد، وهو باطل تعالى الله عن ذلك بل غني عن كل شيء، كما قال تعالى: " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " " عمران: 97، " ولما قد علم عند العقلاء العالمين أنه متصف تعالى بالكمال المطلق، دلت على ذلك قواطع البراهين. وفي السنة المذكورة توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي المعروف بالعتبي الأخباري الفصيح الأديب. قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عبد الملك بن مروان، وعتبة بن أبي سفيان. قال العتبي محمد بن عبد الله المذكور: حججت فمررت بنسوة وإذا فيهن جارية تشتهي، ما رأيت أجمل منها، فقلت لها: ممن الجارية؟. فقالت: أما الأعمام فسليم، وأما الأخوال فعامر، فقلت: رأيت غزالاً من سليم وعامر ... فهل لي إلى ذاك الغزال سبيل فضحكت ثم قالت: وماذا يرجى من غزال رأيته ... وحطك من ذاك الغزال قليل ولو قالت: وليس إلى ذلك الغزال وصول، كان أبلغ في نفي مرامه، إلا أن تكون أرادت بالقلة المحادثة والنظر، فقولها في هذا الوجه معتبر. وقال بعض المؤرخين: كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً راوياً للأخبار وأيام العرب، روى عن ابن عيينة وغيره، وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النخغي، وله عدة تصانيف، وروى له ابن قتيبة في كتاب المعارف: رأين العوافي الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرفعن بالكوايا المحاجر فإن عطفت عني أعنة أعين ... نظرن بأحداق المهاوي الأجازر فإني من قوم كريم ثناؤهم ... لأقوامهم صيغت رؤوس المنابر خلايف في الإسلام، في الشرك سادة ... بهم وإليهم فخر كل مفاخر

تسع وعشرين ومائتين

وله أيضا: لما رأتني سليماً قاصر البصر ... عنها، وفي الطرف عن أمثالها زور قالت: عهدتك مجنوناً فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر وله أيضا يرثي بعض أولاده: أصبحت خدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم وفيها توفي مسدد بن مسرهد الحافظ أبو الحسن البصري. تسع وعشرين ومائتين فيها توفي الإمام أبو محمد خلف بن هشام شيخ القراء والمحدثين رحمهم الله. وفيها توفي نعيم بن حماد بن المرزوي القرطبي الحافظ رحمهم الله. وفيها توفي يزيد بن صالح الفراء النيسابوري العبد الصالح، وكان ورعاً قانتاً مجتهداً في العبادة رحمة الله عليه. ثلاثين ومائتين فيها توفي إبراهيم بن حمزة الزبيري المدني الحافظ " وأمير المشرق " عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي. وكان شجاعاً مهيباً عاقلاً جواداً كريماً، يقال أنه دفع على قصص صلات بلغت أربعة آلاف ألف درهم، وخلف من الدراهم خصوصاً أربعين ألف درهم، وكان قد تاب قبل موته، وكسر آلات الملاهي، وبعثه المأمون إلى خراسان، فلما دخلها مطرت مطراً كثيراً، وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة، فقام إليه رجل بزاز من حانوته وأنشد: قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالدرر غيثان في ساعة لنا قدماً ... فمرحباً بالأمير والمطر فاستفك أسارى بألفي درهم، وتصدق بأموال كثيرة، وكان أبو تمام الطائي قد قصده من العراق، فلما انتهى إلى قومس، وطالت به الشقة، وعظمت عليه المشقة قال:

تقول في قومس صحبي وقد أخذت ... مني السرى وخطا المهرية القود أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بنا ... فقلت: كلآ ولكن مطلع الجود وقيل: هذان البيتان أخذهما أبو تمام من أبي الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول: يقول صحبي وقد جدوا على عجل ... والخيل يفتن بالركبان في اللحم أمغرب الشمس تنوي أن توم بنا ... فقلت: كلا ولكن مطلع الكرم فإنه أغار على اللفظ والمعنى جميعاً، ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته الثانية البديعة التي يقول فيها: وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها، والليل تستر غياهبه وفي هذه السفرة ألف أبو تمام " كتاب الحماسة " وكان سبب ذلك أنه لما وصل إلى همدان أشتد البرد، فأقام ينتظر زواله، وكان نزوله عند بعض الرؤساء بها، وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها أبو تمام، وطالعها واختار منها ما ضمنه كتاب الحماسة، وكان ابن طاهر المذكور مع أوصافه المتقدمة أديباً ظريفاً، وله شعر مليح ورسائل ظريفة، ومما قال فيه بعض الشعراء: يقول الورى لي أن مصر بعيده ... وما بعدت مصر، وفيها ابن طاهر وأبعد من مصر رجال تراهم ... بحضرتنا، معروفهم غير حاضر عن الخير موتى، ما تبالي أزرتهم ... على طمع أزرت أهل المقابر قلت: والمصراع الأول من البيت الأول غيرته بعض الفضلاء لخلل الوزن في الأصل المنقول منه. وذكر بعض المؤرخين أن البطيخ المسقى بعبد اللاوي الموجود في الديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور، قيل ليلة كان يستطيبه، أو أنه أول من زرعه هناك، وقيل أنه وقومه خزاعيون بالولاء، فإن جدهم رزيق مولى أبي محمد طلحة بن عبد الله المعروف بطلحة الطلحات الخزاعي المتولي على سجستان من قبل سالم بن زياد بن أبيه، وفيه يقول ابن الرقتات: رحم الله أعظماً دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات

إحدى وثلاثين ومائتين

وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحبر الحافظ أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات والتواريخ. وفيها توفي الحافظ محدث بغداد أبو الحسن علي بن الجعد الهاشمي مولاهم، روى عن شعبة وابن أبي ذيب والكبار، وقيل: مكث سنين يصوم يوماً ويفطر يوماً. إحدى وثلاثين ومائتين فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في امتحان الناس. وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد، من أولاده أمراء الدولة، نشأ في علم وصلاح، وكتب عن مالك وجماعة، وحمل عن هشيم مصنفاته، قتله الواثق بيده لإمتناعه عن القول بخلق القرآن لكونه أغلظ للواثق في الخطاب، وقال له: يا صبي، وكان رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام معه خلق من المطوعة، واستفحل أمره، فخافت الدولة من فتن تحصل بذلك. وروي أنه صلبه، فاسود وجهه، فتغيرت قلوب من راه بهذا الوصف، ثم ابيض وجهه بعد ذلك، فراه بعضهم في النوم، فسأله عن ذلك فقال: لما صلبت رأيت النبي صلى الله عليه، وآله وسلم قد أعرض عني بوجهه، فاسود وجهي من ذلك، فسألته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، أي سبب إعراضه عني فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أعرضت حياء منك إذا كان قتلك على يد واحد من أهل بيتي، فعندها زال ذلك السواد الذي رأيتم عني، وهذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم. وفيها توفي الإمام العلامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي، مات في السجن والقيد ببغداد، ممتحناً بخلق القرآن، وكان عابداً دائم الذكر كبير القدر. قال الشافعي: ليس في أصحابي أعلم من البويطي، حمل من مصر في أيام الواثق فني زمن الفتنة، فامتنع من القول بخلق القرآن، فحبس حتى مات، وكان صالحاً متنسكاً، رحمة الله عليه. قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغلة، وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوية وزنها أربعون رطلاً. وقال الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء: وكان أبو يعقوب البويطى إذا سمع

المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة، اغتسل ولبس ثيابه، ومشي حتى يبلغ باب السجن، فيقول السجان: أين تريد؟. فيقول: أجيب داعي الله، فيقول: ارجع عفاك الله فيقول: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني. وقال الربيع: كان الرجل ربما يسأل الشافعي عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه أخبره، فيقول: هو كما قال: وقال الخطيب البغدادي: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلس من يوسف بن يحيى، وقال الربيع: كنت عند الشافعي أنا والمزني وأبو يعقوب البويطي قال للبويطي: أنت تموت في الحديث، وقال لي: موتك في الحديث، وقال للمزني: هذا النواظر، الشياطين تطيعه. وفيها توفي أبو تمام الطائي: حبيب بن أوس الحوراني، متقدم شعراء عصره في ديباجة لفظه وصناعة شعره وحسن أسلوبه، وله: كتاب الحماسة الدال على غزارة فضله واتقان معرفته وحسن اختياره، وله مجموع آخر سماه " فحول الشعراء " جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين و " كتاب اختيارات من شعر الشعراء "، كان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره قبل، كان يحفظ أربعة آلاف ديوان الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع، ومدح الخلفاء، وأخذ جوائزهم، وجاب البلاد، وقصد البصرة، وبها عبد الصمد بن المعدل الشاعر، فلما سمع بوصوله وكان في جماعة من غلمانه وأتباعه خاف من قدومه أن يميل الناس إليه، ويعرضوا عنه، فكتب إليه قبل دخوله البلد: أنت بين اثنين تبرز للناس ... وكلتاهما بوجه مذال أيما يبقى لوجهك هذا ... بين ذل الهوى وذل السؤال فلما وقف على هذا النظم أضرب عن مقصده ورجع، وقال: قد شغل هذا ما يليه، فلا حاجة لنا فيه، ولما قال ابن المعدل هذا النظم، كتبه ودفعه إلى وراق، وكان هو وأبو تمام يجلسان إليه، ولا يعرف أحدهما الآخر، وأمره أن يدفعه إلى أبي تمام، فلما قرأ الورقة أبو تمام قال:

أتى ينظم قول الزور والفند ... وأنت أنقص من لا شيء في العدد أسرجت قلبك من غيظ على خنق ... كأنها حركات الروح في الجسد أقدمت ويلك من هجوي على خطر ... كالعير يقدم من خوف على الأسد وحضر عبد الصمد، فلما قرأ البيت الأول قال: ما أحسن، علم بالجدل أوجب زيادة ونقصاناً على معدوم، ولما نظر إلى البيت الثاني قال: الإسراج من عمل الفراشين، ولا مدخل له ها هنا، ولما قرأ البيت الثالث عض " على شفته وقال: فيك قلت، يعني بقوله فيك: إشارة إلى قوله: " كالعير تقدم من خوف على الأسد "، لأنهم قد ذكروا في باب انقياد بعض المكولات لبعض الأكلات أن الحمار يرمي بنفسه على الأسد إذا شم ريحه. وقال بعض العلماء: خرج من قبيلة طيىء ثلاثة، كل مجيد في بابه: حاتم الطائي في جوده، وداود بن نصير الطائي في زهده، وأبو تمام حبيب بن أوس في شعره، وقد اشتهر أنه لما قال في مدح بعض الخلفاء: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في علم أحنف في ذكاء إياس قال له الوزير: أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وأنشد: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً سروداً في الندى والناس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس الفتيلة: للمصباح والمعنى: يعني قوله: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " " النور: 35، "، الآية والنبراس: الفتيلة للمصباح، والمعنى أنه لما أنكر عليه في تشبيه الخليفة بعمرو بن معد يكرب وبحاتم، استشعر منهم اللوم في ذلك وعدم الجائزة وانحطاطها، فافتتح التفكر ملتمساً عذراً في كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم، فلم يجد ما يشفي، ولا ما يكفي، فضرب عنان فكرته إلى كتاب الله تعالى وجواهر آية من فاتحته، إلى أن وجد ما دفع عنه المحذور في سورة النور، وظفر من الدليل بما يشفي الغليل، فأعجب من حضره بانفاذ قريحته، وسرعة. قدح زناد فكرته، فقال الوزير للخليفة، أي شيء طلبه أعطيه إياه، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكرة، وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر، فقال الخليفة: ما تشتهي، قال: الموصل، فأعطاه إياها، فتوجه إليها، وبقي هذه المدة المذكورة ومات، هكذا قيل: وقال بعض أصحاب التواريخ: هذه القصة لا صحة لها أصلاً، فقد ذكر أبو بكر

الصولي في " كتاب أخبار أبي تمام " أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم، وانتهى إلى قوله، إقدام عمر والبيت المذكور، قال أبو يوسف يعقوب بن صباح الكندي الفيلسوف وكان حاضراً لأمر فوق من وصفت. فأطرق قليلاً ثم زاد البيتين المذكورين. ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين، فعجبوا من سرعة فطنته، قال أبو يوسف وكان فيلسوف العرب: هذا الفتى يموت قريباً، ثم قال بعد ذلك: وقد روي على خلاف ما ذكرته، وليس بشيء والصحح هو هذا، قال: وقد تبعتها، وحققت صورة ولاية الموصل، فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب، ولآه يعني الموصل، فأقام أقل من سنتين ثم مات بها. وذكر الصولحي: قال له ابن الزيات: يا أبا تمام، إنك لتجلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناتها على الجوهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافآت، إلا ويقصر عن شعرك في المواساة، وكان بحضرته فيلسوف فقال له: إن هذا الفتى يموت شاباً، فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك. فقال: رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر، ما علمت أن النفس والروحانية تأكل جسمه، كما يأكل السيف المهند غمده قالوا: وكذا كان. لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة. وقال بعضهم: هذا يخالف ما سيأتي في تاريخ مولده ووفاته، وذلك أن ولادته كانت في تسعين ومائة، وقيل ثمان وثمانين ومائة، وقيل اثنتين وسبعين ومائة، وقيل اثنتين وتسعين ومائة، في قرية من بلد الجيد، بين دمشق وطبرية ونشأ بمصر، وتوفي بالموصل في سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقيل تسع وعشرين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين ومائتين. قلت: وهذا الإعتراض ليس بصحيح، فإنه يصدق كونه نيف على ثلاثين على بعض هذه الروايات، فإنه على رواية ولادته في سنة اثنتين وتسعين، وموته في سنة ثمان وعشرين يكون عمره ستاً وثلاثين سنة. قال ابن خلكان: رأيت قبره في الموصل، وإليه الإشارة بقول ابن عنين: سقى الله روح الغوطتين، ولا أرى ... من الموصلي الفيحاء إلا قبورها قال البحتري: وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة، وممن رثاه الحسن بن وهب بقوله:

فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغريد روضها حبيب الطائي ماتا معاً فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأخباء ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم بقوله: نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء قالوا: حبيب قد توى، فأجبتهم ... ناشدتكم، لا تجعلوه الطائي وفيها توفي إمام اللغة محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي من موالي بني العباس، وقيل: من موالي بني شيبان، والأول أصح، وكان راوية الأشعار واللغة، أخذ الأدب عن أبي معاوية الضرير والمفضل الضبي والكسائي وأخذ عنه من الأئمة: إبراهيم الحربي وثعلب وابن السكيت. وغيرهم، وناقش العلماء، واستدرك عليهم، وخطأ كثيراً من نقلة اللغة، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئاً، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين. قال ثعلب: كان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، وكان يسأل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، ولزمته بضع عشرة سنة، ما رأيت بيده كتاباً قط، ولقد أملى على الناس ما يحمل على أحمال، ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه، وله من التصانيف بضع عشر مصنفاً، منها كتاب النوادر، وكتاب الخيل، وكتاب تفسير الأمثال، وكتاب معاني الشعر. ورأى يوماً في مجلسه رجلين يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟. فقال: من اسبيجاب " بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف جيم وبعدها موحدة "، مدينة في أقصى بلاد الشرق، وسأل الآخر فقال: من الأندلس وهي معروفة في أقصى بلاد المغرب، فتعجب من ذلك وأنشأ: رفيقان شتى، ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات وهي: نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... من أية أرضي أمنا الرجلان؟ فقلت لها: أما رفيقي فقوم ... تميم، وأما أسرتي فيمان رفيقان شتى ألف بيننا ... وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان

اثنتين وثلاثين ومائتين

اثنتين وثلاثين ومائتين فيها توفي الواثق بالله أبو جعفر، وقيل أبو القاسم هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي العباسي، وكان أديباً شاعراً أبيض تعلوه صفرة، حسن اللحية، دخل في القول بخلق القرآن، وامتحن الناس وقوى عزمه القاضي أحمد بن أبي داود ولما احتضر ألصق وجهه بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، أرحم من قد زال ملكه. واستخلف بعده أخوه المتوكل، وأظهر السنة، ودفع المحنة، وأمر بنشر أحاديث الروية والصفات. وفيها وقيل: في سنة ستين توفي الشريف العسكري الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية وهو والد المنتظر صاحب السرداب. وفيها توفي عبد الله بن عوف الخزاز الزاهد البغدادي المحدث، وكان يقال: إنه من الأبدال. وتوفي الإمام أبو يحيى هارون بن عبد الله الزهري العوفي المالكي، وقال أبو إسحاق الشيرازي: هو أعلم من صنف الكتب في مختلف قول مالك. ثلاث وثلاثين ومائتين فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق، ودامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران، وهرب الخلق، إلى المصلى يجأرون إلى الله، ومات كثير من الناس تحت الردم، وامتدت إلى أنطاكية، وذكروا أنه هلك من أهلها عشرون ألفاً، ثم امتدت إلى الموصل، وزعم بعضهم أنه هلك بها تحت الردم خمسون ألفاً. وفيها توفي سهل بن عثمان العسكري الحافظ أحد الأئمة " والإمام " أبو زكريا يحيى بن معين الحافظ أحد الأعلام، توفي بمدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهاً إلى الحج، وغسل على الأعواد التي غسل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سئل: كم كتبت من الحديث؟. فقال: كتبت بيدي هذه ست مائة ألف حديث، روى عنه كبار أئمة الحديث، منهم البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وكان بينه وبين الإمام أحمد صحبة

وإلفة، واشتراك في الإشتغال بعلوم الحديث، وكان ينشد: المال يذهب حله وحرامه ... طراً ويبقى في غد آثامه ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي ويكتب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي كتابه عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي، وقد سبق في ترجمة الشافعي، ما جرى منه في حقه بينه وبين الإمام أحمد في مشية تحت ركاب بغلة الشافعي، وقول الإمام أحمد له: لو لزمت البغلة لانتفعت، وقيل: إنه لما خرج من المدينة سمع في النوم هاتفاً يقول: يا أبا زكريا أترغب عن جواري؟. فرجع وأقام بها ثلاثة، ثم توفي رحمة الله عليه. وفي السنة المذكورة، وقيل في سنة سبع وأربعين، وهو اختيار الذهبي، توفي الإمام النحوي أبو عثمان بكر بن محمد المازني البصري، وكان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ الأدب من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد، وانتفع به، وله تصانيف في فنون من العربية. قال أبو جعفر الطحاوي: سمعت القاضي بكار بن قتيبة قاضي مصر يقول: ما رأيت نحوياً يشبه الفقهاء إلا حيان بن هرمة المازني، وكان في غاية الورع بما روى عنه المبرد: أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة حاجتك. فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاث مائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذمياً، غيرة على كتاب الله عز وجل وحمية له. قال فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي " بفتح العين المهملة وسكون الراء وقيل ياء النسبة جيم ". أظلوم أن مصابكم رجلاً ... رد السلام تحية ظليم فاختلف من في الحضرة في إعراب " رجل "، فمنهم من نصبه وجعله اسم إن، ومنهم رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن. أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟. ولم يذكر في الأصل مازن اليمن وهو مازن ابن الأزد بن الغوث، ونسبه معروف، إلى قحطان قال: قلت من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قوم، فقال: ما إسمك؟ لأنهم كانوا يقلبون الميم باء،

والعكس قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر، يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر، " أظلوم إن مصابكم رجلاً " أترفع رجلاً أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك؟ فقلت: لأن مصابكم مصدر بمعنى أصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك إن ضربك زيداً الظلم، فالرجل مفعول مصابكم، وهو منصوب به، والدليل على أنه معلق إلى أن يقول: ظلم، فيتم، قال: فاستحسنه الواثق، وقال: هل لك من ولد؟ فقلت بنية لا غير، قال: ما قالت لك حين ودعتها؟ قلت: أنشدت قول الأعشى: أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير؟ إذا لم ترم أدانا إذا أضمرتك البلاد ... يخفى ويقطع منا الرحم قال: فما قلت لها. قال: قلت قول جرير: ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى وأمر لي بألف دينار، وردني مكرماً، ويروي أول البيت الأول، شعر: " أبانا فلا رمت من عندنا "، ويروي أيضاً " أبانا إلا لا ترم عندنا "، يقال: رام يريم ريماً أي برح يبرح، وقولها: فلا رمت أي: فلا برحت، وعلى رواية لا ترم بكسر الراء: لا تبرح، هذا من رام يريم ريماً، وأما رام يروم روماً. فإن معناه طلب يطلب طلباً، قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رددنا لله مائة فعوضنا ألفاً. قلت: هذا مختصر القصة وفيها كلام طويل، أنشد في آخره: إن المعلم لا يزال مضعفاً ... ولرأيتني فوق السماء بناء من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى الخلفاء والأمراء فقال لي: لله درك، كف لي بك؟. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الغنم والفوز في قربك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالإنفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضربهم ذلك، ومطالبة العادة أشد منه مطالبة الطبع، فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب وقال: لا تقطعنا. وفي السنة المذكورة مات وزير المعتصم المعروف بابن الزيات أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان، كان جده أبان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فدعي بابن

الزيات، وكان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة، وكان أبو عثمان المازني، إذا اختلف أصحابه في مسألة يأمرهم أن يسألوه، ويعرفوا جوابه، فيجيب: إن الصواب الذي يرضاه أبو عثمان. وقد ذكر فضله غير واحد من المؤرخين، وأوردوا له من شعره عدة مقاطيع، وكان في أول أمره من جملة الكتاب، فسأل المعتصم وزيره أحمد بن عمار البصري يوماً عن الكلأ، ما هو؟ قال: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فقال المعتصم: خليفة أمي ووزير كلامي، وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم قال: أبصروا من بالباب من الكتاب، فوجدوا ابن الزيات المذكور فأدخلوا إليه فقال: ما الكلأ. فقال: الكلأ العشب على الإطلاق، فإن كان رطباً فهو الخلا، وإن كان يابساً فهو الحشيش. وشرع في تقسيم أنواع النبات، فعلم المعتصم فضله فاستوزره وحكمه وبسط يده، وجرت بينه وبين القاضي أحمد بن أبي داود أشياء مذكورة في ترجمة ابن أبي داود المذكور. وحكي أن أبا حفص الكرماني كاتب عمرو بن مسعدة، كتب إلى ابن الزيات: أما بعد: فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، وبناؤك في وذي قد شارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على البؤس، فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست. فبلغ ذلك أبا عبد الرحمن العطوي فقال: في هذا المعنى يمدح محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك. إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الجميل وعلموه أناساً كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساساً وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباساً فعلام تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفائك كأساً آنسني منفصلاً أفلا ترى ... أن القطيعة توحش الإيناسا؟ قلت: يعني بالبيت الذي قبل الأخير: فعلام تسقيني من جفائك كأساً وأنت تسقيني كأس المودة. ولإبن الزيات المذكور أشعار رائقة فمن ذلك قوله: سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح فإن الحب آخره المنايا ... وأوله يهيج بالمزاح وقالوا دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناح فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباح

أربع وثلاثين ومائتين

وله ديوان رسائل جيدة، ولأبي تمام وجماعة من الشعراء في عصره فيه مدائح، فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس الصولي: أخ كنت آوي منه عند ذكاره ... إلى ظل آياء من العز شامخ سمعت نوب الأيام بيني وبينه ... فاقلعي منه عن ظلوم وصارخ وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطرافه مساميره المحددة إلى داخل، يعذب به المصادرين وأرباب الدواوين المظلومين، فكلما تحرك واحد منهم من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجد لذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى مثل ذلك وكان إذا قال له أحد منهم: أيها الوزير، ارحمني، يقول: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور، وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال، يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال: الرحمة خور في الطبيعة كما كان هو يقول للناس فطلب دواة وبطاقة فأحضر إليه فكتب: هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم لا تجزعن، رويداً إنها دول ... دينا تنقل من قوم إلى قوم وسيرها إلى المتوكل واشتغل عنها، ولم يقف عليها إلا في الغد، فلما قرأها أمر بإخراجه، فجاؤوا إليه فوجدوه ميتاً، وكانت مدة إقامته في ذلك التنور أربعين يوماً. ولما جعل في التنور قال له خادمه: يا سدي، قد صرت إلى ما صرت إليه، وليس لك حامد فقال: وما نفع البرامكة صنيعهم؟ فقال له: ذكراهم هذه الساعة. قال: نعم. قلت: فهذا ما لخصته مختصراً من ترجمة ابن خلكان له، كما هو عادتي في تراجمة لغيره. أربع وثلاثين ومائتين فيها توفي الحافظ أبو خيثمة زهير بن حرب، والحافظ: أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني، والحافظ أبو الحسن علي بن بحر القطان ويحيى بن يحيى الليثي الإمام المالكي المعتمد عليه في رواية الموطأ من الإمام مالك، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس. وسبب ذلك ما روي أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل: جاء الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: لم لا تخرج فتراه، لإنه لا يكون بالأندلس. فقال: إنما جنت من بلدي لأنظر إليك، وأعلم من هديك وعلمك. فأعجب به مالك، فسماه عاقل الأندلس. ثم عاد إلى الأندلس وانتهت الرئاسة إليه فيها، وبه انتشر مذهب مالك.

خمس وثلاثين ومائتين

خمس وثلاثين ومائتين فيها ألزم المتوكل جميع النصارى لبس الحلي فيميزوا به. وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مالك التيمي الموصلي النديم. وكان رأساً في صناعة الطرب والموسيقى أديباً شاعراً أخبارياً عالماً ظريفاً نافق السوق عند الخلفاء إلى الغاية، وأول من سمعه المهدي، ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان، وكان من العلماء باللغة والأشعار وأخبار العرب والشعراء وأيام الناس. ذو فضائل جمة، وكان له يد طولى في الفقه والحديث وعلم الكلام. قال محمد بن عطية الشاعر: كنت في مجلس القاضي يحيى بن كثم، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخذ يناظر أهل الكلام حتى اتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحيى بن كثم فقال له: أعز الله القاضي، في شيء مما ناظرت فيه وحكيت نقص أو مطعن؟. قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه يعني الغناء! قال ابن عطية المذكور: فالتفت إلي القاضي يحيى وقال: الجواب في هذا عليك، وكان الراوي المذكور من أهل الجدل، فقال للقاضي يحيى: نعم أعز الله القاضي، الجواب علي. ثم أقبل على إسحاق وقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش؟. فقال: لا، فقال: أنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟. قال: لا، قال: فأنت في علم الكلام كأبي يزيد العلاف والنظام البلخي؟ قال: لا، قال: أنت في الفقه كالقاضي؟ وأشار إلى القاضي يحيى قال: لا، قال فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا، قال: فمن ها هنا مشيت إلى ما مشيت إليه، لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله فضحك وقام وانصرف، فقال القاضي لابن عطية: لقد وفيت الحجة حقها. وفيها ظلم قليل لإسحاق، وإنه ممن يقل في الزمان نظيره. وذكر أبو المجد الموصلي أن إسحاق بن إبراهيم المذكور كان مليح المحاورة والنادرة، ظريفاً فاضلاً، كتب الحديث عن سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، وهشيم بن بشير، وأبي معاوية الضرير، وأخذ الأدب عن الأصمعي وأبي عبيدة، وبرع في علم الغناء، فغلب عليه ونسب إليه، وكان الخلفاء يكرمونه ويقربونه، وكان المأمون يقول: لولا سبق لإسحاق على ألسنة الناس. واشتهر بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر

ست وثلاثين ومائتين

ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة، لكنه اشتهر بالغناء، وغلب على جمع علوم مع صغرها عنده ولم يكن له فيه نظير. وله نظم جيد وديوان شعر، فمن شعره ما كتبه إلى هارون الرشيد. وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل أرى الناس خلال الجواد ولا أرى ... بخيلاً في العالمين خليل وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فكرمت نفسي أن يقال بخيل ومن خير حالات الفتى لو علمت ... إذا نال خيراً أن يكون سبيل عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... ومالي كما قد تعلمين قليل وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنا ... ورأي أمير المؤمنين جميل وكان كثير الكتب حتى قال أبو العباس ثعلب: رأيت الإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب، كلها سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحد قط كثر منها في منزل إسحاق منزل ابن الأعرابي. وكان المعتصم يقول: ما أغنى في إسحاق بن إبراهيم قط إلا خيل، إلا أنه قد زيد في ملكي، وأخباره كثيرة، وحكاياته شهيرة، وكان قد عمي آخر عمره. وفيها توفي الإمام أحد الأعلام أبو بكر بن أبي شيبة صاحب التصانيف الكبار. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه، وقال أبو عبيد: فانتهى علم الحديث إلى أربعة: أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أسردهم له، وابن معين، وهو أجمعهم له. وابن المديني وهو أعلمهم به وأحمد بن حنبل، وهو أفقههم فيه. وقال نفطويه: لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل، حذروا مجلسه بثلاثين ألفاً. وفيها: وقيل في سنة سبع وعشرين توفي أبو الهذيل شيخ المعتزلة البصريين المعروف بالعلاف مولى عبد القيس، صاحب مقالات في مذهبهم، ومجالس ومناظرات حسن الجدال، قوي الحجة، كثير الإستعمال للأدلة والإلزامات، توفي وله نحو مائة سنة. وفيها توفي سريج بن يونس البغدادي، العابد المشهور بالصلاح والأوصاف الملاح، أجد أئمة الحديث جد أبي العباس سريج. ست وثلاثين ومائتين فيها توفي الحافظ محدث المدينة إبراهيم بن المنذر، والحافظ النسابة الأخبار مصعب بن عبد الله بن مصعب الأسدي الزبيري. قال الزبير: كان عمي مصعب وجه

سبع وثلاثين ومائتين

قريش مروءة وعلماً وشرفاً وديناً وقدراً وجاهاً، وكان نسابة قريش. وفيها توفي وزير المأمون الحسن بن سهل، وقد تقدم دخول المأمون بابنته بوران، الكلفة التي احتملها والدها، وكان أخوه الفضل وزيراً قبله، وكان الحسن عالي الهمة كثير فعطاء للشعراء وغيرهم، قصده بعض الشعراء وأنشده: تقول خليلي لما رأيتني ... أشد مطيتي من حلل أبو الفضل أين ترتحل المطايا ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل قلت: لقد تناسب لفظ هذا البيت ومعناه، أعني، لفظ سهل، مع سهولة النظم سلاسته، وسهولة الخلق المذكور في نيل المقصود منه، مناسبة هذه السهولة لفظ اسمه، اجتمعت السهولة في ثلاث: في المدح واسم الممدوح وخلقه، فأعطى قائلها المذكور عطاء جزيلاً، وخرج يوماً مع المأمون يشيعه، فلما عزم على مفارقته قال له المأمون: يا أبا محمد ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، تحفظه علي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك. وقال بعضهم: حضرت مجلس الحسن بن سهل، وقد كتب لرجل شفاعة، فجعل رجل يشكر، فقال الحسن: يا هذا علام تشكرنا. إنا نريد الشفاعات زكوة مروءتنا، بلغني أن الرجل يسأل في القيامة عن فضل جاهه، كما يسأل عن فضل ماله، ولم يزل على وزارة مأمون إلى أن ثارت عليه المرأة السوداء، لكثرة خدمة أخيه الفضل لما قيل، كما تقدم في ترجمته سنة اثنتين ومائتين. وفي سنة ست وثلاثين أيضاً توفي هدبة " بالموحدة " ابن خالد العبسي البصري حافظ، قال عبدان: كنا لا نصلي خلف هدبة مما يطول، كان يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة. سبع وثلاثين ومائتين فيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد القاضي وأهله، وصادرهم وأخذ منهم ستة عشر ألف درهم. وفيها توفي الشيخ الجليل المكرم العارف بالله حاتم الأصم الناطق بالمعارف المواعظ والحكم، المكنى والملقب حين انفجرت فيه ينابيع الحكمة بأبي عبد الرحمن لقمان هذه الأمة. قلت: وقضته في الوعظ مع قاضي الري محمد بن مقاتل مشهورة،

واستحسان الإمام أحمد كلامه، ومدحه له. وإنما سمي الأصم، ولم يكن به صمم، لأن امرأة جاءت تكلمه في شيء، فسمع منها صوتاً، فخجلت، فقال: أسمعيني ما تقولين، فإني أصم، فذهب عنها ما بها نزل من شدة الخجل. وفيها توفي وثيمة " بفتح الواو وكسر المثلثة وسكون المثناة من تحت وفتح الميم في أخره هاء " ابن موسى الوشاء الفارسي. كان يتخير في الوشي، وصنف كتاباً في أخبار الرقة وذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسرايا التي سيرها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وصورة مقاتلتهم، وما جرى بينهم وبين المسلمين في ذلك، ومن عاد منهم إلى الإسلام، وقتال مانعي الزكاة، وما جرى لخالد بن الوليد المخزومي مع مالك بن نويرة اليربوعي أخي متمم بن نويرة الشاعر صاحب المراثي المشهورة في أخيه مالك، وصورة قتله، وما قاله متمم وغيره من الشعر في ذلك، وهو كتاب جيد يشتمل على فوائد كثيرة. وذكر الواقدي أنه صنف كتاباً في الردة أيضاً، أجاده في ذكر جماعة من أجلاء المؤرخين، وقالوا: كان يتخير في الوشي، وهو نوع من الثياب المعموله من الإبريسم، وبه عرف جماعة منها وثيمة المذكور، وإذا قد ذكرنا مالكاً وأخاه متمماً، فلنذكر نبذة مشتملة من خبرهما. كان مالك المذكور رجلاً ثرثاً نبيلاً يردف الملوك والإرداف إردافان فإن ردف يركب بعدهم على مركوبهم، وردف بخلفهم في الحكم إذا قاموا من مجالسهم. ومالك المذكور هو الذي يضرب به المثل، فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. كان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه، وكان فيه خيلاء وتقدم ذاملة كبيرة، وكان يقال له الحفول، قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من العرب، وأسلم فولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قومه. ولما ارتدت العرب بعد موته عليه السلام بمنع الزكاة، كان مالك المذكور في جملتهم، ولما خرج خالد بن الوليد لقتالهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، نزل على مالك وهو يقدم قومه بني يربوع وقد أخذ مركوبهم، وتصرف فيها، فكلمه خالد في فقال: أنا آتي الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت: الصلاة والزكاة معاً، لا يلب واحد دون أخرى؟. فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، قال خالد: وما تراه لا صاحباً، والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تحاولا في الكلام طويلاً، فقال له خالد إني قاتلك، قال أو بذلك أمرك صاحبك. قال: وهذه بعد تلك، والله لأقتلنك.

وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالداً بعثنا إلى أبي بكر، فيكون هو الذي يحكم فينا، فقد بعث إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا، فقال خالد: لا أقالني الله إن لم أقتلك. وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم، وقال لخالد: هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فمال مالك: أنا على الإسلام، فقال خالد: لا ضرار اضرب عنقه، فضرب عنقه، وجعل رأسه أثفية لقدر، وكان من أكثر الناس شعراً، وكان القدر على رأسه تطبخ الطعام، وما خلصت النار إلى سواه من كثرة شعره. هكذا قيل، وقبض خالد إمرأته، وقيل إنه اشتراها من الفيء وتزوجها، وقيل: إنها اعتدت بثلاث حيضات، ثم خطبها إلى نفسها فأجابته. وقال لإبن عمر وأبي قتادة: تحضران النكاح، فأبيا وقال له ابن عمر: تكتب إلى أبي بكر، وتذكر له أمرها، فأبى وتزوجها، فقال في ذلك أبو زهير السعدي أبياتاً، نسب فيها خالداً إلى البغي. قلت: ومنصب الصحابة منزه عن ذلك، يلتمس لهم أحسن المخارج كما ذكر العلماء في قتال بعضهم بعضاً، وكما سيأتي من إعتذار أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخالد في القضية، على ما ذكر بعض المؤرخين. ومن أبيات أبي زهير المذكور: ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك ... تطاول هذا الليل من بعد مالك قضى خالد بغياً عليه لفرسه ... وكان له فيما هو قبل ذلك فأمضى خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك وأصبح ذا أهل وأصبح مالك ... إلى غير شيء هالك في الهوالك فمن لليتامى والأرامل بعده ... ومن للرجال المعدمين الصعالك أصيبت تميم عنها وسميتها ... بفارسها المرجو سحت الحوارك قلت: قوله: " وكان له في ما هو قبل ذلك ": هكذا هو في الأصل المنقول فيه، والصواب فيك، التفاتا إلى المرأة، لمصبح كسر الكاف من ذلك. والحوارك تطلق على كواهل الخيل. قالوا: ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر، قال عمر: إن خالداً قد زنى فارجمته قال: ما كنت لأرجمه، فإنه تأول فأخطأ، قال: فإنه قتل مسلماً فاقتله، قال: ما كنت لأقتله به، إنه فأخطأ، قال: فاعز له، قال: ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً. يعني ما كنت

ثمان وثلاثين ومائتين

لأغمده. هكذا ذكر هذه الواقعه الواقدي، والله أعلم، وممن رثاه به أخوه متمم قوله: لقد لامني عند القبور على البكاء ... فبقي لتذراق الدموع السوافك فقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك فقلت له: إن الشجي يبعث الشجى ... فدعني، فهذا كله قبر مالك قلت: وقد تقدمت الإشارة إلى أن هذه الأبيات يستشهد بها المجنون وأرباب الشجون على أن الشجى يبعث الشجي، وكان قبر كل هالك قبر مالك، وكأن سائر الأشجان، على بابه شجون كل إنسان. ثمان وثلاثين ومائتين فيها: أقبلت الروم في البحر في ثلاث مائة مركب واهبة عظيمة، فكبسوا دمياط وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكرة في البحر، فأسروا ست مائة امرأة. وفيها توفي الإمام عالم المشرق المحدث إسحاق بن راهويه الحنظلي المروزي النيسابوري الحافظ. روي أنه كان يحفظ سبعين ألف حديث، ويذاكر بمائة ألف ألف حديث، وقال: ما سمعت شيئاً قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً فنسيته، وجمع بين الحديث والفقه والورع. وذكره الدارقطني فيمن روى عن الشافعي، وعده البيقهي في أصحاب الشافعي، وقد ناظر الشافعي في جواز بيع دور مكة، وقد استوفى، فخر الدين الرازي صورة ذلك المجلس في كتابه " مناقب الشافعي "، فلما عرف إسحاق فضله نسخ كتبه وجميع مصنفاته بمصر. وقال الإمام أحمد: إسحاق عندنا من أئمه المسلمين، وكان قد رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع من سفيان بن عيينة وطبقته، ومنه سمع البخاري ومسلم والترمذي، وعمر قريباً من ثمانين سنة، ولقب أبوه براهويه، لأنه ولد في طريق مكة، والطريق بالفارسية " راه ويه " معناه: وجده، فكأنه وجده في الطريق. وفيها توقي أبو علي النيسابوري الحافظ، رحل وأكثر عن أبي بكر بن عياش وابن عيينة وطبقتهما، وعرض عليه قضاء نيسابور، فاختفى، ودعا الله فمات في اليوم الثالث رحمة الله عليه. وفيها توفي عبد الملك بن حبيب، مفتي الأندلس، مصنف " الواضحة ". وفيها توفني عبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس، وقد نيف على الستين وكانت أسامه إثنتين وثلاثين سنة وكان محمود السيرة عادلاً جواداً مفضلاً، له نظر

تسع وثلاثين ومائتين

في العقليات، ويهتم بالجهاد، ويقيم للناس الصلاة. وفيها توفي أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي الكوفي المقرىء الحافظ، نزيل مصر، وقيل في السنة التي قبلها. تسع وثلاثين ومائتين فيها غزا المسلمون حتى شارفوا القسطنطينية، فأغاروا وأحرقوا ألف قرية، وقتلوا وسبوا. وفيها عزل يحيى بن أكثم من القضاء، وصودر،، وأخذ منه ألف دينار، وفيها توفي الحافظ عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي، وكان أسن من أخيه أبي بكر، رحل وطوف، وصنف التفسير والمسند، وحضر مجلسه ثلاثون ألفاً. أربعين ومائتين فيها توفي قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد " بضم الدال المهملة مكررة في أوله وآخره، والهمزة والمد، بينهما على وزن فواد "، الإيادي عن ثمانين سنة، وكان فصيحاً مفوهاً جواداً ممدحاً، وكان من أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي، وهو الذي شغب على، الإمام أحمد بن حنبل، وأفتى بقتله. وكان قد مرض بالفالج قبل موته نحو أربع سنين، ونكب وصودر. وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكان لا يبدؤهم أحد حتى يبدؤوه. وقال أبو العيناء: كان ابن أبي دؤاد فصيحاً شاعراً مجيداً بليغاً، وما رأيت رئيساً قط أفصح ولا أنطق منه، وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء، وروى له أبياتاً حساناً. وكان يقول: ثلاث ينبغي أن يبخلوا أقدارهم: العلماء وولاة العدل والإخوان. فمن استخفت بالعلماء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته. وقال إبراهيم بن الحسن: كنا عند المأمون، فذكروا من بايع من الأنصار ليلة العقبة، واختلفوا في ذلك، ثم دخل. ابن أبي دؤاد فعدهم واحداً واحداً بأسمائهم، وكناهم وأنسابهم، فقال المأمون: إذا استجلس الناس فاضلاً، فمثل أحمد، فقال أحمد: بل إذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين الذي يفهم، وكان أعلم بما يقوله منه، ومن كلام أحمد:. ليس بكامل من لم يحمل وليه على منبر ولو أنه حارس، وعدوه على جذع ولو أنه وزير.

وقال أبو العيناء: حسد أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، واحتيل عليه حتى شهد عليه بخيانة. وقيل عند أفشين، فأخذه ببعض أسبابه، وجلس له، وأحضر السياف ليقتله. فبلغ ابن أبي دؤاد الخبر، فركب في وقته مع من حضر من عدوله، ودخل على الأفشين، وقد جيء بأبي دلف ليقتل، ثم قال إني رسول أمير المؤمنين إليك، وقد أمرك أن لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً حتى تسلمه إلي، ثم التفت إلى العدول، وقال: اشهدوا أني قد أديت الرسالة إليه، والقاسم حي معافى، فقالوا: شهدنا، وخرج فلم يقدر الأفشين على أن يحدث فيه مكروهاً، وسار ابن أبي دؤاد إلى المعتصم من وقته وقال: يا أمير المؤمنين، قد أديت عنك رسالة لم تقلها إني ما أعتد بعمل خير خيراً منها، وإني لأرجو لك الجنة بها. ثم أخبره الخبر فصوب رأيه، ووجه من أحضر القاسم، فأطلقه ووهب له، وعنف الأفشين فيما عزم عليه. وكان المعتصم قد اشتد غيظه على محمد بن الجهم البرمكي، فأمر بضرب عنقه، فلما رأى ابن دؤاد ذلك وأن لا حيلة فيه، وقد شد برأسه وأقيم في النطع، وقد هزله السيف قال: ابن أبي دؤاد للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته؟ قال: ومن يحول بيني وبينه؟ قال يأبى الله ذلك، ويأباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث، إذا قتلته، حتى تقيم البينة على ما فعله. وأمره بإستخراج ما أختانه أقرب عليك وهو حي، فقال: أجلسوه حتى نناظر، فتأخر أمره على ماله جملة وخلص بحمد الله تعالى. وذكر الجاحظ أن المعتصم غضب على رجل من أهل الجزيرة، وأحضر السيف والنطع فقال له المعتصم: فعلت وصنعت وأمر بضرب عنقه، فقال له ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، سبق السيف العدل، فتأن في أمره، فإنه مظلوم، فسكن قليلاً، قال ابن أبي دؤاد: وأرهقني البول فلم أقدر على حبسه، وعلمت أني إن قمت قتل الرجل، فجعلت ثيابي تحتي، وبلت فيها حتى خلصت الرجل، فلما قمت نظر المعتصم إلى ثيابي رطبة فقال: يا أبا عبد الله، كأن تحتك ماء؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه كان كذا وكذا، فضحك ودعا لي وقال: أحسنت، بارك الله عليك. قال الراوي: وخلع عليه، وأمر له بمائة ألف درهم. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: ابن أبي دؤاد روح كله من قرنه إلى قدمه، وقال بعضهم: ما رأيت قط أطوع لأحد من المعتصم لإبن أبي دؤاد، وكان يسأل الشيء فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبي دؤاد، فيكلمه في أهله، وفي أهل الثغور وفي الحرمين وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب، فيجيبه إلى كل ما يريد، ولقد كلمه يوماً في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصي خرسان فقال له: ونا علي من هذا النهر؟ فقال: يا أمير

المؤمنين، إن الله تعالى يسألك عن النظر في أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أدناها، ولم يزل يرفق به حتى أطلقها. وقال الحسين بن الضحاك الشاعر المشهور لبعض المتكلمين: ابن أبي دؤاد عندنا لا يعرف اللغة، وعندكم لا يحسن الكلام، وعند الفقهاء لا يدري الفقه، وهو عند المعتصم يعرف هذا كله. وكان إبتداء أمر ابن أبي دؤاد بالمأمون أنه قال: كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء، وكنت عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون وقال له: يقول لك أمير المؤمنين، إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك. فلم يحب أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، فتكلمت بحضرة المأمون، فأقبل المأمون ينظر إلي إذا شرعت الكلام، ويتفهم ما أقول، ويستحسنه، ثم قال لي: من تكون؟ فانتسبت له، فقال: ما أخرك عنا؟ فكرهت أن أحيل على يحيى، فقلت: حبس القدر وبلوغ الكتاب أجله. فقال: لا أعلمن يكون لنا مجلس إلا حضرته، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم اتصل الأمر. وقيل: قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون في آخر سنة ومائتين وهو حدث، سنة نيف وعشرون سنة، فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات منهم: ابن أبي دؤاد، فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى بن أكثم: اختر لي من أصحابك جماعة ليجالسونني، فاختار منهم عشرين، معهم ابن أبي داود. ثم قال اختر منهم خمسة فيهم ابن أبي دؤاد، واتصل أمره وأسند المأمون وصيته الموت إلى أخيه المعتصم، وقال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد لا يفارقك، في المشورة في كل أمر، فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن بعدي وزيراً. ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد، كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه، وامتحن ابن أبي دؤاد الإمام وألزمه، وأطلق القول بخلق القرآن الكريم، وذلك في شهر رمضان من سنة عشرين ومائتين. قلت: في الأصل المنقول منه " ألزم الإمام وأطلق " وكأنه يعني الإمام أحمد ومعلوم أن الإمام أحمد لم يلتزم ذلك، ولا وافق عليه مع ما ناله من المكروه والضرر كما سيأتي في ترجمته. ولما مات المعتصم وتولى بعده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دؤاد عنده، ولما مات وتولي أخوه المتوكل فلج ابن أبي دؤاد يعني، أصابه المرض المعروف بالفالج،، وذهب شقه الأيمن، فقلد المتوكل ولده محمد بن أحمد القضاء مكانه، ثم عزل محمد بن أحمد عن المظالم، وقلد يحيى بن أكثم، وكان الواثق قد أمر أن لا يرى أحد من الناس الوزير محمد بن عبد الملك الزيات إلا قام له، وكان ابن أبي دؤاد إذا رآه قام واستقبل القبلة

يصلي فقال ابن الزيات. صلى الضحى لما استقاد عداوتي ... ولذا ينسك بعدها ويصوم لا تعد من عداوة مسمومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم ومدح ابن أبي دؤاد جماعة من شعراء عصره قال الراوي: رأيت أبا تمام الطائي عند ابن أبي دؤاد، ومعه رجل ينشد عنده قصيدة منها: لقد أنست مساوىء كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي ودخل أبو تمام عليه يوماً، وقد طالت الأيام في الوقوف ببابه، ولا يصل إليه، فعتب عليه مع بعض أصحابه فقال له ابن أبي دؤاد: أحسبك عاتباً يا أبا تمام، فقال، إنما يعتب على واحد، وأنت الناس، فكيف يعتب عليك؟ فقال له: من أين لك هذا يا أبا تمام. فقال: من قول الحاذق، يعني أبا نؤاس للفضل بن الربيع. وليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ولما ولي ابن أبي دؤاد المظالم قال أبو تمام يتظلم إليه قصيدة من جملتها: إذا أنت ضيعت القريض وأهله ... فلا عجب أن ضيعته الأعاجم فقد هز عطفيه القريض ترفعاً ... بعدلك مذ صارت إليك المظالم ولولا خلا فيها الشعر ما درى ... نعاه العلى من أين تؤتى المكارم ومدحه أبو تمام أيضاً بقصيدة، ما ألطف وأبدع وأبلغ وأبرع قوله فيها: وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار في ما جاورت ... ما كان يعرف طيب نشر العود قلت: ومما يناسب هذا المعنى ما حصل لعائشة رضي الله تعالى عنها من الشرف الأسنى والمجد المقيم، بما أنزل الله تعالى في براءتها من القرآن الكريم، لما تكلم فيها ما بين حاسد أثيم ومخطىء للصواب عديم، ومتوعد بعذاب عظيم، ومدحه بعض الشعراء بأبيات من جملتها: لقد حازت نزار كل مجد ... ومكرمة على رغم الأعادي فقل للفاخرين على نزار ... ومنهم خندف وبنو إياد رسول الله والخلفاء منا ... ومنا أحمد بن أبي دؤاد

ولما سمع هذا الشعر أبو هفان قال: فقل للفاخرين على تزار ... وهم في الأرض ساداة العباد رسول الله والخلفاء منا ... وتبرا من دعا لبني إياد وما منا إياد إن أفوت ... بدعوة أحمد بن أبي دؤاد فقال ابن أبي دؤاد: ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام، لولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته عقاباً لم يعاقب أحد بمثله، جاء إلى منقبة كانت لي فنقضها عروة عروة، قلت قوله: كره أن الله عليه، يعني: إذا عاقبت لعاقبته عقاباً لم يعاقب به الناس لقوله الذي ذمني فيه، وكان بين ابن أبي دؤاد وبين الوزير مناقشات وشحناء، فمنع الوزير بعض أصحاب القاضي المذكور من التردد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير وقال: ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً من زلة، ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، وإن تأخرنا عنك فلك، ثم نهض من عنده " وهجا " بعض الشعراء الوزير ابن الزيات بقصيدة، عدد أبياتها سبعون، فبلغ خبرها القاضي ابن أبي دؤاد فقال: أحسن من سبعين بيتاً هجا ... جمعك معناهن في بيت ما أحوج الملك إلى قطرة ... تغسل عنه وضر الزيت فبلغ ابن الزيات ذلك فقال: يا ذا الذي يطمع في هجونا ... عرضت بي نفسك للموت الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت قبرتم الملك فلم تنقه ... حتى غسلنا القار بالزيت واستمر ولد القاضي المذكور في مكانه لما فلج حتى سخط المتوكل على القاضي أحمد المذكور وولده محمد في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فصرفه عن المظالم، ثم عن القضاء، وأخذ من ولده مائة ألف وعشرين ألف دينار، وجواهر بأربعين ألف دينار، وقيل: صالح على ضياعه وضياع أبيه بألف ألف دينار، وستره إلى بغداد وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم، قال أبو بكر بن دريد: كان ابن أبي دؤاد متألفاً لأهل الأدب من أي بلد كانوا وقد ضم منهم جماعة يعولهم ويمونهم، فلما مات حضر ببابه جماعة منهم، وقالوا: يدفن من كان على ساقة الكرم، وتاريخ الأدب، ولا يتكلم فيه إن هذا وهن وتقصير، فلما طلع سريره قام إليه ثلاثة منهم فقال أحدهم:

اليوم مات نظام الملك والسنن ... ومات من كان يسعد على الزمن وأظلمت سبل الأدب إذا حجبت ... شمس المكارم في غيم من الكفن وتقدم الثاني فقال: ترك المنابر والسرير تواضعاً ... وله منابر لو يسافر وسرير وله المحامد، ولغيره يجبى الخراج ... وإنما يجبى إليه محامد وسرير وتقدم الثالث فقال: وليس فتيق المسك ريح حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف وليس صرير العرش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف قلت: ومحاسنه كثيرة، ومناقبه شهيرة، سارت بها الركبان، لولا ما صدر عنه عن الإمتحان بخلق القرآن. وفي السنة المذكورة توفي في الفقيه الإمام أحد العلماء الأعلام أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، تفقه بالشافعي، وسمع من ابن عيينة وغيره، وبرع في العلم، ولم يقلد أحداً، قال أحمد بن حنبل: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة في تصنيفه في الأحكام بين الحديث والفقه، وكان أول اشتغاله في مذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول. وقال له محمد بن الحسن يوماً: يا أبا ثور، حسبت هذا الحجازي قد غلبنا عليك، فقال: أجل، الحق معه، ولم يزل مائلاً إلى مذهب الشافعي إلى أن توفي. وفي السنة المذكورة توفي الحسن بن عيسى النيسابوري، وكان ورعاً دينا أسلم على يد ابن المبارك، وسمع الكثير منه ومن ابن الأحوص وطائفة، ولما مر ببغداد حدث بها، وعدوا في مجلسه اثني عشر ألف محبرة. وفيها توفي أبو العميثل " بفتح العين والميم والمثلثة وسكون المثناة من تحت قبل المثلثة " عبد الله بن خليل مولى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان يعجم الكلام ويعربه، وكان كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، وكاتب أبيه طاهر من قبله، وكان مكثراً من ثقل اللغة، عارفاً بها شاعراً مجيداً، ومن شعره في عبد الله بن طاهر قوله: يا من يحاول أن يكون صفاته ... كصفات عبد الله أنصت وأسمع فلقد نصحتك في المشورة والذي ... حج الحجيج إليه فاسمع أودع

أصدق وعن وبر واصبر واحتمل ... واصفح وكاف ودار واحلم واسجع والطيف ولن وتأن وارفق وابتد ... واحرم وجد رجام واحمل وارفع ولقد محضتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسد المهيع قلت: وعدد كلمات بيته الثالث والرابع كل واحد عشر كلمات، ولي بيت جمعت فيه اثنتي عشرة كلمة في مخاطبة الله عز وجل بالدعاء. وهو قولي في بعض القصائد: وسبحانك اللهم يا سامع الدعاء ... ويا منقذ الهلكى ويا راحم الورى أقل واسترا جبروا رفق ارزق وعاف واهدهوالطف تجاوز واعطف وارحم لنا اغفرا والألف التي بعد الراء من " اغفر "، أبدل من نون التأكيد أي اغفرن، ولما حجب أبو العميثل عن الدخول على عبد الله المذكور، وقد وصل إلى بابه قال: سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخف قليلاً إذا لم أجد يوماً إلى الإذن سلما ... وجدت إلى ترك اللقاء سبيلاً فبلغ ذلك عبد الله، فأمر بدخوله، وكان أبو العميثل يقول: النعمان اسم من أسماء الدم، ولذلك قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها. قال: وقولهم إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر ليس بشيء. وقال ابن قتيبة: إن النعمان بن المنذر، وهو آخر ملوك الحيرة من الحمير، خرج إلى ظهر الكوفة، وقد اعتم بناته من بين أصفر وأحمر وأخضر، وإذا فيه من الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها، إحموها فحموها، فسمي شقائق النعمان، وكذا اذكر الجوهري أنها منسوبة إلى النعمان. ويحكى أن أبا تمام الطائي لما أنشد عبد الله بن طاهر قصيدة مدحه بها، كان أبو العميثل حاضراً فقال: يا أبا تمام، لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: يا أبا العميثل: لم لا تفهم ما يقال؟ وقبل يوماً كف عبد الله بن طاهر فاستخشن شاربه فقال أبو العميثل في الحال: شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد فأعجبه كلامه، وأمر له بجائزة سنية، وصنف كتباً منها " ما اتفق لفظه واختلف معناه "، و " كتاب التشابه "، و " كتاب الأبيات السائرة "، و " كتاب معاني شعر ". وفيها توفي مفتي القيروان وقاضيه أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، المعروف بسحنون المغربي المالكي، صاحب المدونة، والمدونة أصلها مسائل أخذها عن ابن قاسم، وكانت غير مرتبة، فرتب سحنون أكثرها وبوبها على ترتيب التصانيف، واحتج لبعض مسائلها بالآثار، وأول من شرع في جمع المدونة أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق من أسئلة سأل عنها ابن القاسم، وكتبها عنه سحنون، ثم رحل بها إلى ابن

إحدى وأربعين ومائتين

القاسم، فعرضها عليه، فاصلح فيها مسائل وحررها، ثم رجع بها إلى القيروان، وعلى نسخته يعتمدون. ولقب سحنوناً باسم طائر وحديد في المغرب يسمونه بذلك لحدة ذهنه وذكائه، أخذ عن أبي القاسم وابن وهب وأشهب. وفيها توفي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي صاحب " كتاب الجيدة " سمع من سفيان بن عيينة، وناظر بشر المريسي فقطعه، وهو معدود من أصحاب الشافعي. إحدى وأربعين ومائتين فيها توفي إمام المحدثين في عصره السيد الكبير فريد دهره، ذو العلم والعمل والحق والتحقيق والزهد الصادق والورع الدقيق، المعظم المبجل أحمد بن حنبل الشيباني المروزي الأصل رضي الله تعالى عنه خرج من جماعة من الكبار، ورحل إلى اليمن وسمع من الإمام الحافظ عبد الرزاق في صنعاء، والإمام إبراهيم بن الحكم في عدن وغيرهما من شيوخ اليمن. وقيل: كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواضه والمحبين له والمعتقدين فضله والمعظمين قدره والمبجلين محله. وقد تقدم في ترجمة الشافعي الإشارة إلى تفخيم الإمام أحمد له. وكذلك كان الشافعي يفخمه، ولما ارتحل إلى مصر قال في حقه: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل، ودعي بعد وفاة الشافعي لست عشرة سنة إلى خلق القرآن فلم يجب، وضرب فصبر مصراً على الإمتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم الإمامان الحافظان قدوتا المحدثين، محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولد سنة أربع وستين ومائة " وتوفي " ضحى نهار الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وقيل: بل لثلاث عشرة بقين من الشهر المذكور، وقيل من ربيع الآخر، ودفن بمقبرة باب حرب، وقبره مشهور يزار رحمة الله عليه، وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمان مائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً، وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس. قلت: فإن صح ذلك فإسلامهم يحتمل سببين: أحدهما: أن يكون ذلك لكثرة من رأوا من الخلائق مجتمعين على فضله وتعظيمه والصلاة عليه والأسف على فراقه. والثاني: أن يكون بعضهم رأى آية، كما رأى بعض اليهود في جنازة سهل بن عبد الله، وهي أنه لما نظر إلى جنازته قال: أترون ما أرى. قالوا: وما ترى؟ قال: أرى أقواماً ينزلون،

اثنتين وأربعين ومائتين

من السماء يتبركون بالجنازة، ثم أسلم وحسن إسلامه. وحكي أن إبراهيم الحربي قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خرج من مسجد الرصافة، وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك. فقال: قدم علينا روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والياقوت، فهذا مما التقطته. قلت: فما فعل يحيى بن معين وفلان سماه من أئمة الحديث. قال: تركتهما، وقد زارا رب العالمين، ووضعت لهما الموائد. قلت: فلم لم تأكل معهما أنت؟ قال: قد عرفت هوان الطعام علي، فأباحني النظر إلى وجهه الكريم، وكان رضي الله تعالى عنه حسن الوجه، ربعة يخضب بالحناء خضاباً ليس بالثاني، وفي لحيته شعرات سود قد جاوز سبعاً وسبعين سنة، وقد جمع ابن الجوزي أخباره في مجلد، ذلك البيهقي والهروي. ومن مناقبه أيضاً ما ذكر بعض العلماء في مناقب الإمام الشافعي عن الربيع قال: لما خرج الشافعي إلى مصر وأنا معه كتب كتابأ وقال: يا ربيع، خذ كتابي هذا، وامض به إلى عبد الله أحمد بن حنبل، وأتني بالجواب. قال الربيع: فدخلت بغداد ومعي الكتاب فلقيت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح، فصليت معه، فلما انتقل من المحراب سلمت إليه شاب وقلت: هذا كتاب الشافعي من مصر، فقال أحمد: نظرت فيه؟ قلت: لا، فكسر الختم وقرأ الكتاب فتغرغرت عيناه بالدموع فقلت له: إيش فيه؟. فقال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: أكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، واقرأ عليه السلام وقل له: إنك ستمتحن وتدعي للقول بخلق القرآن، فلا تجبهم، فسترفع لك علم إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت: البشارة فخلع قميصه الذي يلي جلده ودفعه إلي، وأخذت جواب الكتاب، وخرجت إلى مصر فسلمت الكتاب للشافعي وقال: يا ربيع، إيش الذي دفع إليك. قلت: القميص الذي يلي جلده، فقال الشافعي: لا نفجعك به، ولكن بله، وادفع إلي الماء حتى أكون شريكاً لك فيه. وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن حماد الحضرمي البغدادي، والحافظ أبو قدامة عبد الله بن سعيد رحمهم الله تعالى. اثنتين وأربعين ومائتين فيها توفي القاضي أبو حسان الزيادي الحسن بن علي بن عثمان، وكان إماماً ثقة، إخبارياً. مصنفاً كثير الإطلاع. وفيها توفي الإمام الرباني أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد صاحب المسند في صاحب المسند والأربعين، وكان يشبه في وقته بابن المبارك. رحل وسمع من

يزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهما، وروى عنه إمام الأئمة المعروف بابن خزيمة. وقال: لم تر عيناي مثله، وقال غيره: يعد من الإبدال رحمة الله عليه. وفيها توفي الفقيه العلامة المفخم القاضي المشهور يحيى بن أكثم " بالمثلثة " التميمي. كان فقيهاً بارعاً عالماً بصيراً بالأحكام، سالماً من انتحال البدعة، قائماً بكل معضلة، غلب على المأمون حتى أخذ بمجامع قلبه، فقلده القضاء وتدبير مملكته، وكانت الوزراء لا تعمل شيئاً إلا بعد مطالعته، كذا قال طلحة الشاهد، وقال غيره: جعل المتوكل يحيى في مرتبة ابن أبي دؤاد، ثم غضب عليه، وقال أبو حاتم فيه نظر، قلت: وقد تقدم في ترجمة ابن أبي دؤاد أنه قال: كان ابتداء اتصالي بالمأمون أني كنت أحضر مجلس يحيى بن أكثم مع الفقهاء، وأنا عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أنتقل إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك. قال: فلم يحدث أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، فتكلمت بحضرة المأمون، فأقبل المأمون ينظر إلي إلى آخر كلامه المتقدم. ومنه أنه لما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وأنه سخط المتوكل على القاضي ابن أبي دؤاد وولده وصادرهما، وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم على ما ذكره ابن خفكان في تاريخه، وهو واضح في تقدم يحيى بن أكثم بولايته القضاء في زمن المأمون، ثم عزله بابن أبي دؤاد في زمن المعتصم، ثم عزل ابن أبي دؤاد، ابنه بابن أكثم في زمن المتوكل، وكل ذلك ظاهر على ما تقدم والله أعلم. رجعنا إلى ذكر ابن أكثم. قال طلحة بن محمد المذكور: ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي دؤاد وسئل رجل من البلغاء عنهما ليهما لنبل فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته ويحيى، ويهزل مع خصيمه وعدوه، وكان يحيى سليماً من البلدة، وينتحل مذهب أهل السنة، بخلاف ابن أبي دؤاد في إعتقاده وتعصبه للمعتزلة. وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي في " كتاب الفرائض " في آخر المسائل الملقبات، وهي أربع عشرة المعروفة بالمأمونية التي هي: أبوان وابنتان، ولم يقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين، وخلفت من المسألة، الأولى سميت المأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء، فوصف له يحيى بن أكثم، فاستحضره، فلما دخل عليه وكان ذميم الخلق استحقره المأمون، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي، فسأله عن هذه المسألة فقال: الميت الأول رجل أو امرأة، فعلم المأمون أنه قد علم المسألة. وفي رواية أنه قال له: إذا عرفت الميت الأول فقد عرفت

الجواب، وذلك أنه إن كان الميت الأول رجلاً فيصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كان امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية، لأنه أب وأم، فتصبح المسألتان من ثمانية عشر سهماً. قال بعضهم، كان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغره أهل البصرة فقالوا: كم سن القاضي. فعلم أنه قد استضغر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به، أو قال: وجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور " بضم السين المهملة " الذي وجهه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاضياً على أهل البصرة فجعل جوابه احتجاجاً. قلت: وقد روي أيضاً أنه كان سنة ثماني عشرة سنة، فقال: سني سن عتاب بن أسيد حين ولآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكة ثمان عشر سنة، وكانت ولاية يحيى ابن أكثم على قضاء البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة سنة اثنتين ومائتين. وروى محمد بن منصور قال: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكراً غداً إليه. فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى أنتهي عما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر. قال محمد بن منصور وأومى أبو العيناء إلي إذا كان هذا القول يقوله في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكيف نكلمه نحن؟. فسكتنا حتى جاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا. فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً فقال: يا أمير المؤمنين، لما حدث في الإسلام، قال: ما حدث في الإسلام؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون "، إلى قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " " المؤمنون ا - 17 " يا أمير المؤمنين: زوجة المتعة ملك اليمين؟. قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث، ويلحق منها الولد، ولها شرائطها. قال: لا؟ قال فقد صار متجاوز هذين من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، قال: أمرني

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان قد أمر بها، فالتفت إلينا المأمون وقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري. فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم، مالك بن أنس فقال: أستغفر الله، بادروا بتحريم المتعة فبادروا بها. وقال أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي القاضي الفقيه المالكي البصري، وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال: كان له يوماً لم يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم، وكانت كتب يحيى في الفقه " أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين وبينه وبين داود بن علي مناظرات كثيرة ". قالوا: وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور قال يوماً وزير المأمون أحمد بن أبي خالد وهو واقف بين يدي المأمون وابن أكثم معه على طرف السرير يا أمير المؤمنين، إن القاضي يحيى صديقي، ومن أثق به في جميع أمري، وقد تغير عما عهدته منه، فقال المأمون: يا يحيى، إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما بعد لكما عندي عهد، فما هذه الوحشة فيكما؟. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة حتى خشي أن أتغير عليه يوماً فأقدح فيه عندك. فأحدث أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه لو بلغ نهاية مساوىء، ما ذكرته بسوء عندك أبداً. فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال. نستعين الله عليكما، فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فتنة منكما. وكان يحيى إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن حديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعرف النحو سأله عن الكلام ليقطعه. وذكر الخطيب في تاريخه أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرمي الناس به يحيى بن أكثم، وينسبونه إليه من الهنات فقال: سبحان الله من يقول هذا أنكر ذلك إنكاراً شديداً. وذكر الخطيب أيضاً أن المأمون قال ليحيى المذكور: من الذي يقول: قاضي يرى الحد في الزنا ... ولا يرى على من يلوط من بأس قال: أو ما تعرف يا أمير المؤمنين. قال: لا، قال: يقوله أحمد بن أبي نعيم الذي يقول: لا أحسب الجور ينقضي ... وعلى الأمة وال من آل عباس

قال: فاقحم المأمون خجلاً وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند. وهذان البيتان من جملة أبيات له منها قوله: لا أفلحت أمة، وحق لها ... يطول مكس، وطوله أنعاس ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس ومما يناسب إنشاد المأمون البيت المذكور وجواب ابن أكثم بالبيت المقحم له، ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان لما اشتد مرض موته، وحصل اليأس منه، دخل عليه بعض ذرية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعوده فوجده قد استند جالساً متجلداً، ثم ضعف عن القعود، فاضطجع وأنشد: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع فأنشد العلوي عند ذلك: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... الفيت كل تميمة لا تنفع فتعجب الحاضرون من جوابه. وهذان البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، يرثي بها بنيه، وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد بالطاعون في طريق مصر، وقيل في طريق إفريقية، وقيل في طريق المغرب، ثم هلك هو بعدهم. ومما يناسب الجواب المذكور، ما يحكى أن بعض الشعراء وهو عبد الله بن إبراهيم المعروف بابن المؤدب القيرواني امتدح ثقة الدولة بقصيدة رجا فيها صلته فلم يصله بشيء يرضيه، وكان قد بلغ ثقة الدولة عنه شيء، فلم يزل يرسل الطلب بعد حتى ظفر به فقال له: ما الذي بلغني عنك. قال: المحال، أيد الله الأمير. فقال: من هو الذي يقول في شعره: " فالحر ممتحن بأولاد الزنا "؟ فقال: هو الذي يقول: " وعداوة الشعراء بئس المقتنى "، فتسمر ساعة، ثم أمر له بشيء، وأخرجه من المدينة كراهية أن تثور عليه نفسه فيعاقبه، بعد أن عفا عنه، فخرج منها. وهذا المستشهد به عجزا البيتين من شعر المتنبي في قصيدة مدح بها ابن عمار. وصدر الأول منهما: وإنه المسير عليك في نصلة ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا وصدر الثاني: ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعر بئس المقتنى رجعنا إلى ذكر القاضي يحيى بن أكثم ولما توتجه المأمون إلى مصر في سنة

خمس عشرة ومائتين، وكان معه القاضي يحيى، فولاه قضاء مصر، فحكم بها ثلاثة أيام، ثم خرج مع المأمون. وروي عن يحيى أنه قال: اختصم إلي في " الرصافة " الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه. قلت: ومثل هذا، وجد عندنا في يافع من بلاد اليمن، حتى كان يقول الإبن السافل: يا جد أجب جدك، وكان بعض الشعراء يتردد إليه ويغشى مجلسه، وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه، إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها، فانقطع عنه، فلامته زوجته في ذلك مراراً فأنشدها: تكلفني إذلال نفسي لغيرها ... وكان عليها أن أهان لتكرما تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت: سليه رب يحيى بن أكثما ولم يزل الأحوال تختلف على ابن أكثم وتتقلب به الأيام إلى أن عزل محمد بن القاضي أحمد بن أبي دؤاد عن القضاء في أيام المتوكل، فولي ابن أكثم كما تقدم، وخلع عليه خمس خلع، ثم عزله وولي في رتبته جعفر بن عبد الواحد الهاشمي. فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال: سلم الديوان، فقال: شاهدان عادلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ الديوان منه قهراً، وغضب عليه المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، وألزم بيته، ثم حج وحمل أخته معه، وعزم على أن يجاور، فلما اتصل به رجوع المتوكل له رجع يريد العراق، فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة من السنة المذكورة، وقيل في غيره سنة ثلاث وأربعين، ودفن هناك. وحكى أبو عبد الله بن سعيد قال: كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان يودني وأوده، وكنت أشتهي أن أراه في المنام بعد موته، فأقول له: ما فعل الله بك. فرأيته ليلة، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي إلا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى، خلطت علي في دار الدنيا، فقلت: يا رب إتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك قلت: إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار، فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا. ذكر كذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته. قلت: ومما يناسب هذه الحكاية أو يقرب منها أنه توفي شيخ كان عندنا في بلاد اليمن وكيلاً على باب القاضي في عدن. فلما توفي راه بعض الناس في المنام، فقال له: ما فعل الله بك. قال: أوقفني بين يديه وقال: يا شيخ السوء جئتني بموبقات الذنوب، أو قال

ثلاث وأربعين ومائتين

بالذنوب الموبقات، فقال: قلت: يا رب، ما هكذا بلغني عنك. قال: وما الذي بلغك عني؟ قلت: العفو والكرم، قال: صدقت، أدخلوه الجنة أو كما قال. ولما ذكرت هذه الحكاية عند ولد له وكيل أيضاً في الخصومات قال: نعم وهو وكيل ما يعجزه الجواب يعني أباه ما أجاب به. قلت: وكلامه هذا، إن كان مزاحاً فهو قبيح، وإن كان جداً فباطل غير صحيح، لأن الثبات في الآخرة ليس إلا بتوفيق الله، وما ينعم به من نوال لا بفصاحة اللسان وما يعرفه الإنسان في الدنيا من الجدال. نعوذ بالله من الإغترار والزيغ والضلال. ثلاث وأربعين ومائتين فيها توفي الشيخ الكبير العارف معدن الأسرار والحكم والمعارف وإمام الطريقة ولسان الحقيقة الحارث بن أسد المحاسبي " بضم الميم " البصري الأصل، ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، والفضائل الفاخرة، وجميل المحاسن. وله تصانيف في السلوك والمواعظ والأصول. ومن كتبه المشهورة النفيسة " كتاب الرعاية "، ومن دقيق ورعه أنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئاً لأن أبان كان يقول بالقدر. قال: وقد صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لا يتوارث أهل ملتين شتى "، ومات وهو محتاج إلى درهم، خلف أبوه ضياعاً وعقاراً، فلم يأخذ منه شيئاً. ومن المشهور أنه كان محفوظاً إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة يتحرك في إصبعه عرق، فيمتنع من تناوله، وكان يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع صيانة، وحسن القبول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. وهو أحد شيوخ الجنيد. وقيل له المحاسبي: لكثرة محاسبة نفسه، وهو من الخمسة الشيوخ الجامعين بين علم الظاهر والباطن في عصر واحد، وهم: " هو " و " أبو القاسم الجنيد "، و " أبو محمد رويم "، و " أبو العباس عطاء "، و " عمرو بن عثمان المكي " رحمهم الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الإمام أبو حفص حرملة بن يحيى التجيبي المصري الحافظ مصنف " المختصر والمبسوط " رحمه الله، روى عن ابن وهب مائة ألف حديث، وتفقه بالإمام الشافعي، قيل: وكان أكثر أصحابه اختلافاً إليه واقتباساً منه و " التجيبي ": بضم المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها موحدة. نسبة إلى امرأة نسبت أولادها إليه. وفيها توفني إبراهيم بن عباس الصولي الشاعر المشهور، كان من الشعراء المجيدين، وله ديوان شعر، كله نحت وهو صغير، ومن رقيق شعره:

ثنت بانا من عزتنا زيارة ... وشط بليلي عن دنو مزارها وإن مقيمات بمنسرج اللوى ... لأقرب من ليلى، وهاتيك دارها وله: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ورعاً وعند الله منها مخرج كلمت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنا نظنها لا تفرج أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان بالفهم في المنزل الخشن وله هذان البيتان، وقيل هما في ديوان الوليد الأنصاري مجردان: لا يمنعك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيراناً بجيران وفيها توفي محمد بن يحيى بن أبي عمرو العداني الحافظ صاحب المسند، روى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى. وفي السنة المذكورة توفي ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، وله مقالة في علم الكلام، وينسب إلى الزيغ والإلحاد. وله مائة وبضع عشرة كتاباً، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام. قال ابن خلكان بعدما أثنى على فضله، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام في كتبهم قال: وكان من فضلاء عصره، ومن تصانيفه " كتاب فضيحة المعتزلة "، قلت: وهو رد عن المعتزلة، فأصحابنا ينسبونه إلى ما هو أضل وأفظع من مذهب المعتزلة. عاش نحواً من أربعين سنة. ونسبته إلى راوند. قرية من قرى قاسان بالسين المهملة بنواحي أصفهان غير التي بالشين المعجمة المجاورة لقم بضم القاف، و " راوند " أيضاً ناحية ظاهر نيسابور، وراوند هذه هي التي ذكرها أبو تمام في كتاب الحماسة في باب المراثي. قلت: وذكر أصحابنا في باب النسخ من كتب الأصول أنة هو الذي لقن اليهود الإحتجاج على عدم جواز النسخ بزعمهم بنقل مفترى بأن قال لهم: قولوا أن موسى عليه السلام أمرنا أن نتمسك بالسبت، ما دامت السموات والأرض، ولا يجوز أن يأمر الأنبياء، إلا بما هو حق، وهذا القول بهت وافتراء على موسى صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نبينا وعلى جميع النبيين والمرسلين.

أربع وأربعين ومائتين

أربع وأربعين ومائتين فيها وقيل في سنة ست وأربعين ومائتين مات دعبل " بكسر الدال وسكون العين المهملين وكسر الموحدة وبعدها لام " ابن علي الخزاعي الشاعر المشهور، يرجع في نسبه إلى عامر بن مريقياً، كان شاعراً مجيداً بذيء اللسان، مولعاً بالهجو والحط من أقدار الناس. هجا الخلفاء فمن دونهم، وعمل في إبراهيم بن المهدي أبياتاً من جملتها: ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله ... فهقاً إليه كل أطلس مائق يقال: فلان أحمق مائق إذا كان فيه حمق وغباوة، والأطلس الذي لا لحية له. فدخل إبراهيم على المأمون فشكا إليه حاله وقال: يا أمير المؤمنين، هجاني دعبل فانتقم لي منه فقال: ما قال لعل قوله: " ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله "، وأنشد الأبيات فقال: هذا من بعض هجائه وقد هجاني بما هو أقبح من هذا: فقال المأمون لك أسوة بي فقد هجاني واحتملته وقال في: أيسومني المأمون حظة جاهل ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد إني من القوم الذين سيوفهم ... فللت أخاك وشرفتك بمقعد سادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلا عن فضل علمك ولا يحلم إلا اتباعاً لحلمك، وأشار دعبل في هذه الأبيات إلى قضية طاهر بن الحسين الخزاعي وحصاره بغداد وقتله الأمير محمد بن الرشيد، وبذلك ولي المأمون الخلافة، ودعبل خزاعي فهو منهم، وكان المأمون إذا أنشد قوله هذا يقول: قبح الله دعبلاً ما أوقحه، كيف يقول علي هذا وقد ولدت في الخلافة ورضعت ثديها وربيت في مهدها؟ ومن شعره في الغزل: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى يا ليت شعري كيف نومكما ... يا صاحبي إذا دمي سفكا لا تأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي طرفي في دمي اشتركا

ومن شعره في مدح المطلب بن عبد الله الخزاعي أمير مصر: زمني بمطلب سقيت زماناً ... ما صرت إلا روضة وجنانا كل الندى إلا نداك تكلف ... لم أرض غيرك كائناً من كانا أصلحتني بالبر يدك فسدتني ... وتركتني السخط الإحسانا ومما حكاه دعبل قال: كنا يوماً عند فلان ابن فلان الكاتب البليغ، وسماه، ولكن كرهت ذكره لوصفه له بما يقبح ذكره قال: وكان شديد البخل فأطلنا الحديث، واضره الجوع إلى أن استدعى بغذائه فأتي بقصعة فيها ديك فرم لا يقطعه السكين، ولا يؤثر ضرس، فأخذ كسرة خبز فخاض بها مرقته، وقلب جميع ما في القصعة، ففقد الرأس ق مطرقاً ساعة، ثم رفع رأسه، وقال للطباخ: أين الرأس؟ قال: رميت به، قال: ولم؟ قال ظننت أنك لا تأكله، قال: لبئس ما ظننت، ويحك، والله لأمقت من يرمي رجليه، فكيف من يرمي رأسه، والرأس رئيس، وفيه الحواس الأربع، ومنه يصيح، ولولا صوته لما فضل وفيه عرقه الذي يتبرك به، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل، فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجيب لوجع الكليتين، ولم ير عظم قط أحسن من عظم رأسه، أو ما علمت أنه. من طرف الجناح ومن الساق والعنق؟ فإن كان قد بلغ مني بتلك أنك لا تآكله فانظر رميت به؟ قال: لا أدري أين هو، قال: لكني أدري أين هو، رميت به في بطنك، فالله حسيبك. ولما مات دعبل وكان صديق البحتري وكان أبو تمام قد مات قبله رثاهما البحتري بأبيات منها: قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل جوى لازال السماء محيلة ... يغشا كما يماء مزن مسبل حدث على الأهواز يبعد دونه ... مسيري النغى ورمسة بالموصل وفيها توفي الإمام اللغوي النحوي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت " بكسر السين المهملة وتشديد الكاف وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة فوق "، صاحب كتاب " إصلاح المنطق " وغيره من التصانيف في علم اللغة والنحو معاني الشعر، وفسر دواوين الشعر، وجمع في ذلك قول البصريين والكوفيين، وأجاد وجاوز فيها تفسير كل من تقدمه على ما ذكر المرزباني فقال: ولم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم منه، وكان

عالماً بنحو الكوفيين وعلم القرآن واللغة والشعر راوية ثقة، قد أخذ عن البصريين، وسمع من الأعراب وقال: ابن عساكر: حكى أبو يوسف عن أبي عمرو وإسحاق بن مرار الشيباني محمد بن مهنا ومحمد بن صبيح بن السماك الواعظ. وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة الفراء: وجماعة، وروى عنه أحمد بن فرج المقرىء ومحمد بن عجلان الأخباري، وأبو عكرمة الضبي، وأبو سعيد السكري، وميمون بن هارون الكاتب وغيرهم. وقال، وقال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم مارآهم، ورأس المداراة ترك المماراة، وكتبه جيدة صحيحة، وهو صحيح السماع، وله حظ من السنن والدين، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ، يعني من العلوم؟ فقال: بالإنصراف، قال: فأقوم؟. قال المعتز: فأنا أحق نهوضاً منك، فقام المعتز واستعجل، فعثر بسراويله، وسقط، فالتفت إلى ابن السكيت كالخجل، قد احمر وجهه فأنشد ابن السكيت. يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته في الرجل تترا على مهل فلما كان من الغد، دخل ابن السكيت على المتوكل وأخبره، فأمر له بخمسين ألف درهم وقال: بلغني البيتان، وأمر له بجائزة. قلت: ومن جناية اللسان على النفس المشار إليها في النظم الذي أنشده ما جرى له مع كونه محقاً مأجوراً شهيداً، وذلك ما ذكروا أنه بينما هو يوماً مع المتوكل، إذ جاء المعتز المؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب أنما أحب إليك، ابناي هذان أم الحسن والحسين؟. فغض ابن السكيت من ابنيه وذكر من محاسن الحسن والحسين ما هو معروف من فضلهما، أمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره ومات من الغد. وفي رواية أخرى: إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وابنيه حسن والحسين، رضوان الله عليهم، وكان ابن السكيت شديد المحبة لهم والميل إليهم، فقال تلك المقالة، فقال ابن السكيت: والله أن قنبر خادم علي رضي الله تعالى عنه، خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلو لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك فمات، رحمه الله تعالى. وقال ثعلب: أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت، قلت: وهذا موافق لما تقدم من قول المرزباني، وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت بغداديين كتاباً أحسن من كتاب ابن السكيت " إصلاح المنطق ". وقال غيره من العلماء:

خمس وأربعين ومائتين

إصلاح المنطق كتاب بلا خطبة، وأدب الكاتب خطبة بلا كتاب، لأن خطبته مطولة مودعة فوائد، وعددوا له أيضاً من التصانيف المفيدات غير كثير. خمس وأربعين ومائتين وفيها توفي محمد بن هشام بن عوف التميمي السعدي، كان ممدوحاً بالحفظ وحسن الرواية. قال مورج " بكسر الراء المشددة والجيم " أخذ مني كتاباً فحبسه ليلة، ثم جاء به، وحفظه بالحفظ وحسن الرواية. قال محمد بن هشام المذكور: لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة فقال لي يوماً: لا أراك تخطىء بشيء مما تسمع؟. قلت: وكيف ذلك. قال: لا أراك تكتب؟ فقلت: إني أحفظه. فاستعاد مني مجالس، فأعدتها على الوجه. قال: حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب سبعين أو قال: من أصحاب السبعين، وقيل لسعدي المذكور: مات الضعفاء في هذا الغد، وسلم الأقوياء فقال: أنا سمعت: رأيت جلتها في الحدب باقية ... ينقي الجواسي عنها حين يزدحم لأن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد لم يعبأ بها السلم وأنشد أيضاً: وما يواسيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الفيض ثوبان، وقيل الفيض بن إبراهيم المصرفي المعروف بذي النون، أحد رجال الطريقة، كان لسان هذا الشأن، وأوحد وقته علماً وورعاً وحالاً وأدباً، وكان أبوه نوبياً، سئل عن سبب توبته فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة؟ عمياء سقطت من وكرها، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفي إحداهما سم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا، فقلت: حسبي قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني، وكان قد سعوا به إلى المتوكل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل، ورده مكرماً، وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع حي هلا بذي النون.

ومن ورعه ما ذكروا أنه أهدي إليه طعام، وهو في سجن المتوكل، فأتاه رسول السجان فحمله إليه فامتنع من أكله، فقيل له في ذلك فقال: طعام أتاني على مائدة ظالم فلا آكله، أو كما قال، ويعني بمائدة الظالم كف السجان التي حملت الطعام إليه من باب السجن. وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون يقول وفي يده الغل وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله وعطاياه، وكل عذب حسن طيب، ثم أنشد: لك من قلبي المكان المصون ... كل يوم علي فيك يهون لك عزم بأن أكون قتيلاً ... فبك الصبر عنك ما لا يكون ولما أخرج من السجن، وأدخل على المتوكل وعظه حتى بكى وخرج من عنده مكرماً. اجتمع إليه الصوفية في الجامع في بغداد، واستأذنوه في السماع، وحضر، القوال، وأنشد شعراً: صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنك وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركاً فتواجد ذو النون، وسقط فأنشج رأسه. وكان يقطر منه الدم، ولا يقع على الأرض، فقام شاب يتواجد، فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم، فقعد الشاب. قال بعض الشيوخ: كان ذو النون صاحب إشراف، والشاب صاحب إنصاف، يعني لما قيل منه، فقعد إذ لم يكن في قيامه كامل الصدق. ومن كلام ذي النون: من علامة المحب لله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. وسئل عن التوبة فقال: توبة العوام عن الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة. وله من الحكايات الغريبات والكرامات العجيبات ما يتعذر حصره، ولا يليق بهذا الكتاب. وقد ذكرت شيئاً من ذلك في الكتب اللائقة ذكره بها، المحبوبة عند أهلها، ولكني أذكر من كراماته التي هي بفضله شاهدة ها هنا كرامة واحدة وهي ما ذكر خلائق من الصالحين، ورواه عنهم كثير من العلماء العاملين أن الشيخ الكبير المشهور أبا الفيض ذا النون المذكور كان مع بعض أصحابه في البراري في وقت القائلة، فقالوا: ما أحسن هذا

ست وأربعين ومائتين

المكان لو كان فيه رطب، فقال رضي الله تعالى عنه: لعلكم تشهون الرطب، فقالوا: نعم، فقام إلى شجرة، وقال: أقسمت عليك بالذي خلقك، وابتدأك شجرة إلا ما نثرت علينا رطباً جنياً، فنثرت عليهم رطباً جنياً، فأكلوا ثم ناموا، فلما استيقظوا حركوا فنثرت عليهم شوكاً. ست وأربعين ومائتين فيها توفي موسى بن عبد الملك الأصفهاني صاحب ديوان الخراج. كان من جملة الرؤساء وفضلاء الكتاب، وله ديوان رسائل، وله شعر رقيق، وخدم جماعة من الخلفاء ومن شعره: لما وردت الفارسية ... جئت مجتمع الدقاق وشممت من أرض الحجاز ... نسيم أنفاس العراق أيقنت لي ولمن أحب ... بجمع شمل واتفاق وضحكت من فرح اللقاء ... كما بكيت من الفراق ولهذه الأبيات حكاية مستظرفة ذكرها الحافظ أبو عبد الله الحميدي وغيره من مؤرخي المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأسكري " بضم الهمزة والكاف وسكون السين المهملة بينهما وكسر الراء " المصري قال: كنت من جلساء الأمير تميم بن أبي تميم، فأرسل إلى بغداد، فاشترى له جارية رائقة فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة وأمرها بالغناء فغنت: وبدا له بعدما اندمل الهوى ... بريق تألق موهناً لمعانه الأبيات المعروفة، وأحسنت الجارية الغناء، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت: ستسليك عما فات دولة مفضل ... أوأيله محمودة وأواخره ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شذت إليه الموازره قال فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، ثم غنت بيتاً من قصيدة محمد بن رزق الكاتب البغدادي. أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه فاشتد طرب الأمير المذكور، وأفرط جداً ثم قال لها: تمني ما شئت، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: لا والله، لا بد أن تتمني. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما

أتمنى؟ فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني ببغداد قال: فامتقع لون تميم وتغير وجهه، وتكدر المجلس وقام، وقمنا، ثم أرسل إلي فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه، وقمت بين يديه فقال: ويحك، أرأيت ما امتحنا به؟. فقلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب للسير معها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة، ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية له سوداء، تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل، فأدخلت فيه، فسرنا إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في خلنا في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية اتتني السوداء فقالت: تقول لك سيدتي أين نحن. فقلت لها: نزول بالقادسية. فأخبرتها فسمعت صوتها قد ارتفع بالغناء بالأبيات المذكورة، فتصايح الناس: أعيدي بالله، أعيدي بالله، فما سمع لها كلمة. ثم نزلنا " الياسرية " بالياء المثناة من تحت وكسر السين المهملة والراء وبعدها ياء النسبة. وبينها وبين بغداد خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها ثم يبكرون الدخول إلى بغداد، فلما كان وقت الصباح، إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة فقلت: مالك. قالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي؟ فقالت: والله ما أدري. قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي بها، ثم انصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم لها غماً شديداً، ثم ما زال ذاكراً لها. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الإمام أحمد بن أبي الحواري، ريحانة الشام. سمع أبا معاوية وطبقته، وكان من كبار المحدثين وأجلاء الصوفية العارفين، صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا سليمان الداراني رحمهما الله تعالى. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب، أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه، ومن عمل بلا اتباع السنة، فعمله باطل وأفضل البكاء بكاء العبد على ما فاته من أوقاته، على غير الموافقة، وقال: ما ابتلى الله بشيء أشد من القسوة والغفلة. وكان سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه يقول: أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام. وكانت زوجته رائفة الشامية تقول له: أحبك حب الإخوان لا حب الأزواج. وكانت تطعمه الطيب وتطيبه وتقول: اذهب بنشاطك إلى أزواجك، وتقول عند تقريب الطعام إليه: كل فما نضج إلا بالتسبيح، وتقول إذا قامت من الليل: قام المحب إلى الموصل قومة ... كاد الفؤاد من السرور يطير وفيها توفي العباس بن عبد العظيم البصري الحافظ، أحد علماء السنة.

سبع وأربعين ومائتين

سبع وأربعين ومائتين فيها توفي إبراهيم بن سعيد الجوهري البغدادي الحافظ صاحب المسند، المخرج في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في نيف وعشرين جزءاً. وفي شوال منها قتل المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي. فكتوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر، وهو الذي أحيى السنة وأمات البدعة، غير أنه كان فيه انهماك على اللذات والمكاره، وفيه كرم وتبذير. وكان قد عزم على خلع ابنه المنتصر من العهد وتقديم المعتز عليه لفرط محبته لأمه، وبقي يؤذيه ويتهدده إن لم ينزل عن العهد. وكان المتوكل قد صادر بعض رؤساء الدولة، فعملوا عليه، ودخل عليه خمسة بالسيوف في جوف الليل. ثمان وأربعين ومائتين فيها توفي الإمام العالم أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري الحافظ. قال بعض المحدثين: كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان أحمد بن صالح وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى. وفيها توفي الإمام الفقيه المتكلم الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي. تفقه على الإمام الشافعي، وسمع من إسحاق الأزرق وجماعة، وكان متضلعاً من الفقه والأصول والحديث ومعرفة الرجال والكرابيس: الثياب الغلاظ. وله عدة تصانيف، وأخذ عنه الفقه خلق كثير. وفيها توفي أمير خراسان طاهر بن عبد الله الخزاعي، والمنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله. وكانت خلافته سبعة أشهر، وعمره ستاً وعشرين سنة، وكان مهيباً مليح الصورة كامل العقل محباً في الخير، قيل أن أمراء الترك خافوه، فلما حم دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار، فقصده بريشة مسمومة، وقيل ثم نم في تكثرات، وحكي أنه قال لأمه: يا أماه، ذهبت مني الدنيا والآخرة، عاجلت أبي فعوجلت. تسع وأربعين ومائتين فيها توفي الحسن بن الصباح، الإمام أبو علي البرار، كان الإمام أحمد يرفع قدراً ويجله ويحترمه.

خمسين ومائتين

وفيها توفي عبد بن حميد الكشي الحافظ أبو محمد صاحب المسند والتفسير. وفيها توفي أبو حفص عمرو بن علي الباهلي البصري الصيرفي الفلاس الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو زرعة ذلك من فرسان الحديث. خمسين ومائتين فيها توفي أبو الحسن أحمد بن محمد البزي المقرىء، مؤذن المسجد الحرام وشيخ الإقراء به رحمه الله تعالى. وفيها توفي وقيل في سنة خمس وخمسين ومائتين الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني النحوي اللغوي المقرىء، صاحب المصنفات. أخذ العربية عن أبي عبيدة الأصمعي، وقرأ القرآن على يعقوب، وكتب الحديث على طائفة من المحدثين. ولما مات حاتم بلغت قيمة كتبه أربعة عشر ألف دينار، فوجه ابن السكيت من اشتراها بدون هذا قليلاً، وحابوه فيها. قال أبو حاتم المذكور: مر رجل براهب فقال له: عظني، قال: أعظكم وفيكم القرآن، ومنكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال: نعم، قال: فاتعظ ببيت شعر، قاله رجل منكم: تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد وفيها توفي عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ البصري، وقيل بل في سنة خمس وخمسين، وهنالك يأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. وفيها توفي أبو عمرو نصر بن علي الجهضمي البصري الحافظ، أحد أوعية العلم. كان المستعين قد طلبه ليوليه القضاء فقال لأمير البصرة. حتى أرجع، فأستخر الله، فرجع وصلى ركعتين وقال: اللهم إن كان لي عندك خيراً فأقبضني إليك، ثم نام، فنبهوه فإذا هو ميت. وفيها توفي الخليع الحسين بن الضحاك البصري الشاعر. كان حسن الإفتنان في ضروب الشعر وأنواعه، واتصل في مجالسه الخلفاء ما لم يتصل إليه أحد إلا إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك، وقيل ساواه. وأول من صحب منهم الأمين بن هارون الرشيد ثم هلم جراً إلى المستعين. وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدين،، بينه وبين أبي نواس مجازاة لطيفة ووقائع ظريفة، وسمي خليعاً لكثرة هجوته وخلاعته، ومن شعره: أطلب بخدي وخديك تلق عجيباً ... من معان يحار فيها الضمير

إحدى وخمسين ومائتين

فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير وله: إذا اخنتم بالغيب عهدي ... تدلون إدلال المقيم على العبد صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الضد وفيها توفي الفضل بن مروان، وزير المعتصم، وله ديوان شعر، ومن كلامه: الكتاب كالدولاب، إذا تعطل تكسر. وكان قد جلس يوماً لقضاء حوائج الناس، فرفعت إليه قصص العامة، فرأى في جملتها ورقة فيها مكتوب: تفرغت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... بأيديهم الإقياد والحبس والقتل فإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل أراد بالثلاثة: الفضل بن يحيى البرمكي، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل. ثم إن المعتصم تغير على الفضل بن مروان، وقبض عليه وقال: عصى الله في طاعتي، فسلطني عليه. ثم خدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء. إحدى وخمسين ومائتين فيها توفي الإمام الحافظ أبو يعقوب إسحاق بن منصور المروزي. اثنتين خمسين ومائتين فيها توفي المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي، بويع بعد المنتصر، وكان أمراء الترك قد استولوا على الأمر، وبقي المستعين مقهوراً معهم، فتحول من سامراً إلى بغداد غضبان، فوجهوا يعتذرون إليه، ويسألونه الرجوع، فامتنع، فعمدوا إلى الحبس، وأخرجوا المعتز بالله وخلفوا له. وجاء أخوه أبو أحمد لمحاصرة المستعين، فتهيأ المستعين ونائب بغداد ابن طاهر للحرب، وبنوا سور بغداد، ووقع القتال، ونصبت المجانيق، ودام الحصار أشهراً. واشتدت البلاء وكثرت القتلى، وجهد أهل بغداد حتى أكلوا الجيف، وجرت وقعات عديدة بين الفريقين، قتل في وقعة منها نحو الألفين من البغاددة، إلى أن كلوا وضعف أمرهم، وقوي أمر المعتز بالله. ثم تخلى ابن طاهر عن المستعين لما رأى من البلاء، فكاتب المعتز، ثم سعوا في المصالح على خلع المستعين فخلع نفسه على شروط مؤكدة، ثم نفذوه إلى واسط، فاعتقل تسعة أشهر، ثم أحضر إلى

ثلاث وخمسين ومائتين

سامراء فقتلوه بقادسية سامراء في آخر رمضان، وكان مسرفاً في تبذير الجوائز والذخائر. وفيها توفي بندار محمد بن بشار البصري الحافظ رحمه الله تعالى. ثلاث وخمسين ومائتين فيها وقيل في سنة ست، وقيل إحدى وخمسين ومائتين توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير ذو المقامات العلية والأحوال السنية والكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة، حب الفضل العديد والعزم السديد والورع الشديد السري السقطي أحد أولاء الطريقة، ومعادن أسرار الحقيقة، خال الأستاذ أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ الشيخ العارف بالله المقرب المعروف في بغداد بالترياق المجرب معروف القرخي، يقال: أن السري كان في دكان، فجاء معروف يوماً ومعه صبي يتيم فقال: اكس هذا، قال السري: فكسوته ففرح بذلك معروف وقال: بغض الله إليك الدنيا. وزاد بعضهم في روايته: وأراحك مما أنت.، فقال السري: فقمت من الدكان، وليس شيء أبغض إلي من الدنيا وكل ما أنا فيه من تركات معروف. ويحكى أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي مرة الحمد لله، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني إنسان وقال: سلم حانوتك، فقلت: الحمد لله. فأنا نادم من ذلك الوقت على ما فعلت، حيث أردت لنفسي خيراً من الناس. وقال أبو قاسم الجنيد: دفع إلي السري رقعة وقال: هذه خير لك من سبع مائة قصة، فإذا فيها: ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواشيا فما الحب حتى يلصق الظهر بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا وتنحل حتى ليس يبقي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا وقال أيضاً: دخلت على السري يوماً وهو يبكي فقلت: ما يبكيك. قال: جاءتني البارحة الصبية فقالت: يا أبت، هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلقه ها هنا، ثم إني حملتني، فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت. قالت: لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان، وتناولت الكوز فضربت به الأرض. قال الجنيد: فرأيت الخزف المكسورة لم يرفعها حتى عفي عليه التراب، وفضائل السري ومحاسنه معروفة، وأوصافه بالجميل والجمال موصوفة قدس الله أسراره. وفيها توفي الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، وصيف التركي، وكان من أكبر أمراء الدولة. وأبو جعفر أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي السرخسي، أحد الفقهاء والأئمة في الأثر، رحمة الله عليه.

أربع وخمسين ومائتين

أربع وخمسين ومائتين فيها توفي العسكري أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بر موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني. عاش أربعين سنة، وكان متعبداً فقيهاً إماماً، استفتاه المتوكل مرة، ووصله بأربعة آلاف درهم وهو أحد الأثني عشر الذين تعتظ الشيعة الغلاة عصمتهم. وكان قد سعي به إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً، وأوهموه أنه يطلب الخلافة، فوجه من هجم عليه وعلى منزله، فوجدوه وحده في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، وعلى رأسه ملحفة من صوف، وهو مستقبل القبلة، وليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى، وهو يترم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فحمل إليه على الصفة المذكورة، فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه. وكان المتوكل يشرب وفي يده كأس، فناوله الكأس الذي في يده فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي وعظمي قط، فاعفني عنه. فعفاه، وقال له: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الزواية للشعر. قال: لا بد أن تنشدني، فأنشده: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال، فلم ينفعهم القلل واستنزلوا بعد إعراض معاقلهم ... فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعدما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منغمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين سائلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قال: فأشفق من حضر على العسكري، وظنوا أن بادرة تبدر إليه، فبكى المتوكل بكاء طويلاً حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين. قال: نعم أربعة آلاف، فأمر بدفعها إليه ورده إلى منزله مكرماً. وكانت ولادته في ثالث عشر رجب، وقيل في يوم عرفة سنة أربع، وقيل ثلاث عشرة ومائتين. وقيل له العسكري: لأنه لما كثرت السباية في حقه عند المتوكل أحضره من المدينة وكان مولده بها وأقره بسر من رأى، وهي تدعى بالعسكر، لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل له: العسكر، ثم نسب أبو الحسن المذكور إليها، لأنه أقام بها عشرين سنة وأشهراً، وتوفي بها، ودفن في داره رحمة الله عليه. وفيها توفي العتبي صاحب العتبة في مذهب مالك، وهو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة الأموي العتبي القطري الأندلسي الفقيه، أحد الأعلام ببلده. أخذ عن

خمس وخمسين ومائتين

يحيى بن يحيى، ورحل فأخذ بالقيروان عن سحنون، وبمصر عن أصبغ. خمس وخمسين ومائتين فيها خرج العلوي بالبصرة ودعا إلى نفسه، فبادر إلى إجابة دعوته عبيد أهل البصرة والسودان، ومن ثم الزنج، والتفت إليه كل صاحب فتنة حتى استفحل أمره، وهزم جيوش الخليفة واستباح البصرة وغيرها، وفعل الأفاعيل، وامتدت أيامه إلى أن قتل في سنة سبع وسبعين. وفيها توفي الإمام الحبر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي، صاحب المسند المشهور، ورحل وطوف وسمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وطبقتهما. وفيها قتل المعتز بالله، أبو عبد الله محمد بن المتوكل، خلعوه وأشهد على نفسه كرهاً، ثم أدخلوه بعد خمسة أيام حماماً فعطس حتى عاين الموت، وهو يطلب الماء بمنع، ثم أعطوه ماء بثلج فشربه. فسقط ميتاً. واختفت أمه وكانت ذات أموال عظيمة، منها ياقوت وزمرد وغيرهما من الجواهر، قوموها بألفي ألف دينار، ولم يكن في خزاين خلافة شيء، فطلبوا من أمه مالاً فلم تعطهم، فأجمعوا على خلعه، ولبسوا السلاح، أحاطوا بدار الخلافة، وهجم على المعتز طائفة منهم فضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس حافياً ليخلع فيه نفسه فأجاب، وأحضروا محمد بن الواثق من بغداد، فأول من بايعه معتز بالله، ولقبوا محمداً بالمهدي بالله. وفيها توفي ذو النوادر والغرائب والظرف والعجائب من حوادث الزمان العوارض، أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ الكناني الليثي المعتزلي البصري العالم المشهور صاحب التصانيف المفيدة في فنون عديدة، له مقالة في أصول الدين، وإليه تنسب الفرقة معروفة بالجاحظية من المعتزلة، وهو تلميذ إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم المشهور، ومن أحسن تصانيفه وأوسعها " كتاب الحيوان "، لقد جمع فيه كل غريبة، وكذلك " كتاب بيان والتبيين ". وكان مع فضائله مشوه الخليفة. وإنما قيل له الجاحظ، لأن عينيه كانتا جاحظتين، أي ناتئتين، ومن جملة أخباره أنه قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده ولقيت محمد بن إبراهيم يعني إبراهيم بن المهدي، وهو يريد الإنصراف إلى مدينة السلام، فعرض

علي الخروج معه والإنحدار في حراقته، وكان بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطوع نصب ستارة، وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت: كل يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب وسكتت فأمر الطنبور فغنت: وارحمنا للعاشقين ... ما أن أرى لهم مغنيا كم يهجرون ويصرمون ... ويقطعون ويضربونا قال فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا. قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال، وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تصير بين الماء فأنشد: أنت التي عرفتني ... بعد القضاء لو تعلمينا وألقى نفسه في الماء في إثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصاً فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك، وهاله أمره، ثم قال: يا عمرو لتحدثني ما يسليني عن فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلى جارية حتى تغني ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر أن يخرج إليه، ويأتيه برأسه، أتبع الرسول رسولاً آخر، يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والإتكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عودها، فقال له الفتى: غني: أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني: تألق البرق نجدياً فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول فغنته، قال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب؟ فأمر له به، فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد ورمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهلي ظن أني أخرج إليه جاريتى،. وأردها إلى ملكي؟ يا غلمان، خذوا بيدها، واحملوها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها

عنه. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت: من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت، فسري عن محمد، وأجزل صلتي، وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد، فجرى ذكر جاحظ، فقص عنه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت: اسكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلة مقالته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافيته وبينت له النظر في كتبه صار لك إنساناً يا أبا القاسم. فكتب الجاحظ: تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً. ولم أستصلحه لذلك، قلت: يعني لم أره أهلاً لذلك. وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج، وكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض مقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد: إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي. أنا من جانبي الأيسر مفلوج، لو قرض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن منقرس، فلو مر به. الذباب لتألمت، وبي حصاة لا ينشرح لي البول معها، وأشد ما علي ست وتسعون سنة. وكان ينشد: أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كربتك نفس لبس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب وحكى بعض البرامكة قال: كنت توليت السند، فأقمت بها ما شاء الله ثم اتصل بي، انصرفت عنها وكنت قد كسبت ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصنعته عشرة آلاف أهليلجة، وكل أهليلجة ثلاثة مثاقيل. ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها أنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف، فقرعته فخرجت إلي خادمة صفراء فقالت: من أنت. فقلت رجل غريب، وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ، فبلغته الخادمة ما قلته، فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حابل؟ فقلت للجارية: لا بد من الوصول إليه، فلما بلغته قال: هذا رجل اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فأراد الإجتماع بي ليقول: قد رأيت الجاحظ. ثم أذن لي

ست وخمسين ومائتين

فدخلت فسلمت عليه فرد علي رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله تعالى؟ فانتسبت له فقال: رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء، فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة، ولقد انجيز بهم خلق كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت له: أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر فأنشدني: لئن قدمت قبلي رجال، فطالما ... شئت على رسلي فكنت المقدما ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج؟ قلت لا، قال: إن الإهليلج الذي معك ينفعني، فابعث لي منه، فقلت: نعم، وخرجت متعجباً من وقوفه على خبري مع كتماني. وبعثت إليه مائة إهليلجة، وقال أبو الحسن البرمكي أنشدني الجاحظ: وكان لنا أصدقاء مضوا ... تفانوا جميعاً فما خلدوا سقاهم جميعاً كؤوس المنون ... فمات الصديق ومات العدو قلت: كان المناسب لقوله: " فمات الصديق ومات العدو " أن يذكر الأعداء الأصدقاء في البيت الأول، فيقال لنا: أصدقاء مضوا مع أعداء، فيكون قوله في آخر البيت الأخير: فمات الصديق ومات العدو مطابقاً لأول الأول. ست وخمسين ومائتين كان صالح بن وصيف التركي قد ارتفعت منزلته، وقتل المعتز وظفر بأمه، فصادر حتى استصفى نعمتها، وأخذ منها نحو ثلاثة آلاف ألف دينار، ونفاها إلى مكة، ثم صادر خاصة المعتز وكتابه، وقتل بعضهم. فلما دخلت السنة المذكور أقبل موسى بن بغا وعبأ جيشه، ودخلوا سامراء ملبسين مجمعين على قتل صالح بن وصيف، وهم يقولون: قتل المعتز وأخذ أموال أمه وأموال الكتاب. وصاحت العامة: يا فرعون، جاءك موسى. ثم هجم بمن معه على المهتدي وأركبوه فرساً، وانتهبوا القصر، ثم أدخلوا المهتدي دار ناجور " بالنون والجيم والراء على ما ضبطه في الأصل المنقول منه "، وهو يقول: يا موسى، ويحك ما تريد؟ فيقول: وتربة المتوكل لا ينالك سوء. ثم حلفوه لا يمالىء صالح ابن وصيف عليهم، وبايعوه فطلبوا صالحاً ليناً، ظروه على أفعاله فأخرج، وردوا المهتدي إلى داره، وبعد شهر قتل صالح.

وفي رجب قتل المهتدي بالله أمير المؤمنين محمد بن الواثق بالله هارون بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي. وكانت دولته سنة، وعمره نحو ثمان وثلاثين سنة. وكان مليح، الصورة ورعاً تقياً متعبداً عادلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الخير. وقيل: إنه سرد الصوم مدة أمرته، وكان يقنع بعض الليالي بخبز وخل، وزيت، وكان يشبه بعمر بن عبد العزيز، وورد أنه كان له جبة صوف وكساء يتعبد، فيهما لله، وكان قد سد باب الملاهي والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم. وكان يجلس بنفسه، لعمل حساب الدواوين، ثم إن الأتراك خرجوا عليه، فلبس السلاح وشهر سيفه وحمل عليهم فأسروه وخلعوه، ثم قتلوه إلى رحمة الله، وأقاموا بعده المعتمد على الله. وفيها توفي أبو عبد الله الزبير المعروف بابن بكار القرشي الأسدي الزبيري كان من أعيان العلماء، تولى قضاء مكة، وصنف الكتب النافعة منها " كتاب أنساب قريش " جمع فيه كثيراً، وعليه إعتماد الناس في معرفة أنساب القرشيين. وله مصنفات غيره دلت على فضله واطلاعه. روى عن ابن عيينة ومن في طبقته، وروى عنه ابن ماجة القزويني وابن أبي الدنيا وغيرهما، وتوفي بمكة وهو قاض عليها وعمره أربع وثمانون سنة. وفي ليلة عيد الفطر منها توفي البخاري الحافظ الإمام قدوة الأنام وعالي المقام جامع أصح الكتب المصنفة في السنن والأحكام، إمام المحدثين وشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزية البخاري مولى الجعفيين صاحب الجامع الصحيح وغيره من التصانيف، ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ورحل سنة عشرة ومائتين، فسمع مكي بن إبراهيم وأبا عاصم النبيل وخلائق عدتهم ألف شيخ، وكتب بخراسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد فاجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية. وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " والخطيب في " تاريخ بغداد " البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأعدوا له مائة حديث، متونها وأسانيدها، وجعلوا متن كل واحد لإسناد آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل واحد عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وعين الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خرسان وغيرها. ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أو قال: ابتدر واحد لعشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحد بعد واحد حتى فرغ من عشرة، ثم كذلك كل واحد من العشرة جعلوا يسألونه عن الأحاديث المذكورة واحد بعد واحد والبخاري يقول: لا

سبع وخمسين ومائتين

أعرفه. وكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعضهم، ويقولون: الرجل منهم. وما كان منهم ضد ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وأما الثاني فهو كذا، وكذلك الثالث والرابع وباقي أحاديثه إلى تمام العشرة على الولاء، يرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه. ثم كذلك فعل بكل واحد من التسعة حتى رتب المائة جميعها كل واحد منها في موضعه إسناداً ومتناً، فأقر له الناس بالحفظ فاعترفوا له بالفضل. وكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكيس النطاح. ونقل الفربري عنه أنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وعنه أنه قال: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى أن سنن أبي داود خرجها من خمس مائة ألف حديث. وقال الفربري: سمع صحيح البخاري يعني عليه تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري. وممن روى عنه أبو عيسى الترمذي. وكانت ولادة البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة، وقيل اثنتي عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة. وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر، رحمة الله عليه ورضوانه. سبع وخمسين ومائتين فيها وثب العلوي قائد الزنج والسودان على الأيلة، فاستباحها وأحرقها، وقتل بها نحو ثلاثين ألفاً، فساق العسكر لحربه سعيد لحاجب فالتقوا فانهزم سعيد واستحر القتل بأصحابه، ثم دخلت الزنج البصرة، وخربوا الجامع، وقتلوا بها اثني عشر ألفاً، وهرب باقي أهلها بأسوأ حال فخربت. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ المعمر أبو علي الحسن بن عرفة العبدي البغدادي المؤذن، وله مائة وسبع سنين. " والحافظ " زهير بن محمد المروزي ثم البغدادي كان من أولياء الله، قال البغوي: ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل منه، كان يختم في رمضان تسعين ختمة رحمة الله عليهم. وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أبو سعيد الأشجع الكندي الكوفي.

ثمان وخمسين ومائتين

ثمان وخمسين ومائتين فيها توفي الإمام أبو جعفر الباقي اليامي قاضي الكوفة ثم قاضي همدان، وكان صالحاً عادلاً في أحكامه، وكان يسمى راهب الكوفة بعبادته. وفيها توفي الحافظ أحمد بن الفرات أحد الأعلام، صنف المسند والتفسير وقال: كتبت ألف ألف حديث وخمسمائة ألف حديث. وفيها توفي الإمام الحافظ أحد الأعلام محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، سمع عبد الرحمن بن مهدي وطبقته، وأكثر الترحال، وصنف التصانيف، وكان الإمام أحمد يجله ويعظمه، وقال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه. وفيها توفي الشيخ العارف بحر الحكم والمعارف واعظ عصره وحكيم زمانه بحيى بن معاذ الرازي، ومن كلامه: كيف يكون زاهداً من لا ورع له. تورع عما ليس لك ثم أزهد في مالك. وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة. وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل الجليل من العطاء. وفي هذا المعنى قلت: جليل العطايا في دقيق التورع ... فدقق تنل عالي المقام المرفع وتسلم من المحظور في كل حالة ... وتغنم من الخيرات في كل موضع وتحمد جميل السعي بالفوز في غد ... فسارع إليه اليوم مع كل مسرع ولا تك مثلي وابناً متخلقاً ... لجوهر عمر عن شر مضيع تسع وخمسين ومائتين فيها استفحل أمر يعقوب بن الليث الصفار، واستولى على اقليم خراسان وأسر محمد بن طاهر أمير خراسان، وفيها توفي الإمام الحافظ محمد بن يحيى الأسفرائني شيخ الحافظ أبي عوانة. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن موسى بن شاكر أحد الإخوة الثلاثة الذين ينسب إليهم حيل بني موسى، وهم مشهورون بها، وأسماء إخوانه أحمد والحسن، وكانت لهم إليهم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل. وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وكان الغالب عليهم من علوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وهو الأقل. ولهم في الخيل كتاب عجيب نادر، يشتمل على كل غريبة، وهو مجلد واحد، وصفه ابن خلكان بكونه ممتعاً، ومما اختصوا به في ملة الإسلام، وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وإن كان

ستين ومائتين

أرباب الأرصاد المتقدمون قد فعلوه، لكنه لم ينقل أن أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله الأهم، وهو ما سيأتي ذكره في ترجمة الصولي في سنة خمس وثلاثين وثلاث مائة، وهو إيضاح مساحة كرة الأرض أربعة وعشرين ألف ميل استخراجاً من ارتفاع القطب، وكون كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثا ميل بالعمل، ومشيهم في الأرض المستوية في جهة الشمال، كما سيأتي واضحاً في السنة المذكورة إن شاء الله تعالى. ستين ومائتين فيها صال يعقوب بن الليث، وجال، وهزم الشجعان والأبطال، وترك الناس بأسوأ حال. ثم قصدا الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان، فالتقوا فانهزم العلوي، وتبعه يعقوب في تلك الجبال، فنزل على أصحاب يعقوب بلاء سماوي نزل عليهم ثلج عظيم أهلكهم، مات فيه أربعون ألفاً، فذهب عامة خيله وأمواله. وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني الفقيه الحافظ صاحب الإمام الشافعي. روى عن ابن عيينة، وطبقته مثل وكيع بن الجراح ويزيد بن هارون، وروى عنه البخاري في صحيحه وأبو داود السجستاني والترمذي وغيرهم. والزعفراني بفتح الزاي وسكون العين المهملة وفتح الفاء والراء نسبة إلى الزعفرانة وهي قرية بقرب بغداد. ودرب الزعفراني في بغداد منسوب إلى الإمام المذكور، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: وفيه مسجد الشافعي، وهو المسجد الذي كنت أدرس فيه، ولله الحمد والمنة، يعني في درب الزعفراني، وكان الزعفراني: يتولى كتب الشافعي، وهو أحد رواة أقواله القديمة. ورواتها أربعة هو والإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور والكرابيسي ورواة أقواله الجديدة ستة، المزني والبويطي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي، وكان الزعفراني من أذكياء العلماء، وبرع في الفقه والحديث، وصنف فيها كتباً، ولزم الإمام الشافعي حتى بحر وسار ذكره في الآفاق. وفيها توفي الشريف العسكري أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر الصادق، أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر عندهم صاحب السرداب، ويعرف بالعسكري، وأبوه أيضاً يعرف بهذه النسبة. توفي في يوم الجمعة سادس ربيع الأول، وقيل ثامنه. وقيل غير ذلك من السنة المذكورة، ودفن بجنب قبر أبيه بسر من رأى، وقد تقدم ذكر سبب هذه النسبة. وفيها توفي حنين بن إسحاق العبادي الطبيب المشهور، كان إمام وقته في صناعة

إحدى وستين ومائتين

الطب، وكان يعرف لغة اليونانيين معرفة تامة، وهو الذي عرب كتاب إقليدس، ونقله من لغة اليونانيين إلى لغة العرب، ثم نقحه ثابت بن قرة، وهذبه كما تقدم في ترجمته، وكذلك كتاب المجسطي، وأكثر كتب الحكماء والأطباء كانت بلغة اليونانيين، فعربت، وكان حنين المذكور أشد اعتناء بتعريبها من غيره، وعرب غيره أيضاً بعض الكتب، ولولا ذلك التعريب لما انتفع أحد بتلك الكتب، لعدم المعرفة بلسان اليونان. لا جرم، كل كتاب لم يعربوه باق على حالا لا ينتفع به إلا من عرف تلك اللغة، وكان المأمون مغرياً بتعريبها وتحريرها وإصلاحها، ومن قبله جعفر البرمكي وجماعة أهل بيته أيضاً، لهم بها اعتناء. لكن عناية المأمون كانت أتم وأوفر، ولحنين المذكور مصنفات في الطب مفيدة. قال ابن خلكان: ورأيت في كتاب أخبار الأطباء أن حنيناً كان في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام، فيصب على رأسه الماء، ويخرج فيلتف قطيفة، ويشرب قدح شراب يعني من شراب الفساق ويأكل كعكة، ويتكىء حتى ينشف عرقه وربما نام ثم يقوم ويتبخر، ويقدم له طعام فروج كبير مسمن، قد طبخ بزبرباج، ورغيف وزنه مائتا درهم، فيحس من المرقة، ويأكل الفروج والخبز وينام. فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شراباً عتيقاً يعني من الشراب المصحح للأبدان الهادم للأديان فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي والسفرجل، وكان ذلك دأبه إلى أن مات. إحدى وستين ومائتين فيها توفي الحافظ أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي، نزيل طرابلس المغرب صاحب التاريخ والجرح والتعديل. وفيها توفي أبو شعيب السوسي صالح بن زياد مقرىء أهل الرقة وعالمهم، قرأ على يحيى اليزيدي، وروى عن عبد الله بن نمير وطائفة، وتصدر للإقراء، وحمل عنه طائفة. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير صاحب المقام العالي المشكور والحال الحالي المشهور أبو يزيد المسمى بطيفور بن عيسى، ذو الفضل السامي الفتى المعروف بالبسطامي، قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ قال ببطن جائع، وبدن عار. وقيل: ما أشد ما لقيته في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه. فقيل: ما أهون ما لقيت نفسك منك. فقال: أما هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجب، فمنعتها الماء سنة. وكان يقول: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهوى، فلا تعتبروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة. وله مقالات علية، وكرامات سنية، ومجاهدات عظيمة، وشيم كريمة. توفي سنة إحدى، وقيل أربع وستين ومائتين.

وبسطام بفتح الموحدة وسكون السين وبالطاء المهملتين وبعد الألف ميم بلدة مشهورة من أعمال قومس. ويقال أنه أول بلاد خراسان من جهة العراق والله أعلم ومن جلالته وعظم هيبته قضية مشهورة مع الشاب الذي قال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد وقد ذكرتها في غير هذا الكتاب ومختصرها أنه لما رآه وقد خرج من غيضة مات الشاب، فقال أبو تراب لأبي يزيد: قتلت صاحبنا. فقال: لا، بل كان صاحبكم صادقاً، وكان مستوراً عنه حاله، فلما رآنا تجلى له حاله في مرآتنا، فلم يطق حمل بطاقة فمات. فقال أبو يزيد: أقمت في الزهد ثلاثة أيام، زهدت في اليوم الأول في الدنيا، وزهدت في اليوم الثاني في الآخرة، وزهدت في اليوم الثالث فيما سوى الله تعالى. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، أحد أركان الحديث، وصاحب الصحيح وغيره. ومناقبه مشهورة، وسيرته مشكورة. رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل. وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهم، وقدم بغداد غير مرة، وروى عنه أهلها، وروي عنه أنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقد اختلف أئمة الحديث المتأخرون في تفضيل الصحيحين، فالأكثرون منهم فضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم، وبعضهم فضلوا صحيح مسلم، حتى قال أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. قلت: والمعروف أن كتاب البخاري أفقه، وكتاب مسلم أحسن سياقاً للروايات. وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه، وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري بنيسابور أكثر مسلم من الإختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ نادى عليه، ومنع الناس من الإختلاف إليه حتى هجر وخرج من نيسابور. في تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً لم يرجع عنه. فقال: في مجلسه إلا من قال باللفظ: فلا يحل له أن يحضر مجلسنا. وأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه. وجمع كل ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخفف عنه وعن زيارته.

اثنتين وستين ومائتين

اثنتين وستين ومائتين فيها لما عجز المعتمد على الله عن يعقوب بن الليث، كتب إليه بولاية خراسان وجرجان، فلم يرض يوافي باب الخليفة، وأضمر في نفسه الإستيلاء على العراق. وخاف المعتمد، فتحول عن سامراء إلى بغداد، وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس، فنزل واسط، فتقدم المعتمد، وقصده يعقوب، وقدم المعتمد أخاه الموفق يجهز الجيش، فالتقيا في رجب. واشتد القتال فوقعت الهزيمة على الموفق، ثم ثبت وشرعت الكسرة على أصحاب يعقوب، فولاه الأدبار واستبيح عسكرهم. وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف، وخلصوا محمد بن طاهر الذي كان مع يعقوب في القيود، ودخل يعقوب إلى فارس، وخلع المعتمد على محمد بن طاهر أمير خراسان، ورده على عمله وأعطاه خمسمائة ألف درهم. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أحد الأعلام يعقوب بن شيبة الدوسي، صاحب المسند المعلل الذي ما صنف أحد أكبر منه، ولم يتمه. ثلاث وستين ومائتين فيها توفي الحافظ محمد بن علي بن ميمون الرقي العطار. قال الحاكم: كان إمام أهل الجزيرة في عصره. والحسن بن أبي الربيع الجرجاني الحافظ. والوزير عبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل. أربع وستين ومائتين وفيها أغارت الزنج على واسط، وهرب أهلها حفاة عراة، ونهبت ديارهم، وأحرقت فسار لحربهم الموفق. وفيها غزا المسلمون الروم، وكانوا أربعة آلاف عليهم ابن كافور فلما نزلوا بعض المنازل تبعهم البطارقة وأخدقوا بهم، فلم ينج منهم إلا خمسمائة، واستشهد الباقون. وفيها توفي أحمد بن يوسف السلمي النيسابوري الحافظ. كان ممن رحل إلى اليمن، وأكثر عن عبد الرزاق وطبقته، وكان يقول: كتبت عن عبد الله بن موسى ثلاثين ألف حديث.

وفيها توفي أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم القرشي مولاهم الرازي الحافظ، الأئمة الأعلام، في آخر يوم من السنة. رحل وسمع من أبي نعيم والقعنبي وطبقتهما. قال أبو حاتم: لم يخلف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانة وصدقاً. وهذا ممن لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله. وقال إسحاق بن راهويه: " حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل. وفيها توفي الإمام أبو موسى يونس بن عبد الأعلى المصري الفقيه المقرىء المحدث. روى عن ابن عيينة وابن وهب، وتفقه على الشافعي، وأخذ عنه الحديث. وكان الشافعي يصف عقله ويقول: ما رأيت بمصر أعقل منه، وقرأ القرآن على ورش، وتصدر للإقراء والفقه، وكان ورعاً صالحاً عابداً كبير الشأن، وروى القراءة عنه من الأئمة جماعة منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري الإمامان الجليلان وغيرهما وكان محدثاً جليلاً من أفاضل أهل زمانه، وكان من العقلاء، ذكر ذلك عنه أبو عبد الله القضاعي، وروى غير القضاعي أن يونس روى عنه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري، وأبو عبد الرحمن النيسابوري، وأبو عبد الله بن ماجة وغيرهم من أئمة الحديث الكبار. وقال قاضي مصر محمد بن الليث: لما عزم القاضي بكار لما ولي، وقد استشاره في من يشاوره عليك برجلين: أحدهما عاقل وهو يونس بن عبد الأعلى، فإني سعيت في دمه، فقدر فحقن دمي. والآخر أبو هارون موسى بن عبد الرحمن بن القاسم، فإنه رجل زاهد، فقال بكار: صف لي الرجلين، فوصفهما، فلما دخل مصر ودخل عليه الناس عرفهما فرفهما وقيل: إن موسى المذكور اختص به القاضي بكار، وكان يتبرك به لزهده، فقال له يوماً: أبا هارون، من أين المعيشة؟. فقال: من وقف وقفه أبي، فقال له بكار: يكفيك، قال: تكفيت به. وقال: قد سألني القاضي فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دين بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء؟ قال: لا. قال: فهل رزق ولداً أحوجه إلى ذلك قال: لا، ما نكحت قط. قال: فلك عيال كثير؟. قال: لا، قال: فهل أجبرك السلطان وعرض عليك العذاب وخوفك؟ قال: لا. قال: فضربت آباط الإبل من البصرة لغير حاجة ولا ضرورة. قال: لله علي، لا دخلت عليك أبداً، فقال: يا أبا هارون، أقلني، قال: أنت بدأت بالمسألة ولو سكت لسكت، ثم انصرف عنه ولم يعد إليه بعدها. وقال يونس: قال لي الشافعي: دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس.. وتوفي يونس بمصر، ودفن بالقرافة.

خمس وستين ومائتين

وفيها توفي الفقيه الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري الشافعي. وكان زاهداً عابداً مجتهداً محجاجاً غواصاً على المعاني الدقيقة، اشتغل عليه خلق كثير، وقال الشافعي في صفة المزني: ناصر مذهبي. وهو إمام الشافعيين وأعرفهم بطريق الشافعي وفتاواه وما ينقله عنه. صنف كتباً كثيرة منها: " الجامع الكبير "، و " الجامع الصغير "، و " مختصر المختصر "، و " المنثور "، و " المسائل المعتبرة "، و " الترغيب في العلم "، " وكتاب الوثائق "، وغير ذلك. وكان إذا فرغ من مسألة وأودعها مختصره قام إلى المحراب، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى. وقال أبو العباس بن شريح: يخرج مختصر المزني من الدنيا عذراء لم تفتض. وهو أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا وبكلامه فسروا وشرحوا. ولما ولي القضاء بكار بن قتيبة بمصر، وجاءها من بغداد، وكان حنفي المذهب، توقع الإجتماع بالمزني مئة فلم يتفق، واجتمعا يوماً في صلاة جنازة فقال القاضي بكار لبعض أصحابه: سل المزني شيئاً حتى أسمع كلامه، فقال له ذلك الشخص: يا أبا إبراهيم، قد جاء في الحديث تحريم النبيذ، وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل؟. فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراماً في الجاهلية ثم حلل، ووقع الإتفاق على أنه كان حلالاً، فهذا يعضد صحة الأحاديث بالتحريم، فاستحسن ذلك منه وقيل: وهذا من الأدلة القاطعة. وكان في غاية من الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب في جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له في ذلك فقال: بلغني أنهم يستعملون السرجين في الكيزان، والنار لا بطهر ذلك، وقيل: إنه إذا كان فاته الصلاة في جماعة، صلى منفرداً خمساً وعشرين صلاة استدراكاً لفضيلة الجماعة، مستنداً في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة "، وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة، وكان مجاب الدعوة، ولم يكن أحد من أصحاب الشافعي يحدث نفسه قدم عليه في شيء من الأشياء، وهو الذي تولى غسل الشافعي، وقيل: كان معه أيضاً الربيع، ومناقبه كثيرة. والمزني نسبة إلى مزينة بنت كلب، وفاته لست بقين من رمضان، ودفن بالقرب من تربة الشافعي بالقرافة الصغرى رحمة الله عليهما. خمس وستين ومائتين فيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو حفص الحداد النيسابوري، شيخ

خراسان. كان كبير الشأن صاحب أحوال وكرامات وسمو في المقامات، وكان عجباً في الجود والسماحة. ويقول: ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء، أو لمحه بقلبه. وقد نفد مرة بضعة عشر ألف دينار يستفك بها أسارى، وبات وليس له عشاء، ومن كلامه: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن. والفتوة أداء الإنصاف، وترك مطالبة الإنتصاف. وقال: من لم يزن أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال. وفيها توفي محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقبه الرافضة بالحجة وبالقائم وبالمهدي وبالمنتظر، وبصاحب الزمان. وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب، وهو عندهم خاتم الأثني عشر الإمام. وضلال الرافضة ما عليه مزيد، فإنهم يزعمون أنه داخل السرداب الذي بسر من، رأى، وأمه تنظر إليه، فلم يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين، وقيل ست وخمسين ومائتين وهو الأصح، فاختفى إلى الآن، وكان عمره لما عدم تسع سنين، وقيل أربع سنين، وقيل غير ذلك في سنه، وفي السنة التي عدم فيها. وهم ينتظرون ضالته منذ خمس مائة سنة، وما وجدوها ولا يجدونها. قلت: والمهدي الذي وردت به الأخبار، اسمه محمد بن عبد الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: " يواطي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي "، وقد أوضحت فساد مذهبهم، وما هم عليه من الضلالة والخرافات والمحال في " كتاب المرهم في علم الأصول ". وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة محمد بن سحنون المغربي المالكي، مفتي القيروان، تفقه على أبيه، وكان بارعاً مناظراً كثير التصانيف، معظماً بالقيروان، خرج له عدة أصحاب، وما خلف بعده مثله. وفيها توفي يعقوب بن الليث الصفار الذي غلب على بلاد المشرق، وهزم الجيوش. وقام بعده أخوه عمرو بن ليث، وكانا شابين صفارين فيهما شجاعة مفرطة، فصحبا صالح بن النضر الذي كان يقاتل الخوارج بسجستان، فآل أمرهما إلى الملك، ولما مات يعقوب قام بعده أخوه بالعدل والدخول في طاعة الخليفة، وامتدت أيامه. وكان موت يعقوب بالقولنج. وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين. وقيل أن الطبيب قال: لا دواء لك إلا الحقنة، فامتنع منها وخلف أموالاً عظيمة من الذهب ألف ألف دينار ومن المراهم خمسين، ألف درهم.

ست وستين ومائتين

ست وستين ومائتين فيها توفي الحافظ أحد أذكياء المحدثين أبو إسحاق إبراهيم بن أرومة الأصفهاني. وفيها توفي محمد بن شجاع فقيه العراق، وشيخ الحنفية. تفقه بالحسن بن زياد اللؤلؤي، وصنف واشتغل، وتوفي ساجداً في صلاة العصر، وله نحو من تسعين سنة، رحمة الله عليه. سبع وستين ومائتين فيها برز قائد الزنج في ثلاثمائة ألف فارس وراجل، والمسلمون في خمسين ألفاً، وفصل النهر بين الجيشين، فلم يقع بينهم واقعة. وكان قبل ذلك قد هزم الموفق الزنج وقائدهم العلوي غائب عنهم فلما جاءته الأخبار بهزيمة جنوده إختلف إلى الكنيف مراراً وتقطعت كبده. وفيها توفي يحيى بن محمد بن عبد الله الذهلي الحافظ شيخ نيسابور بعد أبيه، وكان أمير المطوعة المجاهدين. وفيها توفي الحافظ أبو بشر إسماعيل بن عبد الله العبدي الأصفهاني. ثمان وستين ومائتين فيها توفي الحافظ أبو الحسن أحمد بن سيار المروزي، مصنف تاريخ مرو، وكان يشبه في عصره بابن المبارك علماً وزهداً، وكان صاحب وجه في مذهب الشافعي، أوجب الأذان للجمعة، والحافظ عيسى بن أحمد العسقلاني. وفيها توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري مفتي الديار المصرية، تفقه بالشافعي وأشهب، وروى عن ابن وهب وغيره من أصحاب الإمام مالك، فلما قدم الإمام الشافعي مصر، صحبه وتفقه عليه، وحمل في المحنة إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي في بغداد، فلم يجب إلى ما طلب منه، فرد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة بها. روى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننه. وقال المزني: قال الشافعي: رددت لو أن لي ولداً مثله وعلي ألف دينار لا أجد لها قضاء. وحكى عن محمد المذكور قال: كنت أتردد إلى الشافعي، فاجتمع قوم من أصحابنا

تسع وستين ومائتين

إلى أبي، وكان على مذهب مالك، فقالوا:. يا أبا محمد، إن محمداً ينقطع إلى هذا الرجل، ويتردد إليه الناس، إن هذا رغبة عن مذهب أصحابنا، فجعل أبي يلاطفهم ويقول: هو حدث، ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول: لي في السر: يا بني، الزم هذا الرجل، فإنك لو جاوزت هذا البلد فتكلمت في مسائل، فقلت فيها: قال أشهب، لقيل لك من أشهب. قال: فلزمت الشافعي، فلما قدمت بغد، قلت في مسألة: قال أشهب عن مالك، فقال القاضي بحضرة جلسائه كالمنكر: ما أعرف أشهب قال: ابن خزيمة، ما رأيت أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين منه. وقال غيره: له مصنفات كثيرة. تسع وستين ومائتين توفي إبراهيم بن منقذ الخولاني المصري صاحب ابن وهب وتوفي الأمير عيسى بن شيخ الذهلي، وكان قد ولي دمشق، فأظهر الخلاف، وأخذ الخزائن، وغلب على دمشق، فجاء عسكر المعتمد، فالتقاهم ابنه ووزيره، فهزموا، فقتل ابنه، وصلب وزيره، وهزم عيسى، ثم استولي على آمل وديار بكر مدة. سبعين ومائتين فيها التقى المسلمون وقائد الزنج الخبيث، واجتمع مع الموفق نحو ثلاث ألف مقاتل، فالتقى الخبيث إلى جبل، ثم تراجع هو وأصحابه إلى مدينتهم، فحاربهم المسلمون فانهزم الخبيث وأصحابه، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، ثم استقبل هو وفرسانه، وحملوا على الناس فأزالوهم، فحمل عليه الموفق والتحم القتال، فإذا بفارس قد أقبل ورأس الخبيث في يده، فلم يصدقه الموفق، فعرفه جماعة من الناس، فحينئذ ترتجل الموفق وابنه المعتضد والأمراء، فخروا سجداً لله، وكبروا، وسار الموفق فدخل بالرأس بغداد، وعملت القباب " بالموحدة أو قال القنان بالنون " وكان يوماً مشهوداً، وشرعوا يتراجعون الأمصار التي أخذها الخبيث. وكانت أيامه خمس عشرة سنة، قال بعض المؤرخين: قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مائة ألف، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان الخبيث خارجياً يسب عثمان وعلياً ومعاوية وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وقيل كان زنديقاً يتستر بمذهب الخوارج.

وفي السنة المذكورة توفي أمير الديار المصرية والشامية: أبو العباس أحمد بن طولون، وكان له أربعة عشر ألف مملوك، وكان كريماً جواداً شجاعاً مهيباً حازماً لبيباً، كان المعتز بالله قد ولاه مصر، ثم استولي على دمشق والشام أجمع وأنطاكية والثغور في مدة استعمال الموفق ابن المتوكل، وكان نائباً عن أخيه المعتمد على الله. وكان ابن طولون المذكور حسن السيرة ناقد البصيرة، يباشر الأمور بنفسه، ويعمر البلاد، ويتفقد أحوال الرعايا، ويصلح الفساد، ويحب أهل العلم ويحسن فيهم الإعتقاد. وكانت له مائدة يحضرها الخاص والعام في كل يوم من الأيام، وكان له في كل شهر ألف دينار للصدقة، فقال له وكيله: تأتيني المرأة وعليها الإزار وفي يدها خاتم الذهب، فتطلب مني فأعطيها، فقال، من مد يده إليه فاعطه، قال القضاعي: وكان طائش السيف، فأحصي من قتله صبراً ومن مات في سجنه، فكان عددهم ثمانية عشر ألفاً، وكان يحفظ القرآن الكريم، وكان كثير التلاوة حسن الصوت، وكان أبوه من مماليك المأمون. ملك أبو العباس المذكور الديار المصرية ست عشرة سنة، وبنى الجامع المنسوب إليه بين القاهرة ومصر في سنة تسع وخمسين ومائتين، على ما حكاه الفرغاني. وذكر القضاعي أنه شرع في عمارته في سنة أربع وستين، وفرغ منه في ستة وستين ومائتين، وأنفق على عمارته مائة ألف وعشرين ألف دينار، على ما حكاه بعضهم. وطولون بسكون الواوين وضم اللام بينهما والطاء المهملة وفي آخره نون وهو اسم تركي. وفيها توفي أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي مولاهم المؤذن المصري، صاحب الإمام الشافعي، روى أكثر كتبه القائل في حقه الشافعي: الربيع راويتي. وقال: ما أخذ مني أحد ما أخذ مني الربيع. وكان يقول له: يا ربيع، لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك. وحكى الخطيب في تاريخه قال الربيع بن سليمان المرادي: كنا جلوساً بين يدي الشافعي، أنا والبويطي والمزني، فنظر إلى البويطي وقال: ترون هذا، إنه لن يموت إلا في الحديدة، ثم نظر إلى المزني فقال: ترون هذا، أما أنه سيأتي عليه زمان لا يفسر شيئاً فيخبطه، ثم نظر إلي وقال: إنه ما في القوم أحد أنفع لي منه، ولوددت أني حسوته العلم. وفي رواية أخرى أنه قال لإبن عبد الحكم: وأما أنت يا فلان، فسترجع إلى مذهب مالك، والربيع هذا آخر من روى عن الشافعي بمصر، توفي في عشرة المائة، وكان إماماً ثقة صاحب حلقة بمصر. قال ابن خلكان: رأيت بخط الحافظ عبد العظيم المنذري شعراً للربيع

المذكور وهو: صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا من خشي الله لم ير له أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا وفيها توفي أبو محمد الربيع بن سليمان الجيزي صاحب الإمام الشافعي، لكنه كان قليل الرواية عنه، وكان ثقة. روى عنه أبو داود والنسائي. وتوفي في ذي الحجة من السنة المذكورة بالجيزة، وقبره بها كذا قاله القضاعي. وفيها توفي داود بن علي الفقيه، الإمام الأصبهاني الظاهري صاحب التصانيف، سمع القعنبي وسليمان بن حرب وطبقتهما، وتفقه على أبي ثور وابن راهوية وكان زاهداً وناسكاً متقللاً كثير الورع، وكان من كثر الناس تعصباً للإمام الشافعي، وصنف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقل بنفسه، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية. وكان ولده أبو بكر على مذهبه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وقيل: كان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، قال داود: حضر مجلسي يوماً أبو يعقوب البويطي، وكان من أهل البصرة، وعليه أخرقتان، فتصدر لنفسه من غير أن يجلسه أحد، وجلس إلي جانبي وقال: سل عما بدا لك؟. فكأني أغضبت منه فقلت له مستهزئاً: أسألك عن الحجامة، فبرك، ثم روى طريق " أفطر " الحاجم والمحجوم ومن أرسله ومن أسنده ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء. وروى اختلاف طريق احتجام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراً، ما لم يعطه. وروى بطريق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم بقرن، وذكر الأحاديث الصحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة. مثل: ما مررت بملأ من الملائكة، ومثل: شفاء أمتي في ثلاث، وذكر الأحاديث الضعيفة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا. ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطب من الحجامة في كل زمان، وما ذكروه فيها، ثم ختم كلامه بأن قال: أول ما خرجت الحجامة من أصفهان. فقلت له: والله لا أحقرن بعدك أحداً أبداً. وكان داود من عقلاء الناس، قال أبو العباس ثعلب في حقه: كان عقل داود كثر من علمه. وتوفي في ذي القعدة، وقيل في شهر رمضان، وقال ولده أبو بكر: رأيت أبي في المنام فقلت: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي وسامحني. فقلت: غفر لك، فبم سامحك. فقال: يا بني، الأمر عظيم، والويل كل الويل لمن لم يسامح. وفيها توفي محمد بن إسحاق الصاغاني البغدادي الحافظ الحجة.

إحدى وسبعين ومائتين

وفيها توفي القاضي بكار بن قتيبة الثقفي، يرجع في نسبه إلى الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي، كان بكار حنفي المذهب، تولى القضاء بمصر، وله مع ابن طولون صاحب مصر وقائع، وكان يدفع إليه كل سنة ألف دينار، غير المقرر له، فيتركها بختمها، ولا يتصرف فيها، فدعاه إلى خلع الموفق ابن المتوكل من ولاية العهد، وهو والد المعتضد، فامتنع القاضي بكار من ذلك، فاعتقله ابن طولون، ثم طالبه بجملة المبلغ الذي كان يأخذه كل سنة، فحمله إليه بختمه، وكان ثمانية عشر كيساً، فاستحيي أحمد منه، وكان يظن أنه أخرجها، وأنه يعجز عن القيام بها، فلهذا طالبه، وأمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري، ففعل وجعله كالخليفة له، وبقي مسجوناً مدة سنين، وكان يحدث في السجن من طاق فيه، بعد أن استأذن أصحاب الحديث، وشكوا إلى ابن طولون انقطاع السماع، وكان ابن بكار أحد البكائين والتالين لكتاب الله عز وجل، وكان إذا فرغ من الحكم حاسب نفسه، وعرض عليه القصص التي حكم فيها، ويقول: يا بكار ما يكون جوابك غداً؟. وتوفي مسجوناً وهو باق على القضاء رحمة الله عليه. إحدى وسبعين ومائتين كان ابن طولون قد خلع الموفق من ولاية العهد ومات، وقام بعده ابنه خمارويه على ذلك، فجهز الموفق ولده أبا العباس المعتضد في جيش كثير، وولاه مصر والشام. فسار حتى نزل بفلسطين، وأقبل خمارويه، فالتقى الجمعان بفلسطين، وحمي الوطيس، حتى جرت الأرض بالدماء، ثم انهزم خمارويه إلى مصر، ونهبت خزائنه، وكان سعد الأعسر كميناً لخمارويه، فخرج على المعتضد وجيشه، وهم غازون، فأوقعوا به، فانهزموا حتى وصلوا طرسوس في نفر يسير، وذهبت أيضاً خزائنه، حواها سعد وأصحابه. وفي السنة المذكورة توفي عباس بن محمد الحافظ أبو الفضل مولى بني هاشم. ومحمد بن حماد الظهراني الرازي الحافظ. ويوسف بن سعيد الحافظ محدث المصيصة. وفيها توفيت بوران بنت الحسن بن سهل، زوجة المأمون، وقد تقدم ذكر زواجها منه، وما عمل أبوها من الولائم والنثار والإنفاق في عرسها في سنة اثنتين ومائتين، ولم تزل

اثنتين وسبعين ومائتين

في صحبة المأمون إلى أن توفي عنها سنة ثمان عشرة ومائتين، وعاشت بعده إلى إحدى وسبعين ومائتين، وعمرها ثمانون سنة. اثنتين وسبعين ومائتين فيها توفي الحافظ أبو معين الرازي، الحسين بن الحسن. والحافظ سليمان بن يوسف محدث حران وشيخها. وأبو معشر المنجم، وكان بارعاً في فنه ماهراً فيه. وله عدة تصانيف، وكانت له إصابات عجيبة. حكي أنه كان متصلاً بخدمة بعض الملوك، وأن ذلك الملك طلب رجلاً من أكابر دولته ليعاقبه، فاستخفى، وعلم أن المنجم المذكور يدل عليه بالطريق الذي يستخرج به الخبايا، فأراد أن يعمل شيئاً لا يهتدي إليه، فأخذ طشتاً وعمل فيه دماً، وجعل في الدم هاون ذهب. وقعد على الهاون أياماً. وبالغ في طلبه الملك، فلم يجده، وعند العجز أحضر المنجم وسأله عن موضعه، فعمل العمل الذي يستخرج به في العادة، وسكت زماناً حائراً، فقال له الملك: ما سبب سكوتك وحيرتك. قال: أرى شيئاً عجباً، قال: وما هو؟ قال: أرى المطلوب على جبل من ذهب، والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعاً على هذه الصفة. فقال له: أعد نظرك وجد، فأخذ الطالع، وفعل ثم قال: ما أراه إلا كما ذكرت. فلما أيس الملك من القدرة عليه بهذه الطريق، ناس في البلد بالأمان للرجل ولمن أجاءه. فلما وثق بأمانه ظهر وحضر، فسأله عن الموضع الذي كان فيه، فأخبره، فأعجبه حسن احتياله، ولطافة المنجم في استخراجه والفقيه الأديب الأوحد، أحد أوعية العلم محمد بن عبد الوهاب العبدي النيسابوري. والحافظ محمد بن عوف الطائي محدث حمص. وفيها توفي سليمان بن وهب، كان شاعراً بليغاً مرسلاً فصيحاً، وله ديوان رسائل، وقد مدحه أبو تمام والبحتري، وحكي أنه بلغه يوماً أن الواثق نظر إلى أحمد بن الخطيب الكاتب فأنشد: من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليحان لو شاءا لقد صدقاني خليلي أما أم عمر فإنها ... وأما عن الأخرى فلا تسألاني فقال أحمد بن الخصيب بن عمرو، وأما الآخر فأنا. وكذلك كان. فإنه يكتبهما بعد أيام، ولما تولى سليمان بن وهب الوزارة وقيل تولاها ابنه عبد الله بن سليمان، كتب إليه عبد الله بن عبد الله بن طاهر:

ثلاث وسبعين ومائتين

أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن تحب وتعظم فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم ثلاث وسبعين ومائتين فيها توفي حنبل بن إسحاق أبو علي الحافظ ابن عم الإمام أحمد وتلميذه. والحافظ الكبير محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، صاحب السنن والتفسير والتاريخ. كان إماماً في الحديث، عارفاً بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث. وكتابه في الحديث أحد الكتب الستة التي هي أصول الحديث وأمهاته. قلت: هكذا قال الذهبي: وهو مذهب بعض المحدثين ومذهب بعضهم، وبه قال الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله، إن أمهات الحديث خمسة: صحيحا البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي. والذين قالوا هي ستة اختلفوا، فبعضهم يقول: السادس هي سنن ابن ماجة المذكور، وبعضهم يقول هو الموطأ. وفيها توفي صاحب الأندلس محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأمير الأموي، وكانت ولايته خمساً وثلاثين سنة، وكان فقيهاً عالماً فصيحاً مفوهاً، رافعاً لعلم الجهاد، قال الإمام الحافظ، بقي بن مخلد: ما رأيت ولا سمعت أحداً من الملوك أفصح منه ولا أعقل، وقال أبو مظفر ابن الجوزي: وهو صاحب وقعة وادي سليط التي لم يسمع بمثلها، يقال أنه قتل فيها ثلاثمائة ألف فارس. أربع وسبعين ومائتين فيها توفي خلف بن محمد الواسطي الحافظ، وعبد الملك بن عبد الحميد الفقيه الميموني. ومحمد بن عيسى المدايني رحمة الله عليهم. خمس وسبعين ومائتين فيها توفي أبو بكر المروزي، وكان أجل أصحاب الإمام أحمد، وكان إماماً في

ست وسبعين ومائتين

الفقه والحديث كثير التصانيف، خرج مرة من الرباط فشيعه نحو خمسين من بغداد إلى سامراء. وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ سليمان بن الأشعث، أبو داود السجستانى الأزدي، أحد أئمة الحديث وحفاظه ومعرفة علمه وعلله، وكان في الدرجة العاليه من النسك والصلاح، طوف البلاد وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والحجازيين والحرميين، وجمع كتاب السنن، قديماً، فربما عرضه. على الإمام أحمد بن حنبل فاستجازه واستحسنه. وعده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء، من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. وقال إبراهيم الحربي: لما صنف أبو داود كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود عليه السلام الحديد. وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الأعمال بالنيات "، والثاني قوله: " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، والثالث قوله: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه "، والرابع قوله: " الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات ". الحديث بكماله، وجاءه الشيخ الكبير الوالي الشهير العارف بالله الخبير سهل بن عبد الله التستري، فقيل له: يا أبا داود، هذا شهل عبد الله، قد جاءك زائراً. قال فرحب به وأجلسه فقال: يا داود، لي إليك حاجة، قال: هي؟ قال: تقول قضيتها، قال: قضيتها مع الإمكان. قال: اخرج لسانك الذي حدثت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقبله، فأخرج لسانه فقبله، توفي رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة منتصف شوال من السنة المذكورة. وكان رأساً في الحديث، رأساً الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع، حتى كان يشبه شيخه أحمد بن حنبل، رحمة الله عليهم. ست وسبعين ومائتين فيها توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي، أحد الأعلام سمع يحيى بن يحيى، ويحيى بن بكير، وأحمد بن حنبل وطبقتهم، وصنف التفسير الكبير والمسند الكبير. قال ابن حزم أقطع. إنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره. وكان بقي بن

مخلد علامة فقيهاً مجتهداً صواماً قواماً متبتلاً عديم المثل. وفيها توفي الإمام الحافظ أحد العباد أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري إنه كان يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة، ويقال إنه روى من حفظه ستين ألف حديث. وفيها توفي محدث الأندلس قاسم بن محمد بن قاسم الأموي مولاهم الفقيه، تفقه على الحارث بن مسكين وابن عبد الحكم، وكان مجتهداً لا يقلد. قال رفيقه بقي بن مخلد: هو أعلم من ابن عبد الحكم. وقال ابن عبد الحكم: لم يقدم علينا من الأندلس أعلم من قاسم. وفيها توفي محدث مكة أبو جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ. ومحدث دمشق أبو القاسم يزيد بن محمد بن عبد الصمد. ومحدث الكوفة أبو عمرو ومحمد بن حازم الغفاري الحافظ. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي الإمام صاحب " كتاب المعارف "، و " أدب الكاتب " كان فاضلاً ثقة، سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة. وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه الفارسي، وله تصانيف كلها مفيدة، منها ما تقدم ومنها " غريب القرآن الكريم "، و " غريب الحديث "، و " عيون الأخبار "، و " مشكل القرآن "، و " مشكل الحديث "، و " طبقات الشعراء "، و " الأشربة "، و " إصلاح الغلط "، و " كتاب النفقة "، و " كتاب الخيل، و " كتاب إعراب القرآن "، و " كتاب الأنوار "، و " كتاب المسائل والجوابات "، و " كتاب الميسر والقداح " وغير ذلك. توفي في أول ليلة من رجب وقيل منتصف رجب من السنة المذكورة، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل بل سنة سبعين، وكان موته فجأة، صاح صيحة سمعت من بعد، ثم أغمي عليه ومات، وقيل: أكل هريسة فأصابته حرارة، فصاح صيحة شديده ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم اضطرب ساعة ثم هدأ، فما زال يتشهد إلى وقت السحر ثم مات. قلت: وقد تقدم ما قيل أن أكثر أهل العلم يقولون: " أدب الكاتب " خطبة بلا كتاب و " إصلاح المنطق "، كتاب بلا خطبة. قال ابن خلكان: وهذا فيه نوع تعصب عليه، فإن " أدب الكاتب " قد حوى على كل شيء، وهو مفنن، وما أظنهم حملهم على هذا القول، إلا أن خطبته طويلة، والإصلاح فيه قصير الخطبة، واسم كتابه المذكور " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ".

سبع وسبعين ومائتين

سبع وسبعين ومائتين فيها توفي حافظ المشرق أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي في شعبان وكان بارع الحفظ واسع الرحلة، من أوعية العلم جارياً في مضمار البخاري وأبي الرازي رحمة الله عليهم. ثمان وسبعين ومائتين فيها مبدأ ظهور القرامطة بسواد الكوفة، وهم خوارج زنادقة مارقون من الدين وفيها توفي الموفق بن المتوكل، ولي عهد أخيه المعتمد، وكان ملكاً مطواعاً وشجاعاً ذا بأس وأيد ورأي وحزم، حارب الزنج حتى أبادهم، وقل طاغيتهم، وكان الجيوش إليه، ومحبباً إلى الخلق، وكان المعتمد مقهوراً معه، اعتراه نقرس فبرح به وأصاب رجله داء الفيل. وكان يقول: قد أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق، وما أصبح، فيهم أسوأ حالاً مني، واشتد ألم رجله وانتفاخها إلى أن مات منها، وكان قد ضيق على أبنه أبي العباس وخاف منه. فلما احتضر رضي عنه، فلما توفي ولاه المعتمد ولاية العهد، ولقبه المعتضد، وكان بعض الأعيان يشبه الموفق بالمنصور في حزمه ودهائه ورأيه، قيل: وجميع الخلفاء الذين بعده من ذريته. وفي السنة المذكورة توفي عبد الملك بن الهيثم الدير عاقولي. تسع وسبعين ومائتين فيها منع المعتضد من بيع كتب الفلاسفة والجدل، وتهدد على ذلك، ومنع المنجمين والقصاص من الجلوس. وفيها توفي المعتمد على الله، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة ويومين. ومات فجأة بين المغنين والندماء، فقيل: سم في رؤوس أكلها، وقيل: في كأس بالشراب. ودخل

ثمانين ومائتين

عليه القاضي والشهود فلم يروا به أثراً، وكان منهمكاً في اللذات، فاستولي أخوه على المملكة وحجر عليه في بعض الأشياء، فاستصحب المعتضد الخال بعد أبيه، وكان للمعتضد شعر متوسط، وأمه أم ولد. وفيها توفي الحافظ ابن الحافظ زهير بن حرب النسائي. ثم البغدادي مصنف التاريخ، وله أربع وتسعون سنة، سمع أبا نعيم وعفان وطبقتهما. وفيها توفي جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ وله تسعون سنة، وكان زاهداً عابداً ثقة ينفع الناس ويعلمهم الحديث. وفيها توفي الإمام الحافظ مصنف الجامع في السنن أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث، وكان يضرب به المثل، وهو تلميذ محمد بن إسماعيل البخارى، وشاركه في بعض شيوخه، وكان ضريراً، قيل ولد أكمه. رحمه الله تعالى. ثمانين ومائتين فيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البوني الفقيه الحافظ صاحب المسند. كان بصيراً بالفقه عارفاً بالحديث وعلله، زاهداً عابداً كبير القدر من أعيان الحنفية. والإمام الحافظ أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي صاحب المسند والتصانيف، أخذ الفقه عن البويطي، والعربية عن ابن الأعرابي، والحديث عن ابن المديني، وكان قائماً بالسنة مغيظاً للمبتدعة. إحدى وثمانين ومائتين فيها توفي الإمام أبو بكر محمد بن عبيد بن أبي الدنيا القرشي مولاهم البغدادي، صاحب التصانيف والإمام أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، سمع أبا معمر وأبا نعيم وطبقتهما، وصنف التصانيف، وكان محدث الشام في زمانه. وفيها توفي العلامة محمد بن إبراهيم الإسكندراني المالكي، صاحب التصانيف، كان إليه المنتهى في تفريع المسائل.

اثنتين وثمانين ومائتين

اثنتين وثمانين ومائتين فيها وقع الصلح بين المعتضد وخمارويه، وتزوج المعتضد بابنة خمارويه على مهر مبلغه ألف ألف درهم، فأرسلت إلى بغداد، وبني بها المعتضد، وقدم جهازها بألف ألف دينار، وأعطت الذي مشى في الدلالة مائة ألف درهم. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الطوسي، سمع يحيى بن يحيى التميمي فمن بعده، وكان محدث الوقت وزاهده بعد محمد بن أسلم بطوس، صنف المسند الكبير في مائتي جزء. وفيها توفي العلامة أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي سمع مولاهم البصري الفقيه المالكي، مات ببغداد فجأة وله ثلاث وثمانون سنة. سمع الأنصاري ومسلم بن إبراهيم وطبقتهما، وصنف التصانيف في القراءة والحديث والفقه وأحكام القرآن والأصول، وتفقه على أحمد بن المعدل، وأخذ علم الحديث عن ابن المديني، وكان إماماً في العربية حتى قال المبرد: هو أعلم بالتصريف مني. وفيها توفي الحافظ أبو الفضل جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسي البغدادي في رمضان، سمع عفان وطبقته، وكان ثقة متحرياً إلى الغاية. وفيها توفي الحارث أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي البغدادي صاحب المسند، يوم عرفة وله ست وتسعون سنة. وفيها توفي الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي المفسر، نزيل نيسابور، كان آية في معاني القرآن، صاحب فنون متعبداً، قيل إنه كان يصلي في اليوم والليلة ست مائة ركعة، وعاش مائة وأربع سنين. روى عن يزيد بن هارون والكبار. وفيها توفي أبو الجيش خمارويه " بضم الخاء المعجمة وفتح الميم وبعدها ألف ثم راء ثم واو مفتوحتان ثم مثناة من تحت ثم هاء مكسورة "، ابن أحمد بن طولون. لما كان سنة ست وسبعين ومائتين تحرك الأفشين بن محمد صاحب أرمينية والجبال في جيش عظيم، وقصد مصر، فلقيه خمارويه في بعض عمال دمشق، فانهزم الأفشين، واستأمن أكثر عسكره، وسار خمارويه حتى بلغ الفرات ودخل أصحابه الرقة، ثم عادوا، وقد ملك من الفرات إلى بلاد النوبة، ولما مات المعتمد وتولى المعتضد الخلافة، بادر إليه

خمارويه بالهدايا والتحف، فأقره المعتضد على عمله، وسأل خمارويه المعتضد أن يزوج ابنته أسماء الملقبة بقطر الندى للمكتفي بالله بن المعتضد، وهو إذ ذلك ولي العهد، فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة إحدى وثمانين ومائتين، ودخل بها في هذه السنة، وقيل في سنة اثنتين وثمانين ومائتين والله أعلم. وكان صداقها ألف ألف درهم، وكانت موصوفة بفرط الجمال والعقل، حكي أن المعتضد خلى بها يوماً للأنس في مجلس أفرده لها، ما حضره سواها، فأخذت منه الكأس، فنام على فخذها، فلما استثقلته وضعت رأسه على وسادة، وخرجت فجلست في ساحة القصر، فاستيقظ ولم يجدها فاستشاط غضباً، ونادى بها فأجابته على قرب فقال: لم أجلل إكراماً لك؟ ألم أدفع إليك بهجتي دون سائر خصائصي؟ فتضعين رأسي على وسادة، فتذهبين؟. فقالت: يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علي، ولكن فيما أدبني به أبي إذ قال، لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام. ويقال إن المعتضد أراد بنكاحها إفتقار الطولونية، وكذا كان، فإن أباها جهزها بجهاز لم يعمل مثله حتى قيل: إنه كان لها ألف هاون ذهباً، وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار، فأقام على ذلك إلى أن قتله غلمانه بدمشق على فراشه، وعمره اثنتان وثلاثون سنة. وكان شهماً صارماً، وقيل قتل قاتلوه أجمعون، وحمل تابوته إلى مصر ودفن عند أبيه بسفح المقطم، وكان من أحسن الناس خطاً. ولفا حملت قطر الندى ابنة خمارويه إلى المعتضد خرجت معها عمتها العباسية ابنة أحمد بن طولون مشيعة لها إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام، ونزلت هناك، وضربت فساطيطها، وبنت هناك قرية فسميت بإسمها وقيل لها " العباسية " قال ابن خلكان: وهي عامرة إلى الآن، وبها جامع حسن وسوق قائم. وماتت قطر الندى سنة سبع وثمانين ومائتين، ودفنت داخل قصر الرصافة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو محمد الفضل بن محمد الشعراني، طوف الأقاليم وكتب الكثير، وجمع وصنف. وفيها توفي العلامة أبو العيناء محمد بن القاسم البصري الضرير اللغوي الأخباري، صاحب النوادر والشعر والأدب. سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري والعتبي وغيرهم، وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لساناً، ومن ظرفاء العالم، وفيه من اللسن وسرعة الجواب والذكاء ما ليس في أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح، وها أنا أذكر شيئاً يسيراً من ذلك. حضر يوماً مجلس بعض الوزراء، فجرى حديث البرامكة وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء وقد بالغ في وصفهم: قد أكثرت من ذكرهم، وإنما هذا تصنيف

ثلاث وثمانين ومائتين

الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فكذبه الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليها. وشكا إلى الوزير عبيد الله بن سليمان سوء الحال فقال له: أليس قد كتبت إلى فلان من أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر وذل الأسر ومعاناة الدهر، فأخفق سعي وخاب طلبي، فقال عبيد الله: أنت اخترته، فقال: وما علي أيها الوزير في ذلك، وقد اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رشد، واختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً واختار علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أبا موسى الأشعري حاكماً له، فحكم عليه. وقوله: ذل الأسر يعني أنه أسره علي بن محمد صاحب الزنج بالبصرة، وسجنه فنقب السجن وهرب. ودخل أبو العيناء يوماً على الوزير أبي الصفر فقال: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء. فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق " قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهل أتيتنا على غيره؟ فقال: أقعدني عن السير قلة يساري، وكرهت ذلة المكاري، ومنة العواري. وخاصم علوياً فقال العلوي: أتخاصمني وأنت تقول: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكنني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم. ووقف عليه رجل من العامة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال: مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ومر بباب بعض من بغضه وهو مريض فقال لغلامه: كيف حاله. فقال: كما تحب، فقال: مالي لا أسمع الصراخ عليه وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنا دمناه، فقال: إن عفاني من روية الأهلة وقراءة نقش القصوص، فأنا أصلح للمنادمة. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدة المكذبيين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد. وقال له المتوكل يوماً: ما تقول في دارنا هذه فقال: الناس بنوا الدار في الدنيا، وأنت بنيت الدار في دارك، فاستحسن كلامه. ثلاث وثمانين ومائتين فيها ظفر المعتضد برأس الخوارج هارون الشاري " بالشين المعجمة " وجيء به راكباً فيلاً، وزينت بغداد. وفيها أمر المعتضد في سائر البلاد بتوريث ذوي الأرحام وإبطال دواوب المواريث في ذلك، وكثر الدعاء له. وكان قبل ذلك قد أبطل النيروز وقيد النيران وأمات

ستة المجوس. وفيها توفي أبو العباس علي بن العباس المعروف بابن الرومي مولى عبيد الله بن عيسى بن أبي جعفر المنصور العباسي الشاعر المجيد المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، ويستخرجها من مكامنها، ويبرزها بأحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية، وكان شعره غير مرتب، فرتبه أبو بكر الصولي على الحروف، وجمعه وراق بن عبدوس من جميع النسخ، فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت، وله القصائد المطولة والمقاطيع البديعة، وله في الهجاء والمديح كل طريق ومليح، من ذلك قوله: كم ضن بالمال أقوام وعندهم ... وفر، وأعطى العطايا وهو يدان أراكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم منها معالم للهدى ومصالح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد وله من المعاني البديعة قوله: وإذا امرؤ مدح أمرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراه هجاءه لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه وكذلك قوله في ذم الخضاب: إذا دام للمرء السواد فما خلت ... شبيبة ظن السواد خضابا فكيف يروم الشيخ أن خضابه ... يظن سواداً أو يخال شبابا قال بعض علماء الأدب: ما سبقه إلى هذا المعنى أحد. وله في بغداد وقد غاب عنها. بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد وكان سبب موته في بغداد أن الوزير القاسم بن عبد الله وزير المعتضد كان يخاف من هجوه، فدس عليه ابن فراس، فأطعمه خشكنانة مسمومة، وهي في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب. فقال إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال:

سلم لي على والدي، فقال: ما طريقي على النار. فخرج من مجلسه وأتى منزله، وأياماً ثم مات. وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط عليه في بعض العقاقير. قال إبراهيم بن محمد المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت: ما حالك؟. فأنشد: غلط الطبيب على غلط مورده ... عجزت موارده عن الإصدار والناس يلجون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار وكان الوزير المذكور سفاكاً للدماء الصغير والكبير منه على وجل، لا يعرف أحد من أرباب الأموال منه نعمة، فلما توفي سنة إحدى وسبعين في خلافة المكتفي، وقد نيف الثلاثين، قال فيه عبد الله بن الحسين بن سعد. شربنا عشية مات الوزير ... سروراً ونشرب في ثالثه فلا رحم الله تلك العظام ... ولا بارك الله في وارثه وفيها توفي قدوة السالكين، وحجة الله على العارفين، كريم المقامات وعظيم الكرامات، الولي الكبير المعظم الشهير أبو محمد سهل بن عبد الله التستري، قدس الله روحه، في شهر المحرم، وله نحو من ثمانين سنة، وله كلام جليل في السلوك والمواعظ وكان سبب سلوكه للطريق خاله محمد بن سوار، فإنه قال: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم بالليل، وكان يقول: يا سهل اذهب ونم، فقد شغلت قلبي. وقال ليس يوماً خالي: ألا تذكر الله الذي خلقك؟. فقلت: كيف أذكر؟. فقال: قل بقلبك في الليل في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسان: الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك عشر ليالي، ثم أعلمته فقال: قلها كل سبع مرات، فقلت ذلك، ثم أعلمته فقال: قلها كل يوم إحدى عشرة مرة. كذا قال بعضهم، وقال في الرسالة: قل في كل ليلة إحدى عشرة. وأرى هذا أصح وأنسب إذ الليل وقت الغفلة، والذكر فيه أفضل. قال: فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي: احفظ ما علمتك. ثم دم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه سينفعك في الدنيا والآخرة، قال: فلم يزل على ذلك سنين، فوجدت له حلاوة في سري، ثم قال لي يوماً خالي: كان الله معه وهو ناظره، وشاهده كيف يعصيه، إياك والمعصية. قال: فبعثوا بي إلى الكتاب فقلت: إني أخشى أن يفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة، فأتعلم وأرجع. فحفظت القرآن وأنا ابن ست أو سبع، وكنت أصوم الدهر وقوتي خبز الشعير

أربع وثمانين ومائتين

اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أن يبعثوا بي إلى بصرة أسأل عنها. فجئت البصرة، وسألت علماءها، فلم يشفني ما سمعت، فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن عبد الله العبادي. فسألته عنها، فأجابني، أقمت عنده مدة أنتفع بكلامه، وأتأدب بأدبه. ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاراً على أن يشتري لي بدرهم، فرق من الشعير، فيطحن ويختبز، فأفطر عند السحر كل ليلة على أوقية واحدة بغير ملح ولا أدام. وكان يكفيني ذلك الدرهم سنة، ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم جعلتها خمساً ثم سبعاً حتى بلغت خمسة وعشرين ليلة، وكنت على ذلك عشرين سنة ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم عدت إلى " تستر "، وكنت أقوم الليل كله. قلت: وله من الكرامات الشهيرات ما يطول ذكره، بل يشق ويتعذر حصره، من ذلك قصته المشهورة مع يعقوب بن الليث حين أصابته علة أعضلت الأطباء، فقيل له: ولايتك رجل صالح، يقال له سهل بن عبد الله، فلو استدعيت به لعلة يدعو لك، فاستدعى به، فلما حضر قال: ادع لي، فقال: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي سجنك محبوسون؟ . فأطلق كل من في السجن، فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، فعوفي في وقته، فعرض مالاً على سهل، فأبى أن يقبل، فقيل له: لو قبلته وفرقته على الفقراء. فنظر إلى الحصى في الصحراء، فإذا هي جواهر فقال: من أعطي مثل هذا أيحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ وفيها توفي قاضي القضاه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الشوارب الأموي بصري. وكان رئيساً معظماً ديناً خيراً، روى عن أبي الوليد الطيالسي. أربع وثمانين ومائتين قال محمد بن جرير: فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوفه الوزير من اضطراب العامة، فلم يلتفت. ومنع القصاص من الكلام ومن اجتماع الخلق في جوامع، وكتب كتاباً فيه مصائب ومعائب. فقال القاضي يوسف بن يعقوب: يا أمير مؤمنين، أخاف الفتنة عند سماعه. فقال: إن تحركت العامة وضعت فيهم السيف. قال:

فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟. وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت مالوا إليهم، وصاروا أبسط الألسنة. فأمسك المعتضد. وفيها توفي محدث نيسابور ومفيدها الحافظ أحمد بن المبارك المستملي، سمع قتيبة وطبقته، وكان مع سعة روايته راهب عصره مجاب الدعوة. وفيها توفي أبو عبادة البحتري " بضم الموحدة والمثناة من فوق وسكون الحاء " المهملة بينهما وكسر الراء "، منسوب إلى " بحتر " أحد أجداده. أمير شعراء العصر وحامل لواء القريض الوليد بن عبيد الطائي. أخذ عن أبي تمام الطائي، ولما سمع أبو تمام قال: نعيت إلى نفسي. وممن ذكره المبرد وقال: أنشدنا شاعر دهره ونسيج وحده أبو عبادة البحتري، ومدح براعته المؤرخون، وذكروا أنه ولد بمنبج ونشأ بها، ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء، أولهم المتوكل على الله وخلقاً كثيراً من الأكابر والرؤساء، ببغداد دهراً طويلاً ثم عاد إلى الشام. وله أشعار كثيرة ذكر فيها حلب وضواحيها، ويتغزل بها. وقد روي عنه أشياء من شعره أبو العباس المبرد، ومحمد بن أحمد الحليمي، وأبو بكر الصولي وغيرهم. قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي: رأيت البحتري ها هنا عندنا أن يخرج إلى العراق، اجتاز بنا في الجامع من هذا الباب، وأومى إلى جنبتي المسجد يمدح أصل البصل والباذنجان، وينشد الشعر في ذهابه ومجيئه، ثم كان منه ما كان. وحكي بكر الصولي في كتابه الذي وضعه في أخبار أبي تمام الطائي أن البحتري كان يقول: أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أني ذاهب إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده، وعرض عليه شعره. فلما سمع شعري، أقبل وترك سائر الناس. فلما تفرقوا قال لي، أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟. فشكوت فكتب إلى أهل معرة النعمان، وشهد لي بالحذق، وشفع لي إليهم وقال: امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه، وقطعوا لي أربعة آلاف درهم، وكانت أول مال أصبته. وقال عبادة المذكور: أول ما رأيت أبا تمام، وما كنت رأيته قبلها، أني دخلت إلى أبي محمد بن يوسف فامتدحته بقصيدتي التي أولها. لا فاق صب من هوى فأفيقا ... أم خان عهداً أم أطاع شفيقاً فأنشدته، فلما أتممتها سر بها وقال لي: أحسن الله إليك يا فتى، فقال له رجل المجلس: هذا أعزك الله شعري بحلقته، فسبقني به إليك. فتغير أبو سعيد وقال لي: يا

فتى، قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن نمت به إلينا، ولا تحمل نفسك على هذا، فقلت: هذا شعري أعزك الله فقال الرجل: سبحان الله يا فتى، لا تقل هذا. ثم ابتدأ فأنشد القصيدة أبياتاً، فقال لي أبو سعيد: نحن نبلغك ما تريد ولا تحمل نفسك على هذا. فخرجت متحيزاً لا أدري ما أقول، ونويت أن أسأل عن الرجل من هو، فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال لي: جنيت عليك فاحتمل. أتدري من هذا؟ قلت: لا. قال لي: هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام، قم إليه، فقمت إليه فعانقته، ثم أقبل يقرطني ويصف شعري وقال: إنما فرجت معك. فلزمته بعد ذلك، وكبر عجبي من سرعة حفظه. ومعنى يقرظني أي: يمدحني. قال في الصحاح: والتقريظ مدح الإنسان وهو حي والتأبين: مدحه ميتاً. وقولهم فلان يقرظ صاحبه تقريظاً " بالظاء والضاد المعجمتين جميعاً " عن أبي زيد إذا مدحه بباطل أو حق. وهما يتقارظان المدح، إذا مدح كل منهما صاحبه. وقيل للبحتري: أيما أشعر أنت أم أبو تمام؟ فقال: جيده خير من جيدى، ورديئي خير من رديئه وقال: يقال لشعر البحتري: سلاسل الذهب. وهو في الطبقه العليا، ويقال أنه قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي. فقال: حكيمان، والشاعر البحتري. قيل وما أنصفه ابن الرومي في قوله: والفتى البحتري يسوق ما قال ... ابن أوس في المدح والتشبيب كل بيت له يجود معناه ... فمعناه لإبن أوس حبيب وقال ابن البحتري: أنشدت أبا تمام شيئاً من شعرى، فأنشد بيت أوس بن حجر " بفتح الحاء والجيم ": إذا مقرم منا ذرا حدنا به ... تحمط فينا تاب آخر مقرم وقال: نعيت إلى نفسي، فقلت: أعيذك بالله من هذا، فقال: إن عمري ليس يطول، وقد نشأ لطي مثلك. أما علمت أن خالد بن صفوان المنقرى رأى شبيب بن شيبه وهو من رهطه يتكلم فقال: يا بني، نعي إلى نفسي بإحسانك في كلامك، لأنا أهل بيت، ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله. قال: فمات أبو تمام بعد سنة من هذا. وقوله: ذر أحدنا به، أي: سقط، وذروت الشيء أي: طيرته وأذهبته. وذرت الريح التراب وغيره تذروه ذرواً وتذريه ذرياً أي سفته. وأذريت الشيء إذا ألقيته كإلقاء الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته أي ألقاه. وتخمط بالخاء المعجمه والطاء المهملة يقال في الفحل إذا هدر، وفي الإنسان إذا تغضب وتكبر، وفي البحر إذا التطم " والمقرم " بضم الميم وسكون القاف وفتح الراء: المكرم، وكذلك القرم بفتح القاف. ومنه قيل سيد قوم مقرم وقال البحتري: أنشدت أبا تمام شعراً في بني حميد ووصلت به إلى مال خطير، فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعراء

بعدي، وكان قوله هذا أحب إلي من جميع ما حويته. وقال ميمون بن مهران: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى البلاذري المؤرخ فسألته عن حاله فقال: كنت من جلساء المستعين بالله، يقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال مثل البحتري في المتوكل. لو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر قال فرجعت إلى بيتي وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري، فقال: هاته، فأنشدته: ولو أن برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه وقال فقد أعطيته ولبسته ... نعم، هذه أعطافه ومناكبه فقال ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به. فرجعت فبعث إلي بسبعة الألف دينار وقال ادخر هذه لحوادث من بعدي، ولكن على الجزاية والكفاية ما دمت حياً. قلت: ولا يخفى ما في بيتيه المذكورين من الخروج إلى حيز الكفر من تشيهه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وللمتنبي في معنى قول البحتري في المنبر. لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محبتها إليك الأغصنا وسبقهما أبو تمام بقوله: لوسعت نفقة لإعظام نعمي ... لسعى نحوك المكان الجديد والبيت الذي للبحتري من جملة قصيدة طويلة أحسن فيها يمدح بها المتوكل على الله ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر وأولها. أخفي هوى في الضلوع وأظهر ... وألام من كمد عليك وأعذر والأبيات التي يرتبط بها البيت المقدم ذكر للبحتري. بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضية تفطر فانعم بيوم الفطر عيداً إنه ... يوم أعز من الزمان مشهر أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب يحاط الدين فيه وينصر خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عدداً يسيرها العديد الأكبر فالخيل تصهل والفوارس تدعي ... والبيض تلمع والأسنة تزهر والأرض خاشعة تميد بنقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر والشمس طالعة توقد في الضحى ... طوراً ويطفئها العجاج الأكدر

حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وانجاب ذلك العثير وافتن فيك الناظرون فإصبع ... يومي إليك بها وعين تنظر يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر ذكروا طلعتك التي قد هللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا تزهو ولا تتكبر فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر أبديت من فصل الخطاب بحكمة ... تنبي عن الحق المبين وتخبر ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر تارة وتبشر وقوله: وانجاب ذلك العثير هو بكسر العين المهملة وسكون المثلثة وفتح المثناة من تحت والمراد به: الغبار. قال بعض الفضلاء: وهذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قياده، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده. وليس فيه من الحشو شيء، بل جميعه تحت، وديوانه موجود، وشعره سائر، فلا حاجة إلى الإكثار منه ها هنا لكن تذكر من وقائعه ما يستطرف. فمن ذلك أنه كان بحلب شخص يقال له أحمد بن طاهر الهاشمي، مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والوزراء وفي سبيل الله، فقصده البحتري من العراق. فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غماً شديداً، وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه. فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له وقال له: بع داري، فقال له: لا تبع دارك، وتبقى على رؤوس الناس، فقال له: لا بد من بيعها، فباعها بثلاث مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها هذه الأبيات: لو يكون الحياء حسب ... أنت لدينا به محل وأهل لحثيت اللجين والدر والياً ... قوت حثواً وكأن ذلك بقل والأديب الأريب يسمع بالعذر ... إذا قصن الصديق المقل فلما وصلت الرقعة للبحتري رد الدنانير وكتب إليه: بأبي أنت أنت للبر أهل ... والمساعي بعد سعيك قبل والنوال القليل يكثر إن شاء ... مرجيك والكثير يقل غير أني رددت برك إذ كان ... ربا منك والربا لا يحل فإذا ما جزيت شعراً بشعر ... قضي الحق والدنانير فضل

فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين ديناراً أخرى، وحلف إنه يردها عليه، وسيرها إليه، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول: شكرتك إن الشكر للسيد نعمة ... ومن يشكر المعروف بالله زائده لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده قلت: وحكي أن هذين البيتين كتبهما الشيخ الإمام محيي الدين النووي، وأرسل بهما إلى الشيخ الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، رضي الله تعالى عنهما، لما بلغه أنه قيل دقيق " العيد "، لم لا تصنف في الفقه؟ فقال: قد صنف الشيخ محيي الدين النووي ما فيه كفاية، أو كما قال: ومثل هذا ما حكي أيضاً أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قيل له: لم لا تصنف في التفسير؟. فقال: يكفي ما صنف فيه شيخنا الإمام أبو الحسن الواحدي رحمة الله عليهما. وكان البحتري قد اجتاز بالموصل وقيل برأس عين، فمرض مرضاً شديداً. وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه، فوصف له يوماً مزورة، ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه، فقال الغلام: أصنع هذه المزورة؟. وكان بعض رؤساء البلد حاضراً عنده، وقد جاء يعوده فقال ذلك الرئيس: هذا الغلام ما يحسن يطبخها، وعندي طباخ من نعته وصفته كيت وكنت، وبالغ في حسن صفته، فترك الغلام عملها اعتماداً على قوله، البحتري ينتظر، واشتغل الرئيس عنها ونسي أمرها. فلما أبطأت عليه وفات وقتها وصولها إليه، كتب إلى الرئيس: وجدت وعدك زوراً في مزورة ... حلفت مجتهداً إحكام طاهيها فلا شفى الله من يرجو الشفاء ... ولا علت كفه ملق كفه فيها فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها قوله: طاهيها أي طابخها، فالطهي: الطبخ صرح به في ديوان الأدب. وأخباره ومحاسنه كثيرة، ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف. وجمعه أيضاً علي بن حمزة الأصبهاني، ولم يرتبه على الحروف، بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام. وللبحتري أيضاً كتاب حماسة على مثال حماسة أبي تمام، وله " كتاب معاني الشعر " وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين. قال ابن الجوزي، وتوفي وهو ابن ثمانين سنة. وقال الذهبي: ابن بضع وسبعين سنة، وقيل توفي في السنة التي قبل هذه، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة ست وثمانين. وقال الخطيب: كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادة

خمس وثمانين ومائتين

، فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة، فإنها أشهر ففعل. قال ابن خلكان تاريخه: وأهل الأدب كثيراً ما يسألون عن قول أبي العلاء المعري: وقال الوليد: الينع ليس بمثمر، وأخطأ شرب الوحش من ثمر الينع. فيقولون: من هو الوليد المذكور؟ وأين قال: الينع ليس بمثمر؟ ولقد سألني عنه جماعة كثيرة. والمراد بالوليد هو البحتري المذكور، وله قصيدة طويلة منها: وعبرتني سجال لعدم جاهلة ... والينع غير بان، ما في فرعه ثمر وهذا البيت هو المشار إليه في بيت المعري. خمس وثمانين ومائتين فيها وثب صالح بن مدرك الطائي في طيىء، فانتهبوا الركب العراقي وبدعوا، وسبوا النساء وراح للناس ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها مات الإمام الحبر أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن بشر الحربي الحافظ أحد الأئمة الأعلام، وله سبع وثمانون سنة، سمع أبا نعيم وعفان وطبقتهما، وتفقه على الإمام أحمد، وبرع في العلم والعمل، وصنف التصانيف الكثيرة، وكان يشبه بأحمد بن حنبل في وقته. توفي السنة المذكورة توفي إمام أهل النحو في زمانه، صاحب المصنفات النافعات: أبو العباس المبرد محمد بن يزيد الأزدي البصري، أخذ عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني، وتصدر للإشتغال ببغداد. وكان وسيماً مليح الصورة فصيحاً مفوهاً أخبارياً علامة ثقة، إماماً في النحو واللغة. وله التآليف النافعة في الأدب، منها " كتاب الكامل "، ومنها " الروضة "، و " المقتضب " وغير ذلك، وأخذ عنه نفطويه وغيره من الأئمة، وكان في المبرد المذكور أبو العباس الملقب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين فاضلين متعاصرين، قد ختم بهما تاريخ الأدباء. وفيهما يقول بعض أهل عصرهما، وهو أبو بكر بن الأزهر، أبياتاً من جملتها قوله: أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعد بالمبرد أو ثعلب تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب علوم الخلائق مخزونة ... بهذين في الشرق والمغرب

قالوا: وكان المبرد يحب الإجتماع بثعلب للمناظرة والإستكثار من ذلك، وكان ثعلب يكره ذلك ويمتنع منه. وحكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الفقيه الموصلي قال: قلت لأبي عبد الله الدينوي ختن ثعلب:. لم يأبى ثعلب الإجتماع بالمبرد. فقال: لأن المبرد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل، حكم للمبرد على الظاهر، إلى أن يعرف الباطن. وكان المبرد كثير الأمالي حسن النوادر. وحكي عن بعضهم أنه رأى المبرد في المنام، وجرى له معه قصة عجيبة. وذلك أنه كان عنده " كتاب الكامل " للمبرد، و " كتاب العقد " لإبن عبد ربه، وهو يطالع فيها، قال: فرأيت في العقد في فصل ترجمته، قوله: ما غلط فيه على الشعراء، وذكر أبياتاً نسب أصحابها فيها إلى الغلط، وهي صحيحة. وإنما وقع الغلط ممن استدرك عليهم لعدم إطلاعه على حقيقة الأمر فيها، ومن جملة من ذكر المبرد فقال: ومثله قول محمد بن يزيد النحوي في كتاب الروضة، ورده على الحسن بن هانىء، يعني أبا نواس، في قوله: وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها فزعم أنه بحمقائها رجلاً، ولا يقال في الرجل حمقاً، وإنما أراد " دغه " بضم الدال وفتح الغين المعجمة العجلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق. هذا كلام صاحب العقد، وغرضه أن المبرد نسب أبا نواس إلى الغلط، يتوهمه أنه قصد " هبنقة " بفتح الهاء والباء الموحدة والنون المشددة والقاف وبه يضرب المثل في الحمق، فيقال أحمق من هبنقة، ولم يقصده وإنما قصد المرأة المذكورة، فالغلط حينئذ من المبرد لا من أبي نواس، قال: فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة، رأيت في المنام كأنا قد صلينا الظهر، فلما فرغنا من الصلاة، قمت لأخرج، فرأيت شخصاً واقفاً يصلي، فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد، فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه، فلما فرغ سلمت عليه وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل، فقال لي: رأيت كتابي الروضة؟ فقلت: لا، وما كنت رأيته قبل ذلك. فقال: قم حتى أريك إياه. وصعد بي إلى بيته، فرأيت فيه كتباً كثيرة، فقعد يفتش عليه، وقعدت أنا ناحية عنه، فأخرج منه مجلداً، فدفعه إلي ففتحته وتركته في حجري، ثم قلت: قد أخذوا عليك فيه، فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت: إنك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلاني، وأنشدته إياه، فقال: نعم، غلط في هذا. فقلت: إنه لم يغلط بل هو على الصواب، ونسبوك إلى الغلط في تغليطه. فقال: وكيف هذا؟. فعرفته ما قاله صاحب العقد، فعض على رأس سبابته، وبقي

باهتاً ينظر إلي، وهو في صورته خجلان، ولم ينطق بشيء. ثم استيقظت من منامي، وهو على تلك الحال، قال: ولم أذكر هذا المنام إلا لغرابته. وحكي أنه دخل على المبرد رجل، فأراد القيام، فقال: أنشدك الله أبا العباس، إن قمت، قال: فلم أخبا قيامي؟ وأنشد: إذا ما بصرنا به مقبلاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما فلا تنكرون قيامي له ... فإن الكرام تجل الكراما وكانت ولادة المبرد يوم الإثنين سنة عشر وقيل سبع ومائتين، وتوفي يوم الإثنين سنة خمس، وقيل ست وثمانين. فلما مات نظم فيه وفي ثعلب، ابن العلآف. ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب بيت من الآداب أصبح نصفه ... حزباً وباقي بيت تلك سيخبر فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... الدهر أنفسكم على ما يسلب وتزودوا عن ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب قلت: وهذه الألفاظ جميعاً لفظه، إلا لفظ " بيت تلك سيخرب " فإني أبدلته عن قوله: بيتها فسيخرب، كراهة لإدخال الفاء في سيخرب، وإن كان مما يتجوز فيه، فإن وزان لفظة، نحو قولك: زيد قائم وأبوه فسيقوم، ووزان لفظي: قام زيد وأخوه سيقوم، وهذا هو الجائز على قاعدة العربية، والرجل والمرأة المذكوران المنسوب إليهما الحمق، قيل: لأن الرجل شرد له بعير، فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال إنكم لا تعرفون حلاوة الوجدان. فنسب إلى الحمق لهذا السبب، فسارت به الأشعار، واكتسب بذلك اشتهاراً، واستشهدوا على ذلك بما أثرت حذفه اختصاراً. وأما المرأة فسبب نسبتها إلى الحمق أنها ولدت، فصاح المولود، فقالت لامرأة: أيفتح الجعر فاه؟. فقالت المرأة: نعم، ويسب أباه، فصارت مثلاً والجعر بفتح الجيم وسكون العين المهملة وهو في الأصل روث كل ذي مخلب من السباع، وقد يستعمل في غيرها بطريق التجوز، فظنت بجهلها ولدت، أنه قد خرج منها المعتاد، فلما استهل المولود عجبت من ذلك وسألت عنه. وكان سبب نسبتها إلى الحمق، وكانت مزوجة من بني العنبر بن عمرو بن تميم. فبنو العنبر يدعون لذلك بني الجعر. قال ابن خلكان: وهذا كله، وإن كان خارجاً عن المقصود، لكنها فوائد غريبة، فأحببت ذكرها.

ست وثمانين ومائتين

وفي السنة المذكورة ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي، وقويت شوكته، وانضم إليه جمع من الأعراب والزنج واللصوص، حتى تفاقم أمره، وهزم جيوش الخليفة مرات، فعاث وأفسد، وقصد البصرة، فحصنها المعتمد قبل، وذبح أبو سعيد المذكور في حمام بقصره، وخلفه ابنه أبو طاهر، وهو في الحقيقة أبو النجس القرمطي، الذي أخذ الحجر الأسود، ولم يرجع إلا بعد سنين كثيرة، وقيل بعد عشرين سنة. وفيها توفي علي بن عبد العزيز أبو الحسن اللغوي المحدث بمكة، وقد جاوز التسعين، سمع أبا نعيم وطبقته وعم البغوي عبد الله بن محمد. ست وثمانين ومائتين فيها وقيل في التي قبلها وقيل في التي بعدها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو سعيد أحمد بن عيسى الخزاز، من أهل بغداد، صحب ذا النون وأبا عبد الله التستري والسري وبشر أو غيرهم. قال رحمة الله عليه: كل باطن يخالفه ظاهره فهو باطل. وقال: رأيت إبليس في النوم وهو يمر عني ناحية فقلت: تعال، فقال: أي شيء أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس. قلت: وما هو. قال: الدنيا. فلما ولى عني التفت إلي وقال: غير أن لي فيكم لطيفة. قلت: وما هي. قال: صحبة الأحداث. وقال: صحبت الصوفية ما صحت، فما وقع بيني وبينهم خلاف. قالوا: لم. قال: لأني كنت معهم على نفسي. وقال: مررت بشاب ميت في باب بني شيبة، ونظرت في وجهه فتبسم، فقلت: يا حبيبي. أحياة بعد الموت؟. فقال: أما علمت يا أبا سعيد أن الأحباء أحياء، وإنما ينقلون من دار إلى دار. قيل: وهو أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. وقال الجنيد: لو طالبنا الله تعالى بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخزاز لهلكنا. وقيل لبعض المشايخ: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجيب أن تطير روحه اشتياقاً، وكان رضي الله تعالى عنه ينشد أبياتاً ترجمتها: فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلى تسري قلوبهم جوالة بمعسكر ... به أهل ود الله، كالأنجم الزهر فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر وفي سنة الست المذكورة توفي محمد بن وضاح، محدث قرطبة الإمام الحافط.

سبع وثمانين ومائتين

وقيل: في التي قبلها. سبع وثمانين ومائتين فيها قصدت طيىء ركب العراق في رجوعه من الحج ليأخذه كالعام الماضي، وكانوا في ثلاثة آلاف وأمير الحجاج أو الأغر فواقعوهم يوماً وليلة، والتحم القتال، وجندلت الأبطال، ثم أيد الله الوفد، وقتل رئيس طيىء صالح بن مدرك وجماعة من أشراف قومه، وأسر خلق، وانهزم الباقوق، ثم دخل الركب بالأسرى والرؤوس على الرماح ببغداد. وفيها سار العباس الغنوي في عسكر، فالتقى القرمطي، فأسر العباس وانهزم عسكره، وقيل: بل أسر سائر العسكر، وضربت رقابهم، وأطلق العباس وحده، فجاء إلى المعتضد برسالة القرمطي أن: كف عنا، واحفظ حرمتك. وفيها توفي الإمام الحافظ أبو بكر بن عمرو بن عاصم الضحاك الشيباني البصري قاضي أصبهان، صاحب المصنفات. وأبو سعيد الهروي الحافظ، شيخ هراة ومحدثها وزاهدا. ثمان وثمانين ومائتين فيها توفي مفتي بغداد، الفقيه الإمام أبو القاسم عثمان بن سعيد البغدادي الأنماطي صاحب المزني. وهو الذي نشر مذهب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه أبو العباس بن شريح. وفيها توفي الحاسب الحكيم ثابت بن قرة الحراني. كان في مبتدأ أمره صيرفياً بحران، ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل، فمهر فيها، وبرع في الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة. وله تآليف كثيرة في فنون من العلم، مقدار عشرين تأليفاً. وهذب " كتاب إقليدس " الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي، ونقحه وأوضح منه ما كان مستعجماً. وكان من أعيان عصره في الفضائل. وجرى بينه وبين أهل مذهبه أشياء، أنكروها عليه في المذهب، فرفعوه إلى رئيسهم، فأنكر عليه مقالته، ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة إلى تلك المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حران، فلما قدم محمد بن موسى من بلاد الروم راجعاً إلى بغداد، اجتمع به، فرآه فاضلاً

تسع وثمانين ومائتين

فصيحاً، فاستصحبه إلى بغداد، فأولد بها أولاداً. وكان له ولد سمي إبراهيم، بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذاق الأطباء، ومقتدى أهل زمانه في صناعة الطب، وعالج مرة للسري الشاعر، فأصاب العافية، فعمل فيه أبياتاً، وهي أحسن ما قيل في طبيب: هل للعليل سوى ابن قرة شافي ... بعد الإله، وهل له من كافي أحيى لنا رسم الفلاسفة الذي ... أؤدى، وأوضح رسم طب عافي مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين بصراً من غدير الضافي قلت: وقد ذكرت في أبيات بيتاً طغى فيه، حيث قال: وبئس ما قال. فكأنه عيسى ابن مريم ناطقاً ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف ومن حفدة ثابت المذكور: ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان ببغداد في أيام معز الدولة ابن بابويه. وكان طبيباً عالماً نبيلاً يقرأ عليه كتب أبقراط وجالينوس، وكان فكاكاً للمعاني، سلك مسلك جده في نظرة الطب والهندسة، وجميع الصناعات الرياضية للقدماء، وما تشتمل عليه الفلسفة. وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه. وقد قيل إن الأبيات المذكورة أولاً من نظم الزنجي السري، عملها فيه والله سبحانه وتعالى أعلم. والحراني نسبة إلى حران، وهي مدينة مشهورة بالجزيرة. وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن هاران عم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم عمرها، فسميت بإسمه، ثم إنها عربت فقيل: حران. وهاران المذكور أبو سارة زوجة إبراهيم عليه السلام. وكان لإبراهيم أخ يسمى هاران أيضاً، وهو أبو لوط صلوات الله على نبينا وعليه، وعلى جميع النبيين. قال في الصحاح: حران اسم بلد، وهو فعال، ويجوز أن يكون فعلان، فالنسبة إليه حرناني، على غير قياس، والقياس حراني على ما عليه العامة. تسع وثمانين ومائتين فيها توفي المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، وولي عهد المسلمين أبو أحمد طلحة بن المتوكل، جعفر بن المعتصم العباسي تغير مزاجه من إفراط الجماع، وعدم الحمية في مرضه. قلت: وقد ذكرت في آخر المجلد الثاني من كتاب المرهم شيئاً مما جرى له في مرضه

تسعين ومائتين

المذكور، وما عولج به، وما لاقى بعد إخراجه من التنور الموقد بحطب الزيتون. ولم يكن في اللبث فيه، ولا في ترك العود إليه بصبور، من أجل اشتداد الحرفية، والبرد عند الخروج منه، فلما أعيد فيه لأن لموته الحضور وبيان هذا وغيره أوضحته في الكتاب المذكور وكان شجاعاً مهيباً حازماً فيه تشيع. وفيها توفي الحافظ حسين بن محمد العتابي النيسابوري، صاحب المسند والتاريخ. وفيها توفي يحيى بن أيوب العلاف المصري، صاحب سعيد بن أبي مريم. والحافظ أبو جعفر صاحب سليمان بن حرب. تسعين ومائتين فيها حاصرت القرامطة دمشق، فقتل طاغيتهم يحيى بن زكرويه بالزاي في أوله فخلفه أخوه الحسين صاحب الشامة، فجهز المكتفي عشرة آلاف لحربهم، عليهم الأمير أبو الأغر في ألف نفس، فدخل حلب، وقيل تسعة آلاف. ووصل المكتفي إلى الرقة، وجهز الجيوش إلى أبي الأغر، وجاءت من مصر العساكر الطولونية، فهزموا القرامطة، وقتلوا منهم خلقاً، وقيل: بل كانت الوقعة بين القرامطة والمصريين بأرض مصر، وإن القرمطي صاحب الشامة انهزم إلى الشام مر على الرحبة، وبقي ينهب ويسبي الحريم حتى دخل الأهواز. وكان زكرويه القرمطي يكذب ويزعم أنه من آل الحسين بن علي رضي الله عنهما. وفيها دخل عبد الله الملقب بالمهدي المغرب متنكراً، والطلب عليه من كل وجه، فقبض عليه متولي سجلماسة، وعلى ابنه، فحاربه أبو عبد الله السبعي داعي المهدي، فهزمه ومزق جيوشه، وجرت بالمغرب أمور هائلة، واستولي على المغرب المهدي المنتسب إلى الحسين بن علي، وكان باطل الإعتقاد، وهو الذي بنى المهدية في المغرب. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني، كان إماماً خبيراً بالحديث وعلله، مقدماً فيه.

إحدى وتسعين ومائتين

إحدى وتسعين ومائتين فيها نهض جيش من طرسوس، فأدخلوا في الروم حتى نازلوا أنطاكية وافتتحوها عنوة، وقتلوا من الروم نحو خمسة آلاف، وغنموا غنيمة لم يعهد مثلها، بحيث بلغ سهم الفارس ألف دينار. وأما القرمطي صاحب الشامة، فعظم خطبه، والتزم له أهل دمشق بمال عظيم، حتى يرحل عنهم وتملك حمص وصار إلى حماة والمعرة فقتل، فعظم خطبه، وسبى وعطف إلى بعلبك، فقتل أكثر أهلها، ثم سار فأخذ سلمية، وقتل أهلها قتلاً ذريعاً، حتى ما ترك بها عيناً تطرف. وجاء جيش المكتفي فالتقاهم بقرب حمص، وأسر خلقاً من جنده. وركب هو وابن عمه وآخر، واخترقوا ثلاثتهم البرية، فمروا بداليه ابن طوق فأنكرهم والي تلك الناحية، فقررهم، فاعترفهم صاحب الشامة، فحملهم إلى المكتفي فقتلهم وحرقهم. وفي السنة المذكورة توفي الإمام علامة الأدب أبو العباس المشهور بثعلب، أحمد بن يحيى الشيباني، مولاهم الكوفي النحوي صاحب التصانيف المفيدة، انتهت إليه رئاس الأدب في زمانه. " قال ابن خلكان " في تاريخه: قال أبو بكر ابن المجاهد المقرىء: قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمر، وفليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة. قال: فانصرف من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة في المنام، فقال لي: أقرىء أبا العباس عني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل. وقال العبد الصالح أبو عبد الله. الرودباري: أراد أن الكلام به يكمل. والخطاب به يحمل، وإن جميع العلوم مفتقرة إليه. صنف " كتاب الفصحاء " وهو صغير الحجم كثير الفائدة و " كتاب إعراب القرآن " و " كتاب القراءات "، و " كتاب حد النحو "، و " كتاب معاني الشعر " وغير ذلك، وهو بضعة عشر صنفاً. وكان إمام الكوفيين في النحو واللغة، سمع من ابن الأعرابي والزبير بن

اثنتين وتسعين ومائتين

بكار، وروي عنه الأخفش الأصغر وابن الأنباري وأبو عمر والزاهد وغيرهم. وكان ثقة صالحاً مشهوراً الحفظ وصادق اللهجة والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم، مقداماً عند الشيوخ منذ هو حدث. وكان أبن الأعرابي إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؟. لغزارة حفظه. قال ابن الأخباري: أنشدني ثعلب. إذا كنت قوة النفسى ثم هجرتها ... فلم تلبث النفس التي أنت قوتها ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش لدى ديمومة البيت حوتها قلت: هكذا حكاه عنه ابن خلكان. والذي نعرفه: " لو كما يعيش ببيداء المفاوزة حوتها ". وكان سبب وفاته أنه خرج يوم الجمعة من الجامع بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب شديد، فكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق فصدمته فرس، فألقته في هوة، فأخرج منها هو كالمختلط، فحمل إلى منزله وهو على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم. " والشيباني " نسبة إلى شيبان، حي من بني بكر بن وائل. وفيها توفي مقرىء أهل دمشق هارون بن موسى المعروف بالأخفش صاحب ابن ذكوان، وفيها توفي قنبل قارىء أهل مكة عبد الرحمن المخزومي مولاهم المكي. اثنتين وتسعين ومائتين فيها خرج صاحب مصر هارون بن خمارويه الطولوني عن الطاعة، فسارت جيوش المكتفي بحربه، ووقعت لهم وقعات، ثم اختلف أمراء هارون واقتتلوا. فخرج ليسكنهم فجاءه سهم، فقتله. ودخل الأمير محمد بن سليمان قائد جيش المكتفي، فتملك الأقليم، واحتوى على الخزائن، وقتل من آل طولون بضعة عشر رجلاً، وحبس طائفة، وكتب بالفتح إلى المكتفي، وقيل إن هارون هم بالمضي إلى المكتفي فامتنع عليه امراؤه وسجنوه، فأبى فقتلوه غيلة. وفيها توفي أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الحافظ صاحب السنن ومسند الوقت، وقد قارب المائة أو كملها، وكان محدثاً حافظاً محتشماً كبير الشأن، قيل إنه لما فرغوا من سماع السنن عليه عمل لهم مائدة، غرم عليها ألف دينار، وتصدق بجملة منها. ولما قدم بغداد ازدحموا عليه، حتى حزر على مجلسه بأربعين ألفاً وزيادة. وكان في

ثلاث وتسعين ومائتين

المجلس سبعة مبلغون، كل واحد يبلغ الآخر. وفيها توفي المقرىء المحدث إدريس بن عبد الكريم. وفيها توفي محدث واسط الحافظ أبو الحسين، أسلم بن سهل. وقاضي القضاة أبو خازم، عبد المجيد بن عبد العزيز الحنفي، من القضاة العادلة له أخبار ومحاسن. ولما احتضر كان يقول: يا رب من القضاء إلى القبر، ثم يبكي.. وفيها توفي الإمام أبو العباس محمد بن أحمد الهروي، كان فقيهاً محدثاً صاحب تصانيف. رحل إلى الشام والعراق وحدث عن أبي حفص الفلاس " بالفاء " وطبقته رحمه الله تعالى. وفيها توفي يحيى بن منصور، أبو سعيد الهروي، أحد الأئمة في العلم والعمل حتى قيل: إنه لم ير مثل نفسه، رحمه الله تعالى. ثلاث وتسعين ومائتين وفيها عاثت القرامطة بالشام، وقتلوا وسبوا وبدعوا " بحوران "، و " طبرية " و " بصرة "، ودخلوا " السماوة " وطلعوا إلى " هيت " واستباحوها، ثم وثبت هذه الفرقة الطاغية على زعيمها أبي غانم فقتلوه، ثم جمع رأس القوم زكرويه جموعاً، ونازل الكوفة وقاتله أهلها، ثم جاءه جيش الخليفة فالتقاهم وهزمهم، ودخل الكوفة يصيح قومه يا ثارات الحسين، يعنون: صاحب الحال الذي من شامة ولد زكرويه. وفيها توفي عبدان بن محمد بن عيسى المروزي، وكان فقيهاً علامة في الفقه وغوامضه، زاهداً عابداً. وفيها توفي عيسى بن محمد المروزي اللغوي، كان إماماً في العربية، روى عن إسحاق بن راهويه، وهو الذي رأى بخوارزم المرأة التي بقيت نيفاً وعشرين سنة لا تأكل ولا تشرب.

أربع وتسعين ومائتين

قلت: وذكر الشيخ المشكور الولي المشهور صفي الدين بن أبي المنصور، أن امرأة بجيزة مصر أقامت ثلاثين سنة لا تأكل، ولا تشرب في مكان واحد، لا تتألم بحر ولا برد. وفيها توفي محمد بن أسد المديني، أبو عبد الله الزاهد، ويقال أنه مجاب الدعوة، عمر أكثر من مائة سنة، رحمه الله تعالى. وفيها توفي الحافظ محمد بن عبدوس. أربع وتسعين ومائتين وفيها أخذ ركب العراق زكرويه القرمطي، وقتل الناس قتلاً ذريعاً، وحوى ما قيمته ألف ألف دينار، وهلك من الحجيج عشرون ألف إنسان، ووقع البكاء والنوح في البلدان، وعظم هذا على المكتفي، فبعث الجيش لقتاله، فالتقوا فأسر زكرويه وخلق من أصحابه، وكان مجروحاً فمات، وأراح الله منه بعد خمسة أيام، وحمل ميتاً إلى بغداد، وقتل أصحابه، ثم أحرقوا وتمزق أصحابه في البرية. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو علي صالح بن محمد الأسدي البغدادي، محدث ما وراء النهر، نزل بخارى، وليس معه كتاب، فروى به الكثير من حفظه، رروى عن سعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد وطبقتهما، ورحل إلى الشام ومصر والنواحي، وصنف وخرج وعدل. وكان صاحب نوادر ومزاح. وفيها توفي الإمام إسحاق بن راهويه، روى عن أبيه وعلي بن المديني. وفيها توفي الحافظ أيوب بن يحيى البجلي الرازي محدث الري يوم عاشوراء، وهو في عشر المائة. وفيها توفي الإمام، أحد الأعلام محمد بن نصر المروزي، وكان رأساً في الفقه والحديث والعبادة. روي أنه كان يقع الذباب على أذنه وهو في الصلاة فيسيل الدم، ولا يذبه، كان ينتصب كأنه خشبة. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: كان من أعلم الناس بالإختلاف، وصنف كتباً وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماماً، فكيف بخراسان؟. وقال غيره: لم يك للشافعية في وقته مثله.

خمس وتسعين ومائتين

فيها توفي الإمام موسى بن هارون أبو عمران البغدادي الحافظ، كان إمام وقف في حفظ الحديث وعلله، وقال بعضهم: ما رأيت في حفاظ الحديث أهيب، ولا أورع من موسى بن هارون. خمس وتسعين ومائتين فيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري. قال بعضهم: إنما أخرجت نيسابور ثلاثة: محمد بن يحيى، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب. وفيها توفي إبراهيم بن معقل، قاضي نسف، وعالمها ومحدثها، وصاحب التفسير والمسند، وكان بصيراً إماماً بالحديث، عارفاً بالفقه والإختلاف. روى الصحيح عن البخاري. وفيها توفي الحكم بن معبد الخزاعي الفقيه، مصنف " كتاب السنة " بأصبهان، وكان من كبار الحنفية وثقاتهم. وفيها توفي أبو علي بن عبد الله بن محمد الحافظ، أحد أركان الحديث، مصنف التاريخ والعلل. وفيها توفي المكتفي بالله أبو الحسن علي بن المعتضد أحمد بن موفق بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي، وكان جميلاً وسيماً، بديع الخلقة، معتدل القامة، دري اللون، أسود الشعر، استخلف بعد أبيه، وكانت دولته ست سنين ونصفاً، وولي بعده أخوه المقتدر وله ثلاث عشرة سنة وأربعون يوماً ولم يل أمر الأمة صبي قبله. وفيها توفي عيسى بن مسكين قاضي القيروان وفقيه المغرب أخذ عن سحنون وعن الحارث بن مسكين، وكان إماماً ورعاً خاشعاً متمكناً من الفقه والآثار، ومستجاب الدعوة يشبه بسحنون في سمته وهديه. أكرهه ابن الأغلب الأمير على القضاء، فولي ولم يأخذ رزقاً، وكان يركب حماراً، ويتسقي الماء لبيته.

ست وتسعين ومائتين

وفيها توفي الإمام أبو جعفر محمد بن أحمد الترمذي كبير الشافعية في العراق قبل ابن شريح، وكان زاهداً ناسكاً، قانعاً باليسير. قال الدارقطني: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس ولا أورع منه، وكان صبوراً على الفقر، حدث عن جماعة كثيرة، منهم يحيى بن بكير المصري، وروى عنه جماعة، منهم أحمد بن كامل، وكان ثقة من أهل العلم والفضل، والزهد في الدنيا، والتقلل في المطعم، على حال عظيمة فقراً وورعاً وصبراً. روى بالإسناد أنه كان يقوت في سبعة عشر يوماً خمس حبات أو ثلاث حبات، فقيل له: كيف عملت؟ فقال: لم يكن عندي غيرها، فاشتريت بها لفتاً، فكنت آكل كل يوم واحدة. وذكر أبو إسحاق الزجاج النحوي أنه كان تجري عليه في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحداً شيئاً، وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد المدينة عام حججت فقلت: يا رسول الله، تفقهت بقول أبي حنيفة، فآخذ به؟ فقال: لا، فقلت: آخذ بقول مالك بن أنس. فقال: خذ منه ما وافق سنتي، قلت: فآخذ بقول الشافعي. فقال: ما هو يقوله. إلا أنه أخذ بسنتي، ورد علي من خالفها، قال: فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبت كتب الشافعي. هكذا ذكره جماعة من أهل الطبقات والتواريخ، منهم الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي، والقاضي الإمام ابن خلكان. وقال الدارقطني: هو ثقة مأمون ناسك. وكان يقول: كتبت الحديث تسعاً وعشرين سنة. وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن إسماعيل الإسماعيلي، أحد المحدثين الكبار بنيسابور. له تصانيف موجودة، ورحلة واسعة. ست وتسعين ومائتين فيها مات ابن المعتز، مات مخنوقاً، وذلك أنه لما دخلت هذه السنة، والملأ يستصعبون المقتدر، ويتكلمون في خلافته، فاتفق طائفة على خلعه، وخاطبوا عبد الله بن المعتز، فأجاب بشرط أن لا يكون فيها حرب. وكان رأسهم محمد بن داود الجراح، وأحمد بن يعقوب القاضي، والحسين بن حمدان، واتفقوا على قتل المقتدر، ووزيره العباس بن الحسين، وفاتك الأمير. فلما كان عاشر ربيع الأول، ركب الحسين بن حمدان والوزير والأمراء، فشد ابن حمدان على الوزير فقتله، فأنكر قتله فعطف على فاتك فألحقه بالوزير، ثم ساق ليثلث بالمقتدر وهو يلعب بالصوالجة، فسمع الهيعة فدخل الدار، وأغلقت الأبواب. ثم نزل ابن حمدان بدار سليمان بن وهب، واستدعى ابن المعتز، وحضر الأمراء

والقضاة سوى خواص المقتدر، فبايعوه ولقبوه " الغالب بالله " وقيل: الراضي بالله، المرتضي بالله، فاستوزر ابن الجراح، واستحجب عن الخادم، ونفذت الكتب لخلافته إلى البلاد، وأرسلوا إلى المقتدر ليتحول من دار الخلافة، ولم يكن معه غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن، وخاله الأمير، وتحضنوا، وأصبح الحسين بن حمدان على محاصرتهم فرموه بالنشاب، وتناحوا ونزلوا على خيمته، وقصدوا ابن المعتز، فانهزم كل من حوله وركب ابن المعتز فرساً ومعه وزيره وصاحبه، وقد شهر سيفه وهو ينادي: معاشر العامة ادعوا لخليفتكم. وقصد سامراء ليثبت بها أمره، فلم يتبعه كثير أحد، وخذل فنزل عن فرسه، فدخل دار ابن الجصاص، واختفى وزيره، ووقع النهب والقتل في بغداد، وقتل جماعة من الكبار، واستقام الأمر للمقتدر. ثم أخذ ابن المعتز وقتل سراً، سلمه المقتدر إلى مؤنس الخادم، فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء، وصودر ابن الجصاص. وقام بأعباء الخلافة الوزير ابن الفرات، ونشر العدل، واشتغل المقتدر باللعب. وأما الحسين بن حمدان فأصلح أمره، وبعث إلى بعض الولايات، وابن المعتز المذكور وهو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي. أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما، وكان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطاً للعلماء والأدباء، معدوداً من جملتهم، إلى أن جرت له الكاتبة المذكور في خلافة المقتدر، وله من التصانيف " كتاب الزهرة والرياض "، و " كتاب مكاتبات الشعر " و " كتاب الجوارح "، و " كتاب الصيد "، و " كتاب السرقات "، و " كتاب أشعار الملوك " و " كتاب الآداب "، و " كتاب حلي الأخبار "، و " كتاب طبقات الشعراء "، و " كتاب الجامع في العلم "، و " كتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح ". ومن كلامه: البلاغة البلوغ إلى المعنى وكان يقول: لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه؟. لقلت: قول العباس ابن الأحنف: قد سحب الناس أذيال الطنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا ورثاه علي بن محمد بن بسام يقول: لله دره من ميت بمضيقة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لو، ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب ولإبن المعتز أشعار رائقة، وتشبيهات فائقة، من ذلك قوله:

سبع وتسعين ومائتين

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نظير غراباً ذا قوادم جون يعني بالجون بفتح الجيم الأبيض، ويطلق على الأسود أيضاً لأنه من أسماء الأضداد، فشبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصباح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن يكون قوادم ريشها بيضاً، لأن ذلك البياض يقع من الظلمة في حواشيها، من حيث يلي معظم الصبح. وعموده ولمع نوره يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض، وجعل ضوء الصبح، لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل كأنه يدفع الدجى ويستعجله، ولا يرضى بأن يتمهل في حركته. وفيها السنة المذكورة توفي المحدث أبو جعفر محمد بن حماد. وفيها توفي أحمد بن يعقوب القاضي، أحد من قام في خلع المقتدر، احتساباً ذبح صبراً. وفيها توفي محمد بن داود بن الجراح الإخباري العلامة، صاحب المصنفات وكان أوحد زمانه في معرفة أيام الناس. سبع وتسعين ومائتين فيها توفي الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ: محمد بن أحمد بن زهير بن حرب كان أبوه يستعين به في تصنيف التاريخ. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير إمام السالكين، وقدوة العارفين أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي، شيخ الصوفية، أحد الخمسة المقتدى بهم في زمانهم، الجامعين بين علم الباطن والظاهر، صاحب التصانيف في الطريقة، كبير الشأن في أسرار الحقيقة. وفيها توفي الإمام البارع محمد بن داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري الفقيه أبو بكر، أحد أذكياء زمانه صاحب " كتاب الزهرة ". تصدر للإشتغال والفتوى. كان فقيها أديباً شاعراً ظريفاً وكان يناظر أبا العباس بن شريح. وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة ابن شريح. ولما توفي، أبوه داود جلس في حلقته، وكان على مذهبه، فاستصغروه فدشوا إليه

رجلاً وقالوا: سله عن حد الشكر، فسأله: متى يكون الإنسان في داخلاً في حد السكران؟ فقال: إذا ضربت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم، فاستحسن منه ذلك، وعلم موضعه العلم. قلت: وهذا الذي ذكره في حد السكر هو الذي نقله أصحابنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وإن اختلفا في بعض اللفظ والعبارة، فعبارة الشافعي: إنه الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وروى الشيخ الإمام أبو إسحاق بسنده في الطبقات: إن ابن داؤد المذكور جاءته امرأة فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة، لا هو يمسكها، ولا هو يطلقها؟. فقال: اختلف في ذلك أهل العلم، فقال قائلون: يؤمر بالصبر والإحتساب، وتبعث على التطلب والإكتساب وقال قائلون: تؤمر بالإتفاق، ولا يحمل على الطلاق. فلم تفهم المرأة قوله، وأعاد مسألتها فقال لها: يا هذه، قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبتك، ولست بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي، فانصرفت ولم تفهم جوابه. وصنف ابن داود كتابه " الزهرة " المذكور في عنفوان شبابه، وهو مجموع أدب أتى فيه. بكل غريبة ونادرة وشعر رائق. واجتمع يوماً، هو وأبو العباس بن شريح في مجلس الوزير ابن الجراح، فتناظرا في الإيلاء، فقال له ابن شريح: أنت تقول: من كثرت لحظاته دامت حسراته، أبصر منك بالكلام في الإيلاء. فقال له ابن داود: لئن قلت ذلك فإني أقول. أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ورده لتكلما رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما أن حيا صحيحاً مسلماً فقال له ابن شريح: ولم تفخر علي؟. ولو شئت أنا أيضاً لقلت: ومسامر بالفتح من لحظاته ... قد بث أمنعه لذيذ سناته ظناً بحسن حديثه وغنائه ... وأكدر اللحظات في وجناته حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته فقال ابن داود: نحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل، أنه ولي بخاتم ربه، فقال ابن شريح: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك.

ثمان وتسعين ومائتين

أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما فضحك الوزير وقال: لقد جمعتم ظرفا ولطفاً وفهماً وعلماً. انتهى. قلت: فإن اعترض معتوض وقال: لا يلزم ابن داود ما ادعاه ابن شريح في قول ابن داود: " أنزه في روض المحاسن مقلتي " البيت، لأن الروض الحقيقي لا يلزم بالنظر إليه ارتكاب محرم. قلت: القرينة دالة من لفظه، على أنه لم يرد بالروض حقيقته، وإنما أراد الإستعارة المجازية. والشاهد عليه قوله في عجز البيت: " وأمنع نفسي أن تنال محرما "، وهو مفهوم أيضاً من صدر البيت، أعني قوله: روض المحاسن، فأضاف الروض إلى المحاسن. وكان ابن داود المذكور عالماً في الفقه، وله تصانيف عديدة منها: " كتاب الوصول إلى المعرفة الأصول "، و " كتاب الإنذار "، و " كتاب الأعذار "، و " كتاب الإنتصار " على محمد بن جرير، وعبد الله بن سرسير، وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك. توفي رحمه الله يوم الإثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة، وعمره إثنان وأربعون سنة. وفي يوم وفاته توفي القاضي يوسف بن يعقوب الأزدي. قلت: ونقل ابن خلكان عنه حكاية لا تصح، فإنه قال: ويحكى أنه لما بلغته وفاة ابن شريح، كان يكتب شيئاً، فألقى الكراسة من يده وقال: ما كنت أحث نفسي وأجهزها على الإشتغال لمناظرته ومقاومته. فإن ظاهر هذا اللفظ أن ابن داود هو الذي بلغته وفاة ابن شريح، فقال هذا القول، وهذا لا يصح لأن ابن شريح مات بعده في سنة ست وثلاثمائة، اللهم إلا أن يكون أسقط الكاتب من اللفظ شيئاً، أعني: قال: بلغت وفاته، بإثبات التاء قبل الهاء، فأسقطها الكاتب. ومع هذا فهو بعيد أيضاً لكونه يقتضي أن الإمام المنتجب الملقب بالباز الأشهب أبا العباس بن شريح، ما كان يصنف إلا لمناظرة ابن داود الظاهري. نعم يحكى عنه أنه لما مات تأسف كيف تأكل الأرض مثله. والله أعلم بذلك. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة. وفيها توفي القاضي يوسف بن يعقوب كما تقدم. ثمان وتسعين ومائتين فيها توفي السيد الجليل الشيخ العارف محمد بن مسروق الطوسي، أستاذ الجنيد. وفيها توفي أستاذ الطريقة، وحامل لواء الحقيقة، سيد الطائفة، تاج العارفين،

قطب العلوم أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريري الخزاز " بالخاء المعجمة والزاي المشددة المكررة " قدس الله تعالى روحه. وقيل: سنة سبع، وقيل: ست صحب خاله السري السقطي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ. وممن صحبه من جلة الأئمة وأعلام الأئمة أبو العباس بن شريح الفقيه الشافعي المنتخب في العلوم المقتحم للخصوم. كان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام يعجب الحاضرين يقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟. هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد. وأصل الجنيد من نهاوند، ومولده ومنشأه العراق. وكان شيخ وقته وفريد عصره وكلامه في الطريقة وأسرار الحقيقة مشهور مدون، تفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي، وقيل بل كان فقيهاً على مذهب سفيان الثوري. وسئل عن العارف من هو؟. فقال من نطق عن شركه وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة. وروي يوماً وفي يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة. فقال طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه. وقال: قال لي خالي السري: تكلم على الناس وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت ليلة الجمعة. فقال لي: تكلم عل الناس، وأتيت باب السري قبل أن أصبح، فدققت الباب فقال لي: لم تصدق حتى قيل لك فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس، فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "؟ فأطرقت ساعة ثم رفعت رأسي، وقلت له أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام. قلت: والناس يعتقدون أن في هذا للجنيد كرامة، وأقول: فيه كرامتان: إحداهما: اطلاعه على كفر الغلام. والثانية: اطلاعه على أنه سيسلم في الحال. وكل ذلك باطلاع الله تعالى له تفضيلاً وإكراماً وتخصيصاً وإنعاماً، وإن لم يكن ذلك مطرداً، فقد يعطي الكرامة المفضول، ويمنع الفاضل وعن أبي القاسم الجنيد أنه قال: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وما هي؟ قال: مررت بدرب القراطين فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها، فسمعتها تقول:

إذا قلت أبدى الهجر لي حلل البلا ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي الهوى الذي تشرق القلب فصفقت وصيحت، فبينا أنا كذلك، إذا أنا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي؟ فقلت: ما سمعت، فقال: أشهد أنها هبة مني لك، فقلت: وقد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى. ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة. وأخبار الجنيد كثيرة، ومناقبه شهيرة، وسيرته حميدة، وكراماته عديدة. قيل: توفي آخر ساعة من نهار الجمعة، وقيل غير ذلك، ودفن بالشونيزية عند خاله السري. وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ بقراءته، فقرأ سبعين آية من البقرة ثم مات. وإنما قيل له الخزاز لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري: لأن أباه كان قواريرياً. قلت: وذكر بعض المشايخ أنه لما صنف عبد الله بن سعيد بن كلاب كتابه الذي رد فيه على جميع المذاهب قال: هل بقي أحد؟ قيل له: نعم بقي طائفة يقال لها الصوفية، قال: فهل لهم من إمام يرجعون إليه؟. قيل: نعم، الأستاذ أبو القاسم الجنيد. فأرسل إليه، فسأله عن حقيقة مذهبه، فرد عليه الجنيد الجواب، بأن مذهبنا إفراد القدم عن الحدث، وهجران الإخوان والأوطان، ونسيان ما يكون وما كان. فلما سمع ابن كلاب هذا الجواب تعجب من ذلك وقال: هذا شيء، أو قال: كلام لا يمكن فيه المناظرة. ثم حضر مجلس الجنيد وسأله عن التوحيد، فأجابه بعبارة مشتملة على معارف الأسرار والحكم فقال: أعد علي ما قلت، فأعاده لا بتلك العبارة، فقال: هذا شيء آخر. فأعده علي، فأعاده بعبارة أخرى فقال: ما يمكننا حفظ ما تقول، فأمله علينا، فقال: لو كنت أجريه كنت أمليه، فقال بفضله واعترف بعلو شأنه. قلت: وإلى قوله: لو كنت أجريه كنت أمليه، أشرت على لسان صاحب الحال الجاري على لسانه كلام بغير اختيار على طريق التغزل بسلمى، ويشبهها حيث أقول حاكياً لكلام شيخنا، قدس الله تعالى روحه. في حال غيبته بالحال الوارد عليه: وما قلت قولاً، غير أني أعرتها ... لساني، فأومت للهوى يتكلم فأسرارها منها علمت، وعندما ... شكرت جليسي شرها منه يعلم أعني: يعلم الجليس السر الجاري على لسان المتكلم بواسطة الهوى المشار إليه بالتكلم من جهة المحبوب المكنى عنه سلمى تستر. وروي عن بعض المشايخ الصوفية الجلة أنه قال: قال لي الكعبي من كبار أئمة المعتزلة رأيت لكم شيخاً ببغداد يقال له الجنيد، ما رأت عيني مثله، كانت الكتبة يحضرونه لألفاظه،

والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه وكلامه، ناء عن فهمهم وكان رضي الله تعالى عنه من صغره منطقاً بالمعارف والحكم، حتى أن خاله السري سئل عن الشكر والجنيد يلعب مع الصفار فقال له: ما تقول يا غلام. فقال: الشكر أن لا تستعين بنعمة على معاصيه، فقال السري: ما أخوفني عليك أن يكون حظك في لسانك. قال الجنيد: فلم أزل خائفاً من قوله هذا حتى دخلت عليه يوماً، وجئته بشيء كان محتاجاً إليه فقال لي: أبشر فإني دعوت الله عز وجل أن يسوق لي ذلك على يد مفلح، أو قال: موفق، اللهم إنا نسألك التوفيق، ونعوذ بك من الخذلان والتعويق، بجاه نبيك الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم. وعن الأستاذ أبي القاسم المذكور أنه قال: دخلت الكوفة في بعض أسفاري، فرأيت داراً لبعض الرؤساء، وقد سف عليها النعيم، وعلى بابها عبيد وغلمان، وفي بعض رواشتها جارية تغني وتقول: ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يعبث بساكنك الزمان فنعم الدار أنت لكل ضيف ... إذا ما الضيف أعوزه المكان قال: ثم مررت بعد مدة، فإذا الباب مسود، والجمع مبدد، وقد ظهر عليها كآبة الذل والهوان، وأنشد لسان الحال: ذهبت محاسنها وبان شجونها ... والدهر لا يبقي مكاناً سالماً فاستبدلت من أنسها بتوحش ... ومن السرور بها عزاء وغما قال: فسألت عن خبرها، فقيل لي: مات صاحبها، فآل أمرها إلى ما ترى. فقرعت الباب الذي كان لا يقرع، فكلمتني جارية بكلام ضعيف، فقال لها: يا جارية، أين بهجة هذا المكان؟. وأين أنواره؟ وأين شموسه؟ وأين أقماره؟. وأين قصاده؟. وأين زواره؟ فبكت، ثم قالت: يا شيخ، كانوا فيه على سبيل العلوية، ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار، وهذه عادة الدنيا، ترحل من سكن فيها، وتسيء إلى من أحسن إليها. فقلت لها: يا جارية، مررت بها في بعض الأعوام، وفي هذا الروشن جارية تغني: " ألا يا دار لا يدخلك حزن "، فبكت وقالت: أنا والله تلك الجارية، لم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرته دنياه. فقلت لها: فكيف قربك القرار في هذا الموضع الخراب؟ فقالت لي: ما أعظم جفاءك، أما كان هذا منزل الأحباب؟ ثم أنشأت: قالوا اتغتي وقوفاً في منازلهم ... وليس مثلك لا يغني بحملها فقلت والقلب قد ضجت أضالعه ... والروح تنزع والأشواق تبدلها

تسع وتسعين ومائتين

منازل الحب في قلبي معظمة ... وإن خلا من نعيم الوصل منزلها فكيف أتركها، والقلب يتبعها ... حباً لمن كان قبل اليوم ينزلها قال: فتركتها ومضيت، وقد وقع شعرها من قلبي موقعاً، وأزاد قلبي تولعاً. قلت: ومن العبر العظيمات مما يناسب هذه الحكاية في سرعة الممات أنها قرئت علي هذه الترجمة لأبي القاسم الجنيد في منزلي، في بعض الليالي، وأنا حينئذ في المدينة الشريفة، وكانت زوجتي زينب بنت القاضي نجم الدين الطبري تسمع قراءتها، فذكرت في تلك الليلة شيئاً من هذه الحكاية، مما كان على ذهني منها. ثم أردت أن أكتبها، وألحقها بالترجمة المذكورة لنسمعها في ليلة أخرى زوجتي المشار إليها، فما تيسرت كتابتها إلا اليوم الثالث من موتها، ولا قرأنا شيئاً من هذا التاريخ في بيتها سوى ليلة، وقد نزل مرض الموت بها رحمها الله تعالى وأنزلها. داراً خيراً من دارها. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبو عثمان الحيري " بكسر الحاء المهملة والراء وسكون الياء المثناة من تحت بينهما " سعيد بن إسماعيل، شيخ نيسابور في زمانه، وواعظها وكبير الصوفية بها. صحب الشيخ الكبير الجليل أبا حفص النيسابوري، وكان كبير الشأن مجاب الدعوة. تسع وتسعين ومائتين فيها توفي شيخ نيسابور، أبو عمرو الخفاف، أحمد بن نصر الحافظ الزاهد. سمع إسحاق بن راهويه. وقال ابن خزيمة يوم وفاته: لم يكن بخراسان أحفظ للحديث منه. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي النحوي، صاحب التصانيف في القراءة والجريب والنحو. وكان أبو بكر بن مجاهد يعظمه ويطريه ويقول: هو أنحى من الشيخين. يعني ثعلباً والمبرد. ثلاث مائة فيها توفي صاحب الأندلس: أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأموي. وكانت دولته خمساً وعشرين سنة. ولي بعد أخيه المنذر، وكان ذا صلاح وعبادة وعدل وجهاد، يلتزم الصلوات في الجامع، وله غزوات كبار، أشهرها غزوة ابن حفصون، وكان ابن حفصون في ثلاثين ألفاً، وهو في أربعة

عشر ألفاً، فالتقيا فانكسر ابن حفصون، وتبعه عبد الله يأسر ويقتل حتى لم ينج منهم أحد. وكان ابن حفصون من الخوارج. وفيها توفي أبو الحسن علي بن سعيد العسكري، أحد أركان الحديث. وأبو الحسين مسدد بن قطن النيسابوري. قال الحاكم: كان مربي عصره، والمقدم في الزهد والورع. وفيها توفي أبو أحمد يحيى بن علي المعروف بابن المنجم. كان أول أمره نديم الموفق طلحة بن المتوكل على الله، وكان الموفق نائباً عن أخيه المعتمد على الله، ولم يل الخلافة، ثم نادم يحيى المذكور الخلفاء بعد الموفق، واختص بمنادمة المكتفي بالله، وعلت رتبته عنده، وتقدم على خواصه وجلسائه. وكان متكلماً معتزلي الإعتقاد، وله في ذلك كتب كثيرة. وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضره المكتفي، وله مع المعتضد وقائع ونوادر. من ذلك أنه قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد، وهو مغضب، فأقبل بدر مولاه وهو شديد الغرام به، فلما رآه من بعيد ضحك وقال: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء: في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيه حيث ما شفعا فقلت: يقوله الحكم بن عمر والشاري. فقال: لله دره، أنشدني هذا الشعر، فأنشدته: ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوداجه وجعا كأنما الشمس في أعطافه لمعت ... حسناً أو البدر من أزراره طلعا مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب، ومعذور متى صنعا في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيه حيث ما شفعا وفي حدود الثلاث مائة توفي أحمد بن يحيى الراوندي الملحد. وكان يلازم الرافضة والزنادقة، قال ابن الجوزي: كنت أسمع عنه العظائم حتى رأيت في كتبه ما يخطر على قلب أن يقوله عاقل، فمن كتبه: " كتاب نعت الحكمة "، و " كتاب قضب الذهب "، و " كتاب الزمرد "، وقال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل، وقد صنف " الدامغ " يدمغ به على القرآن، و " الزمردة " يزري به عيب النبوات.

إحدى وثلاث مائة

وذكر بعضهم أن له من التصانيف ما ينيف على مائة مصنف. قلت: والمشاهير من أهل الحق ينقلون عنه في كتب الأصول أشياء ينسبونه فيها إلى الزندقة والإلحاد، فلا اعتبار لمن يمدحه بالفضائل كابن خلكان وغيره. إحدى وثلاث مائة فيها قتل أبو سعيد القرمطي، صاحب هجر قتله خادم في الحمام " روادة "، ثم خرج فاستدعى رئيساً من خواض أبي سعيد القرمطي، فقال: السيد يطلبك، فلما دخل قتله، ثم آخر، ثم آخر كذلك، حتى قتل أربعة، يستدعيهم واحدا بعد واحد، ثم صاح النساء، فتكاثر الناس على الخادم، فقتلوه. وكان هذا الملحد قد تمكن وهزم الجيوش، ثم هادنه الخليفة، واسمه الحسن بن بهرام. وفيها سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب على أربعين ألفاً ليأخذ مصر، حتى بقي بينه وبين مصر مسيرة أتام، فحجز أمير مصر النيل، وحال الماء بينه وبين مصر، ثم جرت بينهم وبين جيش المقتدر حروب، فرجع المهدي إلى برقة، بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم. وفيها توفي الحافظ العلامة جعفر بن محمد أبو بكر صاحب التصانيف. وكان من أوعية العلم. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني، جد الحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن منده. وفيها توفي الأمير علي بن أحمد الراسي، أمير جند نيسابور، وخلف ألف فرس وألف ألف دينار أو نحو ذلك. وفيها توفي البشامي علي بن محمد الشاعر المشهور. كان من أعيان الشعراء ومحاسن الظرفاء لسناً مطبوعاً في الهجاء. قالوا: لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا

كبير، حتى وقع ذلك منه في أبيه وإخوته وسائر أهل بيته. ونقلوا في ذلك أشعاراً ومن شعره في غير الهجاء قوله: وكانت بالسراة لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأمان ومن قوله في هجاء بعض الكتاب: تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب ودخل وزير المعتضد، والمعتضد ينشد هجاء فيه، فلما رآه المعتضد استحيى منه وقال: اقطع لسان ابن بشام. فخرج الوزير مبادراً لقطع لسانه، فاستدعاه المعتضد وقال: اقطع لسانه بالبر والشغل، ولا تعرض له بسوء، فولاه البريد وبعض الأعمال والبشامي نسبة إلى الجد والهجاء الذي دخل الوزير، والمعتضد ينشده هو: قل لأبي القاسم المروزي ... قابلك الدهر بالعجائب مات لك ابن وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعائب حياة هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب يعني بأبي القاسم: أبا الوزير المذكور، وكان قد مات له ابن هو أخو الوزير. والمعنى أن حياة الوزير مصيبة، كما أن موت أخيه مصيبة. وفيها توفي الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر، المعروف بابن الفرات وكان وزير بني الأختل بمصر مدة إمارة كافور، وبعد وفاة كافور. وكان عالماً ومحباً للعلماء، وحدث عن محمد بن هارون الحضرمي وطبقته، وعن جماعة آخرين، وكان يملي الحديث بمصر، وهو وزيره، وقصده الأفاضل من البلدان الشاسعة، وبسببه سار الحافظ الحسن الدارقطني من العراق إلى مصر، ولم يزل عنده حتى فرغ من تأليف مسند، وله تأليف في أسماء الرجال والأنساب وغير ذلك. ومدحه المتنبي مع كافور، وكان كثير الخير أهل الحرمين. واشترى بالمدينة داراً ليس بينها وبين الضريح النبوي سوى جدار واحد وأوصى أن يدفن فيها، وقرر مع الأشراف ذلك، ولما مات حمل تابوته، وخرجت الأشراف إلى لقائه وفاء بما أحسن إليهم، وحجوا به وطافوا، ووقفوا، ثم ردوه إلى المدينة، ودفنوه بالدار المذكور، وقيل: دفن بالقرافة، وعلى قبره مكتوب اسمه.

أثنتين وثلاث مائة

أثنتين وثلاث مائة فيها عاد المهدي إلى الإسكندرية، فوقعت وقعة كبيرة، قتل فيها نائبه، فرداً إلى القيروان. وفيها أخذت طيىء الركب العراقي، وتمشرق الوفد في البرية، وأسروا من النساء مائتين وثمانين. وفيها توفي العلامة فقيه المغرب أبو عثمان بن حداد الإفريقي المالكي. أخذ عن سحنون وغيره. برع في العربية والنظر. ومال إلى مذهب الشافعي، وجعل يسمي المدونة المزورة، فهجره المالكية، ثم أحبوه لما قام على أبي عبد الله السيفي، وناظره ونصر السنة. وفيها توفي العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأصبهاني، إمام جامع أصبهان، أحد العباد والحفاظ. ثلاث وثلاث مائة فيها توفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام، صاحب المصنفات، أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي، إمام عصره في الحديث، وله كتاب السنن وغيره، سكن مصر وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل؟. وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع بطنك. وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في خطبته حتى أخرجوه من المسجد. وفي رواية أخرى: يدفعون في خطبته، وداسوه، ثم حمل إلى الرملة فمات بها. وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها فتوفي بها. وهو مدفون بين الصفا والمروة، وقال الحافظ أبو نعيم: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو مقتول. قال: وكان قد صنف " كتاب الخصائص " في فضل علي رضي الله تعالى عنه، وأهل البيت. فقيل له: ألا تصنف كتاباً في فضائل الصحابة؟. فقال: دخلت دمشق، والمتحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان موصوفاً بكثرة الجماع.

قال الحافظ ابن عساكر: كان له أربع زوجات، يقسم لهن وجواري، وقال الدارقطني: أدرك الشهادة، وتوفي بمكة ونسبته إلى نسا مدينة بخراسان. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو العباس الحسين بن سفيان الشيباني بفقه على أبي ثور. وكان يفتي بمذهبه قال الحاكم: كان محدث خراسان في عصره، مقدماً بالثبت والكثرة والفهم والأدب. وفيها توفي أبو علي الجبائي، محمد بن عبد الوهاب، شيخ المعتزلة. وفيها توفي يموت بن المزرع بن يموت العبدي البصري، قال الخطيب هو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ، قدم يموت المذكور بغداد في سنة إحدى وثلاث مائة، وهو شيخ كبير، وحدث بها عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وجماعة كثيرة. وروى عنه أبو بكر الخرائطي، وأبو بكر بن مجاهد المقرىء، وأبو بكر الأنباري وغيرهم. وكان أديباً أخبارياً، وله ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضاً خوفاً من أن يتطير من اسمه، ويقول: بليت بالأسم الذي سماني به أبي فإذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه، فقيل: من هذا؟ قلت: أنا ابن المزرع، وأسقطت اسمي. وقيل إنه كان قد سمى نفسه محمداً، ومدحه منصور بن الضرير فقال: أنت تجيء والذي ... يكره أن تجيء يموت أنت ضوء النفس بل ... أنت لروح النفس قوت أنت للحكمة بيت ... لا خلت منك البيوت ومن أخباره ما رووه عن الأصمعي قال: كنت عند الرشيد، وقد أتي بعبد الملك صالح الباسي، وهو يرفل في قيوده. فلما نظر الرشيد إليه قال: هيه يا عبد الملك كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع وإلى عارضها قد تبلع، وكأني بالوعيد أقلع عن براجم بلا عاصم، ورؤوس بلا عاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم، فتى والله سهل لكم الوعر، وصفى الكدر، وألقت إليكم الأمور أزمتها، فخذوا حذاركم مني قبل حلول داهية، خيوط باليد والرجل. قال عبد الملك: أفرداً أتكلم أم توأماً؟ فقال: بل توأماً، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين

فيما ولآك، وراقبه في رعاياك التي استرعاك، فقد سهلت والله لك الوعور، وجمعت على خوور، ورجا بك الصدور. وكنت كما قال أخو جعفر بن كلاب: ومقام ضيق فرجته بلسان وبيان، وجدل لو يقوم القيل أو قياك في مقام كمقامي لرجل، أو قال: نفسك فأراد يحيى بن خالد البرامكي أن يضع مقدار عبد الملك عند الرشيد فقال له: بلغني أنك حقود، فقال عبد الملك: إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي فإنهما لباقيان في قلبي، قال. الأصمعي: فالتفت الرشيد إلي وقال: يا أصمعي، والله لو نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، يمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله. ومما روى يموت أيضاً أن أحمد بن محمد بن عبد الله المعروف بابن المدبر الكاتب أن إذا مدحه شاعر، ولم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم أطلقه. فتحاماه الشعراء من الأفراد المجيدين، فجاءه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد فقال: قد عرفت الشرط؟. قال: نعم، ثم أنشده. أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح ينتجع الولاة فقلنا: أكرم الثقلين طراً ... ومن كفاه دجلة والفرات فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي إنما الشأن الزكاة فتأمرني بكسر الصاد منها ... وتصبح لي الصلاة هي الصلات فضحك ابن المدبر واستطرفه، وقال: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قول أبي تمام الطائي: هن الحمام وإن كسرت عناقه ... من جابهن فإنهن حمام فاستحسن ذلك، وأحسن صلته، وحدث ابن المزرع أيضاً عن خاله أبي عثمان الجاحظ أنه قال: طلب المعتصم جارية كانت لمحمود بن الحسن الشاعر المعروف بالوراق وكانت تسمى بشنوى، وكان شديد الغرام بها، وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار، فامتنع محمود من بيعها، لأنه كان يهواها أيضاً. فلما مات محمود بيعت الجارية للمعتصم تركته بسبعمائة دينار، فلما دخلت عليه قال لها: كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف دينار بسبعمائة دينار؟. فقالت: أجل. إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث فإن سبعين ديناراً لكثيرة في ثمني، فضلاً عن سبعمائة، فخجل المعتصم. وقال ابن المزرع: حدثني من رأى قبراً بالشام عليه مكتوب: لا يغترن أحد بالدنيا،

فإني ابن من كان يطلق الريح إذا شاء ويحبسها. وبحذائه قبر عليه مكتوب: كذب الماص بظر أمه. لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود عليه السلام، إنما هو حداد يجمع الريح في الزق، ثم ينفخ بها الجمر.. قال: فما رأيت قبرين قبلهما يتشابهان. قلت: وفي هذا المعنى خطر لي وقت وقوفي عليه إنشاء بيت على طريق اللغز معيراً بارتحاله عن لسان حاله نائباً عنه في مقاله: أنا ابن الذي للريح يمسك إن يشا ... ويرسلها إن شاء للنفع ثارها ومما يناسب هذا مقال اثنين، مشهور لغزهما، ضمنته نظماً وآخرين اخترتهما لغزاً لفظاً ومعنى، وعن لغز الأربعة أشرت في بعض القصيدات بهذه الأبيات. من اللغز قول اثنين كل مجاوب ... لبعض ولاة ناظماً مترفعاً أنا ابن الذي ذلت رقاب الورى له ... ومخزومها منهم وهاشمها معا إلى نحوها تأتي لأمر مطيعة ... فمرد بها والمال يأخذ خضعا وقال الفتى الثاني له في جوابه ... وقد شام برق المجد من ذاك شعشعا أنا ابن الذي لا ينزل الأرض قدره ... وإن نزلت تغلو وتعلا بمشبعا ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... وقد ملؤوا الرحب الفسيح الموسعا وخذ ثالثاً قال اعتز متفاخراً ... لمجد وجد كي يصان ويرفعا أنا ابن الفتى دباج كل سمينة ... ومزهق أرواح تماض مصرعا ومفن بشجعان القرون محصنا ... لسفرك أقران التسفك ضجعا ورابعهم قال افتخار أمنا هيا ... بأصل وفصل للسناء متطلعا أنا ابن الذي يكسو الأنام صنيعه ... بها وزينا من له الغير صنعا يوصل وقطع مبرم في فعاله ... لما لم يصل في الدهر غير ويقطعا عن الأولين استنجزوا وترحلوا ... وقد سمعوا المجد الأثيل المرفعا فقيل ابن حجام وطباخ اعتزل ... إلى المجد كل باحتيال ليخدعا وقل ثالثاً يحل الجزار فرية ... ومن حائك من للثلاثة ربعا أعني أن الأولين وردا على بعض الولاة، فسألهما عن أصلهما، فأجابا بالجوابين المذكورين اللذين بين كثير من الناس مشهورين. ثم عبرت عن مقالهما بنظمي المذكور، ثم أنشأت على وجه الإختراع لغزاً لإثنين آخرين ليس له عند أحد من الناس سماع، وأشرت إلى ذلك بقولي: " وخذ ثالثاً إلى الآخر "، ثم أوضحت وصف الأربعة يكون الأولين ابني حجام وطباخ، والآخرين ابني جزار وحائك. وقصيدتي المذكورة هي الموسومة بنزهة النطار، مشتملة على ستة من العلوم، ثم شرحتها شرحاً موسوماً بمنهل الفهوم المروي من صدى

خمس وثلاث مائة

الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم، وهي المعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والسلوك، أعني سلوك منازل الطريقة للسائرين إلى الحضرة من أولي الحقيقة. خمس وثلاث مائة فيها قدم رسول ملك الروم يطلب الهدنة، فاحتفل للمقتدر بجلوسه له، وأقام الجيش بالسلاح، وكانوا عامة وستين ألفاً. ثم الغلمان وكانوا سبعة آلاف، وكانت الحجاب سبع مائة. وعلقت ستور الديباج، وكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر من البسط وغيرها، ومما كان في الدار سبعمائة سلسلة. ثم أدخل الرسول دار الشجرة، وفيها بركة وفيها شجرة لها أغصان عليها طيور مذهبة، وورقه ألوان مختلفة، وكل طائر يصفر لوناً بحركات مصنوعة، ثم أدخل الفردوس، وفيها من الفرش والآلات ما لا يقوم. قلت: هذه التسمية بالفردوس تشبيهاً بما سماه الملك القدوس من الضلال وطغيان النفوس. وفي السنة المذكورة توفي مسند العصر أبو حنيفة البصري الجمحي الفضل بن الحباب، وكان محدثاً متقناً أخبارياً عالماً. ست وثلاث مائة فيها أو قبلها: أمرت أم المقتدر في أمور الأمة، ونهت لركالة حال ابنها، فإنه لم يركب للناس ظاهراً منذ استخلف إلى سنة إحدى وثلاث مائة، ثم ولي ابنه علياً إمرة مصر وغيرها، وهو ابن أربع سنين، وهذا من الوهن والخلل الذي دخل على الأمة. ولما كان في السنة المذكورة أمرت أمه القهرمانة أن تجلس للمظالم، وتنظر في القصص كل جمعة بحضرة القضاة، وكانت تبرز التواقيع عليها خطها. وفيها أقبل القائم محمد بن المهدي صاحب المغرب في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد، ثم رجع. وفيها توفي القاضي الفقيه الإمام، علم الأعلام، الطراز المذهب الملقب بالباز الأشهب، حامل لواء مذهب الشافعي وناشره، ومؤيده في زمانه وناصره، أبو العباس أحمد بن عمر بن شريح، شيخ الشافعية، فقيه في زمانه، صاحب التصانيف الكثيرة

والفضائل الشهيرة. يشمل فهرست كتبه على أربعمائة مصنف، أخذ الفقه عن أبي القاسم الأنماطي عن المزني، والمزني عن الشافعي. قيل وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني. قال أهل الطبقات: وعنه أخذ فقهاء الإسلام من الشافعية، واشتهر مذهب الشافعي في الآفاف. وانتشر، وقام بنصرة المذهب والرد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن الحنفي وكان شيخ طريقة العراق أبو حامد الأسفراييني يقول: نحن نجري مع أبي العباس في ظواهر الفقه دون دقائقه. قلت: وسمعت من بعض شيوخنا أنه سأله إنسان: كيف يلبي المحرم؟. فقال: يقول لبيك، اللهم لبيك، اللهم لبيك، إلى آخر التلبية المعروفة، فقال السائل. صرت محرماً فقال ابن سريج " تزببت حصرماً "، قلت: قاله تحكماً، لأن الحصرم لا يجيء منه زبيب وإنما قال السائل: صرت محرماً، لأنه قيل أن ابن سريج كان يقول: يلزم الحكم بالحكا والله أعلم، وكان يناظر محمد بن داود الظاهري. حكى أنه قال له ابن داود يوماً: أبلعني ريقي، قال ابن سريج أبلعتك دجلة. وقال له يوماً: أمهلني ساعة، فقال: أمهلتك الساعة إلى أن تقوم الساعة، وقال له يوماً: أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس. فقال هكذا البقر إذا خفيت أظلافها وهنت قرونها. وقال الشيخ الإمام المعروف بالفقه والإتقان أبو علي بن خيران: سمعت أبا العباس سريج يقول: رأيت كأنا مطرنا كبريتاً أحمر، فملأت أكمامي وحجري منه، فعبر لي أن أرزق علماً عزيزا كعزة الكبريت الأحمر. وكان يقال له في عصره: إن الله تعالى بعث عمر عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة، فأظهر كل سنة وأمات كل بدعة، ومن الله تعالى على رأس المائتين بالإمام الشافعي، حتى أظهر السنة وأخفى البدعة. ومن الله تعالى رأس الثلاثمائة بك حتى قويت كل سنة، وضعفت كل بدعة. قلت: هكذا ذكر في التاريخ، ولكن الذي صرح به الحافظ الإمام أبو القاسم عساكر أن الصحيح أنه كان على رأس الثلاثمائة الإمام أبو الحسن الأشعري، لأنه الذي على أئمة المبتدعة، ونصر مذهب أهل الحق والسنة. والناس في ذلك الزمان إلى إقامة الحق والذب عن السنة وإبطال مذاهب البدعة بقواطع الأدلة والبراهين المقحمة المقررة في علم الأصول، أحوج منهم إلى معرفة الفروع. وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري أولى بأن يكون من المجددين الذين على رأس كل مائة سنة المشار إليهم في الحديث على وجه الإبهام دون التعيين. وسيأتي ذكر من على رأس المائتين اللاتي بعد إن شاء تعالى.

سبع وثلاث مائة

ولابن سريج المذكور مع فضائله نظم حسن، وفهم مشكور. عاش سبعاً وخمسين سنة وستة أشهر. وكان جده سريج رجلاً مشهوراً بالصلاح الوافر. وهو سريج بن يونس بن إبراهيم بن الحارث المروزي الزاهد العابد، صاحب الكرامات. وقد تقدم تاريخ موته في سنة خمس وثلاثين ومائتين، روى الحديث عن الحسن بن محمد الزعفراني. وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الإمام أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر التميمي المصري الفقيه الشافعي الضرير. أصله من " رأس عين " البلدة المشهورة بالجزيرة، وأخذ الفقه عن أصحاب الإمام الشافعي، وعن أصحاب أصحابه، وله مصنفات من المذهب مليحة، منها الواجب والمستعجل والمسافر والهداية، وغير ذلك من الكتب. وله شعر جيد ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء، وأنشد له: عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر وحكي أنه أصابته مسغبة في سنة شديدة القحط، فرقي سطح داره، ونادى بأعلى صوته: الغياث، الغياث، نحن خلجاً لكم، وأنتم تجار، وإنما يحسن المواساة في الشدة، لا حين ترخص الأسعار. فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة جمل بر. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير أبو عبد الله بن الجلاء، أحمد بن يحيى. من أجل شيوخ الصوفية، صحب ذا النون المصري والكبار. كان قدوة أهل الشام، قال لأبويه: اشتهي أن تهباني لله عز وجل، فقال: قد وهبناك له فغاب عنهما مدة من الزمان، ثم جاء في ليلة ذات مطر وبرد، فقرع عليهما الباب، فقالا: من هذا. قال: ولدكما. قالا: ليس لنا ولد، وهبناه لله عز وجل، ونحن قوم عرب إذا وهبنا شيئاً لا نرجع فيه. وفيها توفي الإمام الحافظ صاحب التصانيف أبو محمد عبدان بن أحمد الأهوازي الجوالقي. سبع وثلاث مائة فيها توفي أبو يعلى الموصلى التميمى الحافظ، صاحب المسند. والحافظ الكبير

ثمان وثلاث مائة

أبو بكر محمد بن هارون الروياني صاحب المسند، وله تصانيف في الفقه. ثمان وثلاث مائة فيها ظهر اختلال الدولة العباسية، وخشيت الفتنة ببغداد، فركبت الجند، وسبب ذلك كثرة الظلم من الوزير حامد بن العباس، فقصد العامة داره، فحاربتهم غلمانه، وكان له مماليك كثيرة، ودام القتال أياماً، فقتل خلق كثير، ثم استفحل البلاء، ووقع النهب ببغداد. وجرت فتن وحروب بمصر، وملك العبيديون جيزة الفسطاط، وخرج الخلق، وشرعوا الحرب والحفل. وفيها توفي الفقيه الصالح راوي صحيح مسلم، إبراهيم بن محمد بن س النيسابوري. قيل كان مجاب الدعوة. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو محمد عبد الله بن محمد الدينوري، سمع الكثير وطوف الأقاليم. وفيها توفي أبو الطيب، محمد بن المفضل الضبي الفقيه الشافعي من كبار الفقهاء ومتقدميهم. أخذ الفقه عن أبي العباس سريج، وكان موصوفاً بفرط الذكاء، وله تصانيف، وله في المذهب وجوه حسنة وأبوه أبو طالب المفضل الضبي اللغوي صاحب التصانيف المشهورة في فنون الأدب ومعاني القرآن. وجده سلمة بن عاصم صاحب الفراء وراويته، وهم أهل بيت كلهم علماء نبلاء مشاهير، رحمهم الله تعالى، وقيل أن ابن الرومي هجا المفضل المذكور فقال: لو تلففت في كساء الكسائي ... وتفريت فروة الفراء وتخللت بالخليل، وأضحى ... سيبويه لديك رهن ضياء وتلونت من سواد أبي الأسود ... شخصاً يكنى أبا السوداء إلا بالله أن يعدك أهل العلم ... إلا في جملة الأغبياء فلما بلغ هذا الهجاء الوزير إسماعيل بن بلبل شق عليه، وحرم ابن الرومي عطاياه، لأن المفضل المذكور كان له اتصال بالوزير المذكور. وفيها توفي الحافظ أبو العباس الوليد بن أبان بأصبهان، صاحب المسند والتفسير. وفيها توفي المفضل الجندي " بفتح الجيم والنون " اليمني.

وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم وزير العزيز بن المعتز العبيدي، صاحب مصر، قالوا: وكان يعقوب أولاً يهودياً يزعم أنه من أولاد هارون بن عمران، أخي موسى صلوات الله عليهما وقيل بل يزعم أنه من ولد السموأل بن عاديا اليهودي، صاحب الحصن المعروف بالأبلق، القائل على ما ذكره بعضهم نسبة إليه: وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل في أبيات له منها: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل وإن هو لم يجمل على النفس ضمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل وكان يعقوب قد قدم به أبوه من بغداد إلى مصر، وقد تعلم الكتاب والحساب، فجعله كافور الأخشيدي على عمارة داره، ثم لما رأى كافور نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه، ولم يقبل سوى قوته، فتقدم كافور إلى سائر الدواوين أن لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعه، فوقع في كل شيء، وكان يبر ويصل من اليسير الذي يأخذه. كل هذا وهو على دينه، ثم إنه أسلم يوم اثنين لثماني عشرة ليلة مضت من شعبان سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ولزم الصلاة ودراسة القرآن، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن والنحو، حافظاً الكتاب السير، في مكان يبيت عندي، ويصلي به، ويقرأ عليه، ولم يزل حاله يتزايد مع كافور إلى أن توفي كافور في التاريخ المذكور، وكان ابن الفرات وزير كافور يحسده ويعاديه. ولما مات كافور قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وقبض على يعقوب في جملتهم، ولم يزل يتوصل ويبذل المال حتى أفرج عنه. فلما خرج من الإعتقال توجه إلى بلاد المغرب، فلقي جوهراً الخادم، وهو متوجه بالعساكر والخزائن إلى الديار المصرية ليملكها، فرجع في صحبته، وقيل بل استمر على قصده، وانتهى إلى إفريقية، وتعلق بخدمة المعز، ثم رجع إلى الديار المصرية، فلم يزل يترقى إلى أن تولى الوزارة للعزيز، وعظمت منزلته، ومهد قواعد الدولة. وكان يعقوب يحب أهل العلم، ويجتمع عنده العلماء، ويقرأ عنده مصنفاته في ليلة كل جمعة، ويحضره القضاة والفقهاء والقراء وأصحاب الحديث والنحاة وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من وجوه الدولة، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح. وكان في داره قوم يتلون القرآن الكريم، وآخرون يتلون الحديث والفقه والأدب حتى الطب، وينصب كل يوم خواناً للخاصة وموائد عديدة لمن عداهم من أهل مجلسه. وكان يجلس كل يوم بعد صلاة الصبح ويعرض عليه رقاع الناس في الحوائج والظلامات. وكان في خدمته قواد من جملتهم

تسع وثلاث مائة

القائد أبو الفتوح فضل بن صالح الذي تنسب إليه " منية؟ لا القائد " وهي بليدة من أعمال الجزيرة من الديار المصرية، وكانت هيبته عظيمة، وجوده وافراً. وأكثر الشعراء من مدائحه وكان له طيور سابقة، وللعزيز كذلك طيور سابقة، فسابقه يوماً ببعض طيوره بعض طيور العزيز، فسبق طائر الوزير، فعز ذلك على العزيز فقيل له: إنه قد اختار من كل شيء أجوده لنفسه وأعلاه، ولم يبق منه إلا أدناه حتى الحمام. وقصدوا بذلك الإغراء به حسداً منهم لعله يتغير عليه، فاتصل ذلك بالوزير، فكتب إلى العزيز: قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والنسب الثاقب طائرك السابق لكنه ... جاء وفي خدمته حاجب فأعجبه ذلك منه، وسرى عنه ما كان وجده عليه. ذكر بعضهم أن هذين البيتين له، وذكر بعضهم أنهما لولي الدولة المعروف بابن خيران. ولما مرض عاده العزيز. وقال له: لو كنت تشترى اشتريتك بملكي، وفديتك بولدي، هل من حاجة توصي بها؟ فبكى وقبل يده وقال: أما فيما تحضني فأنت أرعى لحقي من أن أسترعيك إياه، وأرأف علي من أن أوصيك به، ولكني أنصح لك مما يتعلق بدولتك سالم الروم ما سالموك، واقنع من الحمداني بالدعوة والسكة، ولا تبق على مفرح بن دغفل إن عرضت لك فيه فرصة، ومات، فأمر العزيز أن يدفن في داره، وهي المعروفة بدار الوزارة بالقاهرة داخل باب النصر في قبة كان بناها، وصلى عليه العزيز وألحده بيده في قبره وانصرف حزيناً لفقده، وأمر بغلق الدواوين أياماً بعده. وكان إقطاعه من العزيز في كل سنة مائة ألف دينار، وذكر بعضهم أنه كفن خمسين ثوباً، ويقال أنه كفن وحنط بما مبلغه عشر آلاف دينار. تسع وثلاث مائة فيها أخذت الإسكندرية، واستردت إلى نواب الخليفة، ورجع العبيدي إلى المغرب. وفيها قضية الحسين بن منصور الحلاج، وهو من أهل " البيضاء " بلدة بفارس ونشأ بواسط والعراق، وصحب سهل بن عبد الله، ثم صحب أبا الحسين النوري وأبا القاسم الجنيد وغيرهم، والناس مختلفون فيه، فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يبالغ في

تكفيره، ومنهم من يتوقف فيه. والمحققون اعتذروا عنه، وأجابوا عما صدر عنه بتأويلات، ومنهم القطب أستاذ العارفين الأكابر الذي خضعت لقدمه رقاب كل ولي من باد وحاضر، الشيخ الشريف الحسيب النسيب محي الدين عبد القادر الجيلي، والشيخ الكبير العارف بالله الشهير إمام الطريقة ولسان الحقيقة الشيخ شهاب الدين السهروردي، والإمام رفيع المقام حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي وغيرهم ممن يطول ذكرهم، بل يتعذر حصرهم. وممن قال به وقبله وصحح حاله وجعله أحد المحققين ولم يخرجه عن أئمة الصوفية العارفين السالكين المرشدين الشيوخ الجلة العارفين بالله الأئمة، الشيخ أبو العباس بن عطا، والشيخ أبو القاسم النصر أبادي، والشيخ أبو عبد الله بن خفيف المذكور بالحسين بن منصور، عالم رباني. فمن كلام الشيخ عبد القادر رحمه الله فيه مما روى الشيخ أبو القاسم عمر البزار بالإسناد في مناقبه قال: سمعت سيدي الشيخ محمد الدين عبد القادر الجيلي رضي الله تعالى عنه يقول: عثر الحسين الحلآج، فلم يكن في زمنه من يأخذ بيده، ولو كنت في زمنه لأخذت بيده، وأنا لكل من عثر مركوبه من أصحابي ومريدي ومحبي إلى يوم القيامة آخذ: ومن كلامه فيه أيضاً قوله: فمن مناقبه المروية عنه: طار طائر عقل بعض العارفين عن وكره، سحره صورته، وعلا إلى السماء خارقاً صفوف الملائكة. كان بازياً من بزاة الملك، مخيط العينين بخيط وخلق الإنسان ضعيفا فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد، فلما لاحت له فريسة رأيت ربي زاد تحيره في قول مطلوبه: " أينما تولوا فثم وجه الله " " البقرة: 115، "، عادها بطاً إلى حظيرة خطة الأرض، طلب ما هو أعز من وجود النار في قعر البحار، تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار، فكر فلم يجد في الدارين مطلوباً سوى محبوبه، فطرب فقال بلسان شكر قلبه: أنا الحق، ترنم بلحن غير معهود من البشر، صغر في روضة الوجود صغراً لا يليق ببني آدم، لحن بصوته لحناً عرضه فخفقه، نودي في سره يا حلاج، اعتقدت أن قوتك بك؟ قال: لأن نيابته عن جميع العارفين حسب الواحد إفراد الواحد. قل يا محمد، أنت سلطان الحقيقة، أنت إنسان عين الوجود، على عتبة باب معرفتك تخضع أعناق العارفين، في حمى جلالتك توضع جباه الخلائق أجمعين. ومن كلام الشيخ عبد القادر أيضاً في الحلاج مسطوراً عنده في مناقبه المروية بالأسانيد قال رضي الله تعالى عنه: طار واحد من العارفين إلى أفق الدعوى بأجنحة أنا الحق رأى روض الأبدية خالياً عن الحسيس والأنيس، صفر بغير لغة تعريضاً لخيفة، ظهر عليه عقاب الملك من مكمن أن الله لغني عن العالمين، أنشب في إهابه مخلاب كل نفس ذائقة الموت. قال له: شرع سليمان الزمان، لم تكلمت بغير لغتك، ثم ترنمت بلحن غير معهود من مثلك؟.

ادخل الآن إلى قفص وجودك، ارجع من طريق غيرة القدم إلى مضيق ذلة الحديث، قل بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد، مناط خفض الطريق، إقامة وظائف خدمة الشرع. ومن كلام الشيخ شهاب الدين السهروردي ما روينا عنه في كتابه " عوارف المعارف " بإسنادنا العالي أنه قال: وما يحكى عن أبي يزيد رحمه الله قوله: سبحاني، حاشا أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى. قال: وهكذا ينبغي أن يعتقد في الحلآج رحمه الله قوله: أنا الحق. وأما كلام الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فقد ذكر في " كتاب مشكاة الأنوار "، فصلاً طويلاً في الإعتذار عن الألفاظ التي كانت تصدر عن الحلاج، مثل قوله: أنا الحق، وقوله: ما في الجبة إلا الله. وأمثال هذه الإطلاقات التي تنئو السمع عنها وعن ذكرها. قال ابن خلكان: وحملها كلها على محامل حسنة، وأولها قال: وقال هذا من فرط المحبة وشدة الوجد. قال: وجعل هذا مثل قول القائل: أنا من أهوى، ومن أهوى أنا ... نحن روحان قد حللنا بدنا فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا قلت: وهكذا اعتذر عنه وعن ما يصدر من الصوفية من الألفاظ الموهمة للحلول والإتحاد، في كتابه " المنقذ من الضلال ". قلت: وأكثر المحققين حملوا على ما يقع منهم مخالفاً لظواهر الشرع من الأقوال على صدوره في حال سكرهم بواردات الأحوال. وإلى ذلك أشرت بالقصيدة المسماة بالدر المنضد في جيد الملاح، في بيان الإعتذار عن ما يصدر من المشايخ أرباب الأحوال الملاح. وقتل الحلاج وما منه في ظاهر الشرع يستباح، وكونه شهيداً عند المشايخ لأن الغائب بالحال ما عليه جناح: وبعض عن الأكوان فإن بعضهم ... به جاوز الإسكار حداً فعربدا فسل عليه الشرع سيفاً حمى به ... حدوداً فرى الحلاج ماض محددا فمات شهيداً عندكم من محقق ... وكم عندهم يخرج من النهج ملحدا ولكن فتى بسطام رفقاً بحاله ... حمى عن عنايات عزيزاً ممجدا

أشرت في هذا إلى أن الحلاج ظفر به سلطان الشرع الظاهر، وأبو يزيد تحصن بدرع حال الذي هو عن سلاح تسلط السلطان ساتر. قلت: وما أحسن ما أشار بعض أرباب الأحوال في وقوع الحلاج دون أبي يزيد حيث قال: الحلاج خرج من بحر الحقيقة إلى الساحل، وظفر به فأسر، وأقيم عليه الحد. وأما أبو يزيد فإنه لم يخرج من بحر الحقيقة والتحقيق، فلم يكن لهم إلى الظفر به طريق، هذا معنى كلامه والإشارة، وإن اختلف منا العبارة. ومن كلام الشيخ العارف بالله تعالى السيد الجليل أبي الشموس أبي الغيث ابن جميل قدس الله روحه فيما نحن بصدده من السكر لمحبة الله تعالى والفناء عما سوى الله تعالى، لإشارة إلى من صدر منه مثل المقال في سكر وواردات الأحوال، قوله: هداك الله إلى شراب ماء عين، من حسا منها حسوة واحدة عدم عقله، فإن أكثر مما ذكرناه ادعى الربوبية، ودل على ضعفه لأن من كان قبلنا كان بهذا الوصف، لكن لباس ثوب العبودية لنا أكمل وأجمل، وذلك أقصى ما نروم ونطلب. فقد صرح في كلامه هذا بأن مثل هذا إنما يقع عمن سكر بالمشرب المذكور، وضعف عن احتمال تجلي الجمال والنور. قلت: ومما يختشى من مثل هذا الضعف ما يروى عن غير واحد منهم أنهم كانوا يدافعون الأحوال الواردة عليهم، لئلا يقعوا في مثل هذا. وكان بعضهم إذا ورد عليه الحال يدخل السوق، ويسمع كلام الناس، وما هو فيه من اللفظ. وبعضهم كان يأتي زوجته عن ذلك، وبعضهم كان يركب الفرس ويركض ويلهو به، وغير ذلك من اللهو في الأفعال التي تنافي الأحوال. رجعنا إلى ذكر الحلاج: قيل أنه سئل عن التصوف، وهو مصلوب فقال: هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك. قلت: في لا بد لها من أن تشغل، فإن لم تشغلها بالطاعات ووظائف العبادات شغلتك بالخواطر المذمومات الموقعات في الهوى والآفات. ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاحهم: سكوت ثم صمت ثم خرس ... وعلم ثم وجد ثم رمس فطين ثم نور ثم نار ... وبرد ثم ظل ثم شمس وحزن ثم سهل ثم قفر ... ونهر ثم بحر ثم يبس وسكر ثم صحو ثم شوق ... وقرب ثم وصل ثم أنس وقبض ثم بسط ثم محو ... وفرق ثم جمع ثم طمس وأخذ ثم رد ثم جذب ... ووصف ثم كسف ثم لبس عبارات لأقوام تساوت ... لديهم هذه الدنيا وقلس

وأصوات وراء الباب لكن ... عبارات الورى في القرب همس وآخر ما يؤول إليه عبد ... إذا بلغ المداحيض نفس لأن الخلق خدام الأماني ... وحق الحق في التحقيق قدس ومما نظمه أيضاً على اصطلاحهم وإشاراتهم قوله: لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن أرسلت تسأل عني كيف بت وما ... لاقيت بعدك من هم ومن حزن وقوله أيضاً: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء وقوله أيضاً في كتابه إلى أبي العباس بن عطاء: كتبت ولم أكتب إليك وإنما ... كتبت إلى نفسي بغير كتاب وذاك لأن الروح لا فرق بينها ... وبين محبيها بفصل خطاب وكل كتاب صادر منك وارد ... إليك فلا يحتاج رد جواب وغير ذلك مما يجري هذا المجرى: ومن كلام الحلاج: المدبر وهو الخارج عن أسباب الدارين. وقال: من أسكرته أنوار التوحيد حجبت عن عبادة التجريد بل من أسكرته حقائق التجريد نطق عن حقائق التجريد. لأن السكران هو الذي ينطق لكل مكتوم، وقال بعضهم: لقيت الحلاج يوماً في حال رثة، فقلت له: كيف حالك؟. فأنشأ يقول: لئن أمسيت في ثوب عديم ... لقد بلي على حر كريم فلا يحزنك أن أبصرت حالاً ... يغيرني عن الحال القديم فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمر الله في أمر جسيم قال بعضهم: سمعت الحسين بن منصور وهو على الخشبة يقول: طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقراً أطعت مطامعي فاستعبدتني ... فلو أتي قنعت لكنت حراً قلت: وله كلام فائق، وشعر رائق، فيهما الكثير من الناس في مسألك المؤاخذة، مضائق، وإيراد كل ذلك في هذا المختصر غير لائق، وحاصل الأمر أنه أفتى كثر علماء عصره بإباحة دمه.

ويقال: أن العباس بن سريج كان إذا سئل عنه يقول: هذا رجل خفي عليه حاله، وما أقول فيه شيئاً. قلت: هكذا قيل مع ابن سريج، توفي قبل قتل الحلاج بثلاث سنين. ويحتمل أن يكون قال ذلك في حياته لما سئل عنه قبل أن يقتل بمدة طويلة. وكذلك ما قيل أن الجنيد وابن داود الظاهري من جملة من أفتى بقتله لا يصح، لأن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين، قبل قتل الحلاج بإحدى عشرة سنة. ومحمد بن داود توفي قبل قصة الحلاج باثنتي عشرة سنة. رجعنا إلى ذكر الحلاج. قالوا: وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه، وكتب خطه بذلك، وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء. وقال لهم الحلاج: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لك أن تناولوا علي بما يبيده، وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين وبقية العشرة من الصحابة، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين، فالله الله في دمي. ولم يزل يردد هذا القول، وهم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه. وانفضوا من المجلس، وحمل الحلاج إلى السجن. وكتب الوزير إلى المقتدر بخبره بما جرى في المجلس، وسير الفتوى، فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم فليضربه ألف سوط، فإن مات وإلا اضربه ألف سوط أخرى، ثم يضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي، وقال له ما رسم به المقتدر، وقال له: إن لم يتلف بالضرب فبقطع يدى ثم رجله، ثم تجز رقبته، وتحرق جثته. وإن خدعك وقال لك: أنا أجري لك الفرات ودجلة ذهباً وفضة فلا تقبل ذلك منه، ولا ترفع العقبربة عنه، فتسلمه الشرطي ليلاً وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة، فأخرجه إلى عند " باب الطاق "، وهو يتبختر في قيوده. واجتمع من العامة خلق لا يحصى عددهم، وضربه الجلاد ألف سوط، ولم يتأوه، بل قال للشرطي لما بلغ الستمائة: ادع لي عندك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية. فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل. ولما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة. ثم جز رأسه، ثم أحرقت جثته. ولما صار رماداً ألقاه في الدجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر. وقيل: أن أصحابه جعلوا يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً. واتفق أن دجلة زاد تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك سبب إلقاء رماده فيها، وادعى بعض أصحابه

عشر وثلاث مائة

أنه لم يقتل، ولكن ألقي شبهه على عدو من أعداء الله. وشرح هذه القصة يطول، وفيما ذكرناه كفاية وعبرة لأولي العقول. قلت وقد اقتصرت مع ما ذكرت عن المشايخ في هذه القضية على نقل ابن خلكان وهو أهون وكلامه في الصوفية أقرب وأنسب لما ذكرناه من تأويل أكابر المشايخ عنه. على المحامل التي تقدم ذكرها. وأما ما نقل الذهبي، فذكر فيه أشياء فظيعة، وكثر التشنيع عليه، وبالغ مبالغة لا يناسب ما قدمنا عن المشايخ، بل يناسب اعتقاد الطاعنين عليه في شطحيات الصوفية، وما يصدر " عنهم من الأحوال مشتبهاً بمضمون العقيدة التفاشية، وما يناسبه من عقائد الحشوية في السادات من أولي الأحوال السيئة. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو العباس بن عطاء، وكان من أجلاء المشايخ أكابر الجامعين بين علمي الباطن والظاهر. عشر وثلاث مائة فيها ببغداد توفي الحبر البحر الإمام أحد العلماء الأعلام صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير والمصنفات العديدة والأوصاف الحميدة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، كان مجتهداً لا يقلد أحداً. قال إمام الأئمة المعروف بابن خزيمة: ما أعلم على وجه الأرض أفضل من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة. وقال الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو حامد الأسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً. قلت: وناهيك بهذا الثناء العظيم والمدح الكريم من هذين الإمامين الجليلين البارعين النبيلين. ومولده بطبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين، ركان ذا زهد وقناعة. توفي في أواخر شوال من السنة المذكورة، وكان إماماً في فنون كثيرة، منها التفسير

والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة، يدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان ثقة في نقله وتاريخه. قيل: تاريخه أصح التواريخ وأثبتها، وذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء من جملة المجتهدين. وفيها أو في التي قبلها توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيهاً مطلعاً، ذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء ومال: صنف في اختلاف العلماء كتباً لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف، ومن كتبه المشهورة قي اختلاف العلماء " كتاب الأشراف "، وهو كتاب كبير يدل على كثرة وقوفه على مذاهب الأثمة، وهو من أحسن الكتب وأنفعها. وفيها: وقيل في إحدى عشرة، وقيل في ست عشرة وثلاث مائة، توفي أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن محمد النحوي، كان من أهل العلم بالأدب والدين المتين، وله من التصانيف في معاني القرآن وعلوم الأدب والعربية والنوادر وغير ذلك بضع عشرة مصنفاً. أخذ الأدب عن المبرد وثعلب، وكان يخرط الزجاج، ثم تركه واشتغل بالأدب ونسب إليه، وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وإليه ينسب أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، صاحب كتاب الجمل في النحو. وفيها توفي الإمام النحوي محمد بن العباس اليزيدي، كان إماماً في النحو والأدب ونقل النوادر وكلام العرب. ومما رواه أن أعرابياً هوى أعرابية، فأهوى إليها ثلاثين شاة وزقاً من خمر مع عبد له أسود، فأخذ العبد شاة في الطريق، فذبحها وأكل منها، وشرب بعض الزق. فلما جاءها بالباقي عرفت أنه خانها في الهدية، فلما عزم على الإنصراف سألها: هل لك حاجة. فأرادت إعلام سيده بما فعله فقالت له: اقرأ عليه السلام وقل له: إن المرثوم كان عندنا محاقاً، وإن شحيماً راعي غنمنا جاء مرثوماً. فلم يدر العبد ما أرادت بهذه الكتابة. فلما بلغ سيده ذلك فطن لما أرادت، فدعا له بالهراوة وقال: لتصدقني وإلا ضربتك بهذه ضرباً، فأخبره الخبر فعفا عنه، وهذه من لطيف الكنايات وظريف الإشارات. والمرثوم بفتح الميم وسكون الراء وضم المثلثة: الملطخ بالدم، وهو في الزق مستعمل على وجه الإستعارة. والمحاق بكسر الميم: ثلاث ليالي من آخر الشهر. وفيها توفي الطبيب الماهر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المشهور، ألف في الطب كتباً كثيرة، وكان إمام وقته في علم الطب، والمشار إليه في ذلك العصر، متقناً لهذه الصناعة، يشد إليه الرحال في أخذها عنه.

إحدى عشرة وثلاث مائة

ومن تصانيفه: " كتاب الحاوي "، وهو من الكتب النافعة، و " كتاب الأقطاب "، و " كتاب المنصور ": وهو على صغر حجمه نافع، جمع فيه بين العلم والعمل. وغير ذلك من التصانيف المحتاج إليه. ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بمركب. ومن كلامه: إذا كان الطبيب عالماً، والمريض مطيعاً، فما أقل لبث العلة ومن كلامه: عالج في أول العلة بما لا يسقط القوة. وحكي أن غلاماً من بغداد قدم الري، وكان ينفث الدم، وكان قد لحقه ذلك في طريقه. فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب وأراه ما ينفث، ووصف له ما يجد، فأخذ الرازي مجسة ورأى قارورة، واستوصف حاله، فنظر فيه أبو بكر الرازي، فأفكر فلم يظهر له دليل على علته، فاستنظره لقيام دليل يظهر، فقامت على العليل القيامة، ويئس من الحياة، فولد الفكر للرازي: سؤاله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبره أنه شرب من مستنقعات وصهاريج، فقال في نفس الرازي نجدة حذمه وجودة فطنته أن علقة علقت به من شرب بعض تلك المياه، وأن ذلك الدم بسببها، وقال له: إذا جئت غداً بيتك عالجتك بما يكون سبباً لبرئك، بشرط أن تأمر غلمانك بطاعتي، قال: نعم فانصرف الرازي وجمع له مركنين من طحلب، وأحضرهما من الغد معه وقال له: ابلع، فامتنع، فأمر غلمانه أن يضجعوه فألقوه على قفاه، وفتحوا فمه، فجعل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبساً شديداً، ويطالبه ببلعه، ويهدده بالضرب إلى أن بلع ما في أحد المركنين، ثم قذف ما ابتلعه، وتأمل الرازي فإذا بالعلقة في الطحلب الذي قذفه، فنهض العليل معافى، فلم يزل رئيس هذا الشأن. وكان اشتغاله به بعد الأربعين من عمره. إحدى عشرة وثلاث مائة فيها دخل أبو طاهر القرمطي البصرة في الليل في ألف وسبعمائة فارس نصب السلاليم على السور، ونزلوا فوضعوا السيف في البلد، وأحرقوا الجامع، وهرب خلق إلى الماء فغرقوا، وسبوا الحريم. قاتل الله تعالى كل شيطان رجيم. وفيها توفي الحافظ الزاهد المجاب الدعوة أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن سنان النيسابوري مصنف الصحيح على شرط مسلم، والفقيه الحبر أبو بكر الخلال البغدادي،

اثنتي عشرة وثلاث مائة

ونحوي العراق أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج. وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الحافظ صاحب التصانيف. رحل إلى الحجاز والشام والعراق ومصر وتفقه على المزني وغيره. قال أبو علي الحافظ: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارىء السورة. وقال ابن حبان: لم أر مثل ابن خزيمة في حفظ الأسناد والمتن، وقال الدارقطني: كان إماماً معموم النظير. اثنتي عشرة وثلاث مائة فيها عارض أبو طاهر القرمطى ركب العراق، ومعه ألف فارس وألف راجل، فوضعوا السيف واستباحوا الحجيج، وساقوا الجمال بالأموال والحريم، وهلك الناس جوعاً وعطشاً، ونجا من نجا بأسوأ حال، ووقع النوح والبكاء ببغداد وغيرها، وامتنع الناس من الصلوات في المساجد، ورجم الناس الوزير ابن الفرات، وصاحوا عليه أنت القرمطي الكبير. فأشار على المقتدر أن يكاتب مؤنساً الخادم وهو على الرقة قد سعى ابن الفرات في إعادته إليها خوفاً منه فقدم مؤنس الخادم، فركب إلى دار ابن الفرات للسلام عليه، ولم يتم مثل هذا من وزير، أو قال الوزير: فأسرع مؤنس إلى باب داره، وقبل يده وخضع. وكان في حبس المحسن ولد الوزير جماعة في المصادرة، فخاف العزل، وأن يظهر عليه ما أخذ منهم فسم علي بن عيسى، وذبح مؤنساً خادم حامد بن العباس وعبد الوهاب ابن ما شاء الله، فكثر الضجيج من المقتولين على بابه، ثم قبض المقتدر على ابن الفرات وسلمه إلى مؤنس، فعاتبه مؤنس، وتذلل هو له، فقال له مؤنس: الساعة تخاطبني بالأستاذ، وأمس تبعدني إلى الرقة، واختفى المحسن، ثم ظفر به في زي امرأة قد خضبت يديها بالحناء، فعذب وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار. وولي الوزارة عبد الله بن محمد الخاقاني، فعذب ابن الفرات، واصطفى أموالهم، فيقال أخذ منهم ألفي دينار، ثم ألح مؤنس ونصر الخادم وهارون ابن خال المقتدر على المقتدر حتى أذن في قتل ابن الفرات وولده المحسن، فذبحا. عاش ابن الفرات إحدى وسبعين سنة، وكان جباراً فاتكاً سائساً كريماً متمولاً يقدر على عشرة آلاف دينار، وقد ورد للمقتدر ثلاث مرات وقتل، وكان يدخل عليه من أملاكه في العام ألف ألف دينار. فكان القرمطي قد أسر طائفة من الحجاج، منهم الأمير أبو الهيجا عبد الله بن حمدان، فأطلقه وأرسل معه يطلب من المقتدر البصرة، والأهواز، فذكر أبو الهيجاء أن القرمطي قتل من الحجاج ألفي رجل ومائتين، ومن النساء ثلاثمائة، وفي الأسر

ثلاث عشرة وثلاث مائة

مثلهم بهجر. وفي السنة المذكورة ذبح ابن الفرات وولده المذكوران، ويقال عنه أنه كانت الأعراب كبسوا بغداد، ولما ولي الوزارة في سنة أربع وثلاثمائة خلع عليه سبع خلع، كان يوماً مشهوداً بحيث أته سقى من داره في ذلك اليوم والليلة أربعين ألف رطل ثلج. وفيها توفي سلمة بن عاصم الضبي الفقيه صاحب ابن سريج، أحد الأذكياء. صنف الكتب، وهو صاحب وجه، وكان يرى تكفير تارك الصلاة. وأبوه وجده من أئمة العربية. ثلاث عشرة وثلاث مائة فيها سار الركب العراقي ومعهم ألف فارس، فاعترضهم القرمطي بزبالة، وناوشهم القتال، فرد الناس ولم يحجوا، ونزل القرمطي على الكوفة، فقاتلوه فغلب على البلد ونهبه، فندب المقتدر مؤنساً وأنفق في الجيش ألف ألف دينار. وفيها توفي الإمام اللغوي العلامة أبو القاسم ثابت بن حزم السرقسطي. قال ابن الفرضي: كان مفتياً بصيراً بالحديث والنحو واللغة والغريب والشعر، عاش خمساً وتسعين سنة. وفيها توفي عبد الله بن زيدان، قال محمد بن أحمد بن حماد الحافظ: لم تر عيني مثله، كان أكثر كلامه في مجلسه: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على طاعتك. وروي أنه مكث نحو ستين سنة، لم يضع جنبه على مضربه. وفيها توفي الحافظ أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي مولاهم السراج، صاحب التصانيف. قال أبو إسحاق المزكي: سمعته يقول: ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنتي عشرة ألف ختمة، وضحيت عنه اثنتي عشرة ألف أضحية، قال محمد بن أحمد الدقاق: رأيت السراج يضحي كل أسبوع أو أسبوعين أضحية، ثم يجمع أصحاب الحديث عليها، ولقد ألف السراج مستخرجاً على صحيح مسلم، وكان أماراً بالمعروف ونهاء عن المنكر، عاش سبعاً وتسعين سنة. أربع عشرة وثلاث مائة لم يحج فيها أحد من العراق خوفاً من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها خوفاً منهم،

خمس عشرة وثلاث مائة

وفيها توفي أبو الليث نصر بن القاسم البغدادي الفرائضي، وكان ثقة. خمس عشرة وثلاث مائة فيها نازلت القرامطة الكوفة، فسار يوسف ابن أبي الساج، فالتقاهم، فأسر يوسف، وانهزم عسكره، وقتل منهم عدة. وسار القرمطي إلى أن نزل غربي الأنبار، فقطع المسلمون الجسر، فأخذ يتحيل في العبور، ثم عبر، وخرج نصر الحاجب ومؤنس، فعسكروا بباب الأنبار، وخرج أبو الهيجا ابن حمدان وإخوته، ثم رده القرامطة، فما صبر العسكر عليهم، ووقع عليهم الخذلان، وما كانت القرامطة سوى ألف وسبعمائة من فارس وراجل، والعسكر كانوا أربعين ألف فارس. ثم إن القرمطي قتل ابن أبي الساج وجماعة معه، وأشار إلى " هيت "، فبارز العسكر، ودخل الوزير علي بن عيسى على المقتدر وقال: قد تمكنت هيبة هذا الكافر من القلوب، فخاطب السيدة في مال تنفقه في الجيش، وإلا فمالك إلا أقاصي خراسان، فأخبر أمه بذلك، فأخرجت خمسمائة ألف دينار، وأخرج المقتدر ثلاث مائة ألف دينار. ونهض ابن عيسى في استخدام العساكر، وجددت على بغداد بخنادق، وعدمت هيبة المقتدر من القلوب، وشتمته الجند. وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أحمد بن علي بن الحسين الرازي النيسابوري. وفيها توفي أبو الحسن الأخفش الصغير علي بن سليمان البغدادي النحوي، أخذ عن ثعلب والمبرد، وروى عنه المرزباني وأبو الفرج المعاني وغيرهما. وكان ثقة، قال المرزباني: لم يكن بالمتسع في الرؤية للأخبار، والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئاً البتة، ولا قال شعراً، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يسأله. وقال أبو الحسن بن سنان: كان يواصل المقام عند أبي علي بن مقلة، وأبو علي يراعيه ويبره، فشكا في بعض الأيام ما هو فيه من شدة الفاقة، فسأله أن يعلم الوزير علي بن عيسى حاله، ويسأله إقرار رزق في جملة من يرتزق من أمثاله، فعرف الوزير أبو علي اختلال حاله، وتعذر الوقوف عليه في أكثر أيامه، وسأله أن يجري عليه رزقاً فانتهره الوزير انتهاراً شديداً في مجلس حافل، فشق على ابن مقلة ذلك، وقام من مجلسه، وصار إلى منزله لإيماء نفسه. ووقف الأخفش على الصورة المذكورة فاغتنم بها، وانتهت به إلى الحال التي

ست عشرة وثلاث مائة

أكل الشحم، فقيل: إنه قبض على فؤاده، فمات فجأة في التاريخ المذكور. نسأل الله الكريم العفو والعافية واللطف الجميل واليسر الحصين في الدين والدنيا والآخرة، وقد تقدم ذكر الأخفش الأكبر والأوسط في سنة خمس عشرة ومائتين. ست عشرة وثلاث مائة فيها دخل القرمطي الزوحية بالسيف واستباحها ثم نازل الرقة، وقتل جماعة، وتحول إلى هيت، فرموه بالحجارة، وقتلو صاحبه أبا الدرداء، فسار إلى الكوفة، ثم انصرف وبني داراً سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي وسار إليه كل مرتب، ولم يحج أحد هذه السنة، واستعفي ابن عيسى من الوزارة، وولي بعده علي بن مقلة، وهو كاتب. قلت: وهذا مشكل، وقد تقدم في سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة أن علي بن عيسى سم ولكن يحتمل أنه سم ولم يمت بذلك السم. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير أبو الحسن بنان الحمال نزيل مصر وشيخها، كان ذا منزلة جليلة وأحوال جميلة وكرامات عديدة، صحب الجنيد، وحدث عن الحسن بن محمد الزعفراني وجماعة. توفي في رمضان وخرج في جنازته أكثر أهل مصر. ومن كراماته أنه جاءه إنسان، وذكر أنه ضاع له قرطاس فيه تنزيل، له صورة من المال، وسأله أن يدعو له بحفظه، فقال له: أنا رجل كبير وأشتهي الحلواء، اشتر لي كذا وكذا منها، فذهب واشترى له منها الذي طلب، فلما جاءه بها تناول منها شيئاً يسيراً ثم قال: اذهب وأطعمها صبيانك فلما ذهب بها إلى بيته وجد ذلك القرطاس هو الذي ضاع له. ومنها أنه ألقاه بعض الخلفاء بين يدي الأسد في حال غضبه عليه، فصار الأسد يشمه، ولم ينله بسوء، فقيل له: كيف كنت في وقت شم الأسد لك؟ فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في طهارة لعاب السباع.

ومنها أنه انبسط إلى إخوانه في شراء جارية فقالوا: يقدم النفر، فإذا قدم اشترينا له جارية تصلح له. فلما قدم النفر أجمع رأيهم على جارية أنها تصلح له، فكلموا صاحبها في بيعهم إياها فامتنع، فألحوا عليه فقال: إنها ليست للبيع، إنها أهدتها امرأة من سمرقند للشيخ بنان الجمال، فحملت إليه. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني. وفيها توفي الحافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرايني، صاحب المسند الصحيح، رحل إلى الشام والحجاز واليمن ومصر والجزيرة والعراق وفارس وأصبهان، روى عن يونس بن عبد الأعلى، وعلي بن حرب، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومسلم بن الحجاج، والمزني والربيع والحسن الزعفراني وغيرهم ممن في طبقتهم. وعلى قبره مشهد بأسفرايين، وكان مع حفظه فقيهاً شافعياً إماماً، روى عنه جماعة، منهم أبو بكر الإسماعيلي، وحج خمس حجج وقال: كتب إلى محمد بن إسحاق: فإن نحن التقينا قبل موت ... سقينا النفس من غصص العناب وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من غائب تحت التراب وقال أبو عبد الله الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم، ومن الرجالة في أقطار الأرض. وفيها توفي محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج، كان أحد الأئمة المشاهير، مجمعاً على فضله وجلالة قدره في النحو والأدب، أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وغيره، وأخذ عنه جماعة من الأعيان، منهم السيرافي والرماني وغيرهما. ونقل عنه الجوهري في الصحاح في مواضع عديدة، وله التصانيف المشهورة في النحو منها: " كتاب الأصول "، وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه. " وشرح كتاب سيبويه "، و " كتاب الشعر والشعراء "، و " كتاب الرياح والهواء والنار " مع كتب أخرى، ومن الشعر المنسوب إليه. ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي حلفت لنا أن لا تخون عهودها ... وكأنما حلفت لنا أن لا تفي

سبع عشرة وثلاث مائة

قلت: وهذان البيتان يحسن استعارتهما لوصف الدنيا، وقيل أنهما لإبن المعتز وقيل: لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر معهما بيت ثالث وهو: والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبحر أو كالشمس أو كالمكتفي فأنشدها وزير المكتفي له فقال: لمن هي؟ قال: لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر. فأمر له بألف دينار، فوصل إليه فقال ابن الزنجي: ما أعجب هذه القصة، يعمل ابن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق لإبن طاهر. سبع عشرة وثلاث مائة فيها هجم مؤنس الخادم وأكثر الجيش على دار الخلافة، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وحرمه إلى دار مؤنس، وأحضروا محمد بن المعتضد من الحبس وبايعوه، ولقبوه القاهر بالله، وقلدوا لابن مقلة وزارته، ووقع النهب في دار الخلافة ببغداد، وأشهد المقتدر على نفسه بالخلع، وجلس القاهر من الغد، وصار " نازوك " حاجبه، فجاءت إلى ودخلوا، وطلبوا رزق البيعة ورزق سنة، وعظم الصياح، ثم وثب جماعة على نازوك فقتلوه، وقتلوا خادمه، ثم صاحوا فالمقتدر يا منصورة فهرب الوزير والحجاب والقاهر وساروا ووصلوا إلى مؤنس ليرد المقتدر، وسدت المسالك على القاهر وأبي الهيجاء، ثم جاشت نفسه فقال: يا آل ثعلب، فرمي بسهم فيما بين ثدييه وأخرى في نحره ثم جز رأسه وأحضروا المقتدر، وألقي بين يديه الرأس، ثم أسر القاهر، وأتي به إلى المقتدر، فاستدناه وقبل جبينه وقال: أنت لا ذنب لك يا أخي وهو يقول الله الله يا أمير المؤمنين في نفسي فقال: والله لا ينالك مني سوء، فطيف برأس نازوك، ورأس أبي الهيجا، ثم أتى مؤنس والقضاة، وجددوا البيعة للمقتدر، فبذل في الجند أموالاً عظيمة، وباع في بعضها ضياعاً وأمتعة، وماتت القهرمانة التي كانت تجلس للناس بدار العدل. وحج بالناس منصور الديلمي فدخلوا مكة سالمين، فوافاهم يوم التروية عدو الله تعالى أبو طاهر القرمطي، فقتل الحاج قتلاً ذريعاً في المسجد وفي فجاج مكة، وقتل أمير مكة ابن محارب، وقلع باب الكعبة، واقتلع الحجر الأسود، فأخذه إلى " هجر " ولم يرد إلا في سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة كما سيأتي، وكان معه تسعمائة أنفس، فقتلوا في المسجد ألفاً وسبعمائة نسمة، وقيل ثلاثة عشر ألفاً، وصعد على باب البيت وصاح:

أنا بالله وبالله أنا ... أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا وقيل: إن الذين قتلوا بفجاج مكة، فظاهرها ثلاثون ألفاً، وسبي من النساء والصبيان نحو ذلك. وأقام بمكة ستة أيام ولم يحج أحد. وقال محمود الأصبهاني: دخل القرمطي وهو سكران، فصفر لفرسه، فبال عند البيت. وقتل جماعة،. ثم ضرب الحجر الأسود بدبوس، فكسر منه، ثم قلعه وبقي الحجر الأسود بهجر نيفاً وعشرين سنة. ولما قلع الحجر الأسود قال شعراً يدل على عظيم زندقته حيث يقول: فلو كان هذا البيت لله ربنا ... لصب عليا النار من فوقنا صباً لأنا حججنا جاهلية ... محللة لم تبق شرقاً ولا غرباً وإنا تركنا بين زمزم والصفا ... جبابر لا نبقي سوى ربها رباً وشعر هذا الزنديق مشهور في التواريخ، قلت: وقد أوضحت في كتاب المرهم ظهور هؤلاء القرامطة الزنادقة في أي السنين، وفي أي البلاد، ومدة ظهورهم، وإمامهم ودعاته. وكانت فتنتهم قد عمت كثيراً من الآفاق منها اليمن والشام والعراق، وكان من دعاتهم في اليمن الشيطان الزنديق علي بن فضل، ما زال يدعو إلى مذهبهم سراً مظهراً مذهب الرفض، وفي قلبه الكفر المحض، ويزعم أنه يدعو إلى مذهب أهل البيت وحبهم، إلى أن أفسد خلقاً كثيراً، وملك حصون اليمن شيئاً فشيئاً، ثم ملك مدنها منها عدن وزبيد وصنعاء. فطرد الناصر بن الهادي إمام الزيدية من " صعده "، واستولى على جبال اليمن وتهامة، وقتل خلائق لا يحصون من أهلها، فلما تمهد له الملك، وتمكن في الأرض، أظهر الزندقة والكفر المحض، وأمر جواريه أن يغنين بالدفوف على منبر الجند بشعره الذي تزندق فيه وألحد، وأنكر دين الإسلام وجحد وهو: خذ الدف يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم اطربي توفي نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب فقد حط عنا فروض الصلا ... ة وحط الزكاة ولم يتعب إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوموا فكلي واشربي ولا تطلبي السعي عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب وشعر طويل وكله في إباحة محارم الله تعالى والتحليل، وجحد الفروض التي جاء بها محكم التنزيل، محرضاً اللعين على نبذ دين الإسلام والتضليل ثم قتل اللعين الشيطان

الرجيم، وذهب لا رده الله إلا إلى النار الجحيم، قتله بعض قبائل اليمن: وكان ظهوره في الإبتداء في جبل " مسور " بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو وفي آخره راء جبل في حراز في بلاد اليمن مشهور، وحواليه الإسماعيلية الآن متمسكون بمذهب الضلال والغرور، ويشعلون نار الحرب والشرور، ويشتغلون للقرامطة في البلدان ذكره يطول، ولم يزالوا متظاهرين بمذهب الزندقة والضلال، إلى أن ذهب مذهبهم الخبيث وزال، وبقيت الإسماعيلية الباطنية بإعتقاد مذهبهم الخبيث، يتظاهرون عندنا بالتمسك بأحكام الشرع، وعلى تعطيلها في الباطن واستباحة ما حرم الله تعالى يصرون. وكان ظهور مذهب القرامطة إحدى فتنتين عظيمتين في اليمن. والفتنة الثانية: أن الشريف الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، لما قام في " صعدة " ومخاليف صنعاء دعا الناس إلى التشيع عند استقراره في صنعاء، وهذه الفتنة أهون من الأولى، وكل أهل اليمن صنفان: إما مفتون بهم، وإما مخالف لهم متمسك بأحكام الشريعة. وفي السنة المذكورة قتل بمكة الإمام أحمد بن الحسين شيخ الحنفية ببغداد، وقد ناظره مرة داود الظاهري، فقطع داود، ولكنه معتزلي الإعتقاد. وفيها توفي الحافظ الشهيد أبو الفضل محمد بن أبي الحسين الهروي، قتل بباب الكعبة. وفيها توفي المنجم المشهور الحاسب صاحب الزيج والأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة محمد بن جابر الرقي البتاني " بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فوق، وقيل ياء النسبة نون "، وأحد عصره في وقته. توفي في موضع يقال له الحضر، " بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء "، وهي مدينة بالقرب من الموصل، وكان صاحبها الساطرون " بالسين والطاء والراء المهملات "، فحاصرها أزدشير أول ملوك الفرس، وأخذ البلد وقتله، وقيل إن الذي قتله سابور " بالسين المهملة والباء الموحدة " ذو الأكتاف، وهو الذي ذكره ابن هشام في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: والأول أصح، وكان إقامة أزدشير على حصاره أربع سنين، ولم يقدر حتى فتحت له ابنة الملك

الساطرون، " بكسر الطاء " وسبب ذلك أنها كانت عادتهم إذا حاضت المرأة أنزلوها إلى الربض وحاضت ابنة الملك المذكور، وكانت في غاية الجمال، فأنزلوها إلى الربض، فأشرفت ذات يوم فأبصرت أزدشير من أجمل الرجال، فهوته، وأرسلت إليه أن يتزوجها وتفتح له الحصن، واشترطت عليه. فألزم لها ما طلبت، ثم اختلفوا في السبب الذي دلته عليه حتى فتح الحصن، فالذي قاله الطبري أنها دلته على طلسم في الحصن، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة زرقاء، ثم يرسل الحمامة فتنزل على سور الحصن، فيقع الطلسم، فيفتح الحصن، ففعل أزدشير ذلك، واستباح الحصن حينئذ، وخربه وأباد أهله. وسار ببنت الملك، وتزوجها. فبينا هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تتململ لا يأخذها النوم، فقال لها زوجها: أراك لا تنامين؟ قالت: ما نمت على فراش أحسن من هذا الفراش، وأنا أحس شيئاً يؤذيني. فأمر بالفراش فأبدل، فلم تنم أيضاً حتى أصبحت وهي تشتكي جنبها، فنظر إليها فإذا ورقة آس قد لصقت ببعض عكتها، وقد عذبتها، فعجب من ذلك وقال: أهذا الذي أسهرك. قالت: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع لك. قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ والزبد والشهد من أبكار النحل، ويسقيني الخمر الصافي. قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به؟ أنت إلي بذلك أسرع. ثم أمر بها فشدت دوائبها إلى فرسين جامحين، ثم أرسلا فقطعاها. قال بعض المؤرخين: وإنما ذكرت هذه الحكاية لكونها غريبة. وفيها توفي مضر بن أحمد الخبزارزي. كان أمياً، وكان يخبز خبز الأرز وينشد الأشعار المقصودة على الغزل، والناس يزدحمون عليه، ويتطرفون باستماع شعره، ويتعجبون من حاله وأمره، وذكره جماعة من كبار المؤرخين، وأوردوا له عدة مقاطع من شعره، فمن ذلك قوله: خليلي هل أبصرتما أوسمعتما ... بكرم من مولى يمشي إلى عبد أتي زائراً من غير وعد وقال لي ... أجلك عن تعليق قلبك بالوعد فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... تدور بأفلاك السعادة والسعد وحكى الخالد بأن الشاعر المشهور في كتاب الهدايا والتحف الخبزارزي المذكور، أهدى إلى والي البصرة فصاً وكتب معه: أهديت ما لو أن أضعافه ... مطرح عندك ما بانا كمثل بلقيس التي لم يبن ... إهداؤها عند سليمانا هذا امتحان لك إن ترضه ... بان لنا أنك ترضانا

ثمان عشرة وثلاث مائة

والشيء بالشيء يذكره. وفي الكتاب المذكور نادرة لطيفة ظريفة، وفي ذكرها إتحاف وإظراف لسامعها، وهي أن اللبادي الشاعر خرج من بعض مدن أذربيجان يريد أخرى وتحته مهر له راتع، وكانت السنة مجدبة، فضمه الطريق وغلاماً حدثاً على حمار له، قال فحادثته فرأيته أديباً راوية للشعر، خفيف الروح، حاضر الجواب، جيد الحجة. فسرنا بقية يومنا، فأمسينا إلى خان على ظهر الطريق، وطلبت من صاحبه شيئاً تأكله، فامتنع أن يكون عنده شيء، فرفقت به إلى أن جاءني برغيفين، فأخذت واحداً، ودفعت إلى الغلام الآخر. وكان غمي على المهر أن يبيت بغير علف أعظم من غمي على نفسي، فسألت صاحب الخان عن الشعير فقال: ما أقدر منه على حبة واحدة، فقلت: فاطلب، وجعلت له جعلاً على ذلك، فمضى وجاءني بعد زمن طويل وقال: وجدت مكوكين عند رجل، وحلف بالطلاق أنه لا ينقصهما عن مائة درهم، فقلت: ما بعد يمين الطلاق كلام، فدفعت إلى خمسين درهماً، فجاءني بمكوك، فعلفته على دابتي، وجعلت أحادث الفتى، وحماره واقف بغير علف، فأطرق ملياً ثم قال: اسمع أيدك الله أبياتاً حضرت الساعة، فقلت: هاتها فأنشد: يا سيدي، شعري نفاية شعركا ... فلذاك نظمي لا يقوم بنثركا وقد انبسطت إليك في إنشاد ما ... هو في الحقيقة قطرة من بحركا آنستني وبررتني وقريتني ... وجعلت أمري من مقدم أمركا وأريد أذكر حاجة إن تقضها ... لك عند مدحك ما حييت وشكركا أنا في ضيافتك العشية ها هنا ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا فضحكت واعتذرت إليه من إغفال أمر حماره، وابتعت المكوك الآخر بخمسين درهماً، ودفعته إليه. ثمان عشرة وثلاث مائة فيها توفي الحافظ الحجة محمد بن يحيى بن صاعد البغدادي مولى بني هاشم. قال أبو علي النيسابوري: لم يكن بالعراق في أقران ابن صاعد أحد أجل في الفهم والحفظ من ابن صاعد، وهو فوق أبي بكر بن داود فهماً. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن محمد بن مسلم الأسفرايني المصنف. وفيها توفي الحافظ أبو عروبة، الحسن بن أبي معشر محمد بن مودود السلمي

تسع عشرة وثلاث مائة

الحراني، وهو في عشر المائة. وفيها: وقيل في التي تليها توفي الحسن بن علي بن عوف بن العلاف النهرواني الشاعر المشهور. حدث عن أبي عمرو الدوري المقرىء، وحميد بن مسعدة المصري، ونصر بن علي الجهضمي وغيرهم، وروى عنه جماعة منهم: أبو حفص بن شاهين وغيره، وكان ينادم الإمام المعتضد بالله. وحكى قال: بت ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتانا خادم ليلاً فقال: أمير المؤمنين يقول: أرقت الله بعد انصرافكم. فقلت: ولما انتهينا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفر والمزار بعيد قد أرتج على تمامه، فمن أجازه بما يوافق غرضي أمرت له الجائزة. قال: فأرتج على الجماعة، وكلهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت: فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود فرجع الخادم، ثم عاد فقال: أمير المؤمنين يقول: قد أحسنت، وأمر لك بجائزة. تسع عشرة وثلاث مائة فيها استوحش مؤنس من المقتدر والوزير، وجعل يمقت على المقتدر، ويتحكم عليه في إبعاد الناس وتقريب غيرهم، ثم خرج بأصحابه إلى الموصل معارضاً، فاستولى الوزير على حواصله، وفرح المقتدر بالوزير، وكتب اسمه على السكة. وكان مؤنس في ثمانمائة، فحارب جيش الموصل، وكانوا ثلاثين ألفاً، فهزمهم وملك الموصل في سنة عشرين. ولم يحج أحد من بغداد، وأخذ الديلمي الدينور، ففتك بأهلها، ووصل إلى بغداد من الهزم، ورفعوا المصاحف على القضيب، واستغاثوا وسبوا المقتدر، وغلقت الأسواق، وخافوا من هجوم القرامطة. وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي محدث دمشق. وفيها توفي الكعبي شيخ المعتزلة أبو القاسم البلخي. وفيها توفي السيد الجليل محمد بن الفضل البلخي الواعظ. قيل مات في مجلسه أربعة أنفس.

عشرين وثلاث مائة

وفيها أو قبلها توفي أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري الفقيه الشافعي المازني والزبيري نسبة إلى الزبير بن العوام كان إمام أهل البصرة في عصره ومدرسها، حافظ المذهب، مع حظ من الأدب. قدم بغداد وحدث بها عن جماعة، وروى عنه النقاش صاحب التفسير وآخرون. وكان ثقة صحيح الرواية، وله مصنفات كثيرة منها: " الكافي " في الفقه، و " كتاب رياضة المتعلم "، و " كتاب النية "، و " كتاب الهداية "، وغير ذلك من الكتب، وله في المذهب وجوه كثيرة. عشرين وثلاث مائة فيها تجهز مؤنس والعساكر إلى بغداد، فأشار الأمراء على المقتدر بالإنفاق على العساكر، فعزم على التوجه إلى واسط في الماء ليستخدم منها ومن البصرة والأهواز، فقال له محمد بن ياقوت: اتق الله ولا تسلم بغداد بلا حرب. فلما أصبحوا ركب في موكبه وعليه البردة وبيده القضيب، والقراء والمصاحف حوله، والوزير خلفه فسبق بغداد إلى الشماسية، وأقبل مؤنس في جيشه، وشرع القتال، فوقف المقتدر على تل، ثم جاء إليه ابن ياقوت وأبو العلا بن حمدان، فقال له: تقدم، وهم يستدرجونه حتى صار في وسط المصاف في طائفة قليلة، فانكشف أصحابه، وأسر منهم جماعة، وأبلى ابن ياقوت وهارون بن غريب بلاء حسناً، وكان معظم جيش مؤنس خادم البريد، فعطف جماعة من البريد على المقتدر، فضربه رجل من خلفه ضربة فسقط إلى الأرض، وقيل رماه بحربة وجز رأسه بالسيف، ورفع على رمح، ثم سلب ما عليه، وبقي مهتوك العورة حتى ستر بالحشيش، ثم حفر له حفرة، فضمته وعفى أثره، وكانت خلافته خمساً وعشرين سنة إلا بضعة عشر يوماً. وكان مسرفاً مبذراً، ناقص الرأي، يمحق الذخائر، حتى أنه أعطى بعض جواريه الدرة اليتيمة، وزنها ثلاثة مثاقيل، يقال أنه ضيع من الذهب ثمانين ألف دينار. وفي أيامه اضمحلت دولة الخلافة العباسية وضعفت. قالوا: وكان جيد العقل والرأي، لكنه يؤثر اللعب والشهوات، غير ناهض بأعباء الخلافة. وكانت أمه وخالته والقهرمانة يدخلن في الأمور الكبار والولايات والحل والعقد. ولما حمل رأس المقتدر إلى مؤنس بكى وندم وقال: قتلتموه، والله لتقتلن كلنا. فأظهروا أن قتله كان عن غير قصد، ثم بايعوا القاهر بالله الذي قد بايعوه في سنة سبع عشرة،

فصادر بعض أصحاب المقتدر، وعذب أمه وهي مريضة ثم ماتت وهي معلقه بحبل. وبالغ في الظلم، فمقته القلوب. وكان ابن مقلة قد نفي إلى الأهواز، فاستحضره واستوزره. وفيها توفي الحافظ محدث الشام، أبو الحسن محمد بن عمر. وفيها أو قبلها أو بعدها توفي القاضي الحافظ محمد بن يحيى المدني، قاضي عدن، نزيل مكة. كان من جملة الحفاظ وأكابر العلماء، سمع منه الإمامان الحافظان: مسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو عيسى محمد بن سورة الترمذي. أخذ عن سفيان بن عيينة الهلالي، وعبد العزيز المراوردي، ووكيع بن الجراح، وأبي معاوية وغيرهم، وروى عنه الترمذي أنه قال: حججت ستين حجة ماشياً على قدمي. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري، صاحب البخاري. وفيها توفي قاضي القضاة محمد بن يوسف الأزدي مولاهم، وكان من خيار القضاة حلماً وعقلًا وصلابة وذكاء وإصابة. وفيها توفي الفقيه الإمام الكبير الشأن المشهور بأبي علي بن خيران الشافعي المذهب. عرض عليه القضاء ببغداد في خلافة المقتدر، فامتنع وختم على بيته، وضيق عليه عدة أيام ليقبل، فلم يقبل. وكان يعاتب ابن شريح على توليته ويقول: هذا الأمر لم يكن فينا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وعوتب الوزير علي بن عيسى على تضييقه فقال: إنما قصدت ذلك ليقال: كان في زماننا من وكل بداره لتقليد القضاء فلم يقبل. وفيها توفي أمير المؤمنين المقتدر بالله، أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم العباسي، كما تقدم ذكر قتله، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة. وفيها توفي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي على خلاف فيه يأتي مع بعض أوصافه في سنة أربع وعشرين.

إحدى وعشرين وثلاث مائة

إحدى وعشرين وثلاث مائة فيها بدت من القاهر شهامة وإقدام، فتحيل حتى قبض على مؤنس الخادم وجماعة، ثم أمر بذبحهم، ثم طيف برؤوسهم ببغداد، فاستقامت له بغداد، وأطلقت أرزاق الجند وعظمت هيبة القاهر في النفوس، ثم أمر بتحريم القينات والخمر، وقبض على المغنن ونفى المخنثين، وكسر آلات الطرب، إلا أنه قيل: كان لا يكاد يصبر من السكر، ويسمع القينات. وفيها توفي أبو جعفر، أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الفقيه الحنفي المصري. برع في الفقه والحديث، وصنف التصانيف المفيدة. قال الشيخ أبو إسحاق: انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، وقال غيره: كان شافعي المذهب، يقرأ على المزني، فقال له يوماً: والله لا جاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك. وانتقل إلى جعفر بن عمران الحنفي، واشتغل عليه، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم يعني المزني لو كان حياً لكفر عن يمينه. وذكر أبو علي الخليلي في كتاب الإرشاد في ترجمة المزني: إن الطحاوي المذكور كان ابن أخت المزني، وأن محمد بن أحمد الشروطي قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك، واخترت مذهب أبي حنيفة. فقال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه. وصنف كتباً مفيدة، منها: " أحكام القرآن "، و " اختلا العلماء "، و " معاني الآثار "، و " الشروط " وله " تاريخ " كبير، وغير ذلك. ونسبته إلى " طحا " وهي قرية بصعيد مصر، وإلى الأزد وهي قبيلة كبيرة مشهورة من قبائل اليمن. وفيها توفي أبو هاشم الجبائي شيخ المعتزلة، وابن شيخهم، وكان له ولد عامي لا يعرف شيئاً،، فدخل يوماً على الصاحب بن عباد، فظنه عالماً، فكرمه ورفع مرتبته، سأله عن مسألة فقال: لا أدري نصف العلم، فقال الصاحب: صدقت يا ولدي، لأن أباك تقدم بالنصف الآخر. " والجبائي " بضم الجيم وتشديد الموحدة، نسبة إلى جبا، قرية من

قرى البصرة، وقيل كورة ذات قراء. وفيها توفي الإمام الحافظ اللغوي العلامة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري، صاحب التصانيف، عاش ثمانياً وتسعين سنة. قال بعضهم: ما رأيت أحفظ من ابن دريد، ما رأيته قرىء عليه ديوان إلا وهو يسابق في قراءته. وقال الدارقطني: تكلموا فيه، وتصانيفه بضع عشرة منها: " كتاب الجمهرة "، وهو من الكتب المعتبرة في اللغة. و " كتاب غريب القرآن " ولم يكمله، و " كتاب الوشاح " صغير مفيد، وله نظم رائق جداً. وقد قال بعضهم: ابن دريد أعلم بالشعر، وأشعر العلماء. ومن مليح شعره قوله: عن الوجلت الخدور شعاعها ... للشمس عند طلوعها لم تشرق غصن على دعص تأود فوقه ... قمر تألف تحت ليل مطبق لو قيل للحسن احتكم لم يعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق فكأننا من فرعها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق تبدو فتهف بالعيون ضياؤها ... الويل حل بمقلة لم تطبق أخذ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي وعبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي، وأبي عثمان سعيد بن هارون وغيرهم، وتنقل في البلدان، فسكن البصرة وعمان ونواحي فارس وصحب ابني ميكائيل وكانا يومئذ على عمالة فارس وعمل لهما " كتاب الجمهرة "، وقلداه ديوان فارس، وكانت تصدر كتب فارس عن رأيه، ولا ينفذ الأمر إلا بعد توقيعه، فأفاد منها أموالاً عظيمة. وكان مبيداً لا يمسك درهماً شحاً وكرهاً. ومدحهما بقصيدته المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم، وهكذا، قال ابن خلكان: ابني ميكائيل. وقال في موضع آخر من تاريخه في مدح عبد الله بن محمد بن ميكائيل وولده ويقال أنه أحاط فيها بأكثر المقصورة أولها: إما تري رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جزل الفضا ثم انتقل ابن دريد من فارس إلى بغداد سنة ثمان وثلاثمائة بعد عزل ابني ميكائيل وانفصالهما إلى خراسان، فأمر المقتدر أن يجرى عليه كل شهر خمسون ديناراً، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته. وكان واسع الرواية، وعرض له في رأس تسعين من عمر، فالج،

اثنتين وعشرين وثلاث مائة

سقي له الترياق فبرىء، وصح ورجع إلى إسماع تلامذته، ثم عاوده الفالج، فبطلت حركته، وكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم. قال تلميذه ابن القالي: فكنت أقول في نفسي: عاقبه الله تعالى لقوله في مقصورته. مارست من لو هوت الأفلاك ... من جوانب الحق عليه ما شكا وما كان يصيح صياح من يغشى، أو يسأل بالمسائل، والداخل بعيد منه، ومع ذلك ثابت الذهن كامل العقل، يرد فيما يسأل عنه رداً صحيحاً، وعاش بعد ذلك عامين وكان كثيراً ما يتمثل: فواحزني أن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح وتوفي يوم توفي فيه أبو هاشم الجبائي المعتزلي. فقال الناس: مات اليوم علم والكلام " ودريد " تصغير درد، وهو الذي ليس فيه سن، كسويد في تصغير أسود. وكان قد قام مقام الخليل بن أحمد، وأورد أشياء، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، " ومقصورته " خلق من المتقدمين والمتأخرين، ومن أجود شروحها شرح الفقيه محمد بن أحمد اللخمي السبتي، وعارضه جماعة، ورثاه بعضهم فقال: فقدت بابن دريد كل فائدة ... لما عدا نالت الأحجار والتراب وكنت أبكي لفقد الجود منفرداً ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب وفيها توفي مؤنس الخادم الملقب بالمظفر، وعمره نحو تسعين سنة، وكان معظماً شجاعاً منصوراً، وقد تقدم ذكر قتله، ولم يبلغ أحد من الخدام منزلته إلا كافور الأخشيدي صاحب مصر. وسيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى قلت يعنون ولايات الدنيا ورفعتها عند أهلها. اثنتين وعشرين وثلاث مائة فيها قبض المماليك القاهر، هجموا عليه وهو سكران نائم، فقام مرعوباً، وهرب فتبعوه إلى السطح، وبيده سيف، ففوق واحد منهما سهماً وقال: انزل وإلا قتلتك، فقبضوا عليه بعد أن قال: انزل فنحن عبيدك. وأخرجوا محمد بن المقتدر، ولقبوه الراضي بالله، وكحل القاهر، ووزر ابن مقلة قال الصولي: كان القاهر أهوج سفاكاً للدماء، السيرة، مدمن الخمر. كان له حربة يحملها، فلا يضعها حتى يقتل إنساناً، ولولا جودة

حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل. وفيها اشتهر محمد بن علي الشلغماني " بالشين والغين المعجمتين وقيل ياء النسبة نون "، موضع ببغداد، وشاع أنه يدعي الألوهية وأنه يحيي الموتى، وكثر أتباعه، وأحضره ابن مقلة عند الراضي، وسمع كلامه، فأنكر الألوهية وقال: إن لم ينزل العقوبة بعد ثلاثة، وكثره سبعة أيام وإلا فدمي حلال. وكان قد أظهر الرفض، ثم قال بالتناسخ والحلول. وتخرق على الجهال، وضل به طائفة. وأظهر شأنه الحسين بن روح، زعيم الرافضة. فلما طلب هرب إلى الموصل، وغاب سنتين، ثم عادوا دعى الألوهية، فتبعه فيما قيل جماعة، منهم إبراهيم بن عون، فقبض عليه ابن مقلة، وكنس بيته، فوجد فيه رقاعاً وكتباً فيما قيل، يخاطبونه في الرقاع بما لا يخاطب به البشر، وأحضر فأصر على الإنكار، فضعفه ابن عبدوس. وأما ابن أبي عون فقال: إلهي وسيدي ورازقي، فقال الراضي: للشلغماني: أنت زعمت أنك لا تدعي الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما علي من قول ابن أبي عون. ثم أحضروه غير مرة، وجرت لهم فصول، وأحضرت الفقهاء والقضاة، ثم أفتى الأئمة بإباحة دمه، فأحرق، ثم ضربت رقبة ابن أبي عون، ثم أحرق، وكان فاضلاً مشهوراً صاحب تصانيف أدبية، من رؤساء الكتاب، أعني ابن أبي عون، وشلغمانة من أعمال واسط. ولم يحج أحد إلى سنة سبع وعشرين خوفاً من الفرامطة. وفيها توفي حافظ الأندلس أحمد بن خالد، قال القاضي عياض: كان إماماً في وقته في مذهب مالك، وفي الحديث لا ينازع. وفيها توفي السيد الكبير الولي الشهير القدوة العارف، بحر المعارف أبو الحسين خير النساج البغدادي، وكانت له حلقة يتكلم فيها، وعمر دهراً، قيل إنه لقي سريا السقطي، وله أحوال كبيرة وكرامات شهيرة. وفيها توفي المهدي عبيد الله، والد الخلفاء الباطنية العبيدية المقبري، المدعي. أنه من ولد جعفر الصادق، وكان بسلمية من بلاد الشام، فبعث دعاته إلى اليمن والمغرب، وحاصل الأمر أنه استولى على مملكة المغرب، وامتدت دولته بضعاً وعشرين سنة، ومات

ثلاث وعشرين وثلاث مائة

بالمهدية التي بناها، وكان يظهر الرفض ويبطن الزندقة، وقال أبو الحسن القابسي صاحب " الملخص " الذي قتله عبيد الله وبنوه بعده أربعة آلاف رجل في دار النحر في العذاب، ما بين عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت. ومن ذلك قول بعضهم في قصيدة: وأحل دار النحر في إعلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات قلت: ولم يزل الباطنية منهم في بعض جبال اليمن، وقد جرت لهم هناك أمور وزند وفجور، أوضحت ذلك في " كتاب المرهم " وتقدمت الإشارة في سنة سبع عشرة وثلاثين من هذا الكتاب إلى شيء من ذلك. وفي السنة المذكور توفي الشيخ العارف أبو بكر محمد بن علي الكتابي شيخ الصوفية نزيل مكة، أخذ عن أبي سعيد الخراز وغيره وهو مشهور. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو علي الروذباري البغدادي نزيل مصر، من كبار شيوخها في زمانه، صحب الجنيد وجماعة، وكان إماماً محققاً، روي أنه قال: أستاذي في التصوف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم الحربي، وفي الفقه ابن سريج وفي الأدب ثعلب. قلت: وناهيك بفضائل هؤلاء الأربعة المذكورين: ثلاث وعشرين وثلاث مائة فيها محنة ابن شنبوذ، كان يقرأ في المحراب بالشواذ، فطلبه الوزير ابن مقله وأحضر القاضي والقراء وفيهم ابن مجاهد فناظروه، فأغلظ للحاضرين في الخطاب ونسبهم إلى الجهل، فأمر الوزير بضربه لكي يرجع، فضرب سبع درر وهو يدعو على الوزير، فتوبوه غضباً، وكتبوا عليه محضراً، وكان مما أنكر عليه: فأمضوا إلى ذكر الله وذروا البيع، وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. وهذا الأنموذج مما روي ولم يتواتر. وفيها توفي قتيبة شيخ الحنابلة البرنهاري " بالباء الموحدة والراء المكررتين "، فنودي أن لا يجتمع اثنان من أصحابه، وحبس منهم جماعة واختفى هو.

أربع وعشرين وثلاث مائة

وفيها أخذ القرمطي أبو طاهر الركب العراقي، وانهزم الأمير لؤلؤ وبه ضربات، وقتل خلق من الوفد، وسبيت الحريم، وهلك محمد بن ياقوت في الحبس بعدما طلب الجند أرزاقهم، وأغلظوا له، وقبض الراضي بالله عليه، وعظم شأن الوزير ابن مقلة وتفرد بالأمور. وفيها توفي الحافظ أبو بشر أحمد بن محمد الكندي المروزي، روى عن محمود ابن آدم وطائفة، وهو أحد الوضاعين الكذابين، مع كونه محدثاً إماماً في السنة والرد على المبتدعة. وفيها توفي نفطوية النحوي، أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي، صاحب التصانيف الحسان في الآداب، وكان بارعاً فصيحاً في الخطاب، ولا يكاد يخلو ذو فضل من أين يطعن فيه ويعاب، ولهذا هجاه بعض الناس ببيتين الثاني منهما: أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الثاني صراخاً عليه وعجز الأول: فليجتهد أن لا يرى نفطويه، وصدره كرهت ذكره فحذفته، روى عن شعيب بن أيوب وطبقته. وفيها توفي الحافظ الجوال الفقيه أبو نعيم عبد الملك بن محمد الجرجاني، سمع علي بن حرب وعمر بن شبة وطبقتهما، قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين. وقال أبو علي النيسابوري: ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مثل أبي نعيم، كان يحفظ المرفوعات والمراسيل، كما نحن نحفظ المسانيد. عمر إحدى وثمانين سنة. وفيها توفي أبو عبيد المحاملي القاسم بن إسماعيل أخو القاضي حسين. أربع وعشرين وثلاث مائة فيها قبض على الوزير ابن مقلة، وأحرقت داره، وضرب وأخذ خطه بألف ألف دينار، وجرت عظائم من الضرب والتعليق وغير ذلك، وجرت أمور طويلة يخالف فيها أهل الدولة، وبطلت الوزارة والدواوين، وضعف أمر الخلافة، وبقي الراضي بالله صورة. وفيها توفي مفتي العراق أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، وكان

خمس وعشرين وثلاث مائة

بصيراً بالقراءة وعللها ورجالها، عديم النظير. وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي المعروف بجحظة " بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء المعجمة وبعدها هاء " على خلاف فيه تقدم، كان صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وقد جمع المرزباني أخباره وأشعاره، وكان من ظرفاء عصره، وله أشعار رائقة منها قوله: أيا ابن أناس مول الناس جودهم ... فأصبحوا حديثاً للنوال المشهد فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريطهم دفن دفتر وكان مشوه الخلق، وفي ذلك يقول ابن الرومي مشيراً إلى قبح صورته وحسن منادمته. يا رحمة لمنادمته تحملوا ... علم العيون للذة الآذان التقريظ مدح الإنسان وهو حي، والتأبين مدحه ميتاً. وفيها توفي الفقيه الشافعي الحافظ صاحب التصانيف والرحلة الواسعة، عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، سمع محمد بن يحيى الذهلي، ويونس بن عبد الأعلى. قال الحاكم: كان إمام عصره للشافعية بالعراق، ومن أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحاب وقال الشيخ أبو إسحاق، كان زاهداً يفتي الناس أربعين سنة، لم ينم الليل، يصلي الصبح بوضوء العشاء، وجمع بين الفقه والحديث. خمس وعشرين وثلاث مائة فيها دخل القرمطي الكوفة فعاث فيها. وفيها توفي الحافظ البارع المصنف أحمد بن أحمد بن محمد بن الحسن، تلميذ مسلم. ست وعشرين وثلاث مائة فيها قبض الراضي بالله على ابن مقلة، وقطع يده حين أخذ يكاتب في بعض أمور السلطنة والمضاهاة لبعض أهل الدولة. ثم بعد أيام قطع ابن واثق لسانه، لكونه كاتب

سبع وعشرين وثلاث مائة

بعض الأمراء، فأقبل بجيوشه من واسط، ودخل بغداد، فكرمه الراضي ولقبه أمير الأمراء، وولاه الحضرة، وضعف عن قتاله ابن واثق. فاختفى. وفيها توفي عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن الحجاج الناسخ المصري. وفيها توفي محمد بن القاسم المحاربي. سبع وعشرين وثلاث مائة فيها توفي الحافظ العالم عبد الرحمن ابن الحافظ الجامع، محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الرازي " بالراء " وقد قارب التسعين، وقال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال صنف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، قال: وكان زاهداً يعد من الأبدال. وفيها توفي محمد بن جعفر الخرائطي، مصنف مكارم الأخلاق ومساوئها، وغير ذلك. وفيها توفي مبرمان النحوي، شرح سيبويه، وما أتمه، وهو محمد بن علي العسكري، أخذ من المبرد. ثمان وعشرين وثلاث مائة فيها التقى سيف الدولة ابن حمدان الدمشقي قاتله الله فهزمه. وفيها توفي الإمام العلامة أبو سعيد الأصطخري، الحسن بن أحمد شيخ الشافعية بالعراق، روي عن سعدان بن نصر وطبقته، وصنف التصانيف، وعاش نيفاً وثملاثين سنة، وكان موصوفاً بالزهد والقناعة، وله وجه في المذهب، تولى حسبة بغداد، واستقضاه المقتدر على سجستان، فسار إليها، ونظر في مناكحاتهم، فوجد معظمها على غير إعتبار الولي، فأنكرها وأبطلها عن آخرها. وكان ورعاً، وهو من نظراء أبي العباس ابن سريج وأقران علي بن أبي هبيرة. وفيها توفي الفقيه الواعظ، أحد الأئمة، أبو علي الثقفي محمد بن عبد الوهاب النيسابوري، عاش أربعاً وثمانين سنة، سمع في كبره من موسى بن نصر الرازي وأحمد بن ملاعب وطبقتهما. وكان له جنازة لم يعهد مثلها، وهو من ذرية الحجاج. قال الفقيه أبو الوليد: دخلت على ابن سريج، وسألني عن من درست الفقه؟ قلت: على أبي علي الثقفي، قال: لعلك تعني الحجاجي الأزيرق؟. قلت: نعم، قال: ما جاءنا من خراسان أفقه منه،

وقال أبو بكر الضبعي: ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد علينا أبو علي الثقفي في العراق وذكره السلمي في طبقات الصوفية. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ المقرىء البغدادي، أحد الأئمة من مشاهير القراء وأعيانهم، وكان ديناً، وقيل كان فيه سلامة صدر وحمق منفرداً بقراءة الشواذ، وكان يقرأ بها في المحراب، فأنكر عليه ذلك، وبلع علمه أبا علي ابن مقلة الوزير فاستحضره واعتقله في داره أياماً، ثم استحضر القاضي أبا الحسين عمر بن محمد والمقرىء أبا بكر المعروف بابن مجاهد وجماعة من أهل القرآن، وأحضر ابن شبنوذ المذكور، ونواظر في حضرة الوزير، فأغلظ في الحديث للوزير وللقاضي وللمقرىء ابن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة وغيرهم، بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر واستشار القاضي أبا الحسين المذكور، فأمر الوزير ابن مقلة بضربه، فأقيم، وضرب سبع درر، فدعا وهو يضرب على الوزير ابن مقلة بأن يقطع الله تعالى يده، ويشتت شمله وكان الأمر كذلك، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وأنكر ما كان ينكر عليه من الحروف التي كان يقرأ بها مما هو شنيع، وقال فيما سوى ذلك، فرابه قوم، فاستتابوه فقال: إنه رجع عما كان يقرأ، وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وكاتب علي الوزير محضراً بما قاله، وكتب بخطه ما يدل على توبته. ومما حكي أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله، وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، وليكن منكم فئة يدعون إلى الخير وغير ذلك. وفيها توفي الوزير أبو علي محمد بن علي بن الحسن بن مقلة الكاتب المشهور كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس، ويجبي خراجها، وتنقلت أحواله إلى استوزره الإمام المقتدر، فخلع عليه، فبقي في الوزارة سنتين وشهرين، ثم نفاه إلى بلاد فارس بعد أن صادره، ثم استوزره الإمام القاهر بالله، فأرسل إليه إلى فارس رسولاً يجيء به، ورتب له نائباً، فوصل يوم الأضحى من سنة عشرين وثلاثمائة، ولم يزل وزيره إلى اتهمه بالمعاضده على الفتك به. وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر. ولما ولي الراضي بالله سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فاستوزره أيضاً، وكان المظفر ياقوت مستحوذاً على أمور الراضي. وكان بينه وبين ابن مقلة وحشة وقرر ابن ياقوت الغلمان أنه إذا جاء قبضوا عليه، وأن الخليفة لا يخالفه في ذلك، وربما سره. فلما حصل

ابن مقلة في دهليز دار الخلافة وثب الغلمان عليه، ومعهم ابن ياقوت، وقبضوا عليه، وأسلموه إلى الراضي يعرفونه صورة الحال، وعدوا له ذنوباً وأسباباً تقتضي ذلك، فرد جوابهم وهو يستصوب ما فعلوا، واتفق رأيهم على توزير عبد الرحمن بن عيسى بن داود الجراح، وقلده الراضي الوزراة، وسلم إليه ابن مقلة، فضربه بالمقارع، وجرى عليه من المكاره بالتعليق وغيره من العقوبة شيء كثير، وأخذ خطه بألف ألف دينار، ثم خلص، وجلس بطالاً في دار. ثم إن ابن رائق استولى على الخلافة، وخرج عن طاعتها، فاستماله الراضي، وفوض إليه تديير المملكة، وجعله أمير الأمراء، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وقوي أمره، وعظم شأنه، وتصرف برأيه، وأحاط على أملاك ابن مقلة وضياعه وأملاك ولده أبي الحسن، فأخذ ابن مقلة في السعي بابن رائق، وكتب إلى الراضي يشير عليه بإمساكه، وضمن له متى فعل ذلك، وقلده الوزارة فاستخرج له ثلاثمائة ألف ألف دينار، وكانت مكاتبة على يد ابن هارون المنجم النديم، فأطمعه الراضي بالإجابة إلى ما سأل، فلما استوثق ابن مقلة من الراضي ركب من داره وقد بقي من رمضان ليلة واحدة، واختار هذا الطالع لأن القمر يكون تحت الشعاع، وهو يصلح للأمور المستورة فلما وصل إلى دار الخليفة لم يمكنه من الوصول إليه، ووجه إلى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وأنه احتال على ابن مقلة حتى حصله في أسره، ثم أظهر الراضي أمر ابن مقلة، وأخرجه من الإعتقال، وحضر صاحب ابن رائق وجماعة من القواد، وتقابلا فالتمس ابن رائق قطع يده التي كتب به المطالعة، فقطعت يده اليمنى، ورد إلى مجلسه. ثم ندم الراضي على ذلك، وأمر الأطباء بمداواته، فداووه حتى برىء. وكان ذلك نتيجة دعاء ابن شنبوذ المقرىء بقطع يده كما تقدم. وقال أبو الحسن ثابت بن سنان الطبيب: كنت إذا دخلت إليه في تلك الحال سألني عن أحوال ولده، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم يتوجه على يده ويقول: كتبت بها القرآن الكريم مرتين، تقطع كما تقطع اللصوص. فأسليه وأقول: هذا انتهاء المكروه، فينشدني: إذا ما مات بعضك قاتلاً بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب ثم عاد وأرسل الراضي من بعد قطع يده، وأطمعه في المال، وطلب الوزارة وقال: إن قطع اليد ليس بعد قطع اليد، وليس مما يمنع الوزارة. وكان يشد القلم على ساعده ويكتب، ثم أمر بعض التمين إلى ابن رائق يقطع لسانه أيضاً، فقطع فأقام في الحبس مدة طويلة ولم يكن له من يخدمه، وكان يستسقي الماء لنفسه من البير، فيجذب بيده اليسري جذبة ونعمه الأخرى. وله أشعار في شرح حاله، من ذلك قوله:

ما سئمت الحياة لكن توثقت ... بإيمانهم فزالت يميني وليس بعد اليمين لذة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني ومنه أيضاً: لست ذا ذلة إذا عصى الدهر ... ولا شامخاً إذا أو أتاني ومن ذلك: وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزة المترفع قالت له النفس العروف بقدرها ... ما كان أولاني بهذا الموضع ولم يزل على هذه الحالة إلى أن توفي في موضعه، ودفن في مكان، ثم نبش بعد زمان وسلم إلى أهله. وهو أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة، هو وأخوه على خلاف فيه، وله ألفاظ منقولة مستعملة، من ذلك قوله: إذا أحببت تهالكت، وإذا اتعظت أهلكت، فإذا رضيت أبدت، وإذا غضبت أبرت. ومن كلامه: يعجبني من يقول الشعر تأدباً لا تكسباً، ويتعاطى الغناء تطرباً لا تطلباً قيل: وله كل معنى مليح في النظم والنثر. وكان ابن الرومي الشاعر يمدحه، فمن معاتبة المقولة فيه قوله: أن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم كذا قضى للأقلام مذ برئت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم وكل صاحب سيف دائم أبداً ... ما زال يتبع ما يجري به القلم وكان أخوه الحسن بن علي بن مقلة كاتباً أديباً بارعاً، قيل: والصحيح أنه صاحب الخط، وفي عزل ابن مقلة من الوزارة، قال بعض الشعراء: يقال العزل للأحرار حيض ... نجاة الله من أمر بغيض ولكن الوزير أبا علي ... من اللائي يئسن من المحيض وفيها توفي العلامة إمام اللغة صاحب المصنفات أبو بكر محمد ابن الأنباري النحوي اللغوي، عمر سبعاً وخمسين سنة، سمع في صغره من الكديمي بضم الكاف وإسماعيل القاضي، وأخذ عن أبيه وثعلب وطائفة. قال أبو علي القالي: كان شيخنا أبو بكر يحفظ فيما قيل ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن، وقال محمد بن جعفر التميمي: ما رأيت أحفظ من ابن الأنباري، ولا أغزر بحراً

منه. روي عنه أنه قال: أحفظ ثلاثه عشر صندوقاً. قال: وحدث أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً للقرآن العظيم بأسانيدها. وقيل: إنه أملى غريب الحديث في خمسة وأربعين ألف ورقة، وكان علامة وقته في الآداب وأكثر الناس حفظاً لهما. وكان صدوقاً ثقة ديناً خيراً، من أهل السنة. وصنف كتباً كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل، وكان يملي في ناحية من المسجد، وأبوه في ناحية أخرى. وفيها توفي الأستاذ أبو الحسن المزين، العارف بالله الولي الكبير، شيخ الصوفية، صحب الجنيد وسهل بن عبد الله، وجاور بمكة، وله مناقب كثيرة ومحاسن شهيرة، ومما حكي عنه أنه قال: كنت بمكة، فوقع لي إرادة السفر إلى المدينة، فلما بلغت بير ميمون، وجدت شاباً يجود بنفسه، فقلت له: قل لا إله إلا الله، ففتح عينيه، ونظر إلي وقال: أنا إن مت فالهوى حشو قلبي ... وبداء الهوى يموت الكرام ثم خرجت روحه، فغسلته وكفنته، وصليت عليه ودفنته، فسكن ما كان في نفسي من خاطر السفر، فرجعت إلى مكة وكان بعد ذلك يوبخ نفسه ويقول: حجام يلقن أولياء الله الشهادة واشوقاه. وقوله: بير ميمون يعني أنها البير المسماة اليوم بالنوارية، والله أعلم بالصواب. وبعض الناس يسميها بير ميمونة، وهي قريبة من قبرها. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير: أبو محمد المرتعش، عبد الله بن محمد النيسابوري، أحد مشايخ العراق، صحب الجنيد وغيره، ومن كلامه: الإرادة حبس النفس عن مراداتها، والإقبال على أوامر الله تعالى، والرضوان بموارد القضاء، وقيل له: إن فلاناً يمشي على الماء فقال، عندي من مكنه الله تعالى من مخالفة الهوى، هو أعظم من المشي في الهواء، وكان يقال له: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات الخزيمي. وفيها توفي أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي صاحب " العقد "، الأموي مولاهم. كان رأس العلماء المكثرين، والإطلاع على أخبار الناس. حوى كتابه من كل شيء، وله ديوان شعر جيد، ومن شعره:

تسع وعشرين وثلاث مائة

إن الغواني لو رأينك طاوياً ... برد الشباب طوين عنك وصالا وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسجت يزيدك عندهن خيالا والقرطبي نسبة إلى قرطبة، وهي مدينة كبيرة من بلاد الأندلس، وهي دار مملكتها. تسع وعشرين وثلاث مائة فيها: استخلف المتقي لله، وتوفي الراضي بالله أبو إسحاق محمد. وقيل: أحمد المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله العباسي. وكانت أمه جارية رومية، وهو آخر خليفة له شعر مدون وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة إلى خلافة الحاكم العباسي، فإنه خطب أيضاً مرتين، وآخر خليفة جالس الندماء، ولكنه كان مقهوراً مع أمرته، وكان سمحاً كريماً محباً للعلماء والأدباء، سمع الحديث من البغوي وعمره إحدى وثلاثون سنة. وفيها توفي يوسف بن يعقوب بن إسحاق التنوخي الأنباري الأزرق الكاتب، وله نيف وتسعون سنة. وأبو نصر محمد بن حمدويه المروزي. ثلاثين وثلاث مائة فيها حدث الغلاء المفرط والوباء ببغداد، وبلغ الكر مائتين وعشرة دنانير، أكلوا الجيف. وفيها وصلت الروم، فأغارت على أعمال حلب، وبدعوا، وسبوا عشرة آلاف نسمة. وفيها أقبل أبو الحسين علي بن محمد بن البريدي بالجيوش، فالتقاه المتقي وابن رائق إلى الموصل، واختفى وزيره أبو إسحاق القراريطي، ووقع النهب في بغداد، واشتد القحط حتى بلغ الكر ثلاثمائة وستة عشر ديناراً، وهذا شيء لم يعهد بالعراق. ثم عم البلاء بزيادة دجلة، فبلغت عشرين ذراعاً، فغرق الخلق. وأما ناصر الدولة ابن حمدان فإنه جاءه محمد بن رائق، فوضع رجله في الركاب، إذ وثب به الفرس، فوقع فصاح ابن حمدان: لا يفوتنكم، فقتلوه، ثم دفن، وعفى قبر وجاء ابن حمدان إلى المتقي، فقلده المتقي مكان ابن رائق، ولقبه ناصر الدولة، ولقب

أخاه علياً سيف الدولة. وعاد وهما معه، وهرب البريدي من بغداد، وكان مدة استيلائه عليها ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ثم نهب البريدي وعاد، فالتقاه سيف الدولة بقرب المدائن، ودام القتال يومين، وكان الهزيمة على ابن حمدان والأتراك، ثم كانت على البريدي، وقتل جماعة من أمراء الديلم، وأسر آخرون، وهرب البريدي إلى واسط بأسوأ حال، وساق وراءه سيف الدولة، ففر إلى البصرة. وفي رجب من السنة المذكورة توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير أبو بكر الصيرفي الشافعي، صاحب المصنفات في المذهب، وصاحب وجه فيه. كان من جلة الفقهاء، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، واشتهر بالحذق في النظرة والقياس وعلم الأصول، وله في أصول الفقه كتاب لم يسبق إليه. قال أبو بكر القفال: كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، وهو أول من انتدب من أصحابنا للشروع في علم الشروط، وصنف فيه كتاباً، أحسن فيه كل إحسان. والصيرفي نسبة مشهورة لمن يصرف الدنانير والدراهم. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو يعقوب النهرجوري، شيخ الصوفية. صحب الجنيد وغيره، وجاور مكة، وكان من كبار العارفين رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام الكبير القاضي أبو عبد الله المحاملي الشهير، الحسين بن إسماعيل الضبي البغدادي. عاش خمساً وتسعين سنة. قال أبو بكر الداؤدي: كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله، محمد بن عبد الملك القرطبي. ألف كتاباً على سنن أبي داود، وكان بصيراً بمذهب مالك. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الهروي، من أعيان الشافعية والراحلين في طلب الحديث، عاش مائة سنة. وفيها توفي الزاهد العابد، صاحب المسجد المشهور بظاهر باب شرقي، يقال اسمه مفلح، وكان من الصوفية العارفين. وفيها وقيل بعدها على ما حكاه ابن الهمداني في ذيل تاريخ الطبري توفي

ببغداد وقيل بل في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة الشيخ الإمام ناصر السنة، وناصح الأمه، إمام أئمة الحق، ومدحض حجج المبدعين المارقين، حامل راية منهج الحق ذي النور الساطع والبرهان القاطع، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سلام بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي رضي الله عنه. قلت هذا، ذكر اسمه ونسبه، وذكر الإمام السمعاني الأشعري نسبه إلى أشعر، أحد أجداده، وهو ثبت بن داود بن يشجب. قال: وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على يديه. انتهى. قلت: نسبته المعروفة المتفق عليها إلى أبي موسى الأشعري الصحابي، وهو من الأشاعر: قبيلة من اليمن، ونسلهم إلى الآن باق،، وهم عرب يسكنون قريباً من زبيد، مشهورون بالنسب المذكور. وأما ذكر مناقبه، وما ورد في السنة من الأحاديث الدالة على شرف أصله وكبر مجلسه، وما أمره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، من النظر في سنته واتباعه لها ونصرته لمذهب الحق، وما شهد له به العلماء من الفضيلة والسيرة الجميلة، وما عرف به من العلم والعمل والعبادة والتقلل من الدنيا والزهادة، وعقوبة من أساء الظن به، واعتقد بطلان مذهبه وفساده، وبيان صحة إعتقاده وإعتداله وسداده، وما رئي له في المنام، مما يدل على أنه لمذهب الحق والهدى إمام، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه واتباع أصحابه للمسائل التي سأله في منامه، وما ورد عليه من الأمر بإقتدائهم في جوابه، وما مدحه به العلماء الأحبار من الفضائل بالنثر والأشعار، وغير ذلك مما لا يدخل تحت قيد الإنحصار، فإنه يحتاج في تدوين الجملة إلى تصانيف مفردة مستقلة كبار. وقد صنف في ذلك كتاباً نفيساً الإمام الحافظ المحقق المسند الماهر، صاحب تاريخ الشام في ثمانين مجلداً، وأبو القاسم المعروف بابن عساكر صنفه في مجلد، وقد اختصرته في كتاب سميته " الشاش المعلم شاووش، كتاب المرهم المعلم بشرت المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية "، ذكرت فيه نبذة من مناقبهم الجليلة، ومحاسنهم الجميلة، وسيرهم الحميدة، وعقائدهم السديدة التي وافقوا فيها عقيدة إمام الأئمة. أبي الحسن الأشعري المذكور، ناصر الحق البارع القامع للبدع المشكور. وحذفت ما ذكر ابن العساكر من الروايات والأسانيد في تآليفه وجمعه، رغباً في الإختصار، وهرباً من الملل في الإكثار، فجاء كتابي من كتابه قدر ربعه.

قلت: ومما يدل على جلالة قدره وإرتفاعه وكثرة مصنفاته، فقد روى الحافظ أبو القاسم بسنده أنها عدت تراجمهم، ففاقت على ثلاثمائة وثمانين مصنفاً، منها " كتاب الفضول " في الرد على المحدثين والخارجين عن الملة، كالفلاسفة والتابعين والدهريين وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر، على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم، ورد فيه على البراهمة واليهود والنصارى والمجوس. وهو كتاب مشتمل على اثني عشر كتاباً. وكذلك " كتاب الموجز " يشتمل على اثني عشر كتاباً، على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة، كالفلاسفة والداخلين، ورد على سائر أنواع المبتدعين في كتبه، تعميماً وتخصيصاً. ومما يدل على ذلك أيضاً خطبة كتابه الذي صنفه في تفسير القرآن والرد على من خالف البيان من أهل الإفك والبهتان. قال: أما بعد، فإن أهل الزيغ والبدع والتضليل تأولوا القرآن على رأيهم، وفسروه على أهوالهم تفسيراً، لم يزل الله تعالى به سلطاناً، ولا أوضح به برهاناً، ولا رووه عن رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين، افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين، ثم قال في أثناء كلامه: وشيوخهم الذين قلدوهم، فأضلوهم وما هدوهم. قال: ورأيت الجبائي قد ألف كتاباً في تفسير القرآن، أوله على خلاف ما أنزله الله عز وجل لغة أهل قرية المعروفة بجبا، وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وما روى في كتابه حرفاً واحداً عن المفسرين. وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيراً من العوام، واستنزل به عن الحق كثيراً من العظام، لم يكن للتشاغل به وجه. ثم ذكر المواضع التي أخطأ فيها الجبائي في تفسيره، وبين ما أخطأ فيه من تأويله من القرآن بعون الله تعالى وتيسيره، وكل ذلك مما يدل على جلة وكثرة علمه، وظهور فضله، جزاه الله تعالى عن جهاده في دينه بلسانه الحسنى، وأحله بإحسانه في مستقر جنانه. المحل الأسنى. واسم كتابه الذي ألفه في تفسير القرآن " المتحفون ". قال الإمام الماهر في الفقه: محمد بن موسى بن عمار، فيما روى عنه الثقات الأخيار والعلماء الأحبار. ذكر لي بعض أصحابنا أنه رأى من تفسيره المذكور طرفاً وكان بلغ فيه سورة الكهف وقد أنهى مائة كتاب، ولم يترك آية يتعلق بها يدعي، إلا بطل تعلقه بها، وجعلها حجة لأهل السنة، وبين المجمل، وشرح المشكل، أو قال: المستشكل. قال: ومن وقف على تآليفه رأى أن الله تعالى قد أمده بإمداد توفيقه، وأقامه لنصرة الحق والذب عن طريقه.

وكل من تعلق اليوم بمذهب السنة، وتفقه في معرفة أصول عن سائر المذاهب، نسب إلى أبي الحسن الأشعري، لكثرة تآليفه، وكثرة قراءة الناس لها، ولم يكن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما يجري على سنن غيره، وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجة وبياناً، ولم يبتدع مقالة اخترعها، ولا مذهباً انفرد به. ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسب إلى مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه؟ ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الإتباع، إلا أنه زاد المذهب بياناً وبسطاً وحجة وشرحاً وألف كتابه الموطأ. وأما ما أخذ عنه من الأسمعة والفتاوى، فنسب إليه لكثرة بسطه وكلامه فيه، وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري، لا فرق، فليس له في المذهب كثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته، فنجب في تلاميذه خلق كثير من المشرق. وكانت شوكة المعتزلة بالعراق شديدة، وأعظم ما كانت المحنة زمن المأمون والمعتصم، فتورع عن مجادلتهم أحمد بن حنبل، فموهوا بذلك على الملوك وقالوا: إنهم يعنون أهل السنة، يفرون من المناظرة لما يعلمون من ضعفهم على نصرة الباطل، وأنه لا حجة بأيديهم، وشنعوا بذلك عليهم، حتى امتحن في زمانهم أحمد بن حنبل وغيره، حتى أخذ الناس حينئذ بالقول بخلق القرآن، حتى ما كان تقبل شهادة شاهد، ولا يستقضي قاض، ولا يفتي مفت إلا يقول بخلق القرآن. قال: وكان في ذلك الوقت جماعة من المتكلمين، كعبد العزيز المكي، والحارث المحاسبي، وعبد الله بن كلاب، وجماعة غيرهم، وكانوا أولي زهد، لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطاً، ولا أن يداخلهم. وكانوا يردون عليهم، ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم، إلى أن أنشأ بعدهم، وعاصر بعضهم ابن أبي بشر الأشعري، يعني الشيخ أبا الحسن المذكور، فصنف في هذا العلم لأهل السنة التصانيف، وألف لهم التآليف، حتى أدحض الله تعالى حجج المعتزلة، وكسر شوكتهم. وكان يقصدهم بنفسه. ويناظرهم، فكلم في ذلك وقيل له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟. فقال: هم أهل رئاسة، منهم الوالي والقاضي. ولرئاستهم لا ينزلون إلي، فإذا كانوا لا ينزلون إلى، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن للسنة ناصراً بالحجة؟. قال: وكان أكثر مناظراته مع الجبائي المعتزلي، وله معه في الظهور عليه مجالس كثيرة، فلما كثرت تآليفه، ونصر مذهب أهل السنة وبسطه، تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية. فأهل السنة بالمشرق والمغرب بلسانه يتكلمون، وبحجته يحتجون.

وأما أتباعه، فقد ذكر الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه، من أعيانهم، قريباً من ثمانين إماماً، ثم أردفتهم من جلة الأئمة ما صار للمائة تماماً. فمن اقتدى به، وتبعه في الإعتقاد من المحققين النظار النقاد، ممن جمع بين العلم والدين، وأقام قواطع الحجج والبراهين، كالإمام أبي بكر الباقلاني، والأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني، والإمام ابن فورك، والشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي، وأبي المعالي إمام الحرمين الجويني، والإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والإمام فخر الدين الرازي، والإمام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ الإمام محيي الدين النواوي، والإمام تقي الدين بن دقيق العبد، وغير هؤلاء العشرة من ذوي المناقب الشهيرة. وكذلك جماعة من أكابر المشايخ الجلة العارفين السالكين الربانيين المربين، كالشيخ أبي عبد الله القرشي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، والشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، وغيرهم من منابع الأسرار ومطالع الأنوار. وكان حامل رأيه من ماله من المناقب، وناصر مذهبه دون المذاهب، الإمام المحقق الحبر البارع ذو البرهان القاطع، والعلم الواسع، البحر الطامي، القاضي أبو بكر الباقلاني. وهو الذي رجح غير واحد من العلماء، أنه هو الذي كان على رأس المائة الرابعة لاحتياج الناس في قمع المبتدعين إلى علم أصول الدين. قالوا: وكان على رأس " المائة الأولى " من الذين أشار صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: " إن الله يحدث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة، من يجدد لها أمر دينها "، عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس " المائة الثانية " محمد بن إدريس الشافعي، وعلى رأس " المائة الثالثة " أبو الحسن الأشعري، وعلى رأس " المائة الرابعة " القاضي أبو بكر الباقلاني، وعلى رأس " المائة الخامسة " أبو حامد الغزالي. كل هؤلاء المذكورين نص عليهم الإمام الحافظ ابن عساكر وغيره من الأئمة، ونص على الأولين الإمام أحمد بن حنبل، ولم ينص على المائتين الأخريين، لأنه لم يدركها، وقد قيل أنه كان على رأس " المائة السادسة " فخر الدين الرازي، وعلى رأس " المائة السابعة " تقي الدين بن دقيق العبد. والله أعلم. وكان الشيخ أبو الحسن المذكور شافعياً، يجلس في أيام الجمع في بدايته، في حلقة الفقيه الإمام أبي إسحاق المروزي الشافعي، في جامع المنصور. قال الحافظ أبو نعيم: أخبرنا الأستاذ الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي. وقال: سمعت عبد الله بن محمد بن طاهر الصوفي يقول: رأيت أبا الحسن الأشعري في مسجد البصرة، وقد أبهت المعتزلة في المناظرة، فقال له بعض الحاضرين: قد عرفنا تبحرك في

علم الأصول، وأريد أن أسألك عن مسألة في الفقه، قال: اسأل عما شئت، فقال له: ما تقول في الصلاة بغير الفاتحة: قال: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عبد الجبار قال حدثنا سفيان، قال: حدثني الزهري عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". وحدثنا زكريا قال: حدثنا بندار قال: حدثني يحيى بن سعيد بن جعفر بن ميمون قال حدثني أبو عثمان عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي بالمدينة أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. قال: فسكت القائل، ولم يقل شيئاً. قال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وفي هذه الحكاية دلالة ظاهرة على أن أبا الحسن كان يذهب مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: كذلك ذكر أبو بكر بن فورك، يعني الإمام المشهور في كتاب طبقات المتكلمين، وذكر غيره عن أئمتنا وشيوخنا الماضين. وروى الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر المذكور، بسنده إلى الإمام الأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني قال: كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرة في البحر وسمعت الشيخ أبا الحسن الباهلي يقول: كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الأشعري كقطر في البحر. قلت: يعني بالباهلي المذكور شيخه، وشيخ الإمام ابن فورك، وتلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري. كما روى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، بسنده إلى القاضي أبي بكر الباقلاني قال: كنت أنا والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، والأستاذ ابن فورك معاً في درس الشيخ أبي الحسن الباهلي، تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، قال: وكان من شدة اشتغاله بالله تعالى مثل واله أو مجنون، وكان يدرس لنا في كل جمعة مرة واحده، وكان منا في حجاب، يرخي الستر بيننا وبينه كي لا نراه. انتهى. قلت: وإنما لم أترجم لهذا السب المذكور يعني أبا الحسن الباهلي لأني لم أقف على تاريخ موته. وفيه مثل ما ذكر عنه في تدريسه في الجمعة مرة، سمعت من بعض أهل الخير والصلاح أنه كان يقيم في جبل " عدن " رجل مشتغل بالله تعالى، وله معرفة بالغة في النحو وكان ينزل إلى عدن يوماً في الجمعة، يشتغل الناس عليه في النحو. والمشتغلون بالله والعلم على ثلاثة أقسام: منهم من لا يشتغل بالخلق بالكلية، لا بعلم ولا بعمل. ومنهم من يشتغل بالعلم وبالعمل معاً دائماً. ومنهم من يشتغل بهما أو بأحدهما في نادر من الأوقات كهذين السيدين المذكورين.

ومن القسم الأول: الفقيه الإمام أحد الأولياء الكرام العالي المقام، صاحب الكرامات العظام، الشيني سفيان اليمني الحضرمي، ترك الإشتغال لما قيل له: إذا أردتنا فاترك القولين والوجهين. ومن القسم الثاني: الفقيهان الإمامان الكبيران السيدان الوليان الشهيران، صاحبا المقامات العلية والكرامات الرضية، والمناقب العديدة والمحاسن الحميدة، زين الزمن وبركة اليمن: أبو الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي، وأبو العباس أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل. رضي الله عنهما. رجعنا إلى ما كنا نحن بصدده، قال إمام المحدثين عمدة المسندين الحافظ الكبير السيد الشهير، قدوة الأئمة أكابر أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله فكفى أبا الحسن فضلاً أن يشهد بفضله مثل هؤلاء الأئمة، وحسبه فخراً أن يثني عليه الأماثل من علماء الأمة، ولا يضر قدح من قدح فيه لقصور الفهم وعناءة الهمة، ولم يبرهن على ما يدعيه في حقه، إلا بنفس الدعوى ومجرد التهمة. وقاد الإمام الحافظ الحبر المحقق الماهر، والبحر الخضم الطامي الزاخر، المشتمل على نفيس الدرر وعوالي الجواهر، الجامع بين المعقول والمنقول، والفروع والأصول. الصافي من سائر البدع، النقي أحمد بن الحسين، المكنى بأبي بكر البيهقي في أثناء رسالته: " الحسناء البالغة المرضية في مكاتبة العميد واستعطافه لنصرة الأشعرية ". ثم إنه أعز الله تعالى نصره صرف كلمته العالية إلى نصرة دين الله تعالى، وقمع أعداء الله عز وجل، بعدما تقرر للكافة حسن اعتقاده بتقرير خطباء أهل مملكته، على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع ببدعته. فألقوا في سمعه ما فيه مساءة أهل السنة والجماعة كافة، ومصيبتهم عامة، من الحنفية والمالكية والشافعية، الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة، ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة من مشارق الأرض ومغاربها، ليتسلوه بالأسوة معهم في هذه المسماة، بما يسوءهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة، يثبتها الله تعالى إن شاء، ونحن نرجوا عثوره عن قريب، على ما قصدوا وقوعه على ما أرادوا، ليستدرك بتوفيق الله عز وجل ما يدر منه فيما ألقي إليه، ويأمر بعزل من زور عليه، وقيح صورة الأئمة بين يدين، وكأنه خفي عليه أدام الله تعالى عزه حال شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ورضوانه وما يرجع إليه من شرف الأصل وكبر المحل في العلم والفضل، وكثرة الأصحاب من الحنفية والمالكية والشافعية الذين رغبوا في علم الأصول، وأحبوا معرفة أوائل العقول. وفضائل الشيخ أبي الحسن الأشعري ومناقبه أكثر من أن يمكن حصرها في هذه الرسالة، لما في الإطالة من خشية الملالة.

قلت: فهذا ما اقتصرت على ذكره من رسالته المليحة البالغة في الذب والنصرة والنصيحة، وكذلك الرسالة الأخرى في ذلك، البالغة في البلاغة والملاحه والبيان والفصاحة، للإمام الأستاذ العارف بالله، السالك بحر العلوم، وعلم العلماء الأعلام شيخ الشيوخ، أدلاء الطريقة وجمال الشريعة والحقيقة، زين الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، قدس الله روحه، وبل ثراه بماء الرحمة، ونور ضريحه. ومن جملة كلامه فيها قوله: ظهر ببلد نيسابور من قضايا التقدير، في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة، ما دعا أهل الدين إلى شق طراز خيرهم، وكشف قناع سرهم، بل طلب الملة الحنيفية يشكو عليلها، ويبدي عويلها، وينصب أعرابي رحمة الله عليه على من يسمع شكواها، ويصغي ملائكة السماء حين تبدت شجواها، ذلك مما أحدث من لعن إمام اللين، وسراح في اليقين، ومحي السنة وقامع البدعة، وناصر الحق وناصح الخلق، الزكي الرضي أبي الحسن الأشعري، قدس الله روحه، وسقي بماء الرحمة ضريحه، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج، وسلك في قمع المبتدعة وسائر أنواع المبتدعة أبين نهج، واستبذل وسعه في التصفح عن الحق، وأورث المسلمين بعد وفاته. كتبه الشاهدة بالصدق. قلت: وهذا ما اقتصرت على ما ذكره أيضاً من رسالة الأستاذ المذكور في الذب عن الشيخ أبي الحسن الإمام المشكور، ونصرة مذهبه الظاهر الزاهر بالشرف والعز المنصور الذي قلت في معالي شرفه المشهور: له منهج من نوره الكون باهج ... مضى لهدى الأشعرية مشعر له بيض رايات العلى مع أئمة ... عزيز بحمد الله ما زال ينصر عقيدة حق قد ذهب بجمالها ... عن السنة الغزاء، والحق يسفر ومن كلام الأستاذ المذكور في الذب عن الإمام شيخ السنة الناصر، ما ذكر الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر قال: دفع إلي عبد الواحد بن عبد الأحد بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي النيسابوري بدمشق مكتوباً بخط جده الإمام أبي القاسم القشيري، وأنا أعرف الخط، فوجدت فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمة أصحاب الحديث، مذهبه ومذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات وعلى طريقة أهل السنة، ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة سيفاً مسلولاً، ومن طعن فيه أو قدح فيه أو لعنه أو سبه، فقد

إحدى وثلاثين وثلاث مائة

بسط لسان السوء في جميع أهل السنة، بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الكتاب، من ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة. والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر كتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري، وفيه: خط أبي عبد الله الخبازي المقرىء. كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي، وهذا خطه، وبخط الإمام أبي محمد الجويني. الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف وبخط أبي الفتح الشاشي، الأمر على الجملة التي ذكرت، وكتبه بضرب محمد بن الشاشي. قلت: وذكر جماعة من الأئمة، قريباً من عشرين، منهم أبو الفتح الهروي، وأبو عثمان الصابوني، والشريف البكري، ومنهم: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وهذا لفظه فيما نقله الإمام الحافظ ابن عساكر، الجواب: وبالله التوفيق، إن الأشعرية هم أعيان أهل السنة، وأنصار الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضية وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن عن أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتاع به كل أحد. وكتب إبراهيم بن علي الفيروزابادي، وكذلك الإمام قاضي القضاة الدامغاني، والإمام أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي، وغيرهم، وقال الإمام أبو القاسم المذكور، بعد أن ذكر خطوط الجميع: هذه الخطوط على من ذلك الدرج. ونقلها غيري من الفقهاء. قلت: فهذا ما أردت الإقتصار عليه في ترجمته، وهو قليل بالنسبة إلى جلالته، وإنما أرخيت العنان في ذلك إرخاء، لكوني رأيت بعض المؤرخين قد أعرض عن التعرض لذكره، وبعضهم ذكره بأوصاف يسيرة لا تليق بقدره، معرضاً عن ذكر فضائله ومرتبته العلية، لكونه رضي الله تعالى عنه منائياً بمذهبه الجامع بين المعقول والمنقول والحشوية، الواقفين مع ظواهر المنقول. وإن كان مستحيلاً في العقول، ومجانباً لعكسه أعيني مذاهب المبتدعة القائلين بالمعقول دون المنقول متوسطاً بين الطرفين المذمومين، سالكاً للنهج الأوسط المحمود، ومنبعه في كل صدور وورود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومن فضله الكريم في دار النعيم جازاه. إحدى وثلاثين وثلاث مائة فيها قلل ناصر الدولة ابن حمدان رواتب المتقي، وأخذ صناعته، وصادر العمال، وكرهه الناس، وزوج بنته بابن المتقي على مائتي ألف دينار، وهاجت الأمراء " بواسط

اثنتين وثلاثين وثلاث مائة

" على سيف الدولة، فهرب، وسار آخوه ناصر الدولة إلى الموصل، فنهبت داره، وبرح خلق كثير من بغداد من تتابع الفن والخوف إلى الشام ومصر. وفيها توفي أبو علي، حسن بن سعد بن إدريس الحافظ القرطبي، وكان فقيهاً صالحاً. وفيها توفي الشيخ العارف محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي، وكان من العابدين، وله نزهة حسنة، ومعه مفتاح منقوش، يصلي ويضعه بين يديه، كأنه تاجر، وليس له بيت، بل ينطرح في المسجد، ويطوي أياماً. وفيها توفي الشيخ الجليل أبو محمود، عبد الله بن محمد بن منازل النيسابوري المجرد على الصدق والتحقيق. صحب حمدون القصار، وحدث بالمسند الصحيح أحمد بن سلمة النيسابوري، وكان له كلام رفيع في الإخلاص والمعرفة. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو الحسن، علي بن محمد بن سهل الدينوري. كان صاحب أحوال ومواعظ، ومن كلامه: من أيقن أنه لغيره، فماله أن يبخل بنفسه. وفيها توفي الحافظ أبو عبيد الله بن محمد بن مخلد العطار الدوري، له تصانيف. اثنتين وثلاثين وثلاث مائة فيها كاتب المتقي بني حمدان، ليحكم توزون " بالمثناة من فوق وبين الواوين زاي " على بغداد. فقدم الحسين بن سعيد بن حمدان في جيش كثيف، فخرج المتقي والهاً ووزيره وساروا إلى " تكريت " ظنا أن سيف الدولة يراقب قدوم سيف الدولة على المتقي. وأشار بأن يصعد إلى الموصل. فتألم المتقي وقال: ما على هذا عاهدتموني. فتقلل أصحابه، وبقي في طائفة، وجاء توزون فاستعد للحرب ببغداد، فجمع ناصر الدولة جيشاً من الأعراب والأكراد، وسار إلى تكريت، ثم وقع القتال أياماً، فانهزم الخليفة والحمدانية إلى الموصل، ثم عملوا مصافاً أخرى، فانهزم سيف الدولة، فتبعه توزون، فانهزم بنو حمدان والمتقي إلى نصيبين، واستولى توزون على الموصل، وأخذ من أهلها مائة ألف دينار مصادرة، فراسل الخليفة توزون في الصلح وإعتذر بأنه ما خرج من بغداد إلا لما قيل

ثلاث وثلاثين وثلاث مائة

أنك اتفقت، أنت والبريدي علي، والان قد آثرت رضاي، فصالح ابني حمدان، وأنا أرجع إلى داري. فأجاب إلى الصلح، ولم يحج الركب لموت القرمطي الطاغية أبي طاهر " بهجر " من جدري أهلكه، وأراح الله تعالى منه العباد والبلاد. وقام بعده أبو القاسم القرمطي. وفيها توفي الحافظ أبو العباس، أحمد بن محمد الكوفي الشيعي، أحد أركان الحديث. وكان آية من آيات الله تعالى في الحفظ، حتى قال الدارقطني: أجمع أهل بغداد أنه لم يرد بالكوفة من زمن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه. قال: وقد سمعته يقول: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم. وروي عن ابن عقدة أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث بأسنادها، وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث. وقال أبو سعيد الماليني: تحول ابن عقدة مرة، وكانت كتبه ستمائة جمل، وقال بعض المحدثين: قد ضعفوه واتهمه بعضهم بالكذب، وقال بعضهم: كان يملي علي مثالب أصحابه فتركته. وفيها توفي الإمام أبو العباس، أحمد بن محمد بن الوليد التيمي المصري، صنف " كتاب الانتصار " لسيبويه على المبرد. وكان شيخ الديار المصرية في العربية، مع أبي جعفر النحاس. ثلاث وثلاثين وثلاث مائة فيها حلف توزون أيماناً صعبة للمتقي، فسار من " الرقة " واثقاً بأيمانه، فلما قرب من الأنبار جاء توزون، وتلقاه، وقبل الأرض، وأنزله في مخيم ضرب له. ثم قبض على الوزير أبي الحسن بن علي بن مقلة، وكحل المتقي، فصاح المسلمون، فصرخ النساء، فأمر توزون بضرب الرباب حول المخيم، وأدخل بغداد مسمولاً مخلوعاً، وبويع عبد الله بن المكتفي، ولقب بالمستكفي بالله، فلم يحل الحول على توزون. وفيها تملك سيف الدولة بن حمدان " حلب " وأعمالها، وهرب متوليها إلى مصر، فجهز الإخشيذ " بكسر الهمزة وبالخاء والشين والذال المعجمات والياء المثناة من

أربع وثلاثين وثلاث مائة

تحت بعد الشين " ومعناه في لسان الترك ملك الملوك جيشاً، فالتقاهم سيف الدولة فهزمهم وأسر منهم ألف نفس، ثم سار إلى دمشق فملكها، وسار الإخشيذ ونزل على " طبرية " فخامر خلق من عسكر سيف الدولة إلى الإخشيذ، فانكسر سيف الدولة وجمعه فقصده الإخشيذ، فالتقاه، فانهزم سيف الدولة، ودخل الاخشيذ حلب. وأصاب بغداد قحط لم ير مثله، وهرب الخلق، وكان النساء يخرجن عشرين عشرين، وعشرة عشرة، تمسك بعضهم ببعض، بصحن الجوع الجوع، ثم تسقط الواحدة بعد الواحدة ميته. وفيها توفي أبو علي اللؤلؤي، محمد بن أحمد البصري، راوي السنن عن أبي داود أربع وثلاثين وثلاث مائة فيها دثرت بغداد، وتداعت إلى الحراب من شدة القحط والفتن والجور. وفيها اصطلح سيف الدولة والإخشيذ، وصاهره، وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وأنطاكية، وقصد معز الدولة بغداد، فاختفى الخليفة، وتسللت الأتراك إلى الموصل، وأقامت الديلم ببغداد، ونزل معز الدولة بباب الشماسية، وقدم له الخليفة التقاديم والتحف، ثم دخل إلى خدمة الخليفة وبايعه، فلقبه يومئذ معز الدولة، ولقب أخويه: علياً: عماد الدولة، والحسن: ركن الدولة، وضربت لهم السكة، واستوثقت المملكة لمعز الدولة، فلما تمكن كحل المستكفي بالله، وخلعه من الخلافة، لكون " علم القهرمانة " كانت تأمر وتنهي، فعملت دعوه عظيمة، حضرها خرشيد مقدم الديلم وعدة أمراء، فخاف معز الدولة من غائلتها، ولأن بعض الشيعة كان يثير الفتن، فآذاه الخليفة وكان معز الدولة متشيعاً فلما كان في جمادى الآخرة، ودخل الأمراء إلى الخليفة، ودخل معز الدولة فتقدم اثنان وطلبا من المستكفي رزقهما، فمد لهما يده ليقبلاها، فجذباه إلى الأرض وسحباه، فوقعت الصيحة، فنهبت دور الخلافة، وقبضوا على " علم " وخواص الخليفة وساقوا الخليفة ماشياً. وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر، وصار ثلاثة خلفاء مكحولين: هو والذي قبله، والقاهر. ثم أحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر، فبايعه، ولقبه المطيع لله، وقرر له معز الدولة كل يوم مائة دينار للنفقة، وانحطت رتبة الخلافة إلى هذه المنزلة. قلت: ما صار للخليفة من الخزائن، وما يدخل من جميع الدنيا؟ إجراء هذه القدر للنفقه، مع شدة الغلاء. فإنهم في هذه السنة في شعبان منها، كانوا ببغداد يأكلون الميتات والآدميين، ومات الناس على الطرق، وبيع العقار بالرغيفين

واشتروا للمطيع كر دقيق بعشرة آلاف درهم. قلت: والكر على ما قيل ستة وآلاف رطل بغدادي، فعلى هذا يكون قيمة كل رطل درهمين إلا ثلث درهم وهذا الغلاء وإن كان شديداً فقد وقع بمكة ما هو أشد منه، بلغ من الرطل الدقيق نحو درهمين في سنة ست وسبعمائة. بلغ في الزمن القديم على ما أخبرني من أثق به من شيوخ المجاورين فوق أربعة دراهم، وقع ذلك في زمانه. وبلغ في تهامة اليمن نحو هذا المبلغ، قبيل التاريخ المذكور، وقبل التاريخ المذكور، إنشاء تاريخي هذا بسنة. وفيها توفي الإخشيذ محمد بن طفج، ملك مصر والشام ودمشق والحجاز وغيرها، التركي الفرغانجي، صاحب سرير الذهب، وأصله من أولاد ملوك فرغانة، ولاه المقتدر دمشق، فسار إليها،. ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله مصر في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة، ثم ضم إليه الراضي بالله الجزيرة والحرمين وغير ذلك من البلاد المذكورة، ثم ضم إليه المتقي لله والحجاز وغير ذلك، مع ما تقدم. والإخشيذ لقب لقبه به الراضي، وهو لقب ملوك فرغانة، وتفسيره " ملك الملوك " كما تقدم. وكل من ملك ملك للناحية لقبوه بهذا اللقب، كما لقبوا كل من ملك بلاد فارس " كسرى "، وملك الترك " خاقان "، وملك الروم " هرقل "، وملك الشام " قيصر "، وملك اليمن " تبع "، وملك مصر " فرعون "، وملك الحبشة " النجاشي " وغير ذلك. وقيصر: كلمة فرنجية تفسيرها بالعربية: شق عنه. وسببه أن أمه ماتت عنه من المخاض، وشق بطنها، وأخرج، فسمي قيصر. وكان يفتخر على غيره من الملوك بذلك، ودعي لإخشيذ على المنابر بهذا اللقب، واشتهر به، وصار كالعلم عليه. وكان. ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه، ومصالح دولته، وحسن التدبير، مكراراً للجند، شديد القوى. وذكر بعضهم أن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وله ثمانية آلاف مملوك، ويحرسه في كل ليلة ألفان منهم،، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لم يثق ذلك حتى يمضي إلى خيم الفراشين ينام فيها، ولم يزل على مملكته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة، لثمان بقين من ذي الحجة في السنة المذكورة بدمشق. وحمل تابوته إلى بيت المقدس ودفن فيه. وكانت ولادته يوم الاثنين منتصف رجب من سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وهو أستاذ كافور الأخشيذي المشهور، فاتك المجنون، ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام، وهما: أبو القاسم وأبو الحسن. وستأتي ولاية

كافور، وما يتعلق به. وأقام الجند بعد كافور أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيذي، وجعل خليفته في تدبير أموره الحسن بن عبد الله، وهو ابن عم أبيه وفيه يقول المتنبي: إذا صلت لم أترك مصالاً لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم وإلا فخانتني القوافي عافني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم وفي قصيدة طويلة يقول فيها: أرى دون ما بين الفرات وبرقة ... سراباً لمشي الخيل فوق الجماجم وطعن عصاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل العواصم وهم يحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم وهم يحسنون العفو عن كل مذنب ... ويحتملون الغرم عن كل غارم حبيسون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياء من شفاء الصوارم ولولا احتقار الأشد شبهتها بهم ... ولكنهم معدودة في البهائم وكان امتداده له في ولايته الرملة، وانقراض دولة الإخشيذ في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. ودخل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر وسيأتي ذكره. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن عبد الله الخرقي. وفيها توفي الوزير العدل علي بن عيسى بن داود بن الجراح البغدادي الكاتب، وزر مرات للمقتدر، ثم للقاهر. وكان محدثاً عالماً ديناً خيراً، عالي الأسناد، روى عن أحمد بن بديل، والحسن الزعفراني وطائفة، قيل: وكان في الوزراء كعمر بن عبد العزيز في الخلفاء. قال القاضي أحمد بن كامل: سمعت الوزير علي بن عيسى يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار، أخرجت منها في وجوه البر ستمائة ألف دينار وثمانين ألف دينار. وآخر من روى عنه ابنه عيسى في أماليه. قلت: ومما يدل على فضله وما خصته به العناية قضيتان ذكرتهما في كتابي روض الرياحين: إحداهما: أن بعض المضطرين من أهل الخير المشغولين، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم في وقت ضرورة وهو يقول له: إذا أصبحت اذهب إلى الوزير علي بن عيسى، وقل له: بإمارة ما صلى علي عند قبري كذا وكذا من مرة يدفع إليك كذا وكذا. وعين شيئاً كثيراً من الصلاة عليه ومن المال. فلما أصبح ذهب إلى الوزير المذكور ومعه المقرىء بن مجاهد المشهور فقال الوزير لابن مجاهد: ما حاجتك يا أبا بكر؟ فقال: يدني

الوزير هذا الشيخ ويسمع كلامه، فسأل ذلك الشيخ عن قصته، فأعلمه بضرورته، وما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رفعت عينا علي بن عيسى، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقت أيها الشيخ، هذا شيء لم يكن أطلع عليه إلا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم استدعى بالكيس، فعدله ألفاً، ثم عدد ألفاً آخر وقال: هذا شكر ما ذكرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأشك في ألف ثالث دفعه إليه بشارة. وأما القضية الثانية: فما ذكروا أنه ركب علي بن عيسى الوزير يوماً في موكبه، فصار الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟. فقالت امرأة: إلى كم تقولون من هذا، من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله، فابتلاه بما ترون. فسمعها علي بن عيسى، فرجع إلى منزله، واستعفى من الوزارة، وذهب إلى مكة فجاور بها. وفي السنة المذكورة توفي الإخشيذ التركي الفرغاني ملك مصر والشام ودمشق وغيرها. وفيها توفي القائم بأمر الله، أبو القاسم نذار بن المهدي عبيد الله الداعي الباطني. صاحب المغرب، وقد سار مرتين إلى مصر ليملكها، فما قدر له دخول الإسكندرية في المرتين معاً وتملكها. وفي الثانية: جاء بعسكر عظيم، وبلغ " الجيزة " فوردت الأخبار بذلك إلى بغداد، فجهز المقتدر مؤنساً الخادم إلى محاربته بالرجال والأموال، فجد في السير، فلما وصل إلى مصر التقيا، وجرت بين العسكرين حروب لا توصف، ووقع في عسكر القائم الوباء والغلاء والأهوال، فمات الناس والخيل، فرجع إلى إفريقية ومعه عسكر مصر. وكان وصوله إلى " المهدية " في رجب سنة سبع وثلاثمائة، وفي أيامه خرج أبو يزيد مخلد بن كندار الخارجي، وجرت له أمور يطول شرحها ومات في المهدية. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير صاحب المعارف السنية والأحوال القوية: أبو بكر الشبلي دلف بن جحدر، اشتغل في أول أمره بالفقه، وبرع في مذهب مالك، ثم سلك وصحب الجنيد وغيره من مشايخ عصره، وكان نسيج وحده حالاً وطرفاً وعلماً، وقيل: تاب في ابتداء أمره في مجلس خير النساح. ومجاهداته في أول أمره فوق الحد،

خمس وثلاثين وثلاث مائة

ويقال أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح لعتاد السهر، وكان يبالغ في تعليم الشرع، وإذا دخل رمضان جد في الطاعات ويقول: هذا شهر عظمه ربي عز وجل، فأنا أولى بتعظيمه. ودخل يوماً على شيخه الجنيد، فوقف بين يديه، وصفق بيديه وأنشد: عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالضد والضد أصعب زعموا حين عاتبوا أن ذنبي ... قر طبعي لهم وما ذاك أذنب ألا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزاء من يحب إلا يجب فقال الجنيد: نعم يا أبا بكر. وكانت امرأة الجنيد عنده حاضرة، فأرادت أن تشتري منه، فقال لها الجنيد: لا عليك، وهو غائب لا يراك. ثم بكى بعد إنشاده فقال الجنيد: اشتري منه الآن فقد حضر. وقال بعضهم: دخلت على الشبلي يوماً في داره، وهو يصيح ويقول: على بعدك لا يصبر من عادته القرب، ولا يقوى على هجرك من يتمه الحب، فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب. وقال الشبلي: رأيت معتوهاً عند جامع الرصافة يقول: أنا مجنون، أنا مجنون، فقلت له: لم لا تصلي. فأنشأ يقول: يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني إذا هم رأوا حالي فلم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني وقال بعضهم: دخلت على الشبلي، فرأيته ينتف شعر حاجبه بالملقاط، فقلت له: سيدي، إنك تفعل هذا، وألمه يعود إلي، فقال: ظهرت لي الحقيقة فلم أستطع حملها، فإذا دخل على نفسي الألم لكي يستتر عني، فلا وجدت الألم، ولا هي استترت عني، ولا أنا أطيق حملها. وكان أبوه من حجاب الدولة، وله مقالات وحكايات وعجيبات، ذكرت شيئاً منها في غير هذا الكتاب. وقد سأله بعض الفقهاء عن مسألة في الحيض امتحاناً فأجابه، وذكر فيها ثمانية عشر قولاً للعلماء، وكان قد أراد تخجيله وإظهار جهله في مجلسه بين الخلق، لكون خلقتهم بطلت باجتماع الناس على الشبلي، ولم يكن عند ذلك الفقيه من الأقوال المذكورة سوى ثلاثة. خمس وثلاثين وثلاث مائة فيها تملك سيف الدولة دمشق بعد موت الإخشيذ، فحاربه به جيوش مصر، فدفعته

إلى " الرقة " بعد حروب وأمور واصطلح معز الدولة بن بويه، وناصر الدولة بن حمدان. وفيها توفي الفقيه الإمام أبو العباس ابن القاص الطبري الشافعي، وله مصنفات مشهورة، تفقه على الإمام أبي العباس بن سريج. وفيها توفي العلامة الأخباري الأديب، صاحب التصانيف محمد بن يحيى البغدادي الصولي الشطرنجي، قال ابن خلكان: كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني، وأبي العباس ثعلب والمبرد وغيرهم. وروى عنه الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطني، والإمام أبو عبد الله المرزباني وغيرهما ونادم المكتفي ثم المقتدر ثم الراضي، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة، وكان حسن الإعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته، والناس الأن يضربون به المثل، فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه: فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي. قال ابن خلكان: ورأيت خلقاً كثيراً يعتقدون أن الصولي هو الذي وضع الشطرنج وهو غلط، فإن الذي وضعه " صصه " بالصاد المهملة المكررة بكسر الأولى منها وفتح الثانية وتشديدها وسكون الهاء في آخره ابن داهر الهندي، وضعه للملك " شيرام " بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والراء المكررة بعد الياء والميم، وكان " أزدشير " يفتح الهمزة والدال وسكون الراء بينهما وكسر الشين المعجمة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء، ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة، قد وضع " النرد "، ولذلك قيل له " النردير " نسبة إلى واضعه المذكور، وجعله مثلا للدنيا وأهلها، فرتب الرقعة اثني عشر بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، وجعل الفصوص مثل القدر، ويقبله أهل الدنيا فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده، فافتخرت الفرس بوضع النرد على ملك الهند، وكان ملك الهند يومئذ بلهيت " بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الهاء وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة من فوق على ما ضبطه بعض الناسخين " والله أعلم بصحة ذلك. قلت: واسم الملك المذكور مخالف لما تقدم، من أن اسم الملك الذي وضع له شيرام، ويحتمل أن يكون أحد اللفظين إسماً له، والآخر لقباً. فلما وضع الشطرنج المذكور

قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد، ويقال أن " صصه " لما وضعه وعرضه على الملك المذكور أعجبه، وفرح به كثيراً، وأمر أن يكون في بيت الديانات، ورآها أفضل ما عمل، لأنها آلة الحرب، وعز الدين والدنيا، وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه بها. وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال: اقترحت أن تضع حبة بر في البيت الأول، ولا تزال تضعفها في كل بيت حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني. فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالبر واليسير التافه الحقير، وكان قد أضمر له شيئاً كثيراً فقال: ما أريد إلآ هذا، وأصر على ذلك، فأجابه إلى مطلوبه، وتقدم له به، فلما قيل لأرباب الديوان أحسبوه قالوا: ما عندنا حب يفي بهذا، ولا بما يقاربه. فلما قيل للملك ذلك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان، وسألهم فقالوا: لو جمع كل حب من البر في الدنيا، ما بلغ هذا القدر، فتعجب من مقالهم، وطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، وظهر لي صدق قولهم، فقال الملك: لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالاً من وضعك الشطرنج. قال ابن خلكان: وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة، وفي الثاني حبتين، وفي الثالث أربع حبات، وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، فكلما انتقل إلى بيت أضعف ما قبله، وأثبته فيه. قال: ولقد كان في نفسي شيء من هذه المبالغه حتى اجتمع لي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقاً يتبين صحة ما ذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر، وأثبت فيه وثلاثين ألفاً وسبع مائة وثماني وستين حبة، وقال: يجعل هذه الجملة مقدار قدح، قال: فغيرناها، فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في أبي السابع عشر، وهكذا حتى بلغ بيته في البيت العشرين، ثم انتقل إلى الوبيات ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهت في الأربعين إلى مائة ألف أردب، وأربعة وسبعين ألف أردب وسبع مائة واثنتين وستين أردباً وثلاثين أردباً. وقال: يجعل هذه الجملة في شونة، فقال: يجعل هذه مدينة، فإن المدينة لا يكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون؟. ثم ضاعف المدن حتى انتهت إلى بيت الرابع والستين، وهو آخر أبياته، دفعه الشطرنج إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: نعلم أن ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض، حتى، انتهينا بطرف الآخبر إلى ذلك الموضع

الأرض، والتقى طرف الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف. قال: وذلك قطعي لا شك فيه. وقد أراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، وكان معروفاً بعلوم الأوائل وتحقيقها ورأى فيها أن دور كرة الأرض عشرون ألف ميل. فسأل بني موسى بن شاكر - وكانوا قد اجتهدوا في معرفة علم الهندسة وغيرها من علم الأوائل - فقالوا: نعم، هذا قطعي، فقال: أريد منكم أن تعلموا الطريق الذي ذكره المتقدمون، حتى يبصر هل ينجز ذلك أم لا. فسألوا عن الأراضي المتساوي البلاد فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء، وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى صحراء سنجار، فوقفوا في موضع منها، وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف. إلى يمين أو شمال، بحسب الإمكان، فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر، وربطوا فيه حبلاً آخر، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول، ولم يزل دأبهم ذلك، كلما فرغ الحبل ضربوا وتداً، وربطوا فيه طرف ذلك الحبل الذي فرغ، وطرف حبل آخر، ومشوا إلى جهة الشمال حتى انتهوا إلى موضع، أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوا قد زاد عن الارتفاع الأول درجة. فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل. ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلاثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، كل برج ثلاثون درجة، فضربوا عدد درج الفلك الثلاث مائة والستين، في ستة وستين ميلاً وثلثين التي هي حصة كل درجة، فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه، فلما عاد بنو موسى إلى المأمون، وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر أيضاً، فصيرهم إلى أرض الكوفة، ففعلوا فيها كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك. انتهى كلام ابن خلكان في ذكر مساحة دور كرة الأرض. قلت: فعلى هذا يكون دور كرة الأرض مسيرة ألف مرحلة، وذلك مسيرة ثلاث سنين إلا ثمانين يوماً في مسير النهار دون الليل، أو الليل دون النهار، لأن المرحلة ثماني فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما هو معلوم في حساب مسافة القصر الشرعية. ولكن هذا ينافي ما قد اشتهر أن الأرض مسيرة خمسمائة سنة، مع أن طول الشيء أقل من دوره، وتعلم من

ذلك أيضاً أن في كل ثلاث مراحل إلا خمسة أميال وثلث في السير إلى جهة الشمال يرتفع القطب درجة، ويكون عرض البلد الذي انتهى إليها زائداً بدرجة على عرض التي ابتدأ بالسير منها، بالثلاث المراحل المذكورة، إذ كانت المرحلة أربعاً وعشرين ميلاً، كما قدروها في مسافة القصر. ومما يدلك على صحة هذا، أن عرض " المدينة المشرفة " تزيد على عرض مكة المعظمة بثلاث درج، والله أعلم. وهذا لعمري يخالف ما قيل في أثر، وورد في الخبر أن الأرض مسيرة خمسمائة عام، والله سبحانه العلام. رجعنا إلى كلام ابن خلكان وقال: يعلم ما في الأرض من المعمور، وهو قدر ربع الكرة بطريق التقريب، وقد انتشر الكلام، وخرجنا عن المقصود، ولكنه ما خلا عن فائدة أحببت إثباتها، ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف الخبر المذكور في رقعة الشطرنج، يعني أنه يبلغ قدره إلى ما ذكر، وإن كان ذلك مما يستنكر. ثم قال: ولنرجع إلى حديث الصولي: حكى المسعودي في كتاب مروج الذهب قال: وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي لعب مع الماوردي بالشطرنج، وكان الماوردي متقدماً عند المكتفي، متمكناً من قبل، معجباً به للعب، فلما لعبا جميعاً بحضرة المكتفي حمد المكتفي حسن رأيه في الماوردي، وتقدم الحرمة والألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه، حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما، وجمع له الصولي هذه وقصده بكليته، غلبه غلبة لا يكاد يرد عليه شيئاً، وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي، فعدل عن هواه ونصرته للماوردي، وقال له عاد ماء وردك بولاً. قال ابن خلكان: وأخبار الصولي، وما جرى له أكثر من أن تحصى، ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم، وخلاعته وظرافته، ما خلا من منتقص هجاه هجواً لطيفاً، وهو أبو سعيد العقيلي بضم العين المهملة وفتح القات فإنه رأي له بيتاً مملوءاً كتباً، قد صنفها، وجلودها مختلفة الألوان، وكان يقول: هذه كلها سماعي وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال: يا غلام هات الكتاب الفلاني، فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات: إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانة إن سألناه بعلم ... طلب منه إبانة

ست وثلاثين وثلاث مائة

قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانة توفي رحمه الله سنة خمس، وقيل سنة ست وثلاثين وثلاثمائة بالبصرة مستتراً، لأنه روى خبراً في حق علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فطلبه الخاصة والعامة ليقتلوه، فلم يقدروا عليه. وكان قد خرج من بعد مضايقة لحقته. وفي السنة المذكور توفي الحافظ أبو سعيد الشاشي، صاحب المسند، محدث ما وراء النهر. ست وثلاثين وثلاث مائة فيها توفي الحافظ أبو الحسين بن المنادي. صنف وجمع وسمع من جده وخلق كثير. وفيها توفي أبو طاهر المحمدأبادي، ومحمد بن الحسن النيسابوري، أحد أئمة اللسان، كان إمام الأئمة. ابن خزيمة إذا شك في لغة سأله عنها. وفيها توفي أبو العباس الأثرم محمد بن أحمد المقرىء البغدادي. سبع وثلاثين وثلاث مائة فيها كان الفرق ببغداد، فبلغت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وهلك خلق كثير تحت الهدم. وفيها قوي معز الدولة على صاحب الموصل ابن حمدان، وقصده، فقر ابن حمدان إلى نصيبين ثم صالحه على ثمانية آلاف ألف في السنة وفيها: خرجت الروم وهرب سيف الدولة عن مرعش وملكوها. وهي بالعين والشين المعجمتين، كذا ضبطها بعضهم. وفيها توفي الشيخ العارف بالله أبو إسحاق شيبان القرميسيني، صحب أبا عبد الله المغربي والخواص وغيرهما. ومن كلامه قوله: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية، وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو المغاليط والزندقة. ثمان وثلاثين وثلاث مائة فيها تعذر خروج ركب العراق للحج، وفيها توفي المستكفي بالله عبد الله ابن

المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله، أحمد. وفيها توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه الديلمي بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت والهاء. كان أبوه صياداً، ليست معيشته إلا من صيد السمك وكانوا ثلاثة إخوة: عماد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، والجميع ملكوا، وكان عماد الدولة وهو أكبرهم سبب سعادتهم وانتشار صيتهم، واستولى على البلاد وملوك العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة، ثم لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة، اتسعت مملكته، وزادت على ما كانت لأسلافه. وذكر هارون بن العباس المأموني في تاريخه: أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة، كانت سبباً لثبات مملكته، منها أنه اجتمع أصحابه في أول ملكه، وطالبوه بالأموال، ولم يكن معه ما يرضيهم، وأشرف على الانحلال، فاغتم لذلك. فبينا هو يفكر قد استلقى على ظهره في مجلسه، إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف من ذلك المجلس، ودخلت في موضع آخر منه، فخاف أن يسقط عليه، فدعا الفراشين، وأمرهم بإحضار سلم وأن تخرج الحية، فلما صعدوا وبحثوا عن الحية، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه ذلك، فأمرهم بفتحها، ففتحت، فوجد فيها عدة صناديق من المال والصياغات، قدر خمسمائة ألف دينار، فحمل المال إلى بين يديه، فسر به فأنفقه في رجاله، وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام، ثم إنه قطع ثياباً، وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد فأمر بإحضاره وكان أطروشاً فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحب البلد، وأنه طلبه لهذا السبب، فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثني عشر صندوقاً لا يدري ما فيها، فعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من حملها، فوجدوا فيها أموالاً وثياباً بجملة عظيمة، وكانت هذه من الأسباب الدالة على قوة سعادته، ثم تمكنت حاله، واستقرت فيها قواعده. وفيها توفي أبو جعفر النحاس أحمد بن محمد النحوي المصري. ناظر ابن الأعرابي ونفطويه، وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: " تفسير القرآن الكريم "، و " كتاب إعراب القرآن " و " كتاب الناسخ والمنسوخ "، و " التفاحة " في، النحو و " كتاب في الاشتقاق "، و " تفسير أبيات سيبويه "، ولم يسبق إلى مثله، وفسر عشرة دواوين وأملاها، و " كتاب في شرح المعلقات السبع "، و " كتاب طبقات الشعراء " وغير ذلك، وهي بضعة عشر مصنفاً، مما يتعلق بالنحو والأدب، ونحو ذلك مما يرجع إلى العربية.

تسع وثلاثين وثلاث مائة

وفيها توفي الإمام الحافظ علي بن حمشاذ بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف وفي أوله حاء مهملة مكسورة وميم مكسورة مشددة النيسابوري. رحل وطوف وصنف، وله سند كبير وتفسير. توفي فجأة في الحمام. قال أحمد بن إسحاق الضبعي: صحبت علي بن حمشاذ في الحضر والسفر، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن عبد الله بن دينار النيسابوري. قال الحاكم: كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويصبر على الفقر، ما رأيت في مشايخنا لأصحاب الرأي أعبد منه. وفيها توفي الحسن أخو الوزير علي بن مقلة. تسع وثلاثين وثلاث مائة فيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم في ثلاثين ألفاً، فافتتح حصوناً، وسبى وغنم. فأخذت الروم عليه الدروب، واستولوا على عسكره قتلاً وأسراً، ونجا هو في عدد قليل، وتوصل من سلم بأسوأ حال. وفيها أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وكان بعض الأمراء قد دفع فيه لهم خمسين ألف دينار فأبوا. وفيها توفي الحافظ أبو محمد، أحمد بن محمد الطوسي. قال الحاكم: كان أوحد عصره في الحفظ والوعظ، وأخرج صحيحاً على وضع مسلم. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني. صنف في الزهد وغيره، وصحب العباد، وكان من أكبر الحفاظ حديثاً، قال الحاكم: هو محدث عصره، مجاب الدعوة، لم يرفع رأسه إلى السماء فيما بلغنا نيفاً وأربعين سنة. وفيها توفي القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد العباسي. وفيها توفي أبو نصر، محمد بن محمد التركي الفارابي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم. قيل: هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه. خرج أبو نصر المذكور من بلده، ولم يزل تنتقل به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي،

فتعلمه، وأتقنه غاية الاتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة، ولما دخل بغداد كان فيها أبو بشر قسطا بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير يعلم الناس فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم، وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم خلق كثير وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس ليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه وفي شرحه سبعون سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه. وكان في تآليفه حسن العبارة، لطيف الإشارة. وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر، يعني: شيخه المذكور. وكان أبو نصر يحضر مجلسه من جملة تلامذته، فأقام بذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران. وفيها توفي ابن خيلان بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحت الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم قفل راجعاً إلى بغداد، وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس، وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال أنه وجد. كتاب النفس لأرسطاطاليس عليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: قرأت هذا الكتاب مائتي مرة. ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطاطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته، وروي عنه أنه سئل: من أعلم بهذا الشأن: أنت أم أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته، ذكره أبو العباس ابن خلكان حاكياً له عن أبي القاسم بن صاعد القرطبي في كتاب طبقات الحكماء. وحكي عنه أنه قال: إني في التحقيق على جميع علماء الفلاسفة الإسلاميين، وشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما تحتاج إليه منها على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التعاليم، وأوضح الغفل فيها من عواد المنطق الخمسة، وعرف طريق استعمالها، وكيف يصرف صورة القياس في كل مادة، وجاءت كتبه في الغاية الكاملة والنهاية الفاضلة. قلت: قوله الغقل هو بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، يقال أرض غقل، لا علم بها ولا أثر عمارة، ودابة غفل: لا سمة عليها، ورجل غقل: لم يجرب الأمور، ذكره الجوهري، ثم له بعد ذلك كتاب شريف، لم يسبق إليه في إحضإر العلوم والتعريف

أربعين وثلاث مائة

بأغراضها، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به. انتهى كلام ابن صاعد. قال ابن خلكان: ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز، أو قال: برع فيه، وفاق أهل زمانه. قال: ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك وكان ذلك دأبه دائماً فوقف، فقال له سيف الدولة اقعد فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه، حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، ولهم معهم لسان خاص يسارهم به، قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: أن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله في أشياء، إن لم يعرف بها فأحرقوا به. فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة وقال له: أتحسن بهذا اللسان. فقال: نعم، أحسن بأكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده. ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وصرفهم سيف الدولة، وخلا به فقال: هل لك أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصنعة شيئاً؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، وفتحها، وأخرج منها عيداناً، فركبها، ثم ضرب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها غير تركيبها، وضرب بها، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها فنام من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج. ويقال إن الآلة المسماة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب، وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان زاهداً في الدنيا، لا يحتمل بأمر مكسب، ولا مكف، ولم يزده سيف الدولة على أربعة دراهم في كل يوم لقناعته. أربعين وثلاث مائة فيها جمع سيف الدولة جيشاً عظيماً، ودخل في بلاد الروم، فغنم وسبى سبياً كثيراً وعاد سالماً. وذلت القرامطة، فأمن الوقت، وحج الركب. وفيها توفي ابن الأعرابي المحدث الصوفي القدوة أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد

البصري، نزيل مكة، روى عن إسحاق الزعفراني. وخلق كثير، وجمع وصنف، ورحل إليه. وفيها توفي الفقيه الإمام الكبير أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، إمام عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، وبرع فيه، وانتهت إليه الرئاسة بالعراق بعد ابن شريح، وصنف كتباً كثيرة وشرح مختصر المزني وأقام ببغداد زمناً طويلاً يدرس ويفتي، ونجب من أصحابه خلق كثير، وإليه ينسب درب المروزي ببغداد. ثم ارتحل إلى مصر في آخر عمره، فأدركه أجله فيها، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي. وفيها توفي العلامة شيخ الحنفية بما وراء النهر، أبو محمد عبد الله بن محمد البخاري، وكان محدثاً رأساً في الفقه، صنف التصانيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب عن الثقات، وقال أبو زرعة: هو ضعيف. وفيها توفي أبو القاسم الزجاجي، عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي، صاحب التصانيف، أخذ عن اليزيدي وابن دريد وابن الأنباري، وصحب أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، وإليه نسب، وبه عرف. وسكن دمشق، وانتفع به الناس، وانتفع بكتابه خلق لا يحصون. فقيل: إنه جاور بمكة مئة، كان إذا قرع الباب طاف أسبوعاً، ودعا بالمغفرة، وأن ينتفع بكتابه قارئه. قلت: وأخبرني بعض فضلاء المغاربة أن عندهم لكتابه مائة وعشرين شرحاً، قال ابن خلكان: وهو كتاب نافع، لولا طوله بكثرة الأمثلة. قلت: ولعمري إن كتابين قد عظم النفع بهما، مع وضوح عبارتهما، وكثرة أمثلتهما، وهما " جمل الزجاجي " المذكور، و " الكافي في الفرائض " للصروفي، من أهل اليمن رضي الله تعالى عنه، هما كتابان مباركان ما اشتغل أحد بهما إلا انتفع خصوصاً أهل اليمن بكتاب الكافي المذكور، وبالجمل في بلاد الإسلام على العموم، وما ذكر عن مصنفه من الطواف والدعاء قد ذكر عن غير واحد من المصنفين، ومنهم الإمام الشيخ شهاب الدين السهروردي في تصنيف عقيدته، وبعضهم جعل الصلاة عوضاً عن الطواف بعد كل مسألة، على ما قيل. ومنهم الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه التنبيه، والله أعلم بصحة ذلك عنهم ولعمري إن صح ذلك وهو من الهمم العالية في الاهتمام بصلاح الدين، والنفع العام للمسلمين، والتوفيق الخاص من رب العالمين. توفي الزجاجي رحمه الله في شهر رمضان، وقيل في رجب في طبرية، وقيل في

إحدى وأربعين وثلاث مائة

دمشق، في السنة المذكورة، وقيل في سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، والله أعلم. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ الإمام، محدث الأندلس، أبو محمد قاسم بن أصبغ القرطبي، صنف كتاباً على وضع سنن أبي داود، وكان إماماً في العربية. وفيها توفي أبو الحسن الكرخي شيخ الحنفية بالعراق، وانتهت إليه رئاسة المذهب، وخرج له أصحاب أئمة. وكان إماماً قانعاً متعففاً عابداً صواماً قواماً كثير القدر. إحدى وأربعين وثلاث مائة فيها ظهر رجل وامرأة من التناسخية، يزعم الرجل أن روح علي رضي الله عنه انتقلت إليه. وتزعم المرأة أن روح فاطمة رضي الله تعالى عنها انتقلت إليها. وآخر يدعي أنه جبريل، فضربهم الوزير المهلبي، فتعززوا بالانتماء إلى أهل البيت. وكان بعض الولاة إذ ذاك شيعياً، فأمر بإطلاقهم. وفيها أخذت الروم مدينة سروج. وفيها توفي طاهر المنصور، إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي الباطني، صاحب المغرب. حارب مخلداً الأباضي الذي قد قمع بني عبيد، واستولى على مماليكه، فأسره وسلخه بعد موته، وحشى جلده. وكان المنصور المذكور بطلاً شجاعاً فصيحاً مفوهاً، يرتجل الخطب. وكان سبب موته أنه أصابهم مطر، نزل فيه برد كبير، وهبت ريح شديدة، فأوهن ذلك جسمه، واشتد عليه البرد، ومات أكثر من معه، فأراد أن يدخل الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، فلم يقبل منه، ودخل الحمام فنالت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالجه، والسهر باق على حاله، فاشتد ذلك عليه، فقال لبعض الخدم: أما بالقيروان طبيب يخلصني من هذا. فقيل: هنا شاب قد نشأ، يقال له إبراهيم، فأمر بإحضاره، فحضر، فعرفه، وشكا ما به، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار، وكلفه شمها. فلما أدمن شمها نام، وخرج إبراهيم مسروراً بما فعل، وجاء إسحاق ليدخل عليه فقالوا: هو نائم، فقال: إذا كان قد صنع له شيئاً ينام به فقد مات، فدخلوا عليه، فوجدوه قد مات، فأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داوأه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرفتموه ذلك، إني كنت

اثنتين وأربعين وثلاث مائة

أعالجه، وأنظر في تقويه الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات، ثم دفن بالمهدية. اثنتين وأربعين وثلاث مائة فيها توفي العلامة أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، شيخ الشافعية بنيسابور سمع بخراسان والعراق والحجاز والجبال، فأكثر وبرع في الحديث، وأفتى نيفاً وخمسين سنة، وصنف الكتب الكبار في الفقه والحديث، قال محمد بن حمدون: صحبته عدة سنين فما ترك قيام الليل، وقال الحاكم: كان يضرب المثل بعقله ورأيه، وما رأيت في جميع مشايخنا أحسن صلاة منه، وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه. وفيها توفي الشيخ الكبير إبراهيم بن أحمد الرقي الواعظ، شيخ الصوفية أخذ عن الجماعة وجنيد. وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي القاضي الحنفي، وكان من أذكياء العالم، راوية الأشعار، عارفاً بالكلام والنحو، وله ديوان شعر، ويقال أنه حفظ ستمائة بيت في يوم وليلة. وفيها توفي الناشىء الأصغر: علي بن عبد الله بن وصيف الشاعر المشهور. " كان متكلماً بارعاً، وهو من كبار الشيعة، وله تصانيف عديدة وأشعار حميدة، منها قوله: إني ليهجرني الصديق تجنباً ... فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته أغريته ... فأري له ترك العتاب عتابا وإذا بليت بجاهل متغافل ... يدعو المحال من الأمور صوابا أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا وقوله: إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلام على الماء أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب، ألم تكن ... مودته طبعاً فصار تكلفا وكان المتنبي وهو صبي يحضر مجلسه في الكوفة، وكتب من إملائه من قصيدة له: كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب وصارمه كبيعتة لحم ... مقاصدها من الخلق الرقاب

ثلاث وأربعين وثلاث مائة

فنظم المتنبي هذا وقال: كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد وقد صغن الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد ثلاث وأربعين وثلاث مائة فيها توفي شيخ الكوفة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الشيباني. قال ابن حماد الحافظ: كان شيخ المصر، والمنظور إليه، ومختار السلطان والقضاة، صاحب جماعة وفقه وتلاوة. أربع وأربعين وثلاث مائة فيها توفي العلامة أبو الفضل القشيري البصري المالكي، صاحب التصانيف في الأصول والفروع. وفيها توفي الإمام العلامة أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الحسنة المفيدة، ولد يوم وفاة المزني، وسمع من النسائي، وكان صاحب وجه في المذهب، متبحراً في الفقه، متفنناً في العلوم، معظماً في النفوس، وعاش ثمانين سنة، وكان يصوم صوم داود، ويختم في اليوم والليلة، وكان حداداً، صنف كتاب الفروع في المذهب، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، تصدى جماعة من الأئمة الكبار لشرحه، كالقفال المروزي، والقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي علي السجزي، قيل وشرحه أحسن الشروح. أخذ ابن الحداد الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وكان فقيهاً محققاً غواصاً على المعاني، تولى القضاء بمصر، والتدريس والفتاوى، وكانت الرعايا تعظمه وتكرمه. وكان يقال في زمنه: عجائب الدنيا ثلاثة: غضب الجلاد، ولطافة ابن السماد، والرد على ابن الحداد. وفيها توفي أبو النضر محمد بن محمد الطوسي الشافعي مفتي خراسان. كان أحد من اعتنى بالحديث، ورحل فيه، وصنف كتاباً على وضع مسلم، وكان قد جزأ الليل: ثلثاً للتصنيف، وثلثاً للتلاوة، وثلثاً للنوم. قال الحاكم: كان إماماً بارع الأدب، ما رأيت أحسن صلاة منه، كان يصوم النهار، ويقول بالليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويتصدق بما فضل عن قوته.

خمس وأربعين وثلاث مائة

وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، محدث نيسابور، صنف المسند الكبير، وصنف على الصحيحين. ومع براعته في الحديث والعلل والرجال، لم يرحل من نيسابور. وفيها توفي الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري النيسابوري. خمس وأربعين وثلاث مائة فيها غلبت الروم على طرسوس، وقتلوا وسبوا وأحرقوا قراها. وفيها توفي الفقيه الإمام شيخ الشافعية في عصره، أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي. أخذ عن أبي العباس بن سريج، وأبي إسحاق المروزي. وشرح مختصر المزني، وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري، وله مسائل في الفروع، ووجه في المذهب، درس ببغداد، وتخرج عليه خلق كثير، وانتهت إليه إمامة العراقين، وكان معظمتاً عند السلاطين والرعايا، إلى أن توفي في رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي الحافظ العلامة أبو الحسن القزويني القطان. سرد الصوم ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، ورحل إلى العراق واليمن، وروى عن أبي حاتم الرازي وطبقته. وفيها توفي الإمام اللغوي الزاهد صاحب ثعلب، أبو عمرو محمد بن عبد الواحد البغدادي المعروف بالمطرز. قيل: أنه أملى ثلاثين ألف ورقة في اللغة من حفظه، وكان آية في الحفظ والذكاء. استدرك على كتاب الفصيح كتاب شيخه ثعلب جزءاً لطيفاً سماه " فايت الفصيح "، وشرحه أيضاً في جزء آخر، وله " كتاب اليواقيت "، و " كتاب النوادر " و " كتاب التفاحة "، و " كتاب فايت العين "، و " كتاب فايت الجمهرة "، و " كتاب تفسير أسماء الشعراء "، و " كتاب القبائل "، وكتب أخرى تنيف الجميع على عشرين كتاباً. وكان لسعة روايته وغزارة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر لقال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئاً. وأما روايته الحديث، فإن المحدثين يصدقونه ويوثقونه. وكان أكثر ما يمليه من التصانيف يلقنه بلسانه من غير صحيفة يراجعها، وكان يسأل عن شيء قد تواطأت الجماعة على وضعه، فيجيب عنه، ثم يترك

سنة، ويسأل عنه فيجيب بذلك الجواب بعينه. ومما جرى له في ذلك أنهم سألوه: ما البيطرة عند العرب. فقال: كذا وكذا، فتضاحكوا سراً، وتركوه شهراً، ثم أمروا شخصاً سأله عن اللفظة بعينها فقال: أليس سألت عن هذه المسألة مدة كذا وكذا، وأجبت عنها بكذا وكذا؟ فتعجبوا من فطنته واستحضاره للمسألة والوقت. وكان لمعز الدولة غلام اسمه خواجا، وكان المطرز المذكور قد بلغ من إملاء " كتاب اليواقيت " إلى ذكر الخبر، فقال: اكتبوا ياقوتة، وخواجا، " الخواج في أصل لغة العرب الجوع " ثم فرع على هذا باباً وأملاه، فعد الناس ذلك كذباً عظيماً، ثم تتبعوه في كتب اللغة، فوجدوا عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج، الجوع. وكان المطرز المذكور يؤدب ولد القاضي محمد بن يوسف، فأملا يوماً على الغلام مسائل في اللغة، وذكر غريبها، وختمها ببيتين من الشعر، وحضر ابن دريد وابن الأنباري، وابن مقسم عند القاضي المذكور، فعرض عليهم تلك المسائل، فما عرفوا شيئاً، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك، واحتج باشتغاله بالقراءآت. وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات المطرز لا أصل لشيء منها في اللغة. ثم انصرفوا، فبلغ المطرز ذلك، فاجتمع بالقاضي، وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزائنه، وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل المطرز يعمد إلى كل مسألة، ويخرج لها شاهداً من بعض تلك الدواوين، ويعرضه على القاضي، حتى استوفى جميعها، ثم قال: هذان البيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب، فوجد البيتين على ظهره بخطه، كما ذكر بلفظه. وقال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة مما أنكر عليه، ونسب فيه إلى الكذب، فوجدتها مدونة في كتب أهل اللغة، وخاصة في غريب أبي عيد، وقال عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي، لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمرو الزاهد يعني المطرز وله " كتاب غريب الحديث " صنفه على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان ابن برهان المذكور يستحسنه جداً، وله شعر رائق. وفيها توفي الوزير محمد بن علي البغدادي الكاتب، وكان من الصلحاء واليه المنتهى في المعروف. قيل: إنه أعتق في عمره ألف رقبة، وأنفق في حجة حجها مائة ألف دينار، وبلغ ارتفاع مداخله بمصر من أملاكه في العام أربع مائة ألف دينار.

ست وأربعين وثلاث مائة

وفيها توفي المسعودي المؤرخ. ست وأربعين وثلاث مائة فيها قل المطر، ونقص البحر نحواً من ثمانين ذراعاً، فظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد، وكان بالري زلازل عظيمة، وخسف ببلد الطالقان في ذي الحجة، ولم يفلت من أهلها إلا نحو من ثلاثين رجلاً، وخسف بخمسين ومائة قرية من قرى الري، فيما نقل بعض المؤرخين قال: وعلقت قرية بين السماء والأرض، ونحن فيها نصف يوم، ثم خسف بها. وفيها توفي يوم عاشوراء أبو القاسم إبراهيم بن عثمان القيرواني، شيخ المغرب في النحو واللغة، حفظ كتاب سيبويه، والمصنف الغريب، وكتاب العين وإصلاح المنطق وغير ذلك. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو يعلى عبد المؤمن بن خلف السيفي. رحل وطوف. ووصل إلى اليمن، ولقي أبا حاتم الرازي وخليفته، وكان مفتياً ظاهرياً أثرياً، وفيه زهد وتعبد. وفيها توفي أبو العباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو وشيخها ورئيسها. وفيها توفي مسند الأندلس، الفقيه الإمام المالكي وهب بن ميسرة التميمي. كان محققاً في الفقه، بصيراً بالحديث وعلله، مع زهد وورع. سبع وأربعين وثلاث مائة فيها فتكت الروم خذلهم الله تعالى ببلاد الإسلام، وقتلوا خلائق، وأخذوا عدة حصون بنواحي آمد وفارقين، ثم وصلوا إلى قنسرين، فالتقاهم سيف الدولة بن

حمدان، فعجز عنهم، وقتلوا معظم رجاله، وأسروا أهله، ونجا هو في عدد يسير. وفيها سار معز الدولة، واستولى على إقليم الجزيرة، وفر بين يديه صاحبها ناصر الدولة، فقدم على أخيه سيف الدولة بحلب، وجرت أمور طويلة، ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة يستعطفه، فعقد له على الموصل، وكان ناصر الدولة قد نكث بمعز الدولة مرات، ومنعه الحمل والخراج. وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى، صاحب تاريخ مصر: تاريخ كبير للمصريين، وتاريخ صغير يختص بالغرباء الواردين فيها، وذيلهما أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي، وبنى عليهما. وأبو سعيد المذكور حفيد يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي، والناقل لأقواله الجديدة. كان خبيراً بأحوال الناس ومطلعاً على تواريخهم، ولما توفي رثاه عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني الحساب المصري النحوي العروضي بقوله: ثبت علمك تصنيفاً وتقريباً ... وعدت بعد الزيد لعيسى مندوبا أبا سعيد وما نالوك أن تشرب ... عنك الدواوين تصديقاً وتصويبا ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ... حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا مع أبيات أخرى حذفتها اختصارا. وفيها توفي الحافظ أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي، والد الحافظ تمام. وفيها توفي الأمير تميم المعز الحميري، رفعوا نسبه إلى سبأ ن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر. قالوا: وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، هكذا ذكره العماد في الجزيرة، وتميم المذكور ملك إفريقية، وما والاهما بعد أبيه المعز. وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً لأرباب الفضائل، حتى قصدته الشعراء من الآفاق. وجده المثنى بن المسور أول من دخل منهم إلى إفريقية. وقال أبو الحسن بن رشيق القيرواني في الأمير تميم المذكور. أصح وأوعى ما سمعناه في النداء ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السنون عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم ولتميم المذكور أشعار كثيرة حسنة منها.

ثمان وأربعين وثلاث مائة

سل المطر العام الذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي إذا كنت مطبوعا على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي ثمان وأربعين وثلاث مائة فيها عمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبة الجهاد، يحرض المسلمين على غزو الروم، وكانوا قد ظفروا بسرية فأسروها، وأسروا أميرها محمد بن ناصر الدولة بن حمدان، ثم أغاروا على الرها وحران، وقتلوا وسبوا، وكروا على ديار بكر. وفيها توفي الفقيه الحافظ صاحب التصانيف، شيخ الحنابلة السجاد أحمد بن سليمان، وكان له حلقتان: حلقة للفتوى، وحلقة للإملاء. وكان رأساً في الفقه، ورأسا في الحديث، قيل: كان يصوم الدهر، ويفطر على رغيف، ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة أكل تلك اللقم، وتصدق بالرغيف. قلت: ومثل هذا من الفقيه عزيز كثير، ومثله مذكور عن بعض أهل الرياضة من الفقراء المجردين الذي هو في حقهم قليل حقير. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو محمد جعفر بن محمد بن نصر، شيخ الصوفية ومحدثهم. سمع من أبي أسامة، وعلي بن عبد العزيز البغوي وطبقتهم، وصحب الجنيد وأبا الحسن النوري، وأبا العباس بن مسروق. وكان إليه المرجع في علم القوم وتصانيفهم وحكاياتهم، وحج ستاً وخمسين حجة، وعاش خمساً وتسعين سنة. تسع وأربعين وثلاث مائة فيها أوقع غلام سيف الدولة بالروم، فقتل وأسر، وفرح المؤمنون. وفيها وقعت وقعة هائلة ببغداد بين أهل الستة والرافضة، وقويت الرافضة ببني هاشم ومعز الدولة، وعطلت الصلوات في الجوامع، ثم رأى معز الدولة المصلحة في القبض على جماعة من الهاشميين، فسكتت الفتنة. وفيها حشد سيف الدولة، ودخل بلاد الروم، فأغار وفتك وسبى، ورجعت إليه جيوش الروم، فعجز عن لقائهم، فوفي ثلاثمائة، وذهبت خزانته، وقتل جماعة من أمرائه. وفيها كان إسلام الترك، قال ابن الجوزي أسلم من الترك مائتا ألف.

خمسين وثلاث مائة

وفيها توفي أبو الفوارس الصابوني، أحمد بن محمد السندي الفقيه المعمر، مسند ديار مصر، عن يونس بن عبد الأعلى والمزني والكبار. وفيها توفي الفقيه العلامة أبو الوليد، حسان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب شريح صاحب التصانيف، وكان بصيراً بالحديث وعلله، وأخرج كتاباً على صحيح مسلم، وهو صاحب وجه في المذهب، وقال الحاكم: هو إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم. وفيها توفي الحافظ أحد الأعلام أبو علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري. قال الحاكم: هو أوحد عصره في الحفظ والإتقان والورع والمذاكرة والتصنيف. وفيها توفي الحافظ أبو أحمد العتباني محمد بن أحمد قاضي أصفهان. قال الحافظ أبو نعيم: كان من كبار الحفاظ. خمسين وثلاث مائة قالوا فيها بنى معز الدولة ببغداد دار السلطنة في غاية الحسن والكبر، غرم عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم، وقد درست آثارها في حدود الستمائة، وبقي مكانها تأوي إليه الوحوش، وبعض أساسها موجود، فإنه حفر لها في الأساسات نيفاً وثلاثين ذراعاً. وفيها توفي أبو شجاع فاتك الكبير، المعروف بالمجنون، كان روميا أخذ صغيراً هو وأخ له وأخت لهما من بلاد الروم، فتعلم بفلسطين، وهو ممن أخذه الإخشيذ من سيده بالرملة كرهاً بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، وكان معهم حراً في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمة شجاعاً، كثير الإقدام، ولذلك قيل له المجنون. وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمته الاخشيذ، فلما مات مخدومهما، وتعزز كافور في تربية ابن الاخشيذ، أنف فاتك من الإقامة بمصر، كي لا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج إلى أن يركب في خدمته. وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعاً، فانتقل واتخذها سكناً له، وهي بلاد وبية كثيرة الوخم، فلم يصح بها له جسم، وكان كافور يكرمه ويخافه فزعاً منه، وفي نفسه منه ما فيها، واستحكمت العفة في جسم فاتك وإخوته، فاحتاج إلى دخول مصر للمداواة، فدخلها. وبها دخل المتنبي ضيفاً للأستاذ كافور، وكان يسمع فاتك كثرة سخائه، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفاً من كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله السلام، ثم التقيا في الصحراء مصادقة من غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل للمتنبي في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن المتنبي كافوراً

إحدى وخمسين وثلاث مائة

في مدحه، فأذن له، فمدحه بقصيدة من غرر القصائد، أولها: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال وما أحسن القول فيها: كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال لما توفي رثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر، بقصيدة أولها: الحزن يعلق والتحمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع وما أرق قوله: إني لأجبن من فراق أحبتي ... وتمس نفسي بالحمام فأشجع ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع وفيها توفي الفقيه أبو علي الحسن بن القاسم الطبري الفقيه الشافعي، أخذ عن أبي علي بن أبي هريرة، وسكن ببغداد، ودرس بها بعد شيخه أبي علي بن أبي هريرة، وصنف التصانيف " كالمحرر في النظر " وهو أول كتاب صنف في الخلاف "، و " المجرد في الخلاف "، و " الإيضاح "، و " العدة " كلاهما في الفقه، وصنف كتابا في أصول الفقه " والطبري " نسبة إلى طبرستان، والنسبة إلى طبرية طبراني، وهو صاحب وجه في المذهب. وفيها توفي خليفة الأندلس الناصر لدين الله أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد الأموي وكانت دولته خمسين سنة، وقام بعده ولده المستنصر بالله، وكان كبير القدر كثير المحاسن أنشأ " مدينة الزهراء "، وهي عديمة الحسن في النظير، غرم أهلها من الأموال ما لا يحصى، ولما بلغه ضعف أحوال الخلافة بالعراق، ورأى أنه أمكن منهم والي تلقب باللقب المذكور. وفيها توفي فاتك أبو شجاع الرومي الإخشيذي، رفيق الأستاذ كافور وأحد أمراء الدولة، وكان كافور يخافه، وقد مدحه المتنبي، فوصله فاتك بألف دينار. إحدى وخمسين وثلاث مائة فيها نازل طاغية الروم مدينة عين زربة بضم الزاي وسكون الراء وفتح

الموحدة في مائة ألف وستين ألفاً، فأخذها وقتل خلقاً لا يحصون، وأحرقها ومات أهلها في الطرقات جوعاً وعطشاً، إلا من نجا بأسوأ حال، وهدم حولها نحواً من خمسين حصناً أخذ بعضها بالأمانة، ورجع فجاء سيف الدولة على عين زربة، وأخذ بتلافي الأمر، وبلم شملها، واعتقد أن " بعضها بالأمان " الطاغية لا يعود، فدهمه الملعون، ونازل حلب بجيوشه، فلم يقاومه سيف الدولة، ونجا في نفر يسير. وكانت داره بظاهر حلب، فدخلها الملعون، ونزل بها، واحتوى على ما فيها من الخزائن، وحاصر أهل حلب، إلى أن انهدمت ثلمة من السور، فدخلت الروم منها، فدفعهم المسلمون عنها، وبنوها في الليل، ونزلت أعوان الوالي إلى بيوت العوام، فنهبوا فوقع الصائح في الأسوار: الحقوا منازلكم، فنزلت الناس حتى خلت الأسوار، فبادرت الروم، فتسلقوا، وملكوا البلد، ووضعوا السيف في المسلمين حتى كلوا وملوا، واستباحوا حلب، ولم ينج إلا من صعد إلى القلعة. وأما بغداد، فرفعت المنافقون رؤوسها، وقامت دولة الرافضة، وكتبوا على أبواب المساجد لعن معاوية، ولعن من غصب فاطمة حقها، ولعن من نفى أبا ذر، فمحاه أهل السنة بالليل، فأمره معز الدولة بإعادته، فأشار إليه الوزير المهلبي أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين لآل محمد، ولعن معاوية فقط. وأنزل الروم من منبج الأمير أبا فراس بن سعيد بن حمدان، وبقي في أسرهم سنين. وفيها توفي قاضي الحرمين وشيخ الحنفية في عصره أبو الحسين أحمد بن محمد النيسابوري، ولي قضاء الحجاز مدة، وكان تفقه على أبي الحسين الكرخي، وبرع في الفقه. وفيها توفي المهلبي الوزير في قول. وفيها توفي دعلج أبو محمد السجزي. قال الحاكم: أخذ عن أبي خزيمة مصنفاته، وكان يفتي بمذهبه، وقال الدارقطني: لم أر في مشايخنا أثبت من دعلج، وقال الحاكم: لم يكن في الدنيا أيسر منه، اشترى بمكة دار العباس بثلاثين ألف دينار، وقيل:

اثنتين وخمس وثلاث مائة

كان الذهب في داره بالقفاف، وكان كثير المعروف والصلاة. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن عبد الباقي ين قانع بن مرزوق، صنف التصانيف. وفيها توفي أبو بكر النقاش، محمد بن الحسن الموصلي ثم البغدادي المقرىء المفسر صاحب التصانيف في التفسير والقراءات. اثنتين وخمس وثلاث مائة فيها يوم عاشوراء، ألزم معز الدولة أهل بغداد النوح والمأتم، وأمر بغلق الأبواب، وعلقت عليها المسوح، ومنع الطباخين من عمل الأطعمه، وخرجت نساء الرافضة منشرات الشعر، مسمحات الوجوه، يلطمن ويفتن الناس. قيل: وهذا أول ما نيح عليه. وفيها يوم ثامن عشر في الحجة الرافضة عيد الغدير: غدير خم بضم الخاء المعجمة، ودقت الكوسات، وصلوا بالصحراء صلاة العيد. وفيها أو في التي قبلها توفي الوزير المهلبي الحسن بن محمد، على الخلاف المتقدم، وكان وزير معز الدولة بن بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء الديلمي، وكان من ارتفاع القمر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف، على ما هو مشهور به، وكان في غاية الأدب والمحبة لأهله وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة، ولقي في سفره مشقة صعبة، اشتهى اللحم، فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً: ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من الموت الكريه إذا أبصرت قبراً من بعيد ... فودي أنني مما يليه ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاء على أخيه وكان بمصر له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي، وقيل أبو الحسن العسقلاني، فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً، وطبخه وأطعمه، وتفارقا، وتنقلب بالمهلبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة، وضاقت الأحوال برفيقه في السفر، الذي اشترى له اللحم، وبلغه وزارة المهلبي، فقصده، وكتب إليه. ألا قل للوزير فديت نفسي ... مقالة مذكر ما قد نسيه أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... ألا موت يباع فأشتريه. فلما وقف عليها تذكره وهوته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم

ووقع في ورقته " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " سورة البقرة، الآية 261، ثم دعا به، وخلع عليه، وقلده عملاً يرتفق به، ومن المنسوب إلى الوزير المذكور في وقت الإضافة من الشعر، ما كتبه إلى بعض الرؤساء قوله، وقيل أنه لأبي نواس: ولو أني استزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد ولو عرضت على الموتى حياة ... لعيش مثل عيشي لم يزيدوا وقال أبو إسحاق الصابي، صاحب الرسائل: كنت يوماً عند الوزير المهلبي، فأخذ ورقة وكتب، فقلت: يديها يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق درة في الطرس ينتثر فخاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر وكان من رجال الدهر عزماً وحزماً وسؤدداً وعقلاً وشهامة ورأياً. وفيها توفي علي بن إسحاق البغداي الزاهي الشاعر المشهور، كان وصافاً محسناً، كثير الملح، أحسن الشعر في التشبيهات وغيرها. ومن قوله في تشبيه البنفسج. ولا زور دية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على جمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت ويروى: فوق طاقات، ومن محاسن شعره: وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفاً أو سللن خناجرا تصدين لي يوماً بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جآذرا واطلعن في الأخبار بالدر أنجماً ... جعلن لحيات القلوب صرائرا وهذا تقسيم ظريف، قد استعمل جماعة من الشعراء، لمكنهم قصرت بهم القريحة عن بلوغ هذه الصنيعة. ونحوه قول المتنبي: بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبر أورثت غزالا قلت: ولست أدري أيهما سلك طريق الآخر تابعاً له في هذه المآخذ، وهما متعاصران. توفي المتنبي بعده في سنة أربع.

ثلاث وخمسين وثلاث مائة

ومن التقسيم الحسن أيضاً قول بعض الشعراء: وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا رنا ظبياً وغنى عندليباً ... ولاح شقائقاً ومشى قضيبا وأما نسبة الزاهي فقال السمعاني: ولست أدري نسبة الزاهي المذكور إلى أي شيء، لكن جماعة نسبوا هذه النسبة إلى قرية من قرى نيسابور. وفيها توفي ابن المنجم علي بن عبد الله الشاعر المشهور، ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء، وندماء الخلفاء، يفضون إليه بأسرارهم، ويأمنونه على أخبارهم. وله أشعار حسان منها: بيني وبين الدهر فيك يمجه ... سيطول إن لم يجبه اعتاب يا غائبا لوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب؟ لولا التعلل بالرجاء لتقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب لا بأس من روح الإله فربما ... يصل القطيع ويحضر الغياب وفيها توفي الحافظ، أحد أركان الحديث بالأندلس، أبو القاسم خالد بن سعد، صنف التصانيف، وكان عجباً في معرفة الرجال والعلل. وقيل كان يحفظ الشيء من فرد مرة، وورد أن المستنصر بالله قال: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن معين نحن فاخرناهم بخالد بن سعد. ثلاث وخمسين وثلاث مائة فيها تحارب معز الدولة وناصر الدولة أمير الموصل، فانهزم أولاً ناصر الدولة، ثم انتصر وأخذ حواصل معز الدولة ونقله، وأسر عدة من الأتراك. وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد أحمد بن محمد، والسيد الجليل الشيخ أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحبري النيسابوري شهيداً بطرسوس. صنف التفسير الكبير والصحيح على رسم مسلم، وغير ذلك. وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة بأصبهان في رمضان، وهو في عشر الثمانين، قال أبو نعيم لم ير بعد عبد الله بن مظاهر في الحفظ مثله، جمع

أربع وخمسين وثلاث مائة

الشيوخ والمسند. وفيها توفي أبو الفوارس: شجاع بن جعفر الواعظ ببغداد وقد قارب المائة. وفيها توفي الحافظ أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي. أربع وخمسين وثلاث مائة فيها توفي المتنبي، الشاعر العصر الملقب بأبي الطيب، أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي نسباً الكوفي، ثم الكندي منزلاً، قدم الشام في صباه، وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب، ومهر فيها، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها ووحشيها، فلا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة قال له: كم لنا من الجموع على وزن فعلى بكسر الفاء وسكون العين وفتح اللام. - فقال المتنبي في الحال: " حجلى " و " ظربى ". قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد. قلت: وناهيك به. معرفة، في حق من يقول الإمام الجليل في العربية له هذه المقالة، ويشهد له بهذه الشهادة السنية. قال بعضهم: " وحجلى " جمع حجلة، وهو الطائر المسمى القبج: بفتح القاف وسكون الموحدة وبالجيم. " والظربى ": بكسر الظاء المعجمة وسكون الراء وبعدها موحدة: جمع ظربان، على وزن قطران، وهي دويبة منتنة الرائحة. وأما شعر المتنبي فكثرة شعره تغني عن مدحته. قال ابن خلكان: والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، قال: واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وذكروا أن أحد مشايخه الذين أخذ عنهم قال: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً، ما بين مطولات ومختصرات، ولم أر هذا بديوان غيره. وقال: ولا شك أنه رزق من شعره السعادة التامة. انتهى. قلت: ولأهل الفضل من المتقدمين والمتأخرين خلاف كثير في تفضيل جماعة من الشعراء، بعضهم على بعض، وقد أوضحت ذلك في آخر الجزء الثاني من كتابي " الموسوم بمنهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم ". وعن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. قلت: يعني بذلك من الشعراء القدماء، ومعلوم أن كثيراً من الشعراء البارعين حذقوا

بعد أبي عمرو كأبي تمام والبحتري والمتنبي قال: وكان يشبه ثلاثة من شعراء الإسلام بثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير، وجرير بالأعشى، والأخطل بالنابغة، فامرىء القيس من اليمن والنابغة، وزهير إذا رعب، وامرء القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، أو قال: غضب. وسئل الشريف الرضي عن هؤلاء الثلاثة فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما أبو العبادة فواصف جود، وأما المتنبي فقائد عسكر، أو قال: منذر عسكر. وقال بعض المتأخرين: ليس في العلم أشعر منه، وأما مثله فقليل، وقال أبو عمرو: قلت لجرير: ما تقول في الفرزدق. قال: أهجانا وأمدحنا، قلت: فما تقول في ذي الرمة؟ قال: نقط عروس وأبعار ظباء. قلت: فالأخطل. قال: أثنى للقمر والخمر. قلت: فما تقول فيك. قال أنا مدينة الشعر الذي أقول: غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ وقال أبو حاتم السجستاني: قيل لابن هرمة: بسكون الراء من أشعر الناس. قال: من إذا لعب لعب، وإذا جد جد، مثل جرير يقول: غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟. ثم جاء فقال: إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا حرز تغلب من أب كأبينا؟ هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلى قطينا قلت: وقد تقدم في تاريخ موت جرير نحو من هذا، مع زيادة في سنة عشر ومائة، وتقدم هناك تفسير الحرز والقطين. وذكر بعض أئمة النحو أن أهل البصرة كانوا يقدمون امرؤ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً. وقال النابغة: ما تهاجى شاعران قط في جاهلية ولا إسلام، إلا وغلب أحدهما صاحبه، غير الفرزدق وجرير، فإنهما تهاجيا نحو ثلاثين سنة، ولم يغلب واحد منهما الآخر، وقال الأصمعي: قيل لحسان: من أشعر الناس. قال: أشعرهم رجلاً أو قبيلة. قالوا: بل قبيلة. قال: هذيل، قال الأصمعي: فهم أربعون شاعراً سلفاً، وكفهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس، وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي: من أشعرهم. قال النابغة

الذبياني، وما قال الشعر إلا قليلاً، والنابغة الجعدي قال الشعر ثلاثين سنة ثم نبغ، فالشعر الأول من قوله جيد بالغ، والآخر كأنه مسروق، وقال: تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة، وكان يكابر، وأما جرير فله ثلاثمائة قصيدة، وما علمت سرق شيئاً قط إلا نصف بيت، ولا أدري لعله وافق شيء شيئاً. قلت: يعني أشاروا إليه في قولهم: قد يقع الحافر على الحافر. رجعنا إلى ذكر المتنبي: ذكروا أنه مدح عدة ملوك، وقيل إنه وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار، ومن عضد الدولة صاحب شيراز مثلها. وأما تلقبه بالمتنبي، فذكروا أنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير في تلك الناحية من كلب وغيرهم، فعند ظهور هذه الدعوى العظيمة التي تكذبها الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة بالأقوال الصريحة، خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيذ، فأسره، وتفرق أصحابه، وحبسه طويلاً ثم استتابه، وأطلقه وقيل غير ذلك، قالوا وادعاء النبوة أصح. ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سبع وثلاثين وثلاثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فمدح كافوراً الإخشيذي، وكان يقف بين يديه وهو محتمل بسيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاثمائة، ووجه كافور في طلبه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور قد ولاه بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاطيه في شعره السمو بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور الإخشيذي. فحسبكم. قال أبو الفتح بن جني: كنت أقرأ ديوان أبي الطيب عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها: ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتب وفيما يدور الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يأتيه القوم قلب قال: فقلت له تغر علي كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه: أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنت قائل فهذا الذي أعطاني كافور بسوء تدبيره وقلة تميزه. وكان لسيف الدولة مجلس بحضرة العلماء كل ليلة يتكلمون بحضرته، فوقع بين

المتنبي وابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي، فضرب وجهه بمفتاح كان بيده، فشجه فخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخرج إلى مصر، وامتدح كافوراً ثم رحل عنه، وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة الديلمي، فأجزل جائزته. ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه، عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم فقتل المتنبي وابنه محسد " بضم الميم وفتح الحاء والسين المشددة بين المهملتين " وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل خيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول، بينهما مسافة ميلين. وذكر ابن رشيق في " كتاب العمدة " في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة، قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم فكر راجعاً حتى قتل. وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء لست بقين، وقيل لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقيل يوم الاثنين لثمان بقين، وقيل لخمس بقين. ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة، في محلة تسمى كندة، فنسب إليها. وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء ولما قتل المتنبي رثاه القاسم بن المظفر بقوله: لا رعى الله شرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى أنكر الزمان كان من نفسه الكبير في ... جيش وفي كربادي سلطان لو يكن جاء من الشعر أنبى ... ظهرت معجزاته في المعاني قلت: وهذا البيت الأخير غيرت ألفاظ مصراعه الأول إلى هذه الألفاظ المذكورة، عدولاً عن بشاعة لفظه، وما يتضمن ظاهره من الكفر الموافق لما ادعاه المتنبي، فإنه قال في المصراع المذكور: وهو في شعره نبي ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وأشبيلية أنشد يوماً بيت المتنبي وهو من جملة قصيدته المشهورة:

إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معنى المطي ورازمه وجعل يردده استحساناً له وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهيون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً: لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللهى تفتح اللهى تنبا عجباً للقريض ولو درى ... بأنك تدري شعره لنالها قلت: يعني بالبيت الثاني أن المتنبي إنما تنبأ، أي ادعى النبوة إعجاباً منه بعشره، ولو درى أنك ستدري شعره وتستحسنه لناله، أي: ادعى الإلهية. وقوله في البيت الأول: واللهى تفتح اللهى الأولى: بضم اللام، جمع لهوة بالضم، وهو ما يجعل في الرحى من الحب. والثانية بفتح اللام، جمع لهاة، وهي الهيئة المطبقة في أقصى سقف الفهم، واستعار بذلك استعارة حسنة، يعني إنما تفتح تلك اللها لأجل ما يوضع في فمه من المآكل الطيبة، والمراد إنما يجيد شعره ما يأخذه من أموال السلاطين والولاة. وذلك الذي حمله على تجويد شعره. ولقد أبدع عبد الجليل المذكور في هذين البيتين من ثلاثة أوجه: الأول: الارتجال، والثاني: ما تضمنا من المعاني الحسنة المطابقة للحال، والثالث ما ضمنه من الجناس الحسن. وقيل: المتنبي أنشد لسيف الدولة في الميدان قصيدة " لكل امرىء من دهره ما تعودا "، فلما عاد سيف الدولة إلى داره، استعاده إياها، فأنشدها قاعداً. فقال بعض الحاضرين ممن يريد أن يكيد أبا الطيب: لو أنشدها قائما لأسمع، فأكثر الناس لا يسمعونه، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها " لكل امرىء من دهره ما تعودا "، وهذا من مستحسن الأجوبة. ومحمود أخباره ومستحسن آثاره نحوت فيها نحو الاختصار، فلم أذكر شيئاً مما له من المدائح والأشعار استغناء بما فيها من الاشتهار. وفي السنة المذكورة توفي العلامة الحبر الحافظ صاحب التصانيف أبو حاتم محمد بن حبان بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة التميمي البستي، وكان من أوعية العلم في الحديث والفقه واللغة والوعظ وغير ذلك حتى الطب والنجوم والكلام، ولي قضاء سمرقند ثم قضاء نسا، وغاب دهراً عن وطنه ثم رد إلى بست وتوفي فيها. وفيها توفي المحدث محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي الشافعي. قال

خمس وخمسين وثلاث مائة

الخطيب: كان ثقة ثبتاً، حسن التصانيف، قال: ولما منعت الديلم الناس من ذكر فضائل الصحابة كتبوا السب على أبواب المساجد، وكان يتعمد إملاء أحاديث الفضائل في الجامع. خمس وخمسين وثلاث مائة فيها أخذ ركب مصر والشام، وهلك الناس، وتمزقوا في البراري، أخذتهم بنو سليم. وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سليم التميمي البغدادي. روي عنه أنه قال: أحفظ أربعمائة ألف حديث، وأذاكر ستمائة ألف حديث. وذكر الدارقطني أنه خلط وأنه شفي. وفيها توفي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة، وكان ظاهري المذهب فطناً مناظراً ذكياً بليغاً مفوهاً شاعراً كثير التصانيف، قوالاً للحق، ناصحاً للخلق، عزيز المثل رحمه الله تعالى. فيها توفي أبو محمد مسلم بن معمر بن ناصح الدهلي الأديب بأصبهان. ست وخمسين وثلاث مائة فيها أقامت الرافضة المآتم على الحسين على العادة المارة في هذه السنوات. وفيها توفي السلطان معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وكان في صباه يخطب، وأبوه يصيد السمك، فما زال يترقى في مراقي الدنيا إلى أن ملك بغداد نيفاً وعشرين سنة، ومات بالإسهال وكان حازماً سائساً مهيباً رافضياً عالماً، وقيل أنه رجع في مرضه عن الرفض، وندم على الظلم، وهو عم عضد الدولة وعماد الدولة وركن الدولة، وسيأتي ذكرهم بعد إن شاء الله تعالى. وفيها توفي أبو محمد المغفلي بفتح الغين المعجمة والفاء المشددة أحمد بن عبد الله الهروي، أحد الأئمة. قال الحاكم: كان إمام أهل خراسان بلا مدافعة، وكان فوق الوزراء، وكانوا يصدرون عن رأيه. وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي النحوي الأخباري، صاحب

التصانيف، ونزيل الأندلس بقرطبة، في ربيع الآخر. أخذ الأدب عن ابن كبريت وابن الأنباري، وسمع من أبي يعلى الموصلي والبغوي وطبقتهما، وألف كتاب البارع في اللغة، في خمسة آلاف ورقة، لكن لم يتمه. وفيها توفي صاحب كتاب الأغاني أبو الفرج علي بن الحسين القرشي الأموي المرواني، الأصبهاني الأصل، البغدادي المنشأ، الكاتب الأخباري. كان أديباً نسابة علامة شاعراً، كثير التصانيف وقال بعض المؤرخين: ومن العجائب أنه مرواني شيعي وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير روى عن كثير من العلماء. قال التنوخي: كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى. منها: اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح والبيطرة والطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء. وله المصنفات المستملحة، منها كتاب الأغاني الذي وقع الاتفاق عليه أنه لم يعمل في باب مثله، يقال أنه جمعه في خمسين سنة، وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي، عن الصاحب بن عباد أنه كان يستصحب في أسفاره وتنقلاته، حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعده يستصحب سوأه، مستغنياً به عنها. ومنها " كتاب القيان "، و " كتاب الإماء الشواعر "، و " كتاب الدرايات "، و " كتاب دعوة التجار "، و " كتاب مجرد الأغاني "، و " كتاب الألحانات وأدب الغرباء "، وكتب صنفها لبني أمية ملوك أندلس وسيرها إليهم سراً. منها كتاب نسب بني عبد شمس " و " كتاب أيام العرب "، ألف وسبع مائة يوم و " كتاب التعديل والانتصاف " في مآثر العرب ومثالبها، و " كتاب جمهرة النسب "، و " كتاب نسب بني شيبان "، و " كتاب نسب المهالبة "، و " كتاب نسب بني تغلب ونسب بني كلاب "، و " كتاب المغنين الغلمان " وغير ذلك. وكان منقطعاً إلى الوزير المهلبي، وله فيه مدائح، من قوله قوله: ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان، وما عنا، ومن وما منا وردنا عليه معترين فراشنا ... وزدنا نداه مجدبين فأخصبنا وله فيه من قصيدة يهنىء فيها بمولود جاءه من سرية رومية: أسعد بمولود أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر

سعد لوقت سعاد جاءت به ... أم حصان من بنات الأصفر متبجج في ذر ولي شرف الورى ... بين المهلب منتماه وقيصر شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري وأشعاره كثيرة، ومحاسنه شهيرة، وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين. وفيها توفي سيف الدولة الأمير الجليل الشأن علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الجزري، صاحب الشام، توفي بحلب وعمره بضع وخمسون سنة. وكان بطلاً شجاعاً أديباً شاعراً جواداً ممدحاً وقال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر ": كان بنو حمدان ملوكاً، وجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للشجاعة، وعقولهم للراحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، حضرته مقصد الوفود، ومطلق الجود، وقبلة الآمال ومحل الرحال، وموسم الأدباء، وحلية الشعراء. قيل إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً مجيداً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز له. وكان كل من أبي محمد وعبد الله بن محمد الغياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمساطي، قد اختار من مدائح الشعر لسيف الدولة عشرة آلاف بيت. ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح الأبيات الآتيات، وقد أبدع فيه كل الإبداع، وقيل إنها لأبي الصقر القميصي، والقول الأول ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة. وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض علينا ومنفض وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجود كنار الحواشي على الأرض يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصيغة، والبعض أقصر من بعض قال ابن خلكان: وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقية، والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج. بن محمد المؤدب البغدادي، فقال في فرس أدهم محجل: لبس الصبيح والدجنة بردين فأرخى برداً وقلص برداً وقيل إنها لعبد الصمد بن المعدل. وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، فحسدها بقية الخطايا، لقربها منه ومحلها من قلبه، وعزم على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، فبلغه الخبر، وخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً وقال:

راقبتني العيون فيك فأشفقت ... ولم أخل قط من إشفاق ورأيت العدو يحسدني فيك ... محداً يا أنفس الأعلاق فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون من خوف فراق قال ابن خلكان: رأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري، والله تعالى أعلم لمن هي، منهما ومن شعره أيضاً: أقبله على جزع ... أكثر بالطائر الفزع رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع وصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذ بالجزع ويحكى أن ابن عمه أبا فراس كان يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس: لك جسمي بعله ... فدمي لم تحله فارتجل أبو فراس وقال: إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروفة، تغل ألفي دينار كل سنة ومن شعر سيف الدولة أيضاً: تجني علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلماً وفي شقه العنب إذا برم المولى بخدمة عبده ... يجني له ذنباً وإن لم يكن ذنب وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب وذكر الثعالبي في اليتيمة أن سيف الدوله كتب إلى أخيه ناصر الدولة: رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق ولم يك لي عنها نكول وإنما ... تحافيت عن حقي فتم لك الحق ولا بد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق ويحكى أن سيف الدولة كان يوماً بمجلسه، والشعراء ينشدونه، فتقدم إنسان رث

الهيئة وهو بمدينة حلب فأنشده: أنت علي هذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب بهذه هجر البلاد وبالأمير ... تزهو على الورى العرب وعبدك الدهر قد أضر به ... إليك من جور عبدك الهرب فقال سيف الدولة: أحسنت والله وأمر له بمائتي دينار، وقال أبو القاسم عثمان بن محمد قاضي عين زربة بالزاي ثم الراء ثم الموحدة حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب، وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري، وقد طرح في كمه كيساً فارغاً، ودرجاً فيه شعر، استأذن في إنشاده، فأذن له فأنشد قصيدة أولها: جنابك معتاد وأمرك نافذ ... وعبدك محتاج إلى ألف درهم فلما فرغ من شعره ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً، وأمر له بألف درهم، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه. وكان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد، ابنا هاشم المعروف بالخالد من الشعراء المشهورين، أبو بكر أكبرهما، وقد وصلا إلى حضرة سيف الدولة، ومدحاه فأنزلهما وقام بواجب حقهما، وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة، ومع كل واحد منهما بدرة، وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة: لم يعد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس حولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما الدنيا الظلمة الحنديس رسالة أتانا وهو حسناء يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس وهذا ولم تقنع بذا وبهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس وحبوتنا مما أحادث حوله ... مصر وزادت حسنة بئيس فغدا لنا من جودك المأكول ... والمشروب والمنكوح والملبوس فقال سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة المنكوح، فليس مما يخاطب الملوك بها. ومن أشعار سيف الدولة، وقد جرت بينه وبين أخيه وحشة، فكتب إليه سيف الدولة: لست أجفو وإن جفيت ولا ... أترك حقاً علي في كل حال إنما أنت والد، والأب ... الجافي يجازي بالصبر والاحتمال وكتب إليه مرة أخرى ما تقدم من قوله قريباً: " رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ".

وكان الذي لقيهما ناصر الدولة وسيف الدولة. الخليفة المتقي لله، وعظم شأنهما، وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولى أباهما عبد الرحمن بن حمدان الموصل وأعمالها. وناصر الدولة أكبر سناً من سيف الدولة، فملك الموصل بعد أبيه، وكان أقدم منزلة عند الخلفاء. فلما توفي سيف الدولة تغيرت أحواله كما سيأتي في ترجمته. وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء، خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء واليامي والببغا. ولو أراد تلك الطبقة في تعدادهم طول. وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، سنة ثلاث وثلاث مائة، وقيل سنة إحدى وثلاث مائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة وقيل رابع ساعة، لخمس بقين من صفر، السنة المذكورة بحلب وقد نقل إلى فارقين ودفن في تربة. وكان قد جمع له من بعض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده، فنفذت وصيته في ذلك، وكان تملكه بحلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيذ: قلت ولعله المراد بقول الشاعر: ما زلت أسمع والركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري على ما ذكر بعض أهل المعاني والبيان، أنه أحمد بن سعيد، والذي ذكره ابن خلكان وغيره أنه جعفر بن فلاح، وإن قائلهما ابن هانىء الأندلسي، وغلط من قال خلاف هذا، والبيتان المذكوران في ترجمة جعفر المذكور في سنة ستين وثلاثمائة. وملك بعد سيف الدولة ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة. وطالت مدته أيضاً في المملكة، ثم عرض له قولنج أشرف منه على التلف، وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته، فلما فرغ منها سقط عنها، وقد جف شقه الأيمن، فدخل عليه طبيبه، فأمر أن يسحق عنده الند والعنبر، فأفاق قليلاً، فقال الطبيب له: أرني مجسك، فناوله يده اليسرى، فقال: أريد اليمنى، فقال: ما تركت اليمين يميناً، وكان قد حلف وغدر. وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاث مائة، وعمره أربعون سنة وست أشهر وعشرة أيام، وتولى بعده ولده أبو الفضل سعد ولم يذكروا تاريخ وفاته، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة.

وفي السنة المذكورة، وقيل في العام الآتي توفي أبو المسك كافور الحبشي الأسود الخادم الإخشيذي، صاحب الديار المصرية. اشتراه الإخشيذ صاحب مصر والحجاز والشام، فتقدم عنده حتى صار من أكبر قواده، لعقله ورأيه وشجاعته، ثم صار أتابك ولده الأكبر أبي القاسم بعده وكان صبياً فبقي الاسم لأبي القاسم ولد الكافور، فأحسن سياسة الأمور إلى أن مات أبو القاسم سنة تسع وأربعين وثلاث مائة. وأقام كافور في الملك بعده وتولى بعده أخوه أبو الحسن علي، فاستمر كافور على نيابته وحسن سيرته إلى أن توفي علي المذكور سنة خمس وخمسين ثلاث مائة، وقيل بل أربع وخمسين. ثم استقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وكان وزيره أبو الفضل جعفر ابن الفرات وكان يرغب في أهل الخير ويعظمهم، وكان شديد السواد، اشتراه الإخشيذ بثمانية عشر ديناراً على ما قيل. وكان أبو الطيب المتنبي قد فارق سيف الدولة بن حمدان مغاضباً كما تقدم وقصد مصر وامتدح كافوراً بمدائح حسان، فمن ذلك قوله في أول قصيدة، وقد وصف الخيل: قواصد كافور تدارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... فحقت بياضاً خلفها ومآقيا فأحسن في هذا إحساناً بلغ الغايات القصوى، قلت: ولدي أنه لو قال: " يومين بحراً تاركين سواقيا " ومن قصد البحر إلى آخره، كان أحسن وأنشد أيضاً القصيدة التي يقول فيها: وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى علي فأكتب إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويم كافوراً فما يتغرب ومن جملتها: ويصلحك في ذي العبد كل حبيبة ... خلاني فأبكي من أحب وأندب أحسن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب وكل امرىء يؤتى الجميل يحبه ... وكل مكان ينبت العز أطيب ومن قصيدة هي آخر شيء أنشده: أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد خباب

وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أمليت منك حجاب وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عنهما وخطاب وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغى عليه ثواب وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت إني قد ظفرت وخابوا جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذباب وأن مديح الناس حق وباطل ... ومدحك حق ليس فيه كذاب إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب وما كنت لولا أنت إلا مهاجراً ... له كل يوم بلدة وصحاب ولكنك الدنيا إليك حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب وأقام المتنبي بعد إنشاد هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافوراً غضباً عليه، يركب في خدمته خوفاً منه، ولا يجتمع به، واستعد للرحيل في الباطن، وجهز جميع ما يحتاج إليه، وقال في يوم عرفة سنة خمسين وثلاثمائة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافوراً فيها، وفي أخرها: من علم الأسود المخصي تكرمة ... أأمه البيض أم آباؤه الصيد وله فيه من الهجو كثير، تضمنه ديوانه، ثم فارقه، وبعد ذلك دخل إلى عضد الدولة. وذكر بعضهم قال: حضرت مجلس كافور الإخشيذي، فدخل رجل ودعا له، فقال في دعائه: أدام الله تعالى أيام مولانا " بكسر الميم " من أيام، فتكلم جماعة من الحاضرين في ذلك وعلبوه، فقام رجل من أوساط الناس، وأنشد مرتجلاً: لا غرو إن لحن الداعي لسيدنا ... أو غض من دهش بالريق أو نهر فتلك هيبة حالت جلالتها ... بين الأديب وبين القول بالحصر وإن يكن خفض الأيام من غلط ... في موضع النصب لا عن قلة النظر فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ... والفأل مأثورة عن سيد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن أوقاته صفو بلا كدر قوله بالحصر " بفتح الحاء والصاد المهملتين ": العي، وهو أيضاً ضيق الصدر وأخبار كافور كثيرة، ولم يزل مستقلاً بالأمر بعد أمور يطول شرحها إلى أن توفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بمصر على القول الصحيح، ودفن بالقرافة، وقبته هناك مشهورة، ولم تطل مدته في الاستقلال على ما ظهر من تاريخ موت علي بن

سبع وخمسين وثلاث مائة

الأخشيذ إلى هذا التاريخ. وكانت بلاد الشام في مملكته أيضاً مع مصر، وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه، والديار المصرية وبلاد الشام، من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس ومصيصة وغير ذلك، وعاش نيفاً وستين سنة. سبع وخمسين وثلاث مائة لم يحج الركب فيها لفساد الوقت وموت للسلاطين في الشهور الماضية. وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أبو سعيد النخعي البسري. وفيها توفي المتقي لله أحمد بن الموفق العباسي المخلوع المسمول العينين، توفي في السجن وكانت خلافته أربع سنين، وكان فيه صلاح وكثرة صلاة وصيام، ولم يكن يشرب، وفي خلافته انهدمت القبة الخضراء المنصورية التي كانت فخر بني العباس. وفيها توفي الحافظ المحدث عمر بن جعفر البصري رحمه الله. وفيها توفي أبو فراس الحارث بن أبي العلاء، سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة. قال الثعالبي في وصفه: كان فرد دهره، وشمس عصره أدباً وفضلاً، وكرماً ومجداً وبلاغة وبراة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة. والفخامة والحلاوة ومعه ذو الطبع وسمة الظرف وعزة الملك ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان ابن عباد يقول بدىء الشعر بملك، وختم بملك، يعني امرىء القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه، ولا يمتري لمماراته، ولا يجتزي لمجازاته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان، إعظاماً وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً، وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام على سائر قومه، ويستصحبه في غزواته، ويستخلفه في أعماله. وكانت الروم أسرته في بعض وقائعها، وهو جريح قد أصابه سهم، بقي نصله في فخذه، وأقام في الأسر أربع سنين في قسطنطينية، وأسرته الروم مرة قبلها، وذهبوا إلى قلعة يجري الفرات تحتها ويقال أنه ركب فرسه، وركض برجله، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات. وقيل أنه لما مات سيف الدولة عزم على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام لأبيه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات فمات في الطريق، وقيل: بل مات من حرب بينه وبين موالي أسرته، وقال بعضهم: كان أبو فراس خال أبي المعالي، فقلعت أم أبي المعالي عينها، لما بلغها وفاته، وقيل: بل لطمت وجهها فقلعت عينها. وقيل: بل قتله غلام سيف الدولة، ولم يعلم أبو المعالي، فلما بلغه الخبر

ثمان وخمسين وثلاث مائة

شق عليه. والله تعالى أعلم أي ذلك كان. وله ديوان شعر من جملته قوله: قد كنت عدتي التي أسطو فيها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرب بالزلال البارد وله: أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب يعددني الواشون منه ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب وله: ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر وله: كانت مودة سلمان له نسباً ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم ثمان وخمسين وثلاث مائة فيها كان خروج الروم من الثغور، فأغاروا وقتلوا وسبوا، ووصلوا إلى حمص، وعظم المصائب، وجاءت المغاربة مع القائد جوهر المغربي، وأخذوا ديار مصر، وأقام الدعوة لبني عبيد الرافضة، مع أن الدعوة بالعراق في هذه المدة رافضية، وشعارهم قائم يوم عاشوراء ويوم الغدير، وستأتي قصة القائد جوهر المذكور، إن شاء الله تعالى. وفيها توفي ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجا، عبد الله بن حمدان التغلبي، صاحب الموصل. وكان أخوه سيف الدولة يتأدب معه لسنة ومنزلته عند الخلفاء، وكان هو كثير المحبة لسيف الدولة، فلما توفي حزن عليه ناصر الدولة، وتغيرت أحواله، وضعف عقله، فبادره ولده أبو ثعلب الغضنفر، عمدة الدولة، فحبسه في حصن السلامة، ومنعه من التصرف، وقام بالمملكة، ولم يزل ناصر الدولة معتقلاً إلى أن مات. وفيها توفي أبو القاسم زيد بن علي العجل العجلاني الكوفي، شيخ الإقراء ببغداد. وفيها توفي محدث دمشق محمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، وكان ثقة مأموناً جواداً مفضلاً، أخرج له الحافظ ابن منده ثلاثين جزءاً.

تسع وخمسين وثلاثين ومائة

تسع وخمسين وثلاثين ومائة فيها توفي الفقيه الإمام الشافعي أحمد بن محمد المعروف بابن القطان، أخذ الفقه عن ابن سريج، ثم من بعده عن أبي إسحاق المرزوي، وأخذ عنه العلماء، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه، انتهت إليه الرياسة. وفيها توفي الفقيه مسند أصفهان، أحمد بن بندار السفار، وأحمد بن يوسف بن خلاد النصيبيني. وفيها توفي المحدث الحجة أبو علي بن الصواف البغدادي، قال الدارقطني: ما رأت عيناي مثله ومثل آخر بمصر. ستين وثلاث مائة فيها لحق المطيع فالج أبطل نصفه وأثقل لسانه. وأقامت الشيعة عاشوراء باللطم والعويل والأنواح، وعيد الغدير بالكوسات واللهو والأفراح. وفيها توفي جعفر بن الكثامي بضم الكاف وبعدها مثلثة الذي ولي دمشق للباطنية، وهو أول نائب وليها لبني عبيد وكان أحد قواد المعز العبيدي، وكان قد سار إلى الشام، فأخذ الرملة ثم دمشق، بعد أن حاصر أهلها أياماً، ثم قدم لحربه الحسن بن أحمد القرمطي الذي تغلب قبله على دمشق وكان جعفر مريضاً فأسره القرمطي وقتله. وكان رئيساً جليل القدر ممدوحاً. وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسي الشاعر المشهور: كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح طيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري قلت: وبعضهم يرويه بأطيب، وبعضهم يقول عن أحمد بن سعيد أعني: الممدوح والناس يقولون هما لأبي تمام. قال ابن خلكان: هو غلط، بل هما لمحمد بن هانىء المذكور، وقال يرويهما عن أحمد بن سعيد وداود وليس كذلك بل عن جعفر بن فلاح. انتهى. وفيها توفي الحافظ العلم مسند العصر أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب

اللخمي الطبراني في ذي القعدة بأصبهان، وله مائة سنة وعشرة أشهر، وكان ثقة صدوقاً، واسع الحفظ، بصيراً بالعلل والرجال والأبواب، كثير التصانيف. وأول سماعاته بطبرية، ثم رحل إلى القدس، ثم إلى حمص وجبلة ومدائن الشام. وحج ودخل اليمن، ورد إلى مصر، ثم رحل إلى العراق وأصفهان وفارس. وروى عن أبي زرعة الدمشقي وغيره من تلك الطبقة. وفيها توفي الحافظ أبو عمرو بن مطر النيسابوري، وكان متعففاً قانعاً باليسير، يحيي الليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويجتهد في متابعة السنة. وفيها توفي الآجري محمد بن الحسين البغدادي الفقيه المحدث، كان صالحاً عابداً. روى عن جماعة، منهم أبو شعيب الحراني، وأحمد بن يحيى الحلواني، والفضل بن محمد الجندي " بفتح الجيم والنون " وخلق كثير. وصنف في الحديث والفقه كثيراً، وروى عنه جماعة من الحفاظ، منهم: أبو نعيم الأصفهاني صاحب كتاب " حلية الأولياء "، جاور بمكة وتوفي بها. وقيل أنه لما دخلها أعجبته فقال: اللهم ارزقني الإقامة بها سنة، وسمع هاتفاً يقول له: بل ثلاثين سنة، فعاش بها ثلاثين سنة، ثم توفي رحمه الله. وفيها توفي أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي الشريف لما أخذ العبيديون دمشق، ثم قام هذا الشريف، وقام معه أهل الغوطة والسبات، واستفحل أمره في ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وطرد عن دمشق متوليها، ولبس السواد، وأعاد الخطبة لبني العباس، فلم يلبث إلا أياماً حتى جاء عسكر المغاربة، وحاربوا أهل دمشق، وقتل بين الفريقين جماعة، ثم هرب الشريف في الليل، وصالح أهل البلد العسكر، وأسر الشريف عند تدمر، أسره جعفر بن فلاح على جمل، وبعث به إلى مصر. وفيها توفي الشيخ العارف أبو الحسن بن سالم البصري، وكان له أحوال ومجاهدات، وعنه أخذ الأستاذ الشيخ العارف أبو طالب المكي صاحب القوت وأبو الحسن المذكور آخر أصحاب شيخ الشيوخ العارفين سهل بن عبد الله التستري وفاة. وفيها توفي الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين، المعروف بابن العميد. كان وزير.

إحدى وستين وثلاث مائة

ركن الدولة ابن بويه، وكان متوسعاً في علوم الفلسفة والأجرام، وإمام الأدب والترسل، فلم يقاربه فيه أحد في زمانه، وكان كامل الرئاسة، جليل المقدار. ومن بعض أتباعه الصاحب ابن عباد، ولأجل صحبته قيل له: الصاحب، وكانت له في الرئاسة اليد البيضاء، وفي براعته في الكتابة قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقصده جماعة من مشاهير الشعراء بالمدائح، منهم المتنبي، مدحه بقصيدته التي أولها: باد هواك صبرت أو لا تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى وقلت وفي إعراب قافية هذا البيت وقع بحث، وحاصله أن الألف هنا منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار. ولما مات ابن العميد رتب ركن الدولة مكانه ابنه ذا الكتابتين: أبا الفتح علياً، وكان جليلاً نبيلاً ثرياً. ثم قبض عليه ركن الدولة في آخر الأمر، وصادره حتى بلغة عتاب العذاب. نسأل الله تعالى العافية من غرور الدنيا، وما فتنت به كل مصاب. وفيها توفي الحافظ أبو محمد الرامهرمزي والجابري عبد الله بن جعفر الموصلي. وفيها توفي أبو عبد الرحمن: عبد الله بن عمر المروزي الجوهري، محدث مرو. وفيها توفي أبو جعفر الدراوردي محمد بن عبد الله بن بردة. حدث بهمدان. إحدى وستين وثلاث مائة فيها أخذ ركب العراق، اعترضته بنو هلال، وقتلوا خلقاً. وبطل الحج إلا طائفة نجت، ومضت مع أمير الركب الشريف أبي أحمد الموسوي، والد الشريف المرتضى. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله: محمد بن الحارث بن أسد الخشني القيرواني مصنف " كتاب الاختلاف والافتراق " في مذهب مالك و " كتاب الفتيا " و " كتاب تاريخ الأندلس "، و " كتاب تاريخ إفريقية "، و " كتاب النسيب ". اثنتين وستين وثلاث مائة فيها توفي عالم البصرة الإمام الكبير أبو حامد المروزي: أحمد بن عامر الشافعي

صاحب التصانيف، وصاحب أبي إسحاق المروزي. تفقه به أهل البصرة. وفيها توفي أبو إسحاق المزكي النيسابوري قال الحاكم: هو شيخ نيسابور في عصره، وكان من العباد المجتهدين المحاجين المنفقين على العلماء والفقراء، وكان مثرياً متمولاً، دفن بنيسابور. وفيها توفي الأمير الأديب الممدوح بمقصورة ابن دريد: إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكائيل. وفيها توفي أبو جعفر البلخي الهندواني، الذي كان من براعته في الفقه يقال له أبو حنيفة الصغير. توفي ببخارى، وكان شيخ تلك الديار في زمانه. وفيها توفي ابن فضالة المحدث الأموي، مولاهم الدمشقي. وفيها توفي حامل لواء الشعر بالأندلس أبو الحسن محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور. قيل: إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقيل: بل هو من ولد أخيه روح، وكان أبوه هانىء من قرية من قرى المهدية بإفريقية. وكان شاعراً أديباً، فانتقل إلى الأندلس، فولد بها محمد المذكور بمدينة أشبيلية، ونشأ بها واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب، وعمل الشعر فمهر فيه. وكان حافظاً أشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب أشبيلية، وحظي عنده. وكان منتهكاً للحرمات منهمكاً في اللذات، متهماً بالعقائد الفلسفيات. ولى اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل أشبيلية، وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضاً، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة، ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاماً. وحديثه طويل، وخلاصته أنه خرج فلقي جوهراً القائد، مولى المنصور، فامتدحه، ولم يزل يرحل ويمتدح ولاة الأمر إلى أن نمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي، ما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه، ثم توجه المعز إلى الديار المصرية كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فشيعه ابن هانىء المذكور، ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه. فلما وصل إلى برقة، أضافه شخص من أهلها، فأقامه عنده أياماً في مجلس الأنس، فيقال أنهم عربدوا عليه، فقتلوه، وقيل: خرج من تلك الدار وهو سكران، فنام في

الطريق، وأصبح ميتاً ولم يعرف سبب موقه. وقيل أنه وجد في ساقية من سواقي برقة مخنوقاً بتكة سرواله، وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وأربعون سنة رحمه الله هكذا قيده صاحب كتاب أخبار القيروان، وأشار إلى أنه كان في صحبة المعز، وهو مخالف لما ذكرته أولاً من تشيعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته بمصر أسف عليه كثيراً وقال: هذا الرجل كنانة جود إن تفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك. وله في معز عزيز المدائح ونحت الشعر، فمن ذلك قصيدته النونية التي أولها: هل من أعتقه عالج بيرين ... أم منهما بقر الحدوج العين ولمن ليالي باذ منا عهدها ... مذكر إلا أنهن شجون والمشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون أومى لها المجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون قلت قوله: الحدوج المراد بالحدوج هنا جمع: حدج وهو مركب من مراكب النساء مثل المحفة. قال ابن خلكان: وديوانه كبير، ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس للمغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه. قال: ويقال أن أبا العلاء المعري، كان إذا سمع شعره يقول: ما أشبهه إلا برحى يطحن قروناً، لأجل القعقعة في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ. قال: ولعمري ما أنصفه في هذا المقال وما حمله على هذا إلا فرط تعصبه للمتنبي، قال: وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم، والله أعلم، انتهى. وقال في أول ترجمته " أبو نواس الأندلسي " فكناه بكنية أبي نواس الحسن بن هانىء الحكمي العراقي، وهذا محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي، فقد اتفقا في اسم الأبوين، وهو هانىء، وقد يتوهم من لا يدري التاريخ والنسب أنهما أخوان، كما ذكر ذلك في بعض الناس فيما مضى متوهماً لاتفاق اسم الأبوين، أو مقلداً متوهماً، ولو اطلع على التاريخ لعلم بطلان ذلك، فإن هذا المغربي توفي في سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، وذلك المشرقي توفي في سنة ست وتسعين ومائة، فبينهما مائة وست وستون سنة، والأخوان لا يتباعد ما بينهما هذا التباعد في مثل زمانهما، هذا من حيث التاريخ.

ثلاث وستين وثلاث مائة

وأما من حيث النسب، فلما ذكروا أن المغربي أزدي، والمشرقي حكمي، ولعل ابن هانىء المغربي المذكور وهو الذي وقع بينه وبين المتنبي ما يحكى من القصة العجيبة عنده وصوله إلى قابس لمدح صاحب الإفريقية. وقد ذكرتهما في آخر علم البديع من كتاب منهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم فإن الشاعر الذي ذكروا أنه رد المتنبي عن ملاقاة صاحب الأندلس، ومدحه بالجملة التي ذكرها داهية في المكر، فإنه حكى أن المتنبي لما خيم بإزاء قصره في زي أمير في الحشمة والغلمان والخدم والخيل والأتباع والحشم، فزع صاحب قابس من ذلك، وسأل عنه، فلما قيل له: إنه شاعر أتى ليمدحك، كره ذلك وقال: أي شيء يرضي صاحب هذه الهيئة، ويقنعه من الجائزة؟ فقال شاعره أنا أرده عنك، وغالب ظني أنهم قالوا إنه ابن هانىء، فقال له. بأي وجه ترده عني. فقال: بوجه جميل، فقال: افعل فأخذ شاة رديئة ولبس لباس بدوي، وجعل يقود الشاة متوجهاً إلى جهة منزل المتنبي، وهو في مخيم كأنه مخيم أمير، فلما قرب منه قال: طرقوا إلى الأمير، فصاروا يضحكون عليه، ويتعجبون منه. فلما وصل إليه وهو يقود الشاة في تلك الهيئة التي اتصف هو وشاته بها ضحك منه، هو ومن حوله، وقال له: ما هذه الشاة؟ قال: هذه جائزتي من الملك. قال: جائزة؟ فال: نعم، قال: جائزة علام ذا. قال: على مدحي له. فتعجب من ذلك وقال: عسى أن تكون جائزته على قدر مدحه، ثم قال له: أسمعني مدحك له، كيف قلت فيه؟ قال: قلت: ضحك الزمان وكان قدماً عابساً ... لما فتحت يجد عزمك قايسا أنكحتها عذراء وما أمهرتها ... إلا فتى وصوارماً وفوارسا من كان بالسمر العوالي خاطباً ... جلبت له بيض الحصون عرائسا فتحير المتنبي عند سماع شعره وقال: أنا ما أقدر أقول مثل هذا الذي أجازك عليه بهذه الشاة، فارتحل راجعاً من حيث جاء، هكذا حكى لي بعض أهل الخير ممن له إلمام ومعرفة ببعض الشعراء من جهة المغرب، أو ما يقرب منها، بهذا اللفظ أو ما يقرب منه معناه. ولكن ما رأيت أحداً من المؤرخين ذكر للمتنبي دخولاً إلى بلاد المغرب. والله أعلم. ثلاث وستين وثلاث مائة فيها ظهر ما كان المطيع يستره من الفالج، فثقل لسانه، فدعا حاجب السلطان

أربع وستين وثلاث مائة

عز الدولة إلى خلع نفسه، وتسليم الخلافه لولده الطائع لله، ففعل ذلك، وأتيت على خلعه قاضي القضاة. وفيها أقيمت الدعوة بالحرمين للمعز العبيدي، وقطعت خطبة بني العباس، ولم يحج ركب العراق لأنهم وصلوا إلى بعض الطريق، فرأوا هلال ذي الحجة، وأعلموا أن الماء معدوم قدامهم، فعدلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزاروا، ثم رجعوا. وفيها توفي الحافظ أبو الحسين الشهيد محمد بن أحمد بن سهل الرملي، سلخه صاحب مصر المعز، وكان قد قال: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ورميت بني عبيد بتسعة، فبلغت القائد جوهراً، فلما ظفر به قرره، فاعترف وأغلظ لهم، فقتلوه، وكان عابداً صالحاً زاهداً قوالاً بالحق. وفيها توفي الحافظ محدث الشام أبو العباس محمد بن موسى السمسار الدمشقي. وفيها توفي صاحب المعز العبيدي وقاضيه النعمان بن محمد، المكنى بأبي حنيفة، كان من أوعية العلم والفقه والدين والنقل، على ما لا مزيد عليه، كذا ذكر بعض المؤرخين وغير ذلك، وذكر بعض المؤرخين أنه كان في غاية الفضل من أهل القرآن، والعلم بمعانيه، وعالماً بوجوه الفقه، وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف، وألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف، وأملح أسجع، وعمل في المناقب والمثالب كتاباً حسناً، وله ردود على المخالفين لأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن شريح وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وقصيدة فقهية. وكان ملازماً صحبة المعز، ووصل معه إلى الديار المصرية أول دخوله إليها من إفريقية، ولما مات صلى عليه المعز. أربع وستين وثلاث مائة فيها أو بعدها ظهرت العيارون واللصوص ببغداد، واستفحل شرهم حتى ركبوا الخيل، وتلقوا بالقواد، وأخذوا الضريبة من الأسواق والدروب، وعم البلاء وفيها قطعت خطبة الطائع لله ببغداد خمسين يوماً، فلم يخطب لأحد، لأجل شعث وقع بينه وبين عضد الدولة عند قدومه العراق، فإن عضد الدولة قدم من شيراز، فأعجبته مملكة العراق فاستمال الأمراء، وجرت أمور يطول ذكرها.

خمس وستين وثلاث مائة

وفيها توفي الحافظ أبر بكر ابن السني الدينوري، صاحب كتاب عمل اليوم والليلة، رحل وكتب الكثير، وروى عن النسائي وأبي حنيفة وطبقتهما، وبينما هو يكتب، وضع القلم، ورفع يديه يدعو الله تعالى، فمات. وفيها توفي المطيع لله الفضل بن المقتدر: جعفر بن المعتضد العباسي. والأمير جعفر بن علي بن أحمد بن حمدان الأندلسي، كان شيخاً كثير العطاء مؤثراً لأهل العلم، وفيه يقول الشاعر محمد بن هانىء الأندلسي: المدنقان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابلي أجور والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير جعفر قلت وقوله هذا استقي من منهل الشاعر، ويستدل بنجوم نظمه الزواهر في قوله: هو في آفاق الأسهار سائر ... ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر خمس وستين وثلاث مائة فيها توفي الشيخ الكبير إسماعيل بن نجيد الإمام النيسابوري، شيخ الصوفية بخراسان، أنفق أمواله على الزهاد والعلماء، وصحب الجنيد وأبا علي عثمان الحيري، وسمع إبراهيم بن محمد البوشنجي، وأبا مسلم الكجي وطبقتهما، وكان صاحب أحوال ومناقب. وفيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث أبو علي الماسرجسي، رحل إلى العراق ومصر والشام. قال الحاكم: هو سفينة عصره في كثير الكتاب، صنف المسند الكبير مذهباً معللاً، جمع حديث الزهري جمعاً لم يسبق إليه، وكان يحفظه مثل الماء. وصنف كتاباً على البخاري وآخر على مسلم. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو أحمد عبد الله بن محمد بن القطان الجرجاني، مصنف الكامل في الجرح.

وفيها توفي الحاكم أبو عبيد الله وفي ست وستين عند السمعاني، وفي ست وثلاثين عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وفيها توفي الإمام النحرير الفاضل الشهير المعروف بالقفال الكبير، الشاشي، الفقيه الشافعي، إمام عصره بلا منازع، وفريد دهره بلا مدافع، صاحب المصنفات المفيدة والطريقة الحميدة. كان فقيهاً محدثاً أصولياً لغوياً شاعراً، لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته، رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء، وله كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده روى عن أكابر من العلماء. منهم: الإمامان الكبيران محمد بن جرير الطبري، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأقرانهما، وروى عنه جماعة من الكبار، منهم: الحاكم، وأبو عبد الله بن منذر، وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم. قلت وهذا القفال الشاشي المذكور، قد يثبه على بعض الناس بقفال وشاشي آخرين، وها أنا ذا أوضح ذلك أيضاً بالغاً مما أوضحت ذلك في نظيره في الثلاثة النحويين المسمين بالأخفش. اعلم أنهم ثلاثة قفال شاشي: وهو هذا، وقد ذكرنا عن من أخذ ومن أخذ عنه، وهو والد القاسم صاحب كتاب " التقريب "، وقيل إنه صاحب " كتاب التقريب " لا ولده، وللشك في ذلك يقال: قال صاحب التقريب، وأبو حامد الغزالي قال في كتاب الرهن: لما ذكر صاحب التقريب قال: أبو القاسم، فغلطوه في ذلك وقالوا: صوابه القاسم، والتقريب المذكور قليل الوجود في أيدي الناس، وهناك تقريب آخر يكثر وجوده في أيدي الناس، وهو لسليم، وبه تخرج فقهاء خراسان. والشاشي بشينين معجمتين بينهما ألف نسبة إلى الشاش مدينة وراء النهر سيحون - خرج منها جماعة من العلماء. وإذا علم أن القفال هو الشاشي، فاعلم أن هناك قفالاً آخر شاشي وشاشياً، غير قفال. وثلاثتهم يكنون بأبي بكر، ويشترك اثنان منهم في اسمهما دون اسم أبيهما، واثنان في اسم أبيهما. فالقفال غير الشاشي هو القفال المروزي، وهو عبد الله بن أحمد، وعنه أخذ القاضي حسين والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع عشرة وأربع مائة.

والشاشي غير القفال هو فخر الإسلام محمد بن أحمد، مصنف المستظهري شيخ الشافعية في زمانه. تفقه على محمد بن بنان الكازروني، ثم لزم الشيخ أبا إسحاق وابن الصباغ ببغداد، وصنف وأفتى، وولي تدريس النظامية، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمسمائة التي توفي فيها. فهذا الكلام فيهم قد أوضحته جداً حتى عن حد البيان تعدى. والقفال الشاشي المذكور في سنة خمس وستين وثلاثمائة، المذكور صاحب وجه في المذهب، وممن نبه على الخلاف في أن كتاب التقريب له أو لولده الإمام العجلي، وشرح مشكلات الوجيز والوسيط، ذكر ذلك في " كتاب التيمم ". قلت: وإنما بسطت الكلام في هذا، وخرجت إلى الإسهاب الخارج عن مقصود الكتاب، لاحتمال أنه اتفق عليه من يحتاج إليه من الفقهاء. ونسأل الله تعالى التوفيق وسلوك الطريق الصواب. وقال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره، وفي وفاته اختلاف. وفيها توفي المعز لدين الله: أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي، صاحب المغرب والديار المصرية. ولما افتتح مولاه جوهر سجلماسة مع فاس، وسعه إلى البحر المحيط، وخطب له في بلاد المغرب، وبلغه موت كافور الاخشيذي صاحب مصر، جهز جوهر المذكور الجيوش والأموال، قيل خمسمائة ألف دينار، أنفقها على جميع قبائل المغرب حتى البربر، فأخذ الديار المصرية، وبنى مدينة القاهرة المغربية، وكان مستظهراً للتشيع، معظماً لحرمة الإسلام، حليماً كريماً، وقوراً حازماً سرياً، يرجع إلى إنصاف مجرى الأمور على أحسن أحكامها. ولما كان منتصف شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة، وصلت البشارة بفتح الديار المصرية، ودخول عساكره إليها، وانتظام الحال بمصر والشام والحجاز، وإقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسر بذلك سروراً عظيماً، واستخلف على إفريقية، وخرج متوجهاً إلى ديار مصر بأموال جليلة المقدار، ورجاء عظيمة الأخطار، فدخل الإسكندرية لست بقين من شعبان من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وركب فيها ودخل الحمام. وقدم عليه قاضي مصر أبو طاهر، وأعيان أهل البلاد، وسلموا عليه، وجلس لهم عند المنارة، وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم أنه لم يرد فيه بدخول مصر لزيادة مملكته وللمال، وإنما أراد إقامة الحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة،

ست وستين وثلاثمائة

ويعمل بما أمره به جده صلى الله عليه وآله وسلم. ووعظهم حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة، وحملهم، ثم ودعوه وانصرفوا. ورحل منها في أواخر شعبان، ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة على جزيرة ساحل مصر، فخرج إليه القائد جوهر، وترجل عند لقائه، وقبل الأرض بين يديه، وأقام هناك ثلاثة أيام، ثم رحل ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زينت له، وظنوا أنه يدخلها وأهل القاهرة لم يستعدوا للقائه لظنهم أنه يدخل مصر أو لا يدخلها ولما دخل القاهرة دخل القصر، ثم دخل مجلساً منه، وخر فيه ساجداً لله عز وجل، ثم صلى فيه ركعتين، وانصرف الناس عنه، وفي يوم الجمعة لثالث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين وثلاثمائة، عزل المعز القائد جوهراً عن داود بن مصر وجباية أموالها ومما ينسب إلى المعز من الشعر: لله ما صنعت بنا تلك المحاجر ... أمضى وأقضى في النفوس من الحناجر ولقد تعبت بينكم تعب المهاجر في الهواجر وكانت ولادته بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر، من السنة المذكورة بالقاهرة المشهورة. ست وستين وثلاثمائة فيها حجت جميلة بنت الملك ناصر الدولة بن حمدان، وصار حجها يضرب به المثل، فإنها أغنت المجاورين، وقيل كان معها أربعمائة كجاوة لا يدرى في أيها هي، لكونهن كلهن في الحسن والزينة يشتبهن، ونثرت على الكعبة لما دخلتها عشرة آلاف دينار. وفيها مات ملك القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد القرمطي، الذي استولى على أكثر الشام، وهزم جيش المعز، وقتل قائدهم جعفر بن فلاح، وذهب إلى مصر، وحاصرها شهراً قبل مجيء المعز، وكان يظهر الطاعة للطائع لله، وله شعر وفضيلة، ولد بالأحساء ومات بالرملة. وفيها توفي ابن المرزبان أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي الفقيه الشافعي، كان فقيهاً ورعاً من جملة العلماء. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن القطان، وعنه أخذ الشيخ أبو حامد الأسفراييني أول قدومه بغداد.

وحكي عنه أنه قال: ما أعلم أن لأحد علي مظلمة. ومفهومه أنه لم يغتب أحداً. إذ الغيبة من جملة المظالم. درس ببغداد، وله وجه في المذهب الشافعي، ومعنى المرزبان بكسر الراء وضم الزاي: صاحب الجد، وهو لفظ فارسي، في الأصل اسم من كان دون الملك. وفيها توفي المستنصر بالله أبو مروان صاحب الأندلس عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني. وكان مشغوفاً بجمع الكتب والنظر فيها، بحيث أنه جمع منها ما لم يجمعه أحد قبله ولا بعده حتى ضاقت خزائنه. وفيها توفي القاضي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الشافعي. كان فقيهاً أديباً شاعراً، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " وقال: له ديوان شعر، وهو القائل: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما من قصيدة له طويلة، وذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال: هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، وقبة تاج الأدب، وفارس عسكر الشرع، مجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري. وقد كان في صباه اقتبس من العلوم والأدب، ما صار به في العلوم علماً وفي الكمال عالماً، ومن شعره: وقال توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين الحال شبان حرما ... علي الغنى: نفس الأبية والفقر إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها الضرر وله في الصاحب بن عباد: ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم تنتفع باحتشادها سبقت بأفراد المعاني وألفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها فإن نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على مسروقها ومعادها وله فيه يهنئه بالعافية: وفي كل يوم للمكاره روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب تقسمت العلياء جسمك كله ... فمن أين للأسقام فيك نصيب إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفس تحيى بها وقلوب

سبع وستين وثلاثمائة

وله: ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا ليس شيء أعز عندي من العلم ... فما أبتغي سواه أنيسا إنما الذل في مخالطة الناس ... فدعهم وعش عزيزا رئيسا قال ابن خلكان: وشعره كثير، وطريقه سهل، وله " كتاب الوساطة " بين المتنبي وخصومه، أبان فيه من فضل عزيز، وإطلاع كثير، ومادة متوفرة. وفيها توفي الرجل الصالح المقرىء أبو الحسن محمد النيسابوري السراج. قال الحاكم: قل من رأيت أكثر اجتهاداً وعبادة منه. توفي يوم عاشوراء رحمه الله. سبع وستين وثلاثمائة فها توقني الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو القاسم النصرأباذي، شيخ الصوفية والمحدثين في خراسان صحب الشبلي وأبا علي الروذباري، وسمع ابن خزيمة وابن صاعد وكان صاحب فنون من الفقه والحديث والتاريخ وعلم سلوك الصوفية. وحج وجاور بمكة سنتين، ومات بها قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا القاسم النصرأباذي يقول: إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا تلتفت معه إلى جنة، ولا إلى نار، فإذا رجعت عن تلك الحال، فعظم ما عظمه الله تعالى. وقيل أن بعض الناس يجالس النسوان، ويقول: أنا معصوم في رؤيتهن، فقال: ما دامت الأشباح باقية فالأمر والنهي باق أو قال: باقيان والتحليل والتحريم مخاطب به. وقال: التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتحريم حرمات المشايخ، وروية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات. وفيها توفي معز الدولة الديلمي، والغضنفر عمدة الدولة ابن الملك ناصر الدولة بن حمدان. وفيها توفي القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة " بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها عين مهملة " البغدادي قاضي السندية " بكسر

السين والدال المهملتين وسكون النون بينهما وتشديد الياء المثناة من تحت وبعدها هاء " وهي قرية بين بغداد والأنبار، وينسب إليها سندواني، ليحصل الفرق بين هذه النسبة والنسبة إلى بلاد السند المجاورة لبلاد الهند. وقال ابن خلكان: وكان من أحد عجائب الدنيا في سرعة البداهة بالجواب في جميع ما يسأل عنه، في أصح لفظ وأملح سجع، وله مسائل وأجوبة مدونة في كتاب مشهور بأيدي الناس. وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يلاعبونه، ويكتبون إليه بالمسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب، من غير توقف ولا تلبث، مطابقاً لما سألوه، وكان الوزير أبو محمد المهلبي، يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية على معان شتى من النوادر الظريفة، ليجيب عنها بتلك الأجوبة. فمن ذلك ما كتبه إليه العباس بن المعلى الكاتب، ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولداً جسمه للبشر، ووجهه للبقر وقد قبض عليها فيما يرى القاضي فيهما؟ فكتب جوابه بديهاً، هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود بأنهم أشربوا حب العجل في صدورهم؟ حتى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهود رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض والسلام. ولما قدم الصاحب بن عباد إلى بغداد، حضر مجلس الوزير أبي محمد المهلبي وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم تعجبه، فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتاباً يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خفتها، يمنع من ذكرها، إلا أني استظرفت من كلامه، وقد سأله كهل بيطار بحضرة الوزير أبي محمد عن حد القفاء، فقال: ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وأدبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك، فهذه حدود أربعة وجميع مسائله على هذا الأسلوب، وقوله: جربانك " هو لفظ فارسي بضم الجيم والراء وتشديد الموحدة وبالنون بين الألف والكاف ": لينة الثوب، وهي: الخرقة العريضة التي فوق القب تستر القفا. قال ابن خلكان: ولولا خوف الإطالة لذكرت جملة منها، وقد سرد محمد بن شرف القيرواني الشاعر المشهور، في كتابه الذي سقاه " أبكار الأفكار " عدة مسائل، وجواباتها من هذه المسائل. وفيها توفى ابن قوطية محمد بن عمر الأندلسي. كان منا أعلم زمانه باللغة

ثمان وستين وثلاثمائة

والعربية، وكان مع ذلك حافظاً للحديث والفقه والخبر والنوادر، راوياً للأشعار والآثار، لا يلحق شاوه، ولا يشق غباره، روى عنه الشيوخ والكهول. وكان قد لقي مشايخ عصره بحضرة الأندلس، وأخذ عنهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة، منها كتاب " تصاريف الأفعال " وهو الذي فتح هذا الباب، فجاء من بعده ابن القطاع، ولقد أعجز من يأتي بعده وفاق من تقدمه، وكان مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر، صحت الألفاظ واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، إلا أنه ترك ذلك ورفضه. حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة، فصادف ابن القوطية المذكور صادراً عنها وكانت له أيضاً هناك ضيعة، قال: فلما رآني خرج علي واستبشر بلقائي، فقلت له على البداهة مداعباً له: من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس، والدنيا له فلك قال فتبسم وأجاب بسرعة: من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا قال: فما تمالكت أن قبلت يده، إذ كان شيخي، ومجدته، ودعوت له و " القوطية " " بضم القاف وسكون الواو وكسر الطاء المهملة وتشديد المثناة من تحت وبعدها هام " جدة جد نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، وقوط أبو السودان والهند والسند، وكانت القوطية المذكورة وفدت إلى هشام بن عبد الملك في الشام متظلمة من عمها، فتزوجها عيسى بن مزاحم، وسافر بها إلى الأندلس. ثمان وستين وثلاثمائة فيها توفي أبو سعيد الحسين بن عبيد الله. وقال بعضهم: ابن عبد الله بن المرزباني السيرافي النحوي. كان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح كتاب سيبويه، وأجاد فيه، وشرح مقصورة ابن دريد، وله تصانيف أخرى، وتصدر لإقراء القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافي، وكان نزهاً عفيفاً جميل

السيرة حسن الأخلاق، رأساً في النحو، قرأ القراءات على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على ابن السراج. وكان ورعاً يأكل من النسخ، وينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه. يذكر عنه الاعتزال، ولم يظهر منه، والله أعلم به، وكان كثيراً ما ينشد في مجلسه. أسكن إلى سكن تسربه ... ذهب الزمان وأنت منفرد ترجو غداً وغدا كحاملة ... في الحي لا يدرون ما تلد وكان بينه وبين أبي الفرج صاحب الأغاني ما جرت به العادة من التنافس بين الفضلاء، فعمل فيه أبو الفرج شعراً ذكره ابن خلكان كرهت ذكره: والسيرافي بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحت وبعد الراء والألف فاء نسبة إلى مدينة سيراف. وفيها توفي الشيخ الزاهد العائد أبو أحمد محمد بن عيسى النيسابوري، راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان. قال الحاكم: هو من كبار عباد الصوفية، يعرف مذهب سفيان وينتحله. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن محمد النيسابوري، الحافظ المقرىء العبد الصالح الصدوق. سمع بمصر والشام والعراق وخراسان، وصنف في العلل والشيوخ والأبواب. قال الحاكم: صحبته نيفاً وعشرين سنة، فما أعلم أن الملك كتب عليه خطيئة. وفيها وردت الدعوة العباسية على يد بعض أهل الدولة من العراقين، حارب المصريين والتقى هو وجوهر العبيدي، فانكسر جوهر، وذهب إلى مصر، وصادف العزيز صاحب مصر قد جاء في نجدته، فرد معه، فالتقاهم عسكر العراق، فأخذوا مقدمه أسيراً، ثم من عليه العزيز، وأطلقه. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن محمد بن نقية، وزير عز الدولة بن بويه. وكان من جملة الرؤساء، وأكابر الوزراء، وأعيان الكرماء، وكان قد حمل عز الدولة على محاربة ابن عمه عضد الدولة، فالتقيا على الأهواز، وكسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته. وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة. أقام على الأهواز خمسين ليلة ... يدبر أمر الملك حتى تدمرا فدبر أمراً كان أوله عمى ... وأوسطه بلوى وآخره خسرا ولما قبض عليه سمل عينيه، فلزم بيته، ثم إنه طلبه بعد ذلك، ورماه بين أرجل

تسع وستين وثلاثمائة

الفيلة فمات من ذلك ولم يزل مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه، فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري: لم يلحقوا بك عاراً إذا صلبت بلى ... بأؤا بمنك ثم استرجعوا ندما واتفقوا أنهم في فعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤدد علما فاسترجعوك وواروا منك طودعلا ... بدفنه دفنوا الأفضال والكرما لئن بليت لما تبلى بذاك، ولا ... تنسى، وكم هالك ينسى إذا قدما تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ... ما زال مالك بين الناس منقسما تسع وستين وثلاثمائة فيها توفي الشيخ الكبير أبو عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري، شيخ الصوفية، نزيل صور، شيخ الشام في وقته. وفيها توفي الإمام الكبير أبو سهل الصعلوكي: محمد بن سليمان النيسابوري الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان. قال فيه الحاكم: أبو سهل الصعلوكي الشافعي اللغوي المفسر النحوي المتكلم المفتي الصوفي خير زمانه، وبقية أقرانه. " ولد " سنة تسعين ومائتين، واختلف إلى ابن خزيمة، ثم إلى أبي علي الثقفي، وناظر، وبرع، وسمع من أبي العباس السراج وطبقته، ولم يبق موافق ولا مختلف إلا أفر بفضله وتقدمه. وحضره المشايخ مرة بعد أخرى، ودرس، وأفتى في نيسابور وأصفهان وبلاد شتى، وقال الصاحب بن عباد: ما رأى أبو سهل مثل نفسه، ولا رأينا مثله. قلت: لأبي سهل مناقب كثيرة، وفضائل شهيرة، ذكرت شيئاً منها في " الشاش المعلم شاوش كتاب المرهم ". وفي السنة المذكورة توفي النقاش المحدث الحافظ غير المقرىء. سنة سبعين وثلاثمائة فيها رجع عضد الدولة من همدان، فلما قرب من بغداد بعث إلى الخليفة الطائع لله أن يتلقاه، فما وسعه التخفف لضعف الخلفاء حينئذ، وقوة المملوك المتصرفين في البلدان. وما جرت عادة بذلك قط، أي بلقاء الخلفاء لهم، قال قبل دخوله من تكلم أو دعا له قتل.

فما نطق مخلوق. قلت: هكذا أطلق بعضهم، ولم يبين من هو القابل ذلك منهما، هل نهى عضد الدولة أن يدعى للخليفة؟ أو نهى الخليفة أن يدعى لعضد الدولة. في ذلك احتمالان آخران: أحدهما أن يكون نهى الخليفة عن الدعاء لنفسه خوفاً أن يغار عضد الدولة، ويظهر منه غيظ وغضب. والثاني أن يكون الناهي هو عضد الدولة، نهى أن يدعى له تواضعاً للخليفة. والله أعلم بحقيقة ذلك، أيهما كان هو الناهي عن أن يدعى لنفسه. فقد أحسن في ذلك. وفي السنة المذكورة توفي شيخ الحنفية ببغداد الفقيه أحمد بن علي صاحب أبي الحسن الكرخي، وإليه انتهت رئاسة المذهب. وكان مشهوراً بالزهد والدين، عرض عليه قضاء القضاة فامتنع. وله عدة مصنفات. وفيها توفي محمد بن الحسن بن رشيق المصري. وفيها توفي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، وشيخ أهل الأدب: الحسين بن أحمد الهمداني، المعروف بابن خالويه، دخل بغداد، وأدرك جلة من العلماء مثل ابن الأنباري، وابن مجاهد المقرىء، وأبي عمر والزاهد، وابن دريد، وقرأ على السيرافي، وانتقل إلى الشام، واستوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت الرحلة إليه من الآفاق. وآل حمدان يكرمونه، ويدرسون عليه، ويقتبسون منه وهو القائل: دخلت يوماً على سيف الدولة، فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل: اجلس. فتبينت بذلك إعلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب. قال ابن خلكان وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم اقعد وللنائم والساجد اجلس. وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفلى، ولهذا قيل لمن أصيب برجله مقعد. والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو. ولهذا قيل: لنجد جلساً لارتفاعها، وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس منه قول مروان بن الحكم لما كان والياً بالمدينة يخطب الفرزدق: قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس أي اقصد الجلسا، وهي بحذو هذا البيت من جملة أبيات، وهذا كله في غير موضعه لكن للكلام شجون. ولابن خالويه المذكور كتاب كبير في الأدب سماه " كتاب ليس " وهو يدل على اطلاع عظيم، فإن مبني الكلام من أوله إلى آخره على أنه ليس في كلام العرب كذا. وله كتاب لطيف سماه " الآل "، وذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسة وعشرين قسماً، وما اقتصر

فيه، وذكر فيه الأئمة الأثني عشر، وتاريخ مواليدهم، ووفاتهم وأمهاتهم، والذي دعاه إلى ذكرهم أنه قال في جملة أسام الآل وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو هاشم. وله " كتاب الاشتقاق "، و " كتاب الجمل في النحو "، و " كتاب القراءات "، " كتاب إعراب ثلاثين سورة من الكتاب العزيز "، و " كتاب المقصور والممدود "، " كتاب المذكر والمؤنث " و " كتاب الألقاب "، و " كتاب شرح مقصورة ابن دريد "، و " كتاب الأسد " وغير ذلك، ولابن خالويه المذكور مع أبي الطيب المتنبي المذكور مجالس ومباحث عند سيف الدولة، وقد تقدم في ترجمة المتنبي بعض ما جرى بينه وبينه في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، حتى غضب المتنبي، وارتحل إلى كافور الإخشيذي صاحب مصر. ولابن خالويه شعر حسن ومنه على ما نقله الثعالبي في كتاب " اليتيمة ": إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس وكم قائل: مالي رأيتك راجلاً ... فقلت له: من أجل أنك فارس وفيها توفي الإمام العلامة صاحب المصنفات الكبار الجليلة المقدار " كتهذيب اللغة " وغيره: اللغوي النحوي الشافعي: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الأزهري بقي في أسر القرامطة مدة طويلة، وكان متفقاً على فضله وثقته ودرايته وورعه. وروى عن أبي العباس ثعلب وغيره. وأدرك ابن دريد، ولم يرو شيئاً واحداً عن نفطويه، وعن ابن السراج النحوي. وكان قد رحل وطوف في أرض المغرب في طلب اللغة، فخالط قوماً يتكلموا بطباعهم البدوية، ولا يكاد يوجه في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فاستفاد من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضاً ألفاظا ونوادر كثيرة وقع أكثرها في " كتاب التهذيب " وسبب مخالطته لهم أنه كان قد أسرته القرامطة، وكان القوم الذين وقع في سهمهم عرباً نشؤوا في البادية ينقون مساقط الغيث، ويرعون الغنم، ويعيشون بألبانها. وكان جامعاً لأشتات اللغات، مطلعاً على أسرارها ودقائقها. وتهذيبه المذكور أكثر من عشر مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من اللغة المتعلقة بالفقه. وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر البغدادي الملقب غندر " بضم الغيم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة في آخره راء " المحدث المشهور، رحال جوال توفي بأطراف خراسان غريباً، سمع بالشام والعراق ومصر والجزيرة. وفيها توفي الإمام المتكلم في الأصول، صاحب التصانيف الكثيرة، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، صاحب الشيخ الإمام أبه الحسن

إحدى وسبعين وثلاثمائة

الأشعري، وليس بابن مجاهد المقرىء. وعنه أخذ القاضي أبو بكر الباقلاني، وكان ديناً صيناً خيراً ذا تقوى. إحدى وسبعين وثلاثمائة فيها توفي الإمام الجامع الخبر النافع ذو التصانيف الكبار في الفقه والأخبار: أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني، الحافظ الفقيه الشافعي المعروف بالجرجاني، وكان حجة، كثير العلم، حسن الدين. وفيها توفي شيخ المالكية بالمغرب: أبو محمد عبد الله بن إسحاق القيرواني. قال القاضي عياض: ضربت إليه آباط الإبل من الأمصار، وكان حافظاً فصيحاً بعيداً عن التصنع والرياء. وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهيد الزاهد: أبو زيد محمد بن أحمد المروزي الشافعي، كان من الأئمة الأجلاء، حسن النظر، مشهورا بالزهد، حافظاً للمذهب، وله فيه وجوه غريبة روى الصحيح عن الفربري، وحدث بالعراق ودمشق ومكة، وسمع منه الحافظ أبو الحسن الدارقطني، ومحمد بن أحمد المحاملي، قال أبو بكر البزار: عاد الفقيه أبو زيد من نيسابور إلى مكة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه يعني خطبته وكان في أول أمره فقيراً، ثم أقبلت عليه الدنيا في آخر عمره، وقد تساقطت أسنانه، وبطلت حاسة الجماع، فيقول مخاطباً للنعمة: لا بارك الله فيك، ولا أهلاً بك، ولا سهلاً، أقبلت حيث لا ناب ولا نصاب. ومات بمرو في رجب وله تسعون سنة. قال الحاكم: كان من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، وأزهدهم في الدنيا. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: هو صاحب أبي إسحاق المروزي، أخذ عنه أبو بكر القفال المروزي وفقهاء مرو. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، شيخ إقليم فارس، صاحب الأحوال والمقامات. قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: هو اليوم شيخ المشايخ، تاريخ الزمان، لم يبق للقوم أقدم منه سناً، ولا أتم حالاً، متمسك بالكتاب والسنة، فقيه على مذهب الشافعي. كان من أولاد الأمراء، وتزهد. توفي ثالث رمضان، وله خمس وتسعون سنة، وقيل عاش مائة وأربع سنين. اثنتين وسبعين وثلاثمائة فيها توفي عضد الدولة ابن الملك ركن الدولة، وهو أول من خوطب ب " شاهنشاه "

في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان أديباً فاضلاً محباً للفضلاء، مشاركاً في فنون من العلم، وله صنف أبو علي الفارسي " الإيضاح "، و " التكملة " في النحو، وقصده الشعراء من البلاد كالمتنبي وأبي الحسن السلامي، ومدحوه بالمدائح الحسنة. وكان شيعياً غالياً شهماً، مطاعاً، حازماً ذكياً، متيقظاً مهيباً سفاكاً للدماء، له عيون كثيرة تأتيه بأخبار البلاد القاصية، وليس في بني عمه مثله، وكان قد طلب حساب ما يدخله في العام، فإذا هو ثلاثمائة ألف ألف وعشرون ألف درهم، وجدد مكوساً ومظالم. ولما نزل به الموت كان يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه. وله أشعار ومنها قوله في قصيدة هذه الأبيات التي لم يفلح بعدها: ليس شرب الروح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر نعوذ بالله من غضب الله ومن مثل هذا القول. وممن حكى هذه الأبيات عنه أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر "، وإليه ينسب المارستان العضدي ببغداد، غرم عليه مالاً عظيماً، قيل وليس في الدنيا مثل تزيينه، وهو الذي أظهر قبر علي رضي الله تعالى عنه بزعمه بالكوفة، وبنى عليه المشهد، ودفن فيه. وللناس في هذا القبر اختلاف كثير، وأصخ ما قيل فيه أنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة كرم الله وجهه ومما يمدح الشعراء عضد الدولة قول المتنبي في قصيدة له: أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا ومنها: فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا وقول السلامي: وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار في الدنيا ويوم هو الدهر وقد أخذ هذا المعنى القاضي الأرجاني في قوله:

لو زرته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار ولكن أين الثرى من الثريا؟ وكذلك هذا المعنى موجود في قول المتنبي: هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق لكنه ما استوفاه، فإنه ما تعرض لذكر اليوم الذي جعله السلامي وهو الدهر ومع هذا فليس له طلاوة بيت السلامي الذي هو السحر الحلال. في السنة المذكورة أو في غيرها من عشر الثمانين توفي الإمام الكبير الفقيه الشافعي الشهير إمام مرو، ومقدم الفقهاء الشافعية في زمانه ومكانه، أبو عبد الله محمد بن أحمد الفارسي المروزي الخضري " بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وبالراء " وكان من أعيان تلامذة أبي بكر القفال المروزي، أقام بمرو ناشراً فقه الشافعي، وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ، وقلة النسيان، وله في المذهب وجوه غريبة، نقلها الخراسانيون عنه. وروي عن الشافعي رضي الله. تعالى عنه صحيح لدلالة الصبي على القبلة، وقال معناه: أن يدل على قبلة تشاهد في الجامع، فأما موضع الاجتهاد فلا يقبل. وذكر الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب شرح " مشكلات الوجيز والوسيط " إن الإمام أبا عبد الله الخضري المذكور سئل عن قلامة ظفر المرأة، هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها. فأطرق طويلاً ساكتاً، وكانت تحته ابنه الشيخ أبي علي " الشبوي " بفتح الشين المعجمة والموحدة، فقالت له: لم تفكر؟ قد سمعت أبي يقول في جواب هذه المسألة: إن كانت من قلامة أظفار اليدين جاز النظر إليها، وإن كانت من أظفار الرجلين لم يجز، لأنها عورة. ففرح الخضري وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة لكانت كافية. انتهى كلام أبي الفتوح العجلي. وقال أبو العباس ابن خلكان: هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، فأما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً. انتهى كلام ابن خلكان. قلت: كلام ابن خلكان المذكور ليس بصواب من وجهين: أحدهما قوله: قالوا اليدان ليستا بعورة، ولم يقل: الكفان. والثاني، قوله: ما يعرف بينهما فرقاً فإنه وإن كان لم يطلع على الفرق، وما في ذلك من الخلاف، فإنه قال ذلك على وجه الاعتراض، وكان حقه أن لا يقول مثل هذا إلا بعد اطلاعه على كلام الأصحاب، فالمسألة منصوص عليها. قال الإمام الرافعي: النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها، إن خاف الناظر، فيه حرام، وإن

ثلاث وسبعين وثلاثمائة

لم يخف فوجهان. قال أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمون. لا يحرم بقول الله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " سورة النور: الآية 31، وهو مفسر بالوجه والكفين، لكن يكره، قال ذلك الشيخ أبو حامد وغيره. والثاني يحرم، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد والإمام، وبه قطع صاحب المهذب ووجهه الروياني باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة، وهو مدركة الشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية. انتهى كلام الإمام الروياني. قلت: وقد علم من هذا بما حكته زوجة الخضري عن أبيها صواب على الوجه الأول والله أعلم. ثلاث وسبعين وثلاثمائة في أولها ظهرت وفاة عضد الدولة. وكانت قد أخفيت حتى أحضروا ولده صمصام الدولة، فجلس للعزاء، ولطموا عليه في الأسواق أياماً، وجاء الطائع إلى صمصام الدولة، فعزاه ثم ولاه الملك، وعقد له لوائين ولقبه شمس الدولة، وبعد أيام جاء الخبر بموت مؤيد الدولة أخي عضد الدولة. ولد بجرجان وولي مملكته أخوه فخر الدولة الذي وزر له إسماعيل بن عباد. وفيها القحط الشديد ببغداد، وبلغ حساب الغرارة الشامية أربعمائة درهم. قلت وقد بلغت الغرارة الحجازية بمكة إلى هذه القيمة المذكورة، وهي نحو من ثلث الشامية، في سنة ست وستين وسبع مائة. وفيها توفي الأمير أبو الفتح الصنهاجي نائب المعز العبيدي على المغرب. وكان محمود السيرة، حسن السياسة، ولي القيروان اثنتي عشرة سنة، وكانت له أربعمائة سرية، يقال أنه ولد: له في فرد يوم سبعة عشر ولداً. وكان استخلاف المعز له عندما توجه إلى الديار المصرية في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وأوصاه بأمور كثيرة، وأكد عليه في فعلها، ثم قال: إن نسيت ما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجبايا عن أهل البادية، والسيف عن البربر، ولا تول أحداً من إخوتك وبني عمك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، وافعل مع أهل الحاضرة خيراً. وأمر بالسمع والطاعة له. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير: أبو عثمان المغربي الصوفي سعيد بن سلم قال: هكذا " ابن سلم ". ذكر في بعض النسخ، وفي بعضها " ابن سلام " بزيادة ألف بعد

أربع وسبعين وثلاثمائة

اللام، نزيل نيسابور. قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: لم نر مثله في علو الحال وصون الوقت. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله سمعت الأستاذ أبا بكر بن فورك رحمه الله يقول: كنت عند أبي عثمان المغربي حين قرب أجله، فلما تغير عليه الحال أشرنا على علي بالسكوت، ففتح الشيخ أبو عثمان عينيه وقال: لم لا يقول على شيء. فقلت لبعض الحاضرين: سلوه، وقولوا: علام يسمع المستمع، فإني أحتشمه في هذه الحالة؟ فسألوه فقال: إنما يسمع من حيث يسمع. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: التقوى هي الوقوف على الحدود، لا يقصر فيها ولا يتعداها، وقال: من أثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء، ابتلاه الله تعالى بموت القلب. قلت: وقد سمعت من أهل العلم والفضل بيتين في مدح سعيد بن سلم، لا أدري: أهو هذا المذكور أو غيره، وقد تضمنا لمدح عظيم بالغ، وهما: ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد لنا سيد أربى على كل سيد ... جواد، حثى في وجه كل جواد قلت: وقوله: حتى في وجه كل جواد: يحتمل معنيين: أحدهما وهو الأظهر والله أعلم أنه بمعنى: حثى التراب في وجهه معناه حقره. والثاني: أن يكون جاد على كل جواد، وحثى في وجهه من المال ما يراد. لما أمليت هذين الوجهين ذكر بعض من حضرني من الأصحاب أنه يحتمل معنى ثالثاً، وهو أن الجواد السابق من الخيل إذا سبق حثى التراب بحافره في وجه المسبوق. وهو معنى حسن غريب يحتمل أن قائله مصيب. وفيها توفي الفضل بن جعفر الرجل الصالح المؤذن بدمشق: أبو القاسم التميمي. أربع وسبعين وثلاثمائة فيها توفي العلامة أبو سعيد، عبد الرحمن بن محمد بن خشكا الحنفي الحاكم بنيسابور. وفيها توفي خطيب الخطباء أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل ابن نباتة " بضم النون وبالموحدة وفتح المثناة من فوق بعد الألف " الفارقي اللخمي، العسقلاني المولد، المصري الدار، مصنف الخطب المشهورة. ولي خطابة حلب. لسيف الدولة، كان

إماماً في علوم الأدب ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها، وفيها دلالة على غزارة علمه، وجودة قريحته. وذكروا أنه سمع على المتنبي بعض ديوانه في خدمة سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فلهذا أكثر من خطب الجهاد ليحض الناس، ويحثهم على الجهاد. كان رجلاً صالحاً، ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المقابر، فأشار بيده إلى القبور وقال: كيف قلت يا خطيب؟ كيف قلت يا خطيب؟: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقاد لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، فلم يفقدوا من أعمالهم ذرة، والى عليهم الدهر إليه برة أن لا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعهدوا في الأحياء مرة، أسكتهم الله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجددهم كما خلقهم، ويجمعهم كما فرقهم. ثم نقل صلى الله عليه وآله وسلم في فيه، فاستيقظ من منامه على وجهه أثر نور وبهجة لم يكن قبل. وقص رؤياه على الناس، وقال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً. وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوماً لا يستطعم طعاماً ولا شراباً من أجل تلك التفلة وبركتها. وهذه الخطبة التي فيها هذه الكلمات: تعرف بالمناسبة لهذه الواقعة. وذكر بعضهم أنه ولد في سنة خمسين وثلاثمائة، وتوفي في السنة المذكورة، أعني سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. وعن بعضهم أنه قال: رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته، وقلت له: ما فعل الله تعالى بك. فقال: رفع لي ورقة، وفيها سطران بالأحمر. وهما: قد كان أمن لك من قبل ذا، واليوم أضحى لك أمنان، والصفح لا يحسن عن محسن، وإنما يحسن عن جان. قال: فانتبهت من النوم وأنا كررهما. وفيها توفي تميم بن معز بن المنصور بن القائم بن المهدي، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب، وهو الذي بنى القاهرة. وكان تميم المذكور فاضلاً شاعراً ماهراً لطيفاً ظريفاً، ولم يل المملكة، لأن ولاية العهد كانت لأخيه العزيز، تولاها بعد أبيه. وللعزيز أيضاً أشعار جيدة، ذكرها أبو منصور الثعلبي في اليتيمة. ومن شعر تميم المذكور: أما والذي لا يملك الأمر غيره ... وهو بالسر المكتم أعلم لئن كان كتمان المصائب مؤلماً ... فأعد أنها عندي أشر وآلم وفي كل ما تبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أتبسم ومنه: وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقية بيداء ظمآن صاديا

خمس وسبعين وثلاثمائة

تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة خبرى تجوب الفيافيا أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء ساقيا فلما عنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الجوانح طاويا فأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا ولما توفي غسله القاضي أبو محمد بن النعمان، وكفنه في ستين ثوباً، وحضر أخوه العزيز الصلاة عليه. قلت: قد قدمت في سنة سبع وأربعين ترجمة تميم بن المعز، وليس هو هذا، بل ذلك حميري وأفقه. هذا في اسمه واسم أبيه قد تشبهان، فلهذا انتبهت عليه. والمتقدم هو الممدوح بالبيتين المتقدمين في ترجمته، أعني قول ابن رشيق في أولهما أصح، وفي آخرهما عن كف الأمير تميم. خمس وسبعين وثلاثمائة فيها توفي الحافظ أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي الصغير، رحل وطوف وجمع وصنف. وفيها توفي أبو مسلم ابن مهران الحافظ العابد العارف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران البغدادي. رحل إلى البلدان، منها خراسان والشام والجزائر وبخارى وصنف المسند، ثم تزهد وانقبض عن الناس، وجاور بمكة. وكان يجتهد أن لا يظهر للمحدثين، ولا لغيرهم. قال ابن أبي الفوارس: صنف أشياء كثيرة، وكان ثقة زاهداً ما رأينا مثله. وفيها توفي الإمام الشهير الفقيه الكبير أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي الشافعي نزيل نيسابور ثم بغداد. انتهى إليه معرفة المذهب، قال أبو حامد الأسفراييني: ما رأيت أفقه منه، وقال غيره: كان صاحب وجه في المذهب، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وحدث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي. ودارك من قرى أصفهان. وفيها توفي الأبهري القاضي، أبو بكر التميمي، صاحب التصانيف، وشيخ المالكية العراقيين. سئل أن يلي قضاء القضاة، فامتنع رحمه الله تعالى. ست وسبعين وثلائمائة فيها وقع قتال بين الديلم وكانوا تسعة عشر ألفاً وبين الترك، وكانوا ثلاثة آلاف،

سبع وسبعين وثلاثمائة

فانهزمت الديلم، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف، وكانوا مع صمصام الدولة، وكانت الترك مع أخيه، شرف الدولة، فخفوا به وقدموا به بغداد، فأتاه الخليفة الطائع طائعاً يهنئه، ثم خفي خبر صمصام الدولة فلم يعرف. وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي البلخي. سمع الكثير، وخرج لنفسه معجماً، وحدث بصحيح البخاري عن الفربري. وفيها توفي الواعظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن شاذان الصوفي الرازي. سبع وسبعين وثلاثمائة فيها رفع شرف الدولة عن العراق مظالم كثيرة، فمن ذلك أنه رد على الشريف أبي الحسين محمد بن عمر جميع أملاكه، وكان مبلغها في العام ألفي ألف وخمسمائة درهم، وكان الغلاء ببغداد دون الوصف. وفيها توفي الإمام النحوي أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، اشتغل ببغداد، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة ابن حمدان. وكان إمام وقته في علم النحو، وجرت بينه وبين المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة، وتقدم عنده، وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي في النحو. وصنف له " كتاب الإيضاح والتكملة " في النحو، وله تصانيف أخرى تزيد على عشرة. ويحكى أنه كان يوماً في ميدان شيراز، يساير عضد الدولة، فقال له: أنصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيداً فقال الشيخ: بفعل مقدر. فقال له: كيف تقديره. فقاد: أستثني زيداً، فقال عضد الدولة: هلا رفعته، وقررت الفعل، امتنع زيد. فانقطع الشيخ وقال: الجواب ميداني، ثم إنه لما رجع إلى منزله، وضع في ذلك كلاماً، وحمله إليه فاستحسنه. وذكر في كتاب الإيضاح أنه بالفعل المتقدم تقويه إلا. وحكى أبو القاسم بن أحمد الأندلسي قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر فقال: إني لا أغبطكم على قول الشعر، فإن خاطري لا يوافقني على قوله، مع

ثمان وسبعين وثلائمائة

تحقيقي العلوم التي هي من مواده، فقال له رجل: فما قلت قط شيئاً منه؟ فقال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات، وذكرها في السبب، ولم أذكرها أنا في هذا الكتاب، لأنه أبدى فيه عيباً وذماً، وهو: " في الشرع نور ووقار "، كما ورد به في حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم في قصة إبراهيم عليهما أفضل الصلاة والتسليم. وذكر بعض المؤرخين أنه ذكر له إنسان في المنام أن لأبي علي مع فضائله شعراً حسناً. وأنشده في المنام منها هذا البيت: الناس في الخير لا يرضون عن أحد ... فكيف ظنك يسمو الشر أو ساموا وقيل: إن السبب في استشهاده في باب " كان " من كتاب الإيضاح ببيت أبي تمام: من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا لأن عضد الدولة كان يحب هذا البيت وينشده كثيراً، وعدوا له من المصنفات عدة كتب، وفضله أشهر من أن يذكر، وكانت وفاته ببغداد، وقبره في الشونيزية. وفيها توفيت أمة الواحد ابنة القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حفظت القرآن والفقه والنحو والفرائض، وغيرها من العلوم، وبرعت في مذهب الإمام الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة. وفيها توفي ابن لؤلؤ الوراق أبو الحسن علي بن محمد الثقفي البغدادي الشيعي، وكان ثقة يحدث بالآخرة. وفيها توفي أبو الحسن الأنطاكي علي بن محمد المقرىء الفقيه الشافعي. دخل الأندلس، ونشر بها العلم، وقال ابن الفرضي: أدخل الأندلس علماً جماً، وكان رأساً في القراءات، لم يتقدمه فيها أحد. وفيها توفي الحافظ الغطريفي محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن السري بن الغطريف الجرجاني الرباطي. ثمان وسبعين وثلائمائة فيها توفي الشيخ الكبير، شيخ الصوفية، وصاحب كتاب " اللمع في التصوف "، أبو

تسع وسبعين وثلاثمائة

نصر السراج عبد الله بن علي الطوسي. وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف، وأحد أئمة الحديث، أبو أحمد الحاكم محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري. روى عن ابن خزيمة، وعبد الله بن زيدان محمد بن الفيض الغساني وغيرهم، وأكثر الترحال، وكتب ما شاء الله. قال الحاكم ابن البيع: أبو أحمد الحافظ إمام عصره، صنف على الصحيحين، وعلى جامع الترمذي، وألف " كتاب الكنى "، و " كتاب العلل "، و " كتاب الشروط "، و " المخرج على المزني "، وولي قضاء الشاش، ثم قضاء طوس، ثم قدم نيسابور، ولزم مسجده، وأقبل على العبادة والتصنيف، وكف بصره قبل موته بسنتين رحمة الله عليه. تسع وسبعين وثلاثمائة فيها وفي التي تليها اشتد البلاء، وعظم الخطب ببغداد بأمر العبادين، صاروا حزبين، ووقعت بينهم حروب، واتصل القتال بين أهل الكرخ وباب البصرة، وقتل طائفة ونهبت أموال الناس، وتواترت الفتن وأحرق بعضهم دروب بعض. وفيها توفي شرف الدولة سلطان بغداد ابن السلطان عضد الدولة الديلمي، وكان فيه خير وقلة ظلم، وكان موته بالاستسقاء، ولي بعده أخوه أبو نصر. وفيها توفي الإمام العالم المتكلم أحد أئمة الأشعرية الكبار في وقته، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان: محمد بن أحمد أبو جعفر الجوهري البغدادي النقاش. وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي، شيخ العربية بالأندلس وصاحب التصانيف. وأدب المؤيد بالله ولد المستنصر، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علم السير والأخبار،، يكن مثله في وقته. وله كتب تدل على وفور علمه، منها مختصر " كتاب العين "، و " كتاب طبقات النحويين واللغويين " في المشرق والأندلس، من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمنه وعدة كتب أخرى، وتولى قضاء أشبيلية، وكان كثيراً ما ينشد: الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان والأرض شيء كلها واحد ... والناس إخوان وجيران

ثمانين وثلاثمائة

والزبيدي بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت وبعدها دال مهملة نسبة إلى زبيد، واسمه منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم وهو في الأصل اسم أكمة حمراء باليمن، ولد عليها مالك بن رد، فسمي باسمها، ثم كثر ذلك في تسمية العرب، حتى صاروا يسمون بها، ويجلونه علماً على المسمى، وقطعوا النظر عن تلك الأكمة. وزبيد قبيلة كبيرة باليمن وكذا مذحج. ثمانين وثلاثمائة فيها توفي الحافظ المحدث الأندلسي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأموي مولاهم القرطبي. سمع وصنف، ومن مصنفاته " فقه الحسن البصري " في سبع مجلدات، و " فقه الزهري " في أجزاء عديدة. وفيها توفي الوزير أبو الفرج، وزير صاحب مصر العزيز بالله، وكان يهودياً بغدادياً، عجباً في الدهاء والفطنة والمكر، يتوكل للتجارة بالرملة، فانكسر وهرب إلى مصر، فأسلم بها، واتصل بالأستاذ كافور، ثم دخل المغرب، وأنفق عند المعز، وتقدم ولم يزل في الارتقاء إلى أن مات. وكان عظيم الهيبة، وافر الحشمة، عالي الهمة، وكان معلومه على مخدومه في السنة مائة ألف دينار، وقيل إنه خلف أربعة آلاف مملوك، ويقال أنه حسن إسلامه. إحدى وثمانين وثلاثمائة فيها أمر الخليفة الطائع بحبس الحسين بن المعلم وكان عن خواص بهاء الدولة فعظم عليه ذلك، ثم دخل على الطائع وفيه هيبة، دخلوا للخدمة، فلما قرب منه قبل الأرض، وجلس على الكرسي، وتقدم أصحابه فجذبوا الطائع بحمائل سيفه من السرير، ولفو، في كساء حتى أتوا به دار السلطنة، واختبطت بغداد، وظن الأجناد أن القبض على بهاء الدولة من جهة الطائع، فوقعوا من النهب ثم إن بهاء الدولة أمر بالنداء بخلافة القادر بالله، فأكره الطائع على خلع نفسه، وعمل بذلك سجل، ونفد إلى القادر وهو بالبطايح،

وأخذوا جميع ما في دار الخلافة، حتى الرخام والأبواب، واستباحت الرعاع قلع الشبابيك، وأقبل القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله، وله يومئذ أربع وأربعون سنة، وكان كثير التهجد والخير والبر، صاحب سنة وجماعة. وفيها توفي العبد الصالح المقرىء مصنف " كتاب الغاية " والشامل في القراءات: الأستاذ أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني ثم النيسابوري. قال الحاكم: كان إمام عصره في القراءات، وأعبد من رأينا من القراء، وكان مجاب الدعوه. وفيها توفي القائد أبو الحسن جوهر بن عبد الله المعروف بالكاتب الرومي، كان من موالي المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي صاحب الإفريقية. جهزه في جيش كثيف ليفتتح ما استعصى من بلاد المغرب، فسار إلى فاس، ثم إلى سجلماسة، ثم توجه إلى البحر المحيط فاتحاً للبلاد، وصاد من سمك البحر، وجعله في قلال الماء، وأرسله إلى المعز، ثم رجع ومعه صاحب فاس أسير في قفص حديد. وقد مهد البلاد، وحكم على أهل الزيغ والعناد من إفريقية إلى البحر المحيط من جهة المغرب، وفي جهة المغرب مر إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته، وخطب له في جميعه جمعيه وجماعية إلا مدينة سبتة فإئها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس. ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الإخشيذي صاحب مصر، بعث المعز القائد جوهراً المذكور إلى جهة المغرب لإصلاح أموره، وجميع قبائل العرب، وجنى القطائع التي كانت على البربر، وكانت خمسمائة ألف دينار، وخرج المعز بنفسه إلى المهدية، فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير، وعاد إلى قصره، وعاد جوهر بالرجال والأموال، فجهزه إلى الديار المصرية ليأخذها، وسير معه العساكر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فتسلم مصر، وصعد المنبر خطيباً، ودعا لمولاه المعز ووصلت البشائر إلى المعز بأخذ البلاد وأقام بها حتى وصل إليه المعز وهو نافذ الأمر واستمر على علو منزلته وارتفاع درجته متولياً للأمور إلى سابع عشر المحرم سنة أربع وستين، فعزله المعز، وكان محسناً إلى الناس ولما توفي لم يبق شاعر إلا رثاه. وكان سب انفاذ مولاه المعز إلى مصر أن كافورا الإخشيذي كما تقدم بسكون

الخاء وكسر الشين والذال المعجمات وسكون المثناة من تحت بين الشين والذال، الخادم المشهور، لما توفي دعا لأحمد بن علي الإخشيذي على المنابر بمصر وأعمالها، والبلدان الشاميات والحرمين، وبعده الحسن بن عبد الله، فاضطرب الجند لقلة الأموال وعدم الانفاق فيهم وكان تدبير الأموال إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات فكتب جماعة من وجوههم إلى المعز بإفريقية ويطلبون إنفاذ العساكر ليسلموا له مصر، فأمر القائد جوهر المذكور بالتجهيز إلى الديار المصرية، وجهز له ما يحتاج إليه من المال والسلاح والرجال، فبرز بالعساكر ومعه أكثر من مائة ألف فارس وأكثر من ألف ومائتي صندوق من المال، وخرج المعز لوداعه ثم قال لأولاده: انزلوا لوداعه، فنزلوا عن خيولهم، ونزل أهل الدولة لنزولهم، والمعز متكىء على فرسه، وجوهر واقف بين يديه، ثم قبل جوهر يد المعز وحافر فرسه، فقال له: اركب، فركب وسار بالعساكر. ولما رجع المعز إلى قصره، أنفذ إلى جوهر ملبوسه وكل ما كان عليه سوى خاتمه وسراويله وكتب المعز إلى عبده أفلح صاحب برقة أن يرتحل للقائد جوهر، ويقبل يده عند لقائه فبذل أفلح مائة ألف دينار على أن يعفي من ذلك، فلم يعف، وفعل ما أمر به عند لقائه ووصل الخبر إلى مصر بوصوله مع العساكر، فاضطرب أهلها، واتفقوا مع الوزير ابن الفرات على المراسلة في الصلح وطلب الأمان، وأرسلوا بذلك أبا جعفر مسلم بن عبيد الله الحسني، بعد أن التمسوا منه أن يكون سفيرهم، فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من البلد. وكتب الوزير معهم كتاباً بما يريد، فتوجهوا نحو القائد جوهر، وكان قد نزل في بالقرب من الإسكندرية، فوصل إليه الشريف بمن معه، وأدى إليه الرسالة، فأجابه إلى ما التمسوه، وكتب له جوهر عهداً بما طلبوه، فاضطرب البلد اضطراباً شديداً، وأخذت الإخشيذية والكافورية وجماعة العسكر الأهبة للقتال، ورجعوا عن الصلح فبلغ ذلك جوهراً، فرحل إليهم، فتهيأ للقتال، وساروا بالعساكر نحو الجيزة، ونزلوا بها، وحفظوا الجسر. ووصل القائد جوهر، وابتدأ بالقتال، وأسرت رجال، وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى ميتة الصيادين وأخذ المخاضة يمنة سلفان، واستأمن إلى جوهر جماعة من العسكر في مراكب، وجعل أهل مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر قال لجعفر بن فلاح، لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عرياناً في سراويل وهو في مركب ومعه الرجال خوضاً، حتى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق كثير من الإخشيذية وأتباعهم، وانهزموا في الليل، ودخلوا مصر، وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه. وخرجت حرمهم

ماشيات ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان. فكتب إليه يهنئه بالفتح، ويسأله إعادة الأمان، فعاد الجواب بأمانهم، ثم ورد رسوله إلى جعفر بأن يجتمع به مع جماعة من الأشراف والعلماء ووجوه البلد، فاجتمعوا به في الجيزة، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم، إلا الوزير والشريف. فنزلوا وسلموا عليه واحداً بعد واحد، والوزير عن شماله، والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدؤوا بدخول البلد، فدخلوا وقت زوال الشمس، وعليهم السلام والعدد، ودخل جوهر بعد العصر، وخيوله وجنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج، وتحته فرس أصفر، ونزل في موضع القاهرة اليوم، واختط موضع القاهرة، ولما أصبح المصريون حضروا عند القائد للتهنئة، فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل، وكان فيه دورات جاءت غير معتدلة لم تعجبه، ثم قال: حفرت في ساعة سعيدة لا أغيرها. وأقام عسكره يدخل البلد سبعة أيام، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه يبشره بالفتح، وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، وكذلك أسمهم على السكة، وجعل ذلك كله باسم مولاه المعز، وزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وفي يوم الجمعة أمر جوهر بزيادة عقب الخطبة: اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول اللذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم صل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. وعاد في الجمعة الأخرى وأذن بحي على خير العمل. ودعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر، فأنكر جوهر عليه وقال: ليس هذا رسم موالينا. وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة. قال ابن خلكان: وأظن هذا الجامع هو المعروف بجامع الأزهر، فإن الجامع الآخر بالقاهرة مشهور بجامع الحاكم. وأقام جوهر مستقلاً بتدبير مملكة مصر قبل وصول مولاه المعز إليها أربع سنين وعشرين يوماً. ولما وصل المعز إلى القاهرة خرج جوهر من القصر إلى القائد، ولم يخرج معه شيء إليه سوى ما كان عليه من الثياب، ثم لم يعد إليه، ونزل في داره بالقاهرة، وسيأتي أيضاً طرف من خبره وخبر سيده المعز في ترجمته إن شاء الله تعالى. وكان ولده الحسين قائد القواد للحاكم صاحب مصر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم وولده وصهره القاضي عبد العزيز زوج أخته، فأرسل الحاكم من برهم وطيب قلوبهم، وآنسهم مدة مديدة، ثم حضروا للخدمة، فتقدم الحاكم إلى سيف النقمة وأشد، فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك، وقتلوا الحسين وصهره القاضي، وأحضروا رأسيهما بين يدي الحاكم " في القيامة يكون التحاكم ".

اثنتين وثمانين وثلاثمائة

وفيها توفي سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان الثعلبي صاحب حلب، وولي بعده ابنه سعد، فلما مات ابنه سعد انقرض ملك سيف الدولة من جهة ذريته. وفيها توفي الحافظ أبو بكر ابن المقرىء محمد بن إبراهيم الأصفهاني صاحب الرحلة الواسعة، وقاضي الجماعة أبو بكر القرطبي المالكي صاحب التصانيف، وأحفظ أهل زمانه لمذهبه. اثنتين وثمانين وثلاثمائة فيها منع أبو الحسن بن المعلم الكوكبي الرافضة من عمل المآتم يوم عاشوراء الذي كان يعمل من نحو ثلاثين سنة، وأسقط طائفة من كبار الشهود الذين ولوا بالشفاعات، وقد كان استولى على أمور السلطان بهاء الدولة كلها. وفيها شغبت الجند، وعسكروا، وبعثوا يطلبون من بهاء الدولة أن يسلم إليهم ابن المعلم، وصمموا على ذلك إلى أن قال له رسولهم: أيها الملك، اختر بقاءه أو بقاءك، فقبض حينئذ عليه وعلى أصحابه، ما زالوا به حتى قتلوه رحمة الله عليه. وفيها توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، أحد الأئمة في الأدب والحفظ، وهو صاحب أخبار ونوادر واتساع في الرواية، وله التصانيف المفيدة. وكان الصاحب بن عباد يريد الاجتماع به، ولا يجد إليه سبيلاً، فقال لمخدومه مريد الدولة: إن البلد الفلاني قد اختل حاله، وأحتاج إلى كشف، فأذن لي في ذلك، فأذن، فلما أن وصل توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور، فلم يزره، فكتب الصاحب إليه: ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعيف فلم نقدر على الوجدان أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... منزل بكر عندنا وعوان وكتب مع ذلك شيئاً من نثر بحال أبي أحمد. والبيت المشهور: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فعجب الصاحب من اتفاق هذا البيت له، وذكر أنه لو عرف أنه يقع له هذا البيت لغير الروي. والبيت المذكور لأخي الخنساء صخر بن عمرو بن الشريد مع أبيات أخرى، وكان قد حضر محاربة بني أسد، فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي، فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سلمى تمرضانه، فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة، فسألتها عن حاله فقالت: لا هو حي فيرجى، ولا

ثلاث وثمانين وثلاثمائة

هو ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد: أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان وأي امرىء ساوى بأم جليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان ثلاث وثمانين وثلاثمائة فيها توفي أبو محمد بن حزم بن الفرضي: كان جليلاً زاهداً شجاعاً مجاهداً، ولاه المستنصر القضاء فاستعفاه، وكان فقيهاً صلباً ورعاً، وكان يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه. وفيها توفي الزاهد الواعظ شيخ الكرامية، ورأسهم بنيسابور إسحاق بن حمشاد. قال الحاكم: كان من العباد المجتهدين، يقال أسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف، قال: ولم أر بنيسابور جنازة أكثر جمعاً من جنازته. وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخت محمد بن جرير الطبري العلاة المشكور، كان إماماً في اللغة والأنساب والأشعار. من الشعراء المجيدين الكبار. يحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد، فلما وصل بابه قال لبعض حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد أرباب الأدب، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب فأعلمه بما قد تكلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي ألا يدخل علي من أولي الأدب إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب، فأعلمه بما قال، فقال ارجع إليه وقل له: من شعر النساء أم من شعر الرجال؟ فدخل الحاجب، وأعاد عليه ذلك القول، فأذن الصاحب له حينئذ في الدخول، فدخل عليه، فعرفه، وانبسط في الكلام معه وله ما حوى من الفضائل ديوان شعر وديوان رسائل. من نظمه المشتمل على المعاني

أربع وثمانين وثلاثمائة

الحسان هذان البيتان: رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا ... مقيماً وأن أعسرت زرت لماما فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب، وإن زاد الضياء أقاما وله ملح شهيرة ونوادر كثيرة، وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راض عنه، فقال في الإنشاد: لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت ... يداه بالجود حتى أخجل الديما فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً فبلغ ذلك ابن عباد، فلما بلغه خبر موته أنشد: أقول لركب من خراسان قافل ... أمات خويرزميكم؟ قيل لي: نعم فقلنا اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم أربع وثمانين وثلاثمائة فيها اشتد البلاء بالعباد ببغداد، وقووا على الدولة وعلى رأسهم عزيزاً التفت عليهم خلق عظيم، فنهض السلطان وتفرغ لهم فهربوا. ولم يحج أحد الركب المصري. وفيها توفي الحافظ أبو الفضل الهمداني السمسار الذي لما أملى الحديث باع طاحوناً له بسبع مائة دينار، ونثرها على المحدثين، قيل: كان ركناً من أركان الحديث، ديناً ورعاً، لا يخاف في الله لومة لائم، وله عدة مصنفات. والدعاء عند قبره مستجاب. وفيها توفي محمد بن عمران المرزباني البغدادي المولد وصاحب التصانيف المشهورة، والمجاميع الغريبة. كان راوية للأدب، صاحب أخبار، وتواليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث مائلاً إلى التشيع في المذهب، حدث عن عبد الله بن محمد البغوي وأبي بكر بن داد السجستاني وآخرين. وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهو صغير الحجم يدخل في مقدار ثلاث كراديس، وجمعه جماعة من بعده، وزادوا فيه أشياء

ليست له. وشعره مع قلته في نهاية من الحسن، ومن محاسن شعره الأبيات التي منها قوله: إذا رمت من ليلى على البعد نظرة ... لتطفي جوي بين الحشا والأضلع تقول نساء الحي تطمح أن ترى ... محاسن ليلى من بداء المطامع وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في حزوق المسامع أجلك يا ليلى عن العين إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع حزوق بالقاف هو المشهور عند الجمهور ورواه بعضهم بالتاء المثناة من فوق. رجعنا إلى ذكر المرزباني. روى عن دريد وابن الأنباري، وروى عنه أبو عبد الله الضميري وأبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهم، والمرزباني لا يطلق عند العجم إلا على الرجل المقدم المعظم القدر، وتفسيره بالعربية حافظ الحد. وفيها توفي المحسن بن علي بن محمد التنوخي الذي يقول فيه أبو عبد الله الشاعر: إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ ومن لم يرض لم اسقمه إلا ... بحسرة سيدي القاضي التنوخي وله " كتاب الفرج بعد الشدة "، و " كتاب نشوار المحاضرة "، " كتاب المستجاد من فعالات الأجواد "، وديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وسمع بالبصرة من أبي العباس الأثرم وأبي بكر الصولي. والحسين بن محمد بن يحيى وطبقتهم. ونزل بغداد وأقام بها، وحدث بها إلى حين وفاته، وكان أديباً شاعراً أخبارياً، ولاه الإمام المطيع لله القضاء بعسكر المكرم ورامهرمز وتقفد أعمالاً كثيرة في نواحي مختلفة. ومن شعره في بعض المشايخ، وقد خرج يستقسي وكان في السماء سحاب فلما دعا أصحت السماء، فقال التنوخي المذكور: خرجنا لنستسقي بفضل دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يلحق الأرضا فلما ابتدا يدعو تكشفت السما ... فما تم إلا والغمام قد انقضى ومن الشعر المنسوب إليه: قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقى المترهب

نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب وإذا أتيت عيني لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي، لا تذهبي قال ابن خلكان: وقد أذكرتني هذه الأبيات في الخمار المذهب حكاية وقفت عليها منذ زمان بالموصل، وهي أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه، وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها لك إلا المسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالطواف والخلاعة، فقصده، فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه، وقص عليه القصة فقال: وكيف أعمل، وأنا قد تركت الشعر، وعكفت على هذه الحالة. فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس معي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرع إليه، فخرج من المسجد، وأعاد لباسه الأول، وعمل هذين البيتين، وشهرهما: قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بناسك متعبد قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد وشاع بين الناس أن المسكين الدارمي قد رجع إلى ما كان عليه، وأحب واحدة ذات خماراً أسود، فلم يبق بالمدينة ظريفة إلا وطيب خمار أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه لكثرة رغباتهن فيه، فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه. وللتنوخي المذكور ولد كان أديباً فاضلاً، وكان يصحب أبا العلاء المعري، وأخذ عنه كثيراً، وكان يروي الشعر الكثير، وهم أهل بيت كلهم فضلاء أدباء ظرفاء. " والمحسن " بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبعدها نون. وفيها توفي الرماني شيخ العربية أبو الحسن علي بن عيسى النحوي ببغداد. وله قريب من مائة مصنف، أخذ عن ابن دريد وابن السراج، وكان متفنناً في علوم كثيرة من القرآن والفقه والنحو والكلام على مذهب المعتزلة والتفسير واللغة. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات البغدادي. سمع من أبي عبد الله المحاملي وطبقته، وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته. قال الخطيب: بلغني أنه كان عنده عن علي بن محمد المصري وحده مائة جزء وإنة كتب مائة تفسير ومائة تاريخ وهو حجة ثقة. وفيها توفي الإمام أبو الحسين الماسرجسي، شيخ الشافعية بخراسان محمد بن علي النيسابوري. قال الحاكم: كان أعرف الأصحاب بالمذهب وترتيبه، وتفقه بخراسان والعراق

خمس وثمانين وثلاثمائة

والحجاز، وصحب الإمام أبا إسحاق المروزي مدة، وتفقه عليه، وصار ببغداد معيد أبي علي بن أبي هريرة، وهو صاحب وجه في المذهب، وعليه تفقه القاضي أبو الطيب الطبري، وسمع من أصحاب المزني ويونس بن عبد الأعلى والمؤمل بن الحسن، وعقد له مجلس الإملاء في دار السنة. خمس وثمانين وثلاثمائة فيها توفي الصاحب المعروف بابن عباد، وهو أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه. أخذ الأدب من أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل في اللغة. وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما. وقال أبو منصور الثعلبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست بحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همه قوتي ينخفض عن بلوغ أدنى فواضله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فضائله ومساعيه. ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله. وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه، كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه: ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الأسناد بالأسناد وروى عن العباد بن عباد: وقال بعضهم رأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة، وسائر القواد، وقد غيروا لباسهم. قلت إنه لم يسعد واحد بعد موته كما كان في حياته غيره من أرباب ولايات الدنيا، وما يفتخرون به من المناصب التي هي إن لم يسلم الله تعالى ما طيب، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب بن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه. وذكر الصابي في " كتاب الناجي " أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة منذ الصبا، وسماه الصاحب فاستمر هذا اللقب عليه، واشتهر به، ثم سمي به كل من تولى

الوزارة بعده. وكان أولاً وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء ساكنة ابن ركن الدولة الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن، فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلاً عنده معظماً نافذ الأمر، وكان حسن الفطنه. كتب بعضهم إليه رقعه أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع تحتها هذه: " بضاعتنا ردت إلينا ". وحبس بعض عياله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يوماً، فأطلع عليه، فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخسؤوا فيها ولا تكلمون " قلت ": معنى أنك خاطبتنا بخطاب من هو معذب فأجبناك بالجواب الذي يجاب به أهل النار. وله نوادر وتصانيف كثيرة، منها كتاب " المحيط " في اللغة، وهو سبع مجلدات، و " كتاب الكشف " عن مساوىء شعر المتنبي و " كتاب أسماء الله تعالى "، وصفاته، وكتب أخرى، وله رسائل بديعة ونظم جيد من جملته قوله: رق الزجاج ورضت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر وكأنما خمر قدح ... وكأنما قدح ولا خمر قلت وهذان البيتان يتمثل بهما في الأمور المحتملة المتشابهة، وممن يتمثل بهما شيخ عصره وإمام دهره شهاب الدين السهروردي قدس الله روحه. وحكى أبو الحسين الفارسي النحوي أن نوح بن منصور أحد ملوك بني ساسان كتب إليه ورقة يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير أهل مملكته، فكان من جملة اعتذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه إلى أربعمائة جمل في الظل لمن يبقى بها من التحمل. وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: حكى لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلآني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني وكانوا متناصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال: الباقلآني بحر مغرق، وابن فورك جبل مطرق، والأسفراييني نار محرق. قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم. انتهى. وأخبار الصاحب بن عباد كثيرة، وفضائله بين أهل هذا الفن شهيرة، اقتصرت منها

على هذه النبذة اليسيرة. وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر من السنة المذكورة بالري، ثم نقل إلى أصبهان، ودفن بمحلة تعرف بباب درية، ولما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم وقيل الأرض ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعدوا للعزاء أياماً. وقال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلاً يقول: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها، وخفت أن أقصر، وقد ظن في الاستيفاء لها. فقال: احفظ واسمع ما أقوله فقلت: قل. قال: ثوى الجود والكافي معاً تحت حفرة فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت: ضجيعين في لحدٍ بباب درية فقال: إذا ارتحل الثاوون من مستقرهم فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه ومما رثاه الشعراء قول أبي سعيد الرستمي: أبعد ابن عباد يهش إلى السرى ... أخو أهل ويستماح جواد أبى الله إلا أن يموتا بموته ... فما لهما حتى المعا معاد وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ المشهور، صاحب التصانيف الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني. قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماماً في النجاة، صادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها. وقال الخطيب كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده. وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بمذاهب العلماء والأدب والشعر، قيل إنه يحفظ دواوين جماعة وقال أبو ذر الهروي: قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني. فقال: هو لم ير مثل نفسه، فكيف أنا؟ وقال البزقاني: كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث وقال غيره: أخذ الفقه عن أبي سعيد الأصطخري الفقيه الشافعي. " قلت " يعني الإمام المشهور صاحب الوجوه في المذهب، قيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن محمد بن الحسن النقاش، وعلي بن سعيد القزاز، ومحمد بن الحسين الطبري، ومن في طبقتهم وسمع من ابن مجاهد وهو صغير، وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء

وجماعة كثيرة. وصنف " كتاب السنن "، و " المؤتلف والمختلف " وغيرهما، وخرج من بغداد إلى مصر قاصداً أبا الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور الأخشيذي، فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند، فمضى إليه ليساعده عليه، وأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وأنفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وحصل له بسببه مال جزيل، ولم يزل عنده حتى فرغ المسند. وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني على تخريج المسند وكتابته، إلى أن تبحر. وقال الحافظ عبد الغني المذكور: أحسن كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، والدارقطني في وقته أو كما قال. وسأل الدارقطني يوماً أحد أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه. فامتنع من جوابه، وقال: قال الله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " سورة النجم، آية 32، فألح عليه فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت من هو أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلان، كان متفنناً في علوم كثيرة. قلت: فهذا ما لخصته من أقوال العلماء في ترجمته، وكل ذلك مدح في حقه، إلا سفره إلى مصر من أجل الوزير المذكور، فإنه وإن كان ظاهره كما قالوا لمساعدة له في تخريج المسند المذكور، فلست أرى مثل هذا الإيقاع بأهل العلم، ولا بأهل الدين. ثم لما كان مثل هذه المساعدة بعض أهل العلم والدين لا يشوبه شيء من أمور الدنيا كان حسناً منه، وفضلاً وحرصاً على نشر العلم، والمساعدة في الخير. وبعيد عن تطاوع النفوس لمثل هذا إلا إذا وفق الله، وذلك نادر أو معدوم، وما على الفاضل المتدين من أرباب الولايات ألفوا أو لم يألفوا نعم، لو أرسل إليه بعضهم وقال: أرو عني كتابي وكان فيه نفع للمسلمين فلا بأس، فقد روينا عن شيخنا رضي الدين أربعين حديثاً، تخريج السلطان للملك، فظفر صاحب اليمن، وتوفي الدارقطني رحمه الله، وقد قارب الثمانين، أو كاد يبلغها، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الأسفراييني. وفي السنة المذكورة " توفي " الحافظ المفسر الواعظ صاحب التصانيف: أبو حفص ابن شاهين عمر بن أحمد البغدادي. قال الحسين بن المهدي بالله: قال لنا ابن شاهين صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفاً، منها " التفسير الكبير " ألف جزء، و " المسند " ألف وثلاثمائة

جزء، و " التاريخ " مائة وخمسون جزءاً. وقال ابن أبي الفوارس: ابن شاهين ثقة مأمون، جمع وصنف ما لم يصنفه أحد. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله المعروف بابن سكرة، الأديب الهاشمي العباسي البغدادي، الشاعر المشهور، لا سيما في المزاح والمجون. وكان هو وابن نجاح يشبهان في وقتهما بجرير والفرزدق، ويقال إن ديوان ابن سكرة يزيد على خمسين ألف بيت. قال الثعالبي: وهو شاعر متسع العبارة في أنواع الإبداع، فاق في قول الظرف والملح على الفحول والأفراد، جاد في ميدان المجون والسخف ما أراد. قالوا وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المذكور المنصور الخليفة العباسي ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن عليه زهر: غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم فتحيرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم ويقال إن الملحي البغدادي الشاعر كتب إلى ابن سكرة الهاشمي: يا صديقاً أفادنيه زمان ... فيه ضيق بالأصدقاء ونصح بين شخصي وشخصك بعد ... غير أن الخيال بالوصل سمح إنما أوجب التباعد منا ... أنني سكر وأنك ملح فكتب إليه ابن سكرة: هل يقول الخليل يوماً لخل ... شاب منه محض المودة قدح بيننا سكر فلا تفسدنه ... أم يقول بيني وبينك ملح؟ هكذا صوابه. أعني إن الأبيات الأولى لابن سكرة، والبيتين الأخيرين للملحي، خلاف ما رأيته في بعض التواريخ، حيث عكس ذلك، وهو غير مناسب لمفهوم نظمهما. ولابن سكرة أيضاً في الشباب: لقد بان الشباب وكان غصناً ... له تمر وأوراق تظلك وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك وله أيضاً من أبيات له في هجاء بعض الرؤساء:

ولا تقل ليس في عيب ... قد تقذف الحرة العفيفه والشعر نار بلا دخان ... وللقوافي رؤى لطيفه كم من ثقيل المحل شام ... هوت به أحرف خفيفه لو هجي المسك وهو أهل ... لكل مدح لصار جيفه وله: قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدة قلت: دراعة عري ... تحتها جية رعدة وله في الشتاء الكافات المشهورة. وفي إعراضها قلت مشيراً إلى نصحتين: الأولى لبني الدنيا الراغبين، والثانية لبني الدين الزاهدين: وهي كانون مصطل، ففصل ... الشتاء يا صاح بالبرد مقبل وأوله في الفجر سبع لشوكه ... وشمس تجدي لذي شوى وتوكل بأول كانونين خامس عشرة ... تكون فإن كنت أنصحت فقل فخذ عشر كافات خلت عن خلاعة ... على الفسق تغري الفاسقين وتحمل كل الكبش واكتس بالكسافي أريكة ... للحلا زكت والكبش عندك يكمل ولكن أولى النصح ما فيه قلته ... وإن لم أكن ممن إذا قال يفعل تمسكن وكن في كن كونك ناسكاً ... وكل كلما يلقى إليك التوكل تأس بمسكين وواس بممكن ... وفكر بمن فوق المزابل ينزل وللنفس قل هل من نعيم ورفعة ... كمثل جنان هم بها منك أفضل بخمس ما بين سابقون بخيرها ... لهم في علاها فوق رأسك منزل وهذا إذا صادفت سعد عناية ... وقرب بها باقون من تلك يدخل قصور وحور لا تطاق صفاتها ... وكل نعيم ما له العقل يعقل إلهي بجاه المصطفى لا حرمتنا ... نعيماً بها يا نعم مولى مؤمل وصل على تاج العلى سيد الورى ... رسول كريم لا يساويه مرسل وفي السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة الزاهد الورع الخاشع البكاء المتواضع، أبو بكر الأودني، شيخ الشافعية ببخارى. ومن غرائب وجوهه في المذهب أن الربا حرام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء بجنسه متفاضلاً. وفيها توفي أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي

ست وثمانين وثلاثمائة

اللغوي الإخباري الفاضل ابن الفاضل، قد تقدم ذكر أبيه في سنة ثمان وستين مع ذكر شيء من فضائله، وهو السيرافي المشهور بين النحاة، وهذا ابنه كان عالماً بالنحو، وتصدر في مجلس أبيه بعد موته، وخلفه على ما كان عليه، وكمل كتاب أبيه الذي سماه " الإقناع " وهو كتاب جليل نافع في بابه. فإن أباه كان قد شرح كتاب سيبويه، وظهر له بالإطلاع والبحث في حال التصنيف ما لم يظهر لغيره من المعاني، ثم صنف " الإقناع " وكأنه ثمرة استفادته حال البحث والتصنيف، ومات قبل إكماله فكمله ولده المذكور. وليوسف عدة كتب، منها: " شرح أبيات كتاب سيبويه " وهو في غاية من الجودة. و " شرح أبيات كتاب إصلاح المنطق "، وأجاد فيه أيضاً، وكذلك " شرح أبيات المجاز " لأبي عبيدة، و " أبيات معاني الزجاج "، و " أبيات غريب أبي عبيد القاسم بن سلام " وغير ذلك. وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية، ومرة دراية، و " كتاب البارع " للمفضل بن سلمة في عدة مجلدات هذب " كتاب العين " في اللغة المنسوب إلى الخليل، وأضاف إليه من اللغة طرفاً صالحاً وعن عبد السلام البصري خازن دار العلم ببغداد قال: كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي وبعض أصحابه يقرأ عليه إصلاح المنطق لابن السكيت فمر ببيت جميل: ومطوية الأتراب أما نهارها ... فمكث وأما ليلها فذميل وقال أبو محمد يوسف بومطوية بالخفض أصلح. ثم التفت إلينا وقال: هذه وأورب فقلت: أطال الله بقاء القاضي، إن قبله ما يدل على الرفع، فقال: ما هو. قلت: إياك في الله الذي أنزل الهدى ... والنور والإسلام عليك دليل ومطوية الأتراب، قال فعاد وأصلحه، وكان ابنه أبو محمد حاضر، فتغير وجهه لذلك، ونهض لساعته إلى دكانه، فباعه واشتغل بالعلم إلى أن برع فشرح كتاب المنطق وحدث من وراءه بعمل هذا الشرح، وبين يديه أربعمائة ديوان، ولم يزل أمره على سداد واشتغال وإفادة إلى أن توفي، وكان ديناً صالحاً ورعاً متقشفاً رحمه الله. ؟؟ ست وثمانين وثلاثمائة فيها توفي شيخ الإسلام، قدوة الأولياء الكرام أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب محمد بن علي بن عطية الحارثي، نشأ بمكة، وتزهد، ولقي الصوفية، وصنف ووعظ، وكان في البداية صاحب رياضة ومجاهدة، وفي النهاية صاحب أسرار ومشاهدة وأستاذه الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو الحسن بن سالم البصري. وفيها توفي العزيز بالله أبو منصور، نزار بن المعز بالله معد بن المنصور إسماعيل القاسم بن محمد بن المهدي العبيدي الباطن، صاحب المعز ومصر والشام، ولي الأمر بعد

أبيه. وكان شجاعاً جواداً حليماً قريباً من الناس، لا يحب سفك الدماء، له أدب وشعر، وكان مغرماً بالصيد، وقام بعده ابنه الحاكم. وذكر بعض المؤرخين أنه هو الذي اختط أساس الجامع بالقاهرة مما يلي باب الفتوح، وفي أيامه بني قصر البخرة بالقاهرة الذي لم يبن مثله شرقاً ولا غرباً، وقصر الذهب، وجامع القرافة. وقيل: كتب نزار المذكور إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه: أما بعد فإنك قد عرفتنا، فهجوتنا، ولو عرفتك لأجبتك، والسلام فاشتد على نزار، وأقحم عن الجواب وأكثر أهل العلم بالأنساب لا يصححون نسب العبيديين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكاه بعضهم. قلت وسيأتي ذكر الطعن في نسبه في محضر فيه خطط جماعة من الأئمة المشهورين في العراق، وفي مبادي ولاية العزيز المذكور صعد المبرد يوم الأحد فوجد هناك ورقة، فيها مكتوب. إنا سمعنا نسباً منكراً ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقاً ... فاذكر ما بعد الأب الرابع وإن ترد تحقيق ما قلته ... فأنسب لنا نفسك كالطائع وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن حسن الأسترابادي، ختن أبي بكر الإسماعيلي، وكان صاحب وجه في المذهب، وله مصنفات، وكان أديباً بارعاً مفسراً مناظراً. روى عن أبي نعيم عبد الملك بن عدي الجرجاني، وعاش خمساً وسبعين سنة، وتوفي يوم عرفة رحمه الله تعالى. سنة سبع وثمانين وثلاثمائة فيها توفي الشيخ العارف المنطق بالحكم والمعارف، والحبر الواعظ الإمام السيد جليل، قدوة الأنام، سني الأحوال الذي على فضله الأفاضل مجمعون، عالي المقام أبو حسين محمد بن أحمد المعروف بابن شمعون. قال الإمام الحافظ أبو بكر بن إسماعيل: أبو الحسين الواعظ المعروف بابن شمعون كان واحد دهره، وفريد عصره في الكلام على الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ دون ناس حكمه، وجمعوا كلامه، قال: وكان بعض شيوخنا إذا حدث عنه قال: حدثنا الشيخ جليل المنطق بالحكمة أبو الحسين بن شمعون.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: محمد بن أحمد بن شمون لسان الوقت، والمرجوع إليه في آداب الظاهر، يذهب إلى أشد المذاهب، وهو إمام التكلم على هذا الشأن في الوقت، والمعبر عن الأحوال بألطف بيان، مع ما يرجع إليه من صحة الاعتقاد، وصحبة الفقراء. وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الأصفهاني خادم الشيخ أبي بكر الشبلي قال: كنت بين يدي الشبلي في الجامع، يوم الجمعة، فدخل أبو الحسين ابن شمعون وهو صبي على رأسه قلنسوة فجاز علينا، وما سلم، فنظر الشبلي إلى ظهره وقال: يا أبا بكر: أتدري أي شيء لله تعالى في هذا الفتى من الذخائر. وبسند الحافظ أبي القاسم إلى النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأموي قال: كان القاضي أبو بكر الأشعري، وأبو حامد يقبلان يد ابن شمعون يعني الإمامين ناصر السنة وقامع البدعة شيخ الأكابر من أئمة الأصول الجهابذة الحذاق، والإمام الكبير السيد الشهير شيخ طريقة العراق. قال: وكان القاضي - يعني الباقلاني - يقول: ربما خفي علي من كلامه بعض شيء لدقته. وروى الحافظ أبو القاسم أيضاً بسنده: إنه كان في أول عمره ينسخ بأجرة، ويعول بأجرة نسخه على نفسه وعلى أمه، وكان كثير البر لها فجلس يوما ينسخ وهي جالسة بقربه فقال لها: أحب أن أحج، قالت: يا ولدي، كيف يمكنك الحج، وما معك نفقة، ولا لي ما أنفقه. إنما عيشنا من أجرة هذا النسخ، وغلب عليها النوم، فنامت، وانتبهت بعد ساعة فقالت: يا ولدي، حج، فقال لها: منعت قبل النوم، وأذنت بعده. فقالت: رأيت الساعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: دعيه، فإن الخيرة له في حجه في الآخرة والأولى. ففرح، وباع من دفاتره ماله قيمة، ودفع إليها من ثمنها نفقتها، وخرج مع الحجاج، فأخذ العرب الحاج، وأخذ في الجملة. قال ابن شمعون: فبقيت عرياناً، فوجدت مع رجل عباءة كانت على عدل، فقلت له: هب لي هذه العباءة أستر نفسي بها، فقال: خذها، فجعلت نصفها على وسطي، ونصفها على كتفي وكان عليها مكتوب: يا رب سلم مبلغ رحمتك، يا أرحم الراحمين. وكنت إذا غلب علي الجوع، ووجدت قوماً يأكلون، وقفت أنظر إليهم، فيدفعون إلي كسرة، فأقنع بها ذلك اليوم. ووصلت إلى مكة، فغسلت العبادة، وأحرمت بها، وسألت أحد بني شيبة أن يدخلني البيت. وعرفته فقري، فأدخلني بعد خروج الناس، وأغلق الباب، فقلت: اللهم

أنك بعلمك غني عن إعلامي بحالي، اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس؟ فسمعت قائلاً يقول من ورائي: اللهم إنه ما يحسن أن يدعوك، اللهم ارزقه عيشاً بلا معيشة. فالتفت فلم أر أحداً، فقلت: هذا الخضر أو أحد الملائكة الكرام على الجميع السلام قال: فأعدت القول، فأعاد الدعاء، فأعدت، فأعاد ثلاث مرات وعدت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرم جارية من جواريه، وأراد إخراجها من الدار، فكره ذلك إشفاقاً عليها. قال أبو محمد ابن السني: فقال الخليفة: اطلبوا رجلاً مستوراً، يصلح أن يزوج هذه الجارية. فقال بعض من حضر: قد وصل ابن شمعون من الحج، وهو يصلح لها، فاستصوب الجماعة قوله، وتقدم بإحضاره وبكل حضار الشهود فأحضروا، وزوج بالجارية، ونقل معها من المال والثياب والجواهر ما يحمل بالملوك. وكان ابن شمعون يجلس على الكرسي للوعظ فيقول: أيها الناس، خرجت حاجاً، وكان من حالي كذا وكذا وشرح حاله جميعه وأنا اليوم علي من الثياب ما ترون، ووطئتي ما تعرفون، ولو وطئت على العتبة تألمت من الدلال، ونفسي تلك. وروى الحافظ والخطيب عنه: إنه خرج من مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً بيت المقدس، وحمل في صحبته تمراً صيحانياً، فلما وصل إلى بيت المقدس طالبته نفسه بأكل الرطب، فأقبل عليها باللائمة، وقال: من أين لنا في هذا الموضع رطب. فلما كان وقت الافطار، عمد إلى التمر ليأكل منه، فوجده رطباً صيحانياً، فأكل منه شيئاً، ثم عاد إليه من الغد، فوجده تمرا على حالته، فأكل منه، أو كما قال. وكان له حسن الوعظ، وحلاوة الإشارة، ولطف العبارة. أدرك جماعة من جلة المشايخ، وروى عنه منهم الشيخ الكبير العارف أستاذ الطريقه، ولسان الحقيقة، وبحر المعارف أبو بكر الشبلي، وروى عن أبي بكر بن داود وجماعة، وأملى عدة مجالس، وروى الصاحب بن عباد قال: سمعت ابن شمعون يوماً، وهو على الكرسي في مجلس وعظ يقول: سبحان من أنطق باللحم، وبصر بالشحم، وأسمع بالعظم إشارة إلى اللسان والعين والأذن وهذه عن لطائف الاشارات. ومن كلامه أيضاً: رأيت المعاصي نزلة، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة. وله كل معنى لطيف كان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد، وإياه عنى الحريري في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازية بقوله في أوائلها: رأيت ذات بكرة زمرة أسرر تمرات،. وهم منتشرون انتشار الجراد، مستنون استنان الجياد، ومتواصفون واعظاً يقصدونه، ويجعلونه ابن شمعون دونه وكان مولده سنة ثلاثمائة، وتوفي رحمه الله في نصف ذي القعدة يوم الجمعة، وقيل ذي الحجة من السنة المذكورة، ولم يخلف ببغداد بعده

ثمان وثمانين وثلاثمائة

مثله رحمه الله. وفيها توفي أبو طاهر ابن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي. والفقيه الإمام أبو عبد الله ابن بطة الحنبلي. ثمان وثمانين وثلاثمائة فيها توفي الحافظ أبو بكر، أحمد بن عبدان الشيرازي الصيرفي، كان من كبار المحدثين. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله: حسيين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي الصيرفي. كان عجباً في حفظ الحديث وسرده. وفيها توفي الإمام الكبير الخير الشهير أبو سليمان الخطابي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي الشافعي. كان فقيهاً أديباً محدثاً، وله التصانيف البديعة، منها " أعلام السنن " في شرح البخاري، و " معالم السنن " في شرح سنن أبي داود، و " غريب الحديث "، و " كتاب إصلاح غلط المحدثين "، و " كتاب الشرح "، و " كتاب بيان الدعاء " وغير ذلك، سمع بالعراق أبا علي الصفار، وأبا جعفر الرزاز وغيرهما. وروى عنه الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري، وعبد الغفار بن محمد الفارسي، وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي، وذكر صاحب يتيمة الدهر، وأنشد له: وما غمة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكلي وإلى غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أصلي

قلت يعني بالشكلي: المشاركة في أوصافه، وأسرة الرجل بالضم رهطه والغمة بالضم الكربة. وأنشد له أيضاً: فسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم قلت هكذا يحفظ ذميم، وفي الأصل الذي وقفت عليه من نقل ابن خلكان سليم، ومعناه غير صحيح، فإن الطرفين إما إفراط، وإما تفريط. قالوا: وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً. والبستي بضم الموحدة، وسكون السين المهملة، والمثناة من فوق نسبة إلى بست: مدينة من بلاد كابل، بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار.. قال الحاكم أبو عبد الله: سألت أبا القاسم المظفر بن طاهر عن اسم أبي سليمان الخطابي: أحمد أو حمد؟ فقال: سمعته يقول اسمي الذي سميت به حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد، فتركته عليه. وقال أبو القاسم المذكور: أنشدنا أبو سليمان لنفسه: ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة من يدر دارى، ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات قلت داري قوله هذا: مأخوذ من القول السائر في ألسنة الناس، متضمناً للجناس: " دارهم ما دمت في دارهم " قلت: وهذا الإطلاق الذي أطلقه وأجمله، أرى فيه تقييداً وتفصيلاً، وقد خطر لي وقت وقوفي على هذين البيتين معارضتهما ببيتين، فقلت: إن كنت بالناس مشغولاً فدارهم ... أو كنت بالله ذا شغل وهمات فلا تعلق سوى بالله ذائقة ... إن المهيمن كافيك المهمات وفيها توفي الحاتمي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي، أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين. أخذ الأدب عن أبي عمرو الزاهد المعروف بالمطرز غلام ثعلب. روى عنه وعن غيره أيضاً، وأخذ عنه جماعة من النبلاء، منهم القاضي أبو قاسم التنوخي، وله الرسالة الحاتمية التي شرح فيها ما جرى بينه وبين المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، ولقد دلت رسالته على غزارة مادته وتوقر إطلاعه، وسماها

الموضحة، وهي كثيرة في اثنتي عشرة كراسة، شهدت لصاحبها بالفضل الباهر، مع سرعة الاستحضار، وإقامة الشاهد، وله " كتاب حلية المحاضرة " يدخل في مجلدين و " الحاتمي " نسبة إلى بعض أجداد له اسمه حاتم. حكى في أول رسالته المذكورة السبب الحامل له على إنشائها، فقال: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينه السلام منصرفاً عن مصر ومتعرضاً للوزير أبي محمد المهلبي بالتخيم عليه، والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأرسل ذيول التيه، ونأى بجانبه استكباراً وثنى عطفه وازدراءاً. وكان لا يلاقي أحداً إلا أعرض عنه بها، وزخرف عليه القول تمويهاً، تخيل عجباً إليه أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد به غيره، وروض لم ير نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون من تعاطاه، وكل مجرى في الخلاء يستر، ولكل نبأ مستقر، فغير جار على هذه الوتيرة مديدة، أحرز به رسن البغي فيها، فظل يموج في تيهه حتى إذ تخيل لأنه السابق الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار، وأنه رب الكلام ومفضض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة. نثراً ونظماً، وقريع دهره الذي لا يقارع فضلاً وعلماً، وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنيط من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحيه، وظاهر من أعلى التسليم له طرفة. وساء معز الدولة أحمد بن بويه، وقد صورت حاله أن يرد حضرته - وهي دار الخلافة ومستقر العز، بيضة الملك - رجل صدر عن حضرته سيف الدولة ابن حمدان، وكان عدواً مبايناً لمعز الدولة، فلا يلقى أحداً بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والهمة التي لو هممت بالدهر لما قصرته بالإحراز صروفه، ولا دارت عليهم دوائره وحنوقه، وتخيل الوزير المهلبي رجماً بالغيب أن أحداً لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفوءاً له، ولا يصلح بأعيانه فضلاً عن التعلق بشيء من معانيه، ولم يكن هناك مزية يتميز أبو الطيب بها تميز الهجين الجذع من أبناء الأدب، فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن افتاته كانت فيه ريطبة ومجانبة عذبة له منيعاً عواره، معلماً أظفاره، ومذيعاً أسراره، وناشراً مطاويه، ومنقذاً من نظمه ما تسمح فيه، ومتوخياً أن يجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار، ويعرف فيه السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة ودار، وفظيع يناسب صفو العقار، إذا وصبت بالحباب ووسبت به سرائر الأكواب، والخيل تجري يوم الرهان بإقبال أربابها لا بعروقها ونصابها، ولكل امرىء حظ من مواتاة زمانه،

يقضى في ظله أرب، وبذلك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب، حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواراً من الأنام قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفوا تنظر عن عيني بارويتشوف بمثل قادمتي نسر، كأنني كوكب وقاد، من تحته عمامة، يقتادها زمام الجنوب، ومن بين يدي عدة من الغلمان الورقة مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه، ولم أذكر هذا تبجحاً ولا تكبراً بل لأن أبا الطيب شاهد جميعه ولم يرعه روعته، ولا استنطفه زبرجه، ولا زادته تلك الحالة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجباً بنفسه وإعراضاً عني بوجهه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئاً من شعره، فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه مستخفياً، فأعجلته نازلاً عن البغلة - وهو يراني - ودخلت، فأعظمت الجماعة قدري، وأجلستني في مجلسه، وإذا تحته أحلاق عناقد الحب عليها الحوادث فهي رسوم دائرة، وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست، فنهضت، ووفيته حق السلام، غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد نهوضه عن الموضع لئلا ينهض إلي، والغرض في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر: وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا فتمثل بقول الآخر: يسقى رجال، ويسقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواماً بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حليته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كذلك الصيد بحرمة الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي وإذا به لابس سبعة أقبية، كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، فجلست مستوفزاً، وجلس محتقراً، وأعرض عني لاهياً، وأعرضت عنه ساهياً، أؤنب نفسي في قصده، وأستخف رأيها في تكفف ملاقاته بعز هيئته، ثانياً عطفه، لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الرغفة التي بين يديه، وكل يومىء إليه، ويرجي بلحظه، ويشير إلى مكاني بيده، ويوقظه من سنته وجهله، ويأتي الازدراء نفاراً وعتواً واستكباراً، ثم أيان يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي، فأقسمت بالوفاء والكرم فإنهما من محاسن القسم أنه لم يزد علي أن قال: ايش خبرك. فقلت: بخير، ولا ما جنيت على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وتجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصرة، ثم تحدرت عليه تحدر لسيل إلى قوارة الوادي، وقلت له: أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك. والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، لا يطول اليك ذراعك؟ هل هاهنا نسب تنتسب إلى المحدثة، أو شرف علقت بأذياله، أو

تسع وثمانين وثلاثمائة

سلطان تسلطت بعزه، أو علم يقع الإشارة إليك به. إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك البتة مذهباً لما عددت أن تكون شاعراً مكتسباً فامتقع لونه، وغض بريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاعتذار، ويكرر الإيمان أنه لم يتبين، ولا اعتمد التقصير في. فقلت: يا هذا، إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدب صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطان حفظت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك، وضربته رواقاً حائلاً دون مباحثك، فعاود الاعتذار نقلت: لا عذر لك مع الإصرار، وأخذت الجماعة في الرغبة أني في مباشرته وقبول عذره واستعمال الأناة الذي تستعملها الحرمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه، وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي، فأقول لم يستأذن عليك باسمي ونسبي، أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك، ألم تر شاربي. أما شممت عطر نشري؟ ألم تميز في نفسك عن غيرك. وهو في أثناء ما أخاطب به وقد ملأت سمعه تأنيباً وتفنيداً يقول: خفف عليك، أكفف عن عزتك، اردد من صورتك، فإن الأناة من شيم مثلك فأصحب حينئذ جانبي له، يعني: انقاد بعد صعوبته، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من تجاوز الغاية التي انتهيت إليها في معاتبة، وذلك بعد أن روضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل علي معظماً، وتوسع في تقريظي مفخماً، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويسومها التعلق بأسباب مودتي، فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من الفتيان الطالبين الكوفيين، فأذن له، فإذا حدث مرهف الأعطاف يمثل به نشوة الصبي، فتكلم، فأعرب عن نفسه، وإذا لفظ رخيم، ولسان حلو وأخلاق فكهة، وجواب حاضر وثغر باسم في إناة الكهول ووقار المشايخ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله، وملكني ما تبئنته من فضله، فجازاه أبياتاً. ومن ها هنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره. قلت هذا ما نقله ابن خلكان مع خلل في ألفاظ يسيرة من نقله، قال: وقد طال الكلام، لكنه لزم بعضه بعضاً، فما أمكن قطعه وهذه الرسالة تشتمل على فوائد جمة، فإن كان كما ذكر أنه أبان له جميعها في ذلك المجلس، فما هذا الاطلاع عظيم. قلت: والأمر على ما ذكر ابن خلكان، أعني إن كان هذا الكلام صدر عنه في مجلس واحد فقد أبدع ما صنع، وجمع من الفوائد. تسع وثمانين وثلاثمائة فيها توفي الإمام الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، شيخ المغرب، وإليه انتهت رئاسة المذهب. قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدين والدنيا،

تسعين وثلاثمائة

رحل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه، وهو الذي لخص المذهب وملأ البلاد من تآليفه، وكان يسمى مالكاً الأصغر. وفيها توفي أبو الطيب ابن غلبون الحلبي، المقرىء الشافعي، صاحب الكتب في القراءات. وفيها توفي أبو الهيثم الكشميهني محمد بن مكي المروزي، راوية البخاري عن الفربري، وله رسائل أنيقة. توفي يوم عرفة رحمه الله. تسعين وثلاثمائة فيها توفي ابن فارس اللغوي، أبو الحسين أحمد بن فارس الرازي. كان إماماً في علوم شتى. وخصوصاً اللغة فإنه أتقنها، وألف " كتاب المجمل " فيها، جمع على اختصاره شيئاً كثيراً، وله " كتاب حلية الفقهاء "، ورسائل أنيقة، ومسائل في اللغة تفانى بها الفقهاء، ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات ذلك الأسلوب ووضع المسائل الفقهية في المقامة الطيبية وهي مائة مسألة وكان مقيماً بهمدان، وعليه اشتغل بديع الزمان الهمداني صاحب المقامات المتقدمة على مقامات الحريري، وله أشعار جيدة فمنها قوله: وقالوا: كيف حالك قلت: صبراً ... يقضي حاجة وتفوت حاج إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون بها انفراج وله شعر: مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركة تنمى لتركي تريق بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي

وقوله: إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بها كلف مغرم فارسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم وغير ذلك من أشعار حذفتها للاختصار. وفيها توفيت أمة الإسلام بنت القاضي أحمد بن كامل البغدادية، كانت دينة حافظه فاضلة، رحمها الله تعالى. وفيها توفي الحافظ أبو زرعة الكشي محمد بن يوسف الجرجاني. وفيها توفي القاضي أبو الفرج النهرواني، المعافى بن زكريا الجريري، تفقه على مذهب محمد بن جرير الطبري، وسمع من البغوي وطبقته. قال الخطيب: كان من أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة وأصناف الآداب. وله شعر حسن، ومنه ما روى القاضي أبو الطيب: ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أست الأدب أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب فجازاك عني بأن زادني ... وشد عليك وجوه الطلب وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " كتاب طبقات الفقهاء " وأثنى عليه، ثم قال وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه: أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب أريد من الزمان النذل بدلاً ... وأربأ من جنى سلع وصاب أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... خيار الناس في زمن الكلاب يعني ما لا يرى العسل، ومن شعره أيضاً: مالك العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي قد قضى لي بما علي ومالي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي صاحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حين رفقي

إحدى وتسعين وثلاثمائة

فكما لا يرد عجز رزقي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي وله عدة تصانيف ممتعة في الأدب و " كتاب الجليس والأنيس " تصنيفه. وروى عن الفقيه عبد الباقي أنه كان يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بشيء أن يدفع إلى أعلم الناس لوجب أن يدفع إليه. إحدى وتسعين وثلاثمائة فيها توفي الحسين المعروف بابن الحجاج الشاعر، له ديوان شعر في عشر مجلدات، تولى حسبة بغداد، وقيل إنه عزل بأبي سعيد الاصطخري الإمام الشافعي. ومن شعره: يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزري على عقل اللبيب الأكيس هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس وفيها توفي الفقيه إمام أهل الظاهر في عصره أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخوزي بالخاء المعجمة والزاي قال عبد الله الضميري: ما رأيت فقيهاً أنظر منه ومن أبي حامد الأسفراييني الشافعي. وفيها توفي حسام الدولة مقلد بن المسيب بن رافع العقيلي، صاحب الموصل تملكها بعد أخيه، قتله غلام له، ورثاه الشريف الرضي وأبو القاسم بن أحمد الشيباني. اثنتين وتسعين وثلاثمائة فيها زاد أمر الشطار، وأخذوا الناس ببغداد نهاراً جهاراً، وقتلوا وبدعوا وأضلوا بعد ذلك ببعض، وكثروا، وصار فيهم هاشميون، فسير بهاء الدولة وكان غائباً عميد الجيوش إلى العراق ليسوسها، فقتل وصلب ومنع السنة والشيعة من إظهار مذهب، وقامت الهيبة. وفيها توفي الفقيه أبو محمد عبد الله بن إبراهيم المغربي، وكان عالما بالحديث، رأساً في الفقه. قال الدارقطني: لم أر مثله. وفيها توفي أبو عبد الرحمن بن أبي شريح: محمد الأنصاري، محدث هراة. وفيها توفي أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي. كان إماما في العربية، صاحب تصانيف في النحو والعروض والقوافي، وشرح ديوان المتنبي، لازم أبا علي

ثلاث وتسعين وثلاثمائة

الفارسي، وكان أبوه مملوكاً رومياً. وسئل المتنبي عن قوله " صبرت أم لم تصبرا " في ثبوت الألف مع لم الجازمة، فقال: لو كان أبو الفتح هنا لأجابك، يعني ابن جني. قلت: وهذه الألف بدل من نون التأكيد الخفيفة، أصله " أم لم تصبرن " ومنه قول الأعشى: ولله فاعبدا، أصله: فاعبدن. ولابن جني تصانيف كثيرة مفيدة، منها " التنبيه "، و " المهذب " و " اللمع ". و " التبصرة "، ويقال إن أبا إسحاق أخذ تسمية كتبه منه. وفيها توفي الوليد بن أبي بكر الأندلسي الحافظ. رحل وروى عن ابن رشيق. وعلي بن الخطيب وخلق، قال ابن الفرضي: كان إماماً في الفقه والحديث، عالماً باللغة والعربية، لقي في الرحلة أزيد من ألف شيخ. ثلاث وتسعين وثلاثمائة فيها توفي الحسن بن الضبي المعروف بابن وكيع الشاعر المشهور، ذكره الثعالبي وقال: كان شاعراً بارعاً وعالماً جامعاً، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه وله كل بديعة، يسخر الأوهام، ويستعبد الأفهام، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بين في سرقات المتنبي سماه المصنف ومن شعره: لقد قنعت همتي بالخمول ... وصدت عن الرتب العالية وما جهلت طعم طيب العلا ... ولكنها تؤثر العافية قال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ أبا الفتح القضاعي المدرس بتربة الشافعي في القرافة بيتي ابن وكيع المذكورين، فأنشدني لنفسه على البديهة: بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العالية وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم رجلاك في عافية ولابن وكيع أيضاً: سلا عن حبك القلب المشوق ... فما يسبو إليك ولا يتوق جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلى عن الولد العقوق وفيها توفي الإمام أبو نصر، صاحب الصحاح الجوهري إسماعيل بن حماد التركي اللغوي أحد أركان اللغة. قيل: كان في جودة الخط في طبقة ابن مقلة ومهلهل، أكثر الترحال، ثم سكن نيسابور، وقيل كان متردياً من سطح بيت بنيسابور، وقيل إنه تسود. وعمل له شبه جناحين وقال: أريد أن أطير، فطار، فهلك رحمه الله تعالى. وفيها توفي الطائع له عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن

أربع وتسعين وثلاثمائة

المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل العباسي. كانت دولته أربعاً وعشرين سنة، خلع من الخلافة في شعبان سنة إحدى وثمانين بالقادر بالله، إلى أن مات ليلة الفطر من سنة ثلاث وتسعين، وله ثلاث وسبعون سنة، وصلى عليه القادر بالله، ولم يؤذوه، بل بقي مكرماً محترماً في دار ابن عمه القادر بالله، وشيعه من الأكابر، ورثاه الشريف الرضي. وفيها توفي السلامي محمد بن عبد الله المخزومي الشاعر. قال الثعالبي: هو من أشعر أهل العراق قولاً بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. ومن شعره قوله في عضد الدولة: إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر وبشرت إياك بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر وقد أخذ القاضي أبو بكر الأرجاني معنى البيت الأخير، وسبكه في قوله: يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار وقد استعمل المتنبي أيضاً هذا المعنى، لكنه لم يكمله، بل أتى ببعضه في النصف الأخير من هذا البيت. هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق ولما ذكر ابن خلكان ما بعد نظم السلامي قال: وإن كان في معنى ذلك لكن ليس فيه رشاقته، ولا عليه طلاوته. وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إلي. أربع وتسعين وثلاثمائة فيها توفي أبو عمر عبد الله بن عبد الوهاب السلمي الأصبهاني المقرىء. وفيها توفي أبو الفتح إبراهيم بن علي البغدادي. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك اللخمي القرطبي الحداد.

خمس وتسعين وثلاثمائة

خمس وتسعين وثلاثمائة فيها توفي الحافظ أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان القرطبي. وفيها توفي الخفاف أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عمر الزاهد النيسابوري. ست وتسعين وثلاثمائة فيها توفي الحافظ العلم أحمد بن عبد الله اللخمي الأشبيلي، كان يحفظ عدة مصنفات، وكان إماماً في الأصول والفروع. وفيها توفي الإمام أبو سعيد بن إسماعيل، شيخ الشافعية بجرجان. وفيها توفي ابن شيخهم إسماعيل بن أحمد. كان صاحب فنون وتصانيف، توفي ليلة الجمعة، وهو يقرأ في صلاة المغرب " إياك نعبد وإياك نستعين " الفاتحة: 15، ففاضت نفسه وله ثلاث وستون سنة. وفيها توفي الحافظ أبو عمرو محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر النيسابوري المزكي، صاحب الأربعين المروية. سبع وتسعين وثلاثمائة فيها توفي الإمام أصبغ بن الفرج الأندلسي المالكي مفتي قرطبة. وفيها توفي أبو الحسن القصار البغدادي المالكي، صاحب كتاب " مسائل

ثمان وتسعين وثلاثمائة

الخلاف. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا أعرف لهم كتاباً في الخلاف أحسن مشه. وقال أبو ذر الهروي: هو أفقه من لقيت من المالكية. وفيها توفي من طبقته أبو الحسن بن القصار علي بن محمد بن عمر الرازي الفقيه الشافعي. كان مفتياً قريباً من ستين سنة، وكان له من كل علم حظ، وعاش قريباً من مائة سنة. ثمان وتسعين وثلاثمائة فيها ثارت فتنة هائلة ببغداد. قصد رجل شيخ الشيعة ابن المعلم وهو الشيخ المفيد وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا، واستنفروا الرافضة، وأتوا قاضي القضاة أبا محمد الأكفاني، والشيخ أبا حامد الأسفراييني، فسبوهما، فحميت الفتنة، ثم إن أهل السنة أخذوا مصحفاً قيل إنه على قراءة ابن مسعود، فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بإتلافه، فأتلف بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي، وشتم فأخذ، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنية، واختفى أبو حامد، واستنفرت الروافض، وصاحوا حاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنية، فانهزمت الرافضة، حرق بعض دورهم، وذلوا وأمر عميد الجيوش بإخراج ابن المعلم من بغداد، فأخرج، وحبس جماعة، ومنع القصاص مدة. وفيها زلزلت الدينور، فهلك تحت الردم أكثر من عثرة آلاف، وزلزلت سيراف السبت، وغرق عدة مراكب، ووقع برد عظيم، وبلغ وزن واحدة منه مائة وستة دراهم. وفيها هدم الحاكم العبيدي الكنيسة المعروفة بالقمامة بالقدس، لكونهم يبالغون في إظهار شعارهم، ثم هدم الكنائس التي في مملكته. ونادى: من أسلم وإلا فليخرج من مملكتي أو يلتزم بما أمر. ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدورهم، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة كبد المكمدة، وزنها ستة أرطال في عنق اليهودي إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، فقيل: كانت الخشبة على تمثال رأس عجل، وبقي هذا مدة

تسع وتسعين وثلاثمائة

سنين، ثم رخص لهم في الردة كونهم مكرهين، وقال: تنزه مساجدنا عمن لا نية له في الإسلام. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني الأديب العلامة بديع الزمان، صاحب المقامات الفائقة التي هي بالاختراع سابقة، وعلى منوالها نسج الحريري مقاماته، واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله، وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج، وإلى ذلك أشار بقوله: فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها، فقلت الفضل للمتقدم والبديع المذكور أحد الفضلاء الفصحاء، وله رسائل بديعة ونظم مليح، سكن هراة من بلاد خراسان. فمن رسائله الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه، وإذا سكن متنه تحرك نتنه. فكذلك الضيف، يسمح لقاؤه إذا طال ثواؤه، ويثقل ظله إذا انتهى محله والسلام. ومن رسائله أيضاً: حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرام لا مشعر الحرام، ومنى الضيف لا منى الخيف، وقنبلة الصلاة لا قبلة الصلاة وله من تعزية الموت خطب قد عظم حتى هان، ومس خشن حتى لان، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت حتى صار أصغر ذنوبها، فانظر يمنة، هل ترى إلا محنة، ثم انظر يسرة هل ترى إلا حسرة؟! ومن شعره من جملة قصيدة طويلة: وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والدهر لو لم يحن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا وله كل معنى مليح حسن من نظم ونثر توفي رحمة الله مسموماً بهراة. وقال بعضهم: سمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة، وعجل دفنه، فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، ونبش عنه، فوجد قد قبض على لحيته، ومات من هول القبر والله أعلم. تسع وتسعين وثلاثمائة فيها رجع الركب العراقي خوفاً من ابن الجراح الطائي، فدخلوا بغداد قبل العيد. وأما ركب البصرة فأجازه بنو زغب الهلاليون. وقال ابن الجوزي: أخذوا للركب ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها توفي أحمد بن محمد الدارمي الشاعر المشهور، كان من فحول شعراء عصره

وخواص مداح سيف الدولة بن حمدان. وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة، وله معه وقائع ومعارضات في أناشيد. ومن شعره في القاضي أبي طاهر صالح بن جعفر الهاشمي: أمير العلا إن العوالي كواسب ... علاك في الدنيا وفي جنة الخلد يمر عليك الحول سيفك في الطلى ... وطرفك ما بين الشكيمة والورد ويمضي عليك الدهر، فعليك للعلى ... وقولك للتقوى وكفك للرفد قلت هذا هو في الأصل المنقول منه، وصوابه علاك من الدنيا ومن جنة الخلد والطلى: بضم الطاء المهملة وتشديدها: الأعناق، وهو مراده في هذا البيت وبكسرها: القطران وما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه، والخمر عند بعض العرب وبفتحها: الولد من ذوات الظلف. والطلي بكسر اللام: الصغير من أولاد الغنم والطرف بكسر الطاء: الكريم من الخيل. وفيها توفي أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصدفي بضم الصاد المنجم المصري صاحب الزيج بكسر الزاي وسكون المثناة من تحت، وفي آخره جيم الحاكمي، المشهور المعروف بزيج ابن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، بسط القول والعمل فيه، وما أقصر في تحريره، وذكر أن الذي أمره بعمله وابتدأه للعزيز بن الحاكم صاحب مصر. قال بعضهم كان ابن يونس المذكور أبله مغفلاً يعتم على طرطور طويل، ويجعل رداءه فوق العمامة، وكان طويلاً، إذا ركب ضحك منه الناس لشهرته ورثاثة لباسه وسوء حالته، وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النخامة، لا يشاركه فيها أحد، وكان متفنناً في علوم كثيرة، وقد أفنى عمره في النجوم والسير والتوليد، ولا نظير له في ذلك، وكان يضرب بالعود على جهة التأدب به، وله شعر حسن منه قوله: أحمل نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه بنفسي من تحيى النفوس بقربه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه وجدد وجدي طائف منه في الكرى ... سرى موهناً في خفية من رقيبه ويحكى أن الحاكم العبيدي صاحب مصر قال وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس

أربع مائة

وتغفله: دخل إلى عندي يوماً ومداسه في يده فقبل الأرض، وجلس وترك المداس إلى جانبه، وأنا أراه وأراها، وهو بالقرب مني، فلما أراد الانصراف قبل الأرض، وقدم المداس ولبسه، وانصرف. قيل: ذكر هذا في معرض غفلته، وقلة اكتراثه. وكانت وفاته فجأة. وفيها توفي القدوة أبو الفضل أحمد بن أبي عمران نزيل مكة رحمه الله. وفيها توفي أحمد بن محمد. الأنطاكي الشاعر ومن شعره قوله في مدح وزير العزيز ابن المعز العبيدي: قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلنا ذنبه وعثاره والمعاني لمن عفت ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره أربع مائة فيها أقبل الحاكم العبيدي على التأله والدين على مقتضى مذهبه، وأمر بإنشاء دار العلم بمصر، وأحضر فيها الفقهاء والمحدثين، وعمر الجامع المعروف بجامع الحاكم في القاهرة، وكثر الدعاء له، فبقي كذلك ثلاث سنين، ثم أخذ يقتل أهل العلم، وأغلق تلك الدار، ومنع من فعل كثير من الخير. وفيها توفي أبو نعيم الأسفراييني عبد الملك بن الحسن، راوي المسند الصحيح عن الحافظ أبي عوانة، وكان عبداً صالحاً. وفيها توفي أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي، الشاعر المشهور، صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس البديع التأسيس، فمن نثره البديع قوله: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. ومن أطاع غضبه أضاع أدبه. عادات السادات سادات العادات. من سعادة جدك وقوفك عند حدك. أجمل الناس من كان للإخوان مذللاً وعلى السلطان مدللاً. الفهم شعاع العقل. المنية تضحك من الأمنية. حد العفاف الرضي بالكفاف، بالخرق الرقيع ترقيع. يعني بالرقيع: الأحمق. قلت: ولو قال: على الإحسان مذللاً، عوضاً عن قوله وعلى السلطان، كان أصلح وعند أهل الخير أملح، لكنه ممن لهم رغبة في القرب السلطان، فللرهبة، ولهذا قال أيضاً: الرشوة رشاء الحاجات: ما دخل نجاس النجاسات في جواهر الجناسات. ومن بديع نظمه قوله: إن هز أقلامه يوماً ليعلمها ... أنساك كل كمي هن عامله وإن أمر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له

وقوله: إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... بما تحدثت من ماض ومن آت فلا تعد لحديث إن طبعهم ... مؤكل بمعاداة المعاداة وقوله: تحمل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع وإن له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع وكم قدروا له أشعاراً شهيرة تجنيساً وغيره. وفيها توفي السيد الجليل الفقيه الفاضل الصالح العالم العامل الورع الزاهد جعفر ابن عبد الرحيم التيمي، من حوالي الجند بفتح الجيم والنون سأله والي الجند الإقامة في بعض تلك البلاد لنفع الخلق بالفتوى والتدريس ونشر العلم، فأجابه إلى ذلك بشرطين أحدهما: إعفاؤه من الحكم، والثاني أن لا يأكل من طعام الوالي شيئاً، فأقام على ذلك مدة، ثم اتفق أنه حضر يوماً عقداً عند الوالي، فأحضر من الطعام ما جرت العادة بإحضاره عند العقد، ثم خص الوالي الفقيه المذكور بشيء من الموز وقال: هذا أهداه لي فلان وذكر إنساناً تطيب به النفس، فكل منه موزتين، ثم خرج، فتقيأهما في دهليز الوالي. ثم لما ملك البلاد ابن الصليحي، سأله أن يتولى القضاء فقال له: لا أصلح لذلك. فأعرض عنه ابن الصليحي مغضباً، فخرج من عنده، فافتقده فلم يجده، فأمر بعض من عنده من الجند أن يلحقوه، ويبطشوا به، فلحقه منهم في بعض الطريق خمسة عشر رجلاً، فضربوه بسيوفهم فلم تقطع فيه شيئاً، ثم كرروا الضرب حتى آلمتهم أيديهم، فلم يؤثر فيه، فرجعوا وأعلموا ما مضى من ابن الصليحي، فأمرهم بكتمان ذلك. وسئل الفقيه المذكور عن حاله وقت الضرب فقال: كنت أقرأ سورة يس فلم أشعر بالضرب.

/سنة احدى واربع مائة فيها أقام صاحب الموصل الدعوة ببلده للحاكم أحد خلفاء الباطنية، لأن رسل الحاكم تكررت إلى صاحب الموصل قرواش بفتح القاف والراء وبعد الألف شين معجمة ابن مخلد بفتح اللام فأفسدوه، فسار قرواش إلى الكوفة، فأقام بها الخطبة للحاكم وبالمدائن، وأمر خطيب الأنبار بذلك، فهرب وأبدى قرواش صفحة الخلاف، وعاث، وأفسد، فأرسل القادر بالله، إلى الملك بهاء الدولة الإمام أبي بكر الباقلاني فقال: قد كاتبنا أبا علي عميد الجيوش في ذلك، ورسمنا بأن ينفق في العسكر مائة ألف دينار، وإن دعت الحاجة إلى مجيئنا قدمنا. ثم إن قرواش خاف الغلبة فأرسل يعتذر، وأعاد الخطبة العباسية، ولم يحج ركب العراق لفساد الوقت. وفيها توفي عميد الجيوش أبو علي الحسين بن أبي جعفر، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة. وخدم أبو علي بهاء الدولة، وترقت مرتبته، فولاه نائباً عنه بالعراق، فأحسن سياستها، وأبطل عاشوراء الرافضة، وأباد الحرامية والشطار، وصار عدله ذا اشتهار. وفي عدله وهيبته حكايات ذكرها العلماء والأخيار. وفيها توفي العالم الكبير أبو عمرو أحمد بن عبد الملك الاشبيلي المالكي. انتهت إليه رئاسة العلم بالأندلس في زمانه، مع الورع والصيانة، ودعي إلى القضاء بقرطبة مرتين فامتفع، وصنف كتاب الاستيعاب في مذهب مالك في عشر مجلدات. وفيها توفي صاحب كتاب الغريبين أحمد بن محمد الهروي. كان من العلماء، وما أقصر في كتابه المذكور، وكان يصحب أبا منصور الأزهري اللغوي، وعليه اشتغل، وبه انتفع وتخرج، وكتابه المذكور جمع فيه بين تفسير غريب القرآن الكريم وغريب حديث الرسول عليه السلام، وهو من الكتب النافعة التي سارت في الإذاق الشاسعة. وفيها توفي أبو عمر أحمد بن محمد القرطبي الأموي مولاهم، روى عن قاسم بن

سنة اثنتين واربع مائة

أصبغ وخلق، وهو أكبر شيخ لابن حزم. وفيها توفني قاضي قضاة العبيديين وابن قاضيهم؛ عبد العزيز بن محمد بن نعمان. قتله الحاكم وقتل معه قائد القواد حسين أبن القائد جوهر، وبعث من حمل إليه رأس قاضي طرابلس أبي الحسين علي بن عبد الواحد، لكونه سلم عزاز إلى متولي حلب. وفيها توفي أبو الحسن العلوي النيسابوري شيخ الأشراف، وكان سيداً نبيلاً صالحاً. قال الحاكم: عقد له مجلس الإملاء، واتتقبت له ألف حديث، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة. وفيها وقيل في التي قبلها ترفي أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر المشهور، ومن ألفاظه المليحة ما تقدم من قوله: من أصلح فاسده أرغم حاسده، إلى آخرها. سنة اثنتين واربع مائة فيها كتب محضر ببغداد في القدح في النسب الذي يدعيه خلفاء مصر العبيديون وفي عقائدهم، وأنهم زنادقة منسوبون إلى الخرمية بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وكسرالميم وفتح المثناة من تحت مشددة وفي آخره هاء إخوان الكافرين، شهادة يتقرب بها إلى رب العالمين، وإن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم حكم الله تعالى عليه بالبوار مع كلام طويل قاله فيه: لما صار الملقب بالمهدي إلى المغرب، تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وهو ممن تقدم من سفلة الأنجاس، أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي رضي الله تعالى عنه، وقد كان هذا الإنكار شائعاً بالحرمين، ولا نعلم أحداً من الطالبيين توقف في إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم ادعياء، وإن هذا الناجم بمصر وسيلة كفار وفساق بمذهب التنوية والمجوسية معتقدون قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة، وكتب خلق في المحضر: منهم الشريف المرتضى وأخوه الشريف الرضي وجماعة من الكبار العلوية، والقاضي أبو محمد الأكفاني، والإمام أبو حامد الاسفراييني، والإمام أبو الحسين القدوري، وخلق كثير.

سنة ثلاث وأربع مائة

وفيها توفي أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد الأندلسي القرطبي صاحب التصانيف. كان من جهابذة المحدثين وحفاظهم، جمع ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان يملي من حفظه. وقيل: إن كتبه بيعت بأربعين ألف دينار قاسمية ولي القضاء والخطابة، وعزل بعد تسعة أشهر، وله كتاب أسباب النزول في مائة جزء وكتاب فضائل الصحابة والتابعين في مائتين وخمسين جزءاً. وفيها توفي الإمام أبو الحسن بن اللبان الفرضي، محمد بن عبد الله البصري. روى سنن أبي داود، وسمعها منه القاضي أبو الطيب. قال الخطيب: انتهى إليه علم الفرائض، وصنف فيها كتباً. وروى عنه بعضهم أنه قال: ليس في الأرض فرضي إلا من أصحابي أو أصحاب أصحابي إلا ويحسن شياً. وكان إماماً في الفقه والفرائض، صنف فيهما كتباً نفيسة، وبه وبالإمام أبي حامد الاسفرائيني تفقه الحاقظ محمد بن يحيى المعروف بابن سراقة والقاضي الإمام أبو عبد الله الجعفي الكوفي الحنفي المعروف بابن النهرواني. سنة ثلاث وأربع مائة فيها أخذ الركب العراقي وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني البخاري الشافعي، صاحب التصانيف المستحسنة والآثار الحسنة والفضائل المتفقة وهو صاحب وجه في المذهب، تفقه على أبي بكر الأودن، وأبي بكر القفال. ثم صار إماماً معظماً مرجوعاً إليه في ما وراء النهر. وفيها توفي شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى صاحب المصنفات في أنواع مختلفات. وفيها توفي الوليد بن محمد بن يوسف الأزدي الأندلسي القرطبي الحافظ المعروف بابن الفرضي. كان فقيهاً عالماً في فنون العلم من الحديث وعلم الرجال والأدب البارع، وله من التصانيف تاريخ علماء الاندلس، وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك، ورحل من الأندلس إلى المشرق، فحج وأخذ عن العلماء، وسمع منهم، وكتب من إمامهم. ومن شعره: أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها ... ويرجوك فيها فهو راج وخائف فمن ذا الذي يرجى سواك ويتقي ... وما لك من فضل القضاء مخالف فيا سيدي، لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصد ذوو القربى ويحفوا الموالف فإن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف قلت ما أحسسن هذه الأبيات إذا تضرع فيها بقلب وجلة الرجل المتوجه إلى الله عز وجل، إلا أن فيها شيئين: احدهما قوله أنت عارف والله تعالى لا يقال له عارف وإنما يقال: عالم وفيه بحث يطول موضع ذكره في كتب الأصول. والثاني أن في الأصل المنقول منه يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها بتقديم لم وهو مكسور، ولعله من غلط الكاتب، وصوابه على ما ذكرته. توفي شهيداً، قتلته البربر رحمه الله يوم فتح قرطبة، وروي عنه أنه قال: تعلقت بأستار الكعبة فسألت الله الشهادة. وفيها توفي سيف السنة وناصر الملة الإمام الكبير الحبر الشهير، لسان المتكلمين وموضح البراهين، وقامع المبتدعين وقاطع المبطلين، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المشهور بابن الباقلاني الأصولي المتكلم المالكي الأشعري المجدد به دين الأمة على رأس المائة الرابعة على القول الصحيح. وقد أوضحت ذلك، وذكرت طرفاً من مناقبه في الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم ومناقب مائة إمام من أعيان أئمة الأشعرية، وإنه كانت محاسن القاضي أبي بكر المذكور الباطنة أكثر من محاسنه الظاهرة، وكان كل ليلة إذا قضى ورده كتب خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان فريد عصره في فنه. وله التصانيف الكبيرة المسندة الشهيرة، وإليه انتهت الرئاسة في هذا العلم، وكان ذا باع طويل في بسط العبارة، مشهوراً بذلك، حتى إنه جرى بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة يوماً، فأطال قاضي أبو بكر فيها الكلام، ووسع في العبارة، وزاد في الإسهاب، وبالغ في الإيضاح الإطناب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لأغير الايضاح، ولم أطالب بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا على أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال. وقال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي: محمد بن الطيب أبو بكر القاضي معروف بابن الباقلاني، المتكلم على مذهب الأشعري، وكان ثقة، أعرف الناس بعلم الكلام وأحسهم خاطراً وأجودهم لساناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، وقال: حدثت أن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها حضر بعض مجالس النظر مع أصحابه، فأقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وقال: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه وكان بعيداً فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه، وقال: قال الله تعالى " أنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً " - مريم 83 -.

وقال الشيخ أبو القاسم بن برهان النحوي: من سمع مناظرة القاضي أبي بكر لم يستلذ بعدها لسماع كلام أحد من المتكلمين والفقهاء والخطباء والمترسلين، ولا الأغاني أيضاً لطيب كلامه وفصاحته وحسن نظامه وإشارته. وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من المعتزلة والرافضة والخوارج والمرجئة والمشبهة والحشوية. وحكى الحافظ ابن عساكر عن أهل العلم أنه قال: كان القاضي أبو بكر فارس هذا العلم مباركاً علي هذه الأمة، يلقب سيف السنة ولسان الأمة، وكان مالكياً فاضلاً متورعاً ممن لم يحفظ عليه زلة قط، ولا تنسب إليه نقيصة. وذكر الإمام القاضي أبو المعالي بن عبد الملك، عن الشيخ الإمام أبي الحاكم القزويني قال: كان الإمام أبو بكر الأشعري يضمر من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك فقال: إنما ظهر ما أظهره غيظاً لليهود والنصارى والمبتدعين المخالذين، لئلا يستحقروا علماء الحق والدين. وقال الحافظ ابن عساكر: كان الانتساب إلى الاعتزال فاشياً منتشراً، وكل من كان متسنناً مستخفياً مستتراً إلى أن قام القاضي أبو بكر بنصرة المذهب، واشتهر في المشرق والمغرب. وكان مظهره بدار السلام التي هي قبة الإسلام، فلم يظهر لذلك تغيير من الأنام، ولا نكرة من العلماء والعوام بل كان الكل يتقلدون منه المنة من العوام، والأئمة يلقبونه بأجمعهم سيف السنة ولسان الأمة. وكان بينه وبين جماعة من الحنابلة مخالطة ومؤانسة واجتماع ومجالسة. ونقل الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الخوارزمي قال: كل مصنف ببغداد، إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه، سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس. وروى الحافظ الخطيب أنه كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدرعلى ذلك لسعة علمه وكثرة حفظه. ولما توفي حضر الشيخ أبو الفضل التميمي الحنبلي حافياً مع إخوانه وأصحابه، وأمر أن ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن سنة الشريعة المخالذين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين. وروى الحافظ أبو القاسم بسنده إلى القاضي أبي الفخر قال: سمعت الطائي يقول: كنت أشتهي أن أرى القاضي الإمام أبا بكر في النوم، فلم يتفق لي، فنمت ليلة، وصليت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف مرة، وسألت الله تعالى ونمت، فلما كان وقت السحر، رأيت جماعة حسنة ثيابهم، بيضاء وجوههم، طيبة

روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم؟ فقالوا: من الجنه. فقلت: ما فعلتم؟ فقالوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت: وما فعل الله به؟ فقالوا: غفر له، ورفع له في الدرجات. قال: ففارقتهم، ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر، وعليه ثياب حسنة، وهو جالس في رياض خضرة نضرة، فهممت أن أساله عن حاله، وسمعته يقرأ " أفهو في عيشة راضية في جنة عالية " - الحاقة 21 - 22 - فهالذي ذلك فرحاً، وانتبهت. ولما توقني رثاه بعضهم في هذين البيتين: انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر ما يحوي من السلف انظر إلى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف قلت: لقد ضمن هذين البيتين مدحاً عظيماً يليق بجلالة الإمام المذكور، ويناسب حاله المشهور، ولكن لو أبدل لفظين من بيته كان أحسن وأنسب - فيما أرى - أحدهما قوله ما يحوي من السلف لو قال: من الشرف، والثاني قوله درة الإسلام لو قال: درة التوحيد، لتغاير بين اللفظين، فإنه قد قال في هذا البيت: صارم الإسلام والتوحيد. وإن كان الإسلام داخلاً فيه، فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير ومن قصيدة مدحه بها أبو الحسن السكري، قال بعد ذكر الغزل: ملكت محبات القلوب ببهجة ... مخلوقة من عفة وتخبب فكأنما من حيثما قابلتها ... شيم الإمام محمد بن الطيب اليعربي بلاغة وفصاحة ... والأشعري إذا اعتزى للمذهب قاض إذا التبس القضاء على الحجى ... كشفت له الآراء كل مغيب لا تستريح إذا الشكوك تخالجت ... إلا إلى لب كريم المنصب وصلته همته بأبعد غاية ... أعني المريد بها سلوك المطلب أهدي له ثمر القلوب محبة ... وحباه حسن الذكر من لم يحبب ما زال ينصر دين أحمد صارعاً ... بالحق يهدي لطريق الأصوب والناس بين مضلل ومضلل ... ومكذب فيما أتى ومكذب حتى انجلت تلك الضلالة فاهتدى ... الساري وأشرق جنح ذاك الغيهب وفيها توفي الأمير شمس المعالي أبو الحسن قابوس بن أبي طاهر الجيل، أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. قال الثعالبي في اليتيمة: أختم هذا الكتاب بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم

بضبطه القلم، وإلى فضل الحكم فصل الحكم. ومن. مشهور ما ينسب إليه من الشعر قوله: قل للذي بصروف المصر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر يعلو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضرر ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر وله من النظم والنثر أشياء مستحسخة، وكذلك كان خطه في نهاية من الحسن. وكان الصاحب ابن عباد إذا رآه قال: هذا خط قابوس أم جناح الطاوس؟ وينشد قول المتنبي: في خطه من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء وكان الأمير المذكور صاحب جرجان وتلك النواحي، وكانت من قبله لأبيه، ثم انتقلت مملكة جرجان عنهم إلى غيرهم، وشرح ذلك يطول. وكان ملك قابوس المذكور لها في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكانت المملكة قد انتقلت إلى أبيه من أخيه. قالوا: وكان قابوس من محاسن الدنيا وبهجتها، غير أنه على ما خص به من المناقب والرأي البصير بالعواقب من السياسة لا يساغ كأسه، ولا تؤمن سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم، ولا يذكر العفو عند الغضب على من أجرم، فما زال على هذا الخلق قابوس حتى استوحشت منه النفوس، وانقلبت عنه القلوب، وتجافى الصاحب عن المصحوب، فأجمع أهل عسكره على خلعه عن ولايته، ونزع الأيدي عن طاعته، وحالوا بينه وبين جرجان، وملكوها، وبعثوا إلى ولده أبي منصور ليعقد البيعة له، فأسرع في الحضور. فلما وصل إليهم أجمعوا على طاعته أن خلع أباه، فلم يسعه في تلك الحال إلا المداراة، فأجابهم خوفاً على خروج الملك عن بيتهم ولما رأى قابوس هذا المرام، توجه بمن معه من خواصه إلى ناحية بسطام، لينظرما يستقر عليه الأمر. فلما سمعوا بخروجه حملوا ولده على قصده وإزعاجه عن مكانه، ومقابلته بالشر. فسار معهم مضطراً إلى أبيه، فتلاقيا، وتباكيا لما جرى من تغير الحال، وتشاكيا، وعرض الولد نفسه أن يكون حجاباً بينه وبين أعاديه، فلو قوبل بالقتال لقتل، وذهب نفسه فيه. ورأى الوالدان ذلك لا يجدي، ولا توجد نجدة، وأن ولده أحق بالولاية والملك بعده، فسلم إليه خاتم المملكة، واستوصاه خيراً بنفسه ما زال في قيد الحياة واتفقا على أن يكون الوالد في بعض القلاع إلى حلول أجله والأنسلاخ من الحياة والانقطاع، أو فناء أعاديه من البلاد والقلاع. فانتقل إلى قلعة

سنة أربع وأربع مائة

هنالك، وشرع الولد في الإحسان إلى الجيش وهم يسومون والده المهالك، فلم يزالوا يسيؤون، وهو يحسن إليهم حتى قتلوا والده خشية قيامه عليهم فآل الأمر إلى ما ذكر من إكساف الشمس والقمر. سنة أربع وأربع مائة فيها، وقيل في سنة اثنتين وأربع مائة وقيل ذلك توفي الإمام الجليل السيد الحفيل أبو الطيب الصعلوكي سهل ابن الإمام أبي سهل العجلي النيسابوري الشافعي، مفتي خراسان،، قال الحاكم: هو أنظر من رأينا تخرج به جماعة. واختلفوا فيه وفي القاضي أبي بكر الباقلاني، أيهما كان على رأس المائة الرابعة في كونه مجدد الدين للأمة؟ فقيل: هو، لكثرة فنونه واتساع فضائله العلمية والعملية، وقيل: القاضي أبو بكر، لاحتياج الناس في زمن البدع إلى علم الأصول أكثر من علم الفروع وغيره لادحاض حجج المبتدعين بقواطع جراهين. وقد تقدم أن هذا القول أصح. وممن رجحه من الأئمة الجلة الالأكابر، الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وذلك أن الباقلاني المذكور كان بارعاً في علم الأصول، كان فيه الغالب عليه من بين العلوم، أنفق فيه أوقات عمره، فهو بالتقدم فيه مشهور. وقد ذكرت أيضاً في الشاش المعلم شيئاً من مناقب سهل المذكور ومناقب أبيه. سنة خمس وأربع مائة فيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير أبو القاسم المعروف بابن كج يوسف بن حمد الدينوري. كان يضرب به المثل في حفظه لمذهب الشافعي، وكان بعض الفقهاء يفضله على الشيخ أبي حامد الاسفرائيني وهو صاحب وجه في المذهب وقد قيل له: يا أستاذ؛ الاسم لأبي حامد والعلم لك، فقال: ذاك رفعة بغداد، وجعلني الدينور قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من رمضان. وفيها توفي الواعظ الزاهد أبو القاسم بكر بن شاذان قال الخطيب: كان عبداً صالحاً. وأبو محمد الأكفاني، قال: أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد الطبري: من قال إن أحداً أنفق على أهل العلم مائة ألف دينار فقد كذب غير أبي محمد بن الأكفاني. وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن نباته الشاعر التميمي السعدي. جمع في شعره بين حسن السبك وجودة المعنى، طاف البلاد، ومدح الملوك والوزراء والرؤساء، وله في سيف

الدولة بن حمدان غرر القصائد ونخب المدائح، وكان قد أعطاه فرساً أدهم أغر محجلاً فكتب إليه. يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه، ورؤاه من رأيه قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هادية تعقد أرضه بسمائه أولاته وليتنا فبعثته ... رمحاً يشيب العرف عقد لوائه نجياك منه على أغر محجل ... ما للدياجي قطرة من مائه فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتض منه فخاض في أحشائه في أبيات أخرى. وله أيضاً في سيف الدولة. لم يبق جودك لي شيئاً أوصله ... تركني أصحاب الدنيا بلا فعل وهذا المعنى، فيه يقول البحتري: وقطعتني بالجود حتى إنني ... متخوف أن لا يكون لقاء أخجلتني تبدي يديك فسودت ... ما بيننا تلك الندا البيضاء وفي معناه أيضاً قول دعبل: أصلحتني بالبر حتى أفسدتني ... وتركتني أتسخط الإحسانا وهذا المعنى مطروق للشعراء. وما ألطف قول المعري فيه: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر الخصر بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة وبعدها راء: البرد الشديد. والمعنى: إن الماء إذا أفرط في شدة برودته ترك شربه، وقال محمد بن وشاح: سمعت عبد العزيز بن نباتة يقول: كنت يوماً في دهليزي، فدق علي الباب، فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المشرق. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والداء واحد فقلت نعم، فقال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم. ثم كذلك ذكر أنه سأله آخر من المغرب، فأجابه كذلك وقال: عجبت كيف وصل إلى الشرق والغرب. ولعبد العزيز المذكور أيضاً: متع لحاظك من خل تودعه ... فما أخالك بعد اليوم بالوادي قال أبو الحسن محمد بن علي البغدادي صاحب كتاب المفاوضة عدت أبا نصر بن

سنة ست واربع مائة

نباتة في اليوم الذي توفي فيه، فأنشدني هذا البيت، وودعته وانصرفت، فأخبرت في طريقي أنه توفي. وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ الشهير أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المعروف بالحاكم ابن البيع النيسابوري، إمام أهل الحديث في وقته. كتب عن نحو الذي حديث شيخ، وبرع في معرفة الحديث وفنونه، وصنف التصانيف، وتفقه على الإمام أبي سهل الصعلوكي الفقيه الشافعي، ولازمه الدارقطني، وسمع منه الإمام أبو بكر القفال الشاشي وغيره من الأئمة. وفيها وقيل في سنة ثلاث وستين وأربع مائة توفي ابن زيدون المخزومي الأندلسي الشاعر المشهور. ومن شعره: يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع يكفيك أني إن حملت قلبي ما ... لا يستطيع قلوب الناس يستطع ته أحتمل واستطل أصبر وعز ... أهن وول أقبل اسمع ومر أطع ومن شعره أيضاً: تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سوداً، وكانت بكم بيضاً ليالينا بالأمس كنا وما نخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا ومنه أيضاً: لم تدر ما خلتعيناك في خلديمن الغرام ولا ما كابدت كبدي سنة ست واربع مائة فيها توفي الإمام الجليل الفاضل، مقر النجابة والفضائل، الشيخ أبو حامد أحمد بن

أبي طاهر محمد بن أحمد الاسفرائيني الفقيه الشافعي، شيخ طريقة العراق، وإمام الشافعية بالاتفاق. انتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلائمائة فقيه هكذا ذكر بعضهم، وقال بعضهم: سبع مائة فقيه، علق على مختصر المزني تعاليق، وطبق الأرض بالأصحاب، وله فى المذاهب: التعليقة الكبرى في نحو خمسين مجلداً، وكتاب البستان، ذكر فيه غرائب، وهو كتاب صغير. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن المرزباني، ثم عن أبي القاسم الداركي. واتفق أهل عصره على جلالته وتفضيله وتقديمه في جودة النظر. وذكر الخطيب أنه حدث بشيء يسير عن عبد الله بن عدي، وأبي بكر الاسماعيلي، وابراهيم بن محمد الاسفرائيني وغيرهم. وقال: وكان ثقة، ورأيته غير مرة، وحضرت تدريسه، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة متفقه. وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وحكى الشيخ أبو إسحاق في كتاب الطبقات أن أبا الحسن القدوري كان يعظمه ويفضله على كل أحد، وأن الوزير أبا القاسم علي بن الحسن حكى له عن القدوري أنه قال: أبو حامد عندي أفقه وأنظر من الشافعي. قال الشيخ أبو إسحاق: فقلت له: هذا القول من القدوري، حمله عليه اعتقاده في الشيخ أبي حامد، وتعصبه للحنفية على الشافعي، ولا يلتفت إليه فإن أبا حامد، ومن هو أعلم منه وأقدم على بعد من تلك الطبقة، وما مثل الشافعي ومثل من بعده إلا كما قال الشاعر: نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وقال تلميذه الإمام سليم الرازي: كان لا يخلو له وقت عن اشتغال، حتى إنه كان إذا أبوأ القلم قرأ القرآن أو سبح، وكذلك إذا كان ماراً في الطريق. وروى القاضي الإمام طاهر ابن الإمام العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير العمراني اليمني بسنده عن بعض شيوخه بالسند المتصل عن الإمام أبي الفتوح يحيى بن عيسى بن ملامس، عن والده قال: لقيت الشيخ الإمام أبا حامد الاسفرائيني بمكة في بعض المواسم، فرأيت عليه ثياباً ثمينة من ثياب الملوك، ورأيته يركب مراكب الملوك، ورأيته في الطواف والناس يعظمونه فقرأ في الطواف قارىء: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً " - القصص 83 - فبكى الشيخ أبو حامد بكاء شديداً، وسمعته يقول: أما العلو يا رب فقد أردناه، وأما الفساد فلم نرده. وروي أنه قابله بعض الفقهاء في مجلس المناظرة بما لا يليق، ثم أتاه في الليل معتذراً إليه، فأنشده أبو حامد: جفاء جرى جهراً لدى الناس وانبسط ... وعذراً أتى سراً فأكد ما فرط

ومن ظن أن يمحو جلي جفائه ... خفى اعتذار فهو في أعظم الغلط وفي الإمام أبي حامد المذكور ما هو عن بعضهم بهذا اللفظ مسطور، لما عاد مريضاً أنشأ المريض يقول: مرضت فاشتقت إلى عائد ... فعادني العالم في واحد ذاك الإمام ابن طاهر ... أحمد ذو الفضل أبو حامد وكانت ولادته رحمه الله في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وقال الخطيب: سنة أربع وستين. ودرس الفقه بها من سنة سبعين إلى أن توفي في السنة المذكورة، ودفن في داره، ثم نقل إلى باب حرب في سنة عشر وأربعمائة. قلت: وهذا يقتضي أنه نقل بعد موته بأربع سنين، وأن جسده ما بلي، ويكون ذلك كرامة في حقه. وقال الخطيب: صليت على جنازته في الصحراء، وكان الإمام في الصلاة عليه عبد الله بن المهدي، خطيب جامع المنصور، وكان يوماً مشهوراً بعظم الحزن وكثرة الناس وشدة البكاء. ونسبته إلى إسفراين بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الفاء والراء وكسر الياء المثناة من تحت وبعدها نون هي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير، وحيد عصره ونسيج وحده، الأستاذ أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري. وفيها توفي الإمام الكبير الأستاذ الشهير محمد بن الحسن بن فورك بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء الأصفهاني، صاحب التصانيف الحميدة والسيرة السديدة والفضائل العديدة والعزيمة الشديدة والشمائل الجريدة والأوصاف السعيدة، المتكلم الأصولي، الأديب النحوي الواعظ. دخل العراق، وأقام بها مدة يدرس العلم، ثم توجه إلى الري، فسمعت به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور، والتمسوا منه التوجه إليهم، ففعل، وورد نيسابور، فبنى له مدرسة وداراً، وأحيى الله به أنواعاً من العلوم. ولما استوطنها ظهرت بركته على جماعة المشتغلين بالعلم، وبلغت مصنفاته في أصول الفقه والدين ومعاني القرآن قريباً من مائة مصنف، ورحل إلى مدينة غزنة بفتح الغين المعجمة والنون وسكون الزاي بينهما مدينة عظيمه في أوائل الهند من جهة خراسان، وجرت له بها مناظرات كثيرة. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: الشغل بالعيال نتيجة متابعة شهوة الحلال، فما ظنك

بقضية شهوة الحرام. وكان شديد الرد على أصحاب عبد الله بن كرام، ثم عاد إلى نيسابور، فسم في الطريق، فمات هناك، ونقل إلى نيسابور، ومشهده ظاهر هنالك، يزار، ويستسقى به لنزول الأمطار، وتجاب الدعوة عنده رحمة الله عليه ورضوانه. وفي السنة المذكورة توفي الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي البغدادي الشيعي، نقيب الأشراف، ذو المناقب ومحاسن الأوصاف، صاحب ديوان الشعر. ذكره الثعالبي في كتابه اليتيمة، وقال: ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أهل الزمان إنشاء، وأعجب سادة أهل العراق يعني الجهابذة الحذاق يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبين على كثرة شعرائهم المفلقين يعني بالمفلقين بضم الميم وسكون الفاء وكسر اللام والقاف: الدهاة الآتين بالأمر العجيب. قال: ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أخبرته شاهد عدل من شعره العالي المدح، الممتنع في وصفه عن القدح الذي يرجع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها. ومن غرر شعره ما كتبه إلى الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدر من جملة قصيدة: عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها، وأنت مطوق ويقال: أعرق الرجل: إذا كان له عرق في الكرم، كذلك الفرس، ويقال أيضاً في اللؤم، بضم اللام. ومن جيد قوله أيضاً: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبداً يمانع عاشقاً معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ... ضجراً دواء الفارك التطليق وديوان شعره كبير، يدخل في أربع مجلدات، وهو كثير الوجود، فلا حاجة إلى الإكثار من ذكره. وذكر أبو الفتح ابن جني النحوي أن الشريف المذكور أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل لم يبلغ عمره سنين، فلقنه النحو، وقعد معه يوماً في الحلقة، فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا: رأيت عمر، فما علامة النصب في عمر؟ فقال له الرضي: بغض علي فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره. وذكر أنه حفظ القرآن

سنة سبع واربع مائة

في مدة يسيرة، وصنف كتاباً في معاني القرآن يتعذر وجود مثله، دال على توسعه في علم النحو واللغة، وصنف كتاباً في مجازات القرآن، فجاء نادراً في بابه. وقال الخطيب: سمعت أبا عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون الرضي أشعر قريش، فقال ابن محفوظ: هذا صحيح، وقد كان في قريش من يجيد القول، إلا أن شعره قليل، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي. سنة سبع واربع مائة فيها سقطت القبة العظيمة التي على صخرة بيت القدس. وفيها هاجت فتنة مهولة بواسط بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت دور الشيعة، أحرقت، وهربوا، وقصدوا علي بن مزيدة واستنصروا به. وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي مصنف كتاب الألقاب. وفيها توفي محمد بن أحمد بن شاكر القطان المصري، مؤلف فضائل الشافعي. وفيها توفي أبو الحسن المحاملي محمد بن أحمد بن القاسم بن اسماعيل الطيبي. البغدادي الشافعي الفرضي شيخ سليم الرازي. وفيها توفي الوزير فخر الملك أبو غالب محمد بن علي، وزير بهاء الدولة وسلطان الدولة. وكان فخر الدولة من أعظم وزواء آل بويه على الإطلاق بعد أبي الفضل محمد بن العميد، والصاحب بن عباد، وكان واسع النعمة، فسيح مجال الهمة، جم الفضائل، جزيل سطايا والنوال. قصده جماعة من أعيان الشعراء، ومدحوه، وقرضوه بنجب المدائح، منهم أبو نصر بن نباتة بقصيدة منها قوله: لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أملته وأنا الضمين وحكي أنه مدحه بعض الشعراء بعد هذه القصيدة، فلم يجزه بما يرضيه، فجاء إلى ابن نباتة المذكور وقال له: أنت غررتني، وأنا ما مدحته إلا ثقة بضمانك، فتعطيني ما يليق بمثل قصيدتي، فأعطاه من عنده شيئاً رضي به، فبلغ ذلك الملك، فسير لابن نباتة جملة مستكثرة

سنة ثمان وأربع مائة

لهذا السبب. وقال فيه بعضهم: أرى كبدي وقد بردت قليلاً ... أمات الهم أم عاش السرور أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير ومن أجله صنف ابن الحاسب كتاب الفخري في الجبر والمقابلة. وحكي أنه رفع إليه قصة سعى فيها بهلاك شخص، فوقف فخر الملك عليها، وقلبها وكتب في ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله تقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في حقارة سبيل لقابلناك بما يشبه مقالك، ويروع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام. ولم يزل فخر الملك في عزة وجاهة وحرمة إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة المذكور بسبب، فقتله. قلت: وكم من تعاسة تنال ذوي الولايات، ثم لا يرتدعون من طلب الرئاسات. سنة ثمان وأربع مائة فيها وقعت فتنة عظيمة بين السنية والشيعي، وتفاحشت، وقتل طائفة من الفريقين، وعجز صاحب الشرطة عنهم، وقاتلوه، فأطلق الذيران في سوق نهر الدجاج. وفيها استتاب القادر بالله وكان صاحب سنة طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم في التوبة، وبعث إلى السلطان في ذلك الوقت يبث السنة بخراسان، ففعل ذلك، وبالغ وقتل جماعة، ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والجهمية والمشبهة، وأمر بلعنهم على المنأبو. وفيها قتل الدوري وقطع لكونه ادعى ربوبية الحاكم. وفيها توفي أبو الفضل الخزاعي محمد بن جعفر الجرجاني المقرىء، مصنف كتاب الواضح، وكان كثير التطواف في طلب القراءات. وفيها توفي أبو عمر البسطامي محمد بن الحسين الشافعي، قاضي نيسابور وشيخ الشافعية بها، رحل وسمع الكثير، ودرس المذهب، وأملى على الطبراني وطبقته.

سنة تسع وأربعمائة

سنة تسع وأربعمائة فيها توفي الحافظ الكبير النسابة عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري، صاحب التصانيف النافعة، منها كتاب المؤتلف والمختلف. كان الدارقطني يفخمه ويقول: كأنه شعلة نار. وقال منصور الطرسوسي: خرجنا نودع الدارقطني بمصر، فبكينا، فقال: تبكون وعندكم عبد الغني؟ وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من عبد الغني رحمه الله. وفيها توفي ابن الصلت محمد بن أحمد الأهوازي. وفيها توفي الشيخ الكبير عبد الله بن يوسف، نزيل نيسابور، من كبار الصوفية وثقات المحدثين. سنة عشر وأربع مائة فيها افتتح السلطان محمود بن ناصر الدولة الهند، وأسلم نحو من عشرين ألفاً، وقتل من الكفار نحو خمسين ألفاً، وهدم مدينة الأصنام، وبلغ عدد الخمس من الرقيق ثلاثة وخمسين ألفاً، واستولى على عدة قلاع وحصون، وكان جيشه ثلاثين ألف فارس سوى الرجالة والمطوعة، ولم يزل يفتح في بلاد الهند إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، وطهرها من أرجاس الشرك، وبنى مساجد وجوامع. وتفصيل حاله في الحروب والفتح يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب كتاباً إلى بغداد يذكر فيه ما فتح الله عل يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الضم المشهور بسومنات، وذكر في كتابه أن هذا الصنم عند الهنود يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبرىء من العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم برء عليل بقصده، ويوافقه طيب الهواء، وكثرة الحركة، ويزيدون به افتناناً ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالاً وركباناً، ومن لم يصادف منهم انتعاشاً أجنح بالذنب وقال: إنه لم يخلص له الطاعة، فلم يستحق منه الإجابة. ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ وتشبيهها فيمن شاء، وأن مد البحر وجزره عبادة له على قدر طاعته، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجونه من كل صقع بعيد، ويأتونه من كل فج عميق، يتحفونه بكل مال نفيس، ولم يبق في بلاد الهند والسند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة إلا

وقد تقرب إلى هذا الصنم بما عز عليه من أمواله وذخائره، حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية في تلك البقاع، وامتلأت خزانته من أصناف الأموال. وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلاث مائة رجل يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم عند الورود عليه، وثلاثمائة رجل وخمس مائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من الأوقات المصدرة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم. وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم المذكور مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة الماء وصعوبة المسالك واستيلاء الرمل على طرقها. وسار إليها السلطان محمود في العدد المذكور مختاراً له من عدد كثير، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى، فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصناً منيعاً، ففتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصنم وحوله من أصنام الذهب والمرصع بأنواع الجواهر عدة كثيرة محيطة بعرشه يدعون أنها الملائكة فأحرق المسلمون الصنم، ووجد وافي أذنه نيفاً وثلاثين حلقة، فسألهم محمود عن معنى ذلك فقالوا: لكل حلقة عبادة ألف سنة، وكلما عبدوه ألف سنة علقوا في أذنه حلقة. وذكروا من أخبار هذا الصنم هذياناً يطول ذكره، حذفت بعضه، وذكرت بعضه، وبعض المؤرخين حذف الجميع، وبعضهم ذكر الجميع. ومما ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهور، ومن فضل مذهب الشافعي معدود ما سيأتي الآن ذكره، ويعلم منه فضل المذهب المذكور وفخره، قضية عجيبة مشتملة على نادرة غريبة، وهي ما ذكره إمام الحرمين: فحل الفروع والأصليين أبو المعالي عبد الملك ابن شيخ الإسلام، أبي محمد الجويني في كتابه الموسوم بمغيث الخلق في اختيار الحق أن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان الناس أو قال: الفقهاء يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده حبه، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي، وركعتين على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما، يقتصر فيهما على أقل الفروض، لينظر فيها السلطان، ويتفكر، ويختار. ما هو أحسنه، فصلى القفال المروزي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، واتى بالأركان والفرائض على وجه الكمال والتمام، وكانت صلاة لا يجوز الشافعي دونها، ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة، ولبس جلد كلب مدبوغ، ولطخ ربعه بالنجاسات، وتوضأ بنبيذ التمر وكانت في صميم الصيف في المفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكوساً منكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية للوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية دوبرك كل سبز ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهد وضرط

سنة احدى عشرة وأربع مائة

في آخره من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم يكن هذه صلاة أبي حنيفة قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى كلام إمام الحرمين. لام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم يكن هذه صلاة أبي حنيفة قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى كلام إمام الحرمين. سنة احدى عشرة وأربع مائة فيها كان الغلاء المفرط بالعراق، حتى أكلوا الكلاب. وفيها توفي الحاكم بأمر الله أبو علي منصور بن العزيز بن نزار بن المعز العبيدي صاحب مصر والشام والحجاز والمغرب، فقد في شوال وله ست وثلاثون سنة. جهزت أخته ست الملك عليه من قتله، وكان شيطاناً مهيباً خبيث النفس متلون الاعتقاد، سمحاً جواداً سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيرأ من كبراء دولته صبراً، وأمر بشتم الصحابة، وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتى لم يبق بمملكته منها إلا القليل، وأبطل الفقاع والملوخية والسمك الذي لا فلوس له، وأتى لمن باع ذلك سراً فقتلهم ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئاً عظيماً فأحرقه، وأباد أكثر الكروم، وشدد في الخمر، وألزم أهل الذمة حمل الصلبان في أعناقهم، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل يد من له ديانة، وأمر بالسلام فقط، وبعث إليه عامله على المغرب ينكر عليه، فأخذ في استمالته، وحمل في كمه الدفاتر ولزم التفقه، وأمر الفقهاء ببث مذهب المالك، واتخذ له مالكيين يفقهانه، ثم ذبحهما صبراً، ونفى المنجمين من بلاده، وحرم على النساء الخروج، فما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتل، وتزهد، وتأله، ولبس الصوف، وبقي يركب الحمار ويمر وحده في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه. ويقال إنه أراد أن يدعي الإلهية كفرعون، وشرع في ذلك، وخوفه خواصه عن زوال دولته، فانتهى. وكان المسلمون وأهل الذمة في كرب وبلاء شديد معه، حتى إنه أوحش أخته بمراسلات قبيحة، وأتها تزني، وطلبت ابن دواس القائد وكان خائفاً من الحاكم فاتفقت معه على قتل الحاكم وسيرته طويلة عجيبة وأقامت أخته بعده ولده الطاهر علي بن منصور، وقتلت ابن دواس وسائر من اطلع على سرها، وأعدمت جيفة الحاكم، ولم يجدوا إلا جبة الصوف، وقد صبغت بالدماء، وقطعت بالسكاكين.

سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين ابن موسى النيسابوري السلمي الصوفي. صحب جده أبا عمرو بن نجيد، وسمع الأصم وطبقته، وصنف التفسير والتاريخ وغير ذلك، وبلغت مصنفاته مائة. وقال الخطيب: قدر أبي عبد الرحمن عند أهل بلده جليل، وكان مع ذلك مجلوداً صاحب حديث. توفي في شعبان رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو عبد الله بن جعفر التميمي النحوي، المعروف بالقزاز القيرواني. كان الغالب عليه النحو واللغة، وله عدة تآلي، وكان العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر قد تقدم إليه أن يؤلف كتاباً، يجمع فيه سائر الحروف التي ذكر النحويون أن الكلام كله اسم وفعل وحرف جاملي. قال ابن الخزاز: وما علمت أن نحوياً ألف شيئاً من النحو على حروف المعجم سواه. وقال ابن رشيق: وكان مهيباً عند الملوك والعلماء وخاصة الناس، محبوباً عند العامة، قليل الخوض إلا في علم دين أو دنيا، وله شعر مطبوع منصوع، من ذلك قوله: أما ومحل حبك في فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين لو انبسطت لي الآمال حتى ... يصير من عنانك في يميني لصنتك في مكان سواد عيني ... وحطت عليك من حذر جفوني فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون فلي نفس تجرع كل يوم ... عليك بهن كاسات المنون إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفي ألحاظ العيون فكيف وأنت دنياي ولول ... عتاب الله فيك لقلت ديني وقوله: أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا جعلت مغيب شخصك عن عياني ... يغيب كل مخلوق سواكا وبلغ جملة الكتاب الذي ألفه العبيدي ألف ورقة، جمع فيه المفرق من الكتب النفيسة على أقصر سبيل، وأقرب ما يؤخذ، وأوضح طريق، وكأنه قد اقترح عليه أن يؤلفه على حروف المعجم، على وجه لم يسبق إليه كما تقدم.

سنة ثلاث عشرة وأربع مائة

سنة ثلاث عشرة وأربع مائة فيها تقدم بعض الباطنية من المصريين إلى الحجر الاسود، فضربه بدبوس، فقتلوه في الحال. قال محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي: قام يضرب الحجر ثلاث ضربات، وقال: إلى متى يعبد الحجر؟ ولا محمد ولا علي فيمنعني ما أفعله، فإني اليوم أهدم هذا البيت. فأنفاه أكثر الحاضرين، وكاد أن يفلت وكان أحمر أشقر جسيماً طويلاً وكان على باب المسجد عشر فوارس ينصرونه، فاحتسب رجل، ووجأه بخنجر، ثم تكاثروا عليه، فهلك، وأحرق، وقتل جماعة ممن اتهم بمعاونته، واختبط الوفد، ومال الناس على ركب مصريين بالنهب. وتخشن وجه الحجر، وتساقط منه شظايا يسيرة، وتشقق، وظهر مكسرة أسمر يضرب إلى صفرة محبباً مثل الخشخاش، فعجن الفتات بالمسك، وأكد، وحشيت الشقوق، وطلبت، فهو يبين لمن تأمله. وفيها توفي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه. وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وقال غيره: كان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً وسبعين سنة، وله اكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهودة، وشيعه ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة، وأراح الله منه. وكان موته في رمضان. سنة أربع عشرة وأربع مائة فيها توفي الشيخ أبو الحسن، المعروف بابن جهضم الهمداني، شيخ الصوفية بالحرم الشريف ومؤلف كتاب بهجة الأسرار في التصوف وفيها توفي الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد البجلي الرازي الدمشقي. وفيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد، من رؤوس أئمة المعتزلة وشيوخهم

سنة خمس عشرة وأربع مائة

، صاحب التصانيف والخلاف العنيف. سنة خمس عشرة وأربع مائة فيها توفي الإمام أبو الحسن المحاملي، شيخ الشافعية، أحمد بن محمد الضبي، تفقه على والده وعلى الشيخ أبي حامد الاسفرائيني، وبرع في الفقه، ودرس في أيام شيخه أبي حامد وبعده، وسمع الحديث من محمد بن المظفر وطبقته، ورحل به أبوه إلى الكوفة، وسمعه بها، وصنف عدة كتب منها المجموع والمقنع والقباب، وصنف في الخلاف كثيرا. وكان عديم النظير في الذكاء. وقال الشيخ أبو حامد: هو اليوم أحفظ للفقه مني والمحاملي نسبة إلى عمل المحامل الذي يركب فيها في السفر. سنة ست عشرة وأربع مائة فيها انتشر العيارون ببغدا، وخرقوا الهيبة، واصلوا العملات والقتل، وأخذوا الناس نهاراً جهاراً. وكانوا يمشون بالليل بالشمع والمشاعل، ويكبسون البيوت، ويأخذون أصحابها، ويعذبونهم إلى أن يقروا لهم بذخائرهم، وأحرقوا دار الشريف المرتضى. ولم يخرج فيها ركب من بغداد. وفيها توفي أبو عبد الله بن الحذاء القرطبي اليمني المالكي المحدث، مؤلف كتاب البشرى في تعبير الرؤيا في عشرة أسفار، وتولى قضاء إشبيلية وغيرها وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد التهامي، الشاعر المشهور. ومن شعره في ذم الدنيا: طبقة على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار سجن في القاهرة، ثم قتل سراً، ورآه بعض أصحابه في النوم فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقال: بأي عمل؟ قال: بقولي في مرثية ولدي الصغير:

سنة سبع عشرة وأربع مائة

جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري والتهامي نسبة إلى تهامة، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن. وله: إني لأرحم حسدي لحرما ... ضمنت صدورهم من الإوغار نظروا صنيع الله بي فعيرتهم ... في جنة وقلوبهم في نار سنة سبع عشرة وأربع مائة فيها هجمت الجند على الكر، فنهبوه وأحرقوا الأسواق، فوقعت الرعاع في النهب، وأشرف الناس على التلف، فقام المرتضى وطلع إلى الخليفة، فخلع وتكلم في القضية، فجعل يعير عليه، ثم ضبطت محال بغداد، وشرعوا في المصادرات. وفيها توقني الإمام أبو بكر القفال المروزي، عبد الله بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان، حذق في صنعته حتى عمل قفلاً بمفتاحه وزن أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة أحس في ذكاء، وحبب الله إليه الفقه، واشتغل به، فشرع فيه وهو صاحب طريقة الخراسانيين وفي الفقه. عاش تسعين سنة. قال ناصر العمري: لم يكن في زمانه أفقه منه، ولا يكون بعده. كنا نقول إنه ملك في صورة آدمي قلت: وهو القفال المتقدم ذكره مع السلطان محمود، الملقب يمين الدولة وأمين الملة ابن ناصر الدولة، ولة ذكر في صلاته على مذهب الشافعي فقهاً، والمجرية على مذهب أبي حنيفة في القصة المتقدم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة. قالوا: وكان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، واشتغل عليه خلق كثير، منهم الأئمة الكبار؛ القاضي حسين، والشيخ أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والشيخ أبو علي السبخي وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة، وأخذ عنهم أئمة كبار أيضاً. والقفال المذكور ممن شرح فروع الإمام الفقيه أبي بكر بن الحداد المصري، فأجاد في شرحها رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. وفي السنة المذكورة توفي الحافظا أبو حازم عمر بن أحمد الهذلي المسعودي النيسابوري، توفي يوم عيد الفطر. قال الخطيب: كان ثقة صادقاً حافظاً عارفاً، وقال غيره: يقال إنه كتب عن عشرة أنفس عشرة آلاف جزء.

سنة ثمان عشرة وأربع مائة

سنة ثمان عشرة وأربع مائة فيها توفي الإمام الكبير الأستاذ الشهير أبو إسحاق الأسفرائيني، ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن مهران، الأصولي المتكلم الفقيه الشافعي، أحد الأعلام، صنف التصانيف. قال الحاكم: أخذ عنه الكلام والأصول عامة شيوخ يسابور، وأقر له بالعلم أهل العراق وخراسان، وله التصانيف الجليلة منها: كتابه الذي سماه: جامع الحلي في أصول الدين والرد على الملحدين في خمس مجلدات، وغير ذلك من المصنفات. وأخذ عنه القاضي أبو الطيب الطبري أصول الفقه بأسفرايين، وبنيت له المدرسة المعروفة بنيسابور. وذكر عبد الغفار الفارسي في سياق تاريخ نيسابور: إنه أحد من بلغ حد الاجتهاد من العلماء المتبحرة في العلوم واجتماعه شرائط الإمامة، وكان طراز ناحية الشرق. وكان يقول: أشتهي أن أموت بنيسابور حتى يصفي علي جميع أهل نيسابور، فتوفي بها يوم عاشوراء، ثم نقلوه إلى أسفرايين، ودفن في مشهده. وممن كان يخلف إلى مجلسه الأستاذ أبو القاسم القشيري. وأكثر الحافظ أبو بكر البيهقي الرواية عنه في تصانيفه، وغيره من المصنفين، وسمع بخراسان أبا بكر الإسماعيلي، وبالعراق أبا محمد دعلج بن أحمد السجزي وأقرانهما. وفيها توفي الوزير المعزي الحسين بن علي، استظهر القرآن العزيز وعدة من الكتب في النحو واللغة، ونحو خمسة ألف بيت من مختار الشعر القديم، ونظم الشعر، وتصرف في النثر، وبلغ من الخط إلى ما يقصر عنه نظراؤه، ومن حساب المولد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه الكاتب، وكل ذلك قبل استكماله أربع عشرة سنة، واختصر إصلاح المنطق، واستوفى على جميع فوائده، حتى لم يفته شيء، وغير من أبوابه ما أوجب التدبير تغييره للحاجة إليه، وجمع كل نوع إلى ما يليق به، ثم نظم بعد اختصاره ما كتب في عدة أوراق في ليلة واحدة، وجميع ذلك قبل استكماله سبع عشرة سنة. ومن شعره: أقول لها والعيش تخدع للسرى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر سأنفق ريعان الشبيبة واثقاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمر

سنة تسع عشرة وأربع مائة

قلت هذا البيت الأخير ما أدري: أهو له أم استعاره للتضمين، فإن كان له فقد استعاره بعضهم للتضمين حيث قال: إذا رقد السما وأسهرت ناظري ... وأنشدت بيتاً وهو من أفخر الشعر أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري؟! وللوزير المذكور أيضاً: أرى الناس في الدنيا كراع تنكرت ... مراعيه حتى ليس في تلك مربع فماء بلا مرعى ومرعى بلا ماء ... وحيث ترى ماء ومرعى فمنبع وفيها توفي الحافظ أبو القاسم، هبة الله بن الحسن الطبري الفقيه الشافعي. تفقه على الشيخ أبي حامد، وسمع من المخلص وطبقته. قال الفقيه: كان يفهم ويحفظ. صنف كتاباً في السنة وكتاب رجال الصحيحين وكتاباً في السنن ثم خرج في آخر أيامه الى الدينور، ومات بها. وفيها توفي أبو الحسين بن جعفر بن عبد الوهاب المعروف بابن الميداني، محدث دمشق رحمه الله تعالى. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو منصور الأصبهاني، شيخ الصوفية في زمانه، روى عن الطبراني، توفي في رمضان رحمه الله تعالى. سنة تسع عشرة وأربع مائة فيها كان السلطان جلال الدولة ببغداد، فتحالفت عليه الأمراء، وكرهوه لتوفره على اللعب، وطالبوه، فأخرج لهم من المصاغ وغيره ما قيمته أكثر من مائة ألف دينار، فلم يرضهم، ونهبوا دار الوزير، وسقطت الهيبة، ودب النهب في الرعية، وحصروا الملك، فقال: مكنوني من الانحدار، فأجابوه، ثم وقعت صيحة، فوثب وبيده طبر وهو الحديد الماضي الذي يحمل بين يدي الملوك وصاح فيهم، فلانوا له، وقبلوا الارض وقالوا: اثبت، فأنت السلطان. ونادوا بشعاره، فأخرج لهم متاعاً كثيراً، فبيع ولم يف بمقصودهم، ولم

سنة عشرين واربع مائة

يحج ركب بغداد في تلك السنة. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله بن الفخار القرطبي، شيخ المالكية وعالم الأندلس. وكان زاهداً عابداً ورعاً متألهاً عارفاً بمذاهب العلماء، واسع الدائرة حافظاً للمدونة عن ظهر قلب، والنوادر لابن أبي زيد، مجلب الدعوة. قال القاضي عياض: كان أحفظ الناس وأحضرهم علماً، وأسرعهم جواباً، وأوقفهم على اختلاف العلماء وترجيح المذاهب، حافظاً للأثر، مائلاً إلى الحجة والنظر رحمه الله تعالى. وفيها توفي عبد المحسن بن محمد المعروف بابن غلبون، الصوري الشاعر المشهور، أحد البارعين الفضلاء المجيدين الأدباء. ومن نظمه: عندي حدائق سكر غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا تداركوها، وفي أغصانها ورق ... فلن يعود اخضرار العود إن يبسا سنة عشرين واربع مائة فيها وقع برد عظيم إلى الغاية في الواحدة أربعة أرطال بالبغدادي، حتى قيل إن بردة وجدت تزيد على قنطار، وقد نزلت في الأرض نحواً من ذراع، وذلك بأرض النعمانية من العراق، وهبت ريح لم يسمع بمثلها، قلعت الأصول الغائبة من الزيتون والنخيل. وفيها جمع القادر بالله كتاباً، فيه وعظ ووفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصة ما جرى لعبد العزيز صاحب الحيدة بفتح الحاء والدال المهملتين وسكون المثناة من تحت بينهما وفي آخره هاء مع بشر المريسي، والرد على من يقول بخلق القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسب الرافضة، وغير ذلك. وجمع له الأعيان والعلماء ببغداد، فقرأ على الخلق، ثم أرسل الخليفة إلى جامع براثا بالموحدة وقبل الالذين راء وبينهما مثلثة وهو مأوى الرافضة من أقام الخطبة على السنة، فخطب، وقصر عما كانوا يفعلونه في ذكر علي رضي الله تعالى عنه، فرموه بالآجر من كل ناحية، فنزل وحماه

جماعة، حتى أسرع بالصلاة، فتألم القادر بالله وغاضبه ذلك، وطلب الشريف المرتضى شيخ الرافضة وكاتب السلطان وزيره ابن ماكولا يستحيش على الشيعة. ومن جملة كتابه: وإذا بلغ الأمير إلى الجرأة على الدين وسياسة المملكة من الرعاع والأوباش، فلا صبر دون المبالغة بما توجبه الحمية. وقد بلغه ما جرى في الجمعة الماضية في مسجد براثا الذي يجمع الكفرة والزنادقة ومن قد تبرأ الله تعالى منه، فصار أشبه شيء بمسجد الضرار، وذلك أن خطيباً كان فيه يقول مقالاً يخرج به، إلى الزندقة، فإنه يقول بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مكلم الجمجمة، ومحيي الأموات، البشري الإلهي، مكلم أصحاب الكهف. فأنفذ الخطيب ابن تمام، فأقام الخطبة، فجاء الآجر كالمطر، وكسر أنفه، وخلع كتفه، ودمي وجهه لولا أن أربعة من الأتراك حموه، وإلا كان هلك والضرورة ماسة إلى الانتقام ونزل ثلاثون بالمشاعل إلى دار ذلك الخطيب، فنهبوا الدار، وعز الحريم، وخاف أولو الأمر من فتنة تكبر. ولم يخطب أحد ببراثا، وكثرت العملات والكبسات، وفتحت الحوانيت جهاراً، وعم البلاء إلى آخر السنة حتى صلب جماعة. وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسن البغدادي. قال الخطيب: كان ثقة من أهل القرآن والأدب والفقه على مذهب مالك. وفيها توفي عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي، شيخ الإقراء في الديار المصرية، وأستاذ مصنف العنوان وألف كتاب المجتبى في القراءات. وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي نصر التميمي الدمشقي، المعروف بالشيخ العفيف، قال أبو الوليد: وكان خيراً من ألف مثله إسناداً وإتقاناً وزهداً مع تقدمه. فيها توفي الأمير عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد الحراني الأديب العلامة، صاحب التآليف. وكان رافضياً، له كتاب القضايا الصابية في التنجيم، في ثلاثة آلاف

سنة احدى وعشرين واربع مائة

ورقة، وكتاب الأديان في العبادات في ثلاثة آلاف وخمس مائة ورقة، وكتاب التلويح والتصريح في الشعر ثلاث مجلدات، وكتاب تاريخ مصر وكتاب أنواع الجماع في أربع مجلدات، وغير ذلك من السخافات. وفيها توفي الأمير عز الملك محمد بن أبي القاسم الكاتب الحراني الأصل، المصري المولد، صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات، رزق حظوة في التصانيف، وكان مع ما فيه من الفضائل على زي الأجناد، واتصل بخدمة الحاكم العبيدي صاحب مصر ونال منه سعادة من الدنيا. وبلغ تاريخه ثلاثة عشر ألف ورقة. وله عدة تصانيف أخرى، وله شعر حسن، من ذلك أبيات رثى بها أم ولده، وهي: ألا في سبيل الله قلب تقطعاً ... وقادحة لم تبق للعين مدمعا الصبر وقد حل الثرى من أوده ... ولله هم ما أشد وأوجعا فياليتني للموت قدمت قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معا سنة احدى وعشرين واربع مائة فيها أو في ما بعدها توفي الإمام أبو الفتح يحيى بن عيسى بن ملابس، وهو ممن انتشر عنه فقه الإمام الشافعي في بلاد اليمن، تفقه بجماعة منهم الإمام الحسين بن جعفر المراغي، ومنهم الإمام محمد بن يحيى بن سراقة. ثم ارتحل إلى مكة، فجاور فيها، وشرح مختصر المزني، شرحه المشهور له في اليمن، ذكر في أوله أنه شرحه بمكة في أربع سنين، مقابل الكعبة. وروى القاضي الإمام طاهر ابن الإمام العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني، مصنف كتاب البيان بسنده عن الإمام يحيى بن عيسى المذكور أنه لما استأذنه ولده في المجاورة بمكة نهاه أن يتزوج من النساء من هي بالغ بسنها، قال: فإني تزوجت بها ستين امرأة في أربع سنين، ولا آمن عليك أن تتزوج من كنت تزوجت بها. وفيها أقبلت الروم في ثلاثمائة ألف على قصد الشام، فأشرف على معسكرهم سرية من العرب نحو مائة فارس وألف راجل، فظن ملكهم أنها كبسة، فاختفى، ولبس خفاً أسود، وهرب، فوقعت الخبطة فيهم، واستحكمت الهزيمة، فطمع أولئك العرب منهم، ووضعوا السيف حتى قتلوا مقتلة عظيمة، وغنموا خزائن الملك، واستغنوا بها.

وكاد أن يستولي الخراب إلى بغداد، لضعف الهيبة وتتابع السنين، فاجتمع الهاشميون في جامع المنصور، ورفعوا المصاحف، واستنفروا الناس، فاجتمع إليهم الفقهاء وخلق من الإمامية والرافضة، وضجوا بأن يعفوا من الترك، فعمد الترك نعود بالله من الضلال فرفعوا صليباً على رمح، وترامى الفريقان بالنشاب والآجر، وقتل طائفة، ثم تهاجروا، وكثرت العملات والكبسات، وأخذت المخازن الكبار والدور، وتجدد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الاصطبلات. وفيها توفي السلطان محمود ابن الأمير ناصر الدولة أبو منصور. كان أبوه أمير الغزاة الذين يغزون من بلاد ما وراء النهر على أطراف الهند، وأخذ عدة قلاع، وافتتح ناحية بست. وأما محمود فافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، ودان له الخلق على اختلاف أجناسهم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام، فافتتح منه بلاداً واسعة، وقد مضى ذكر شيء من فتح البلاد البعيدة، وصفاته الجميلة الحميدة، وعلو همته الشريفة، ورجوعه عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما، في القضية المتقدمة في السنة العاشرة بعد الأربعمائة. وفيها توفي الإمام أحمد بن محمد المعروف بابن دراج الأندلسي الشاعر. قال الثعالبي: كان يصقع الأندلس كالمتنبي يصقع الشام. ومن أشعاره ما عارض بها قصيدة أبي نواس التي مدح بها الخصيب صاحب ديوان خراج مصر ومنها قوله: تقول التي من بيتها خف محمل ... عزيزعلينا أن نراك تسير أما دون مصر للغني مطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من حرهن عبير درين أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلدة فيها الخصيب أمير فما حازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور فمن كان أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير ثم قال في أواخرها بعد ذكر المنازل: زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى ... وفي السلم يزهو منبر وسرير جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى ... ومن دون عورات النساء غيور فإني جدير إن بلغتك للغنى ... وأنت لما أملت منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور

وكل هذه الأبيات من قصيدة أبي نواس، وأما قصيدة ابن دراج المعارض بها فمنها هذه الأبيات: دعيني أرد ماء المفاوز راجياً ... إلى حيث ماء للكرام نمير فإن خطيرات المهالك ضمنت ... براكبها أن الجزاء خطير ولما تراءت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنه وزفير تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد منهوم النداء صغير عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير تنوع بممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور فكل مفداة الترائب عنده ... وكل محياة المحاش ظير عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... روائح تلاب السرى وبكور فطار جناح البين بي وهفت بها ... حوائج من دعو العراق تطير ولو شاهدتني والهواجر تلتظي ... علي ورقراق السراب يمور أسلط حراً لها جرات إذا سطا ... على حر وجهي والأصيل هجير واستنشق النكباء وهي لواقح ... وأستوطن الرمضاء وهي تفور وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجري صفير لبان لها أني من الضيم جازع ... وأني على مض الخطوب صبور أمير على غول السبايف ماله ... إذا ريع إلا المشرقي وزير ولو بصرت بي والسرى حل عزمتي ... وجرسي لجنان الفلاة سمير وأعتسف الموماة في غسق الدجى ... وللأسد في غيل الغياض زئير وقد حومت زهر النجوم كأنها ... كواعب في خضر الحدائق حور ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس مهاً والى بهن مدير وقد خيلت طرف المجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم فقير وثاقب عزمي والظلام مروع ... وقد غض في أجفان النجوم فتور لقد أيقنت المنى طوع همتي ... وأني بعطف العامري جدير وفيها أو قبلها أو بعدهما، توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن مسعود بن أحمد

سنة واثنتين وعشرين واربع مائة

المسعودي الفقيه الشافعي الفاضل المبرز الورع، من أهل مرو. تفقه على أبي بكر القفال المروزي، وشرح مختصر المزني، وأحسن فيه، وروى قليلاً من الحديث عن أستاذه القفال. وحكى عنه الغزالي في كتاب الوسيط في الايمان مسألة لطيفة فقال: فرع لو حلف لا يأكل بيضاً، ثم انتهى إلى رجل، فقال: والله لآكلن ما في كمك، فإذا هو بيض، فقد سئل القفال عن هذه المسألة وهو على الكرسي فلم يحضر جواب. فقال المسعودي: يتخذ منه الناطف، ويأكله، فيكون قد أكل ما في كمه، ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك منه. وهذه الحيلة من لطائف الحيل الوافية من الوقوع في الخلل. توفي المسعودي المذكور بعد نيف وعشرين وأربع مائة بمرو - رحمه الله تعالى - ونسبته إلى جده مسعود. سنة واثنتين وعشرين واربع مائة فيها عزم الصوفي الملقب بالمنصور على الغزو، فكتب له السلطان منشوراً، وقصد الجامع لقراءة المنشور وبين يديه الرجال بالسلاح يترضون على الشيخين، وصاحوا: هذا يوم معاوي. قلت: يعنون فيه إظهار شعار معاوية بن ابي سفيان في الذكر لإبي بكر وعمر دون علي رضي الله تعالى عنهم فحصبهم أهل الكرخ، فسارت الفتنة، واضطربت، ونهبت العامة دار الشريف المرتضى، ودافع عنه جيرانه الأتراك، واحترقت له سرية، وبات الناس في ليلة صعبة، وتأهبوا للحرب، واجتمعت العامة وخلق من الترك، وقصدوا الكرخ، فرموا النار في الأسواق، وأشرف أهل الكرخ على التلف، فركب الوزير والجند، فوقعت آجره على صدر الوزير، وسقطت عمامته، وقتل جماعة من الشيعة، وزاد النهب فيهم، واحرق في هذه السائرة عدة اسواق، ولم يجر من السلطان إنكار لضعفه وعجزه، وتبسطت العامة، وآثاروا الفتن: فالنهار فتن ومحن، والليل عملات ونهب. وقامت الجند على السلطان جلال الدولة لإطراحه مصالحهم، وراموا قطع الخطبة، فارضاهم بالمال، فساروا بعد أيام عليه. وثم مات القادر بالله، واستخلف ابنه القائم بأمر الله، فبايبعه الشريف المرتضى، ثم الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر، وقامت الأتراك على القائم بالرسم الذي للبيعة، فقال: إن القادر لم يخلف مالاً، وصدق لأنه كان من أفقر الخلفاء، ثم صالحهم على ثلاثة ألاف دينار، وعرض القائم خاناً وبستاناً للبيع، وصغر دست - الخلافة إلى هذا الحد، وصارت الأموال والأعمال مقسومة بين الأتراك والأعراب، مع ضعف ارتفاع الخراج، والوزارة خالية من أهلية، وما يناسبها من صلاحيته، والوقت هرج ومرج، والناس بلا رأس.

سنة ثلاث وعشرين واربع مائة

وفيها توفي القادر بالله بن المقتدر بن المعتضد العباسي، وكانت خلافته إحدى اربعين سنة. قال الخطيب: كان من أهل الديانة والتهجد وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه. وصنف كتاب في الأصول، في فضل الصحابة، وتكفير المعتزلة، والقائلين بخلق القرآن، وكان يقرأ كل جمعة بحضرة الناس. وفيها توفي القاضي عبد الوهاب الفقيه المالكي، أحد الأعلام. انتهت إليه رئاسة المذهب. قال الخطيب: لم ألق في المالكية أفقه منه. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: سمعت كلامه في النظر، وكان فقيهاً متأدباً شاعراً، له كتب كثيرة في كل فن. ومن ذلك كتاب التلقين في الفقه، وكتاب المعرفة، وشرح الرسالة، وغير ذلك. ومن أشعاره: سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف فوالله ما فارقتها عن قلى لها ... وإني لشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالفه ومن أشعاره الظريفة المشتملة على المعاني اللطيفة قوله: ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد خذيها وكفي عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني الدين أشهد ما غير ذلك مما حذفته رغبة في الاختصار وكراهة لبعض الغزل الفاحش في الأشعار. توفي ليلة الاثنين الرابعة عشر من صفر، ودفن في القرافة. وفيها توفي الإمام الواعظ يحيى بن عمار الشيباني السجستاني نزيل هراة. سنة ثلاث وعشرين واربع مائة فيها سارت الغلمان بالسلطان جلال الدولة، وصمموا على عزله، وطرده، فهرب

سنة اربع وعشرين واربع مائة

بالليل مع جماعة من غلمانه إلى عكبراء، ونهبت داره من الغد. في السنة المذكورة سار الملك المسعود بن محمود بن ناصر الدين، فدخل أصفهان بالسيف، ونهب وقتل علماء لا يحصون، ففعل ما لا يفعله الكفرة. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي البصري. قال الخطيب: كان حافظاً عارفاً متكلماً شاعراً. وفيها توفي ابن البواب الكاتب علي بن هلال. قيل ليس له في الكتابة مثل ولا مقارب، وإن كان أبو علي أول من نقل هذه الطريقة من الخط الكوفي، وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه أيضاً في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذب طريقته، ونقاها، وكساها حلاوة وبهجة، والكل معترفون له بالتفرد، وعلى منواله ينسجون، وليس فيهم من يلحق شأنه، ولما توفي رثي بهذين البيتين: استشعر الكتاب فقدك سالفاً ... وقضت بصحة ذلك الأيام فلذاك سودت الروي كأنه ... أسف عليك وشقت الأقلام وروى ابن الكلبي الهيثم بن العدي أن ناقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان قد قدم الحيرة، فعاد إلى مكة بهذه كتابة، وقال لأبي سفيان بن حرب: ممن أخذ أبوك هذه الكتابة؟ فقال: من أسلم بن نذر، وقال: سألت أسلم ممن أخذ الكتابة فقال: من واضعها، من عامر بن مرة. قالوا: فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل. وكان لحمير كتابة تسمى المسند، وحروفها منفصلة غير متصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعليمها، فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، فجاءت ملة الإسلام، وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب، وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة، وهي العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية الرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية. سنة اربع وعشرين واربع مائة فيها اشتد الخطب ببغداد بسبب الحرامية وأخذهم أموال الناس عياناً، يأخذون للتاجر ما قيمته عشرة آلاف دينار، وقتلوا صاحب الشرطة، وباقي الناس لا يجسرون يقولون: فعل بنا فلان كذا، خوفاً منه. وزادت العملات والكبسات ووقع القتال، وأحرقت أماكن وأسواق

سنة خمس وعشرين واربع مائة

ومساجد، وقوي الشر، وتارت الجند، وقبضت على السلطان جلال الدولة، ليرسلوه إلى واسط والبصرة، فأنزلوه في مركب وابتلت ثيابه، وأهين، ثم أرجموه، فأخرجوه، وأركبوه فرساً ضعيفة، وشتموه، فانتصر له أبو الوفاء القائد في طائفة، وأخذوه من أيدي أولئك، وردوه إلى داره، ثم سار في الليل إلى الكرخ، فدعا له أهلها، ونزل في دار الشريف المرتضى، فأصبح العسكر، وهموا به، فاختلفوا، فقال بعضهم: ما بقي إلا هذا وابن أخيه من بني بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وقد سلم الأمر ومضى إلى بلاد فارس، ثم كتبوا له ورقة بالطاعة والاعتذار، فركب معهم إلى دار السلطنة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العبد الصالح محمد بن ابراهيم الأردستاني بالراء والدال والسين المهملات والمثناة من فوق الالف والنون بعدها. سنة خمس وعشرين واربع مائة فيها توفي الحافظ الكبير محمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني، قال الخطيب: لم نر في شيوخه أثبت منه، كان ورعاً عارفاً بالفقه، كثير التصانيف، ذا حظ من علم العربية. صنف مسنداً، ضمنه ما يشتمل عليه الصحيحان. وقال غيره: كان نسيج وحده. وفيها توفي أبو علي بن شاذان البغدادي. قال الخطيب: كان صدوقاً، صحيح السماع، يفهم الكلام على مذهب الأشعري. وفيها توفي الفقيه العالم الزاهد عمر بن ابراهيم الهروي. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله المزني الدمشقي. سنة ست وعشرين واربع مائة وفيها تملك العيارون بغداد. وغزا مسعود بن أحمد بلاد الهند، فوصل كتابه بأنه قتل من القوم خمسين ألفاً وسبى سبعين ألفاً. وفيها توفي ابن شهيد الأديب أبو عامر، أحمد بن عبد الملك بن مروان الأشجعي القرطبي الشاعر، حامل لواء الشعر بالأندلس. قال ابن حزم: لم يخلف له تظيراً في الشعر والبلاغة، وكان سمحاً جواداً.

سنة سبع وعشرين واربع مائة

وفيها توفي أبو محمد بن الشقاق بالشين المعجمة والقاف المكررة كبير المالكية، رأس القراء. وفيها توفي الفقيه الأديب المحدث، أبو عمرو الزرجاهي بفتح الزاي وسكون الراء قبل الجيم على ما ضبط في بعض النسخ محمد بن عبد الله البسطامي، ابن شهيد بضم الشين المعجمة. أحمد بن عبد الملك بن مروان القرطبي قال في كتاب الذخيرة: وكان متفنناً بارعاً، بينه وبين ابن حزم الظاهري مكاتبات ومداعبات، وله التصانيف الغربية البديعة، ومن محاسن شعره من قصيدة له: وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع تطير جياعاً فوقه وتردها ... ظباة إلى الأوكار وهي شباع سنة سبع وعشرين واربع مائة فيها دخل العيارون، وهم مائة الأكراد والأعراب، فأحرقوا دار صاحب الشرطة، فتحوا خاناً، فأخذوا ما فيه، وخرجوا بالكارات، والناس لا ينطقون. وفيها شغب الجند على الملك جلال الدولة، وقالوا اخرج عنا، فقال أمهلوني ثلاثة أيام، وجرت أمور طويلة، ثم تركوه لضعفهم. وفيها توفي أبو إسحاق الثعلبي أحمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري، المفسر المشهور. وكان حافظاً واعظاً رأساً في التفسير والعربية، متين الديانة، فاق بتفسيره الكبير سائر أهل التفاسير. قلت: هكذا قيل، ولعل ذلك من بعض الوجوه، وإلا فهناك تفاسير أخرى، قد تميز كل واحد منها بفضيلة وفن معروف عند أهله، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء وغير ذلك، ذكره السمعاني وقال: يقال له الثعلبي، والثعالبي وهو لقب له، وليس نسب. ونقل بعض العلماء أن الاستاذ أبا القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال: رأيت رب العزة في المنام، وهو يخاطبني وأخاطبه، وكان في أثناء ذلك أن قال الرب تعالى اسمه: أقبل الرجل الصالح، فالتفت فإذا أحمد الثعلبي مقبل. ذكره عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور، وأثنى عليه وقال: هو صحيح النقل، موثوق به. وكان كثير الشيوخ. رحمه ته تعالى. وفيها توفي الإمام الجياني المحدث أبو علي الحسين بن محمد الغساني الأندلسي.

سنة ثمان وعشرين واربع مائة

كان إماماً في الحديث، وله كتاب مفيد، ساه تقييد المهمل ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين في جزئين، وما قصر فيه. وكان من جهابذة المحدثين، وكبار العلماء المفيدين، حسن الخط جيد الضبط، له معرفة بالغريب والشعر والأنساب. ونسبته إلى جيان بفتح الجيم وتشديد المثناة من تحت مدينه كبيرة بالأندلس، وبأعمال الري قرية يقال له جيان أيضاً. والغساني نسبة إلى غسان وقد تقدم الكلام عليه. سنة ثمان وعشرين واربع مائة فيها توفي أبو الحسين أحمد بن محمد الفقيه الحنفي القدوري، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق. وكان حسن العبارة في النظر، وسمع الحديث، وروى عنه الخطيب أبو بكر، وصنف في مذهبه المختصر وغيره، وكان يناظر الشيخ أبا حامد الاسفرائيني الفقيه الشافعي، وقد تقدم في ترجمة أبي حامد ما بالغ القدوري في مدحته. والقدوري نسبة إلى عمل القدور، جمع قدر. وفيها توفي الحافظ أحمد بن منجويه بالنون والجيم والمثناة من تحت بعد الواو رحل وسمع، وصنف التصانيف. وفيها توفي مهيار الشاعر المشهور الفارسي. كان مجوسياً فأسلم، ويقال إن إسلامه كان على يد الشريف الرضي، وعليه تخرج في نظمه، وله ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات. ومن شعره: يراها بعين الشوق قلبي على النوى ... فيخطىء ولكن من لعيني برؤياها فالله ما أصفى وأكدر حبها ... وأبعدها مني الغداة وأدناها وهما من قصيدة شهيرة. وقال أبو الحسن صاحب دمية القصر: ومن شعره أيضاً: ملحاً على البخل الشحيح بماله ... أفلا يكون بماء وجهك أنجلا أكرم يديك عن السؤال فإنما ... قدر الحياة أقل من أن تسألا ولقد أضم إلي فضل قناعتي ... وأتيت مشتملاً بها متزملا وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرة ... وأمانياً أفنيتهن توكلا وفيها توفي الرئيس أبو علي المعروف بابن سينا الحكيم المشهور، الحسين بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن سينا. قال ابن خلكان: تنقل الرئيس ابن سينا في البلاد، واشتغل بالعلوم، وحصل الفنون، ولما بلغ عشر سنين كان قد أتقن علم القرآن الكريم والأدب،

وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، وتوجه نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي بالنون والمثناة من فوق بين الألف واللام فأنزله أبو علي عنده، وابتدأ يقرأ عليه، فأحكم علم المنطق وإقليدس والمجسطي، حتى فاق الناتلي بدرايتها. وأوضح له رموزاً، وفهمه إشكالات كان شيخه المذكور لا يدريها، ومع ذلك كان يختلف في الفقه إلى اسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث، ويناظر، ثم اشتغل بتحصيل علوم أخرى كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح، ففهم كل ذلك، ثم رغب في علم الطب، وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج هادياً لا متكسباً، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة، وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثيل. واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه، يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المكتسبة من التجربة وسنه إذ ذاك ست عشرة سنة - وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها، ولا اشتغل بالنهار بنوى المطالبة، وكان إذا أشكل عليه مسألة توضأ، وقصد المسجد الجامع، وصلى، ودعا الله تعالى أن يسهلها عليه، ويفتح مغلقها - على ما ذكر بعض المورخين. وذكر عند الأمير نوح بن نصر - صاحب خراسان - في مرض موته، فأحضره، وعالجه حتى برىء، واتصل به، وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها، مما لا يوجد في سواها، ولا سمع باسمه، فضلاً عن معرفته، فظفر أبو علي منها بكتب الأوائل وغيرها، وحصل نخب فوائدها، واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفزد أبو علي بما حصله من علومها، ويقال: إنه هو الذي توصل إلى إحراقها ليتفرد بمعرفة ما حصله منها، وينسبه إلى نفسه، ولم يستكمل ثمان عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها وقيل التي عاناها بأسرها ثم صار هو وأبوه يتصرفان في الأحوال، ويتقلدان للسلطان الأعمال، وجرت له تنقلات في البلدان وما فيها من دولة السلطان، وإنه تولى الوزارة لشمس الدولة في همدان، ثم تشوش العسكر، وعمدوا إلى داره، فنهبوها، وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة في قتله، فامتنع، ثم اطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج، فأحضره لمداواته، واعتذر إليه، وأعاده وزيراً. وكان ابن سينا قوي المزاج يغلب عليه قوة الجماع، حتى أضعفته ملازمته، وعرض له قولنج، فعالجه مراراً، يصح أسبوعاً ويمرض أسبوعاً، ومرض أمراضاً كثيرة، وطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كثيراً زائداً على ما رسمه الطبيب، فعجزت المعالجات عن شفائها، وأشرفت قواه على السقوط، فأهمل المداواة، واعترف بالعجز عن تدبير نفسه، ثم اغتسل، وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم توفي في التاريخ المذكور في شهر رمضان بهمدان.

قلت: وهذا مختصر تنقلات جرت له في الأحوال والبلدان، منها خوارزم وجرجان ودهستان وقزوين، والري وبخارى وهمدان وأصفهان، وبست وطوس، واجتمع بولاتها لخوارزم شاه، وشمس المعالي قابوس، وشمس الدولة، وعلاء الدولة، وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، صنف كتاب الشفاء في الحكمة والنجاة والإشارات والقانون وغير ذلك، مما يقارب مائة تصنيف، ما بين مختصر ومطول ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة، منها رسالة الطير وغيرها، وهو أحد فلاسفة المسلمين، وله شعر، من ذلك قوله: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلال الخضع تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى ... ومدامع تهمي ولما تقلع حتى إذا قرب المسير الى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع وغدت تفرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع وقعود عالمه بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع فهبوطها إن كان ضربة لازم ... ليكون سامعه بما لم تسمع فلأي شيء أهبطت من شاهق ... شام إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أهبطه الإله بحكمة ... طويت على الفطن اللبيب الأورع إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع وكأنها برق تألف بالحمى ... ثم انطوى وكأنه لم يلمع قال وفضائله مشهورة كثيرة. وكان الشيخ كمال الدين بن يونس - يقول: إن مخدومه سخط عليه، واعتقله، ومات في السجن، وكان ينشد: رأيت ابن سينا يعادي الرجال ... وفي السجن مات أخس الممات فلم يشف ما نابه بالشفاء ... ولم ينج من موته بالنجاة

سنة تسع وعشرين واربع مائة

انتهى قلت: والشفاء والنجاة إشارة إلى كتابيه المتقدم ذكرهما، ولقد طالعت كتاب الشفاء فلم أراه إلا جديراً بقلب الفاء قافاً، مشتمل على كثيرة فلسفة، لا ينشرح لها صدر متدين. وذكر شيخ الإسلام أستاذ الأنام في عصره: شهاب الدين السهروردي رحمه الله أنه غسل كتابه الموسوم بالشفاء بإشارة قدسية نبوية، يعني بإشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: وقد ذكروا أنه تاب، واشتغل بالتنسك، فإن صح ذلك فقد أدركه الله تعالى لسابق عنايته وواسع رحمته، حتى أحدث فيه لاحق توبته - والله أعلم بحقيقة ذلك وصحته. وفيها توفي وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان ابن ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بن حمدان الثعلبي، كان شاعراً ظريفاً حسن السبك، جميل المقاصد. ومن شعره قوله: إني لأحسد لا في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف وما أظنهما طال اعتناقهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف وأورد له الثعالبي في اليتيمة قالت: لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفة لا تنقص ولا تزد فقال حلبت لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورد الماء لم يرد قالت صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي على كبدي وذكر بعضهم أن هذه الأبيات للشريف أبي القاسم أحمد بن طباطبا العلوي، ولوجيه الدولة المذكور أشعار كثيرة حسنة شهيرة، وكان قد وصل إلى مصر في أيام الظاهر بن الحكم العبيدي صاحبها، فقلده ولاية الإسكندرية وأعمالها، فأقام بها سنة، ثم رجع إلى دمشق. سنة تسع وعشرين واربع مائة فيها توفي الحافظ محدث هراة أبو يعقوب القراب بالقاف في أوله والموحدة في آخره على ما ضبطه بعضهم اسحاق بن ابراهيم السرخسي الهروي. روى عن خلق كثير، زاد عدة شيوخه على ألف ومائتين، وصنف تصانيف كثيرة، وكان صالحاً زاهداً مقلاً من الدنيا، رجمه الله. وفيها توفي العلامة في اللغة والشعر والعربية المصنف في الزهد وغيره، يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث، قاضي الجماعة بقرطبة. وفيها توفي الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي الفقيه الشافعى الأصولى

سنة ثلاثين واربع مائة

الأديب. كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب فإنه كان متقناً له، وله فيه تآليف نافعة، وكان عارفاً بالفرائض والنحو، وله أشعار. وكان ذا مال وثروة وإنفاق على أهل العلم والحديث، ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم، وأربى على أقرانه في الفنون، ودرس في سبعة عشر فناً، وكان قد تفقه على الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني، وجلس بعده للإملاء في مكانه سنين، واختلف الأئمة إليه، فقرؤوا العلوم عليه، مثل الأستاذ زين الإسلام القشيري، والإمام ناصر المروزي، وغيرهما. سنة ثلاثين واربع مائة فيها توفي الإمام الحافظ الشيخ العارف أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الصوفي، صاحب كتاب حلية الأولياء، كان من أعلام المحدثين وأكابر الحفاظ المفيدين، أخذ عن الأفاضل، وأخذوا عنه، وانتفعوا به. وكتابه الحلية من أحسن الكتب. قلت: أما طعن ابن الجوزي فيها وتنقصه لها فهو عن باب قولي. لئن ذمها جاراتها وضرائر ... وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي فما سلمت حسناء من ذم حاسد ... وصاحب حق من عداوة مبطل مع أبيات أخرى في مدح الإمام أبي حامد الغزالي وتصانيفه وكلامه الغالي، وله كتاب تاريخ أصفهان تفرد في الدنيا بعلو الإسناد مع الحفظ. روى عن المشايخ بالعراق والحجاز والخراسان، وصنف التصانيف المشهورة في الأقطار. وفيها توفي أبو منصور الثعالبي عبد الملك بن محمد النيسابوري الأديب اللبيب الشاعر، صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا، وراعي بلاغات العلم، وجامع أشتات النظم. سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب. ومن نظمه: لك في المفاخر معجزات جمة ... أبداً لغيرك في الورى لم تجمع بحران يجري في بلاغة شأنه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمع كالنور أو كالسحر أو كالبدر أو ... كالوشي في برد عليه موسع وإذا تفتق نور شعرك ناظراً ... فالحسن بين مرصع ومصرع نقشت في فص الزمان بدائعاً ... تزرى بآثار الربيع الممرع

سنة ثلاث وثلاثين واربع مائة

مع أبيات أخرى كتبها إلى الأمير أبي الفضل الميكالي. وله من التآليف كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو أكبر كتبه وأحسنها، وفيه يقول أبو الفرح الإسكندري: أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة ماتوا وعاشت بعدهم ... فذاك سميت اليتيمة قيل والثعالبي: نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها. وله كتاب فقه اللغة وسحر البلاغة وسر البراعة ومؤنس التوحيد وشعر كثير هو له مجيد، جمع فيه أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم. وفيها توفي أبو القاسم عبد الملك بن بشران البغدادي الواعظ. قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً صالحاً، وكان الجمع في جنازته يتجاوز الحد ويفوت الانحصار. ؟ سنة احدى وثلاثين وأربعمائة فيها توفي القاضي المقرىء المحدث أبو العلاء الواسطي، محمد بن علي بن أحمد. وفي نيف وثلاثين توفي الفقيه الإمام أحد العلماء الأعيان، أول من جمع بين طريق العراق وخراسان الحسن بن علي السنجي صاحب شرح فروع ابن الحداد. ؟ سنة اثنتين وثلاثين واربع مائة استولت فيها السلجوقية بالسين المهملة والجيم والقاف على جميع خراسان. وفر السلطان مسعود إلى غزنة. والحرب في بغداد بين الرافضة والسنية. وفيها توفي الحافظ أبو العباس جعفر بن محمد بن المستغفر بن الفتح النسفي، صاحب التصانيف الكثيرة. سنة ثلاث وثلاثين واربع مائة فيها توفي السلطان المسعود ابن السلطان محمود. والرئيس أحمد بن محمد أبو الحسين الأصفهاني وراوي المعجم الكبير عن الطبراني. والقاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري، سمع سنن النسائي من ابن السني وحدث به.

سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها كانت الزلزلة العظمى بتبريز، فهدمت أسوارها، وأحصى من هلك تحت الهدم فكانوا أكثر من أربعين ألفاً نسأل الله العفو والعافية. وفيها توفي الحافظ أبو ذر الهروي الأنصاري الفقيه المالكي، نزيل مكة روى الصحيح عن ثلاثة من أصحاب القريري، وجمع لنفسه معجماً، وعاش ثمانياً وسبعين سنة وكان ثقة متقناً ديناً عابداً حافظاً بصيراً باللغة والأصول، أخذ علم الكلام عن الباقلاني وصنف مخرجاً على الصحيجن، وكان شيخ الحرم في عصره، ثم تزوج بالسروا، وبقي يحج كل عام ويرجع. سنة خمس وثلاثين واربع مائة فيها توفي جلال الدولة. وأبو الحزم جهور محمد بن جهور أمير قرطبة ورئيسها وصاحبها. سنة ست وثلاثين واربع مائة توفي فيها الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. كان نقيب الطالبين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي المقدم ذكره في سنة ست وأربعمائة. بين موتيهما ثلاثون سنة. وللمرتضى تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أصول الدين، وله ديوان شعر كثيرة وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، هل هو جمعه أو جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما أحدهما هو الذي وضعه ونسبه إليه، والله تعالى أعلم. وله

الكتاب الذي سماه الدرر والغرر وهي مجالس املأها يشتمل على فنون من معاني الأدب، تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك، وهو كتاب يدل على فضل كبير وتوسع في الاطلاع على العلوم. وذكره ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب الذخيرة فقال: هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فرغ علماؤها وأخذ عنه عظماؤها، صاحب مدارسها، وجامع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره، وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرغ تلك الأصول، وأهل ذاك البيت الجليل وأورد له عدة مقاطع، فمن ذلك قوله: ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... بين ود خالص وتودد كأني وقد سار الخليط عشية ... أخو جنة مما أقوم وأقعد قيل ومعنى البيت الأول من هذين البيتين مأخوذ من قول المتنبي: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى ومما نسب إلى المرتضي أيضاً رضي الله تعالى عنه: مولاي يا بدر كل داجية ... خذ بيدي قد وقعت في اللجج حسنك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر جد عنه بلا حرج بحق من خط عارضيك ومن ... سلط سلطانها على المهج مد يديك الكريمتين معاً ... ثم إدع لي من هواك بالفرج وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة، ودعته الحاجة إلى بيعها، فباعها، واشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً، وتصفحها، فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي: أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شؤوني وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين وهذا الفالي منسوب إلى فالة بالفاء وهي بلدة بخوزستان وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة. وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.

سنة سبع وثلاثين واربع مائة

وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن البصري المتكلم محمد بن علي شيخ المعتزلة، والذي قبله أعني الشريف المرتضى شيخ الشيعة من كبار أئمتهم. وأبو الحسين من كبار أئمة المعتزلة، جيد الكلام، حسن العبارة، غزير المادة، وله التصانيف الفائقة في أصول الفقه، منها المعتمد وهو كتاب كبير نفيس، ومنه ومن المستصفى الإمام أبي حامد الغزالي استمد فخر الدين الرازي في تصنيف كتابه المحصول ولأبي الحسين تصفح الأدلة، وعزير الأدلة، وله شرح الأصول الخمسة وله كتاب في الإمامة وغير ذلك. وفيها توفي أبو عبد الله الصيمري الفقيه أحد أئمة الحنفية. سنة سبع وثلاثين واربع مائة فيها توفي شيخ الأندلس وعالمها ومقرئها وخطيبها أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، كان من أهل التبحر في العلوم كثير التصانيف، وكان مشهوراً بالصلاح وإجابة الدعوة رحمه الله تعالى ومما روي في إجابة دعوته أنه كان إنسان يتسلط عليه، ويحصي عليه سقطاته وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم، ويتوف، فحضر ذلك الرجل في بعض الجمع، وجعل يحد النظر إلى الشيخ، ويغمزه، فلما خرج مضى، ونزل في الموضع الذي كان يقرأ فيه، ثم قال لنا: أمنوا على دعائي، ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفنيه؛ قال: فأمنا فأقعد ذلك، وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم. وله تصانيف كثيرة نافعة، فمنها الهداية إلى بلوغ النهاية في معاني القرآن الكريم، وتفسيره وأنواع علومه، وهو سبعون جزءاً، ومنتخب الحجة لأبي علي الفارسي ثلاثون جزءاً، وكتاب التبصرة في القراءات في خمسة اجزاء وهو من أشهر تواليفه - وكتاب الكشف عن وجوه القراءات وعللها عشرون جزءاً، وكتاب الوقف في كلا وبلى في القرآن جزءان، وكتاب تنزيه الملائكة عن الذنوب، وفضلهم على بني آدم جزء، وكتاب اختلاف العلماء في الروح والنفس جزء، وكتاب شرح التمام والوقف أربعة أجزاء وغير ذلك، ومجموع تصانيفه نحو من أربعين مصنفاً، بعضها مشتمل على أجزاء كثيرة. وفيها توفي الإمام الأوحد القاسم بن محمد بن عبد الله القرشي الجمحي، من أهل شمعة من بلاد اليمن. لما تفرقت قريش عن الحجاز سكن قوم منهم بسهفنة، وكان هو وأهله منهم، ومات فيها، وهو الذي انتشر عنه مذهب الشافعي في نواحي الجند وصنعاء

سنة ثمان وثلاثين واربع مائة

والمعافر والسحول وعدن ولحج وأبين، ومنه استفاد فقهاء هذه البلاد المذكورة، كانت مدرسته في سهفنة وكان تفقه وتعلم في ابتداء أمره في زبيد على بكر بن المصرف بمختصر المزني وبعض شروحه، وكان له رحلة إلى مكة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ولقي فيها أبا بكر أحمد بن ابراهيم المروزي، فأخذ عنه كتاب السنن عن أبي داؤد سليمان بن الأشعث، وسمع عنه موطأ الإمام مالك. وكان قد جمع مع الفقه والحديث والكلام وأصول الفقه علم القراءات ومعاني القرآن، وكان فقيهاً اجتمع عليه القريب والبعيد من البلاد وأخذ عنه العلم خلق كثير. سنة ثمان وثلاثين واربع مائة فيها توفي الشيخ الإمام الجليل القدر، مفتي الأنام، قدوة المسلمين وركن الاسلام، ذو المحاسن والمناقب العظام، والفضائل المشهورة عند العلماء والعوام، الفقيه الأصولي الأديب النحوي المفسر الشيخ أبو محمد الجويني عبد الله بن يوسف شيخ الشافعية، ووالد إمام الحرمين. قال أهل التواريخ: كان إماماً في التفسير والفقه والأصول والعربية والأدب، قرأ الأدب على أبيه أبي يعقوب يوسف بجوي، ثم قدم نيسابور، واشتغل بالفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم انتقل إلى أبي بكر القفال المروزي، واشتغل عليه بمرر، ولازمه واستفاد منه، وانتفع عنه، وأتقن عليه المذهب والخلاف، وقرأ عليه طريقته، وأحكمها. فلما لخرج عليه عاد إلى نيسابور، وتصدى للتدريس والفتوى، وتخرج عليه خلق كثير، منهم ولده إمام الحرمين، وكان مهيباً لا يجري بين يديه إلا الجدل والبحث والتحريض على التحصيل. له في الفقه تصانيف كثيرة الفضائل، مثل التبصرة والتذكرة ومختصر المختصر والفرق والجمع والسلسلة وموقف الإمام والمأموم، وغير ذلك من التواليف، وله التفسير الكبير المشتمل على عشرة أنواع في كل آية. وقال الإمام عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري: كان أئمتنا في عصره، والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحميدة ما أنه لو جاز أن يبعث الله تعالى نبياً في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته وكمال فضله رضي الله تعالى عنه سمع الحديث الكثير، وتوفي في ذي القعدة من السنة المذكورة، وقيل قي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بنيسابور والله أعلم. وقال الشيخ أبو صالح المؤذن: مرض الشيخ أبو محمد الجوينى سبعة عشر يوماً،

سنة تسع وثلاتين وأربع مائة

وأوصاني أن أتولى غسله وتجهيزه، فلما توفي غسلته، وكفنته في الكفن. ورأيت يده اليمنى زهراء منيرة من غير سوء وهي تتلألأ تلألؤ القمر، فتحيرت وقلت لنفسي هذه بركات فتاويه. قلت: وفضاثله كثيرة شهيرة، وقد ذكرت شيئاً منها في الشاش المعلم سنة تسع وثلاتين وأربع مائة فيها توفي الحافظ أبو محمد الحسن بن محمد الحسن بن الجلال البغدادي. قال الخطيب: كان ثقة له معرفة، أخرج المسند على الصحيحين، وجمع أبواباً وتراجم كثيرة. سنة اربعين واربع مائة فيها أقام العرب بالمغرب الدعوة للقائم بأمر الله العباسي وخلع طاعة المستنصر العبيدي، فبعث المستنصر جيشاً من العرب يحاربون فذلك أول دخول العربان إلى إفريقية وهم بنو رباح وبنو زغبة، وجرت لهم أمور يطول شرحها. وفيها توفي أبو القاسم عبد الله بن عمر بن شاهين رحمه الله تعالى. سنة احدى واربعين واربع مائة توقني أبو علي أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن أبي نصر التميمي الدمشقي، أحد الأكابر. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أحد أركان الحديث. قال الخطيب: وكان يسرد الصوم، وقال أبو الحسين: ما رأيت أحفظ من الصوري. سنة اثنتين واربعين واربع مائة فيها عين ابن النسوي بالنون والسين المهملة لشرطة بغداد، فاتفق السنية والشيعية على أنه متى ولي نزحوا عن البلد، فوقع الصلح بين الفريقين بهذا السبب، وصار أهل الكرخ يترحمون على الصحابة، وصلوا في مساجد السنية، وخرجوا كلهم إلى زيارة المشاهد، وتحابوا، وتزاوروا، هذا شيء لم يعهد منذ دهراً، وقيل في دهر. وفيها توفي شيخ العراق، الزاهد القدوة أبو الحسن علي بن عمر بن القزريني. قال الخطيب: كان أحد الزهاد ومن عباد الله الصالحين، يقرىء ويحدث، ولا يخرج إلا لصلاة، غلقت جميع بغداد يوم دفنه، ولم نر جمعاً أعظم من ذلك الجمع.

سنة ثلاث واربعين واربع مائة

وفيها توفي أبو القاسم الثمانيني الموصلي الضريري النحوي، أحد أئمة العربية بالعراق. أخذ عن ابن جني، وتصدر للإفادة، وصنف شرحاً للمع كتاب النحو، وشرحاً للتصريف. والواعظ أبو طاهر بن العلاف محمود بن علي البغدادي. سنة ثلاث واربعين واربع مائة فيها زال الأنس بين السنية والشيعية، وعادوا إلى أشد ما كانوا عليه من الشر والفتن، وأحكم الرافضة سور الكرخ، وكتبوا على الأبراج: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، واضطرمت نار الفتنة، وأخذت ثياب الناس في الطرق، وغلقت الأسواق، واجتمع للسنية جمع لم ير مثله، وهجموا دار الخلافة، فوعدوا بالخير. وثار أهل الكرخ، فالتقى الجمعان، فقتل جماعة، ونبشت عدة قبور للشيعة، وأحرقوا. وتم على الرافضة خزي عظيم، فعمدوا إلى خان الحنفية، فأحرقوه، وقتلوا مدرسهم أبا سعيد السرخسي رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الفارسي: مسند الديار المصرية، أكثر عن أبي أحمد بن الناصح والذهلي. سنة أربع وأربعين وأربع مائة فيها هاجت الفتنة ببغداد، واستعرت نيرانها، وأحرقت عدة حوانيت، وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: محمد وعلي خير البشر. وأذنوا بحي على خير العمل، فاجتمع غوغاء أهل السنة، وحملوا حملة حربية على الرافضة، فهرب النظارة، وازدحموا في درب ضيق، فهلك ست وثلاثون امرأة وستة رجال وصبيان، وطرحت النيران في الكرخ، وأخذوا في تحصين الأبواب والقفال، والتقوا في سادس من ذي الحجة، فجمع الطقطقي بالقاف بين الطائين المهملتين طائفة من الأعوان، وكبس جهة من الكرخ، وقتل رجلين، ونصب رأسيهما على مسجد العلائين. وفيها عمل محضر كثير ببغداد، وتضمن القدح في نسب بني عبيد الخارجين بالمغرب ومصر، وأن أصلهم من اليهود، وأنهم كاذبون في انتسابهم إلى جعفر الصادق رضي الله

سنة خمس وأربعين وأربع مائة

تعالى عنه. فكتب فيه خلق من الأشراف والسنة وأولي الخيرة. وفيها توفي أبو غانم أحمد بن الحسين المروزي الكراعي مسند خراسان في وقته. وفيها توفي أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد القرطبي الحافظ المقرىء أحد الأعلام، صاحب التصانيف الكثيرة المتفننة، توفي بدانية المنسوب إليها، قيل وكان مجاب الدعوة رحمه الله تعالى. سنة خمس وأربعين وأربع مائة فيها توفي مقرىء الديار المصرية، الملقب بتاج الأئمة أبو العباس أحمد بن على بن هشيم المصري. وفيها توفي أبو إسحاق البرمكي بن ابراهيم بن عمر البغدادي الحنبلي. قال الخطيب: كان صدوقاً ديناً فقيهاً، له حلقة للفتوى وفيها توفي الحافظ أبو سعيد السمعاني اسماعيل بن علي الرازي. قال الكتاني: كان من الحفاظ الكبار زاهداً عابداً، ويقاق إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ، وكان رأساً في القراءات والحديث والفقه، بصيراً بمذهبي الحنفية والشافعية، لكنه من رؤوس المعتزلة. قلت: وما سمعت أن أحداً له من الشيوخ مثل هذا المذكور إلا الحافظ أبا سعيد السمعاني، فإن شيوخه يزيدون على أربعة آلاف شيخ. وممن سمعت أن شيوخه يزيدون على الذين: عبد الله بن المبارك. وممن سمعت أن شيوخه يزيدون على ألف: الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، ذكروا أن شيوخه ألف وثلاث مائة. وممن سمعت أن شيوخه ألف: الطبراني، وممن سمعت أن شيوخه دون الألف: الشيخ صلاح الدين العلائي مدرس الصالحية في القدس رحمه الله أخبرني بذلك، أو قال نحو الألف، قال: وليس فيهم أجل من الشيخ رضي الله تعالى عنه يعني شيخنا رضي الدين فقيه المحدثين الصالحين ابراهيم بن محمد الطبري، إمام مقام ابراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن أحمد بن محمد الكاتب مسند أصبهان. سنة ست واربعين واربع مائة فيها توفي الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد القزويني، أحد أئمة الحديث. وفيها توفي أبو علي الأهوازي الحسن بن علي بن ابراهيم: المقرىء المحدث صاحب

سنة سبع واربعين واربع مائة

التصانيف. وأبو محمد بن اللبان الاصبهاني. قال الخطيب: وكان أحد أوعية العلم. سنة سبع واربعين واربع مائة فيها توفي أبو عبد الله القادسي الحسين بن أحمد البغدادي. وفيها توفي قاضي القضاة ابن ماكولا: الحسين بن علي العجلي الشافعي. قال لخطيب: لم نر قاضياً أعظم نزاهة منه. وفيها توفي حكم بن محمد الجذامي، وأبو القاسم التنوخي، وابن سلوان. وفيها توفي أبو الفتح السليم بن أيوب بن سليم الرازي: الفقيه الإمام الشافعي المفسر لأديب: صاحب التصانيف. كان رأساً في العلم والأدب والعمل، يشار إليه في الفضل والعبادة. ومن تصانيفه كتاب الإشارة في الفروع وكتاب غرائب الحديث وكتاب التقريب، وليس هو التقريب الذي نقل عنه إمام الحرمين في النهاية، وحجة الإسلام في البسيط والوسيط، فإن ذلك للقاسم بن القفال الشاشي. أخذ سليم الفقه عن الشيخ أبي حامد لاسفرائيني، وأخذ عنه أبو الفتح الشيخ نصير بن ابراهيم المقدسي. وقال سليم: دخلت بغداد في بدايتي في طلب علم اللغة، فكنت آتي شيخا هناك، فذهبت في بعض الأيام إليه، قيل لي: هو في الحمام، ومضيت نحوه، فمررت في طريقي على الشيخ ابي حامد الاسفرائيني - وهو يملي - فدخلت المسجد، وجلست مع الطلبة، فوجدته يشرح في كتاب أصيام في مسألة إذا أولج ثم أحس بالفجر فنزع، فاستحسنت ذلك، فعلقت الدرس على ظهر جزء كان معي، فلما عدت إلى منزلي جعلت أعيد الدرس مخلى بي، وقلت: أتم هذا الكتاب يعني - كتاب الصيام فعلقته، ولزمت الشيخ أبا حامد حين علقت منه جميع التعليق - يعني كتابه - وكان لا يخلو له وقت من اشتغال، حتى أنه كان إذا برأ القلم قرأ القرآن، أو سبح، أو قال: وسبح. وكذلك إذا كان ماراً في الطريق، كما تقدم في ترجمته، وغير ذلك من الأوقات التي لا يمكن الاشتغال فيها بعلم. قلت: وهذا مما يدلك على اهتمام هذا الإمام على استغراق أوقاته بالنفع بالعلم لوجه الله تعالى، والعمل به في طاعاته، وهذا عزيز جداً من أهل العلم. وأحوال الناس في ذلك مختلفة، فبعضهم كان يرخي بينه وبين أصحابه ستراً، وبعضهم يذكر بالقلب سراً، وبعضهم يأتي بالذكر جهراً. وإرخاء الستر قد روي عن بعض المشايخ وعن بعض أهل العلم أيضاً: وهو أبو الحسن الباهلي شيخ القاضي أبي بكر الباقلاني في علم الأصول: وقد يكون في إرخاء الستر

سنة ثمان واربعين واربع مائة

غرض آخر من ترك النظر إلى بعض الناس، إما لخوف فتنة، أو تشويش خاطر ببعض من هو في مجلسه حاضر. ولا يخلو الموقف صاحب القلب المليح من غرض صحيح. وسكن سليم الشام بمدينة صور متصدياً لنشر العلم وإفادة الناس. وكان يقول: وضعت مني صوره رفعتها. وكان موته رحمه الله غرقاً عند رجوعه من الحج عند ساحل جدة، وقال بعضهم: في بحر القلزم بضم القاف والزاي وسكون اللام بينهما، ثم تبئين في أي مكان منه، وقال: عند ساحل جدة، وقال بعضهم: في بحر القلزم المذكور غرق فيه فرعون. قلت ويحتمل أنه غرق في الجانب الذي يلي مصر منه، وسليم في الجانب الذي يلي جدة منه، وشتان ما بين الغرقين: غرق الشقاوة والإبعاد، وغرق الشهادة والإسعاد. وكان سليم المذكور قد نيف على الثمانين، ودفن في جزيرة بقرب الجار الآتي تفسيره قريباً، عند المخاضة في طريق عيذا. والرازي: نسبة إلى الري على غير قياس ألحقوا الزاي في النسبة، كما ألحقوها في المروزي عند النسبة إلى مرو: وهي مدينة عظيمة من بلاد الديلم بين قومس والجبال. والجار بفتح الجيم وبعد الألف راء: وهي بلدة إليها القمح الجاري. وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب الأمكنة والجبال والمياه أن الجار قرية على ساحل البحر، بها مرسى مطايا القلزم ومطايا عيذاب، يعني بالمطايا المذكورة: السفن. وقال ابن حوقل بفتح الحاء المهملة والقاف وسكون الواو بينهما وفي آخره لام الجار: الفرضة المدلية على ثلاث مراحل منها، على البحر وحده فرضة منه. قلت: يعني فرضة مكة، ويعنونه بالفرضة في مثل هذا الموضع فرضة البحر التي هي محط السفن. وفي السنة المذكورة توفي عبد الوهاب بن الحسين بن برهان بفتح الموحدة أبو الفرح البغدادي الغزالي. سنة ثمان واربعين واربع مائة فيها خطب بالكوفة والموصل وواسط للمستنصر المصرفي العبيدي، ففرحت الرافضة بذلك، واستفحل أمر الأمير البساسيري بفتح الموحدة وبالسين المهملة المكررة قبل الألف وبعدها وسكون المثناة مكررة قبل الراء وبعدها ثم جاءته الخلع والتقليد من مصر. وفيها توفي عبد الله بن الوليد الأنصاري الأندلسي الفقيه المالكي. وفيها توفي الشيخ

سنة تسع واربعين واربع مائة

عبد الغافر أبو الحسين محمد بن عبد الله الفارسي. وفيها توفي أبو الحسن الفالي علي بن محمد بن علي المؤذب، وأبو الحسن الباقلاني علي بن ابراهيم بن عيسى البغدادي، وابن مسرور أبو حفص. قال عبد الغافر: هو حفص المارودي الزاهد الفقيه، كان كثير العبادة والمجاهدة، وكانوا يتبركون بدعائه رحمة الله عليه عاش سبعين سنة. سنة تسع واربعين واربع مائة فيها توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله التنوخي المعري اللغوي الشاعر المشهور، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل البليغة المنشورة، والزهد والذكاء المفرط. كان متضلعاً من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه ب المعرة، وعلى محمد بن عبد الله ابن سعد النحوي بحلب، وله من النظم: لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء وما يقارنها، وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه وسماه: ضوء السقط، وله الكتاب المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً. وحكي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف قال: لا أعلم ما كان يعوده بعد هذا وكان علامة عصره في فنون، وأخذ عنه أبو القاسم التنوخي والخطيب أبو زكريا التبريزي وغيرهما. ومن لطيف نظمه قوله: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخمر بالخاء المعجمة والصاد المهملة مفتوحتين وبالراء البرد. ومن نظمه المشير به إلى فضله: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم يستطعه الأوائل وكانت وفاته ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني عشر ربيع الأول من السنة المذكورة، وكانت أيضاً ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بالمعرة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، وغشي يمنى عينيه بياض، وذهبت اليسرى جملة. وشرح ديوان المتنبي، وسماه كتاب لامع الغزنوي في شرح ديوان المتنبي ولما فرغ من تصنيفه وقرىء عليه أخذ الجماعة في وصفه، فقال أبو العلاء: كأنما نظر إلى المتنبي بلحظ الغيب، حيث يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم واختصر ديوان أبي تمام وشرحه، وكذلك ديوان البحتري، وتولى الانتصار بهم، وتنقد عليهم في مواضع، ودخل بغداد مرتين قلت: وقد ذكر في كتاب منهل المفهوم في

شرح ألسنة المعلوم في قسم الإيماء: حكي أنه حضر مجلس الشريف المرتضى، وكان الشريف نقص من شعر المتنبي، والمعري يمدحه حتى قال: لو لم يكن في شعره إلا قصيدة التي يقول فيها: لك يا منازل في القلوب منازل لكفى فأمر الشريف بإخراجه من المجلس مسجوناً، ثم قال: أتدرون ما عنى هذا الأعمى في القصيدة المذكورة؟ إنما أومأ فيها إلى قول المتنبي: واذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل انتهى قلت: ومما يدلك على فرط ذكاء أبي العلاء المعري، وفرط ذكاء الشريف، وفهمه ذلك في الحال. ثم رجع إلى المعرة، وشرع في التصنيف، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، أو قيل إنه مكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم، يرى رأي الحكماء المتقدمين، إذ لا يأكلونه، لكيلا يذبحوا الحيوان، إذ لا يرون بإيلام الحيوانات مطلقاً. قلت: وهو خلاف ما جاءت به الأنبياء والشرائع، ودل على جعله الإجماع ونصوص الآيات القواطع. ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. ومن نظمه: لا تطلبن بغير خط رتبة ... قلم البليغ بغير خط مغزل سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل ويروى بغير حد. قلت: وقد نظمت ثلاثة أبيات، أوضحت فيها ما أشار إليه بمثال أولى من مثاله، فإنه أشرك بين السماكين في نيل المرتبة، مع كون أحدهما ذا آلة يكتسب بها المراتب وهي الرمح وأنا خصصت بالمرتبة الخالي منهما عن الآلة حيث قلت: لو كان بالآلات خط يحصل ... والسعد يأتي ولعطايا تجزل ما كان في عالي المنازل رامح ... أو لم يجزها دون ذلك أعزل لكنه من دونه قد حازها ... في شرحه البدر المتمم ينزل وكلا النظمين في قوافيهما التزام ما لا يلزم ولما توفي رثاه تليمذه أبو الحسن بن همام بقوله: إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني الدما سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعه يعطر أو فما قلت يعني أن طيب ثنائه يعطر سامعه أو المتكلم به المثني عليه، واقتصر على الفم لضيق المقام في مساعدة الوزن على عموم المتكلم دون تخصيص فيه، ويحتمل أنه أراد

سنة خمسين واربع مائة

بالتعطير تعميم السامع والمتكلم يزكون. أوهنا بمعين الواو فحسب، ومثل ذلك قد يجيء، ومنه قوله تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " - الصافات 147 - على رأي بعض المفسرين، فإنه وإن لم يكن محمد عليه، فان القائل يقول بذلك، ما احتج إلا بما يصح الاحتجاج به، وهو وقوع أو موقع الواو، وإذا تتبع ذلك وجد في الكلام الفصيح منه ما يكثر عدة، فيما نبهت عليه فائدة، وهي أنه لا يلزم من رد قوله: من احتج على علم بطلان حجته، بل يرد قوله لقيام دليل آخر على خلاف قوله، وإن كان احتجاجه صحيحاً في نفسه، وأشار في البيت الأول إلى ما كان يعتقده، ويدين به من عدم الذبح للحيوانات. وفي السنة المذكورة توفي أبو سعيد البجلي أحمد بن محمد بن عبد العزيز الرازي الحافظ. وفيها توفي أبو عبد الله الخبازي المقرىء النيسابوري. وكان كبير الشأن وافر الحرمة مجاب الدعوة. وفيها توفي أبو عثمان الصابوني شيخ الإسلام الواعظ المفسر، أحد الأعلام، شيخ خراسان. وفيها توفي أبو الفتح الكرخي الخيمي رأس الشيعة صاحب التصانيف. كان نحوياً لغوياً منجماً طبيباً متكلماً، من كبار أصحاب الشريف المرتضى. سنة خمسين واربع مائة فيها توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري الشافعي. كان ديناً ورعاً عارفاً بالأصول والفروع، محققاً في علمه، سليم الصدر، حسن الخلق، صحيح المذهب، يقول الشعر. ومن شعره ما أرسل به بالغزالي لأبي العلاء المعري حين أتى بغداد: وما ذات در لا يحل لحالب ... تناولها واللحم منها محلل لمن شاء في الحالين حياً وميتاً ... ومن رام شرب الدر فهو مضلل إذا طعنت في السن فاللحم طيب ... وآكله عند الجميع معقل وخوف بها للأكل فيها كزازة ... فما لحضيض الرأي فيه مأكل وما يجتبي معناه إلا مبزر ... عليم بأسرار القلوب محصل فأجابه المعري مملياً على الرسول ارتجالاً: جوابان عن هذا السؤال كلاهما ... صواب وبعض القائلين مضلل فمن ظنه كرماً فليس بكاذب ... ومن ظنه نخلاً فليس يجهل لحومهما الأعناب والرطب الذي ... هو الحبل والدر الرحيق المسلسل

ولكن ثمار النخل وهي غضيضة ... تراها وغض الكرم يجبى ويؤكل يكلفني القاضي الجليل مسائلاً ... هي النجم قدراً بل أعز وأطول فأجابه أبو الطيب: أثار ضميري ناظماً من نظيره ... من الناس طراً شائع الفضل يكمل ومن قبله كتب العلوم بأسرها ... وخاطره في جدة النار مشعل تساوى له سر المعاني وجهرها ... ومعضلها باد لديه مفصل فلما أثار الخبأ قاد منيعه ... أسيراً لأنواع البيان مكمل وقربه من كل فهم بكشفه ... وإيضاحه حتى رآه المغفل وأعجب منه نظمه الدر مسرعاً ... ومرتجلا من غير ما يتمهل فيفخر من يجر ويسمو مكانه ... جلالاً له حيث الكواكب ينزل فهنأه الله الكريم بفضله ... محاسنه جم وعمر مطول فأجابه المعري مرتجلاً مملياً على الرسول: ألأليها القاضي الذي بلهاته ... سيوف على أهل الخلاف تسلسل فؤادك معمور من العلم أهله ... وجدك في كل المسائل مقبل فإن كنت بين الناس غير ممول ... فأنت من الفهم المصون ممول إذا أنت خاطبت الخصوم مجادلاً ... فأنت وهم حاكي الحمام وأجدل كأنك من في الشافعي مخاطب ... ومن قلبه تملى فما تتمهل وكيف بذي علم ابن ادريس دارساً ... وأنت بإيضاح الهدى متكفل تفضلت حتى ضاق ذرعي بشكر ما ... فعلت وكفي عن جوابك أجهل لأنك في كنه الثريا مصاحب ... وأعلى ومن يبغي مكانك أسفل مع أبيات أخرى حذفتها اختصاراً آخرها: تجهلت الدنيا بإنك فوقها ... ومثلك حقاً من به يتحمل عاش القاضي أبو الطيب رحمه الله مائة وستين سنة. قلت وربما سمعت من بعض شيوخنا: وعشرين سنة، ولم يهن عظمه حتى حكى أنه أتى على نهر أو مكان يحتاج إلى طفرة كبيرة، فطفره، ثم قال: أعضاء حفظها الله تعالى في صغرها فقراها في كبرها، أو كما قال رضي الله تعالى عنه: وكذلك لم يحتل عقله ولا تغير

فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ ويقضي ببغداد، ويحضر المراكب في دار الخلاف، إلى أن مات. تفقه على أبي علي الزجاجي صاحب ابن القاضي في طبرستان وعلى أبي سعيد الإسماعيلي وأبي القاسم، تناكح بجرجان، ثم ارتحل إلى نيسابور، وأدرك أبا الحس، الماسرجسي، فصحبه أربع سنين، وتفقه عليه، ثم ارتحل إلى بغداد، وحضر مجلس الشيخ أبي حامد الأسفرائيني، وعليه اشتغل أبو إسحاق الشيرازي، وقال في حقه: لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه، وشرح مختصر المزني وفروع ابن حداد المصري، وصنف في الأصول والمذهب والخلاف والجدل كتباً كثيرة. وقال الشيخ أبو إسحاق: لازمت مجلسه بضع عشر سنة، ودرست أصحابه في مسجده سنتين بإذنه، واستوطن ببغداد، وولي القضاء بربع الكرخي بعد موت عبد الله الصيمري، ولم ينزل على القضاء إلى حين وفاته رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام النحرير الكبير، أقضى القضاة أبو الحسين علي بن محمد البصري الماوردي الشافعي، مصنف الحاوي الكبير النفيس الشهير والإقناع وأدب الدنيا والدين والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وتفسير القرآن الكريم والقلب والعيون، وصنف في أصول الفقه والأدب وغير ذلك، وكان إماماً في الفقه والأصول والتفسير، بصيراً بالعربية، ولي قضاء بلاد كثيرة، ثم سكن بغداد، وعاش ستاً وثمانين سنة، تفقه على أبي القاسم الصيمري بالبصرة، وعلى الشيخ أبي حامد الأسفرائيني ببغداد، وحدث عن جماعة، وكان حافظاً للمذهب. درس العلوم. وروى عنه الخطيب صاحب تاريخ بغداد: وانتفع الناس به، وقيل إنه لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمع جميعاً في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يتولاه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى، فإذا عاينت الموت، ووقعت في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها، وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل من سنن منها، فالقها في دجلة، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قد قبلت، وقد ظفرت بما كنت أرجوه. ففعل الموصي ذلك، فبسط يده، ولم يقبضها على يده، فعلم أنها علامة القبول، فأظهر كتبه بعده. وذكر الخطيب في أول تاريخ بغداد عن الماوردي قال: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد: طيب الهوى ببغداد يشوقني قدماً إليها، وإن علقت مقادير، فكيف صبري عنها الآن، إن جمعت طيب هوائين ممدود ومقصور. وقيل إنه لما خرج من بغداد راجعاً إلى

سنة احدى وخمسين واربع مائة

البصرة كان ينشد أبيات ابن الأحنف: أقمنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا وما حب البلاد بنا ولكن ... أمر العيش فرقة من هوينا خرجت أقر ما كانت بعيني ... وخلفت القرار بها رهينا والماوردي نسبة إلى الماورد، وعمره ست وثمانون سنة، رحمة الله عليه. سنة احدى وخمسين واربع مائة فيها توفي أبو المظفر عبد الله بن شبيب الضبي، مقرىء أصبهان وخطيبها وواعظها وشيخها وزاهدها. سنة احدى وخمسين واربع مائة فيها توفي شيخ لإقراء بمصر: محمد بن أحمد المقرىء بقزوين، أخذ عن طاهر ابن غلبون، وسمع من أبي الطيب والد طاهر، وعبد الله الكلابي، وطائفة. سنة ثلاث وخمسين واربع مائة فيها توفي أبو العباس ابن نفيس شيخ القراء أحمد بن سعيد المصري. وفيها توفي نصر الدولة صاحب ديار بكر، أحمد بن مروان الكردي، ملك بعد أن قتل أخوه منصور بن مروان، وكان رجلاً مسعوداً على الهمة، حسن السياسة، كبير الحزم. وحكى بعض المؤرخين أن نصر الدولة المذكور لم يصادر في دولته أحداً سوى شخص واحد، وأنه لم تفته صلاة الصبح عن وقتها، مع انهماكه في اللذات، وإنه كان له ثلاثمائة وستون جارية، يخلو في كل ليلة من ليالي السنة بواحدة منهن، ثم لا يعود القربة إليها إلا في تلك الليلة من العام الثاني، وأنه قسم أوقاته، فمنها ما ينظر فيه مصالح دولته، ومنها ما يجتمع فيه بأهله والداب، ويصل إلى الدابة ويقضي أوطاره. سنة أربع وخمسين واربع مائة فيها بلغت دجلة إحدى أو عشرين ذراعاً وغرقت بغداد. وفيها انتصر المسلمون على الروم، وغنموا وسبوا حتى بيعت السرية الخبازة بمائة

سنة خمس وخمسين واربع مائة

درهم. وفيها توفي أبو نصر زهير بن الحسن الرضي، الفقيه الشافعي، مفتي خراسان، والإمام المقرىء الزاهد، أحد العلماء العاملين. قال أبو سعيد السمعاني: كان مقرئاً كثير التصانيف، حسن العيش، قانعاً منفرداً عن الناس، يسافر وحده، ويدخل البراري. سمع بمكة وبالري ونيسابور وبجرجان وبأصبهان وببغداد وبالبصرة وبالكوفة وبدمشق وبمصر وكان من أفراد الدهر. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة الفقيه الشافعي، قاضي الديار المصرية، القضاعي مصنف كتاب الشباب وكتاب مناقب الإمام الشافعي وكتاب الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء، قال ابن ماكولا: كان متفنناً في عدة علوم، لم أر بمصر من يجري مجراه. وذكر السمعاني في كتاب الذيل أنه حج الخطيب والقضاعي سنة خمس وأربعين وأربعمائة، فسمع الخطيب منه. وفيها توفي شرف الدولة ابن باديس بالموحدة قبل الألف ابن منصور الحميري الصنهاجي، صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب. وكان الحاكم صاحب مصر قد لقبه شرف الدولة، وسير له تشريفاً وسجلاً، وكان ملكاً جليلاً عالي الهمة، محباً لأهل العلم، كثير العطاء، وكان واسطة عقد بيته، ومدحه الشعراء وانتجعه الأدباء، وكانت حضرته محط ذوي الآمال. وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بإفريقية أظهر المذاهب، فحمل أهل المغرب على التمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وحسم مادة الخلاف في المذهب، واستمر الحال في ذلك إلى الآن، وقطع خطبة المستنصر بالله العبيدي، وخلع طاعته، وخطب الإمام للقائم بأمر الله خليفة بغداد، واستمر على ذلك. وأخبار المعز بن باديس كثيرة، وسيرته شهيرة، وله شعر قليل. وكان يوماً جالساً في مجلسه، وعنده جماعة من الأدباء، وبين يديه أترجة ذات أصابع، فأمرهم فيها شعراً، فقال ابن رشيق شعراً: أترجة سبطة الأطباق ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس كأبما بسطت كفاً لخالقها ... تدعو لطول بقاء لابن باديس سنة خمس وخمسين واربع مائة فيها توفي أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بفتح السين المهملة وسكون اللام وبالقاف أول ملوك السلجوقية، كانوا يسكنون قبل استيلائهم على الممالك فيما وراء النهر، قريباً من بخارى، كانوا عدداً غير محصور، لا يدخلون تحت طاعة سلطان، فإذا قصدهم

جمع لا يقوون عليه دخلوا المفاوز، وتحضنوا بالرمال، وجرت لهم مع ولاة خراسان أمور يطول ذكرها وشرحها، وحاصل الأمر أنهم استظهروا على الولاة، وظفروا بهم، وملكوا البلاد، وكان ابتداء أمرهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان السلطان أبو طالب محمد المذكور كبيرهم، وإليه الأمر والنهي في السلطنة، وأخذ أخوه داود مدينة بل، واتسع لهم الملك، واقتسموا البلاد، وانحاز السلطان مسعود إلى غزنة ونواحيها، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، فعظم شأنهم إلى أن راسلهم القائم بأمر الله وكان الرسول بينهم وبينه الماضي أبا الحسن علي بن حبيب الماوردي مصنف الحاوي الكبير في الفقه، وكان السلطان محمد المذكور حليماً محافظاً على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقات، ويبني المساجد، ويقول استحي من الله تعالى أن أبني داراً لا أبني إلى جانبها مسجداً. ثم إنه تمهدت له البلاد، وملك العراق وبغداد، وسير إلى الإمام القائم يخطب إليه بنته، فشق على القائم، واستعفى منه، وترددت الرسل بينهما، فلم يجد من ذلك بداً، فزوجه بها، وعقد العقد بمدينة تبريز، ثم توجه إلى بغداد فلما دخلها طلب الزفاف، وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش ونقله، فزفت إليه بدار المملكة، وجلست على سرير ملبس من ذهب، ودخل السلطان إليها، فقبل الأرض بين يديها، ولم يكشف البرقع عن وجهها في ذلك الوقت، وقدم لها تحفاً يقصر الوصف عن ضبطها، وقبل الأرض، وقدم وانصرف، فظهر عليه السرور. وبالجملة، فأخبار الدولة السلجوقية كثيرة ومقصودنا الاختصار وسنذكر جماعة من ملوكهم في السنين التي توفوا فيها إن شاء الله تعالى. وتوفي السلطان المذكور يوم الجمعة، ثامن عشر رمضان من السنة المذكورة. وذكر عنه السمعاني أنه قال: رأيت وأنا بخراسان في المنام، كأني رفعت إلى السماء وأنا في ضباب لا أبصر شيئاً، غير أني أشم رائحة طيبة، فنوديت: أنت قريب من الباري جلت قدرته فسل حاجتك تقض؛ فقلت في نفسي: أسألك طول العمر، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يارب؛ لا يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة. ولما حضرته الوفاة قال: إنما مثلي مثل شاة شدت قوائمها بحبل الصوف، فنظن أنها تذبح، فتضطرب، حتى إذا أطلقت تفرح، ثم تشد للذبح، فتظن أنها تشد بحبل الصوف للذبح فتسكن، فتذبح، وهذا المرض الذي أنا فيه هو شد القوائم للذبح. - فمات منه - رحمه الله تعالى وعمره سبعون سنة. وفيها توفي أبو طاهر أحمد بن محمود الثقفي الأصبهاني المؤدب. وكان صالحاً ثقة سنياً كثير الحديث.

سنة ست وخمسين واربع مائة

سنة ست وخمسين واربع مائة فيها قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك الكندري، ثم قتله في آخر العام المذكور، وحمل رأسه إلى نيسابور، وكان قد جب مذاكيره لأمر، وتفرد بوزارته نظام الملك الطوسي، فأبطل ما كان عمله العميد وسلطانه من سب الأشعرية على المنابر، وانتصر للشافعية، وأكرم زين الإسلام أبا القاسم القشيري وإمام الحرمين أبا المعالي الجويني. وكان العميد المذكور من رجال الدهر جوداً وشجاعة وسخاء وكفاية وشهامة، مدحه الشعراء منهم: أبو الحسين الباخرزي ويقال متغزلاً في قصيدة: اكدي بجاري ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين قصوا علي حديث من قيد الهوى ... إن التأسي روح كل حزين ولئن كتمتم مشفقين لقد درى ... بمصارع العذراء والمجنون إلى أن قال بعد غزل طويل: فإذا عميد الملك حلى ربعه ... طرفاً تعال الطائر الميمون ملك إذا ما العزم حث جياده ... مزجت بأزهر شامخ العرنين وفيها توفي الحافظ عبد العزيز بن محمد النخشبي، وكان من كبار الحفاظ. وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان بفتح الموحدة العكبري النحوي، صاحب التصانيف. قال الخطيب: كان متضلعاً بعلوم كثيرة، منها النحو واللغة والنسب وأيام العرب والمتقدمين. وله أنس شديد بعلم الحديث. وكان فقيهاً حنفياً، أخذ علم الكلام عن أبي الحسين البصري، وتقدم فيه. وفيها توفي أبو علي الحسن بن رشيق، أحد الفضلاء، صاحب التصانيف المليحة والرسائل الفائقة والنظم الجليل. سكن القيروان ولم يزل إلى أن هجم العرب، وقتلوا أهلها، وأخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية، وأقام بمارز إلى أن توفي بها، وهي قرية في الجزيرة المذكورة، وينسب الإمام المارزى إليها. ومن شعر ابن رشيق المذكور. أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقل على مسامعه كلامي ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطبت في وجه المدام ورب تقطب من غير بغض ... وبغض كان من تحت ابتسامي

يا رب لا أقوى على دفع الأذى ... وبك أستغيث من الضعيف الموذي ما لي بعثت إلي ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمرود وله: وقائلة ماذا الشجون وذا الضنا ... فقلت لها قول المشوق المتيم هواك أتاني وهو ضيف أعزه ... فأطعمته لحمي وأسقيته دمي وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأموي مولاهم، الفارسي الأصل، الاندلسي القرطبي، صاحب المصنفات. مات مشرداً عن بلده من قبل الدولة، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة، والمذاهب والملل والنحل، والعربية والأدب، والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة والحشمة، والسؤدد والرئاسة والثروة وكثرة الكتب، هكذا وصفه الذهبي بهذه الأوصاف. وقال ابن خلكان: كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب انتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفنناً في علوم جمة عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له، ولاية من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة، وسمع سماعاً جماً وألف في فقه الحديث كتاباً سماه الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع، أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وكتب أخرى كثيرة منها كتاب اظهار تبديل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وبيان تناقص ما بأيديهم من ذلك، ممن ما لا يحتمله التأويل. وهذا معنى لم يسبق إليه وكتاب التقريب بحد المنطق والمدخل أتى فيه بالأمثال العامة والأمثلة الفقهية، سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب المحرفين به طريقة لم يسلكها أحد قبله. وكان شيخه في المنطق محمد بن الحسن المذحجي بسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة والجيم المعروف بابن الكتاني، وكان أديباً شاعراً طبيباً، له في الطب رسائل وكتب في الأدب. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي: ما رأينا مثله فهماً، اجتمع له مع الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس واليدين، وما رأيت من يقول الشعر في البديهة وأسرع منه. ثم قال: أنشدني لنفسه: لئن أصبحت مرتحلاً بجسمي ... فروحي عندكم أبداً مقيم

سنة سبع وخمسين واربع مائة

ولكن للعيان لطيف معنى ... بنظرتنا إلى وجه الكليم وروى الحافظ الحميدي له أيضاً: أقمنا ساعة ثم ارتحلنا ... وما يغني المشوق وقوف ساعه كأن الشمل لم يك ذا اجتماع ... إذا ما شتت البين اجتماعه ومن شعره أيضاً: وذي عدل فيمن سيأتي حسنه ... يطبل ملامي في الهوى ويقول أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي رد لو أردت طويل ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل قلت في قوله هذا مناقشة، وهي أن لا يكون الوجه الظاهر مستحيلاً في العقد كما في صفات الله في الاستواء والنزول إلى سماء الدنيا، وأن لا يكون مخالفاً للقياس الجلي، كما هو معلوم في التشنيع على داود الظاهري في تنجس الماء بالبول فيه، ولا يتنجس بالتغوط فيه. قالوا وكان كثير الوقوع في العلماء المتقذمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف من فقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردوا قوله، واجتمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فاقتصته الملوك، وشردوه عن بلادهم حتى انتهى إلى بادية فمات بها. وقال أبو العبالس بن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، يعني بذلك كثرة وقوعه في الأئمة، كما قد عرف من صنيع الحجاج بهم وسفكه لدمائهم. وكان والد ابن حزم المذكور وزير الدولة العامرية أي وزير أبي تمام المنصور في بلاد المغرب، وكان من أهل العلم والأدب والخير، وقال ولد ابن حزم: أنشدني والدي في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى. إذا شئت أن تحبني غنياً فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها سنة سبع وخمسين واربع مائة فيها توفي العيار سعيد بن أبي سعيد وأبو عثمان أحمد بن محمد النيسابوري. سنة ثمان وخمسين واربع مائة فيها ولدت بنت لها رأسان ورقبتان ووجهان على بدن واحد ببغداد.

وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ النحرير أحمد بن الحسين البيهقي الفقيه الشافعي، واحد زمانه وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله بن البيع في الحديث الزائد عليه في أنواع العلوم، له مناقب شهيرة وتصانيف كثيرة بلغت ألف جزء، نفع الله تعالى بها المسلمين شرقاً وغرباً وعجماً وعرباً، لفضله وجلالته وإتقانه وديانته تغمده الله برحمته غلب عليه الحديث، واشتهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره، وكذلك بقية البلاد التي انتهى إليها، وأخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات. ومن مشهور مصنفاته السنن الكبير والسنن الصغير ودلائل النبوة والسنن والآثار والخلافيات وهو من الكتب الباهرة وشعب الايمان ومناقب الإمام الشافعي ومناقب الإمام احمد والأسماء والصفات والبعث والنشور وكتاب الاعتقاد وكتاب الدعوات وكتاب الزهد وكتاب المدخل وكتاب الآداب وكتاب الترغيب وكتاب الأسرار. قال الشيخ الإمام عبد الغافر الفارسي: كان على سيرة العلماء قانعاً باليسير من الدنيا، محموداً في زهده وورعه. وذكر غيره أنه سرد الصوم ثلاثين سنة، وذكر بعضهم أن مشايخه نحو المائة، قال وليسوا بالنسبة إلى علومه بكثير ولكن بورك للرجل في ذلك، لكنه سمع مصنفات عديدة، ومع هذا فاته أشياء منها: مسند الإمام. هكذا قال في الأصل، وكأنه يعني الإمام أحمد. ومنها سنن النسائي وابن ماجة وجامع الترمذي، كل هذه ليست عنده إلا ما قل منها، وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، فإنه كان أكثر الناس نصراً لمذهب الشافعي. وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعة من الأعيان كالفراوي وعبد المنعم القشيري وزاهر وغيرهم. وكان مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ونسبته إلى بيهق بفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت وبعد الهاء المفتوحة قاف وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها. وفيها توفي الفقيه الإمام القاضي أبو عاصم محمد بن محمد بن أحمد العبادي الهروي الشافعي، وكان إماماً متقناً، انتقل في البلاد، ولقي خلقاً من المشايخ وأخذ عنهم، وصنف كتباً نافعة، منها المبسوط والهادي إلى مذهب العلماء والرد على السمعاني وأدب القضاء وطبقات الفقهاء، وسمع الحديث ورواه. فيها توفي القاضي أبو يعلى شيخ الحنابلة البغدادي فقيه عصره في مذهبه.

سنة تسع وخمسين واربع مائة

وفيها توفي ابن سيدة أبو الحسن علي بن اسماعيل الحافظ، كان إماماً في اللغة والعربية، وكان حافظاً لهما، وله كتاب المحكم والمخصص، كلاهما في اللغة، وكتاب الأنيق ستة مجلدات في شرح الحماسة، وغير ذلك. ووجد على ظهره مجلد من المحكم بخط بعض الفضلاء: إن ابن سيدة دخل المتوضي وهو صحيح، فأخرج منه وقد سقط لسانه، وانقطع كلامه، ثم مات بعد يومين نسأل الله تعالى العفو والعافية. سنة تسع وخمسين واربع مائة في ذي القعدة منها فرغت عمارة المدرسة النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك، وقرر لتدريسها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فاجتمع الناس، ولم يحضر، إذ لقيه في الطريق صبي وقال: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع، واختفى. فلما أيسوا من حضوره وقد اجتمع فيها وجوه الناس وقالوا: إما ينبغي أن ينصرف هذا الجمع من غير تدريس. فأرسل إلى أبي نصر الصباغ مصنف الشامل فدرس. فلما وصل الخبر إلى الوزير أقام القيامة على العميد أبي سعيد، فلم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس، وعمد إلى قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة الكوفي رضي الله تعالى عنه فبنى عليه قبة عظيمة، وأنفق عليها أموالاً جسيمه. وفي السنة المذكورة توفي أبو نصر أحمد بن عبد الباقر الموصلي، وأبو مسلم الأصبهاني الأديب المفسر المقرىء. سنة ستين واربع مائة فيها أوقبلها كان غلاء عظيم بمصر. وفيها كانت الزلزلة التي هلك فيها بالرملة وحدها على ما ذكر ابن الأثير خمسة وعشرون ألفاً، وقال: انشقت الصخرة ببيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وأبعد الله سبحانه البحر عن ساحله مسيرة يوم. وفيها توفي عبد الدائم بن الهلال الجوزاني ثم الدمشقي، والواسطي أبو الجوائز الحسن بن علي الكاتب. كان من الفضلاء أديباً شاعراً حسن الشعر، ومن شعره: دع الناس طراً واصرف الود عنهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح ولا تبغ من دهر بظاهر ريقة ... صفاء بنيه في الطباع جوامح

سنة احدى وستين واربع مائة

شيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال وخل في الحقيقة ناصح وله: وبراني الهوى بري المدى وأذا بني ... صدودك حتى صرت أنحل من أمس ولست أرى حتى أراك وإنما ... يبين هباء الذر في ألق الشمس سنة احدى وستين واربع مائة فيها توفي الفوراني بالنون قبل ياء النسبة عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي، شيخ الشافعية وتلميذ القفال صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والمذهب والخلاف والجدل والملل والخل. انتهت إليه رئاسة الطائفة الشافعية، وطبق الأرض بالتلامذة، وله في المذهب الوجوه الجيدة، وصنف فيه كتاب الإبانة وهو كتاب مفيد، وحكى بعض فضلاء المذهب أن إمام الحرمين كان يحضر حلقته وهو شاب ولا يصغي إلى قوله، فبقي في نفسه منه شيء، فمتى قال في النهاية، وقال بعض المصنفين كذا وغلط في كذا، فمراده الفوراني، هكذا قيل والله أعلم وهو بضم الفاء وسكون الواو وبالراء قبل الألف وبعدها نون ثم ياء النسبة وعنه أخذ أبو الحسن المتولي صاحب اليتيمة. وفيها توفي عبد الرحمن بن أحمد البخاري الحافظ. وأبو الحسين محمد بن مكي الأزدي المصري، وأبو الحسين نصر بن عبد العزيز الفارسي الشيرازي. سنة اثنتين وستين وأربع مائة فيها: أقبلت جيوش الروم، فنزلوا على منبج فاستباحوها، وأسرعوا الكرة لفرط القحط حتى بيع فيهم رطل الخبز بدينار. وفيها أقيمت الخطبة العباسية في الحجاز، وقطعت خطبة المصريين لاشتغالهم بما هم فيه من القحط والوباء الذي لم يسمع في الدهور بمتله، وكاد الخراب يستولي على وادي مصر، حتى نقل صاحب مرآة الزمان أن امرأة خرجت وبيدها مد جوهر فقالت: من يأخذه بمدبر؟ فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق، وقالت: هذا ما نفعني وقت الحاجة فلا أريده، فلم يلتفت إليه أحد. هكذا ذكروا لله تعالى أعلم بصحته ولما جاءت الشارة بإقامة الدعوة للعباسيين بمكة أرسل السلطان ألب أرسلان إلى صاحبها محمد بن أبي هاشم ثلاثين

سنة ثلاث وستين واربع مائة

ألف دينار وخلعاً. وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير القاضي حسين بن محمد المروزي، شيخ الشافعية في زمانه، صاحب التعليقة في الفقه، والوجوه الغريبة، أخذ عنه الفقه عن الإمام أبي بكر القفال المروزي، وصنف في الأصول والفروع والخلاف، ولم يزل يحكم بين الناس، ويدرس، ويفتي، أخذ عنه الفقه جماعة من الأعيان، منهم أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي صاحب كتاب التهذيب، وشرح السنة وغيرهما، قلت: كلما أطلق العلماء الشافعية في الفروع من لفظ القاضي فالمراد به القاضي حسين المذكور. واما في الأصول إذا أطلق ذلك أهل السنة فالمراد به القاضي أبو بكر الباقلاني، وإذا قالوا: القاضيان، فالمراد بهما: هو والقاضي عبد الجبار المعتزلي، وإذا أطلقوا الشيخ، فالمراد به أبو الحسن القشيري وعند الفقهاء المراد به الشيخ أبو محمد الجويني وإذا أطلقوا الإمام، فالمراد به عند الفقهاء وبعض الأصوليين إمام الحرمين. وأكثر الأصوليين يريدون به فخر الدين الرازي. وفيها توفي الإمام اللغوي أبو غالب بن بشران الواسطي الحنفي، ويعرف بابن الخالة. وفيها توفي السيد الجليل الفقه الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب بفتح العين المهملة وتشديد المثناة من فوق وبعد الألف موحدة الحراني مولاهم المالكي، مفتي قرطبة، وعالمها ومحدثها وأورعها. سنة ثلاث وستين واربع مائة فيها أقام صاحب حلب محمود بن صالح الكلابي الخطبة العباسية، ولبس الخطيب السواد وأخذت رعاع الرافضة حضر الجامع وقالوا: هذه حصر الإمام علي، فليأت أبو بكر بحصره، وجاءت محموداً الخلع مع طراد الذهب، ثم بعد قليل جاء السلطان ألب أرسلان وحاصر محموداً، فخرجت أمه بتقاديم وتحف فترحل عنهم.

وفيها كانت الملحمة الكبرى، وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الفرنج والروم والكرج بالجيم فوصلوا إلى منازكرد فبلغ السلطان كثرتهم، وما عنده سوى خمسة عسر ألف فارس، فصبحهم على الملتقى وقال: إن استشهدت فإنني ملك شاه ولى عهدي. فلما التقى الجمعان أرسل بطلب المهادنة، فقال طاغية الروم: لا هدنة إلا بالري، فاحتد ألب أرسلان وجرى المصاف يوم الجمعة والخطباء على المنابر ونزل السلطان وعفر وجهه قي التراب، وبكى وتضرع، ثم ركب، وحمل فصار المسلمون في وسط القوم، وصدقوا فنزل النصر، وقتلوا الروم كيف شاؤوا، وانهزمت الروم، وامتلأت الأرض بالقتلى، وأسر أرمانوس، فأحضر إلى السلطان، فضربه ثلاث مقارع بيده، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد. قال: ما كنت تفعل بي لو أسرتني؟ قال: فما كنت تظن أن أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلادك، وأبعدها العفو، قال: ما عزمت على غير هذه، ثم فدى نفسه بألف ألف وخمس مائه ألف دينار، وبكل أسير في مملكته، فخلع عليه، وأطلق له عدة من البطارقة، وهادنه خمسين سنة، وشيعه فرسخاً، وأعطاه عشرة آلاف دينار برسم الطريق، فقال: أين جهة الخليفة؟ فعرفوه، فكشف رأسه، وأومى إلى الجهة بالخدمة. وأما المنهزمون ففقدوهم، ولما وصل هذا الخبر إلى أطراف بلده ترهب، وتزهد، وجمع ما أمكنه وكان مائتين وتسعين ألف دينار، فأرسله، وحلف أنه لا يقدر غيره، ثم إنه استولى على بلاد الأرمن. وفي السنة المذكورة سار بعض أمراء الملك ألب أرسلان، فدخل الشام وافتتح الرملة، وأخذها من المصريين، وحاصر بيت المقدس فأخذه منهم، ثم حاصر دمشق، وأغارت عسكره، وأخربوا أعمال دمشق. وفيها توفي أبو حامد الأزهري أحمد بن الحسن النيسابوري، والحافظ أحد الأئمة صاحب التآليف المنتشرة في الإسلام أبو بكر الخطيب أحمد بن علي بن ثابت البغدادي. روى عن أبي عمر بن مهدي وابن الصلت الأهوازي وطبقتهما، ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان ودمشق والكوفة والري، وصنف قريباً من مائة مصنف، وفضله أشهر من أن يوصف، وأخذ الفقه عن أبي الحسين المحاملي والقاضي أبي الطيب الطبري. وكان فقيهاً نقلت عليه الحديث والتاريخ، توفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة. وقال السمعاني: في

شوال. وكان الشيخ ابو إسحاق الشيرازي من جملة من حمل نعشه، وكان يراجعه في تصانيفه قلت يعني فيما يتعلق بالحديث، وذكر محب الدين النجار بسنده أن أبا بكر بن زهر الصوفي كان قد أعد لنفسه قبراً إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يمضي إليه في كل أسبوع مرة، وينام فيه ويقرأ فيه القرآن كله، فلما مات الفقيه الخطيب وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب قبر بشر جاء أصحاب الخطيب إلى ابن زهر، وسألوه أن يدفن الخطيب في القبر الذي أعده لنفسه، وأن يؤثره به، فامتنع من ذلك امتناعاً شديداً وقال: أعددته لنفسي منذ سنتين فيؤخذ مني؟ فلما رأوا ذلك جاؤوا إلى الشيخ أبي سعيد الصوفي، وذكروا له ذلك، فاستحضره وقال له: أنا لا أقول اعطهم القبر، ولكن أقول لو أن بشراً الحافي في الأحياء، وأنت إلى جانبه، فجاء أبو بكر الخطيب ويقعد دونك، أكان يحسن منك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأجلسه في مكاني. قال: فكذا ينبغي أن يكون الآن. قال: فطاب قلبه، وأذن لهم في دفنه في القبر المذكور في باب حرب. وكان الخطيب قد تصدق بجميع ماله وهو مائتا دينار، وفرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب. ورأيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه. قال ابن موكولا: لم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثل الخطيب. وفيها توفي أبو علي حسان بن سعيد رئيس مرو الروذ الذي عم خراسان بره وأفضاله، وكان يكسي في كل عام ألف نفس، وأنشأ الجامع المنيع. وفيها توفي أبو عمرو المنبجي الهروي المحدث كان ثقة صالحاً. وفيها توفيت أم الكرام كريمة أحمد المروزية المجاورة بمكة. روت الصحيح، وكانت ذات ضبط وفهم ونباهة، وما تزوجت قط، وقيل إنها بلغت المائة، وسمع منها خلق، وفيها توفي أبو الغنائم الزجاجي البغدادي. وفيها توفي الحافظ أبو عمر بن عبد البر القرطبي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف وعمره خمس وتسعون سنة وخمسة أيام قيل: وليس لأهل المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين والنزاهة والتبحر في الفقه والعربية والأخبار. وله من التصانيف كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وكتاب الاستدراك لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والرأي والآثار. وكتاب الاستيعاب في اسماء الصحابة النجاب وكتاب جامع بيان العلم وفصله وما ينبغي في روايته وحمله وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم، وكتاب بهجة المحاسن في أنس المجالس وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم، وغير ذلك. وكان له بسطة كبيرة في علم النسب، مع ما تقدم من الفقه والأخبار والعربية. روزية المجاورة بمكة. روت الصحيح، وكانت ذات ضبط وفهم ونباهة، وما تزوجت قط، وقيل إنها بلغت المائة، وسمع منها خلق، وفيها توفي أبو الغنائم الزجاجي البغدادي. وفيها توفي الحافظ أبو عمر بن عبد البر القرطبي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف وعمره خمس وتسعون سنة وخمسة أيام قيل: وليس لأهل المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين والنزاهة والتبحر في الفقه والعربية والأخبار. وله من التصانيف كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وكتاب الاستدراك لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والرأي والآثار. وكتاب الاستيعاب في اسماء الصحابة النجاب

سنة اربع وستين واربع مائة

وكتاب جامع بيان العلم وفصله وما ينبغي في روايته وحمله وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم، وكتاب بهجة المحاسن في أنس المجالس وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم، وغير ذلك. وكان له بسطة كبيرة في علم النسب، مع ما تقدم من الفقه والأخبار والعربية. سنة اربع وستين واربع مائة فيها توفي أبو الحسن جابر بن نصر البغدادي العطار والمعتضد بالله عباد ابن القاضي محمد بن اسماعيل اللخمي صاحب إشبيلية، ولي بعد أبيه، وكان شهماً مقداماً صارماً، قتل جماعة وصاد آخرين، ودانت له الملوك. وفيها توفي ابن حيدة بكر بن محمد النيسابوري. سنة خمس وستين واربع مائة فيها قتل ألب أرسلا، وتسلطن ابنه ملكشاه، وفيها افترق الجيش، واقتلوا فقتل نحو الأربعين ألفاً، ثم التقوا مرة ثانية، وكثر القتل في العبيد، وانتصر الأتراك، وضعف المستنصر، وأنفق خزائنه في رضائهم، وغلب العبيد على السعيد، ثم جرت لهم وقعات، وعاد الغلاء المفرط والوباء، ونهب الجند دور العامة. قال ابن الأثير: اشتد البلاء والوباء حتى إن أهل البيت كانوا يمولون في ليلة، وحتى حكي أن امرأة أكلت رغيفاً بألف دينار، باعت عروضاً لها قيمة ألف دينار، واشترت بها حملة قمح، وحمله الحمال على ظهره، فنهبت الحملة، فنهبت المرأة مع الناس، فحصل لها رغيف واحد. وفيها توفي السلطان الكبير عضد الدولة أبو شجاع: ألب أرسلان ابن الملك داود بن ميكائيل بن سلجوق بفتح السين المهملة وضم الجيم بين الواو واللام، أول من قيل له السلطان على منابر بغداد. وكان فى آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد وفي نصر الإسلام، ثم عبر نهر جيحون ومعه نحو مائتي ألف فارس، وقيل إنه لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا في حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فإنه أول من عبرها من ملوك الترك، فأتى بمتولي قلعة يقال له يوسف الخو ارزمي، فأمر أن يشد

بأربعة أوتاد، فقال: يا مخنث، مثلي يقتل هكذا؟ فغضب السلطان، فأخذ القوس والنشاب فقال: خلوه، فرماه، فأخطأه وكان قل أن يخطىء فشد يوسف عليه، فنزل السلطان، فأخذ القوس والنشاب فقال: خلوه عن السرير، فعثر، فبرك عليه يوسف، وضربه بسكين معه في خاصرته، فشد مملوك على يوسف فقتله، ثم مات السلطان من ذلك، وكان أهل سمرقند قد خافوه، وابتهلوا إلى الله تعالى وفروا إليه ليكفيهم أمر ألب أرسلان، فكفاهم. وفيها توفي أبو الغنائم عبد الصمد بن علي الماسع، سمع جده أبا الفضل ابن المأمون الدارقطني وجماعة. قال أبو سعيد السمعاني: كان ثقة نبيلاً مهيباً تعلوه سكينة ووقار، رحمه الله. وفيها توفي الأستاذ الكبير العارف بالله الشهير السيد الجليل الإمام، جامع الفضائل والمحاسن زين الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري الصوفي شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومصنف الرسالة. قال أبو سعيد السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته، كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والشعر والأدب والكتابة وعلم التصوف، جمع بين الشريعة والحقيقة، أصله من ناحية اسنوا، من العرب الذين قدموا خراسان. توفي أبوه وهو صغير، فتعلم الأدب، وحضر مجلس الأستاذ ابي علي الدقاق وكان إمام وقته فلما سمع كلامه أعجبه، ووقع في قلبه، فسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق، وأقبل عليه، وتفرس فيه النجابة، فجذبه بهمته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، فقرأ عليه حتى أتقن علم الأصول، ثم تردد إلى الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني، وقعد ليسمع درسه أياماً، فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع، ولا بد من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمع منه في تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محله، فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس، بل يكفيك أن تطالع مصنفاتي. فقعد، وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وهو مع ذلك يحضر مجلس الأستاذ ابي علي الدقاق، وزوجه ابنته مع كثرة أقاربها، وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف، فصنف التفسير الكبير، وسقاه التيسير في علم التفسير وهو من أجود التفاسير، وصنف الرسالة في رجال الطريقة، وخرج إلى الحج في رفقة فيها الإمام أبو محمد الجويني وإمام الحرمين والإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي، وجماعة من المشاهير وسمع منهم الحديث في بغداد والحجاز، وكان له في الفروسية واستعمال السلاح الباع الطويل،

والبراعة البالغة. وأما مجلس الوعظ والتذكير فهو إمامها المنفرد بها، عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث. وذكره صاحب: كتاب دمية القصر، وبالغ في الثناء عليه حتى قال في مبالغته: لو قرع الصخر بسوط تخويفه لذاب، ولو ربط إبليس في مجلسه لناب. وذكره الخطيب في تاريخه وقال: كان حسن الموعظة، مليح الإشارة، يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي. وذكره الشيخ الإمام عبد الغافر في تاريخه فقال: عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري الإمام مطلقاً، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسر الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيد وقته، ونصر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة، ومقذم الطائفة ومقصود سالكي الطريقة، وبندار الحقيقة وعين السعادة، وقطب السيادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة. وذكر الخطيب سماعه من جماعة كثيرين من الأكابر: كأبي نعيم والحاكم والخفاف والسلمي وابن فورك وأشباههم. قلت: وقد ذكرت عن الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابي الشاش المعلم محاسن كثيرة وقضايا شهيرة، وحذفتها هناك. وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن لنفسه: لإمام عبد الغافر في تاريخه فقال: عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري الإمام مطلقاً، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسر الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيد وقته، ونصر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة، ومقذم الطائفة ومقصود سالكي الطريقة، وبندار الحقيقة وعين السعادة، وقطب السيادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة. وذكر الخطيب سماعه من جماعة كثيرين من الأكابر: كأبي نعيم والحاكم والخفاف والسلمي وابن فورك وأشباههم. قلت: وقد ذكرت عن الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابي الشاش المعلم محاسن كثيرة وقضايا شهيرة، وحذفتها هناك. وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن لنفسه: سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك قمنا زماناً والعيون قريرة ... وأصبحت يوماً والعيون سوافك ومما أنشده في رسالته المشهورة. ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق وأكثر شيء نبته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماماً كبيراً، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ثم واظب دروس إمام الحرمين أبي المعالي، حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف، ثم خرج إلى الحج، فوصل إلى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه، وأطبق علماء بغداد على أنه لم ير مثله. قلت: وسيأتي ذكر شيء من محاسنه وسيرته في ترجمته إن شاء الله تعالى.

سنة ست وستين واربع مائة

وفي السنة المذكورة توفي الخطيب أبو الحسين محمد بن عل، المنتسب إلى المهتدي بالله. كان سيد بني العباس في زمانه وشيخهم، نبيلاً صالحاً متقبلاً، يقال له راهب بني العباس لدينه وعبادته وسرده الصوم. عاش خمساً وتسعين سنة. وفيها توفي أبو القاسم الهذلي يوسف بن علي المتكلم المقرىء النحوي، صاحب كتاب الكامل في القراءات. كان كثير الترحال، حتى وصل إلى بلاد الترك في طلب القراءات المشهورة والشاذة. سنة ست وستين واربع مائة فيها كان الغرق الكثير ببغداد، فهلك خلق تحت الردم، وأقيمت الجمعة في الطيار على ظهر الما، وكان الموج كالجبإل، وغرق بالكلية بعض المحال، وبقيت كأن لم يكن، وقيل: بلغ ارتفاع الماء ثلاثين ذراعاً. وفيها توفي ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمي، صاحب أصفهان والري وهمدان وجميع العراق، وهو والد عضد الدولة ومؤيد الدولة وفخر الدولة، وأخو معز الدولة. وكان ملكاً جليل القدر عالي الهمة. وكان أبو الفضل بن العميدي وزيره، والصاحب بن عباد وزير ولده مؤيد الدولة قالوا: وكان مسعوداً ورزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقسم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وكان أوسط إخوته قبله عماد الدولة، وبعده معن الدولة. وفيها توفي أبو سهل الحفصي محمد بن أحمد المروزي، راوي الصحيح عن الكشميهني. كان رجلاً أميناً مباركاً، سمع منه نظام الملك فأكرمه، وأجزل صلته. وفيها توفي الحافظ أبو محمد الكتاني عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي الصوفي. والحافظ أبو بكر بن العطار محمد بن ابراهيم الأصفهاني والفقيه أبو المكارم محمد بن سلطان الغنوي الدمشقي الفرضي. ويعقوب بن أحمد الصيرفي النيسابوري. سنة سبع وستين واربع مائة فيها أخذ المستنصر الديار المصرية والإسكندرية ودمياط وبلاد الصعيد. وكان قد استضع، وأخذ منه جميع ذلك في سنة خمس، فعاد إليه جميع ما أخذ منه، ثم أخذ يعمر البلاد وأطلق الفلاحين من الكلف، ثم بعث الهدايا إلى صاحب مكة، فأعاد خطبة المستنصر

بعد أن كان قد خطب للقائم بأمر الله أعواماً. وفيها عمل السلطان ملك شاه الرصد، وأنفق عليه أموالاً عظيمة. وفيها توفي محدث الأندلس أبو عمرو بن الحذاء أحمد بن محمد القرطبي. والقائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله. ومدة خلافته أربع وأربعون سنة وأشهر، وكان ورعاً ديناً كثير الصدقة، وله علم وفضل، من خير الخلائق، لا سيما بعد عوده إلى الخلافة، وبويع حفيده المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد القائم. وفيها توفي جمال الإسلام أبو الحسن الدراوردي عبد الرحمن بن محمد بن مظفر البوشنجي، شيخ خراسان علماً وفضلاً وجلالة وسنداً. تفقه على القفال المروزي وأبي الطيب الصعلوكي وأبي حامد الاسفرائيني، وروى الكثير عن أبي محمد بن حمويه. وفيها توفي أبو الحسن الباخرزي بالموحدة والخاء المعجمة بعد الألف وبعده راء ثم زاي الرئيس الأديب علي بن الحسن، مؤلف كتاب دمية القصر. وكان رأساً في الكتابة والإنشاء والشعر، وأوحد عصره في فصله وذهنه، سابقاً إلى حيازة قصبات السبق في نظمه ونثره، وكان في شبابه مشتغلاً بالفقه على مذهب الإمام الشافعي، ملازماً درس أبي محمد الجوني، ثم شرع في فن الكتابة، وارتفعت به الأحوال، وانخفضت، ورأى من الدهر العجائب، وغلب أدبه على فقهه، وعمل الشعر والحديث، وصنف كتاب دمية القصر وعصرة أهل العصر وهو ذيل يتيمة الدهر التي للثعالبي، جمع فيها خلقاً كثيراً، وله ديوان شعر في مجلد كبير. ومن نظمه: يا فالق الصبح من لا غرته ... وجاعل الليل في أصداغه سكنا بصورة الوثن استعبدتني وبها ... قيدتني وقديماً هيجت لي شجنا لا عز إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حق على من يعبد الوثنا والأمير عز الدولة محمود بن نصر بن صالح الكلابي صاحب حلب، ملكها عشرة أعوام، وكان شيخاً فارساً جواداً ممدوحاً، يداري المصريين والعباسيين، أوسط داره بينهما، ولي بعده ابنه نصر، فقتله بعض الأتراك بعد سنة.

سنة ثمان وستين واربع مائة

سنة ثمان وستين واربع مائة فيها حوصرت دمشق، واشتد بها الغلاء، وعدمت الأقوات، ثم تسلم البلد بالأمان، وأقيمت الخطبة العباسية، وأبطل شعار الشيعة من الأذان وغيره. وفيها توفي مقرىء واسط الحسن بن قاسم الواسطي، كان أحد من اجتهد في القراءات، ورحل فيها إلى البلاد، وصنف فيها. وفيها توفي أبو الفتح عبد الجبار بن عبد الله الرازي الواعظ الجوهري. والإمام المفسر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، أستاذ عصره في النحو والتفسير، تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحد من برع في العلم، وصنف التفاسير الشهيرة المجمع على حسنها، والمشتغل بتدريسها، والمرزوق السعادة فيها، وهي البسيط والوسيط والوجيز، ومنه أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، وله كتب أخرى، بعضها فيما يتعلق بأسماء الله الحسنى وكتاب أسباب النزول وشرح كتاب المتنبي شرحاً مستوفي. قيل: وليس في شروحه - مع كثرتها - مثله، وذكر فيه أشياء غريبة، منها أنه تكلم في شرح هذا البيت: وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيء يجمع ثم قال: أعوج: فحل كريم كان لبني هلال بن عامر، وإنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ قال: ضللت في بادية وأنا راكبه فرأيت قطاً يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه - حتى توافينا الماء دفعة واحدة. وهذا غريب فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير قصده الماء، وهو كان يمض من لجامه أن يكفه عن شدة العدو. وقيل وإنما لقب أعوج لأنه كان صغيراً، فجاءتهم غارة، فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على المشي معهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له أعوج. والواحدي نسبة قيل إلى الواحد بن مهرة على ما حكاه العسكري. وفيها توفي محدث همدان وزاهداها: يوسف بن محمد الخطيب. وفيها توفي العبد الصالح أبو القاسم يوسف بن محمد الهمداني الصوفي الذي خرج له الخطيب خمسة أجزاء.

سنة تسع وستين واربع مائة

وفيها توفي البياضي الشاعر المشهور مسعود بن عبد العزيز الهاشمي، وهو من الشعراء المجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير وهو في غاية الرقة. ومن شعره: إن غاض دمعك والركاب تساق مع ما بقلبك فهو منك نفاق وإنما قيل له البياضي لأن أحد أجداده كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العباسيين لابسين السواد وهو لابس البياض - فقال الخليفة: من ذلك البياضي؟ فثبت هذا اللقب عليه. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة تسع وستين واربع مائة فيها كانت فتنة لما وعظ الإمام الكبيرالعلامة الشهير أبو نصر ابن الأستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري ببغداد في النظامية، وكان قد حصل له إقبال عظيم، وحضر مجلسه أكابر العلماء كالإمام أبي إسحاق الشيرازي وغيره من الجلة كما تقدم ذكره ونصر في وعظه مذهب الأشعرية، وحط على مذهب الحنبلية، فهاجت الفتنة، وثارت العصبية وقتل جماعة. وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد السلمي. وفيها توفي المحدث المتقن مسند الأندلس حاتم بن محمد التيمي القرطبي. وفيها توفي مؤرخ الأندلس ومسندها حبان - بن خلف بن حسين القرطبي. وفيها توفي الإمام النحوي أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، صاحب المصنفات المفيدة منها المقدمة المشهورة، وشرحها وشرح الجمل للإمام الكبير الزجاجي، وشرح كتاب الأصول لابن السراج، ومسودات في النحو، توفي قبل إتمامها. قيل: لو بيضت قاربت خمسة عشر مجلداً، وانتفع الناس بعلمه وتصانيفه. كان بمصر إمام عصره في النحو، وكانت وظيفته أن ديوان الإنشاء لا يخرج حتى يعرض عليه ويتأمله، فإن كان فيه خطأ من جهة النحو واللغة أصلحه كاتبه، وإلا استرضاه، فيسير إلى الجهة التي كتب إليها، وكان له على ذلك راتبة من الخزانة، يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زمانأ. ويحكى أنه كان يوماً يأكل طعاماً في سطح جامع مصر، وعنده ناس، فحضرهم قط، فرموا له لقمة، فأخذها في فيه، وغاب عنهم، ثم عاد إليهم، فرموا له شيئاً آخر، ففعل ذلك مراراً كثيرة، فعجبوا منه وتبعوه، فوجدوه يرقى إلى حائط في سطح الجامع، ثم ينزل إلى موضع خال فيه قط أعمى، وكلما يأخذه من الطعام يحمله إلى ذلك القط، فيأكله، فتعجبوا من ذلك، وكان سبباً لاستغنائه عن الخدمة، لما تفكر من كونه حيواناً أعمى لا يهتدي إلى

سنة سبعين وإربع مائة

يقوم بحاله، سخر الله له هذا القط يقوم بكفايته، ويسوق إليه الرزق المقسوم، فكيف يضيع من هو مثلي؟ ونزل عن راتبه، ولزم البيت متوكلاً على الله تعالى، فما، زال ملطوفاً به محمول الكلفة إلى أن مات، وقيل: إنه خرج ليلة من غرفة في سطح الجامع،. فزلت رجله في بعض الطاقات المجهولة للضوء، فسقط وأصبح ميتاً، وأصله على ما ذكر بعضهم من الديلم، وبابشاذ: كلمة عجمية يتضمن معناها الفرح والسرور. سنة سبعين وإربع مائة فيها كانت فتنة كبيرة ببغداد بسبب الاعتقاد، ووقع النهب في البلد، وأشتد الخطب، وركب العسكر، وقتلوا جماعة، حتى فتر الأمر. قلت: هكذا أطلق بعض المؤرخين، ولم تبن هذه الفتنة بين أهل السنة والرافضة أو بين الأشعرية والحنبلية. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو صالح أحمد بن عبد الملك النيسابوري، محدث خراسان في زمانه، روى عن أبي نعيم وعن أبي الحسين البغدادي وللحاكم، وخلق، ورحل إلى أصفهان وبغداد ودمشق، وله ألف حديث عن ألف شيخ. وفيها توفي أبو الحسين بن النقور بفتح النون وتشديد القاف محمد بن محمد البغدادي المحدث البزاز. وكان يأخذ على اشغال الطلبة لأنهم كانوا يفوتون عليه الكسب لعياله، أفتاه بجواز ذلك الشيخ إبو إسحاق. وتوفي وله إحدى وتسعون سنة. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم عبيد الله بن الجلاد. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني، صاحب التصانيف، كان ذا سعت ووقار، وله أصحاب وأتباع. قال الذهبي: وفيه تسنن مفرط أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده، وتوهموا فيه التجسيم. قال: وهو بريء منه فيما علمت، ولكن لو قصر من شأنه لكان أولى به. قلت وكلام الذهبي هذا يحتاج إلى إيضاح، فقوله: فيه تسنن مفرط أي: مبالغ في الأخذ بظواهر السنة والاستدلال بها، وجحد حملها على التأويل.

سنة احدى وسبعين واربع مائة

وقوله: أوقع بعض العلماء يعني: بعض العلماء المتكلمين المؤولين، وقوله توهموا فيه التجسيم: لأن الجري على اعتقاد الظواهر ومنع التأويل فيها يدل على ذلك، والكلام فيه يطول، وقد أوضحت ذلك في الأصول. وقوله: لو قصر من شأنه لكان أولى به: أي لو ترك المبالغة في التظاهر بذلك، والاستشهاد به، لكان أولى. وأما قوله: وهو بريء منه، فشهادة على أمر باطن، والله أعلم بحقيقته نهاية ما، ثم إنه ما يصرح بالتجسيم بلسانه، لكن يقول بالجهة، وأسلم ما في ذلك أنه يلزم منه القول بالتجسيم. وفي لزوم المذهب خلاف مشهور عند العلماء، هل هو مذهب أم لا؟ هذا إذا اقتصر على اعتقاد الجهة، فأما إذا اعتقد الحركة والنزول والجارحة فصريح في التجسيم. لا دوران حوله - نسأل الله الكريم الاستقامة على الدين القويم، بجاه نبيه عليه أفضل الصلوات والتسليم. وللمحدثين في اقتداء الإمامين الكبيرين الشهيرين الورعين الفقهين المحدثين جامعي المحاسن والمفاخر: الشيخ السيد الفاضل محيي الدين النواوي والحافظ أبو القاسم ابن عساكر - كفاية، والله ولي الهداية. سنة احدى وسبعين واربع مائة فيها دخل الشام تاج الدولة أخو السلطان ملك شاه من جهة أخيه، وأخذ حلب ودمشق، وكان عسكره التركمان. وكان أقسيس الخوارزمي قد جاءت المصريون لحرب، فاستنجد بتتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة عندما أخذ حلب، فسار إليه، وفر المصريون، فخرج أقسيس إلى خدمة تتش، فأظهر الغضب لكونه ما تلقاه إلى بعيد، وقتله في الحال، وأحسن سيرته في الشاميين. وفيها توفي أبو علي بن البناء الفقيه الزاهد الحسن بن أحمد البغدادي الحنبلي صاحب التآليف والتاريخ. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو علي الحسن بن علي التجيبي - رحل وطوف، وجمع وصنف. وفيها توفي الحافظ القدوة الزاهد نزيل الحرم الشريف، وجار بيت الله المنيف أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني. سئل محمد بن طاهر المقدسي عن أفضل من رأى فقال: سعد الزنجاني، وشيخ الإسلام الأنصاري. فقيل: أيهما كان أفضل؟ فقال: الأنصاري كان

متقناً، وأما الزنجاني فكان أعرف بالحديث منه. وقال غيره: كان الزنجاني إماماً كبيراً. وفيها توفي عبد العزيز بن علي أبو القاسم الأنماطي. روى عن المخلص، ومات في رجب. وفيها توفي الشيخ الإمام النحوي العلامة، صاحب التصانيف المفيدة: عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني الشافعي الأشعري. ومن تصانيفه المغني في شرح الإيضاح ثلاثون مجلداً. قلت وكلامه في علم المعاني والبيان يدل على جلالته وتحقيقه وديانته وتوفيقه. وقيل إنه مات في سنة أربع وسبعين. وفيها توفي شيخ عصره المتفق على جلالة قدره، الفقيه أبو عاصم الفضيل بن يحيى الهروي. وفيها توفي شيخ زمانه في همدان علماً وفضلاً وجلالة وزهداً، ويقيناً في العلوم وحظاً: أبو الفضل محمد بن عثمان بن زيرك القومساني. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن السلطان المعروف بابن حتوس بالحاء المهملة المفتوحة والياء المشددة المثناة من تحت والواو الساكنة وبعدها سين مهملة، وفي شعر المغاربة: ابن حبوس بالموحدة المخففة. كان أبو الفتيان المذكور شاعراً مشهوراً من الشعراء الشاميين المحسنين، وفحولهم المجيدين، له ديوان شعر كبير، لقي جماعة من الملوك والآكاب، ومدحهم، وأخذ جوائزهم. ومن نظمه في مدح أبي المظفر نصر بن محمود بن شبل الدولة قوله في قصيدة. ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر يقينك والتقوى، وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى، وحزمك والنصر ومما وجد في ديوان ابن حيوس هذه الأربعة الأبيات، وبعضهم ينسبها إلى أبي بكر

سنة اثنتين وسبعين واربع مائة

الصائغ والله اعلم بحقيقة ذلك: أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استؤمنوا اخافوا سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان وهل جردت أسياف برق سمائكم ... فكان لها إلا جفوني أجفان وذكروا أنه وصل أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الشاعر إلى حلب وبها يومئذ أبو الفتيان المذكور - فكتب إليه ابن الخياط. لم يبق عندي ما يباع بدرهم ... وكفاك مني منظري عن مخبري إلا بقية ماء وجه منتهى ... عن أن تباع وأين أين المشتري؟ قيل: ولو قال: وأنت نعم المشتري لكان أحسن. سنة اثنتين وسبعين واربع مائة فيها توفي الفقيه الزاهد القدوة أبو محمد هياج بن عبيد. قال هبة الله الشيرازي: ما رأت عيناي مثله في الزهد والورع. وقال ابن طاهر: بلغ من زهده أنه يواصل ثلاثاً، لكن يفطر على ماء زمزم، فإذا كان اليوم الثالث واتاه بشيء أكله. وكان قد نيف على الثمانين، وكان يعتمر في كل يوم ثلاث عمر على رجيله، ويدرس عدة دروس لأصحابه، وكان يزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل سنة من مكة، فيمشي حافياً ذاهباً وراجعاً. روى عن أبي ذر الهروي، وطائفة. وفيها توفي أبو منصور العكبري محمد بن محمد بن أحمد الأخباري النديم عن تسعين سنة. صدوق، روى عن عبد الله الجعفي وهلال الحفار وطائفة. توفي في رمضان. وفيها توفي أبو علي الحسن بن عبد الرحمن الشافعي المالكي. وعبد العزيز بن محمد الفارسي الهروي. سنة ثلاث وسبعين واربع مائة فيها توفي أبو القاسم الفضل بن عبد الله الواعظ النيسابوري. وفيها توفي السلطان الغنوي الدمشقي شاعر أهل الشام. له ديوان كبير.

وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي بضم الصاد المهملة وفتح اللام وسكون المثناة من تحت والحاء المهملة مكسورة القائم باليمن، كان أبوه قاضياً باليمن، سني المذهب، وكان أهله وجماعته يطيعونه، وكان الداعي عامر بن عبد الله الرواحي بالراء والحاء المهملة يلاطفه ويركب، أو قال: يركب إليه لرئاسته وسؤدده وصلاحة علمه، فلم يزل عامر المذكور حتى استمال قلب ولده المذكور وهو يومئذ دون البلوغ، لاحت فيه مخائل النجابة. وقيل كانت عنده حلية علي الصليحي في كتاب الصور، وهو من الذخائر القديمة، فأوفقه منه على تثقل حاله وشرف ماله، وأطلعه على ذلك سراً من أبيه وأهله. ثم مات عامر عن قرب، وأوصى له بكتبه وعلومه، ورسخ في الذهن من كلامه ما رسخ، فعكف على الدرس وكان ذكياً فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من علومه التي بلغ بها - وبالحد الصعيد غاية البعيد. قلت هذا على اعتقاد من هو طريد عن باب التوفيق والاعتقاد السديد، فلم يزل مشتغلاً بتلك العفوم الضلالية الأوهامية، حتى صار فقيهاً في مذهب الباطنية الإسماعيلة، منتصراً في علم التأويل المخالف بمفهوم التنزيل، ثم إنه صار يحج بالناس دليلاً على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة، وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، ويكون لك شأن؟ فيكره ذلك، وينكره على قائله، مع كونه أمراً قد شاع، وكثر في أفواه الناس - الخاصة والعامة. ولما كان سنة تسع وعشرين رأربع مائة ارتقى رأس جبل، هو أعلى ذروة من جبال اليمن، وكان معه ستون رجلاً، قد خالفهم بمكة في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام بالدعوة، وما منهم إلا من هو من قوم وعشيرة في منعة وعدد كبير، ولم يكن برأس الجبل المذكور بناء بل كان قلة عالية منيعة، فلما ملكها لم ينتصف نهار ذلك اليوم إلا وقد أحاط بها عشرون ألف ضارب بسيف، وحصروه وشتموه، وسفهوا رأيه، وقالوا له: إن نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك بالجوع، فقال لهم: لا أفعل هذا إلا خوفاً علينا وعليكم أن يملكه غيرنا فإن تركتموني أحرسها وإلا نزلت إليكم، فانصرفوا عنه، ولم يمض عليه أشهر حتى بنى في رأس ذلك الجبل، وحصنه، وأتقنه، واستفحل أمر الصليحي شيئاً فشيئاً. وكان يدعو للمستنصر العبيدي صاحب مصر في الخفية، ويخاف من نجاح صاحب تهامة، ويلاطفه، ويستكبر لأمره، وفي الباطن يعمل الحيلة في قتله، ولم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه، وكان ذلك في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة

بالكدراء، وفي سنة تلاث وخمسين كتب الصليحي إلى المستنصر يستأذنه في إظهار الدعوة، فأذن له، فطوى البلاد طياً، وفتح الحصون والبلاد، ولم تخرج سنة خمس وخمسين إلا وقد ملك اليمن كله: سهله ووعره، وبره وبحره. وقيل: وهذا أمر لم يعهد مثله في الجاهلية والإسلام، حتى قال يوماً وهو يخطب الناس في جامع الجند: وفي مثل هذا اليوم يخطب على منبر عدن ولم يكن ملكها بعد، فقال بعص من حضر: سبوح قدوس، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. قلت قوله سبوح قدوس: إن كان تعظيماً له وتنزيها فقد كفر قائله، إذ أشركه مع الله بما يختص به تعالى، وإن كان تهكماً به وأنه ادعى من القدرة صفة من صفات الله تعالى التي لا يتصف بها غيره، فمثل هذا لا ينبغي أن يقال، والظاهر - والله أعلم - أن هذا مقال بعض الزنادقة، أخرجه مخرج التعظيم له. قال: فلم يدر مثل ذلك اليوم حتى خطب الصليحي على منبر عدن، فقام ذلك الإنسان، وتعالى في المقام، وأخذ البيعة، ودخل في المذهب. وفي سنة خمس وخمسين استقر حاله في صنعاء، وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم، وأسكنهم معه، وولى في الحصون غيرهم، واختط بمدينة صنعاء عدة حصون، وحلف أن لا يولي تهامه، إلأ لمن وزن له مائة ألف دينار، فوزنت له ذلك زوجته أسماء عن أخيها أسعد بن شهاب، فولاه وقال لها: يا مولاتنا؛ أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فتبسم وعلم أنه من خزانته، فقبضه وقال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا، ونحفظ أخانا. ولما كان في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، عزم الصليحي على الحج، فأخذ الملوك الذين كان يخاف منهم أن يثوروا عليه، واستصحب زوجته أسماء بنت شهاب، واستخلف مكانه ولده منها المكرم أحمد، وتوجه في ألفي فارس، فيهم من آل الصليحي مائة وتسعون - شخصاً، حتى إذا كان بالمنج، نزل في ظاهرها بالعسكر بضيعة يقال لها أم الدهيم وبيرام معبد، ونزلت عساكره والملوك الذين معه من حوله، فلم يشعر الناس حتى قتل الصليحي، فانزعر الناس، وكشفوا عن الخبر، فإذا الذي قتله سعيد الأحول ابن الذي قتلت الجارية أباه نجاحاً بالسم، أرسل إليه أخوه يعلمه أن الصليحي متوجه إلى مكة، فتحضر حتى تقطع عليه الطريق، فحضر، ثم خرج هو وأخوه، ومعهما سبعون رجلاً بلا مركوب ولا

سلاح، بل مع كل واحد جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادة الطريق، وسلكوا الساحل، وكان بينهم وبين المخيم مسيرة ثلاثة ايام، وكان الصليحي قد سمع بخروجهم، فسير خمسة آلاف حربة من الحبشة الذين كانوا في ركابه لقتالهم، واختلفوا في الطريق، فوصل سعيد الأحوال المذكور ومن معه إلى طريق المخيم، وقد أخذ منهم التعب والجفاء وقلة المادة، فظن الناس أنهم من جملة عبيد العسكر، ولم يشعر بهم إلا عبد الله أخو الصليحي فقال: يا مولانا؛ اركب، فهذا والله الأحول سعيد بن نجاح. وركب عبد الله فقال الصليحي لأخيه: إني لا أموت إلا بالدهيم وبيرام معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه اله وسلم لما هاجر إلى المدينة، فقال له رجل من أصحابه: قاتل عن نفسك، فهذه والله الدهيم، وهذه بيرام معبد. فلما سمع الصليحي ذلك لحقه اليأس من الحياة وقال: فلم يبرح من مكانه حتى قطع رأسه بسيفه، وقتل أخوه معه، وسائر الصليحيين. ثم إن سعيداً أرسل إلى الخمسة آلاف التي أرسلها الصليحي أن الصليحي قد قتل، وأخذت ثأر أبي، فقدموا عليه، وأطاعوه، واستعان بهم على قتال عسكر الصليحيين، فاستظهر عليهم قتلاً وأسراً ونهباً، ثم حمل رأس الصليحي على عود المظلمة، وقرأ القارىء: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء "، - آل عمران 26 - ورجع إلى زبيد، وقد حاز الغنائم. قلت هكذا نقل بعض المؤرخين، وقد ذكرته عن بعضهم في كتاب المرهم أن داعي الاسماعيلية دخل اليمن ودعا إلى مذهبهم، ونزل في الجبل المذكور، ولم يزل يدعو سراً حتى كثرت أتباعهم، وظهرت دعوتهم، وملكوا جبال اليمن وتهامتها. ولكن ذلك مخالف بما قدمناه عن بعض في هذا التاريخ، من وجوه. منها: أنهم ذكروا أن داعيهم الذي أظهر مذهبهم في اليمن وملكهم اسمه: علي بن فضل، من ولد خنفر بفتح الخاء المعجمة وسكون النون وفتح الفاء في آخره راء بن سبأ. والذي تقدم في هذا التاريخ اسمه علي بن محمد الصليحي. ومنها أن دعوتهم ظهرت في سنة سبعين ومائتين، والمذكور فيما تقدم من هذا التاريخ أن دعوتهم ظهرت في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. ومنها أنهم ذكروا أن علي بن الفضل المذكور كان داعياً للاسماعيلية، والصليحي المذكور في هذا التاريخ كان داعياً للرافضة الإمامية، ولكن يمكن الجمع بينهما على هذا الوجه، وهو أنهم في ظاهر الدعوة يقرون إلى مذهب الإمامية، وفي الباطن متدينون لمذهب الباطنية. ولهذا قال الإمام حجة الإسلام في وصف الباطنية: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفرالمحض.

سنة اربع رسبعين واريع مائة

ومنها أن الداعي علي بن الفضل الذي ملك اليمن كان داعياً لإمام لهم، كان مستتراً في بلاد الشام، والصليحي المذكور كان داعياً للمستنصر العبيدي صاحب مصر. ومنها أن على بن فضل لما استولى على اليمن تظاهر بالزندقة، وخلع الإسلام، وأمر جواريه أن يضربن بالدفوف على المنبر، وتغنين بشعر قاله، أوله: خذي الدف يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم أطربي تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب وقد حط عنا فروض الصلاة ... وحط الصيام ولم يتعب قلت: وقوله نبي بني يعرب بالنبي نفسه، وأنه جاء بشريعة مسقطة للفروض التي أوجبتها شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يزعم المارق - لعنه الله - أن ما نسب إليه كان صحيحاً، ويحتمل أنهما قضيتان في زمانين والله أعلم. سنة اربع رسبعين واريع مائة فيها فتح تاج الدولة أخو السلطان ملكشاه طرسو. وفيها توفي أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف المالكي الأندلسي، كان من علماء الأندلس وحفاظها، سكن شرق الأندلس، ررحل إلى الشرق، فأقام بمكة مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام، وكان يمضي معه إلى السراة مع أهل أبي ذز، وحج أربعة أعوام، ثم رحل إلى بغداد، فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويقرأ الحديث، ولقي فيها جماعة من العلماء، منهم: الإمام أبو الطيب الطبري، تفقه عليه، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأقام بالموصل مع أبي جعفر الشيباني يدرس عليه الفقه، كذا ذكر ابن خلكان. وقال الذهبي: أخذ عنه علم الكلام، وسمع الكثير، وبرع في الحديث والفقه والأصول والنظر، ورد إلى وطنه بعد ثلاثة عشر سنة، وكان ممن روى عنه الحافظ أبو بكر الخطيب ويونس بن عبد الله بن مغيث ومكي بن أبي طالب وابن غيلان، وغيرهم. وقال أبو علي بن سكرة: ما رأيت أحداً على سمته وهيبته وتوفير مجلسه، وصنف كتباً كثيرة منها كتاب المنتقى وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح وغير ذلك، وكان أحد الأئمة الأعلام

سنة خمس وسبعين واربع مائة

المقتدي بهم الأنام، ووقع بينه وبين أبي محمد بن حزم المعروف بالظاهري مجالس ومناظرات، ولي القضاء بالأندلس، وقد قيل إنه ولي قضاء حلب أيضاً. وأخذ عنه أبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب، وكان يقول: سمعت أبا ذرعبد بن أحمد الهروي يقول: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة. وروى عنه الخطيب البغدادي قال: أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه: اذا كنت أعلم عماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة والباجي نسبة إلى باجة وهي مدينة بإفريقية، وهناك باجة أخرى وهي قرية من قرى أصبهان. وفيها توفي أبو بكر محمد بن المزكي النيسابوري المذكور المحدث. كتب عنه خمسمائة نفس، وأكثر عن أبيه وأبي عبد الرحمن السلمي والحاكم. وروى عنه الخطيب مع تقدمه. توفي في رجب. سنة خمس وسبعين واربع مائة فيها قدم الشريف أبو القاسم البكري الواعظ من عند نظام الملك إلى بغداد، فوعظ بالنظامية، ونبذا الحنابلة بالتجسيم، فسبوه وتعرضوا له، وكبس دور بني الفراء، وأخذ كتاب القاضي أبي يعلى في إبطال التأويل، وكان يقرأ بين يديه وهو على المنبر، فيشفع به ويشيع شأنه. وفيها توفى محدث أصبهان ومسندها عبد الوهاب ابن الحافظ أبي عبد الله العبدي الأصفهاني. وفيها أوفى حدودها توفي أبو الفضل المطهر بن عبد الواحد الأصفهاني. سنة. ست وسبعين واربع مائه فيها عزم أهل حران وقاضيهم على تسليم حران إلى أمير التركمان لكونه سنياً،

وغضبوا على صاحب الموصل لكونه رافضياً، ولكونه يساعد المصريين على محاصرة دمشق فأسرع إلى حران، ورماها بالمنجنيق، وأخذها وذبح القاضي وولديه. وفيها توفي الشيخ الإمام المتفق على جلالته وبراعته في الفقه والأصول وزهادته وورعه وعبادته وصلاحه وجميل صفاته السيد الجليل أبو إسحاق، المشهور فضله في الآفاق جمال الدين ابراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزأبادي، وعمره ثلاث وثمانون سنة دخل شيراز، وقرأ بها الفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعلى عبد الوهاب بن رامين، ثم دخل البصرة، وقرأ فيها على بعض علمائها، ودخل بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، تفقه على جماعة من الأعيان، وصحب القاضي أبا الطيب الطبري، ولازمه كثيراً، وانتفع به، وظهرفضله، وتميز على أصحابه، وناب عنه في مجلسه، ورتبه مفيداً في حلقته، وصنف التصانيف المباركة المفيدة المشهورة السعيدة، منها التنبيه والمهذب في الفقه واللمع وشرحه في أصول الفقه والنكت في الخلاف والمعونة في الجدل، وله شعر حسن، ومنه قوله: سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل تمسك إن ظفرت ودحر ... فإن الحر في الدنيا قليل وقوله أيضاً فيما نقله بعضهم: أحب الكأس من غير المدام ... وأهوى للحسان بلا حرام وما حبي لفاحشة ولكن ... رأيت الحب أخلاق الكرام وقوله أيضاً فيما عزي إليه: حكيم يرى أن النجوم حقيقة، ويذهب في أحكامها كل مذهب يخبر عن أفلاكها وبروجها، وما عنده علم بما في المغيب. وسيأتي ذكر شيء مما قيل فيه وفي كتبه. وذكر الحافظ ابن عساكر أنه كان أنظر أهل زمانه وأفصحهم وأورعهم وأكثرهم تواضعاً وبشرى. انتهت إليه رئاسة المذهب، ورحل إليه الفقهاء من الأقطار، وتخرج به أئمة كبار، ولم يحج، ولا وجب عليه حج، لأنه فقيراً متعففاً قانعاً باليسير. سمع الحديث من أبي علي ابن شاذان وأبي بكر البرقاني وغيرهما، وتفقه على جماعة في شيراز والبصرة وبغداد. قلت وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق المذكور في طبقات الفقهاء قريب عشرة من شيوخه، منهم من انتسب إليه، وأشهرهم في الانتساب إليه والاشتغال عليه والملازمة له والأخذ عنه: الإمام القاضي أيو الطيب الطبري. قال الحافظ ابن عساكر: وكان يظن ممن لا يفهم أنه مخالف للأشعري - لقوله في كتابه في أصول الفقه: وقالت الأشعرية الأمر، لا

صيغة له قال: وليس ذلك لأنه يعتقد اعتقاده، وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة التي هي مما تفرد بها أبو الحسن. قال: وقد ذكرنا فتواه فيمن خالف الأشعرية واعتقد بتبديعهم، وذلك أوفى دليل على أنه منهم. انتهى كلام الحافظ ابن عساكر. قلت: والفتوى المذكورة عن الشيخ أبي إسحاق في هذه الألفاظ التي نقلها الإمام ابن عساكر الجواب، وبالله التوفيق. إن الأشعرية هم أعيان أهل السنة ونصار الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعين القدرية والروافض وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك الى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع كل أحد. وكتب ابراهيم بن علي الفيروزأبادي، وبعده جوابي مثله، وكتب محمد بن أحمد الشاشي، وذكر الحافظ ابن عساكر أيضاً أجوبة أخرى لقاضي القضاة الدامغاني وأصحاب الحديث، ولا نطول بذكر ذلك. وقال الحافظ محب الدين بن النخار: فاق أهل زمانه في العلم والزهد، وانتشر فضله في القرب والبعد، أو قال: في البلاد. وأكثر علماء الأمصار من تلامذته. وروى عنه الإمام الحافظ السمعاني بسنده في تذييله على تاريخ بغداد أنه قال: كنت نائما فرأيت رسول الله صلى عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقلت: يا رسول الله، بلغني عنك أحاديث كثيرة، وأريد أن أسمع منك حديثاً بغير واسطة وروي بعضهم، أتشرف به في الدنيا، وأجعله ذخراً في الآخرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا شيخ، من أراد السلامة فليطلبها في سلامة غيره منه، وكان يفرح ويقول: سماني سول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيخاً. قال الإمام السمعاني: وسمعت جماعة يقولون: لما قدم أبو إسحاق رسولاً إلى نيسابور يعني رسول الخليفة أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله تلقاه الناس، وحمل الإمام أبو المعالي الخويني غاشية، ومشى بين يديه يعني بذلك إمام الحرمين. قلت: وسيأتي في ترجمة إمام الحرمين أن الشيخ أبا إسحاق عظمه أيضا فقال: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان. مشيراً إلى امام الحرمين. رواه السمعاني. وذكر بعض أهل الطبقات كلاماً معناه أنه حكي أن الشيخ أبا إسحاق تناظر هو وإمام الحرمين، فغلبه أبو إسحاق بقوة معرفته بطريق الجدل. قلت وقد سمعت من بعض المشتغلين بالعلم نحواً من هذا، وأن إمام الحرمين قال

له: والله اعلم ما غلبتني بفقهك، ولكن بصلاحك. هكذا حكي والله أعلم. وذكروا أنه لما شافهه أمير المؤمنين بالرسالة قال: وما يدريني أنك أمير المؤمنين ولم أرك قبل هذا قط؟! فتبسم الخليفة من ذلك، وأعجبه، فأحضر من عرفه به. وذكروا أيضاً أنه كان في طريق، فمر كلب، فزجره بعض أصحابه، فقال له أبو إسحاق: أما علمت أن الطريق مشتركة بيننا وبينه؟ وله في الورع حكايات شهيرة. ومن تواضعه أنه كان - مع جلالته وعلو منزلته - يحضر مجلس بعض تلامذة إمام الحرمين، أعني مجلس وعظه، وهو الشيخ الإمام البارع جامع المحاسن والفضائل بلا منازع أبو نصر عبد الرحيم ابن الإمام أبي القاسم القشيري كما سيأتي. وذكر الحافظ ابن النجار أنه لما ورد بلاد العجم، كان يخرج إليه أهلها بنسائهم، فيمسحون أردانهم يعني به أو قال: أردانهم به، ويأخذون تراب نعله، فيستشفون به. وذكر علماء التاريخ أنه لما فرغ نظام الملك من بناء المدرسة النظامية التي في بغداد سنة تسع وخمسين وأربع مائة قرر لتدريسها الشيخ أبا إسحاق. واجتمع الناس من سائر أعيان البلد وجوه الناس على اختلاف طبقاتهم، فلم يحضر الشيخ أبو إسحاق، وسبب ذلك أنه لقيه صبي قيل حمال من السوق فقال له: كيف تدرس في مكان مغصوب. فرجع واختفى، فلما أيسوا من حضوره قالوا: ما ينبغي أن ينصرف هذا الجمع إلا بعد تدريس، فدرس الإمام أبو نصر بن الصباغ - مصنف الشامل وقيل: لم يكن حاضراً، بل نفذ إليه عند ذلك، فحضر ودرس. فلما وصل الخبر إلى نظام الملك أقام القيامة على العميد أبي سعيد، فلم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى عرس بها. وذكر بعضهم أن الشيخ أبا إسحاق ظهر في مسجده بعد اختفائه، ولحق أصحابه من ذلك ما بان عليهم، وفتروا عن حضور درسه، وراسلوه أنه أن لم يدرس بها مضوا إلى ابن الصباغ، وتركوه، فأجاب إلى التدريس بها، وعزل ابن الصباغ، وكان مدة تدريسه بها عشرين يوماً. قلت لماذا كان الحامل للشيخ أبي إسحاق على التدريس بها قول طلبته المذكور، وفتورهم عن حضور درسه، فذلك يحمل على حرصه على نشر علمه، ونفع المسلمين به، ويكون ذلك من النصيحة للدين والاهتمام بالقيام لإظهار ما شرع من الأحكام، وتعليمها للراغبين فيها من الأنام، وكراهية أن يكون علمه مهجوراً، وتعطيل النفع بما سعى في تحصيله دهوراً.

قلت ومما يناسب ذلك ما جرى لبعض علماء اليمن، وهو الفقيه الإمام الكبير البارع الولي الشهير، قدوة الزمن، ومفتي اليمن: علي بن قاسم، وذلك أن سلطان اليمن لما ثبت عنده أنه أفضل أهل زمانه في نواحي مكانه، ندبه إلى التدريس في مدرسته، فامتنع، فراجعه في ذلك، فلم يوافق، فقالوا له: إما تدرس في مدرستي، وإما تخرج من بلادي، فقال: أنا أخرج، فخرج إلى بعض الأمكنة التي لا يجتمع فيها من الطلبة مثل ما يجتمع في المدن، فأخذ يدرس فيها، فلم يحضر عنده إلا نفر يسير، خلاف ما كانه يحضره عنده من الجمع الكثير، فأنكر في ذلك، وقال: أرجع أدرس في المكان الذي كنت فيه - والبلاد بلاد الرحمن، ما هي بلاد السلطان فرجع، فأعلم السلطان - برجوعه، فقال: لعله قبل التدريس، فاستحضره، وأمره بالذهاب إلى المدرسة، فامتنع من ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به، فلما بلغ ببعض الطريق، أمر برده، فلما رجع إليه قال له: المصلحة أن تدرس، فأبى ورأى المصلحة بخلاف ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به إلى أن بلغ ما شاء الله من الطريق، ثم استدعى برده فلما رجع تكلم عليه، وحذره من المخالفة، وبالغ في ذلك، فقال: لا سبيل إلى ذلك، فقال: اسجنوه، فسجنوه بعنف، وربما أخذوه بأطوار، فقال: يا قميص، اخنقه. أو كما قال من الكلام مشيراً بذلك إلى قميص السلطان، فخنق السلطان قميصه، ونزل عليه من البلاء ما لا يطيقه، فصاح: أطلقوه، أطلقوه. فما أطلقوه، فأطلقه السلطان لما أصابه من البلاء والامتحان. ومما وقع للفقيه المذكور مع السلطان أنه حضر شهر رمضان في وفد السلطان، فقال: انظروا أفضل الناس يصلي بنا في هذا الشهر. فقالوا: ما هنا أفضل من الفقيه علي بن قاسم، فاستدعى به السلطان، والتمس منه أن يؤمهم، فلما كان أول ليلة من رمضان، تقذم على أنه يصلي بهم، فطار شرار من الشماع التي في حضرة السلطان، فوقعت في ثياب الفقيه المذكور، فنفض ثيابه، وهج خارجاً من ذلك المكان وهو يقول: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "، - هود 113 -. وكان من حدة ذكائه وقوة براعته في الفقه أنه التزم ان جميع ما يسأل عنه لا يجيب عنه إلا من كتاب التنبيه. رجعنا إلى ذكر صاحب التنبيه: أخبرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو إسحاق، والقاضي ابو عبد الله الدامغاني. اما أبو إسحاق، فكان فقيراً، ولكن لو اراده لحمل على الأعناق. وأما الدامغاني، فلو أراد الحج على السندس والاستبرق لأمكنه. وقال الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الملك الهمداني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي - سنة أربعين وأربعمائة - في عزاء إنسان سماه، فتكلم الشيخ أبو إسحاق، فلما خرجنا، قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رأه الشافعي لتجمل به، أو قال: لأعجب به. وقال الإمام أبو بكر الشاشي مصنف المستظهري: وشيخنا أبو إسحاق حجة على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: الشيخ أبو إسحاق أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء. وقال الإمام السمعاني: كان أبو إسحاق يوسوس في الطهارة. سمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: كان الشيخ أبو إسحاق يتوضأ في الشط، فغسلرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو

إسحاق، والقاضي ابو عبد الله الدامغاني. اما أبو إسحاق، فكان فقيراً، ولكن لو اراده لحمل على الأعناق. وأما الدامغاني، فلو أراد الحج على السندس والاستبرق لأمكنه. وقال الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الملك الهمداني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي - سنة أربعين وأربعمائة - في عزاء إنسان سماه، فتكلم الشيخ أبو إسحاق، فلما خرجنا، قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رأه الشافعي لتجمل به، أو قال: لأعجب به. وقال الإمام أبو بكر الشاشي مصنف المستظهري: وشيخنا أبو إسحاق حجة على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: الشيخ أبو إسحاق أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء. وقال الإمام السمعاني: كان أبو إسحاق يوسوس في الطهارة. سمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: كان الشيخ أبو إسحاق يتوضأ في الشط، فغسل وجهه مراراً، فقال له رجل: يا شيخ، أما تستحي تغسل وجهك كذا وكذا مرة؟! فقال أبو إسحاق: لو حصلت لي الثلاثة ما زدت عليها. يعني: لو حصل لي العلم أو الظن المولد بعموم الثلاث للوجه ما زدت عليها. انتهى. قلت: جميع هذا المذكور في الشيخ أبي إسحاق مما ذكره علماء الطبقات والتواريخ، ومما رويناه عن أهل العلم والخبر. ومن ذلك أيضاً ما ذكر بعضهم أنه رأى الشيخ الإمام أبا إسحاق المذكور بعد وفاته وعليه ثياب بيض، وعلى رأسه تاج - فقيل له: وما هذا البياض؟ فقال: شرف الطاعة. قال: والتاج؟ قال: عز العلم. وفيه قال عاصم بن الحسن: تراه من الذكاء نحيف جسم ... عليه من توقده دليل إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسسم النحيل قال السلار العقيلي: كفاني إذا عز الحوادث صارم ... ينيلني المأمول في الإثر والأثر يقد ويفري في اللقاء كأنه ... لسان أبي إسحاق في مجلس النظر ومما قيل فيه: وكان قد استقر إجماع أهل بغداد بعد موت الخليفة على أن يعقد الخلافة لمن اختاره الشيخ أبو إسحاق، فاختار المقتدي بأمر الله فيما حكاه الإمام طاهر ابن الإمام العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني فيما يغلب على ظنه.

ولقد رضيت عن الزمان وإن رمى ... قومي يخطب ضعضع الأركانا لما رآني طلبة الخبر الذي ... أحيى الإله بعلمه الأديانا أزكى الورى ديناً واكرم شيمة ... وأمد في طلق العلوم عنانا وأقل في الدنيا القصيرة رغبة ... ولطالما قد أنصف الرهبانا لله ابراهيم أي محقق ... صلب إذا رب البصيرة لانا فتخيله من زهده ومخافة ... لله قد نظر المعاد عيانا ومما قيل فيه وفي كتاب التنبيه ما رواه الحافظ ابن عساكر: سقياً لمن صنف التنبيه مختصراً ... ألفاظه العز واستقصى معانيه إن الإمام أبا إسحاق صنفه ... للة والدين لا للكبر والتنبيه رأى علوماً عن الأفهام شاردة ... فجازها ابن علي كلها فيه لا زلت للشرء ابراهيم منتصراً ... تذب عنه أعاديه وتحميه قلت: وفيه وفي كتاب المهذب، وما اشتمل عليه من الفقه والمسائل النفيسات، نظمت قصيدة من جملتها هذه الأبيات، بعدما طعن فيه بعض المتعصبين، وزعم أنه ليس فيه شيء من المسائل الفقهيات، وحلف على ذلك بعض إيمان الغليظات، فأرسل إلي من بعض البلاد البعيدة في السؤال عن ذلك، وعن اليمين المذكورة، فأجبت بجواب مشتمل علي التعنيف والإنكار الشديد على الطاعن في محاسنه المشهورة، وختمت الجواب بهذه الأبيات التي هي إلى فضائله مشيرات: إذا الغز عن غر المسائل سائل ... وقال: افتني أين استقرت فجاوب وقل غرها عن در فقه تبسمت ... ملاح الحلي حلت كتاب المذهب عذارى المعاني قد زهت في خدورها ... على غير كفو لازمات التحجب ذراري أبي إسحاق أكرم بسيد ... إمام نجيب للبعيد مقرب بمدح علاه لا أقوم وإنما ... أذب مقال الطاعن عن المتعصب قبولاً واقبالاً حظته سعادة ... وأضحى لطلاب كياقوت مطلب تصانيفه كم من إمام وطالب ... بها انتفعا في شرق أرض ومغرب وما ذاك إلاعن عطاء عناية ... وتخصيص فضل لاينال بمكسب ولما مات الشيخ أبو إسحاق رثاه أبو القاسم بن نافيا بالنون وبعد الالف فاء ثم المثناة من تحت هكذا هو في الاصل المنقول منه حيث قال: أجرى المدامع بالدم المهراق ... خصب أقام قيامه الآباق

ما لليالي لا تؤلف شملها ... بعد ابن نجدتها أبي إسحاق إن قيل مات فلم يمت من ذكره ... حي على مر الليالي باق ثم درس بعده في النظامية الإمام أبو سعيد المتولي مدة، ثم صرف بالإمام ابن الصباغ، ثم صرف ابن الصباغ أيضاً بأبي سعيد المذكور على ما نقل بعضهم - وذكر بعضهم أنه لما توفي الشيخ أبو إسحاق، جلس أصحابه للعزاء بالمدرسة النظامية، فلما انقضى العزاء رتب مؤيد الملك ابن نظام الملك علي سعيد المتولي، ولما بلغ الخبر نظام الملك كتب بإنكار ذلك، وقال: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله. وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ. قلت وممن درس في النظامية من الأئمة الكبار أبو حامد الغزالي، وأبو بكر الشاشي صاحب المستظهري، وأبو النجيب السهروردي، وجماعة كبار مترتبون على تعاقب الأعصار، وقد يتعجب من عدم ذكر التدريس بها إمام الحرمين، وليس بعجب، فإن إمام الحرمين كانت إقامته بنيسابور، وكان مدرساً هنالك بالمدرسة النظامية. قلت وهذا ما اقتصرت عليه من ذكر مناقب الشيخ أبي إسحاق، وله فضائل جليلة، ومحاسن جميلة، وسيرة حميدة طويلة. ثم أدبه وزهادته، وورعه وعبادته، وفضائله وبراعته، وتواضعه وقناعته، وصلاحه وكرامته وغير ذلك من مشهور المناقب ومشكور المواهب التي لا يحصرها عد حاسب. ومن ورعه ما حكوا أنه كان إذا حضر وقت الصلاة خرج من المدرسة النظامية، وصلى في بعض المساجد. وكان يقول رحمة الله عليه: بلغني أنه أكثر آلاتها غصب واصلة على مر الدهور بالنفحات الالهية. وفي السنة المذكورة توفي طاهر بن الحسين القواس الحنبلي، وكان إماماً في الفقه والورع رحمه الله. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن العطار الهروي. وفيها توفي الواعظ البكري الأشعري أبو بكر المغربي. وفد على نظام الملك بخراسان، فكتب له سجلاً أن يجلس بجوامع بغداد، فقدم، وجلس، ووعظ، ونال من الحنابلة سباً وتكفيراً، ونالوا منه. وفيها توفي مقرىء الأندلس في زمانه أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني الأشبيلي، مصنف كتاب الكافي وكتاب التذكير سمع من أبي ذر الهروي وجماعة.

سنة سبع وسبعين واربع مائة

سنة سبع وسبعين واربع مائة فيها سار صاحب قونية سليمان السلجوقي إلى الشام بجيوشه، فأخذ أنطاكية، وكانت بيد النصارى منذ مائة وعشرين سنة، وكان ملكها قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب بها نائباً، فأساء إلى أهلها وإلى الجند في إقامته بها. فلما دخل بلاد الروم، واتفق ولده والنائب المذكور على تسليمها إلى صاحب قونية، وكاتبوه، فأسرع في البحر، ثم طلع، وسار إليها في جبال وعرة، فأتاها بغتة، فنصب السلالم ودخلها، وقتل جماعة، وعفا عن الرعية، وأخذ منها أموالاً لا تحصى، ثم بعث إلى السلطان ملك شاه، يبشره بالفتح. وكان صاحب الموصل يأخذ الوظيفة من أنطاكية، فطلب العادة من سليمان، فقال له ذلك المال جزية، وأنا بحمد الله مؤمن. وفيها توفي ذو الوزارتين محمد بن عمار الأندلسي الشاعر المشهور. كانت ملوك الأندلس تخافه لبذاءة لسانه وبراعة جنانه. وكان جليساً وشهيراً ووزيراً ومشيراً لصاحب الأندلس في زمانه، ثم خلع عليه خاتم الملك، ووجهه أميراً، فتبعته المواكب والمضارب والنجائب والكتائب والجنود، وضربت خلفه الطبول، ونشرت على رأسه الرايات، فملك مدينة تدمير بضم المثناة من فوق وكسر الميم وسكون الدال المهملة بينهما وقبل الراء مثناة من تحت ساكنة وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير، ثم بادر إلى عقوق من قربه، فانقلبت الدائرة عليه خوفاً، وخاف فيما طلبه، وحصل في القبصة قبيصاً، وأصبح لا يجد له محيصاً، إلى أن قتل في قصره، وأضحى مدفوناً في قبره، وله أشعار جميلة، ومن جملة قصيدة له طويلة في المعتضد بن عباد: ملوك العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم هو البيت يا عز الضنى لبنائه ... بأس وما عز القنا لدعائم وفيها توفي العالم النبيل اسماعيل بن معبد بن اسماعيل ابن الإمام أبي بكر الإشبيلي الجرجاني. كان وافر الحشمة، له يد في النظم والنثر. وفيها قيل في التي قبلها توفيت أم الفضل بنت عبد الصمد الهروية. لها جزء مشهور بها، يرويه عن عبد الرحمن بن أبي شريح. عاشت تسعين سنة. وفيها توفي أبو سعيد عبد الله ابن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري، أكبر الإخوة،

وعاشت أمه فاطمة بنت الشيخ أبي علي الدقاق بعد أربعة أعوام، وعمره أربع وستون سنة. وفيها توفي الفقيه الإمام مفيد الطلاب، ومفتي الأنام: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد البغدادي أبو نصر المعروف بابن الصباغ. كان فقيه العراقين، وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي. وبعضهم يرجحه عليه في معرفة المذهب. قلت: يعنون في معرفة الفروع، وأما معرفة الأصول أو المباحث العقلية فأبو إسحاق مرجح عليه وعلى عامة الفقهاء، إلا ما شاء الله تعالى. وكان يرحل إليه من البلدان، وكان تقياً صالحاً حجة. ومن مصنفاته كتاب الشامل في الفقه، وهو من أجود كتب الشافعية وأصحها نقلاً وأثبتها أدلة. وله كتاب تذكرة العالم والطريق السالم والعدة في أصول الفقه وولي التدريس في النظامية، على ما تقدم إيضاحه في ترجمة الشيخ أبي إسحاق، وقيل إنه كف بصره في آخر عمره. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الجليل الكبير الشأن الفضل بن محمد المرشد شيخ خراسان، أبو علي المعروف بالفارمدي. قال الشيخ عبد الغافر: هو شيخ الشيوخ في عصره، المنفرد بطريقته في التذكير التي لم يسبق إليها في حسن عبارته وتهذيبه، وحسن آدابه، ومليح استعارته، ودقة إلطافه، دخل نيسابور، وصحب الأستاذ أبا القاسم القشيري، وأخذ في الاجتهاد البالغ إلى أن نال، وحصل له عند نظام الملك قبول خارج عن الحد روى عن جماعة، وعاش سبعين سنة. وفيها توفي الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي، رحل، وصنف، وحدث عن جماعة، وقال الدقاق: لم أر أجود إتقاناً ولا أحسن ضبطاً منه. ؟ سنة ثمان وسبعين واربع مائة فيها صارت الفتنة بين الرافضة والسنية، اقتتلوا، وأحرقت أماكن. وفيها توفي الحافظ المتقن أبو العباس أحمد بن عمر الأندلسي. روى عن أبي الحسن بن جهضم وطائفة، ومن جلالته أنه روى عنه إماما الأندلس: ابن عبد البز وابن حزم. وله كتاب دلائل النبوة. وفيها ليلة الجمعة ثامن عشر شوالها توفي الإمام الكبير الفقيه البارع المجيد ذو الوصف الحميد، والمنهج السديد أبو سعد على القول الأصح وقيل: أبو سعيد المتولي: عبد الرحمن ابن محمد المعروف بالمتولي النيسابوري، شيخ الشافعية، وتلميذ القاضي حسين. كان جامعاً بين العلم والدين، وحسن السيرة وتحقيق المناظرة، له يد قوية في الأصول والفقه، والخلاف

والتدريس. وصنف كتاب التتمة، تمم به كتاب الإبانة تصنيف شيخه أبي القاسم الفوراني بالنون قبل ياء النسبة والفاء المضمومة قبل الواو والراء بعدها ودرس بالنظامية بعد الشيخ أبي إسحاق عشرين يوماً، ثم صرف بابن الصباغ، ثم صرف ابن الصباغ به، واستمر بها أبو سعد إلى أن توفي، وتخرج به جماعة من الأئمة، وسمع الحديث، وصنف في الفقه، وعجلته المنية قبل إتمامه التتمة، وأتمه من بعده جماعة، ولم يأتوا بالمقصد، ولا سلكوا طريقه، فإنه جمع في كتابه الغرائب من المسائل، والوجوه الغريبة التى لا تكاد توجد في كتاب غيره. وله في الفرائض مختصر صغير مفيد جداً، وله في الخلاف طريقة جامعة لأنواع المسائل، وله في أصول الدين تصنيف صغير، وكل تصانيفه نافعة. قال بعض المؤرخين: ولم أعلم لأي معنى دعي المتولي. وفيها توفي أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري المصري، نزيل مكة، وصاحب كتاب التلخيص. وفيها توفي شيخ المعتزلة محمد بن أحمد الكرخي، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني محمد بن علي الحنفي. تفقه بخراسان ثم ببغداد على القدوري، وسمع من الصوري وجماعة، وكان نظير القاضي أبي يوسف في الجاه والحشمة والسؤدد، بقي في القضاء دهراً دفن في القبة إلى جنب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وفيها توفي الإمام الحفيل السيد الجليل، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، الإمام الناقد المحقق البارع النجيب المدقق، أستاذ الفقهاء المتكلمين، وفحل النجباء والمناظرين، المقر له بالنجابة والبراعة، وتحقيق التصانيف وملاحتها، وحسن العبارة وفصاحتها، والتقدم في الفقه، ذو الأصلين: النجيب ابن النجيب، إمام الحرمين، حامل راية المفاخر وعلم العلماء الأكابر: أبو المعالي عبد الملك ابن ركن الإسلام أبي محمد، فخر الإسلام والأئمة، ومفتي الإمام المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، عجماً وعرباً، رباه حجر الإمامة، وحرك ساعد السعادة مهده، وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونفع، أخذ العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب، وزاد فيها على كل أدب، ورزق من التوسع في العبارة بعلوها ما لم يعهد من غيره، حتى أنسى ذكر سبحان، وفاق فيها الأقران، وحمل القرآن، وأعجز الفصحاء اللد، وجاوز الوصف والحد، وكان يذكر دروساً، يقع كل واحد منها في أطباق وأوراق، يتلعثم في كلمة، ولا يحتاج فيها إلى استدراك غيره، يمر فيها كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف، لا يلحقه المبرزون، ولا يدرك شأوه المتشدقون المتفيهقون،

وما يوجد في كثير من العبارات البالغة كنه الفصاحة، غيض من فيض ما كان على لسانه، وغرفه من أمواج ما كان يعهد من بيانه. تففه في صباه على والده ركن الاسلام، وكان يزهى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخائل، ثم خلفه من بعد وفاته، وأتى على جميع مصنفاته، فقلبها ظهر البطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض، ودرس سنين، ولم يرض في شبابه وتقليد والده وأصحابه، حتى أخذ في التحقيق، وجد، واجتهد في المذهب والخلاف ومجالس النظر، حتى ظهرت نجابته، ولاح على أيامه همه أبيه وفراسته، وسلك طريق المباحثة، وجمع الطرف بالمطالعة والمناظرة، حتى أربى على المتقدمين، وأنسى مصنفات الأولين، وسعى في دين الله سعياً يبقى أثره إلى يوم الدين. ومن ابتداء أمره أنه لما توفي أبوه، كان سنه دون العشرين أو قريباً منها، فأقعد مكانه للتدريس، وكان يقيم الرسم في درسه، ويقوم منه، ويخرج إلى مدرسة الإمام البيهقي، حتى حصل الأصول وأصول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف، وكان يواظب على مجلسه. قال الراوي: وسمعته يقول في أثناء كلامه: كتبت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة، وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل، حتى فرغ منه، وكان يبكر قبل الاشتغال بالتدريس إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي، يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكن، مع مواظبته على التدريس، ويجتهد في ذلك، ويواظب على المناظرة، إلى أن ظهر التعضب بين الفريقين: الأشعرية والمبتدعة، واضطربت الأحوال والأمور، واضطر إلى السفر والخروج عن البلاد والوطن، فخرج مع المشايخ إلى العسكر، ثم خرج إلى بغداد، يطوف ويلتقي الأكابر من العلماء ويدارسهم، ويناظرهم، حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره، واشتهر. ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب، صول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف، وكان يواظب على مجلسه. قال الراوي: وسمعته يقول في أثناء كلامه: كتبت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة، وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل، حتى فرغ منه، وكان يبكر قبل الاشتغال بالتدريس إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي، يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكن، مع مواظبته على التدريس، ويجتهد في ذلك، ويواظب على المناظرة، إلى أن ظهر التعضب بين الفريقين: الأشعرية والمبتدعة، واضطربت الأحوال والأمور، واضطر إلى السفر والخروج عن البلاد والوطن، فخرج مع المشايخ إلى العسكر، ثم خرج إلى بغداد، يطوف ويلتقي الأكابر من العلماء ويدارسهم، ويناظرهم، حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره، واشتهر. ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب ويقلل على تحصيل، وبهذا قيل له إمام الحرمين، قلت: هكذا قيل إنه لقب بهذا اللقب بهذا السبب، وكأنه صار متعيناً في الحرمين، متقدماً على علمائهما، مفتياً فيهما، ويحتمل أنه على وجه التفخيم له كما هو العادة في أقوالهم ملك البحرين وقاضي الخافقين. ونسبة إمامته في الحرمين لشرفهما، توصلا إلى الإشارة إلى شرفه وفضله، وبراعته ونبله، وتحقيقه وفهمه وعند الله في ذلك حقيقة علمه. ثم رجع بعد مضي نوبة التعصب، فعاد إلى نيسابور، وقد ظهرت نوبة السلطان ألب أرسلان، وتزين وجه الملك بإشارة نظام الملك، واستقرت أمور الفريقين، وانقطع

التعصب، فعاد إلى التدريس، وكان بالغاً في العلم نهاية، مستجمعاً أسبابه، فبنيت المدرسة الميمون النظامية، وأقعد للتدريس فيها، واستقامت أمور الطلبة، وبقي ذلك قريباً من ثلاثين سنة من غير مزاحم ولا مدافع، فسلم له المحراب والمنبر، والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة، وهجرت له المجالس، فانغمز غيره من الفقهاء بعلمه وتسلطه. قلت: يعني اقتداره على العلوم والتصرف فيها وكسدت الأسواق في جنبه، ونفق سوق المحققين من خواصه وتلامذته، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل من الأئمة والطلبة، وتخرج به جماعة من الأئمة الفحول وأولاد الصدور، حتى بلغوا محل التدريس في زمانه، وانتظم بإقباله على العلم، ومواظبته على التدريس والمناظرة، والمباحثة أسباب ومحافل، ومجامع وإمعان في طلب العلم، وسوق نافقة لأهله، لم تعهد قبله. واتصل به ما يليق بنصبه من القبول عند السلطان والوزير والأركان، ووفور الحشمة عندهم، بحيث لا يذكر من غيره، وكان المخاطب والمشار إليه، والمقبول من قبله، والمهجور من هجره، المصدر في المجالس، من ينتهي إلى خدمته، والمنظور إليه، من يعترف في الأصول والفروع من طريقته، واتفق منه تصانيف، مثل النظامي والغياتي حصل بسببها موقع القبول، بما يليق بها من الشكر والرضاء، والخلع الفائقة والمراكب الثمينه، والهدايا والموسومات، كذلك إلى أن قلد زعامة الأصحاب، ورئاسة الطائفة، وفوض اليه أمور الأوقاف، وصارت حشمة وزراء العلماء والأئمة والقضاة، وقوله في الفتوى مرجع العظماء والأكابر والولاة، واتققت له نهضة في أول ما كان من أيامه إلى اصبهان، بسبب مخالفة بعض الأصحاب، فلقي بها من المجلس النظامي ما كان اللائق بمنصبه من الاستيشار والإعزاز والإكرام بأنواع المبار، وأجيب بما كان فوق مطلوبه، وعاد مكرماً إلى نيسابور، وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف الكتاب الكبير في المذاهب، المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب، حتى حرره، وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى العليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودرس ذلك للخواص والتلامذة، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة والكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، وتبجح الجماعة بذلك، ودعوا له، وأثنوا عليه، وكانوا من المعتدين بإتمام ذلك، شاكرين عليه، فما صنف في الإسلام قبله مثله، ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته وطريقة المتقدمين في الأصول والفروع، وأنصف، أقر بعلو منصبه ووفور تعبه ونصبه في الدين، وكثرة شهرته في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل.

ومن تصانيفه المشهورة المفيدة النافعة الحميدة الشامل في أصول الدين، والإرشاد والعقيدة النظامية وغياث الأمم في الإمانة ومغيث الخلق في اختيار الحق والبرهان في أصول الفقه وتلخيص التقريب وكتاب تلخيص نهاية المطلب، ولم يتمه وغنية المسترشدين في الخلاف، وغير ذلك من الكتب. وقال الراوي: ولقد قرأت فصلاً ذكر علي بن حسن بن أبي الطيب في كتاب دمية القصر مشتملاً على حاله. قلت: وقد وقفت على ما ذكره فيه، وبالغ في مدحه، وشكره بمحاسن يطول ذكرها، ويعظم شكرها، منها قوله: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدب الأصمعي، وحسن بصيرة بالمواعظ الحسن البصري، وكيفما كان فهو إمام كل إمام، المستعلي بهمته على كل همام، والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام. وقال الشيخ أبو الحسن بن أبي عبد الله الأديب في كتابه: كم له من فضل مشتمل على العبارة الفصيحة العالية، والنكت البديعة والنادرة، في المحافل منه سمعناه، وكم من مسائل في النظر شهدناه، ورأينا منه في إقحام الخصوم وعهدناه، وكم من مجلس في التذكير للعوام مسلسل المسائل، مشحون بالنكت المستنبطة من مسائل الفقه، مشتملة على حقائق الأصول، مبكية في التحذير، مفرحة في التبشير، مختومة بالدعوات وفنون المناجاة، حضرناه وكم من مجمع للتدريس جاء، وللكبار من الأئمة وإلقاء المسائل عليهم والمباحث في غورها رأيناه، وحصلنا بعض ما أمكننا منه وعقلناه، ولم نقدر ما كنا فيه من نصرة أيامه وزهرة شهوره وأعوامه حق قدره، ولم نشكر الله عليه حق شكره حتى فقدناه وسلبناه. قال: وسمعته يقول في أثناء كلامه: أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذ غلبني النوم ليلاً كان أو نهاراً، آكل إذا اشتهيت أي وقت كان. وكانت لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان. وقال: لقد سمعت الشيخ أبا الحسن المجاشعي النحوي القادم علينا سنة تسع وستين وأربع مائة يقول: وقد قبله الإمام فخر الإسلام وقابله بالإكرام، وأخذ قي قراءة النحو عليه وتلمذ له بعد أن كان إمام الأئمة في وقته، وكان يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب أكسير الذهب في صنعة الأدب من تصنيفه. وكان يحكي ويقول: ما رأيت عاشقاً للعلم أي نوع كان كمثل هذا الإمام، فإنه يطلب العلم للعلم، هذا بعض كلامه. قال بعض الأئمة: وكان كذلك.

ومما له من الجلالة والمفاخر ما أتى عليه الجلة الأكابر المشهورون بجلالة القدر والتقدم من علماء العصر، كجمال العلماء المجمع على فضله وجلالته، وعلو منزلته وإمامته، الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. قال الإمام أبو سعد السمعاني: قرأت بخط أبي جعفر محمد بن علي الهمداني: سمعت الشيخ أبا إسحاق الفيروزأبادي يقول: تمتعوا بهذا لإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعالي الجويني. وقال ابن خلكان في تاريخه: قاد أبو حامد: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب؛ نلت اليوم إمام الأئمة. قلت: وكذلك الإمام أبو المعالي المذكور، عظم الإمام أبا إسحاق المذكور، كما تقدم من حمله الغاشية بين يديه. ومن حميد سيرة أبي المعالي أنه كان ما يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه مبتدئاً كان، أو منتهياً صغيراً كان، أو كبيراً ولا يستنكف من أن يعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، ولا يحتال أحداً أيضاً في التزييف إذا لم يرض كلامه ولو كان أباه أو احداً من الأئمة المشهورين. قلت: ومن ذلك قوله في بعض المسائل بعد ذكره مقال والده فيها: وهذه زلة من الشيخ يعني والده. وكان من التواضع لكل أحد بمحل، ويتحمل منه الاستهزاء لمبالغة فيه، ومن رقة القلب بحيث يبكي إن سمع بيتاً، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية لأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه للغدوات، حتى أبكى الحاضرين ببكائه، وتقطر الدماء من الجفون لزعقاته وإشاراته واحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار. هذه الجملة نبذ مما عهدناه منه إلى انتهاء أجله. ولما توفي رحمه الله صاح الصائح من كل جانب، وجزع الخلق عليه جزعاً لم يعهد مثله، ولم تفتح الأبواب في البلد، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً، بحيث ما اجترأ احد على ستر رأسه من الرؤوس والأكابر، وصلي عليه بعد جهد وشدة زحمة، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، وكسر منبره في الجامع، وقعد الناس للعزاء أياماً. وكان طلبته قريباً من أربعمائة، يتفزقون في البلد نائحين عليه، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة. وسمع الحديث من جماعة كثيرة، وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، صاحب حلية الأولياء، وقد سمع سنن الدارقطني من أبي سعيد بن عليك، وكان يعتمد تلك الأحاديث في مسائل الخلاف، ويذكر الجرح والتعديل منها في الرواية، وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله تعالى يدوم إلى قيام الساعة وإن انقطع نسله من جهة الذكور ظاهراً

سنة تسع وسبعين واربع مائة

فنشر علمه يقوم مقام كل نسب، ويغني عن كل سبب مكتسب. قلت: ومن المشهور المذكور في بعض التواريخ وغيرها أن والده الشيخ أبا محمد كان في أول أمره ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطعمها من كسب يده أيضاً إلى أن حبلت بإمام الحرمين وهو مستمر على تربيتها بمكتسب الحلال فلما وضعته، أوصاها أن لا تمكن أحداً من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوماً وهي متألمة، والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم، وشاغلته بثديها فرضع منها قليلاً فلما رآه شق عليه، وأخذه إليه، ونكس رأسه، ومسح على بطنه، وأدخل إصبعه في فيه، ولم يزل يفعل ذلك حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت، ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه. ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان يلحقه في بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة، فيقول: هذا من بقايا تلك الرضاعة، ومولده في ثاني عشر المحرم، سنة تسع عشرة وأربع مائة، ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور، موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها، ونقل إلى نيسابور، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين كما تقدم ودفن بجنب أبيه، وصلي عليه ولده أبو القاسم، وأكثر الشعراء المراثي، ومما رثي به: قلوب العالمين على المعالي ... وأيام الورى شبه الليالي أيثمر غصن أهل الفضل يوماً ... وقد مات الإمام أبو المعالي؟ سنة تسع وسبعين واربع مائة فيها نزل تتش حلب، ثم أخذها. وساق السلطان ملك شاه من أصبهان فقدم حلب، وخافه أخوه تتش، فهرب. وفيها وقعة الزلاقة، وذلك أن ملك الإفرنج جمع الجيوش، فاجتمع المعتمد يوسف بن تاشقين أمير المسلمين والمطوعة، فأتوا الزلاقة من عمل بطليو، فالتقى الجمعان، فوقعت الهزيمة على أعداء الله تعالى، وكانت ملحمة عظيمة في أول جمعة من رمضان، وجرح المعتمد عدة جراحات شديدة، وطابت الأندلس، فعمل الأمير ابن تاشقين

سنة ثمانين واربع مائة

على تملكها. ولما افتتح ملك شاه حلب والجزيرة، قدم بغداد وهو أول قدومه إليها ثم خرج يصيد، وعمل منارة القرون من كثرة وحش صاده، ثم رد إلى أصبهان. وفيها أعيدت الخطبة العباسية بالحرمين، وقطعت خطبة العبيديين. وفيها توفي شيخ الشيوخ ببغداد: أبو سعد أحمد بن محمد النيسابوري، وكان منظما عند نظام الملث وأهل الدولة، وله رباط مشهور ومريدون. وفيها توفي طاهر بن محمد بن محمد أبو عبد الرحمن المستملي، والد زاهر. روى عن أبي بكر الحيري وطائفة. وكان فقيهاً صالحاً ومحدثاً عارفاً، له بصر تام بالشروط. وفيها توفي أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي القيرواني، صاحب المصنفات في العربية والتفسير، وكان من أوعيه العلم. وفيها توفي أبو الفضل محمد بن عبد الله النيسابوري الرجل الصالح. روى عن أبي نعيم الاسفرائيني، وأبي الحسن العلوي، وطبقتهما. وفيها توفي مسند العراق أبو نصر محمد بن علي الهاشمي العباسي رحمه الله. سنة ثمانين واربع مائة فيها عرس المقتدي بالله على ابنة السلطان، وكان وقتاً مشهوداً، أنفق فيه الخليفة أموالاً كثيرة، وخلع على سائر الأمراء، ومد سماطاً هائلاً. وفيها توفي مقرىء الأندلس عبد الله بن شميل الأنصاري المرسي رحمه الله. وفيها توفيت فاطمة بنت الشيخ أبي علي الدقاق، الزاهدة العابدة، زوجة الأستاذ أبي القاسم القشيري. كانت كبيرة القدر عالية الاسناد. روت عن أبي نعيم الاسفرائيني والحاكم والعلوي وطائفة. وفيها توفيت فاطمة بنت الحسن بن علي الأقرع، أم الفضل البغدادية، الكاتبة التي جودوا على خطها، وكانت تنقل طريقة ابن البواب. حكت أنها كتبت ورقة للوزير الكندي فأعطاها ألف دينار. روت عن أبي عمر الفارسي.

سنة احدى وثمانين واربع مائة

وفيها توفي السيد المرتضى ذو الشرفين: أبو المعالي محمد بن محمد بن زيد العلوي الحسيني الحافظ، قتله الخاقان بما وراء النهر مظلوماً. روى عن أبي علي بن شاذان وخلق، وتخرج بالخطيب، ولازمه، وصنف التصانيف، وحدث بسمرقند وأصبهان وبغداد وكان مقبولاً معظماً وافر الحشمة، يفرق في العام نحو عشرة آلاف درهم زكاة ماله. سنة احدى وثمانين واربع مائة فيها توفي أبو بكر الغورجي أحمد بن عبد الصمد الهروي، راوي جامع الترمذي عن الجرجاني. وفيها توفي شيخ الإسلام، أحد الأعلام، القدوة الحافظ: عبد الله بن محمد الهروي الصوفي شيخ: خراسان في زمانه غير منازع، له عدة تصانيف. وفيها توفي ابن ماجة الأبهري - محمد بن أحمد الأصبهاني، عاش خمساً وتسعين سنة. سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة فيها سار السلطان ملك شاه بجيوشه من أصبهان، وعبر النهر، وملك بخارى وسمرقند مع قتال وحصار، وسار نحو كاشغر، فدخل ملكها في الطاعة، فرجع الى خراسان، ونكث أهل سمرقند، فكر راجعاً إلى سمرقند، وجرت أمور طويلة. وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد، أبو نضر الحنفي، رئيس نيسابور وقاضيها، وكان يقال له شيخ الاسلام، وقيل: كان مبالغاً في التعصب في المذهب، فأغرى بعضاً ببعض، حتى لعنت الخطباء اكثر الطوائف. وفيها توفي الحافظ أبو اسحاق ابراهيم بن سعيد النعماني مولاهم المصري، عن تسعين سنة، وكان ثقة حجة، صالحاً ورعاً، كبير القدر. وفيها توفي القاضي أبو منصور بن شكرويه محمد بن أحمد الأصبهاني. وفيها توفي مؤلف بستان العارفين محمد بن أبي جعفر المحدث. كان صوفياً عابداً صاحب حديث. روى عن الحاكم وطائفة.

سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة

سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة فيها كانت فتنة هائلة لم يسمع بمثلها بين السنية والرافضة، قتل فيها عدد كثير، وعجز والي البلد، واستظهر أهل السنة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة، وذلوا، ولزموا التقية، وأجابوا إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه - فاشتد الناس على غوغائهم، وخرجوا عن عقولهم، واشتدوا، فنهبوا شارع ابن أبي عون، ثم جرت أمور مزعجة، وعاد القتال حتى بعث صدقة بن مزبل عسكراً، يتتبع المفسدين إلى أن فتر الشر قليلاً. وفيها توفي أبو الحسين عاصم بن الحسن العاصمي الكرخي، الشاعر المشهور. كان ظريفاً، صاحب ملح ونوادر، مع الصلاح والعفة والصدق. مرض في أواخر عمره، فغسل ديوان شعره. وفيها توفي العلامة الواعظ نزيل أصفهان، ومدرس نظاميتها، وشيخ الشافعية بها، ورئيسها: محمد بن ثابت الشافعي الواعظ. وفيها توفي أبو نصر محمد بن سهل السراج، آخر أصحاب أبي نعيم الاسفرائيني. كان ظريفاً نظيفاً لطيفاً. سنة اربع وثمانين واربع مائة فيها استولى يوسف بن تاشفين أمير المسلمين على الأندلس، وقبض على المعتمد بن عباد، وأخذ كل شيء يملكه، وترك أولاده فقراء. وفيها استولت الفرنج على جزر صقلية. وفيها توفي الحافظ المعافري الشاطبي، تلميذ ابن عبد البر ظاهر، وكان من أئمة هذا الشأن، مع الورع والتقوى. وفيها توفي الحافظ الزاهد أبو القاسم عبد الله بن علي الانصاري البصري، استشهد بالبصرة، وكان من العبادة والخشوع بمحل، وفيها توفي أبو نصر محمد بن أحمد شيخ المقرئين بمرو.

سنة خمس وثمانين واربع مائة

وفيها توفي مسند الآفاق، كان إماماً في علوم القرآن، كثير التصانيف، - مبين الديانة. عالي الإسناد، وقاضي القضاة أبو بكر الناصحي محمد بن عبد الله بن الحسين النيسابوري. قال الشيخ عبد الغافر: هو في عصره أفضل أصحاب أبي حنيفة، وأعرفهم بالمذهب، وأوجههم في المناظرة، مع حظ وافر من الأدب والطب، ولم تحمد سيرته في القضاء. وفيها توفي المعتصم محمد بن معن الأندلسي التجيبي صاحب المرية ومحاوية والصمارحية من بلاد الأندلس، وتوفي وجيش ابن تاشفين محاصرون. سنة خمس وثمانين واربع مائة فيها أخذت ركب العراق خفاجة بالخاء المعجمة والفاء والجيم بين الالف والهاء، وكان الحريق ببغداد، احترق فيه من الناس عدد كثير وأسواق كبار من الظهر إلى العص. وفي عاشر رمضان فيها، قتل الوزير الكبير الحميد الشهير، نظام الملك، قوام الدين: أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق الطوسي، كان من جلة الوزراء. قلت: وهذا أول ما بلغناه من التلقيب بفلان الدين، ثم استمر ذلك إلى يومنا، وإنما كانوا يلقبون بفلان الدولة والملك من يعظم شأنه عندهم، ثم عموا التلقيب بالدين فيما بعد، حتى في السوقية والفجرة، لقبوهم بنور الدين وشمس الدين وزين الدين وكمال الدين وأشباه ذلك - ممن هم ظلام الدين وشين الدين ونقص الدين وأشباه ذلك من أضداد الدين، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض القصائد: يسمى فلان الدين من هو عكس ما يسمى به حاوي الصفات الدنيه، فالنور ظلامة، والكمال نقيصة، ومحيي مميت، ثم عكس التقية سوى السيد الحبر النواوي، وشبهه إمام الهدى محيي الدين. وما أحسن ما قال الشيخ بركة الزمن وزين اليمن ذو المجد الأثيل: أحمد بن موسى بن عجيل، قال رضي الله عنه: تتبعت هذه الألقاب فلم أجد منها صادقاً إلا صارم الدين، يعني: قاطع الدين. رجعنا إلى ذكر الوزير نظام الملك، ذكره أبو سعد السمعاني فقال: كعبة المجد ومنبع الجود، كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، أنشأ المدارس بالأمصار، ورغب في العلم،

وأملى، وحدث، وعاش ثمانياً وسبعين سنة، اشتغل في ابتداء أمره بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ، وكان يكتب له، ثم خلاه وقصد داود بن مكائيل السلجوقي بالسين المهملة والجيم والقاف والد السلطان ألب أرسلان - فطهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده المذكور، وقال له: أتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به. ثم لما توفي داود، وملك ولده المذكور، دبر نظام الملك أمره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشرين سنة، ثم توفي السلطان المذكور، فازدحم أولاده على الملك، ثم آل أمر المملكة لولده ملك شاه، فصار الأمر كله للنظام، وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة، ودخل على الإمام المقتدي بالله، فأذن له بالجلوس بين يديه، وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضى المؤمنين عنك. وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان كثير الإنعام على الصوفية، فسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني، وقال: اخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بما يأكله الكلاب غداً. فلم أعلم معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد - وكانت له كلاب كالسباع، تفترس الغرباء - فغلبه السكر، فخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب، فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك. فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك، وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، وكان إذا قدم عليه أبو المعالي إمام الحرمين، وأبو القاسم القشيري صاحب الرسالة بالغ في إكرامهما، وأجلسهما في مسند. وبنى المدارس والربط والمساجد في البلاد، فاقتدى به الناس، وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربع مائة. وفي سنة تسع وخمسين جمع الناس على طبقاتهم ليدرس بها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فلم يحضر، ودرس أبو نصر بن الصباغ بها عشرين يوماً، ثم درس بها الشيخ أبو إسحاق قلت: وقد تقدم إيضاح ذلك، وبيان سبب تغيب الشيخ أبي إسحاق عن التدريس في أول الأمر، وتدريسه بها فيما بعد، في ترجمته في سنة ست وسبعين وأربع مائة، واسمع نظام الملك الحديث بعدما سمعه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً لذلك، ولكني أريد أن أربط نفسي في قطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويروى له من الشعر قوله: بعد ثمانين ليس قوه ... ذهبت نشوة الصبوه كأنني والعصا بكفي ... موسى، ولكن بلا نبوه

وقيل إن هذين البيتين لأبي الحسن محمد بن أبي الصقر الواسطي. كانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة في طوس، وتوجه في صحبة ملك شاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة عاشر رمضان من السنة المذكورة أفطر، وركب في محفته، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وطوبى لمن كان منهم فاعترضه صبي ديلمي على هيئة الصوفية معه قصعة، فدعا له، وسأل بتناولها، فمد يده ليأخذها، فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه، فمات، وقتل القاتل في الحال، وركب السلطان إلى معسكره، فسكنهم، وحمل إلى أصبهان، ودفن بها. وقيل إن السلطان دس عليه من قتله، فإنه سئم من طول حياته، واستكثر ما بيده من الاقطاعات، ولم يعش السلطان بعده إلا خمسة وثلاثين يوماً. وقيل إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزباني، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كثير المنزلة عند مخدومه ملك شاه، فلما قتل رتبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبو عليه، فقتلوه، وقطعوه إرباً إرباً بعد قتل نظام الملك بدون أربعة اشهر. وقد كان نظام الملك من حسنات الدهر. ورثاه شبل الدولة أبو الهيجاء: مقاتل بن عطية البكري، فقال: كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف وفي السنة المذكورة توفي محدث مكة أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكاك، كان متقياً حجة صالحاً. روى عن أبي ذر الهروي وطائفة، وعاش سبعين سنة. وفيها توفي الإمام الكبير العالم الشهير أبو بكر الشاشي محمد بن علي بن حامد الفقيه شيخ الشافعية، صاحب الطريقة المشهورة والمصنفات المشكورة، درس مدة بغزنة ثم بهراة ونيسابور، وحدث عن منصور الكاغذي، وتفقه في بلاده على أبي بكر السبخي، وعاش نيفاً وتسعين سنة. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عيسى التجيبي مقرىء الأندلس، أخذ عن أبي عمر والداني ومكي بن أبي طالب وجماعة. وفيها توفي السلطان ملك شا، أبو الفتح جلال الدولة، ابن السلطان ألب أرسلان

محمد بن داود السلجوقي التركي. تملك ما وراء النهر وبلاد الهياطلة، وبلاد الروم والجزيرة، والشام والعراق، وخراسان وغير ذلك. قال بعض المؤرخين: ملك من مدينة كاشغر الترك إلى بيت المقدس طولاً، ومن قسطنطينية وبلاد الجرت إلى نهر الهند عرضاً، وكان حسن السيرة محسناً إلى الرعية، وكانوا يلقبونه بالملك العادل، وكان ذا عزم بالعمائر وبالصيد، فحفر كثيراً من الأنهار، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس في جميع البلاد، وكان لهجاً بالصيد حتى قيل: إنه ضبط ما اصطاده بيده، فكان عشرة آلاف، فتصذق بعشرة آلاف دينار، وقال: إني خائف من الله - سبحانه - من إزهاق الأرواح من غير مأكلة، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدق بدينار. وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذي، وشيعهم بالقرب من الواقصة، وصاد في طريقه وحشاً كثيراً، فبنى هناك منارة في حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها في ذلك الطريق، وذلك في سنة ثمانين وأربع مائة. قالى ابن خلكان: والمنارة باقية إلى الآن، وتعرف بمنارة القرون. انتهى قوله. قلت وكثير من الناس يسمونها أم القرون، وكانت السبل في أيامه ساكنة، والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى الشام، وليس معها خفير، ويسافر الواحد والاثنان من غير خوف. ولما توجه لحرب مر بمشهد علي، فدخل هو ووزيره نظام الملك، ودعوا، ثم سأل نظام الملك: بأي شيء دعوت؟ فقال: بنصرك على أخيك. فقال: أما أنا، فقلت: اللهم انصرنا، وأصلحنا للمسلمين. ودخل عليه واعظ فوعظه، وحكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفرداً من عسكره على باب بستان، فتقدم إلى الباب، وطلب ما يشربه، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء والسكر والثلج، فشربه، واستطابه، فقال: هذا، كيف يعمل؟ فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا، فيخرج منه هذا الماء، فقال: ارجعي وأحضري شيئاً آخر. وكانت الصبية غير عارفة به، ففعلت، فقال في نفسه: الصواب أن أعوضهم عن هذا المكان، وأصطفيه لنفسي. فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نتة سلطاننا قد تغيرت، فقال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسف، والآن قد اجتهدت من عصر القصب، فلم يسمح ببعض ما كان يأتي. فعلم صدقها، فرجع عن تلك

النية، ثم قال: ارجعي الآن، فإتك تبلغين الغرض. وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت الصبية ومعها ما شاءت من ماء السكر، وهي مستبشرة، فقال السلطان للواعظ: لم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للناطور: ناولني عنقوداً من الحصرم؟ فقال له: ما يمكنني ذلك، فإن السلطان لم يأخذ حقه، ولا يجوز خيانته، فتعجب الحاضرون من مقابلته بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له ما أوجب الحق عليه. وحكي أن مغنية أحضرت إليه - وهو بالري فأعجب بها، واستطاب غناها، فهم بها، فقالت: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، وإن الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام كلمة، فقال: صدقت، واستدعى القاضي، فزوجها منه، وابتنى بها، وتوفي عنها، وعيون محاسنه أكثر من أن تحصى. وحكى الهمداني أن نظام الملك - الوزير - دفع للملاحين الذين عبروا بالسلطان والعسكر نهر جيحون على العامل بأنطاكية، وكان مبلغ أجرة المعابو أحد عشر ألف دينار، وذلك لسعة المملكة. وتزوج الإمام المقتدي بأمر الله - أمير المؤمنين - ابنة السلطان المذكور، وكان السفير في الخطبة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، المهذب والتنبيه - رحمه الله - وأنفذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب - فإن السلطان كان هناك - فلما وصل إليه أدى الرسالة، ونجز الشغل. قال الهمداني: وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين بنيسابور، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق. وظهر له في خراسان منزلة عظيمة. وكانوا يأخذون التراب الذي وطأته بغلته، فيتبركون به، كما تقدم. وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربع مائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم، كان فيه أربعون ألف من عسكر. وفي بقية هذه السنة رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان، سماه أبا الفضل جعفر، زينت بغداد لأجله، وكان السلطان قد دخل بغداد دفعتين، فهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، وخرج منها في الدفعة الثانية على الفور إلى نحو دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاً وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وحمل في تابوت إلى خراسان، ولم يفعل له كغيره من السلاطين، فلم يشهد له جنازة، ولا صلى عليه أحد ظاهراً، ولا جر ذنب فرس من أجل موته. ني: وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين بنيسابور، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق. وظهر له في خراسان منزلة عظيمة. وكانوا يأخذون التراب الذي وطأته بغلته، فيتبركون به، كما تقدم. وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربع مائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم، كان فيه أربعون ألف من عسكر. وفي بقية هذه السنة رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان، سماه أبا الفضل جعفر، زينت بغداد لأجله، وكان السلطان قد دخل بغداد دفعتين، فهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، وخرج منها في الدفعة الثانية على الفور إلى نحو دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاً وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وحمل في تابوت إلى خراسان، ولم يفعل له كغيره من السلاطين،

سنة ست وثمانين واربع مائة

فلم يشهد له جنازة، ولا صلى عليه أحد ظاهراً، ولا جر ذنب فرس من أجل موته. سنة ست وثمانين واربع مائة فيها لما علم تتش في دمشق بموت أخيه أنفق الأموال، وتوجه ليأخذ السلطنة، فسار معه من حلب قسيم الدولة مولى السلطان ملك شاه، ودخل في طاعته صاحب أنطاكية وصاحب الرها وحران. ثم سار، وأخذ الرحبة في أول سنة ست، ثم نازل نصيبين، فأخذها عنوة، وقتل بها خلقاً كثيراً، ونهبها، ثم سار إلى الموصل، فالتقاه ابراهيم العقيلي في ثلاثين ألفاً، وتعرف بوقعة المصن، فانهزموا، وأسر ابراهيم، فقتله صبراً، فأقر أخاه علياً على الموصل لأنه ابن عمه. ولم يحج ركب العراق في السنة المذكورة، وحج ركب الشام، فنهبهم صاحب مكة محمد بن أبي هشا، ونهبتهم العربان، توصل من سلم في حالة عجيبة. وفيها توفي أبو الفضل الأصبهاني الحداد. روى ببغداد وأصبهان، وروى الحلية ببغداد. وفيها توفي الحافظ أبو مسعود سليمان بن ابراهيم الأصبهاني. قال السمعاني: جمع وصنف وخرج على الصحيحين. وروى عن محمد بن ابراهيم الجرجاني وأبي بكر بن مردويه وخلق. ولقي ببغداد أبا بكر المتقي وطبقته. وفيها توفي الشيخ أبو الفرج الشيرازي الحنبلي عبد الواحد بن محمد الفقيه القدوة. وفيها توفي شيخ الإسلام الهكاري أبو الحسن علي بن أحمد الأموي من ذرية عتبة بن أبي سفيان بن حرب. وكان صالحاً زاهداً ربانياً ذا وقار وهيبة وأتباع ومريدين. رحل في الحديث، وسمع من أبي عبد الله الفراء وأبي القاسم بن بشران وطائفة. وفيها توفي مسند خراسان أبو المظفر موسى بن عمران الأنصاري. وفيها توفي أبو الفتح نصر بن الحسين الشاشي نزيل سمرقند. روى صحيح مسلم عن عبد الغافر، وسمع بمصر من جماعة، ودخل الأندلس، فحدث بها. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي. سمع بخراسان والعراق وفارس واليمن ومصر والشام، ومات كهلاً، وكان صوفياً صالحاً متقشفاً.

سنة سبع وثمانين واربع مائة

سنة سبع وثمانين واربع مائة في أولها عزم المقتدي بأمر الله على تقليد السلطان بركيا روق بالموحدة والمثناة من تحت بين الكاف والألف فالتقاه، وخطب له ببغداد، ولقب ركن الدولة، ومات الخليفة من الغد فجأة، وحاصر تتش حلب، فافتتحها، ثم سار فأخذ الجزيرة وأذربيجان، وكثرت جيوشه، واستفحل شأنه. وفيها توفي مسند نيسابور أبو بكر بن خلف الشيرازي أحمد بن علي. روى عن الحاكم وعبد الله بن يوسف وطائفة. قال الشيخ عبد الغافر: هو شيخنا الأديب المحدث المتقن الصحيح السماع، ما رأينا شيخاً أورع منه ولا أشد إتقاناً. نيف على التسعين. وفيها توفي قسيم الدولة لما افتتح ملك شاه حلب استنابه عليها، فأحسن السياسة، وضبط الأمور، وتتنع المفسدين حتى صار دخله كل يوم من البلد ألفاً وخمسمائة دينار، وكانت وفاته بالقتل بعد أسره في المصاف. وفيها توفي أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي، الأديب صاحب النظم والنثر والكتاب المعروف في الألغاز. وفيها توفي المقتدي بالله أبو القاسم عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد بن القائم بأمر الله العباسي. بويع بالخلافة بعد جده في شعبان سنة سبع وستين وأربع مائة، وعمره تسع عشرة سنة وثلاثة اشهر، ومات فجأة في المحرم عن تسع وثلاثين سنة، وقيل: سمته جارية. وكان ديناً خيراً، أمر بنفي الخواطي والمغنيات من بغداد، وكانت الخلافة في أيامه زاهرة، وحرمتها وافرة. وبويع بعده للمستظهر بالله أحمد. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ الكبير الأمير أبو نصر علي بن هبة الله العجلي البغدادي المعروف بابن ماكول، النسابة صاحب التصانيف النافعة، لم يكن ببغداد بعد الخطيب أحفظ منه. قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلا وأجابني عن الكتاب، وقال حتى اكشفه، وما راجعت ابن ماكولا إلا وأجابني حافظاً كأنه يقرأ من كتاب. وقال أبو سعد السمعاني: وكان لبيباً عارفاً ونحوياً مجوداً وشاعراً مبرزاً. سمع الحديث الكثير، وأخذ

عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك، وكان أحد الفضلاء المشهورين، تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام، وجمع شيئاً كثيراً. وكان الخطيب البغدادي قد جمع بين كتاب المؤتلف والمختلف الذي للدارقطني، والذي لعبد الغني الموسوم بمشتبه النسبة وزاد عليهما، وجعله كتاباً مستقلاً سماه المؤتلف تكملة المختلف. وجاء ابن ماكولا فزاد على هذا المؤتلف، وضم إليه الأسماء التي وقعت له، وجعله كتابا سماه الإكمال، أجاد فيه وأفاد، حتى صار اعتماد المحدثين عليه، أحسن فيه إحساناً بالغاً، وحلاه حسناً فائقاً، ولم يصنع مثله في بابه، ثم جاء ابن نقطة وذيله، وما أقصر فيه. وفي كتاب الأمير ابن ماكولا دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وإتقانه. ومن الشعر المنسوب إليه قوله: قرض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه الحطب قال الحميدي خرج إلى خراسان ومعه غلمان له ترك، فقتلوه بجرجان، فأخذوا ماله، وهربوا، وهو من ذرية الأمير أبي دلف العجلي. وفي السنة المذكورة توفي أبو عامر الأزدي القاضي محمود الهروي، الفقيه الشافعي، كان عديم النظير زهداً وصلاحاً وعفة. وفيها توفي المستنصر بالله أبو تميم معد ابن الظاهرعلي بن الحاكم العبيدي صاحب مصر. لما عظم أمره وكبر شأنه خطب له ببغداد أرسلان البساسيري، وقطع خطبة الإمام القائم. وقد جرى في أيامه أشياء لم يجر شيء منها في أيام آبائه، منها قطع الخطبة المذكورة، ومنها ملك ابن الصليحي بلاد اليمن، ودعاؤه له على منابرها، ومنها أن المستنصر المذكور أقام في الأمر ستين سنة، وهذا شيء لم يبلغه أحد من العبيديين، ولا من بني العباس. ومنها أنه ولي وهو ابن سبع سنين، وفي سنة تسع قطع اسمه واسم آبائه من الحرمين. ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضاً، حتى قيل إنه بلغ رغيف واحد بجمسين ديناراً، وكان في هذه المدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون، ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يركب بغلة عارية، وآخر الأمر توجهت أمه وبناته إلى بغداد من فرط الجوع في سنة اثنتين وستين وأربع مائة.

سنة ثمان وثمانين واربع مائة

سنة ثمان وثمانين واربع مائة فيها قامت الدولة على أحمد خان صاحب سمرقند، وأشهدوا عليه بالزندقة والإقلال، فأفتى الأئمة بقتله، فخنقوه، وملكوا ابن عمه. وفيها التقى تتش وابن أخيه بركيا روق بنواحي الري، فانكسر عسكر تتش، وقاتل هو حتى قتل. وكان رضوان بن تتش قد صار إلى بغداد لينزل بها، فلما قارب هيت جاءه نعي أبيه، ودخل حلب، ثم قدم عليه من الوقعة أخوه دقاق، فراسله متولي قلعة دمشق فسار سراً من أخيه، وتملك دمشق. وفيها قدم الإمام أبو حامد الغزالي دمشق زاهداً في الدنيا، وما كان فيه من رئاستها والإقبال والقبول من الخليفة وكبراء الدولة، وصنف الإحياء وأسمعه بدمشق، وأقام بها سنتين، ثم حج ورجع إلى وطنه. قلت: هكذا ذكر بعض المؤرخين أنه قدم في السنة المذكورة إلى دمشق، وذكر بعضهم أن توجهه فيها كان إلى بيت المقدس لابساً الثياب الخشنة، وناب عنه أخوه في التدريس، وذكر أنه بعد ذلك توجه من القدس إلى دمشق، فأقام بها مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع في الجانب الغربي منه، ثم ذكر أنه انتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهد والمواضع المعظمة وأشياء أخرى سيأتي ذكرها. قلت وأما قول الذهبي أنه صنف الإحياء وأسمعه بدمشق، فمخالف لما ذكر الإمام أبو حامد المذكور في كتابه المنقذ من الضلال أنه أقام في الشام قريباً من سنتين، مختلياً بنفسه، ولم يذكر إسماعه الإحياء ولا تصنيفه إياه، ولو كان لذكره، كما ذكر علوماًُ أخرى صنف فيها قبل السفر أيضاً. فتصنيف الإحياء مع ما اشتمل عليه من العلوم الواسعة المحاكية للبحر الذي أمواجه متدافعة، لا يمكن وضعه في سنتين ولا ثالثة ولا رابعة، وأما ما ذكره ابن كثير وغيرهم من كونه حج قبل سفره إلى الشام، وأنه أقام في الشام عشر سنين وأنه دخل مصر والاسكندرية، ورام الاجتماع بملك المغرب، فكل ذلك مخالف تصريح ما نص عليه أبو حامد في كتابه المذكور، فإنه ذكر أنه توجه إلى الشام قبل توجهه إلى مكة، ثم توجه إلى الحج بعد السنتين المذكورتين، ثم كر راجعاً إلى وطنه وأولاده، وهذا يدل عل بطلان القول المذكور وفساده، والعجب كل العجب من قوله أنه قصد السلطان المغرب بقضاء أرب، وهو من ملاقاة السلاطين قد هرب، وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته.

وفيها توفي الحافظ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون البغدادي. روى عن علي بن شاذان والبرقاني، وكتب كثيراً. قال بعضهم: كتب عن ابن شاذان ألف جزء. وفيها توفي شيخ المعتزلة أبو يوسف القزويني، صاحب التفسير الكبير، الذي هو أزيد من ثلاثمائة مجلد. درس الكلام على القاضي عبد الجبار بالري، وسمع منه ومن أبي عمرو بن مهدي الفارسي، وتنقل في البلاد، ودخل مصر، وكان صاحب كتب كثيرة وذكاء مفرط، وتبخر في المعارف، وكان داعية إلى الاعتزال، وعاش خمساً وتسعين سنة. وفيها توفي المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد اللخمي، صاحب الأندلس. كان ملكاً جليلاً، عالماً ذكياً، وشاعراً محسناً، وبطلاً شجاعاً، وجواداً ممدوحاً. كان بابه محط الرحال وكعبة الآمال، وشعره في الذروة العليا، ملك من الأندلس من المدائن والحصون والمعاقل مائة وثلاثين مسوراً، وبقي في المملكة نيفاً وعشرين سنة. وهو من ذرية النعمان بن المنذر آخر ملوك الحيرة وقبض عليه أمير المسلمين ابن تاشفين لما قهره، وغلب على ممالكه، وسجنه بأغمات حتى مات بعد أربع سنين من زوال مملكته. وخلف عن ثمانمائة سرية، ومائة وثلاثة وسبعين ولداً. قلت أما كثرة الأولاد فقد نقل أن غيره كان أكثر منه أولاداً، وأما السراري فما سمعت أن أحداً من الخلفاء بلغ من كثرتهن إلى هذا العدد المذكور. وكان راتبه في اليوم ثمانمائة رطل لحم، ومما قيل فيه لما قص عليه قول الشاعر: لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى من منايا هن غايات وقال آخر بعد لزومه وقتل ولديه: تبكي السماء بدمع رائح غاد ... على البهاليل من أبناء عباد ومما قيل فيه لما حبس: تنشق رياحين السلام فإنها ... أفض بها مسكاً عليك مختما أنكر في عصر مضي لك مشرقاً ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما وأعجب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمساً، كيف أطلع أنجما ولما دخلت عليه بناته السجن - وكان يوم عيد، وقد صرن يغزلن للناس بالأجرة،

وهن في أطمار - أنشده: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك بالأطمار جائعةيغزلن للناس لا يملكن قطميرا يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا ومن شعر المعتمد أيضاً: لولا عيون من الواشين ترمقني ... وما أحاذره من قول حراس لزرتكم لأكافيكم لجفونكم ... شيئاً على الوجه أو سعياً على الرأس ومما مدح به قول الشاعر: بغيتك في محل ينجيك من ردى ... يروعك في ذرع بروقك في برد جمال واجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى، كالمزن كالبرق والرعد بمهجته شاد العلى ثم زادها ... بنى مايتا حجاجه أسد وفيها توفي قاضي القضاة الشامي أبو بكر بن محمد الحموي الشافعي، كان من أزهد القضاة وأروعهم وأتقاهم لله وأعرفهم بالمذهب. سمع ببغداد من طائفة، وولي القضاء بعد أبي عبد الله الدامغاني، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري، ولم يأخذ على القضاء رزقاً، ولا غير ملبسه. قال أبو علي بن سكرة: كان يقال لو رفع المذهب أمكنه أن يملأه من صدره. وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة أبو عبد الله الحميد: محمد بن أبي نصر الأندلسي، مؤلف الجمع بين الصحيحين. كان أحد أوعية العلم، صحب ابن حزم الظاهري بالأندلس، وابن عبد البر، ورحل، وسمع بالقيروان والحجاز ومصر والشام والعراق، وكتب عن خلق كثير، وكان كثير الاطلاع، ذكياً فطناً، صيتاً ورعاً، أخبارياً متقناً، مغرماً في تحصيل العلم، كثير التصانيف، حجة ثقة، ظاهري المذهب، وله جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس

سنة تسع وثمانين وأربعمائة

وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: كتاب العلل: وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الدارقطني، وكتاب المؤتلف والمختلف: وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر بن ماكول (، وكتاب وفيات الشيوخ: وليس فيه كتاب. قال: وقد كنت أردت أن أجمع فيه كتاباً، فقيل لي: رتبه على حروف المعجم، بعد أن رتبته على السنين، قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه صحيحان إلى أن مات. وقال ابن طرخان المذكور: أنشدنا أبو عبد الله الحميدي المذكور لنفسه: لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال ؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة تسع وثمانين وأربعمائة؟؟ فيها توفي أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني الكرخي ثم البغدادي، وكان صالحاً زاهداً منقبضاً عن الناس، ثقة حسن السيرة. وفيها توفي عبد الملك بن سراج الأموي مولاهم القرطبي، لغوي الأندلس. وفيها توفي أبو أحمد القاسم بن المظفر الهشرزاري، والد قاضي الخافقين، كان حاكماً بمدينة إربل مدة، وبمدينة سنجار أيضاً مدة. وكان من أولاده وحفدته علماء نجباء كرماء، نالوا المراتب العالية، وتقدموا عند الملوك، وتحكموا وقضوا، ونفقت أسواقهم. ومما أنشد: همتي دونها السها والزبانا ... قد علمت جهدها، فما ابتدانا ونسب الإمام السمعاني في ذيل تاريخ بغداد هذا القول إلى ولده المعروف بقاضي الخافقين خلاف ما ذكره أبو البركات بن المستوفي في تاريخ إربل من نسبه إلى والده القاسم المذكور. وذكر السمعاني أن قاضي الخافقين اشتغل بالعلم على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله ولي القضاء بعدة بلاد، ورحل إلى العراق وخراسان والجبال، وسمع الحديث الكثير، وسمع منه السمعاني، وإنما قيل له قاضي الخافقين لكثرة البلاد التي وليها

سنة تسعين واربع مائة

، والشهرزوري نسبة إلى شهرزور: بلدة كبيرة من أعمال إربل، قيل: فيها مات الإسكندر ذو القرنين عند عوده من بلاد المشرق. وحكى الخطيب في تاريخ بغداد أن الإسكندر جعل مدائن كسرى دار إقامته، ولم يزل بها إلى أن توفي، فحمل تابوته إلى الإسكندرية، لأن أمه كانت مقيمة هناك، فدفن عندها والله أعلم. قلت: يعني أن موضع إقامته كان في الموضع الذي خلقه فيه كسرى. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ مفيد بغداد: محمد بن أحمد المعروف بابن الخاضبة. روى عن أبي بكر الخطيب وغيره، ورحل إلى الشام، وسمع من طائفة، وكان محبباً إلى الناس كلهم، لدينه وتواضعه، ومروءته، ومسارعته في قضاء حوائج الناس، مع الصدق والورع، والصيانة التامة وطيب القراءة قال ابن طاهر: ما كان في الدنيا أحد أحسن قراءة منه، وقال غيره: ما رأيت في المحدثين أقوم باللغة من ابن الخاضبة. وفيها توفي الإمام العلامة أبو المظفر السمعاني: منصور بن محمد التميمي المروزي الحنفي ثم الشافعي، شرع على والده منصور في المذهب، وسمع أبا غانم الكراعي وطائفة، وكان إمام عصره بلا مدافعة، أقر له بذلك الموافق والمخالف، وكان حنفي المذهب، متعيناً عند أئمتهم، فلما حج ظهر له بالحجاز ما اقتضى انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلما عاد إلى مرو، لقي بسبب انتقاله محناً وتعصباً عظيماً، فعبر على ذلك، فصار إماماً للشافعية بعد ذلك، يدرس ويفتي. وصنف في مذهب الشافعي وغيره من العلوم تصانيف كثيرة، منها منهاج أهل السنة والانتصار والرد على القدرية وغيرها، وصنف في الأصول والقواطع. وفي الخلاف والبرهان يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية. والأوسط والاصطلام رد فيه على أبي زيد الدبوسي، وأجابه من الأسرار التي جمعها، وله تفسير القرآن العزيز كتاب نفيس. وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها فأحسن، وله وعظ مشهور بالجودة. والسمعاني نسبة إلى سمعان بفتح السين المهملة وهو بطن من تميم، وقيل: يجوز بكسر السين أيضاً. سنة تسعين واربع مائة فيها قتل الأرسلان ابن السلطان وألب أرسلان السلجوقي. وفيها التقى الأخوان

دقاق ورضوان ابنا تتش بقنسرين، فانكسر دقاق، ونهب عسكره، ثم تصالحا على أن يقدم أخاه في الخطبة بدمشق. وفيها أقام رضوان بحلب دعوة العبيديين، وخطب للمستعلي الباطني، ثم بعد أشهر أنكر عليه صاحب أنطاكية وغيره، فأعاد الخطبة العباسية. وفيها توفي أبو يعلى أحمد بن محمد البصري الفقيه المعروف بابن الصواف شيخ مالكية العراق، وله تسعون سنة، وكان علامة زاهداً مجداً في العبادة، عارفاً بالحديث. قال بعضهم: كان إماماً في عشرة أنواع من العلوم. توفي في رمضان. وفيها توفي أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس، رئيس همدان ومحدثها. سمع من محمد بن أحمد بن حمدويه الطوسي، وروى عنه الإمام أبو زرعة. وفيها توفي الفقيه الإمام، العالي المقام، الصالح المشهور، مفتي الأنام، الفقيه الزاهد، الورع العابد، ذو المناقب العديدة، والسيرة الحميدة أبو الفتح شيخ الشافعية بالشام نصر بن ابراهيم المقدسي النابلسي، صاحب التصانيف، قال علماء التاريخ: كان إماماً علامة، مفتياً محدثاً، حافظاً زاهداً، متبتلاً ورعاً، كثير القدر عديم النظير. قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: درس العلم ببيت المقدس، ثم انتقل إلى صور، فأقام بها عشر سنين ينشر العلم، مع كثرة المخالفين له من الرافضة، ثم انتقل منها إلى دمشق، فأقام بها سبع سنين يحدث، ويدرس، ويفتي على طريقة واحدة من الزهد في الدنيا والتنزه عن الدنايا، والجري على منهاج السلف من التقشف وتجنب السلاطين، ورفض الطمع، والاجتزاء باليسير، مما يصل إليه من غلة أرض كانت له، يأتيه منها ما يقتاته، فيخبز له كل ليلة قرصة بجانب الكانون، ولا يقبل من أحد شيئاً. قال وسمعت من يحكي أن تاج الدولة ابن ألب أرسلان زاره يوماً، فلم يقم له، وسأله عن أجل الأموال التي يتصرف بها السلطان، فقال: أجلها أموال الجزية، وخرج من عنده فأرسل إليه بمبلغ من المال، وقال: هذا من مال الجزية، ففرقه على الأصحاب، فلم يقبله، وقال: لا حاجة بنا إليه. فلما ذهب الرسول لامه بعض الفقهاء، وقال: قد علمت حاجتنا إليه، فلو كنت قبلته، وفرقته فينا، فقال له: لا تجزع من فوته، فسوف يأتيك من الدنيا ما

سنة إحدى وتسعين وأربع مائة

يكفيك. فكان كما تفرس فيه. قال وسمعت بعض من صحبه يقول: لو كان الفقيه أبو الفتح في السلف لم يقصر درجته عن واحد منهم، لكنهم فاقوه بالسبق. وكانت أوقاته كلها مستغرقة في عمل الخير، إما في نشر علم، وإما في إصلاح عمل. قال: وحكى بعض أهل العلم أنه قال: صحبت إمام الحرمين أبا المعالي الجويني بخراسان، ثم قدمت العراق، وصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة أبي المعالي، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح، فكانت طريقته أحسن من طريقيتهما جميعاً. توفي بدمشق في السنة المذكورة يوم عاشوراء، وكان عمره نيف علي ثمانين سنة رحمة الله عليه. سنة إحدى وتسعين وأربع مائة في جمادى الأولى: فيها ملكت الفرنج أنطاكية بالسيف، ونجا صاحبها في ثلاثين فارساً، ثم ندم حتى غشي عليه من الغم، فأركبوه، فلم يتماسك، فتركوه وتنحوا فعرفه أرمني حطاب، فقطع رأسه، وحمله إلى ملك الفرنج، وعظم المصاب على المسلمين برواح أنطاكية، وأخذت الفرنج المعرة بالسيف، ثم تجامع عساكر الجزيرة والشام فعملوا مع الفرنج مصافاً، فتجادلوا، وهزمتهم الفرنج. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن عبد الغفار الأصبهاني رحمه الله. وفيها توفي أبو الفوارس طراد بن محمد بن علي النقيب الهاشمي العباسي، نقيب النقباء ومسند العراق. روى عن جماعة، وأملى مجالس كثيرة، وازدحموا عليه، ورحلوا إليه. وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة. وفيها توفي أبو الحسن الكرخي مكي بن منصور، الرئيس السلار نائب الكرخ معتمدها، وكان محمود السيرة وافر الحشمة. سنة اثنتين وتسعين واربع مائة فيها انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان وأعمالها، وقويت شوكتهم، وأخذت الفرنج

سنة ثلاث وتسعين واربع مائة

الملاعين فيها بيت المقدس بكرة الجمعة لسبع بقين من شعبان بعد حصار شهر ونصف. قال ابن الأثير: قتلت الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً. وفيها ابتداء دولة محمد بن السلطان ملك شاه، طلع شهماً شجاعاً مهيباً، فتسارعت إليه العساكر، فسار إلى الري فتملكها. وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد البغدادي اليوسفي. كان جليل القدر، روى عن ابن شاذان وطبقته. وفيها توفي أبو القاسم الخليلي أحمد بن محمد الدهقان رحمه الله. وفيها توفي أبو تراب المراغي عبد الباقي بن يوسف. قال السمعاني: كان عديم النظير في فنه، بهي المنظر، سليم النفس، عاملاً بعلمه نفاعاً للخلق، فقيه النفس، قوي الحفظ، تفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري، وسمع أبا علي بن شاذان. وفيها توفي الخلعي القاضي أبو الحسين المصري الفقيه الشافعي. سمع من طائفة، وانتهى إليه علم الاسناد بمصر. قال ابن سكرة: فقيه له تصانيف، ولي القضاء، وحكم يوماً، واستعفى، وانزوى في القرافة. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم مكي بن عبد السلام المقدسي، أحد من استشهد بالقدس، رحل، وجمع، واجتهد في هذا الشأن. سنة ثلاث وتسعين واربع مائة فيها التقى المسلمون مع الفرنج بقرب ملطية وانكسر الفرنج، وأسر ملكه، ولم يفلت منهم سوى ثلاثة آلاف، هربوا في الليل، وكانوا ثلاثمائة ألف. وفيها توفي الشيخ الحافظ المحدث عبد الملك بن محمد اليمني اليافعي. رحل وسمع من جماعة كبار في مكة وعدن وجبال اليمن. وروى كتاب الرسالة للشافعي، ومختصر المزني، والدقائق لابن المبارك، وكان شيخاً فاضلاً ورعاً زاهداً، يقال إنه سأله بعض أهل بغداد الانتقال إليه ليقرأ عليه، وبذل له في ذلك مالاً، فامتنع، وكتب إليه بقصيدة مفتتحها.

سنة أربع وتسعين وأربعمائة

منزلي منزل رحيب أنيق ... فيه لي من فواكه الصيف سويق قلت يحتمل أنه أراد الفواكه المعنوية، إشارة إلى أنواع العلوم ونشرها في بلده على وجه الاستعارة، كما قلت في استعارة الفاكهات للأحوال والمقامات. ويثمر خوخ الخوف في روضة الرضا ... وإجاص إخلاص وتين التوكل وأرطاب حب قد جنتها يد الهوى ... وأعناب السواق بها القلب ممتل ورمان إجلال وتفاح هيبة ... وموز الحيامبدي رجاء السفرجل جنان جنان عارف لمعارف ... جنى من جناها كل دان مذلل فيا طرف قلب عش برؤياك طرفة ... ويا نفس أحلى نفيس له كلي واليافعي نسبة إلى يافع بن زيد بن مالك بن زيد بن مالك بن رعين، بطن من حمير. قال الإمام أبو سعد السمعاني في كتاب الأنساب: ومنهم راشد بن جندل اليافعي، روى عن حبيب بن أوس، روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وفيها توفي الإمام النحوي اللغوي صاحب التصانيف سليمان بن عبد الله بن الفتى النهرواني. صنف كتاب القانون في اللغة عشر مجلدات، وكتاباً في التفسير، وتخرج به أهل أصبهان، ودرس ولده الحسن في النظامية. وفيها توفي أبو الفضل عبد القاهر بن عبد السلام العباسي النقيب المقرىء المالكي. سنة أربع وتسعين وأربعمائة فيها كثرت الباطنية بالعراق والجبل وزعيمهم الحسن بن صباح تملكوا القلاع وقطعوا السبيل، وأهم الناس شأنهم لاشتغال أولاد ملك شاه بنفوسهم ومقاتلة بعضهم بعضاً. وفيها أخذت الفرنج بلداناً بالشام، منها سروج وقيسارية بالسيف وأرسوف بالأمان. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن علي بن الفضل بن طاهر بن الفرات الدمشقي. وفيها توفي الفقيه الإمام شيخ الشافعية بخراسان أبو الفرج البزاز بالزاي المكررة قبل الألف وبعدها عبد الرحمن السرخسي ثم المروزي، تلميذ القاضي حسين. وكان يضرب به المثل في حفظ المذهب والورع.

وعبد الواحد ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري، وكان صالحاً عالماً كثير الفضل. روى عن جماعة، وسماعه من الطرازي حضوراً. وفيها توفي القاضي أبو المعالي شيخ الوعاظ بالعراق، مؤلف كتاب مصارع العشاق عزيز بن عبد الملك شيذلة الجيلي. كان فقيهاً شافعياً، فاضلاً واعظاً ماهراً، فصيح اللسان حلو العبارة، كثير المحفوظات صنف في الفقه وأصول الدين والوعظ والمحبة، وجمع كثيراً من أشعار العرب، وتولى القضاء ببغداد، وسمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، كان أشعري المذهب وناصراً له. قال ابن خلكان: ومن كلامه يعني في المحبة: إنما قيل لموسى عليه السلام: لن تراني، لأنه لما قيل له: انظر إلى الجبل، نظر إليه فقيل: يا طالب؛ انظر إلينا لما تنظر إلى ما سوانا. ثم أنشد. يا مدع بمقالة صدق المودة والإخا ... لوكنت تصدق في المحبة مانظرت إلى سوى انتهى قلت وكلامه هذا الذي حكاه ابن خلكان لا يليق بالكليم الوجيه ابن عمران. إنما يليق بغيره ممن في محبته نقصان، كما في حكاية الجارية المشهورة التي قالت لمدعي محبتها: ورائي من هو أحسن مني، فلما التفت قالت: لوكنت صادقاً في هوانا ... لما التفت إلى سوانا وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلا يحسن هذا في حقهم، بل لايجوز، فإن منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أرفع من أن يناله شين ولا ملام، وأنما يحسن في غيرهم إذا ادعى الحب والغرام. وعجبت من ابن خلكان كيف يحكي مثل هذا في حق موسى عليه السلام، ولا ينكره على قائله. وقال أبو المعالي المذكور: أنشدني والدي عند خروجه من بغداد للحج. مددت إلى التوديع كفاً ضعيفة ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي فلا كان هذا العهد آخر عهدنا ... ولا كان ذا التوديع آخر زادي توفي رحمه الله يوم الجمعة، ودفن محاذياً للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعزيز: بفتح العين المهملة وزايان بينهما مثناة من تحت ساكنة. وشيذلة بفتح الشين والذال المعجمتين، وبينهما مثناة من تحت ساكنة. قال ابن خلكان: ولا أعرف معنى هذا اللقب مع كثرة كشفي عنه.

سنة خمس وتسعين واربع مائة

سنة خمس وتسعين واربع مائة فيها توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله العبيدي، صاحب مصر، وفي أيامه انقطعت، دولته من الشام، واستولى عليه أتراك وفرنج، فأخذوا البيت المقدس وقتل فيه من المسلمين خلق كثير، وقتل في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً وأخذوا من عند الصخرة من أواني الذهب والفضة ما لا يضبطه الوصف، ولم يكن للمستعلي مع الأفضل حل ولا ربط، بل كان الأفضل أمير الجيوش هو الكل. وفي أيامه هرب أخوه نزار الذي تنسب إليه الدعوة النزارية بقلعة الألموت، فدخل الإسكندرية، وبايعه أهلها، وساعده القاضي ابن عمار ومتوليها، فنازلهم الأفضل مرة بعد أخرى، حتى ظفر بهم، ورجع، فذبح متولي الإسكندرية، وبنى على نزار حائطاً، فهلك. وفيها توفي شيخ الأطباء بالعراق سعيد بن هبة الله، صاحب التصانيف في الفلسفة والطب والمنطق. وفيها توفي عبد الواحد بن عبد الرحمن الزبيري الفقيه. قال السمعاني: عمر مائة وثلاثين سنة. سنة ست وتسعين واربع مائة فيها سار دقاق صاحب دمشق، فأخذ الرحبة، وتسلم حمص بعد موت صاحبها. وفيها توفي مقرىء العراق أبو طاهر أحمد بن علي، صنف المستنير في القراءات، كان ثقة محموداً، أقرأ خلقاً. وسمع الكثير عن ابن غيلان وطبقته. وفيها توفي مقرىء الأندلس أبو داود سليمان بن نجاح الأندلسي، مولى المؤيد بالله الأموي، وفيها توفي أبو البركات محمد بن المنكدر الكرخي المؤدب. روى عن عبد الملك ابن بشران. وفيها توفي أبو الحجاج يوسف بن سليمان، المعروف بالأعلم النحوي، رحل إلى قرطبة، وأقام بها مدة، وأخذ الأدب عن جماعة، وكان عالماً بالعربية واللغة ومعاني

سبع وتسعين واربع مائة

الأشعار، حافظاً لها، كثير العناية بها، حسن الضبط لها، مشهوراً بمعرفتها وإتقانها، أخذ الناس عنه كثيراً، وكانت الرحلة في وقته إليه، وقد أخذ عنه أبو علي الحسين بن محمد الغساني الجياني. وشرح كتاب الجمل للزجاجي، وشرح أبياته في كتاب مفرد، وكف بصره في آخر عمره، وإنما قيل له: الأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا، ومن كان هكذا يقال له أعلم، فإن كان مشقوق الشفة السفلى قيل له: أفلح بالفاء والحاء المهملة بينهما لام وكان غيره: العباسي الفارسي المشهور بالشجاعة، يلقب الفلحاء لفلحة كانت به. وإنما ذهبوا به إلى تأنيث الشفة، كأنهم يعنون به صاحب الشفة الفلحاء، وكان سهيل بن عمرو القرشي رضي الله تعالى عنه أعلم، فلما أسر يوم بدر قال عمر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعني أنزع ثنيته، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال عليه السلام: دعه، فعسى أن يقوم مقاماً تحمده، وكان من الخطباء الفصحاء، وهو الذي أبرم صلح الحديبية على يديه، ثم أسلم، وحسن إسلامه، ثم قام هو لما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بمكة، وسكن الناس، ومنعهم من الاختلاف بعد تشتت أمر الإسلام، وارتداد جماعة من العرب، وكان مقامه حينئذ لتثبيت الناس هو المقام المحمود، وإنما قال عمر رضي الله عنه فلا يقوم عليك خطيباً: لأنه إذا كان مشقوق الشفة العليا، ونزعت ثنيته تعذر عليه الكلام إلا بمشقة سبع وتسعين واربع مائة فيها نازلت الفرنج حران، فالتقاهم سقمان، ومعه عشرة آلاف، فانهزموا، وتبعهم الفرنج فرسخين، ثم نزل النصر وكر المسلمون، فقتلوهم كيف شاؤوا. وكان فتحاً عظيماً. وفيها توفي أحمد بن علي المعروف بابن زهر الصوفي البغدادي وفيها توفي القدوة الواعظ الزاهد اسماعيل بن علي النيسابوري، وفيها توفي شمس الملك ابن تاج الدولة السلجوقي. وكان مسجوناً ببعلبك، فذهب بجهله إلى صاحب القدس لكي ينصره، فلم يلو عليه، فتوجه إلى الشرق، فهلك. وفيها توفي أبو مكتوم عيسى ابن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي، ثم السروي الحجازي. روى عن أبيه صحيح البخاري. وفيها توفي مفتي الأندلس ومسندها محمد بن الفرج القرطبي المالكي، كان رأساً في العلم والعمل، قوالاً بالحق، رحل إليه الناس من الأقطار لسماع الموطأ والمدونة.

سنة ثمان وتسعين واربع مائة

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة ثمان وتسعين واربع مائة فيها توفي الحافظ أبو علي أحمد بن محمد البغدادي البوارني، كان بصيراً بالحديث محققاً حجة. وفيها توفي أبو عبد الله الطبري الحسين بن علي، الفقيه الشافعي محدث مكة. روى صحيح مسلم عن عبد الغافر، وكان فقيهاً مفتياً. تفقه على ناصر بن الحسين العمري. قال الذهبي: وجرت له فتن وخطوب مع هياج بن عبيد وأهل السنة بمكة، وكان عارفاً بمذهب الأشعري، انتهى كلامه. قلت: اسمعوا هذا الكلام العجيب، كيف جعل أهل السنة هم المخالفون لمذهب الأشعري؟ وهذا مما يدلك على اعتقاده لمذهب الظاهرية الحشوية، مع دلائل أخرى متفرقة في كتابه. وفيها توفي الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني بالجيم والمثناة من تحت وبعد الألف نون الغساني الأندلسي، أحد أركان الحديث بقرطبة. روى عن ابن عبد البر وجماعة من طبقته. وكان كامل الأدوات في الحديث، علامة في اللغة ولشعر والنسب، وحسن التصنيف. وفيها توفي سقمان التركماني، صاحب ماردين وجد ملوكها. كان أميراً جليلاً، صالحاً فارساً موصوفاً، حضر عدة حروب. وفيها توفي محمد بن عبد السلام أبو الفضل الأنصاري البزاز البغدادي. كان جليلاً صالحاً. روى عن البرقاني وابن شاذان. سنة تسع وتسعين واربع مائة فيها ظهر بنهاوند رجل ادعى النبوة، وكان ساحراً صاحب مخاريق، فتبعه: خلق كثير، وكثرت عليهم الأموال، وكان لا يدخر شيئاً، فأخذ، وقتل قاتلة الله تعالى. وفيها توفي أخو نظام الملك، عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي. والعبد الصالح الزاهد القانت لله، أحد القراء ببغداد أبو منصور الخياط: محمد بن أحمد البغدادي قال ابن ناصر: كانت له كرامات. وفيها توفي أبو البقاء الحبال المعمر بن محمد الكوفي.

سنة خمس مائة

سنة خمس مائة فيها غزا السلطان محمد ابن ملك شاه الباطنية، وأخذ قلعتهم بأصبهان، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك. وكان قد تملكها اثنتي عشرة سنة، وهي من بناء ملك شاه، بناها على رأس جبل، وغرم عليها ألف ألف دينار. وفيها توفي عالم أهل طوس: العلأمة أبو المظفز الخوافي بفتح الخاء المعجمة وقبل الألف واو وبعدها فاء نسبة إلى ناحية من نواحي نيسابور، كثيرة القرى الفقيه الشافعي، كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين حتى صار أوحد تلامذته، ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهوراً بين العلماء بحسن المناظرة وإقحام الخصوم، وكان رفيق أبي حامد الغزالي. رزق الغزالي السعادة في تصانيفه، والخوافي في مناظراته. وفيها توفي جعفر بن أحمد البغدادي المقرىء السراج الأديب. روى عن ابن شاذان وجماعة، وكان ثقة بارعاً أخبارياً، علامة كثير الشعر، حسن التصانيف. وفيها توفي أبو الحسين بن الطيوري المبارك بن عبد الجبار. قال ابن السمعاني: كان مكثراً صالحاً، أميناً صدوقاً، صحيح الأصول رصيناً وقوراً، كثير الكتابة. وفيها توفي أبو الكرم، المبارك بن فاخر الدباس، الأديب من كبار أئمة اللغة والنحو ببغداد، وله مصنفات. روى عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأخذ العربية عن عبد الواحد ابن برهان بفتح الموحدة النحوي. وفيها توفي حافظ عصره وعلامة زمانه: أبو محمد جعفر بن أحمد المعروف بابن السراج القارىء البغدادي، صاحب التصانيف العجيبة، منها: كتاب مصارع العشاق وغيره، حدث عن أبي علي بن شاذان، وأبي الفتح بن شاهين، والخلال وغيرهم. وأخذ عنه خلق كثير، وله شعر حسن، منه قوله: وعدت بأن تزوري كل شهر ... فزوري قد تقضى الشهر، زوري وشقى بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمى شهرزور وأشهر هجرك المحتوم صدق ... ولكن شهر وصلك شهر زور

قلت وقد أبدى في الثلاثة الأبيات صنعة حسنة من الجناس، فالقافية الأولى مركبة من الشهر والأمر لها بالزيارة، والثانية اسم البلد المعروف، والثالثة إضافة شهر إلى زور: أي الشهر الموعود فيه بوصلك، شهر كذب، ولكن القافية الوسطى مشتملة على الإقواء الذي هو من جملة عيوب القافية، لأن إعرابه على وفق العربية النصب، لكونه مفعولاً ثانياً، على وزن قولك: مشيت إلى الرجل المسمى زيداً، والقافية التي قبلها، والتي بعدها مخفوضتان بالأمر للمؤنثة، والأخيرة بإضافة شهر إليها، لكني قد وجهت للقافية الوسطى في دفع الإقواء المعاب وجهاً من وجوه الإعراب، وهو أن يقال: المراد بالمسمى: السمو، أي: الرفع، كما قال قبله المعلى، ويكون قوله بعده شهر زور مخفوضاً، بدلاً من البلد المخفوض بإلى، ولو قال: إلى البلد المروي، أو المشرق لسلم من الإقواء. ومن جلالة جعفر المذكور أن أبا طاهر السلفي كان يفتخر رويته، مع كونه لقي أعيان ذلك الزمان، وأخذ عنهم. وفيها وقيل في ثلاث وتسعين توفي يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، سلطان المغرب أبو يعقوب البربري الملثم. كان أكبر ملوك الدنيا في عصره ودولته بضعاً وثلاثين سنة، وكان رجلاً شجاعاً عادلاً عديم الرفاهية، تشيب العيش على قاعدة البربر، اختط مراكش، وأنشأها في برج صغير، وصيرها دار الإمارة، وكثرت جيوشه، وبعد صيته، وتملك الأندلس، ودانت له الأمم. وفي آخر أيامه بعث رسولاً إلى العراق يطلب عهداً من المستظهر بالله، فبعث له بالخلع والتقليد واللواء، فأقيمت الخطبة العباسية بممالكه، وكان يميل إلى أهل العلم والدين، ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام. ومن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى آخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجة ابن تاشفين المذكور وكانت من أحسن النساء ولها حكم في بلاده فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل للذي تمنى الاستعمال، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل؛ ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إليها، فأنزلته في خيمة ثلاثة أيام، تحمل إليه كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته، وقالت له: ما أكلت في هذه الأيام؟ قال: طعاماً واحداً، قالت: كذلك كل النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة، وأطلقته. قلت: وقد سمعت ما يناسب هذا عن بعض ملوك الهند، حكي أنه خرج ملك من

ملوك الهند في بعض الليالي متنكراً ليسمع ما يقول الناس في بلاده، فرأى ثلاثة جلوساً، فدنا منهم، فإذا بهم يتمنى كل واحد منهم شيئاً. فقال أحدهم: أتمنى أن أكون ملكاً، وقال آخر: أتمنى زوجة الملك أتزوجها، وقال الثالث: أتمنى فرساً وسيفاً ولباساً للحرب، لأجاهد في سبيل الله، فلما أصبح الملك، استدعي بهم، فلما حضروا أعطى الذي تمنى الجهاد فرساً جواداً، وسيفاً ماضياً ولباساً حصيناً، وقال: هذا ما تمنيت. وأجلس الذي تمنى الملك في مكان، وفوق رأسه سيف مسلول معلق بشيء واه، فبقي خائفاً يلتفت إلى السي. فقال له: أراك تلتفت؟ فقال: أخاف من هذا السيف، فقال: ما تطلب بالملك؟ فإن الملك لا يزال خائفاً مثلك الآن، وأمر بطعام وإدام من جنس واحد، ملون بألوان مختلفة، فأحضر ذلك، وأمر الذي تمنى زوجته أن يأكل من تلك الألوان، ففعل، فقال له: كيف رأيت ألوانه؟ قال: مختلفة، قال: فكيف طعمه؟ قال: واحد، قال: فكذلك النساء، انتهى معنى الحكاية. قلت: ومثل هذا المقال إنما هو مدافعة وتساهل في التمثيل، وليس المثل كالمثل، فإن اللذات بالنساء تتفاوت بحسب تفاوت جمالهن، وتفاوت منصبهن وشرفهن، وذلك معروف لا يمكن جحده. ولهذا يقول الرسول - عليه السلام: " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ". فمدحه بذلك، وبين فضله بمخالفة هواه مع شدة ميل الطبع، وقوة الشهوة المتصفة بهذه الصفة. رجعنا إلى ذكر ابن تاشفين، وقال بعضهم: كان يوسف بن تاشفين مقدم جيش أبي بكر بن عمر الصنهاجي، وكان أبو بكر المذكور قد حاصر سجلماسة، وقاتل أهلها أشد القتال، حتى أخذها، ثم رتب عليها يوسف بن تاشفين، وكان من أمره ما كان، وأول ذلك أن البرير خرج عليهم من جنوب المغرب الملثمون يتقدمهم أبو بكر بن عمر الصنهاجي، وكان رجلاً ساذجاً خير الطباع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب، غير ميال إلى الرفاهية، وكانت ولاة المغرب ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان موضعها مكمناً للصوص، ثم تملك الأندلس بعد وقائع يطول ذكرها، وصار ملكاً للعرب الملثمين. وكان قد ظهر لأبطال الملثمين ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات بالرماح تنظم الكلاء، وكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المبتدئين لقتالهم، وسموا ملثمين: لأنهم كانوا يلثمون، ولا يكشفون وجوههم. وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا، فيطرقون الحي، ويأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشائخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية، ويقعدوا لهم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو، وظنوا أنهم النساء، خرجوا عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف، وقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر. وقال الشيخ الحافظ عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير: وقيل إن سبب اللثام أن طائفة منهم خرجوا. مغيرين على عدوهم، فخلفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الشيوخ والصبيان. فلما تحقق الشيوخ مجيء العدو لهم، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويلثمن حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعل ذلك، وتقدم الشيوخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو ورأى جمعاً عظيماً، وظنوا رجالاً، وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، فالرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبيناهم في جميع النعم من المراعي، إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو كثيراً، وكان من قبل النساء لهم أكثر. فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة، ولازموا ذلك، فلا يعرف الشيخ من الشاب. ومما قيل في اللثام: ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان

موضعها مكمناً للصوص، ثم تملك الأندلس بعد وقائع يطول ذكرها، وصار ملكاً للعرب الملثمين. وكان قد ظهر لأبطال الملثمين ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات بالرماح تنظم الكلاء، وكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المبتدئين لقتالهم، وسموا ملثمين: لأنهم كانوا يلثمون، ولا يكشفون وجوههم. وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا، فيطرقون الحي، ويأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشائخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية، ويقعدوا لهم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو، وظنوا أنهم النساء، خرجوا عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف، وقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر. وقال الشيخ الحافظ عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير: وقيل إن سبب اللثام أن طائفة منهم خرجوا. مغيرين على عدوهم، فخلفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الشيوخ والصبيان. فلما تحقق الشيوخ مجيء العدو لهم، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويلثمن حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعل ذلك، وتقدم الشيوخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو ورأى جمعاً عظيماً، وظنوا رجالاً، وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، فالرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبيناهم في جميع النعم من المراعي، إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو كثيراً، وكان من قبل النساء لهم أكثر. فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة، ولازموا ذلك، فلا يعرف الشيخ من الشاب. ومما قيل في اللثام: قوم لهم درك العلى في حمير ... وإن أنتم صنهاجة فهم هم لما حووا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا ولما حضرت الوفاة يوسف بن تاشفين عهد بالأمر من بعده إلى ابنه علي الذي خرج عليه ابن تومرت بفتح المثناة من فوق وسكون الواو وفتح الميم والراء وسكون المثناة في آخره. وفيها أو بعدها توفي الإمام العلامة الفقيه الفرضي إسحاق بن يوسف بن ابراهيم بن يعقوب بن عبد الصمد الصروفي، مصئص كتاب الكافي في الفرائض. تفقه بجعفر بن عبد الرحمن، وإسحاق العشاري. وكان علامة في المواريث والحساب، وكتابه دال على علمه،

ويقال إن أصله من المعافر، وسكن الصروف، وصنف الكافي فاستغنى به أهل زمانه عن الكتب القديمة في المواريث. قلت وكتابه المذكور مبارك واضح بكثرة الأمثلة، انتفع به خلق كثير - وخصوصاً من أهل اليمن - ويقال إنه لما أظهر في بعض البلاد الشاسعة ابتاع بوزنه فضة، وأرى أن مثله في الانتفاع والبركة والإيضاح بكثرة الأمثلة كتاب الجمل في النحو للزجاجي. وسمعت من بعض شيوخنا يحكي عن بعض العلماء في بعض الآفاق أنه قال: ما بلغت فضيلة في أحد من أهل اليمن إلا في اثنين: صاحب الكافي في الفرائض، وصاحب كتاب البيان في الفقه. قلت: لا شك أن هذين الكتابين اشتهرا في قديم الزمان، وشاعا في البلدان، فلهذا قيل ذلك المقال. ولبعض المتأخرين من أهل اليمن أيضاً تصانيف، منها: شرح المهذب للإمام الكبير الولي الشهير اسماعيل بن محمد الحضرمي، ومنها شرح التنبيه لابن أخته الفقيه العلامة القاضي جمال الدين ومنها شرح الوسيط للفقيه الإمام المالكي أبي شكيل في بضعة عشر مجلداً، وغالب فضائل أهل اليمن إنما هي بالصلاح والأوصاف الملاح، ويكفي دليلاً على فضلهم ودينهم قوله - عليه الصلاة والسلام - " الأيمان يمان والحكمة يمانية ". رجعنا إلى ذكر الإمام الصروفي في ذكر ابن سمرة أنه كان له ابنتان، تزوج إحديهما - وهي تسمى ملكة - الفقيه الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي، فأولدها بنتاً اسمها هندة، هي أم محمد بن سالم الإمام بجامع ذي شرف، ولذلك صارت كتب الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي بأيديهم، لأنه لم يرثه غير أمهم هذه. وتزوج الأخرى إمام مسجد الجند: حسان بن محمد، فاستولدها ولداً، وصار إليه من كتب الفقيه إسحاق شيء. قال الإمام ابن سمرة: وأخبرني الفقيه الفاضل عبد الله بن محمد بن سالم بمنزله بذي باشرق، عن شيوخه، عن الشيخ إسحاق الصروفي، أنه كان يقرأ عليه رجل من الجن ساحت الخلق، فلما كان ذات يوم أتاهم رجل محنش وهو الذي يلزم الحنشات والحيات بيده فلا تضره - فقال الجني للشيخ إسحاق: أتمثل لهذا ثعباناً، وانظر ما يكون منه، فكره الشيخ ذلك منه، فلم يقبل منه، فتصور الجني ثعباناً، فعزم الراقي عليه حتى حصل في

سنة احدى وخمس مائة

جونته، فطلب الشيخ منه أن يطلقه، فتعسر عليه ساعة، فأطلقه من جونته، فغاب ومكث خمسة عشر يوماً، فعاد إلى الشيخ وفيه آثار من نار، فسأله عن ذلك فقال: إنه لما عزم علي أردت أن أخرج، فكانت نار تلفحني من كل جهة، ولا أرى موضعاً خالياً من النار، فدخلتها كارهاً فهذه الآثار من تلك النار. سنة احدى وخمس مائة فيها كانت وقعة كبيرة بالعراق بين سيف الدولة صدقة بن منصور أمير العرب وبين السلطان محمد، فقتل صدقة في المصاف. وفيها كان الحصار على صور وطرابلس والشام في ضرمع الفرنج. وفيها توفي أبو علي تميم بن معز ابن السلطان أبي يحيى الحميري الصنهاجي، ملك إفريقية وما والاها بعد أبيه، وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً للفضلاء مقصداً للشعراء، كامل الشجاعة وافر الهيبة، عاش تسعاً وتسعين سنة، وكانت دولته ستاً وخمسين سنة، وخلف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات ستين - على ما ذكر ابن شداد في تاريخ القيروان - وتملك بعده ابنه يحيى، وفيه يقول أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني: أصح وأقوى ما سمعناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم ولتميم المذكور أشعار حسنة منها قوله: سل المطر العام لذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذيى فاض من دمعي؟ إذا كنت مطبوعاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر، فأجعله طبعي؟ وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطايا الجزيلة الهنيئة، وفي أيام ولايته أخذ المهدي محمد بن تومرت إفريقية عند عوده من بلاد الشرق، وأظهر بها الإنكار على من رآه خارجاً عن سنن الشريعة، ومن هناك توجه إلى مراكش، وكان منه ما كان، على ما سيأتي قريباً، وكان قد فوض إلى تميم المذكور أبوه في حياته ولاية المهدية، ولم يزل بها إلى أن توفي والده، فاستبد بالملك، ولم يزل كذلك إلى أن توفي. وفيها توفي صدقة بن منصور مقتولاً كما تقدم، وذلك يوم الجمعة، سلخ جمادى

سنة اثنتين وخمس مائة

الآخرة. وقتل معه ثلاثة آلاف فارس، وكان شيعياً، له محاسن ومكارم وحلم وجود، ملك العرب بعد أبيه اثنتين وعشرين سنة، وكان ذا بأس وسطوة وهيبة، نافر السلطان محمد ابن ملك شاه السلجوقي، واقتضت الحال الحرب بينهما، إلى أن قتل في المعركة في التاريخ المذكور، وحمل رأسه إلى بغداد، وكانت إمارة أبيه سبعاً وستين سنة. وفي السنة المذكورة توفي الرجل الصالح أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الصوفي الدوني، راوي السنن عن أبي نصر الكسار، وكان زاهداً عابداً سفياني المذهب. وفيها توفي أبو الفرج القزويني محمد ابن العلامة أبي حاتم محمود بن أحمد بن الحسن الأنصاري، وكان فقيهاً صالحاً وفيها توفي أبو سعد الأسدي محمد بن عبد الملك البغدادي المؤدب. سنة اثنتين وخمس مائة فيها حاصر جاولي بالجيم، الموصل - وبها زنكي - فأنجده صاحب الروم أرسلان، ففر جاولي، ودخل أرسلان الموصل، وحلفوا له، ثم التقى جاولي وأرسلان في ذي القعدة، فحمل أرسلان بنفسه، وضرب يد حامل العلم فأبانها، ثم ضرب جاولي بالسيف، فقطع السيف بعض لبوسه، وحمل أصحاب جاولي على الروميين فهزموهم، وبقي أرسلان في الوسط، فهز فرسه، ودخل نهر الخابور، فدخل به الفرس في ماء عميق، فغرق وطفا بعد أيام، فدفن، وساق جاولي، فأخذ الموصل، فظلم وغشم. وفيها تزوج المستظهر بالله بأخت السلطان محمد. وفيها ظهرت الإسماعيلية بالشام، ثم خذلت، وأخذتهم السيوف، فلم ينج منهم أحد. وفيها قتلت الباطنية الاسماعيلية بهمذان قاضي القضاة عبيد الله بن علي الخطيبي. وفيها قتلت بأصبهان يوم عيد الفطر أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري. وفيها قتلت النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة.

وفيها قتلت بجامع آمد يوم الجمعة في شهر الله المحرم فخر الإسلام القاضي أبا المحاسن عبد الواحد بن اسماعيل بن أحمد الروياني الفقيه الإمام، الشافعي مذهباً أحد الرؤوس الأكابر في أيامه، شيخ الشافعية فروعاً وأصولاً وخلافاً، صاحب التصانيف السنية، سمع الشيخ أبا الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي، وأبا عبيد الله محمد بن بيان الكازروني، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وروى عنه زاهر بن طاهر الشحامي وغيره. وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة، وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له بكمال فضله، رحل إلى بخارى، ودخل غزنة، ونيسابور، ولقي الفضلاء، وحضر مجلس ناصر المروزي، وعلق عنه الحديث، وبنى بآمل طبرستان مدرسة، ثم انتقل إلى الري، ودرس بها، وقدم أصبهان، وأملأ بجامعها، وصنف الكتب المفيدة منها: بحر المذهب، هو من أطول كتب الشافعية، وكتاب الكافي، وكتاب حيلة المؤمن، وصنف في الأصول والخلاف. ونقل عنه أنه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري، ذكره الحافظ أبو محمد عبد الله بن يوسف القاضي في طبقات أئمة الشافعي، وأثنى عليه. وذكره الحافظ يحيى بن منده، فأثنى عليه، وروى الحديث عن خلق كثير في بلاد متفزقة. وقال الحافظ أبو طاهر السلفي: بلغنا أن أبا المحاسن الرؤياني أملى بمدينة آمل، وقتل بعد فراغه من الإملاء بسبب التعصب في الدين. وذكر الحافظ أبو سعد السمعاني أنه قتل في الجامع يوم الجمعة - الحادي عشر من المحرم - من السنة المذكورة، قتله الملاحمة، وقال بعضهم: عاش سبعاً وثمانين سنة. وعظم الخطب بهؤلاء الملحدين، وخافهم كل أمير وعالم بهجومهم على الناس. وفي السنة المذكورة توفي أبو القاسم الربعي علي بن الحسين الفقيه الشافعي المعتزلي ببغداد، قلت: يعنون أنه شافعي الفروع، معتزلي الأصول، كما قيل إن جار الله الزمخشري حنفي الفررع معتزلي الأصول، وأشباه ذلك كثر، يكون أحدهم فروعي مذهب آخر. وفيها توفي أبو زكريا التبريزي الخطيب صاحب اللغة يحيى بن علي بن محمد الشيباني، صاحب التصانيف، أخذ اللغة عن أبي العلاء المعري، وسمع من سليمان بن أيوب بصور، وكان شيخ بغداد في الادب. وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي وجماعة، وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر وغيره من أعيان الأئمة، وتخرج عنه خلق كثير، وتلمذوا له، وصنف في الأدب كتباً مفيدة، منها شرح

سنة ثلاث وخمس مائة

الحماسة وشرح ديوان المتنبي وشرح المعلقات السبع، وله تهذيب غريب الحديث وتهذيب إصلاح المنطق ومقدمات حسنة في النحو، وكتاب الكافي في علم العروض والقوافي، وشرح سقط الزند للمعري، وله الملخص في إعراب القرآن في أربع مجلدات، ودرس الأدب في حنش نظامية بغداد، ودخل مصر، فقرأ عليه ابن بابشاذ شيئاً من اللغة. وفيها توفي محمد بن عبد الكريم بن حشيش البغدادي رحمه الله تعالى. سنة ثلاث وخمس مائة في ذي الحجة منها أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سبع سنين، وكان المدد يأتيها من مصر في البحر. وفيها أخذوا بانياس. وفيها أخذ صاحب أنطاكية طرطوس وحصن الأكراد. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن المظفر بن سوسن رحمه الله. وفيها توفي الحافظ أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الرواسي، طوف خراسان والعراق والشام ومصر، وكتب عن الصابوني وطبقته. وفيها توفي أبو سعد المطرز بن محمد الأصبهاني في نيف وتسعين سنة، سمع الحسين ابن ابراهيم وأبا علي غلام محسن وغيرهما، وهو أكبر شيخ للحافظ أبي موسى المديني، سمع منه حضوراً. سنة أربع وخمس مائة فيها أخذت الفرنج بيروت بالسيف، ثم أخذوا صيدا بالأمان، وأخذ صاحب أنطاكية بعض الحصون، وعظم المصاب، وتوجه خلق كثير من المطوعة يستصرخون الدولة ببغداد على الجهاد، واستغاثوا، وكسروا منبر جامع السلطان، وكثر الضجيج، فشرع السلطان في أهبة الغزو.

وفيها توفي أبو الحسين الخشاب يحيى بن علي بن الفرج المصري، شيخ الإقراء با لروايات. وفيها توفي اسماعيل بن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، ثم النيسابوري. وأبو يعلى حمزة بن محمد بن علي البغدادي أخو طراد الزينبي. وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الفقيه الشافعي، المعروف بألكيا، بكسر الكاف وفتح المثناة من تحت والتخفيف وبعدها ألف، وهي في اللغة العجمية الكبير القدر المقدم بين الناس، كان من أهل طبرستان، فخرج إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مدة إلى أن برع، وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام، وخرج من نيسابور إلى بيهق، ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق، وتولى التدريس بالنظامية ببغداد إلى أن توفي. ذكره الحافظ عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي وقال: كان من درس معيداً إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي حامد الغزالي، بل أرجح منه في الصوت والمنظر، ثم اتصل بخدمة الملك بركيا روق - بالموحدة قبل الراء والمثناة من تحت بين الكاف والراء مكررة قبل الكاف والواو ابن ملك شاه السلجوقي، وحظي عنده بالمال والجاه، وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان يستعمل الأحاديث في ميادين الكفاح إذا طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح. قال الحافظ أبو طاهر السلفي: استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكيا، وقد جرى بيني وبين الفقهاء كلام في المدرسة النظامية - ما يقول الإمام - وفقه الله تعالى - في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل يدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ فكتب الشيخ تحت السؤال: نعم، كيف لا؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيامة فقيهاً عالماً " انتهى. قلت الظاهر - والله أعلم إنه محمول على ما إذا عرف معنى الحديث وأحكامه، وإلا فلا يدخل في الوصية، وقد وقفت بعد قولي هذا على ما يؤيده - والحمد لله تعالى - وهو ما نص عليه الإمام الرافعي، وقرره الإمام النووي في الروضة، قال: فيما إذا أوصي للعلماء لا يدخل فيهم الذين يسمعون الحديث، ولا علم لهم بطرقه، ولا بأسماء الرواة، ولا بالمتون، فإن السماع المجرد ليس بعلم. توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس مستهل السنة المذكورة، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن

الدامغاني، وكانا مقدمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما مناقشة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أبو الحسن الدامغاني متمثلا: وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس وأنشد الزينبي متمثلاً: عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم وكان في خدمته بالمدرسة النظامية ابراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور، فرثاه بأبيات منها قوله: هي الحوادث لا تبقي ولا تذر ... ما للبرية عن محتومها وزر لو كان ينجي علو من بوائقها ... لم تكسف الشمس، بل لم يخسف القمر قل للجبان الذي أمسى على حنر ... من الحمام متى رد الردى الحدر؟ بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت ... بأدمع قل في تشبيهها المطر حبر عهدناه طلق الوجه مبتسماً ... والبشر أحسن ما يلقى به البشر لئن طوته المنايا تحت أخمصها ... فعلمه الجم في الآفاق منتشر أخا ابن إدريس كنت تورده ... تحار في نظمه الأذهان والفكر وكان قد سئل في حياته عن يزيد بن معاوية، فقدح فيه، وشطح، وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة، وكتب: لو مددت بياض لمددت العنان في مجازي هذا الرجل، وقال: هذا الإنسان، وكتب: فلان ابن فلان. قال ابن خلكان: وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد، هل يحكم بفسقه، أم هل يكون ذلك مرخصاً فيه؟ وهل كان مريداً قتل الحسين رضي الله تعالى عنه أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم عليه، أم السكوت أفضل أنعم بإزالة الاشتباه مثاباً؟ فأجاب: لا بجوز لعن مسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " المسلم ليس بلعان " لما وكيف يجوز لعن مسلم، ولا يجوز لعن البهائم؟ - وقد ورد النهي عن ذلك - وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله للحسين، ولا أمره به، وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وقد قال الله

سنة خمس وخمس مائة

تعالى: " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " - الحجرات 12 - وقال النبي صل الله عليه وآله وسلم: " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن ". ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين رضي الله تعالى ورضي به - فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره، لو أراد أحد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله، ومن الذي رضي به، ومن الذي - وإن كرهه لم يقدر على ذلك كان قد قتل بجواره وزمانه، وهو يشاهده، فكيف يعلم ذلك فيما أنقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ فهذا لا يعرف حقيقته أصلا، وإذا لم تعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وربما مات القاتل بعد التوبة، ولو جاز لعن أحد، فسكت عن ذلك، لم يكن الساكت عاصياً، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة؛ لم لم تلعن إبليس؟ وأما الترحم عليه فإنه جائز، بل مستحب، إذ هو داخل في قوله: اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله أعلم. - كتبه الغزالي -. قلت: ينبغي أن يوضح الأمر في ذلك ويفصل، وهو أنه لا يخلو: إما أن يعلم أنه أمر بقتله، فلا يخلو، إما أن يكون معتقداً جله، أولا، فإن استحله فقد كفر، وإن أمر به ولى يستحله فقد فسق، فليس القتل مقتضياً للكفر، إلا إذا كان قتلاً لنبي، وإن لم يعلم أنه أمر بقتله فلا يجوز أن يفسق بمجرد ظن ذلك والله أعلم. سنة خمس وخمس مائة فيها جاءت عساكر العراق والجزيرة لغزو الفرنج، فنازلوا الرها، فلم يقدروا، ثم ساروا وقطعوا الفرات، ونازلوا بعض بلاد الفرنج خمسة وأربعين يوماً، فلم يصنعوا شيئاً، واتفق موت مقدمهم واختلافهم، فردوا، وطمعت الفرنج في المسلمين، وتجمعوا، فحاصروا صور مدة طويلة. وفيها كانت ملحمة كبيرة بالأندلس بين ابن تاشفين وبعض ملوك الفرنج، وانتصر المسلمون، وأسروا وقتلوا، وغنموا مالاً يعبر عنه، وذلت الفرنج. وفيها توفي أبو محمد الآبنوسي عبد الله بن علي البغدادي المحدث، سمع من أبي القاسم التنوخي والجوهري.

وفيها توفي أبو الحسن بن العلاف علي بن محمد البغدادي الحاجب، مسند العراق. وفيها توفي الإمام حجة الإسلام زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي، أحد الأئمة الأعلام، اشتغل في مبدأ أمره بطوس، على أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور، واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وجد في الاشتغال حتى تخزج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشاهير المشار إليهم في زمن أساتذتهم، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجح به، ولم يزل ملازماً إلى أن توفي في التاريخ المذكور في ترجمته، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك، فأكرمه، وعظمه، وبالغ في الإقبال عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس، وظهر عليهم، واشتهر اسمه، وسارت بذكره الركبان، ثم فوض إليه الوزير تدريس مدرسته - النظامية - بمدينة بغداد، فجاءها، وباشر إلقاء الدروس بها، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وأربعمائة. فعجب به أهل العراق، وارتفعت عندهم منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه، وسلك طريق الزهد والانقطاع، وقصد الحج. وذكر في الشذور أنه خرج من بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة متوجهاً إلى بيت المقدس، متزهداً لابساً خشن الثياب، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم ذكره في سنة خمس وخمس مائة. فلما رجع توجه إلى الشام، فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع - في الجانب الغربي منه - وانتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهدة والمواضع المنظمة، ثم قصد مصر، وأقام بالاسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فبينا هو كذلك بلغه نعي يوسف المذكور، فصرف عنانه من تلك الناحية، ثم عاد إلى وطنه بطوس. قلت هذه الزيادة في ذكر دخوله مصر والإسكندرية، وقصده الركوب إلى ملك بلاد المغرب غير صحيحة، فلم يذكر أبو حامد في كتابه: المنقذ من الضلال - سوى إقامته ببيت المقدس ودمشق، ثم حج ورجع إلى بلاده والعجب كل العجب، كيف يذكر أنه قصد الملك المذكور لأرب - وهو من الملوك والمملكة هرب - فقد كان له في بغداد الجاه الوسيع، والمقام الرفيع، فاحتال في الخروج عن ذلك، وتعلل بأنه إلى الحج سالك لأداء ما عليه من فروض المناسك، ثم عدل إلى الشام، وأقام بها ما أقام وكذا علماء التاريخ الحفاظ الأكابر ومنهم الإمام الجليل أبو القاسم ابن عساكر - لم يذكر هذه الزيادة التي تنافي رفع همته عن المقاصد الدنية، لإعراضه عن الدنيا والخلق بالكلية، ولما عاد إلى الوطن اشتغل

بنفسه، وآثر الخلوة، وصنف الكتب المفيدة في الفنون العديدة. ومن مشهورات مصنفاته: الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة في الفقه، ومنها إحياء العلوم: وهو من أنفس الكتب وأجملها. وله في أصول الفقه: المستصفى والمنخول والمنتحل في علم الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر ومعيار العلم، والمقاصد، والمظنون به على غير أهله، ومشكاة الأنوار والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وكتاب ياقوت التأويل في تفسير التنزيل أربعين مجلداً، وكتاب أسرار علم الدين، وكتاب منهاج العابدين، والدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، وكتاب الأنيس في الوحدة، وكتاب القربة إلى الله عز وجل، وكتاب اختلاف الأبرار والنجاة من الأشرار، وكتاب بداية الهداية، وكتاب جواهر القرآن، والأربعين في أصول الدين، وكتاب المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب ميزان العمل، وكتاب القسطاس المستقيم، وكتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة، وكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكتاب المنادى والغايات، وكتاب كيمياء السعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره: لسعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره: أبا حامد أنت المخصص بالحمد ... وأنت الذي علمتنا سنن الرشد وضعت لنا الإحياء يحيي نفوسنا ... وينقذنا من طاعة المارد المردي فربع عبادات وعاداتها التي ... تعاقبها كالدر نظم في العقد وثالثها في المهلكات وإنه ... لمنج من الهلك المبرح بل بعدي ورابعها في المنجيات وإنه ... ليسرح بالأرواح في جنة الخلد ومنها ابتهاج للجوارح ظاهر ... ومنها صلاح للقلوب من البعد وكتبه كثيرة، وكلها نافعة، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاها للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسه أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه هذا

ما ذكره بعض علماء التاريخ. قلت: وكان رضي الله تعالى عنه رفيع المقام، شهد له بالصديقية إلأولياء الكرام، وهو الحبر الذي باهى به المصطفى سيد الأنام موسى وعيسى - عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام - في المنام الذي رويناها بإسنادنا العالي عن الشيخ الإمام القطب أبي الحسن الشاذلي والذي أنتشر فضله في الآفاق. وتميز بكثرة التصانيف وحسنها على العلمماء، وبرع في الذكاء وحسن العبارة وسهولتها، وأبدع، خى صار إفحام الفرق عنده أسهل من شرب الماء. قال الشيخ الإمام الحافظ ذو المناقب والمفاخر السيد الجليل أبو الحسن عبد الغافر الفارسي: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين، إمام أئمة الدين، لم تر العيون مثله لساناً وبياتاً ونطقاً وخاطراً وذكاء وطبعاً، ابتدأ في صباه بطرف في الفقه في طوس، على الفقيه الإمام أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس، وجد واجتهد حتى تخرج عن مدة قريبة، وصار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، فكانت الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم، ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام - مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في المنطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً، لإنافته عليه في سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف - وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر - ولكنه يظهر التبحح به والاعتداد بمكانه ظاهر أخلاق ما يضمره. ويقال على ما ذكره بعض المؤرخين أنه لما صنف كتابه المنخول، عرضه على إمام الحرمين فقال: دفنتني وأنا حي، فهلا صبرت إلى أن أموت؟ لأن كتابك غطى على كتابي. هكذا نقل عن إمام الحرمين - والله أعلم مع كونه بالمحل للذي شهد له بفضله الجملة من أفراد الأئمة، من ذلك ما تقدم عن الإمام السمعاني أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعاني الجويني - رحمة الله عليهم أجمعين -، وما تقدم من وصفه بإمام الأئمة على الإطلاق، وغير ذلك مما اشتهر من وصفه بالفضائل، وبراعته في العلوم في الآفاق، ثم بقي كذلك إلى أن انقضى أيام الإمام، فخرج من نيسابور، وسار إلى العسكر، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه الصاحب لعلو درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة محط رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك

بالأئمة وملاقاة الخصوم ومناظرة الفحول ومناقدة الكبار، وظهر اسمه في الآفاق، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد للتدريس بالمدرسه الميمونة النظامية بها، فصار إليها، وأعجب الكل تدريسه ومناظرته، وما لقي مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق، ثم نظر في علم الأصول - وكان قد أحكمه - فصنف فيه، وجدد المذهب في الفقه، فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف، فحرر فيه أيضاً تصانيف، وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كادت تغلب حشمة الأكابر وأمراء دار الخلافة، فانقلب الأمر من وجه آخر، وظهر عليه بعد ممارسة العلوم الدقيقة، وممارسة الكتب المصنفة فيها، وسلك طريق التزهد والتألة، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة، ولازم الاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة، فخرج عما كان فيه، وقصد بيت الله تعالى، وحج ودخل الشام، وأقام في تلك الديار قريباً من عشر سنين، يطوف ويزور المشهد المعظمة. قلت: هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقد قدمت في فساد ذلك من البيان ما يدل فيه على البطلان، والمعروف الذي نص عليه أبو حامد في بعض كتبه أنه أقام في الشام سنتين، نعم، ذكروا أنه أقام بعد رجوعه في العزلة والخلوات، وترك الاشتغال والمخالطات قريباً من عثسرسنين. قال الشيخ عبد الغفار: وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها، مثل إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة مثل الأربعين وغيرها من الرسائل التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم، وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل، فانقلب شيطان الرعونة وكلب الرئاسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والتزينات والتزيي بزي الصالحين، وقصر الأمل ووقف الأوقات، أو قال: الأوقاف على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم في أمر الآخرة وتبغيض الدنيا، والاشتغال بها على السالكين، والاستعداد للرحيل للدار الآخرة الباقية، والانقياد لكل من يتوسم فيه، أو يشم منه رائحة المعرفة، أو يلحظ بشيء من أنوار المشاهدة، حتى مرن على ذلك ولان، ثم عاد الى وطنه ملازماً بيته، مشتغلاً بالتفكر، ملازماً للوقت مقصوداً تقياً، وذخراً للقلوب ولكل من يقصده، ويدخل عليه إلى أن أتى على ذلك مدة، وظهرت التصانيف، وفشت الكتب، ولم تبد في أيامه مناقضة لما كان عليه، ولا اعتراض لأحد على ما آثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى الأجل فخر الملك جمال الشهداء تغمده الله

بغفرانه -، وتزينت خراسان بحشمته ودولته، وقد سمع وتحقق بمكانة الغزالي ودرجته، وكمال فضله وجلالته، وصفاء عقيدته ومعاشرته وقفاء سيرته، فتبرك به وحضره، وسمع كلامه، فاستدعى منه أن لا يبقي أنفاسه وفوائده عقيمة لا استفادة منها، ولا اقتباس من أنوارها، وألح عليه كل الإلحاح، وشدد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج، وخرج إلى نيسابور، وكان الليث غائباً عن عرينه، والأمر خافياً في مستور قضاء الله ومكنونه، فأشير إليه بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية وغيرها، فلم يجد بداً من الإذعان للولاة، ونوى بإظهار ما اشتغل به هداية السراة وإفادة القاصدين، لا الرجوع إلى ما انخلع عنه، وتحرز عن رقه من طلب الجاه ومماراة الأقران، ومكاثرة المعاندين وكم فرع عصا الخلاف فيه، والوقوع فيه والطعن فيما يذره ويأتيه، والسماية به والتشنيع عليه، فما تأثر به، ولا اشتغل بجواب الطاعنين، ولا أظهر استيحاشاً لغمرة المخالفين، قال: ولقد زرته مراراً، وما كنت أحدث في نفسي مما عهدته في سالف الزمان عليه من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون. من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون. وحكي لنا في ليل كيفية أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوك طريق التأله وغلبت الحال عليه بعد تبحره في العلوم واستطالته على الكل بكلامه، والإستعداد بالذي خصه الله تعالى به في تحصيل العلوم، وتمكنه من البحث والنظر حتى تنزه عن الاشتغال بالعلوم العربية عن المقالة، وتفكر في العاقبة وما يجدي وينفع في الآخرة، فابتدأ بصحبة الفارمذ، وأخذ مفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل، واستدامة الإذكار والجد والاجتهاد، طلباً للنجاة، إلى أن جاز تلك العقابات، وتكلف تلك المشاق وما يحصل على، ما كان يطلبه من مقصوده، ثم حكى أنه راجع العلوم وخاض في الفنون، وعاود الجد والاجتهاد في كتب العلم الدقيقة، واقتفى بأربابها حتى انفتح له أبوابها، وبقي مدة في الوقائع، وتكافؤ الأدلة وأطراف المسائل، ثم حكى أنه فتح عليه من باب الخوف باب بحيث شغله عن كل شيء وحمله على الإعراض عما سواه تعالى، حتى سهل ذلك، وهكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموساً وكلف طبعاً وتحققاً، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له، من الله تعالى، ثم

سألناه عن كيفتة الرغبة في الخروج عن بيته، والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور، فقال معتذراً عنه: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة، وقد حق علي أن أبوح بالحق، وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقاً في ذلك، ثم ترك ذلك قبل أن يترك، وعاد إلى بيته، واتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاهاً للصوفية، وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة، إلى أن أصابه عين الزمان ومن الأيام به على أهل عصره، فنقله الله تعالى إلى كريم جواره من بعد مقاسات أنواع من التقصد والمناوأة من الخصوم، والسعي به إلى الملوك، وكفاية الله تعالى وحفظه وصيانته عن أن تنوشه أيدي النكبات، أو ينتهك ستر دينه بشيء من الزلات. وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين: البخاري والمسلم اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن في يسير من الأيام يستفزعه في تحصيله، ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية، واشتغل في آخر عمره بسماعها، ولم تتفق له الرواية، وما خلف من الكتب المصنفة في الأصول والفروع وسائر الأنواع يخلد ذكره، ويقرر عند المطالعين المنصفين المستفيدين منها أنه لم يخلق مثله بعده، ومضي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، خصه الله تعالى بأنواع الكرامة في آخرته، كما خصه بفنون العلم بدنياه بمنة ورحمته. وقلت إلى شيء من ذكر ارتفاع مناقبه وبحر علوم كتبه - أشرت - والانتفاع في بعض القصيدات بقولي في هذه الأبيات: وأحيا علوم الدين طالعه ينتفع ... ببحر علوم المستنير المحصل أبي حامد الغزال غزل مدقق ... من الغزل لم يغزل كذاك بمغزل دعي حجة الإسلام لا شك أنه ... لذلك كفؤ كامل للتأهل له في منامي قلت: إنك حجة ... لإسلامنا لي قال: ما شئت لي قل وقلت في أخرى: بناكم وجير من بناء قواعد ... وجمع معان واختصار مطول وكم من بسيط في جلاء نفائس ... وإيضاح إيجاز وحل لمشكل وكم ذي اقتصار مودع رب قاطع ... لإفحام خصم مثل ماض به اعتل بكف همام ذب عن منهج الهدى ... بحرب نصال لا يرى غير أول كمثل الفتى الحبر المباهي بفضله ... فعنى بغزال العلى وتغزل

به المصطفى باهي لعيسى ابن مريم ... جيليل العطايا والكليم المفضل أعندكما حبر كهذا فقيل: لا ... وناهيك في هذا الفخار المؤثل رآه الولي الشاذلي في منامه ... وترويه عنه من طريق مسلسل تصانيفه فاقت بنفع وكثرة ... وحلة حسن كم بها لعزيز قل وكم حجة الإسلام حاز فضيلة ... وكم حلة حسناتها فضله جلي بها جاهل مع حاسد طاعن فذا ... تعامى وعنها ذاك أعمى قد ابتلي وما ضر سلمى ذم عالي جمالها ... ومنظرها الباهي ومنطقها الحلي لئن ذمها جاراتها ونضائر ... وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي فما سلمت حسناء عن ذم حاسد ... وصاحب حق من عداوة مبطل ولم يعقب إلا البنات، وكان يعرض عليه الأموال فما يقبلها، ويعرض عنها، ويكتفي بالقدر الذي يصون له دينه، ولا يحتاج معه إلى التعرض لسؤال. قال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر - رحمة الله عليه -: سمعت الإمام الفقيه أبا القاسم سعد بن علي بن أبي هريرة الاسفرائيني الصوفي الشافعي بدمشق قال: سمعت الشيخ الإمام الأوحد زين القراء جمال الحرم أبا الفتح عامر بن بحام بن أبي عامر الساوي بمكة - رحمه الله تعالى - يقول: دخلت المسجد الحرام يوم الأحد فيما بين صلاة الظهر والعصر الرابع عشر عن شوال سنة خمس وأربعين وخمسمائة - وذكر شيئاً ظهر عليه من الوجد وأحوال الفقراء - قال: فكنت لا أقدر أن أقف، ولا أجلس لشدة ما بي، فكنت أطلب موضعاً أستريح فيه ساعة على جنبي، فرأيت باب بيت الجماعة للرباط الراسي عند باب المروة مفتوحاً، قلت: يعني في جهة الباب المسمى في الحديث الحزور، قال: فقصدته، ودخلت فيه، وقعت على جنبي الأيمن بحذاء الكعبة المشرفة مفترشاً يدي تحت خدي، لكيلا يأخذني النوم، فينقض طهارتي، فإذا برجل من أهل البدعة معروف بها، جاء ونشر مصلاه على باب ذلك البيت، وأخرج لوحاً من جيبه أظنه كان من الحجر، وعليه كتابة، فقبله ووضعهه بين يديه، وصلى صلاة طويلة مرسلاً يديه فيها على عادتهم، وكان يسجد على ذلك اللوح في كل مرة، فإذا فرغ من صلاته سجد عليه وأطال فيه، وكان يمعك خده من الجانبين عليه، ويتضرع في الدعاء ثم رفع رأسه وقبله ووضعه على عينيه، ثم قبله ثانياًوأدخله في جيبه كما كان.

فلما رأيت ذلك كرهته، واستوحشت منه، وقلت في نفسي؛ ليت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حياً فيما بيننا، ليخبرهم بسوء صنيعهم، وما هم عليه من البدعة ومع هذا التفكر كنت أطرد النوم عن نفسي كيلا يأخذني فيفسد طهارتي، فبينا أنا كذلك إذ طرأ علي النعاس وغلبني، فكنت بين اليقظة والمنام، فرأيت عرصة واسعة فيها ناس كثيرون واقفون، وفي يد كل واحد منهم كتاب مجلد، قد تحلقوا كلهم على شخص، فسألت الناس عن حالهم، وعمن في الحلقة فقالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهؤلا أصحاب المذهب، يريدون أن يقرؤوا مذاهبهم واعتقادهم من كتبهم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصححوها عليه، قال: فبينا أنا كذلك أنظر إلى القوم، إذ جاء واحد من أهل الحلقة - وبيده كتاب - قيل إن هذا هو الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فدخل وسط الحلقة، وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرأيت رسول الله - صلى الله على وآله وسلم - في جماله وكماله لابساً الثياب البيض النظيفة، من العمامة والقميص وسائر الثياب على زي أهل الصوف، فرد عليه الجواب، ورحب به، وقعد الشافعي بين يديه، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، وجاء بعد ذلك شخص آخر قيل هو الإمام الأعظم أبو حنيفة الكوفي - رضي الله تعالى عنه - وبيده كتاب، فسلم وقعد يمين الشافعي، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، ثم أتى بعده كل صاحب مذهب إلى أن لم يبق إلا القليل، وكل من يقرأ يقعد بجنب الآخر. فلما فرغوا، إذا واحد من المبتدعة الملقبة بالرافضة - لعنهم الله - قد جاء وبيده كراريس غير مجلدة، وفيها ذكر عقائدهم الباطلة، وهم أن يدخل الحلقة، ويقرأها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فخرج واحد ممن كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وزجره، وأخذ الكراريس من يده، ورمى بها إلى خارج الحلقة وطرده، وأهانه. قال: فلما رأيت أن القوم قد فرغوا، وما بقي أحد يقرأ عليه شيئاً تقدمت قليلاً - وكان في يدي كتاب مجلد - فناديت وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؟ فقال - عليه السلام -: وإيش ذلك؟ قلت: يا رسول الله، هو قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي، فأذن لي في القراءة، فقعدت وابتدأت: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب قواعد العقائد، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام. وذكر أنه قرأ العقيدة المذكورة إلى أن انتهى إلى قول الإمام أبي حامد: معنى الكلمة الثانية: وهي شهادة الرسول، وأنه - تعالى - بعث النبي الأمي القرشي محمد - صلى الله عليه

وآله وسلم - إلى كافة العرب والعجم والجن والأنس، قالى: فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والتبسم في وجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى إذا انتهيت إلى نعته وصفته التفت إلي وقال: أين - الغزالي؟ فإذا بالغزالي كأنه كان واقفاً على الحلقة بين يديه، فقال: ها أنا ذا، يا رسول الله، وتقدم، وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرد عليه الجواب، وناوله يده العزيزة والغزالي يقبل يده المباركة، ويضع خديه عليها تبركاً وبيده العزيزة المباركة، ثم قعد وقال: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر استبشاراً بقراءة أحد، مثلما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد. ثم انتبهت من النوم وعلى عيني أثر الدمع مما رأيت من تلك الأحوال والكرامات -، فإنها كانت نعمة جسيمة من الله تعالى - سيما في آخر الزمان مع كثرة الأهواء - فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على عقيدة أهل الحق، ويحيينا عليها، ويميتنا عليها، ويحشرنا معهم، ومع الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فإنه بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير والغزالي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف لام. قال ابن خلكان: هذه النسبة إلى الغزال على عادة أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار القصاري، إلى العطار والعطاري، وقيل إن الزاي مخففة نسبة إلى غزالة، وهي قرية من قرى طوس، قال: وهو خلاف المشهور، ولكن هكذا قال السمعاني في كتاب الأنساب والله أعلم بالصواب. قلت وفضائل الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي - رضي الله تعالى عنه - أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر. وقد روينا عن الشيخ الفقيه الإمام العارف بالله، رفيع المقام الذي اشتهرت كرامته العظيمة، وترادفت، وقال للشمس يوماً؛ قفي، فوقفت حتى بلغ المنزل الذي يريد من مكان بعيد. عن أبي الذبيح اسماعيل ابن الشيخ الفقيه الإمام ذي المناقب والكرامات والمعارف: محمد بن اسماعيل الحضرمي - قدس الله أرواح الجميع - أنه سأله بعض الطاعنين في الإمام أبي حامد المذكور - رضي الله تعالى عنه - في فتيا أرسل بها إليه: هل يجوز قراءة كتب الغزالي؟ فقال رضي الله عنه في الجواب: إنا لله، وإنا إليه راجعون، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سيد الأنبياء، ومحمد بن إدريس سيد الأئمة، ومحمد بن محمد بن محمد الغزالي سيد المصنفين، هذا جوابه رحمة الله عليه. وقد ذكرت في كتاب الإرشاد أنه سماه سيد المصنفين، لأنه تميز عن المصنفين بكثرة

المصنفات البديعات، وغاص في بحر العلوم، واستخرج عنها الجواهر النفيسات، وسحر العقول يحسن العبارة وملاحة الأمثلة وبداعة الترتيب والتقسيمات والبراعة في الصناعة العجيبة، مع جزالة الألفاظ وبلاغة المعاني الغريبات، والجمع بين علوم الشريعة والحقيقة، والفروع والأصول، والمعقول والمنقول، والتدقيق والتحقيق، والعلم والعمل، وبيان معالم العبادات والعادات، والمهلكات والمنجيات، وأبراز محاسن أسرار المعارف المحجبات العاليات، والانتفاع بكلامه علماً وعملاً لا سيما أرباب الديانات - والدعاء إلى الله سبحانه برفض الدنيا والخلق ومحاربة الشيطان والنفس، بالمجاهدة والرياضيات، وإفحام الفرق أيسر عنلى من شرب الماء: بالبراهين القاطعة، وتوبيخ علماء السوء الراكنين إلى الظلمة والمائلين إلى الدنيا الدنية، أولي الهمم الدنيات، وغير ذلك مما لا يحصى مما جمع في تصانيفه من المحاسن الجميلات والفضائل الجليلات، مما لم يجمعه مصنف - فيما علمنا - ولا يجمعه فيما نظن، ما دامت الأرض والسماوات، فهو سيد المصنفين عند المنصفين، وحجة الإسلام عند أهل الاستسلام لقبول الحق من المحققين في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل: في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل: قل لمن عن فضائله تعامنى ... تعام، لن تعدم الحسناء ذاما هذا بعض كلامه بحروفه، وقال بعض العلماء المالكية والمشايخ العارفين الصوفية، الناس من فضلة علوم الغزالي، معناه: أنهم يستمدون من علومه ومدده، ويستعينون بها على ما هم بصدده، زاده الله تعالى فضلاً ومجداً على رغم الحساد والعدى. قلت وقد اقتصرت على هذا القدر اليسير من محاسنه وفضله الشهير، محتوياً بذكر شيء مما له من الفضل الباهر والجاه والنصيب الوافرة، وشرف المجد والمفاخر، مما روينا بالأسانيد العالية عن السادة الأكابر، أعني: أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعزير

من أنكر عليه ونعم الأمر - حتى إن المنكر ما مات إلا وأثر السوط على جسمه ظاهر بنصر الله عز وجل - ونعم الناصر. وفي السنة المذكورة توفي أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي الملقب بشبل الدولة، كان من أولاد أمراء العرب، فوقعت بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحلته عنهم، ففارقهم، ووصل إلى بغداد، ثم خرج إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك، وصاهره، ولما قتل نظام الملك رثاه ببيتين تقدم ذكرهما في ترجمته، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان، مسترفداً وزيرها مكرم بن العلاء وكان من الأجواد فكتب إلى المستظهر بالله قصته، يلتمس منه الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، يتضمن الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: يا أبا الهيجاء، أبعدت النجع، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، فطريقته في الخير مهي، وما يسر به إليك، فيحلي ثمره سكره، ويستعذب مياه بره، والسلام. فأكتفى أو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب، وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير، واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه، وعرض عليه رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته إجلالاً وتعظيماً لكاتبها، وأوصل لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته، ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده: دعي العيس تذرع عرض الفلا ... إلى ابن العلاء وإلا فلا فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار آخر، ولما كمل إنشاد القصيدة أطلق له ألف دينار آخر، وخلع عليه وقاد إليه جواداً يركبه، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع ومرفوع، وقد دعا لك بسرعة الرجوع، وجهز بجميع ما يحتاج إليه، ورجع إلى بغداد، وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم الفائق الرائق، وبينه بين العلامة أبي القاسم الزمخشري مكاتبات وأشعار، يمدح كل منهما الآخر.

سنة ست وخمس مائة

؟؟؟؟؟ سنة ست وخمس مائة فيها وقيل في التي تليها: توفي أبو غالب أحمد بن محمد الهمداني العدل، وأبو القاسم اسماعيل بن الحسين القريض، والفضل بن محمد القشيري النيسابوري الصوفي، وأبو سعد المعمر بن علي البغدادي، الحنبلي الواعظ المفتي، كان يبكي الحاضرين ويضحكهم، وله قبول زائد وسرعة جواب، وحدة خاطر وسعة دائرة، روى عن ابن غيلان وأبي محمد الجلال. ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ سنة سبع وخمس مائة في المحرم منها التقى عسكر دمشق والجزيرة، وعسكر الفرنج بأرض طبرية وكانت وقعة مشهورة قتلهم المسلمون فيها قتلاً ذريعاً، وأسروهم، وممن أسر ملكهم ابن صاحب القدس، لكن لم يعرف، فبذل شيئاً للذي أسره، فأطلقه، ثم أنجدهم عسكر أنطاكية وطرابلس، ورد المنهزمون، فثبت لهم المسلمون، وانحاز أعداء الله إلى جبل، ورابط الناس بإزائهم يرمونهم، وأقاموا كذلك سبعة وعشرين يوماً، ثم سار المسلمون فنهبوا بلاد الفرنج وضياعهم ما بين القدس إلى عكا، وردت عساكر الموصل، وتخلف مقدمهم مودود بدمشق، وأمر العساكر بالقدوم في الربيع، فوثب على مودود باطني يوم جمعة، فقتله، وقتل الباطني. وفيها توفي أبو بكر الحلواني أحمد بن علي بن بدران، وكان ثقة متعبداً زاهداً، روى عن القاضي أبي الطيب الطبري وطائفة. وفيها توفي رضوان صاحب حلب ابن تاج الدولة السلجوقي، ومنه أخذت الفرنج أنطاكية، وملكوا بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس. وفيها توفي أبو غالب شجاع بن فارس الذهلي السهروردي ثم البغدادي الحافظ، نسخ ما لا ينحصر من التفسير والحديث والفقه لنفسه وللناس، حتى إنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات. وفيها توفي الشاشي المعروف بالمستظهري: فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين شيخ الشافعية، كان فقيه وقته، تفقه أولاً على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني

وعلى القاضي أبي منصور الطوسي صاحب أبي محمد الجويني. ثم رحل إلى بغداد، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رحمه الله وقرأ عليه، وأعاد عنده، وقرأ كتاب الشامل في الفقه على أبي نصر بن الصباغ، ودخل نيسابور صحبة الشيخ أبي إسحاق، وتكلم في مسألة بين يدي إمام الحرمين، فأحسن فيها، وعاد إلى بغداد. وذكر الحافظ عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور: وتعين في الفقه بعد أستاذه أبي إسحاق، وانتهت إليه رئاسة الطائمة الشافعية، وصنف تصانيف حسنة منها: كتاب حلية العلماء في المذهب، ذكر فيه مذهب الشافعي، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك شيئاً كثيراً وسماه: المستظهري، وصنف أيضاً في الخلاف، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق وأبو نصر بن الصباغ صحب الشامل، وأبو سعد المتولي صاحب تتمة الإبانة وأبو حامد الغزالي والكيا الهراسي وقد سبق ذكر ذلك في ترجمه كل واحد منهم فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى بعض المشايخ من علماء المذهب أنه يوماً ذكر المدرسين، فوضع منديله على عينيه، وبكى كثيراً - وهو جالس على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وكان ينشد: خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد وجعل يردد هذا البيت ويبكي، قيل: هذا إنصاف منه، واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه. قلت وقد يقع مثل هذا البكاء ممزوجاً بفرح بما صار إليه، وقد فرق العلماء بين بكاء الحزن والفرح بأن دمعة ذلك حارة، ودمعة هذا باردة، ذكروا ذلك عند بكاء البكر وقت استئذانها في نكاحها. والبيت المذكور من جملة أبيات في الحماسة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ ذو الرحلة الواسعة والتصانيف: محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني كان أحد الرحالين في طلب الحديث، سمع بالحجاز والشام ومصر والثغور والجزيرة والعراق والجبال وفارس، وخوزستان وخراسان واستوطن همذان. وكان من المشهورين بالحفظ والمعرفة لعلوم الحديث، وله في ذلك مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه وجودة معرفته، منها أطراف الكتب الستة: وهي صحيحا البخارى ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وسنن ابن ماجة سادسها عند بضهم والموطأ عند بعض. وأطراف الغرائب: تصنيف الدارقطني، وكتاب الأنساب في

جزء لطيف، وهو الذي ذيله الحافظ أبو موسى الأصبهاني، وغير ذلك من الكتب، وله شعر حسن كتب عنه غير واحد من الحفاظ، ثم رجع إلى بيت المقدس، فأحرم من ثم إلى مكة، وتوفي عند قدومه من الحج آخر حجاته يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. والقيسراني بفتح القاف والسين المهملتين بينهما مثناة من تحت ثم راء مفتوحة وبعد الألف نون نسبة إلى قيسارية: بليدة بالشام على ساحل البحر، سمع بالقدس وبغداد ونيسابور وهراة وأصفهان وشيراز والري ودمشق ومصر. قال الحافظ اسماعيل بن محمد بن الفضل: أحفظ من رأيت: محمد بن طاهر. وقال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت البخاري ومسلماً وسنن أبي داود وابن ماجة سبع مرات. وفيها توفي أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأموي المعاوي اللغوي الشاعر الأخباري النسابه، صاحب التصانيف، والفصاحة والبلاغة، وكان رئيساً عالي الهمة ذا سلف، توفي بأصبهان مسموماً، ومن شعره قوله: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رهبة أو رغبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رجاؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا جناؤها وله تصانيف كثيرة منها: المؤتلف والمختلف، وطبقات كل فن، وما اختلف وائتلف في أنساب العرب، وله في اللغة مصنفات لم يبسق إلى مثلها، وكان حسن السيرة جميل الأمر. وفيها توفي ابن اللبانة محمد بن عيسى اللغوي الأندلسي الأديب، ومن جملة الأدباء وفحول الشعراء، له تصانيف عديدة في الآداب، وكان من شعراء دولة المعتمد بن عباد. وفيها توفي المؤتمن بن أحمد أبو نصر الربعي الحافظ، ويعرف بالساجي حافظ،

سنة ثمان وخمس مائة

محقق واسع الرحلة، كثير الكتابة، متين الورع والديانة، وكتب الشامل عن مؤلفه ابن الصباغ. سنة ثمان وخمس مائة فيها هلك صاحب القدس من جراحة أصابته يوم مصاف طبرية المذكور فيما مضى. وفيها مات أحمد بك صاحب مراغة، وكان شجاعاً جواداً عسكره خمسة آلاف، فنكثت به الباطنية. وفيها توفي أحمد بن غلبون أبو عبد الله الخولاني ثم القرطبي ثم الإشبيلي، وكان صالحاً خيراً عالي الإسناد، منفرداً. وألب أرسلان صاحب حلب، وابن صاحبها رضوان السلجوقي، وكان سيىء السيرة فاسقاً، فقتله البابا، فأقام أخاه مقامه، وكان طفلاً له ست سنين، ثم قتل البابا سنة عشرة. وفيها توفي أبو الوحش سبيع بن مسلم الدمشقي المقرىء الضرير، وكان يقرىء من السحر إلى الظهر. وفيها توفي أبو القاسم علي بن ابراهيم بن العباس الحسني - الدمشقي، الخطيب الرئيس، المحدث صاحب الأجزاء العشرين التي أخرجها له الخطيب، وكان ثقة نبيلاً محتشماً مهيباً، سيداً شريفاً، صاحب حديث وسنة. وفيها توفي السلطان مسعود صاحب الهند وغزنة، وتملك بعد موته ولده أرسلان شاه، وهو ابن عمه السلطان ملك شاه. سنة تسع وخمس مائة فيها قدم عسكر السلطان محمد الشام، فاستعان بالفرنج، فأعانوه، فأخذ

كفرطاب وهي للفرنج وسار إلى المعرة، وساق صاحب أنطاكية وكبس العسكر، وكسرهم، ورجع من سلم منهم منهزمين، واستنصرت الفرنج على المسلمين. وفيها توفي ابن ملة اسماعيل بن محمد الواعظ الأصبهاني المحدث، صاحب المجالس. وفيها توفي أبو شجاع الديلمي الهمداني الحافظ صاحب كتاب الفردوس، وتاريخ همدان. توفي أبو الفرج غيث بن علي الصوري، خطيب صور ومحدثها. والشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح الهاشمي الشاعر المشهور. وأبو البركات السفطي هبة الله بن المبارك البغدادي. ويحيى بن تميم بن المعز السلطان أبو طاهر الحميري صاحب إفريقية، نشر العدل وافتتح عدة قلاع لم يتهيأ لأبيه فتحها، وكان جواداً ممدوحاً عالماً كثير المطالعة للأخبار والسير، عارفاً بها، رحيماً للضعفاء، شفوقاً على الفقراء يطعمهم في الشدائد، ويرفق بهم، ويقرب أهل العلم والفضل من نفسه، وكان عارفاً في صناعة النجوم، حسن الوجه على حاجبه شامة، أشهل العينين. ولما كان يوم الأربعاء وهو عيد الأضحى من السنة المذكورة توفي فجأة، وذلك أن منجمه قال له: السير في موكبك في هذا النهار عليك نحس، لا تركب، فامتنع من الركوب، وخرج أولاده ورجال دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضر رجال الدولة على ما جرت به العادة للسلام، وقرىء القرآن وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الإيوان، فأكل الناس، وقام يحيى إلى مجلس الطعام، فلما وصل إلى باب المجلس أشار إلى جارية من حظاياه فاتكأ عليها، فما خطا من باب البيت سوى ثلاث خطوات حتى وقع ميتاً. وخلف ثلاثين ابناً، فتملك بعده ابنه علي ستة أعوام ومات، فملكوا بعده الحسن بن علي وهو مراهق، فامتدت دولته إلى أن أخذت الفرنج طرابلس الغرب بالسيف سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فخاف وفز من المهدية،. والتجأ إلى عبد المؤمن.

سنة عشرة وخمس مائة

قلت: وهذا العلم وما ندب فيه من الحذر لا يغني عن وقوع ما سبق في علم الله تعالى من القدر. ومن ذلك ما حكي أن بعض الملوك قال له بعض المنجمين: أنت تموت في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية من عقرب تلدغك، فلما كان قبل الساعه المذكورة تجرد من جميع لباسه سوى ما يستر العورة، وركب فرساً بعد أن غسله ونظفه ونفض شعره، ودخل بفرسه في البحر حذراً مما ذكر له من وقوع هذا الأمر، فبينما هو كذلك فأجاءه ما يخشى من المهالك، وذلك أن فرسه عطست فخرجت من أنفها عقرب، فلدغته، ولم يغنه ما رام من الاحتراز والهرب، نسأل الله الكريم كمال الإيمان بنفاذ قدره والتسليم في كل ما جاء به الشارع وروى في خبره. سنة عشرة وخمس مائة فيها توفي أبو الكرم خميس بن علي الواسطي الجوزي الحافظ، وكان عالماً حافظاً شاعراً. وفيها توفي عبد الغفار بن محمد بن حسين النيسابوري مسند خراسان. وفيها توفي الصيرفي صاحب الأصم، قال السمعاني: كان صالحاً عابداً، رحل إليه من البلاد. وفيها توفي العسال أبو الخير المبارك بن الحسين البغدادي المصري الأديب شيخ الإقراء ببغداد. وفيها توفي الخطاب محفوظ بن أحمد الأرحبي شيخ الحنابلة صاحب التصانيف. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن الحسين الدمشقي. وفيها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون الكوفي الحافظ. وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد ابن الحافظ العلامة أبي المظفر منصور بن محمد التميمي المروزي والد الحافظ أبي سعد، كان محمد المذكور إماماً فاضلاً محدثاً فقيهاً شافعياً، وله الإملاء الذى لم يسبق إلى مثله، تكلم على المتون والأسانيد، وأبان مشكلاته، وله عدة تصانيف وشعر غسله قبل موته. سنة احدى عشرة وخمس مائة فيها غرقت سنجار وانهدم سورها، وهلك خلق كثير، وجر السيل باب المدينة مسير مرحلة، فطمه السيل، ثم انكشف بعد سنين، وسلم طفل في سرير تعلق بزيتونة، ثم عاش وكبر.

قلت ومن هذا النمط المذكور والعجائب الواقعة في الدهور ما سمعت أنه جاء السيل في جوف الليل، فحمل قرية - وأهلها نائمون - ورمى بهم في البحر، وفيهم صبية عروس طفت على ظاهر الماء كأنها محمولة على سرير، ولم يتغبر كل ما عليها من الطيب والصنعة والحرير بقدرة اللطيف الخبير الذي هو على كل شيء قدير، فوجدت حية قذفها البحر على الساحل، وما مشى من المحذور إليها واصل. وفيها توفي السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان التركي: غياث الدين أبو شسجاع، وكان فارساً شجاعاً فحلاً، ذا بر ومعروف، وخلف له أربعة أولاد: محمود ومسعود وسليمان وطغرل بك، وقام بعده ابنه محمود وهو أبن أربع عشرة سنة، ففرق الأموال، وقد خلف محمد أحد عشر ألف ألف دينار سوى ما يناسبها من الحواصل. وكان السلطان محمد المذكور لما مات أبوه وقد دخل بغداد، هو وأخوه سنجر، فخلع عليهما الإمام المستظهر بالله، فالتمس محمد المذكور من أمير المؤمنين أن يجلس له ولأخيه فأجيب إلى ذلك، وجلس لهما في قبة التاج، وحضر أرباب المناضب وأبناؤهم، وجلس أمير المؤمنين على سدته، ووقف سيف الدولة ابن مزيد صاحب الحلة عن يمين السدة - وعلى كتفه بردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى رأسه العمامة وبين يديه القضيب، وخلع على محمد الخلع السبع التي جرت عادة السلاطين بها، وألبس الطوق والتاج والسوارين، وعقد له الخليفة اللواء بيده وقلده سيفين، وأعطاه خمسة أفراس براكبها، وخلع على أخيه سنجر خلعة أمثاله، وخطب لمحمد بالسلطنة في جامع بغداد - كما جرى عادتهم في ذلك الزمان - وذلك في خمس وتسعين وأربع مائة على ما ذكر بعضهم، وذكر غير واحد من المؤرخين أنها سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة. وذكر بعضهم أن الإمام أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى قال للسلطان محمد ابن ملك شاه: اعلم يا سلطان العالم، أن بني آدم طائفتان: طائفة عقلاء نظروا إلى مشاهدة حال الدنيا وتمسكوا ابامل العمر الطويل، ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخيرة نصب أعينهم، لينظروا ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم، وما الذي ينزل عن الدنيا إلى قبورهم، وما الذي يتركونه لأعاديهم من بعدهم، ويبقى عليهم وباله ونكاله. ثم إن السلطان محمداً ابن ملك شاه جرت بينه وبين أخيه بركيا روق حروب يطول

ذكرها، وكان قد خطب لأخيه من قبله في بغداد، فقطعت الخطبة له، وخطب لمحمد واستقل بمملكته. ولما مات أخوه ولم يبقى له منازع، وصفت له الدنيا، وأقام على ذلك مدة، ثم مرض زماناً طويلاً، وتوفي في الخميس الرإبع والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة بمدينة أصبهان. ولما أيس من نفسه أحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس. فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك يعني من طريق النجوم - فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة، فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، وتزوج الإمام المقتفي لأمر الله فاطمة بنت السلطان محمد المذكور، فدخلت إلى دار الخلافة بالزفاف، ويقال فيما ذكر لها من المناقب أنه كان لها التدبير الصائب. وفي السنة المذكورة ترحلت العساكر عن حصار الباطنية بالألموت لما بلغهم موت السلطان محمد. وفيها توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد البغدادي راوي سنن الدارقطني، وكان رئيساً وافر الجلالة. وفيها توفي الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ محمد بن إسحاق ابن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني صاحب التاريخ، سمع من البيهقي وطبقته، وقال: السمعاني جليل القدر وافر الفضل، واسع الرواية حافظ كثير التصانيف، بعيد من التكلف، سمع من خلائق، وكتب عنه الشيوخ، منهم القطب الذي خضعت لقدمه رقاب الأولياء الأكابر، شيخ الشيوخ أبو محمد محيي الدين عبد القادر صاحب المقام العالي المعروف بالجيلاني، وجماعة من كبار الشيوخ. وذكره الحافظ السمعاني في كتاب الذيل، وغيره من كبار المؤرخين، وذكروا جلالته في الفضل وكونه من بيت علم بدىء بيحيى وختم بيحيى يريدون في معرفة الحديث والعلم والفضل - وكان يحيى المذكور كثيراً ما ينشد لبعضهم. اً ما ينشد لبعضهم. عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب وفيها توفي مسند العراق أبو علي بن نبهان الكاتب محمد بن سعيد الكرخي. روى عن

سنة اثنتي عشرة وخمس مائة

ابن شاذان وغيره، قال ابن ناصر: فيه تشيع صحيح، بقي قبل موته سنة ملقى على ظهره لا يعقل ولا يفهم، وقال غيره: عاش مائة سنة كاملة، وله شعر وأدب. سنة اثنتي عشرة وخمس مائة في الثالث والعشرين من ربيع الآخر منها توفي الإمام المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله العباسي، وله اثنتان وأربعون سنة، وكانت خلافته خمساً وعشرين سنة، وكان قوي الكتابة جيد الأدب والفضيلة، كريم الأخلاق، مسارعاً في أعمال البر. وفيها توفي أبو الفضل بكر نن محمد الأنصاري الجابري الفقيه، شيخ الحنفية بما وراء النهر، وعالم تلك الديار، ومن كان يضرب به المثل في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه المقلب بشمس الأئمة. وفيها توفي أبو طالب الحسين بن محمد الزينبي المقلب بنور الهدى. وفيها توفي أبو القاسم الأنصاري العلامة سليمان بن ناصر النيسابوري الشافعي المتكلم، تلميذ إمام الحرمين، صاحب التصانيف، كان صوفياً زاهداً من أصحاب الأستاذ أبي القاسم القشيري. روى الحديث عن أبي الحسين عبد الغافر الفارسي وجماعة. سنة ثلاث عشرة وخمس مائة فيها كانت وقعة هائلة بخراسان بين سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد، فانكسر محمود، ثم وقع الاتفاق، وتزوج بابنة سنجر. وتم فيها كانت الفتنة بين صاحب مصر والأمير أتابك أمير الجيوش الأفضل، وتمت لهما خطوب، ودس الأفضل على الأمير من يسمه مراراً، فلم يمكن ذلك. وفيها ظهر قبر ابراهيم الخليل - صلوات الله عليه - وإسحاق ويعقوب - عليهم الصلاة والسلام - ورآهم جماعة لم تبل أجسامهم، وعندهم في تلك المغارة قناديل من ذهب وفضة، ذكره ابن حمزة بن القلانسي - بالنون والشين المعجمة - في تاريخه. وفيها توفي شيخ الحنابلة وصاحب التصانيف ومؤلف كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد علي بن عقيل البغدادي الظفري، وكان إماماً مبرزاً كبير العلوم خارق الذكاء، مكباً على الاشتغال والتصنيف تفقه على القاضي أبي يعلى وغيره، وأخذ علم الكلام عن أبي

سنة أربع عشرة وخمس مائة

علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التيان وغيره، وروى عن أبي محمد الجوهري، قال السلفي: ما رأيت مثله، وما يقدر أحد أن يتكلم معه لغزارة علمه وبلاغة كلامه وقوة حجته. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسين الدامغاني علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الحنفي، ولي القضاء أربعاً وعشرين سنة، وكان ذا حزم ورأي وسؤدد وهيبة وافرة، وديانة ظاهرة. وفيها توفي أبو بكر محمد بن طرخان التركي ثم البغدادي المحدث النحوي، أحد الفضلاء، روى عن أبي جعفر بن المسلمة وطبقته، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق، وكان ينسخ بالأجرة، وفيه زهد وورع تام. وفيها توفي أبو سعد المبارك بن علي، من كبار أئمة المذهب. روى عن القاضي أبي يعلى وجماعة، وتفقه على الشريف أبي جعفر بن أبي موسى. سنة أربع عشرة وخمس مائة فيها كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه مسعود صاحب أذربيجان والموصل، وله يومئذ إحدى عشرة سنة، فلما التقوا انهزم مسعود وأسر وزيره، وفي هذا الوقت كان ظهور ابن تومرت بالمغرب. وفيها قتل في حصن تعز من بلاد اليمن أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري، قتله رجلان من أصحابه، ودفن في الحصن، قيل: فلما قدم من بني أيوب سيف الإسلام إلى اليمن نبش وأخرج إلى مقابر المسلمين. وفيها، وقيل في التي بعدها توفي في الجند الفقيه الإمام عالم العلماء مفيد الطالبين وقدوة الأنام زيد بن عبد الله اليمني - اليفاعي بالفاء قبل الألف وبعد المثناة من تحت - نسبة إلى يفاعة: مكان في اليمن. تفقه على الشيخ الإمام أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحيم المخائي - نسبة إلى المخا: بالخاء المعجمة المخففة وفتح الميم قبلها؛ مكان قريب من زبيد على ساحل البحر - توفي أبو بكر المذكور سنة خمس مائة، أخذ عنه جماعة، وكان يحفظ المجموع للمحاملي، والجامع في الخلاف لأبى جعفر - على ما نقل الإمام طاهر ابن الإمام

العلامة يحيى صاحب البيان عن والده المذكور - وتفقه زيد أيضاً بصهره الإمام إسحاق بن يوسف الصروفي، ثم ارتحل إلى مكة في المرة الأولى، فأدرك فيها تلميذي الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي مصنف المهذب، وهما الحسين بن علي الشاشي الطبري مصنف العدة وأبو نصر البندنيجي مصنف المعتمد في الخلاف، فقرأ عليهما، وطريقه في المهذب وكتاب التبصرة في علم الكلام في أصول الدين إلى أبي نصر البندنيجي. وذكر ابن سمرة أنه لما رجع زيد المذكور من مكة إلى الجند سنة اثنتي عشرة وخمس مائة اجتمع عنده في الجند ما يزيد على مائتي رجل من أجلة الفقهاء من تهامة وأبين وحضرموت والشحر والشام وغير ذلك، وقرأ الإمام يحيى بن أبي الخير عليه النكت في الخلاف: تصنيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع عليه أيضاً بقراءة الفقيهين، الإمام عبد الله الهمداني وعبد الله بن يحيى الصعبي، وبقراءة غيرهما من الفقهاء الأجلة عدة كتب في الفقه والخلاف والأصول، وذلك في دولة السلطان أبي الفتوح الحميري، فعظم حال الفقيه وجمل أمره، واجتمع المؤالف - والمخالف على مودته، وكان لا يصلي في الجامع إلا الجمعة في آخر المسجد. قلت لعل تأخره عند حضور الجماعة في الصلوات لما يخشى من الضرر في اجتماع الناس عليه وازدحامهم بحسن اعتقادهم فيه، أو غير ذلك من الآفات، كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أنه رأى بمكة بعض العارفين يصلي في بيته، لا يحضر المسجد الحرام، فسأله عن ذلك فذكر كلاماً معناه أنه يدخل عليه من الضرر في الخروج أكثر مما يدخل عليه النفع. رجعنا إلى ذكر زيد اليفاعي: روى ابن سمرة عن بعض من أدرك أنه قال: دخلت الجند أستفتيه عن مسألة في الفرائض - وكان صغير الخلق دقيق الجسم - فوجدته يدرس أصحابه في دهليز بيته، فهبته هيبة عظيمة، فغلطت سؤالي، ورددت كلامي، فآنسني بكلامه، وأجابني عن سؤال بأحسن الجواب. قلت وقوله: كان صغير الخلق دقيق الجسم: أراد بذلك الإعلام بحليته والتعريف دون الانتقاص والتعنيف، وقد وجد مثل هذا الخلق في كثير من العلماء والأولياء على ما اقتضت حكمة العليم القدير من التفاوت بين الكبير من الخلق والصغير. وحكى ابن سمرة أنه سئل بعض الفقهاء بحضرة الإمام زيد المذكور عن الفقيه ابراهيم ابن علي ابن الإمام الحسين بن علي الطبري مصنف كتاب العدة؛ كيف كان حاله في العلم؟

فقال: هو مجود، ولولا أنه اشتغل بالعبادة مع الصوفية لكان في الفقه إماماً وفي الخلاف كاملاً. قال الراوي: وكان حاضراً فقلت له: طريقته هذه غير ملومة ولا مكروهة، فقال لي: كان الشيخ - يعني جده القاضي حسين الطبري المذكور - يكره ذلك ويقول: اشتغال العالم بالعبادة فرار من العلم فأعجب، أو قال: أعجب زيد بهذه الحكمة. وقلت: هذا صحيح، لأن الحرص في العلم يقوم مقام العبادة، ولو كان فيه بعض قساوة انتهى، وهو بعض كلامه، وذكر بعده ما يوافقه من أقوال بعض الفقهاء. قلت ولا شك أن فضل العلم وشرفه معروفان، ولكن الشأن في إخلاصه والعمل به، فإذا حصل ذلك فهو النهاية، ومع هذا فأحوال الناس مختلفة، وقد قسمتهم في كتاب الإرشاد على خمسة أقسام، وليس إطلاق الكلام في الندب إلى إحدى الطريقين صحيحاً، بل لا بد من تفصيل، فمن كان له نية صحيحة في العلم ونجابة في الفهم، ولم يغلب عليه أحوال الرجال المشاهدين لنور الجمال، فلا شك أن هذا يندب له المبادرة وبذل المجهود في الاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك بشيء من العبادة ولزوم سيرة السلف من التعفف والتورع والتقلل من الدنيا، وإن كان في ذلك ما ذكر من بعض القساوة، فقد أنصف في ذلك، وأما من لم يكن كما ذكرنا إما لعدم صلاح النية وإما لعدم القابلية، وإما لخوف كثرة الآفات في المخالطات، وإما لإمتلاء القلب بمحبة العبادات واستئناسه بالمناجاة في الخلوات، وإما لورود الأحوال ووجود المشاهدات، أعني مشاهدة نور الجمال واستيلاء هيبة العظمة والحلال، فكل هؤلاء واقفون مع ما ورد على قلوبهم، لكلى قوم مشرب وفي الهوى مذهب، ولقد أحسن قائلهم. كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بحبك يا ديني ودنياي ولقد وقع بي في ابتداء اشتغالي بالعلم خاطر أن ألقياني في مجاذبتهما: أحدهما يجذبني إلى العلم طلباً لفضله، والآخر إلى العبادة لوجود حلاوة فيها وسلامة من آفات المخالطات والتشتت في البحث والمجادلات، واشتعل في باطني مثل النار في القريحة المحرورة للمجاذبة المذكورة، ثم حصلت والحمد لله إشارة أذهبت عني ذلك الاحتراق، مردتني إلى التسليم إلى ما سبق به القضاء بتقدير الخلاق، وذلك أني في حال تلك الشدة لما قلقت، ولم أستطع نوماً ولا قراراً، ومعي كتاب أطالعه ليلاً ونهاراً، فتحته في ذلك الوقت فرأيت فيه ورقة قابلتني أول ما فتحته ولم أرها قبل ذلك مع طول ما طلبته، وفيها أبيات ما كنت سمعتها، وهي:

كن عن همومك معرضاً ... وكل الأمور إلى القضا فلربما اتسع المضيق ... وربما ضاق الفضا ولرب أمرمتعب ... لك في عواقبه رضا الله يفعل ما يشاء ... فلا تكن متعرضا فلما قرأتها كأنما صب ماء على تلك النار، فرد ذلك الاحتراق، وذهبت تلك الأكدار، وأنشد لسان مقالي في تلك الوقت ما يوافق حالي، وناديت قلبي: اسمع وخذ بالإشارة ... فيا حسن ما في ضمها من بشارة ودربي مع ريح القضا حيث دارت ... وسلم لسلمى ثم سر حيث سارت عسى من خدور الحي تبدو بدورها ... توسلت حتى أقبلتك ثغورها ألا يا لقومي أعلموني بحيلة ... إلى وصل خودات كعاب جميلة أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... إذا ما بدت ناديت في كل حيلة بقطع لأهلي مع فراقي لبلدتي ... وذلي وسيحي في البلاد وغربتي وإيناس نفسي بعد زفري وحضرتي ... رحمت على صبري على كل كربة ثم استمريت في مدة يسيرة بشيء من الأشغال والاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك يتخلل البطالات، ثم خطر لي عند وقوفي على كلام الفقهاء الذين نحن بصدده هذه الأبيات: تقضى زماني والقضاء مصرفي ... وكان إلى العلم الشريف تشوفي وما كانت الأيام إلا قلائلاً ... به ثم مال القلب نحو التصوف ومن لم يسل في دهره نحوه يمت ... ولم يهو من صاحي جمالاً ويعرف فإن كنت ذا جهل بمنهج حبه ... ومشربه سل عنه أهل التعرف قلت وفضل التصوف وأهله أولي الصفاء والأنوار والمعارف والأسرار، والقرب والمنادمات والحضرة والمشاهدات، لا يسعه مجلدات، وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب الأسرار والنظير، في فضل ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين، والفقراء والمساكين، وفي كتاب روض الرياحين في حكايات الصالحين، وفي كتاب نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ أولي المقامات العالية، قدس الله تعالى أرواحهم، ونور ضرائحهم ونفعنا ببركاتهم، وجعلنا معهم في محياهم ومماتهم، آمين، ولله در قائلهم في وصف راح الهوى المعمورة من نور الجمال التي سكر بها المحبون أولو الأحوال، حيث أنشد وقال: هبنا لأهل الدير كم سكروا بها ... وما شربوا منها، ولكنهم هموا

على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولاسهم وفيها توفي أبو علي الحسن بن خلف القيراوني المقرىء، صاحب تلخيص العبارات في القراءات. والوزير مؤيد الدين الحسين بن علي الأصبهاني، صاحب ديوان الإنشاء للسلطان محمد بن ملك شاه، كان من أفراد الدهر وحامل لواء النظم والنثر وهو صاحب لامية العجم. والحافظ الكبير أبو علي بن سكرة حسين بن محمد الأندلسي حج سنة إحدى وثمانين وسمع ببغداد من البانياسي وطبقته، وأخذ التعليقة الكبرى عن أبي بكر الإمام الشاشي المستظهري واخذ بدمشق عن الفقيه الإمام نصر المقدسي، ورد إلى بلاده بعلم جم وبرع في الحديث وفنونه، وصنف التصانيف. فأكره على القضاء، فوليه، ثم اختفى حتى عفي، واستشهد في المصاف وهو أبناء الستين. وفيها توفي الإمام أبو نصر عبد الرحمن ابن الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري كان إماماً كبيراً، أشبه أباه في علومه ومجالسه، وواظب على حضور درس إمام الحرمين حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف. ثم خرج، فوصل الى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه. وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله. وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ، وله مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد إذ هو وأبو وشيخه إمام الحرمين وغيرهم من أكابر العلماء ورؤوس الأشاعرة، وانتهى الأمر إلى فتنة بين الفريقين، قتل فيها جماعة من الطائفتين، وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها، وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان وسير إليه استدعاءه، فلما حضر عنده زاد في إكرامه، ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصل إليها لازم الوعظ والدرس إلى أن قارب انتهاء أمره، فأصابه ضعف في أعضائه وقال بعضهم: فالج فأقام لذلك مقدار شهر، ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بنيسابور، ودفن بالمشهد المعروف بهم، وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئاً كثيراً. وأبو منصور محمود بن اسماعيل الصيرفي الأشقر، راوي المعجم الكبير للطبراني. قال السلفي: كان صالحاً.

سنة خمس عشرة وخمس مائة

سنة خمس عشرة وخمس مائة فيها احترقت دار السلطنة ببغداد، فتلف ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها توفي أبو علي الحداد: الحسن بن أحمد الأصبهاني المقرىء المجود، مسند الوقت، وكان مع علو إسناده أوسع أهل زمانه رواية، حمل الكثير عن أبي نعيم، وكا ن خيراً صالحاً. وفيها توفي الملك الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني، كان الملك الأفضل وزيراً للمستعلي العبيدي، وكان حسن التدبير فحل الرأي، وهو الذي أقام المستعلي بعد موت أبيه المستنصر مقامه، وخلف من الأموال ما لم يسمع بمثلهما، قيل إنه خلف ستمائة ألف دينار عيناً، ومائتين وخمسين إردباً دراهم نقد مصر، وخمساً وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أخفافها من ذهب عراقي، وداوة ذهب فيها جوهر قيمته أثنا عشر ألف دينار، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس، في كل مجلس عشرة مسامير، على كل مسمار منديل مشدود بذهب من الألوان أيما أحب منها لبسه - وخمس مائة صندوق لكسوته خاصة من دف دمياط وبلد أخرى سموها، وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والطيب والتجمل والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله، وخلف خارجاً من ذلك من البقر والجواميس والغنم كما يطول عدده، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما إبر ذهب برسم النساء والجواري. وكان شهماً مهيباً بعيد الغور، ولي وزارة السيف والقلم، وإليه قضاء القضاة والتقدم على الدعاة في ولاية المستعلي، ثم الأمر، وكانا معه صورة بلا معنى، وكان قد أذن للناس في إظهار عقائدهم، وأمات شعار دعوة الباطنية، فنقموه لذلك، ووثب عليه ثلاثة من الباطنية فضربوه بالسكاكين فقتلوه، وحملوه بآخر رمق، وقيل إن الأمير دسهم عليه بتدبير أبي عبد الله البطائحي الذي وزر بعده، ولقب بالمأمون. وفيها توفي أبو القاسم علي بن جعفر السعدي الصقلي المولد، المعروف بابن القطاع،

سنة ست عشرة وخمس مائة

المصري المنزل والوفاة، كان من أئمة الأدب خصوصاً اللغة، وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال، أحسن فيه كل الإحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطبة، وإن كان ذاك سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعب، وعروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة المختارة من شعر الجزيرة، ولمح اللمح، جمع فيه خلقاً من علماء الأندلس، قرأ الأدب على فضلاء صقلية كابن البراء اللغوي وأمثاله، وأجاد النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمس مائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، ومن شعره: وشادن لبيانه عقد ... حلت عقودي وأوهنت جلدي عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العقد؟ وله شعر كثير، توفي بمصر: وفيها توفي الحافظ أبو الخير بن عوض الهروي. كان عالماً صاحب حديث وإفادة، حريصاً على الطلب. سنة ست عشرة وخمس مائة توفي الإمام محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي المحدث المقرىء، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان، كان سيداً زاهداً قانعاً، يأكل الخبز وحده، فليم في ذلك، فصار يأكله بالزيت، وكان أبوه يصنع الفراء، توفي بمروروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين، أخذ الفقه عنه، وصنف في تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وروى الحديث، ودرس، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وصنف كتباً كثيرة منها: كتاب التهذيب في الفقه، وشرح السنة في الحديث، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم، وكتاب المصابيح، والجمع بين الصحيحين، وغير ذلك، والبغوي نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهراة يقال لها بغ، بالباء الموحدة والغين المعجمة. والحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي، سمع من أبي بكر الخطيب وجماعة، ورحل إلى نيسابور وأصبهان. وأبو القاسم بن الفحام الصقلي: عبد الرحمن بن أبي بكر، مصنف التجويد في القراءات.

وأبو محمد الحرير: صاحب المقامات، القاسم بن علي بن محمد البصري الأديب، حامل لواء البراعة وفارس النظم والنثر، ونسجهما بظرافة الصناعة، كان من رؤساء بلده، روى الحديث عن أبي تمام محمد بن الحسين وغيره، وعاش سبعين سنة، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، حتى قال بعض الفضلاء: من عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته. وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالساً في مسجد بني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر، رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته قال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر القاشاني - بالقاف والشين المعجمة - وزير الإمام المسترشد باللة، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة. وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم إلى أن أنشىء مقامات أتلو فيها تلوالبديع، وإن لم يدرك الظالع شيئاً والضليع. هكذا وجد في عدة تواريخ في نسخة من المقامات عليها خطه، وقد كتب بخطه أيضاً على ظهرها أنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي المعز علي ابن صدقة وزير المسترشد، قيل: وهذا أصح من الرواية الأولى، لكونه بخط المصنف، والله أعلم. وذكر القاضي أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني وزير حلب في كتابه المسمى أنباء الرواة على أبناء النجاة أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصيرياً نحوياً لغوياً، وصحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة، وتخرج به، روى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد الميداني الواسطي ملحة الإعراب للحريري، وذكر أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، فسمعنا منه، وتوتجه منها مصعداً إلى بغداد، فوصلها، وأقام مدة يسيرة وتوفي بها رحمه الله تعالى. وأما تسمية الراوي لها بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا ذكر ابن خلكان

وقال: وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم حارث وكلكم همام، فالحارث: الكاسب، والهمام: كثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره. وقد اعتنى، بشرحها خلق كثير، فمنهم من طول، ومنهم من اختصر، قال ابن خلكان: ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، فادعاها فلم يصدقه من أدباء بغداد، وقالوا إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته فقال: أنا رجل منشىء، فاقترح عليه إنشاء الرسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية عن الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زماناً كثيراً فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم بن أفلح الشاعر، فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح هذين البيتين، وقيل إنهما لابن محمد الحريمي البغدادي الشاعر المشهور: شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنوته من الهوس أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعاً ينتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن واعتذر من عيه وحصره بالديوان بما لحقه من المهابة، وللحريري تاليف حسان منها: درة الغواص في أوهام الخواص ومنها ملحة الإعراب، منظومة في النحو والآداب، وله أيضاً شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، ومن ذلك قوله: قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا فقلت والله لو أن المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل منها والربيع أتى وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً، ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئاً من شعره، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس أن يملي عليه قال: اكتب.

ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فاسمع بي ولا تزني فخجل الرجل منه وانصرف عنه. والمعيدي: بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون المثناة من تحت وبعدها دال مهملة مكسورة: رجل منسوب إلى معد بن عدنان، وقد نسبوه بعدما صغروه وخففوا منه الدال، وفيه جاء المثل المشهور: لأن تسمع بالمعيد خير من أن تراه، وهذا المثل يضرب لمن له صيت وذكر ولا منظر له، قال المفضل الضبي: أول من تكلم بهذا المثل المنذر بن ماء السماء قاله لمشقة بن ضمرة التميمي الدارمي، وكان قد سمع بذكره، فلما رآه قبحه، فقال له هذا المثل، وسار عنه، فقال له شقة: أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بحرزير مراد منها الأجسام، إنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ومن شعر الحريري قوله: لا تزر من تحب في كل شهر ... غير يوم ولاتزده عليه فاضتياء الهلال في الشهر يوم ... ثم لا تنظر العيون إليه قلت: وقد عارضت بيتي الحريري اللذين أطلق فيهما الزيارة في كل شهر مرة تشبيهاً بالهلال، بأبيات فصلت فيها بين المزورين المتفاوتين في الأحوال، وأشرت إلى أن - بعضهم وهو أخصهم بالمودة والأنس - يزار كل يوم كالشمس، وبعضهم ممن يليه في الود والدفعة في كل أسبوع كالجمعة، وبعضهم ممن قل وده أو شق بعمه أو كان مع قرب الدار يؤثر قلة المزار وملاقاة الرجال في الشهر مرة كالهلال، وبعضهم ممن نأت به البلاد وإن كان من أهل الصحبة والوداد - في السنة مرتين تشبيهاً بالعيدين، كما يختلف بالقرب وبعد البلاد ويختلف بالقلة وكثرة الوداد، فصلت بين الحالات المذكورات بهذه الأبيات: لا تزرنا في الحمى كل عام ... غير مثنى على مرور الدهور هل ترى العيد زائراً كل عام ... غير ثنتين عائداً بالسرور أو دنت داره ففي كل يوم ... فيه للشمس بهجة بالظهور أو ترى بين قرب دار وبعد ... زر كما زاره هلال الشهور أو ترى قدر بعده دون هذا ... بالجمع تلك ضاحكات الثغور يجتلي حسنه بغر الليالي ... أو يزهر قد اكتسى ثوب نور إن تساووا محاسناً سار أولاً ... فاوتن بالكواكب كالبدور

غير أن المزار في كل يوم ... عند حب غرامه في الصدور واعتدال بحبها زاد حباً ... عند من زرت في خبا أو قصور والذي يؤثر التقلل مثلي ... زر قليلاً بذاك كثر الأجور كل شهر وإن دنا منك داراً ... مرة أو بحسب حال المزور والبرايا على اختلاف طباع ... في اجتماع وعزله وحضور خذ مقالي مفصلاً ذا وضوح ... ما به مشكل ولا ذو قصور رحم الله متقنا صنعه في ضيق ... لحد مجاور للقبور فعسى الله دعوة من شقيق ... فأرى ما نظمت في ذي السطور وكذلك عارضت قصيدته التي فضل بها الغني على الفقير، ومن جملتها قوله في هذه الأبيات: فانظر بعينك هل أرض معطلة ... من النبات كأرض حفها الشجر أبعد عما تيسر الأغنياء به ... فأي فضل له ود ما له ثمر وارحل ركابك عن أرض ظمئت بها ... إلى الجنان الذي يهمي به المطر وعارضته بقصيدة، وسميتها المنهج الأسنى في تفضيل الفقر على الغنى هذه الأبيات، منها: قل للحريري من ذا في الحرير غدا ... وقصر در وحور زانها الحور وفاكهات وأنها رمد فقة ... شهيدو وكثبان مسك والحصى درر وجل نور وياقوت أسرتها ... تزهو براكبها والحسن والسرر وطيب عيش ترى كل النعيم به ... ما تشتهي النفس مما ليس ينحصر والضد في ضنك أهوال وروعتها ... سنين خمس منير جابذ الخبر فسوف يدري العلى للفقر أم لغنى ... وأرض من منهما قد حفها الشجر ومن له عود وصل يانع خضر ... زاه وذاك بذاك الحسن والثمر إذا هشيماً رأى الغصن البصير له ... تذري الرياح به قد حلت الغير يحكي سراباً ظن ذو ظمأ ... أو حلم نوم فلم يوجد له أثر انقد بعين فؤاد جوهراً لهما ... عين البصيرة تدري الحسن لا البصر فجوهر الفقر تزهو جوهريته ... بالحك، والمال زيف حين يختبر وإنظر هل الزرع في أرض مجردة ... كزرع أرض وفيها الغيث والشجر إن الفقير الذي للفقر مصطبر ... هو الغني والغنى بالمال مفتقر يكفيك لو كان الفؤاد له نوع ... اعتبار إذا مرت به الغير

من ليس يغنيه منا وادياً ذهب ... يهلع ويجمع ولا يشبع ويدخر مستقبلاً فيه آفات معجلة ... وفي المال لصافي الماء جا كدر شغلاً عن الله مع حب لمبغضة ... ورب هول غدا والنار تستعر والفقر كم من سعادات يحوز بها ... بفوز حلب لها بالسبق تبتدر مع الفراغ لطاعات مقربة ... ممن هو الملك الوهاب مقتدر ولذة وحلاوات معجلة ... والأنس بالله فيه القوم قد سرروا والطيب قد فاح، إذ لاح الجمال لهم ... والراح يسقون من كأس بها سكروا فعربدوا ثم باحوا بالهوى علناً ... لما قوي الحب ما في كتمه صبروا ساحوا وباحوا وصاحوا صار مدحتهم ... خلع العذار، لحى العذال أو غدروا يا سعد عبد غني القلب ذي أرب ... راض بمقدور مولى ما به ضجر من فتية زارعي الخيرات أرضهم ... نقوا من الغيث والأشجار إذ بذروا إن قيل بأفضل من لا يحتلي محلاً ... ممدوحة أي فضل فيه يفتخر قل حب محبوب ونصر هدى ... ليافعي رجا هذين مدخر مع من أحب يكون المرء يومئذ ... والأجر حق لقوم للهدى نصروا في كل هذا نصوص الشرع ناطقة ... مع الكتاب حديث صح مشتهر وما لعبد نزول فوق منزلة ... أولاه مولاه بل يرضى ويأتمر لا بد في الملك من ترتيب مملكة ... لو لم يكن ما نهى الناهون أو أمروا فيها أمير وجندي له وبها ... وزير ملك ومخدوم ومحتقر في الخلق دار بنوه وفق حكمتهم ... وقدروا الأمر فيه حسب ما قدروا فكيف ترتيب خدام لمملكة ... عن حكمة الحق ما قد قدر القدر هذا رسول نبي داود، ذا ملك ... وذا ولي وذا راج وذا حذر وذاك قطب وذا غوث وذا وتد ... وذا بديل إذا ما امتدت به حضروا وذا عليم وهذا عابد شجر ... وذا تقي وهذا مؤمن برر سلم له وارض بالمقدور إن له ... حكماً به مودع، سر له خبر فطاعة الحكيم مع تسليم حكمته ... وظيفة العبد راضيها له خطر فنسأل الله توفيق القيام بها ... والصرف عن كل وصف ضمنه خطر ها هي بدت في حكمي فقر معارضه ... من في الحرير الغني بالمال يفتخر مصونة جا حسن مخدرة ... عن غير كفو فعنه الحسن مستتر عن أربعين لقد فاقت بأربعة ... من سبعة نيف سبعين مختصر ختامها حمد ربي والصلاة على ... ختام رسل سراج دونه القمر

سنة سبع عشرة وخمس مائة

يعني أن الأبيات المذكورة هنا أربعة وأربعون مختصرة من قصيدة له مشتملة على سبعة وسبعين بيتاً. توفي الحريري رحمه تعالى الله في السنة المذكورة، وقيل في سنة خمسين بالبصرة في سكة بني حرام، فنسب إليهم من هذه السكة التي سكن بها، وكانت ولادته في سنة ست وأربعين وأربعمائة. والمشان بفتح الميم والشين المعجمة، بعد الألف نون: بليدة فوق البصرة، كثيرة النخل، شديدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له ثمانية عشر ألف نخلة، وكان فاضلاً نبيلاً جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه: صدور زمان القبور وقبور زمان الصدور، نقل منه العلماء والأصبهاني في كتاب: نصرة الفترة وعصرة الفترة الذي ذكر فيه أخبار الدولة السلجوقية نقلاً كثيراً وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الأصبهاني الدقاق، كان محدثاً أثرياً فقيراً متقللاً سنة سبع عشرة وخمس مائة في أولها التقى الخليفة المسترشد بالله ودبيس الأسدي، وكان دبيس قد طغى وتمرد، ووعد عسكره بنهب بغداد، وجرد المسترشد يومئذ سيفه، ووقف على تل، فانهزم جمع دبيس، وقتل خلق منهم، وقتل من جيش الخليفة نحو عشرين رجلاً، وعاد مؤيداً منصوراً وذهب دبيس فعات ونهب وقتل في نواحي البصرة. وفيها توفي ابن الخياط الشاعر المشهور: أبو عبد الله أحمد بن محمد التغلبي الدمشقي الكاتب، كتب أولاً لبعض الأمراء، ثم مدح الملوك والكبار، وبلغ في النظم الذروة العليا، أخذ عن أبي فتيان بن الجيوش، وعنه أخذ ابن القيرواني، قال السلفي: كان شاعر الشام في زمانه. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو نعيم عبد الله بن أبي علي الحداد، مؤلف أطراف الصحيحين، كان عجباً في الإحسان إلى الراحلة وإفادتهم مع الزهد والعبادة والفضيلة التامة.

سنة ثمان عشرة وخمس مائة

وفيها توفي أبو الغنائم بن المهتدي بالله: محمد بن محمد الهاشمي الخطيب. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن محمد بن مرزوق البغدادي رحمه الله. وفيها توفي أبو صادق مرشد بن يحيى المسندي البصري. سنة ثمان عشرة وخمس مائة فيها كسر ابن بهرام - صاحب حلب - الفرنج، ثم نازل منبج فجاءه سهم فقتله، فحمله ابن عمه - صاحب ماردين - إلى ظاهر حلب، وتسلم حلب، وأقام بها نائباً، ورد إلى ماردين، فراحت حلب. وفيها أخذت الفرنج صور بالأمان، وبقيت في أيديهم إلى سنة تسعين وست مائة. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد الدينوري، البغدادي المولد، الشاعر المعروف بابن الخازن، كان فاضلاً فائق الخط، أوحد وقته، اهتم ولده نصر الله الكاتب المشهور بجمع شعره، فجمع منه، وهو حسن السبك، منه قوله: - وقد أضافة الحكيم أبو القاسم الأهوازي يوماً، وزاد في خدمته وإكرامه، وكان في داره بستان وحمام، فأدخله فيهما: وافيت منزله فلم أر حاجباً ... إلا تلقاني بسن ضاحك والبشر في وجه الغلام إمارة ... لمقدمات ضياء وجه المالك ودخلت جنته وزرت حميمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك قال ابن خلكان: ثم إني وجدت هذه الأبيات للحكيم أبي القاسم هبة الله بن الحسين الأهوازي الطبيب الأصفهاني، ذكره العماد في الخريدة. وفيها توفي الحسن بن الصباح صاحب الألموت، وزعيم الإسماعيلي، وكان ذاهيبة، ماكراً زندقياً من شاطين الإنس. وفيها توفي أبو الفتح سلطان بن ابراهيم المقدسي الشافعي الفقيه، قال السلفي: كان من أفقه الفقهاء بمصر، تفقه عليه أكثرهم، وقال غيره: أخذ عن أبي نصر المقدسي، وسمع من أبي بكر الخطيب، وسمع من جماعة. وفيها توفي أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب القرماطي الحافظ، كان حافظاً للحديث وطرقه وعالمه، عارفاً برجاله، ذاكراً لمتونه ومعانيه. ذكر بعضهم أنه كرر صحيح البخاري سبعمائة مرة،، كان أديباً شاعراً لغوياً ديناً.

سنة تسع عشرة وخمس مائة

وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، كان أديباً فاضلاً عارفاً باللغة، واختص بصحبة الإمام أبي الحسن الواحدي، صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن في العربية خصوص اللغة وأمثال العرب، وله فيها التصانيف المفيدة، منها: كتاب الأمثال المنسوب إليه، ولم يعمل مثله في بابه، وكتاب: السامي في الأسامي، وهو جيد في بابه، وكان قد سمع الحديث ورواه، وكان ينشد كثيراً: تنفس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت: عساه يكتفي بعذاري فلما فشا عاتبته فأجابني ... أيا هل ترى صبحاً بغير نهار؟ سنة تسع عشرة وخمس مائة فيها سار الخليفة لمحاربة دبيس، فانخذل دبيس وذل، وطلب العفو، وكان معه طغرل بك ابن السلطان محمد فمرض، ثم سارا إلى خراسان، واستجارا لسنجر، فأجارهما، ثم قبض على دبيس خدمة للخليفة. وفيها توفي أبو عبد الله بن البطائحي المأمون، وزير الديار المصرية للآم، وكان أبوه جاسوساً للمصريين، فمات. روى محمد هذا يتيماً رآه شاباً ظريفاً، فأعجبه فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، ثم آل أمره، إلى أن ولي بعده، وفيها توفي أبو البركات بن البخاري البغدادي المعدل هبة الله بن محمد. سنة عشرين وخمس مائة يوم الأضحى منها خطب المسترشد بالله، وصعد المنبر ووقف ابنه ولي العهد - الراشد بالله - دونه بيده سيف مشهور، وكان المكبرون خطباء الجوامع، ونزل فنحر بيده بدن، وكان يوماً مشهوداً ما عهد للإسلام مثله منذ دهر. وفيها توفي الإمام الرباني ذو الأسرار والمعرف والمواهب واللطائف: أبو الفتوح أحمد بن محمد الطوسي الغزالي الواعظ - أخو الإمام حجة الإسلام أبي حامد.

شيخ مشهور فصيح مفوة، صاحب قبول تام لبلاغته وحسن إيراده وعذوبة لسانه، وعظ مرة عند السلطان محمود فأعطاه ألف دينار، وكان مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ والتصوف فغلب عليه، ودرس بالنظامية نيابة عن أخيه أبي حامد، لما ترك التدريس زهادة فيه، اختصر كتاب أخيه المسمى بإحياء علوم الدين، في مجلد واحد، وسماه: لباب الأحياء، وله كتاب آخر سماه: الذخيرة في علم البصيرة، وطاف البلاد، وخدم الصوفية بنفسه، وخدموه، وصحبهم وصحبوه، وكان مائلاً إلى الانقطاع والعزلة. وذكره ابن النجار في تاريخ بغداد فقال: كان قد قرأ القارىء بحضرته: " ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " - الزمر 53 -، فقال: شرفهم بياء الإضافة إلى نفسه بقوله يا عبادي، ثم أنشد:؟ وهان علي اللوم في جنب حبها وقول الأعادي إنه لخليع أصم إذا نوديت باسمي وإنني ... إذا قيل لي: يا عبدها، لسميع وهذا مثل قول بعضهم: لا تدعني إلا بيا عبدي، فإنه أشرف أسمائي، وتوفي بقزوين - رحمه الله تعالى. قلت هكذا أثنى عليه الحافظ ابن النجار وغيره من العلماء والأولياء، ولا التفات إلى ما أومى إليه الذهبي من بعض الطعن فيه. ومما يحكى من مكاشفاته أنه سأله إنسان عن أخيه محمد، أين هو؟ فقال: في الدم، ثم طلبه السائل فوجده في المسجد، فتعجب من قول أخيه في الدم، وذكر له ذلك فقال: صدق، كنت أفكر في مسألة من مسائل المستحاضة - رحمة الله تعالى عليهما. وفيها توفي أبو بحر الأسدي. سفيان بن العاصي محدث قرطبة. وصاعد بن سيار أبو العلاء الهروي الدهان، قال السمعاني: كان حافظاً متقناً، كتب الكتب الكثيرة، وجمع الأبواب، وعرف الرجال. وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكي، قاضي الجماعة بقرطبة ومفتيها. روى عن أبي علي الغساني وأبي مروان بن مروان وخلق، وكان من أوعية العلم، له تصانيف مشهورة، عاش سبعين سنة. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي المصري النحوي اللغوي، روى عن القضاعي وغيره، وسمع البخاري من كريمة بمكة.

وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن علي المعروف بابن برهان الفقيه الشافعي، كان متبحراً في الأصول والفروع والمتفق والمختلف، وتفقه على أبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي وأبي الحسن المعروف بالكيا، وصار ماهراً في فنونه، وصنف كتاب الوجيز في أصول الفقه، وولي التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد دون الشهر، وبرهان بفتح الباء الموحدة وسكون الراء. وفيها توفي الإمام أبو بكر بن الوليد القريشي الفهري الأندلسي، الفقيه المالكي الطرطوشي. بضم الطائين المهملتين بينهما راء ساكنة وبعدهما واو ساكنة ثم شين معجمة منسوباً إلى طرطوشة: مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس. صحب أبا الوليد الباجي، وأخد عنه مسائل الخلاف، وسمع منه وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة،. وحج ودخل بغداد والبصرة، وتفقه على أبي بكر محمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي، وعلى أبي العباس أحمد الجرجاني، وسكن الشام ودرس بها، وكان إماماً عالماً عاملاً زاهداً ورعاً ديناً متواضعاً متقشفاً متقللاً من الدنيا، راضياً منها باليسير، على ما ذكره بعض المؤرخين. وكان يقول: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر أخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، وكان كثيراً ما ينشد: إن لله عباداً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا فكروافيها فلماعلموا ... أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا قلت: هكذا قال بعضهم: فكروا فيها، وقال بعضهم: نظروا فيها، والكل معناه واحد، فإن المراد: ينظروا نظرة القلب، وله من التصانيف: سراج الملوك، وغيره وله طريقة في الخلاف، ونسب إليه أشعار من ذلك: إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بإنجازها معزم فأرسل بأكمه خلانه ... به صمم أعطش أبكم ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم وحكي أنه اجتمع بالإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في بلاد الشام، وقصد

مناظرته، فقال له أبو حامد: هذا شيء تركناه بصبية بالعراق، يعني: ترك المغالبة بالعلم والمفاخرة فيه لصبية - جميع صبي - كأنه شبه من يطلب هذا بالصبيان لغلبة الهوى عليهم، نسأل الله التوفيق لصالح الأعمال وحسن الخاتمة عند منتهى الآجال. ؟ سنة إحدى وعشرين وخمس مائة فيها أقبل السلطان محمود بن محمد ابن ملك شاه في جيشه محارباً للمسترشد بالله، فتحول أهل بغداد كلهم إلى الجانب الغربي، ونزل محمود والعسكر بالجانب الشرقي، وتراموا بالنشاب، وترددت الرسل في الصلح، فلم يفعل الخليفة، فنهبت دار الخلافة، فغضب الخليفة، وخرج من المخيم. والوزير ابن صدقة بين يديه - فقدموا السفن في دفعة واحدة، وعبر عسكر الخليفة، وألبسوا الملاحين السلاح، وسبح العيارون وصاح المسترشد: يا لبني هاشم، فتحركت النفوس معه، هذا وعسكر السلطان مشغولون بالنهب، فلما رأوا الجد ولوا الأدبار، وعمل فيهم السيف، وأسر منهم خلق، وقتل جماعة أمراء، ودخل الخليفة إلى داره، وكان معه يومئذ قريب من ثلاثين ألف مقاتل، ثم وقع الصلح. وفيها ورد الخبر بأن سنجر صاحب خراسان قتل من الباطنية اثني عثر ألفاً، ومرض السلطان محمود، وتعلل بعد الصلح، فرحل إلى همدان، وولي بغداد الأمير عماد الدين زنكي، ثم صرف بعد أشهر، وفوض إليه الموصل، وسار إليها لموت متوليها. وفي السنة المذكورة توفي أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد الهاشمي العباسي المتوكلي، شريف صالح خير. روى عن الخطيب وغيره، وعاش ثمانين سنة. ختم التراويح ليلة سبع وعشرين، ورجع إلى منزله فسقط من السطح فمات رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو الحسن بن الدينوري علي بن عبد الواحد، روى عن القزويني وأبي محمد الخلال، وهو أقدم شيخ لابن الجوزي، وأبو العز القلانسي محمد بن الحسين بن بندار الواسطي مقرىء العراق وصاحب التصانيف في القراءات. وفيهما توفي عبد الله بن محمد المعروف بابن السيد البطليوسي النحوي، كان عالماً بالآداب واللغات، متبحراً فيهما ومقدماً في معرفتهما وإتقانهما، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه، ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم جيد التفهيم، ثقة ضابطاً، ألف كتباً نافعة، منها كتاب المثلث فى مجلدين، أتى فيه بالعجائب، ودل على اطلاع عظيم، فإن

سنة اثنتين وعشرين وخمس مائة

مثلث قطرب في كراسة واحدة، قالوا: ومع هذا استعمل فيه الضرورة وما لا يجوز، وغلط في بعض ذلك، وله كتاب: الاقتضاب في شرح أدب الكتا، وشرح سقط الزند لأبي العلاء المعري شرحاً استوفى فيه المقاصد، وهو أجود من شرح أبي العلاء، وله كتاب الخلل في شرح أبيات الجمل والخلل في أغاليط الجمل أيضا وكتاب شرح الموطأ، قيل وشرح ديوان المتنبي وكتباً أخرى، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم سنة اثنتين وعشرين وخمس مائة في أولها تملك حلب عماد الدين زنكي. وفيها سار السلطان محمود إلى خدمة عمه سنجر، فانطلق له دبيس بن صدقة وقال: اعزل زنكي عن الموصل والشام، وأولي دبيساً، واسأل الخليفة أن يصفح عنه، فأخذه ورجع. وفيها توفي الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد الأشبيلي، كان حافظاً للحديث وعلله، عارفاً برجاله وبالجرح والتعديل، ثقة، كتب الكثير، واختص بأبي علي الغساني، وله تصانيف في الرجال. وابن صدقة الوزير أبو علي الحسن وزير المسترشد، كان ذا حزم وعقل ودهاء ورأي وأدب وفضل. سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة فيها أصلح زنكي نفسه بأن يحمل للسلطان في السنة مائة ألف دينار وخيلاً وثياباً وافرة. وفي رمضان منها هجم دبيس على نواحي بغداد وعلى الحلة، وبعث الى المسترشد يقول: إن رضيت عني رددت أضعاف ما ذهب به من الأموال، فقصده عسكر محمود، فدخل البرية بعد أن أخذ من العراق نحو خمس مائة ألف دينار.

سنة اربع وعثسرين وخمس مائة

وفيها أخد زنكي حماة، ثم نازل حمص وأسر صاحبها، وأخذه معه لما لم يقدرعلى أخذها، ورد إلى الموصل. وفيها قتل بدمشق نحو ستة آلاف ممن كان يرمى بعقيدة الإسماعيلي، وكان قد دخل الشام بهرام الأستراباذي، وأضل خلقاً كثيراً، وأقام داعياً بدمشق، فكثر أتباعه، وملك عدة حصون بالشام، ثم راسل الفرنج ليسلم إليهم دمشق - فيما قيل - ويعوضوه بصور، وقرر، الباطنية بدمشق أن يغلقوا أبواب الجامع - والناس في الصلاة - ووعد الفرنج أن يهجموا البلد حينئذ، فقتله بوري بن طغتكين - بالطاء المهملة والغين المعجمة والكاف بين المثناة من فوق ومن تحت ثم النون - وعلق رأسه على القلعة، ووضع السيف في الباطنية الإسماعيلية بدمشق في نصف رمضان يوم الجمعة، وسلم بهرام بانياس للفرنج، وجاءت الفرنج فنازلت دمشق، ثم تناجى عسكر دمشق والعرب والتركمان، فبيتوا للفرنج، فقتلوا وأسروا. وفيها توفي أبو الحسن عبد الله بن محمد ابن الإمام أبي بكر البيهقي. سمع الكتب من جده ومن الصابوني وجماعة. وفيها توفي أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد الثقفي الأصفهاني الرئيس. وفيها توفي الفقيه العلامة أحد الأئمة الكبار يوسف بن عبد العزيز، نزيل الإسكندرية، أحكم الأصول والفروع، وروى الصحيحين، وله التعليقة الكبرى في الخلاف. سنة اربع وعثسرين وخمس مائة فيها التقى زنكي الفرنج بناحية حلب، وثبت الجمعان، ثم ولت الفرنج، فوضع السيف فيهم، وافتتح زنكي حصن الأثارب، فنازل حصن كادم. وفيها أخذ السلطان محمود قلعة الألموت.

وفيها ظهرت ببغداد عقارب طيارة قتلت جماعة أطفال. وفيها توفي أبو إسحاق ابراهيم بن يحيى الكلبي الغزي المشهور، شاعر محسن، ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وسمع من الشيخ نصر المقدسي سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، رحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية عدة سنين، ومدح ورثى غيرواحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطع من الشعر، وأثنى عليه. انتهى كلام الحافظ. قال ابن خلكان: وله ديوان شعر اختاره بنفسه، وذكر في خطبته أنه ألف بيت، وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وأثنى عليه، وقال: إنه جاب البلاد وتغرب، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ومدح وزير كرمان مكرم بن العلاء في قصيدته البائية التي أبدع فيها. منها قوله: حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكثير العصائبا ومنها في قصر الليل. وهي معنى لطيف: وليل رجونا أن يدب عذاره ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا ومن شعره قوله: قالوا هجرت السفر، قلت: ضرورة ... وباب الدواعي والبواعث مغلق خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح بعشق ومما يستملحه الأدباء ويستظرفونه قوله: إشارة منك كفينا وأحسنها ... رد السلام غداة البين بالعنم أم ترانا وقد ضمت يد ليد ... عند العناق وقد لاقى فم لفم حتى إذا طرح عنها المرط من دهش ... فانحل بالضم سلك العقد في النظم تبسمت فأضاءالليل فالتقطت ... حباب منتشرفي ضوء منتظم

قيل: والبيت الأخير منها ينظر إلى قول الشريف الرضي من جملة قصيدته: وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم وولد الغزي المذكور بغزة، وبها قبر هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم - وتوفي بين مرو وبلخ من بلاد خراسان، ودفن ببلخ. وأما كون هاشم قبره بغزة فذكر عبد الملك بن هشام أن أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف: هاشم بن عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم هلك هاشم بغزة من أرض الشام تاجراً، فقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيه: وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسقى الرياح عليه بين غزات قال أهل العلم باللغة: إنما قال غزات: وهي غزة واحدة كأنه سمى كل ناحية منها باسم البلدة، وجمعها على غزات، فصارت من ذلك الوقت تعرف بغزة هاشم لأن قبره بها، لكنه غير طاهر لا يعرف، وإلى ذلك أشار أبو نواس الشاعر المشهور لما توجه إلى مصر ليمدح ابن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج، ذكر المنازل في طريقه فقال: طوالب بالركبان غزة هاشم ... وبالفرما من حاجهن شقور والفرما بفتح الفاء والراء المدينة العظمى التي كانت كرسي الديار المصرية في زمن ابراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - ومن بعض قراها: هاجر أم اسماعيل - صلى الله عليه وسلم - من قرية تسمى أم العرب، ومن الاتفاق الغريب أن اسماعيل أبو العرب، وأمه من أم العرب، والشقور بضم الشين المعجمة والقاف: بمعنى الأمور المهمة اللاصقة بالقلب. وفيها توفي الاخشيد اسماعيل بن الفضل الأصبهاني. وابن الغزال أبو محمد عبد الله بن محمد المصري المجاور، شيخ صالح مقرىء. وفيها توفيت أم ابراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الأصبهانية - رحمها الله -. وفيها توفي الفقيه الحافظ الظاهري نزيل بغداد أبو عامر العبدري محمد بن سعدون. قال ابن عساكر: كان فقيهاً على مذهب داود، وكان أحفظ شيخ لقيته، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: هو أثبت من لقيته، وقال ابن ناصر: كان فهماً عالماً متعففاً مع فقر، وقال السلفي: كان من أعيان علماء الإسلام، متصرفاً في فنون كثيرة، وقال ابن عساكر: بلغني أنه قال: أهل البدع يحتجون بقوله تعالى " ليس كمثله شيء " - الشورى 11 -، أي في الإلهية لا

في الصورة، لم يحتج بقوله تعالى " لستن كأحد من النساء أن اتقيتن " - الأحزاب 32 -، أي في الحرمة. وفيها توفي محمد بن عبد الله بن تومرت - بضم المثناة من فوق وفتح الميم وسكون الراء والمثناة في آخره المصمودي البربري الهرغي، بفتح الهاء وسكون الراء بعدها غين معجمة، نسبة إلى هرغة: وهي قبيلة كبيرة من المصامدة في جبل السوس في أقصى المغرب، ينتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهما - الملقب بالمهدي، رحل إلى المشرق، ولقي الإمام أبا حامد الغزالي وطائفة، وحصل فنوناً من العلم والأصول والكلام والحديث، وحج وأقام بمكة مدة مديدة، وكان رجلاً ورعاً ساكناً ناسكاً زاهداً متقشفاً، شجاعاً جلداً عاقلاً، عميق الفكر بعيد الغور، فصيحاً، مهيباً لذاته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب، نشأ هناك ثم رحل إلى المشرق في شيعته طالباً للعلم، فانتهى إلى العراق، وكان كثيراً ظرافاً بساماً في وجوه الناس، مقبلاً على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركو، وكان متحملاً للأذى من الناس، وناله بمكة شيء من المكروه، فخرج منها إلى مصر، وبالغ في الإنكار، فزادوا في أذاه، وطردته الدولة - وكان إذا خاف من البطش وإيقاع الفعل به خلط في كلامه فينسب إلى الجنون - فخرج من مصر إلى الاسكندرية، وركب البحر متوجهاً إلى بلاده، وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد الشرق كأنه شرب ماء البحر جميعه كرتين، فلما ركب في السفينة شرع في تغيير المنكر جميعه على أهل السفينة، وألزمهم إقامة الصلاة وقراءة الأحزاب من القرآن، ولم يزل على ذلك حتى انتهى إلى المهدية - إحدى مدن إفريقية - وكان ملكها يومئذ الأمير يحيى بن تميم بن المعز الصبهاجي، وذلك في سنة خمس وخمس مائة على ما ذكر في تاريخ القيروان. وذكر غيره أنه اجتاز في رجوعه من العراق بإفريقية أيام ولاية الأمير تميم والد يحيى المذكور والله أعلم بالصواب. ولما وصل إلى المهدية نزل في مسجد مغلق وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة، فلا يرى منكراً من عادة الملاهي أو أواني الخمور، إلا نزل إليها وكسرها، وتسامع الناس به في البلاد، فجأووا إليه، وقرؤوا عليه كتباً من أصول الدين، وبلغ خبره الأمير، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء. فلما رأى سمته، وسمع كلامه أكرمه، وأجله وسأله الدعاء، فقال له: أصلحك الله

تعالى لرعيتك، ولم يقم بعد ذلك في المهدية إلا أياماً يسيرة، ثم انتقل إلى بجاي، وأقام بها مدة وهو على حاله في الإنكار، فأخرج منها إلى بعض قراها، واسمها ملال، فوجد بها عبد المؤمن بن علي القيسي. وذكروا في بعض تواريخ المغرب عن سيرة ملوكه أن محمد بن تومرت كان قد اطلع من علوم أهل البيت على كتاب يسمى الجف: بفتح الجيم وسكون الفاء وفي آخره راء - وسيأتي إيضاح الجفر المذكور إن شاء الله تعالى في سنة ثمان وخمسين - وانه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس من ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله عز وجل، يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمى بترمذ - وسيأتي ضبط حروفه بعد إن شاء الله تعالى - ورأى فيه أيضاً أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه يكون على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه ع ب د م وم ن، وتجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان يمر بموضع إلا سأل عنه، ولا يرى أحداً إلا أخذ اسمه وتفقد حليته - وكانت حلية عبد المؤمن معه - فبينا هو في الطريق، إذ رأى شاباً قد بلغ أشده على الصفة التي منه، فقال له وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب؟ فقال: عبد المؤمن، فرجع إليه وقال: الله أكبر، أنت بغيتي، فنظر في حليته، فوافقت ما عنده، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من كومية - بضم الكاف وسكون الواو وكسر الميم وفتح المثناة من تحت - قبيلة، فقال: أين مقصدك؟ فقال: الشرق، فقال: ما تبغي من الشرق؟ قال: أطلب علماً، قال: فقد وجدت علماً وشرفاً وذكراً، اصحبني تنله، فوافقه على ذلك، فألقى محمد إليه أمره، وأودعه سره. وكان محمد قد صحب رجلاً يسمى عبد الله الونشريشي بالنون بعد الواو ثم الشين المعجمة مكررة قبل الراء والمثناة من تحت وبعدهما - ففاوضه فيما عزم عليه من القيام فوافقه على ذلك أتم الموافقة. وكان الونشريشي ممن تهذب وقرأ فقهاً، وكان جميلاً فصيحاً في لغة العرب وأهل المغوب، فتحدثاً يوماً في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب، فقال محمد لعبد الله: أترى أن تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن الناس، وتظهر من العجز واللكن والحصر والتعري عن الفضائل ما تشتهر به عند الناس، ليتخذ الخروج واكتساب العلم دفعة واحدة، ليقوم لك ذلك مقام المعجزة عند حاجتنا إليه، فتصدق فيما تقوله. ففعل عبد الله ذلك.

ثم ان محمداً استدعى أشخاصاً من أهل المغرب أجلاداً في القوى الجسمانية أغماراً، وكان أميل إلى الأغمار من أولي الفطن والاستبصار، فاجتمع له منهم ستة سوى الونشريشي، ثم إنه رحل إلى أقصى المغرب، واجتمع بعبد المؤمن بعد ذلك، وتوجهوا جميعاً إلى مراكش - وسلطانها يومئذ علي بن يوسف بن سفيان وكان ملكاً عظيماً حليماً ورعاً عادلاً متواضعاً، وكان بحضرته رجل يقال له ملك بن وهيب الأندلسي - وكان عالماً صالحاً، وشرع محمد في الإنكار على جاري عادته، حتى أنكر على ابنه الملك - وله في ذلك قصة يطول شرحها فبلغ خبره الملك، وأنه يحدث في تغير الدولة فتحدث ملك بن وهيب في أمره وقال: تخاف من فتح باب يعسر علينا سده، والرأي أن تحضر هذا الشخص وأصحابه ليسمع كلامهم بحضور جماعة من علماء البلد، أجاب الملك، إلى ذلك - وكان محمد وأصحابه مقيمين في مسجد خراب خارج البلد - وطلبوهم، فلما ضمهم المجلس قال الملك لعلماء بلده: سلوا هذا الرجل ما يبغي منا، فانتدب له قاضي المرورية واسمه محمد بن اسود - فقال: ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد إلى الحق، المؤثر طاعة الله - عز وجل - على هواه؟ فقال محمد: أما ما نقل عني فقد قلته، ولي من ورائه أقوال، وأما قولك إنه يؤثر طاعة الله عز وجل على هواه، وينقاد إلى الحق فقد ظهر صحة اعتبار هذا القول عنه، لتعلم، بتعريته عن هذه الصفة أنه مغرور بما يقولون له، وتطرونه به مع علمكم أن الحجة عليه متوجهة - فهل بلغك يا قاضي أن الخمر تباع جهاراً، وأن الخنازير تمشي بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى؟ - وعد من ذلك شيئاً كثيراً. فلما سمع الملك كلامه ذزفت عيناه، وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة لنفسه. ولما رأوا سكوت الملك وانخداعه، لم يتكلم أحد منهم، فقال ملك بن وهيب - وكان كثير الاجتراء على الملك: - أيها الملك؛ إن عندي لنصيحة، إن قبلتها حمدت عاقبتها، وإن تركتها لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي؟ قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكفي شره، وإن لم تفعل ذلك لينفق عليك خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك. فوافقه الملك، فقال وزيره: يقبح بك أن تبكي من موعظة هذا الرجل، ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه - مع عظم ملكك - وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه!!، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس، واستهون أمره، وصرفه، وسأله الدعاء. وحكى صاحب كتاب المغرب أنه لما خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك تأدبت مع الملك؟! فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره. فلما خرج محمد وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا مع وجود ملك بن وهيب، فما نأمن أن يغادر الملك في أمرنا، فينا لنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخاً في الله، فنقصد المرور به، فلم نعدم منه رأياً وإيماء صالحاً واسم هذا الشخص عبد الحق بن ابراهيم من فقهاء المصامدة - فخرجوا إليه ونزلوا عليه، وأخبره محمد خبرهم، وأطلعه على مقصدهم، وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن هذه المواضع المجاورة لهذا البلد تينمل بكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة - في المكان الفلاني، وبيننا وبين ذلك مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما ينسى ذكركم. فلما سمع محمد بهذا الاسم تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصورة، فعلموا أنهم طلاب العلم، فقاموا إليهم، وأكرموهم، وتلقوهم بالترحاب، وأكرموهم في أكرم منازلهم. وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه، فقيل له: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال: تخلصنا من الإثم بحسبهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول محمد إليهم - وكان قد سار فيهم ذكره فجاؤوه - من كل فج عميق، وتبركوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه أضافه إلى خواصه، وإن خالقه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الغباوة، وكان ذو الحلم والعقل من أهاليهم يهنونهم ويحذرونهم من إتباعه، ويخوفونهم من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال. وطالت المدة، وخاف محمد من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ علىير الاجتراء على الملك: - أيها الملك؛ إن عندي لنصيحة، إن قبلتها حمدت عاقبتها، وإن تركتها لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي؟ قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكفي شره، وإن لم تفعل ذلك لينفق عليك خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك. فوافقه الملك، فقال وزيره: يقبح بك أن تبكي من

موعظة هذا الرجل، ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه - مع عظم ملكك - وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه!!، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس، واستهون أمره، وصرفه، وسأله الدعاء. وحكى صاحب كتاب المغرب أنه لما خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك تأدبت مع الملك؟! فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره. فلما خرج محمد وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا مع وجود ملك بن وهيب، فما نأمن أن يغادر الملك في أمرنا، فينا لنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخاً في الله، فنقصد المرور به، فلم نعدم منه رأياً وإيماء صالحاً واسم هذا الشخص عبد الحق بن ابراهيم من فقهاء المصامدة - فخرجوا إليه ونزلوا عليه، وأخبره محمد خبرهم، وأطلعه على مقصدهم، وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن هذه المواضع المجاورة لهذا البلد تينمل بكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة - في المكان الفلاني، وبيننا وبين ذلك مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما ينسى ذكركم. فلما سمع محمد بهذا الاسم تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصورة، فعلموا أنهم طلاب العلم، فقاموا إليهم، وأكرموهم، وتلقوهم بالترحاب، وأكرموهم في أكرم منازلهم. وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه، فقيل له: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال: تخلصنا من الإثم بحسبهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول محمد إليهم - وكان قد سار فيهم ذكره فجاؤوه - من كل فج عميق، وتبركوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه أضافه إلى خواصه، وإن خالقه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الغباوة، وكان ذو الحلم والعقل من أهاليهم يهنونهم ويحذرونهم من

إتباعه، ويخوفونهم من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال. وطالت المدة، وخاف محمد من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه إليهم والتخلي عنه، فشرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليبغضوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقراً زرقاً، وألوان آبائهم السمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه، فألزمهم الإجابة فقالوا: نحن من رعية هذا الملك، وله علينا خرإج في كل سنة، يصعد مماليكه إلينا، وينزلون في بيوتنا، ويخرجوننا عنها، ويستحلون من فيها من النسوان، فيأتي الأولاد على هذه الصفة، وما لنا قدرة على دفع ذلك عنا. قال محمد: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم بهذا - وأنتم أضرب خلق الله بالسيف، وأطعنهم بالحربة؟! - فقالوا: بالرغم لا بالرضى. فقال: أرأيتم لو أن ناصراً نصركم على أعدائكم، ما كنتم تصنعون؟ قالوا كنا نقدم أنفسنا بين يديه بالموت، قالوا: ومن هو؟ قال: ضيفكم. يعني: نفسه، فقالوا: السمع والطاعة. وكانوا يغالون في تعظيمه، فأخذ عليهم العهود والمواثيق، واطمأن قلبه. ثم قال لهم: استعدوا لحضور هؤلاء بالسلاح، فإذا جاءكم فأجروهم على عوائدهم، وخلوا بينهم وبين النساء، وميلوا عليهم بالخمور، فإذا سكروا فاذنوني بهم. فلما حضر المماليك، وفعل معهم أهل الجبل ما أشار به - وكان ليلاً - أعلموه بذلك، فأمر بقتلهم بأسرهم، فلم يمض من الليل سوى ساعة حتى أتوا على آخرهم، ولم يفلت منهم سوى مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة، وسمع النكبة عليهم والوقع بهم، فهرب من غير الطريق حتى خلص من الجبل، ولحق بمراكش، وأخبر الملك بما جرى، فندم الملك على فوات محمد من يده، وعلم أن الحزم كان مع ملك بن وهيب بما أشار به، فجهز من وقته خيلاً بمقدار ما يسع ذلك الوادي، فإنه ضيق المسلك، وعلم محمد أنه لا بد من عسكر يخرج إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أبواب الوادي، وراصده، واستنجد لهم بعض المجاورين، فلما وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من جانب الوادي مثل المطر - وكان ذلك من أول النهار إلى آخره - وحال بينهم الليل، ورجع العسكر إلى الملك فأخبروه بما نزل بهم، فعلم أنه لا طاقة له بأهل الجبل لتحصنهم، فأعرض عنهم، وتحقق محمد ذلك منه، وصفا له مودة أهل الجبل، فعند ذلك استدعى الونشريشي المذكور وقال له: هذا أوان إظهار فضائلك دفعة واحدة لتقوم المعجزة، لتستميل بك قلوب من لا يدخل في الطاعة. ثم اتفقا على أنه يصلي الصبح، ويقول بلسان فصيح بعد استعمال العجمة واللكنة في

تلك المدة: - إني رأيت البارحة في منامي: وقد نزل ملكان من السماء، وشقا فؤادي، وغلاه وحشياه علماً وحكمة وقرآناً، فلما أصبح قال ذلك - وهو فصل يطول شرحه - فاتفق أنه انقاد له كل صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النوم، فقال له محمد: فعجل لنا بالبشرى في أنفسنا، وعرفنا: أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت؛ فإنك المهدي القائم بأمر الله، ومن معك سعد، ومن خالفك هلك، ثم قال: أعرض أصحابك علي حتى أميز أهل الجنة من أهل النار، وعمل في ذلك حيلة قتل بها من خالف أمر محمد، وأبقى من أطاعه - وشرح ذلك يطول - وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالف لمحمد. فلما قتل من قتل علم محمد أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا، وأنهم لا تطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم وبشرهم بانتقال ملك مراكش إليهم، واغتنامهم أموالهم، فسرهم ذلك، وسلاهم عن أهلهم. وبالجملة فإن تفصيل هذه الواقعة طويل، وخلاصة الأمر أن محمداً لم يزل حتى جهز جيشاً عدد رجآله عشرة آلاف - ما بين فارس وراجل - وفيهم عبد المؤمن والونشريشي وأصحابه كلهم، وأقام هو بالجبل، فنزل القوم لحصار مراكش، وأقاموا عليها شهراً ثم كسروا كسرة شنيعة، وهرب من سلم من القتل، وكان فيمن سلم عبد المؤمن، وقتل الونثسريشي، وبلغ محمداً الخبر - وهو بالجبل - وحضرته الوفاة قبل عود أصحابه إليه، فأوصى من حضر أن يبلغ ألفائبين أن النصر بهم وألفاقبة حميدة، فلا يضجروا، وليعتادوا القتال، وأن الله سيفتح على أيديهم - والحرب سجال - وإنكم ستقومون ويضعفون، وسيفتح لكم وتكثرون ويقفون، وأنتم في مبدأ أمروهم في آخره - ومثل هذه الوصايا وأشباهها، وهي وصية طويلة. ثم إنه توفي رحمة الله تعالى في السنة المذكورة، ودفن في الجبل، وقبره هناك مشهور يزار. وكانت ولادته يوم عاشوراء سنة خمس وثمانين وأربع مائة، وأول دعأنه إلى هذا الأمر سنة أربع عشرة وخمس مائة، وكان رجلاً ربعة قصيراً أسمر عظيم آلهامة حاد النظر. قال صاحب كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب في حقه: آثاره تنبئك عن أخباره، وحتى كأنك بألفا قدم في الثرى وهذة في الثريا، ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون ماء المحيا. وكان قوته - من غزل أخت له - رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً - وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه - فأمر بضم جميعه، فأحرقه وقال: من كان يبتغي الدنيا فما له عندي إلا ما رأى، ومن يبتغي الآخرة فجزاؤه على الله تعالى، وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً، منيع الحجاب إلا عند مظلمة، وله رجل مخص بخدمته والإذن عليه، وكان له شعر ومن ذلك: قصيراً أسمر عظيم آلهامة حاد النظر. قال صاحب كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب في حقه: آثاره تنبئك عن أخباره، وحتى كأنك بألفا قدم في الثرى وهذة في الثريا، ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون ماء المحيا. وكان قوته - من غزل أخت له - رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن

هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً - وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه - فأمر بضم جميعه، فأحرقه وقال: من كان يبتغي الدنيا فما له عندي إلا ما رأى، ومن يبتغي الآخرة فجزاؤه على الله تعالى، وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً، منيع الحجاب إلا عند مظلمة، وله رجل مخص بخدمته والإذن عليه، وكان له شعر ومن ذلك: أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلفك القوم اذ ودعوا فكم أنت تنهي ولا تنتهي ... وتسمع وعظاً ولا تسمع فيا حجر الشجر حتى متى ... تسد الحديد ولا تقطع وكان كثيراً ما ينشد: تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد ولم يفتتح شيئاً من البلاد، وإنما قرر القواعد ومهدها ورتبها، وكانت الفتوحات على يد عبد المؤمن كما سيأتي في ترجمته - أن أول ما أخذ تلمسان ثم فاس ثم سلا ثم سبتة ثم مراكش، واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس. ومما ذكر بعض المؤرخين أنه ادعى الإمامة وأنه معصوم، قال: وكان على طريقة مثلى لا تنكر معه العظمة، وقيل: كان حاذقاً في ضرب إلىمل، وقيل: اتفق لعبد المؤمن أنه كان قد رأى أنه جمل في صحفة مع ابن تاشفين، ثم اختطف الصحفة منه، فقال له المعبر هذه إلىؤيا: لا ينبغي أن تكون ذلك، بل هي لرجل يخرج على ابن تاشفين، ثم يغلب على الأمر. وذكر أنه بعدما انكسرت المصادمة انتصرت مرة أخرى، ثم استنجد أمرهم وأخذوا في شن ألفارات في بلاد ابن تاشفين، وكثر ألفاخلون في دعوتهم. وكان ابن تومرت لم يزل على لون واحد من الزهد والتقلل والعبادة وإقامة السنن والشعائر. قال: غير أنه أفسد بالدعاء - كونه المهدي - وبسرعته في الدعاء، وكان ربما كاشف أصحابه، ووعدهم بأمور فيوافق، وكان طويل الصمت حسن الخشوع والسمت رحمه الله تعالى.

سنة خمس وعشرين وخمس مائة

وفيها توفي الآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن المستعلي بالله العبيدي - صاحب مصر - كان مشتهراً بالظلم والفسق، امتدت دولته ثلاثين سنة. فلما تمكن وكبر قتل وزيره الأفضل، وأقام في الوزارة الشامون البطائحي، ثم صادره وقتله، ولما خرج إلى الجيزة في وقت كمن له قوم بالسلاح، فلما مر على الجسر نزلوا عليه بالسيوف، ولم يكن له عقب، فبايعوا بعده ابن عمه الحافظ عبد الحميد ابن الأمير محمد بن المستنصر. وفيها توفي أبو محمد بن الأكفاني هبة الله بن أحمد بن محمد الأنصاري الدمشقي الحافظ. وفيها توفيت فاطمة الجوزدانية بالجيم وبعد الواو زاي وذال معجمة وبين الألف وياء النسبة نون أم ابراهيم بنت عبد الله الأصبهانية، سمعت من ابن ريذة معجم الطبراني، وعاشت تسعاً وتسعين سنة. سنة خمس وعشرين وخمس مائة وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ألفارف بالله، الخبير ذو الكرامات الكريمات والأحوال العظيمات والمقامات العلية والطريقة السنية أبو عبد الله حماد بن مسلم الدباس، كان أمياً، وفتح عليه بالمعارف والأسرار، وصار قدوة للمشايخ الكبار، وكبرت به الأصاغر، وهو الشيخ الذي خضعت له رقاب الشيوخ الأكابر محيي الدين أبي محمد عبد ألفادر الجيلاني - رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم آمين - ولكل واحد من الكرامات ما لا يسعه إلا مجلمات، وقد ذكرت شيئاً من ذلك في غير هذا الكتاب يدهش من سمعه من ذوي القلوب والألفاب، وكانت وفاة الشيخ المذكور ذي المناقب المشهورة في شهر رمضان من السنة المذكورة. وفيها توفي عن ثمان وثمانين سنة الولي الكبير الشهير الإمام النجيب النبيه المعروف بالشيخ محمد بن عبدويه: المشهور بالفضل والورع والاحسان المدفون في بلاد اليمن في جزيرة كمران - بفتح الحروف الثلاثة - تفقه على الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي في بغداد بكتابه المهذب ومسائل الخلاف وبكتبه في الأصول والجدل، ودخل اليمن بكتاب المهذب، وهو أول من دخل به اليمن - على ما بلغني - وسكن عدن مدة، ثم انتقل إلى زبيد - وملوكها الحبشة يومئذ - فدخلها مفضل بن أبي البركات بعسكر من العرب، وكان للشيخ

المذكور مال يتجر به، فانتهب مع جملة ما نهب من زبيد، قال الامام المعروف بابن سمرة في تاريخه: وأظن ذلك وقع في الوقعة الأولى سنة تسمع وتسعين وأربعمائة. ثم خرج ابن عبدويه المذكور فسكن في جزيرة كمران، قلت وبها توفي، وأنا ممن زار قبره هنالك. قال ابن سمرة: وكانت أهل التوحيد وأهل الجلالات - يأتون للسلام عليه، ويقبلون رأسه - وهو قاعد - وكان كثير الزهد والورع، متحرياً في المطعم، لا يأكل إلا الأرز من بلاد آلهند، وكان عبيده يسافرون إلى الحبشة وآلهند ومكة وعدن للتجارة، فأخلف الله تعالى عليه أموالاً، فكان ينفق على طلبة العلم منها، وكان ظاهر التقوى مؤألفا للمسلمين من كل أفق. وله تصنيف في أصول الفقه سماه الإرشاد، وكان له ولد عالم بعلم الكلام والأصول مع تنوير في الفقه يسمى عبد الله، تفقه بأبيه، ومات قبله في سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة، ودفن في الجزيرة المذكورة، ودفن والده لما توفى إلى جنبه، وقبرهما هنالك بجنب المسجد يزاران، يزورهم الصالحون وغيرهم، ويتبرك بترابهما. قال ابن سمرة: وله ذرية فقراء في هذه الجزيرة إلى اليوم، وهم ذوو مروءة ودين، وذكر أنه حج من عدن في البحر مع الشيخ الكبير الولي الشهير: مدافع بن سعيد التميمي، ومروا بالجزيرة المذكورة في سنة أربع وسبعين وخمس مائة، فكنا نقصد القبرين، ونزورهما واردين وصادرين، ونتبرك بالمسجد والقبرين وآثار الفقيهين وآثار التدريس. وفي المسجد ختمة موقوفة، ذكر بعض ذرية الشيخ محمد أنه بخط جده محمد المذكور، هذا بعض كلام ابن سمرة في ذلك. قلت: وقد زرت المسجد والقبرين، فأدركت بعض ذرية الوليين المذكورين، وأضافوني خبزاً وتمراً وملما، وسمكاً يقال له الشيراز، وكان الشيخ في ذلك الزمان لمكان الشيخ أحمد الأسوم، من أهل الصلاح وممن أشار إليه بالسر والصلاح، وكان الشيخ ابن عبدويه المذكور معظماً عند الناس غزير العلم كريم النفس، ارتحل إليه خلائق من فقهاء اليمن من بلمان شتى لعلمه وجوده وإتقانه وفهمه، وأخذوا عنه العلم، وكتب للشيخ أبي إسحاق المهذب وغيره، والتاريخ قرأه بعضهم عليه في سنة تسع عشرة وخمس مائة، كان قد ابتلي بذهاب البصر، فقال عند ذلك مخاطباً لنفسه - رحمة الله عليه -: وقالوا قد دها عينيك سوء ... فلو عالجته بالقدح زالا فقلت إلىب مختبري بهذا ... فإن أصبر أنل منه الجلالا وإن أجزع حرمت الأجر منه ... وكان حصيصتي منه الوبالا وإني صابر راض شكور ... ولست مغيراً ما قد أنا لا

صنيع مليكنا حسن جميل ... وليس لصنعه شيء مثالاً وربي غير متصف بحيف ... تعالى ربنا عن ذا تعالى ولما توفي ولده المتقدم ذكره رثاه بعض فقهاء اليمن بقصيدة، قال في بعضها: أمن بعد عبد الله نجل محمد ... يصون دموع العين من كان مسلما وقد غاض بحر العلم مذ غاب شخصه ... ولكن بحر الوجد من بعده طمى وفي السنة المذكورة توفي أبو العلاء - ابن عبد الملك الإيادي الإشبيلي طبيب الأندلس صاحب التصانيف، حدث عن أبي الغساني وجماعة، وله شعر رائق ورئاسة كبيرة. وفيها توفي الملقب بعين القضاة أبو المعالي عبد الله بن محمد آلهمداني الفقيه العلامة الأديب، وأحد من يضرب به المثل في الذكاء ألفارع النجيب، دخل فى مذهب التصوف، وأخذ في الكلام والإشارات الدقيقة وما لا يفهمه الخلق من أسرار الحقيقة مما نسب فيه إلى الكفيان فقتل به مصلوباً بهمذان. وفيها توفي السلطان مغيث الدين محمود ابن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وكان قد خطب له ببغداد وغيرها، وله معرفة بالنحو والشعر والتاريخ، وكان شديد الميل إلى أهل العلم والخير - وتوفي بهمذان. وفيها توفي مسند العراق هبة الله بن حصين الشيباني البغدادي. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهير الإيادي الأندلسي الإشبيلي، من أهل بيت كلهم وزراء وعلماء ورؤساء وحكماء. قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه المسمى المطرب من أشعار أهل المغرب، وكان شيخنا أبو بكر - يعني ابن زهير المذكور بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب معين، كان يحفظ شعر ذي إلىمة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلما عند أصحاب المغرب، مع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب، صحبته زماناً طويلاً، واستفدت منه أدباً جليلاً، ومن شعر ابن زهير المذكور وقد شاخ وغلب عليه الشيب: إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلماي كل ما رأنا رأيت فيها شويخاً لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟

فاسضحكت ثم قالت وهي معجبة ... إن الذي أنكرته مقلماك أتى كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا قلت وقد عارضت هذه الأبيات لما أنشدها بعض المغاربة بقصيدة تنيف على ثمانين بيتاً سميتها: الرياض في الوعظ والاتعاظ وفي بيان حدود الأسنان والعراض وهي هذه: وناعم فاقد ألفا يذكرنا ... نجداً واحداً وسلما والصفا ومنى ومن بها حل والعيش الذي انصرمت ... واللمالي التي فيها بلوغ منى وسادة كانت الأيام زاهرة ... بالنور واليمن فيهم زينوا اليمنا ما بين حلى سقي من غيث رحمته ربي ثرى من بها ثاو ومن عدنا إن قلت في فضل سادات لنا سلفوا ... فقول حسان في الأسلاف قد حسنا لكنني في مديحي قد عممت به ... شيوخ الإسلام لم أخصص أحبتنا من كان في شرق أرض أو بمغربها ... والشام واليمن ألفاوي لمحتدنا ومدح شيب أتت في الشرع مدحته ... معارضاً من له بالذم أفهمنا يا من رأى منقبات الشيب منقصه ... لم تدر كم قيل في علماه حدثنا وكم روى من إمام نور ذاك عدا ... وما به من وقار قد رووه لنا كذلك الحق يستحيي تبارك من ... ذي شيبة كلها تروي أئمتنا صغرته إذ شويخاً قلت مع خطأ ... التصغير أيضاً خطا واوبه قرنا كبره واقصد به تعظيم حرمة من ... بالدين دانوا وزانوا بالحلي الزمنا قل غيرنا وبه للنفس مدحتها ... فالله يعلم منك السر والعلنا لما نظرت إلى المرآة قد جليت ... شاهدت في تلك شيخاً قد علاه سنا فقلت من ذا وعهدي قبل ذاك فتى ... بالزهور يرفل في ثوب الشباب هنا فقال منها لمان ألفال ذاك مضى ... في ليل جهل قبيل الصبح حين دنا وذا بدا حين فجر العقل ضاء به ... نور الوقار مع الأحلام قد سكنا وبين ذين بدت أعلام نور بها ... كهولة زانها وشي وحسن ثنا وهكذا العمر دولات كفاكهة ... زهو وأرطابها قد أورثت شحنا وبعد أرطابها تمر فضيلته ... مشهورة فيه قوت للفقير غنى ففي الثلاثين للشبان منزلة ... فيها ثناها انتهى ما بعد ذاك بنا في تلك عيش نفوس أخضر وبها ... نعيم دنيا عني قد شابه وضنا تكدير صفو ومن بعد الحياة فنا ... فالحزن يتلو سروراً والبكاء عنا منازل الشيخ من خمسين قبل بدت ... من أربعين وفيها الانتهاء فنا

وبعد ذاك رحيل نحو دار بقا ... فيها نعيم وسعد وشقا وعنا حسب اكتساب لماعات ومعصية ... إليهما ألفابق المقدور قاد لنا فضلاً وعدلاً، ومن شاء الكريم حبا ... عفواً وخير الذي عصيانه ودنا منازل الكهل بين المنزلين ثوت ... للصاليحن بها عيش القلوب هنا إلى نهايات غايات الحياة بها ... رياض فضل لأرباب القلوب مفا وللجنان جنان الوصل مثمرة ... فكم فواكه فيها للنفوس من حنا على مدى الدهر قد زادت زكاوتها ... لذاذة عند ذي ذوق وطيب جنا من فاكهات فعال الصألفات جنوا ... وذو البطالات يجني الشوك مشبهنا يا مشبهي يافعي في بطالته ... وضيعة العمر قولوا يا مصيبتنا يا حسرتا بالنحاس الدون جوهرة ... النفيس بعنا، وما الدنيا له ثمنا بل كل فيد من إنماس الحياة سما ... فضلاً على عيش دنيا معقباً فتنا يا غبن من باع داراً بالفلوس إذا ... ما مفلس الدين جا بالدين مرتهنا قد ضيع العمر لا علم ولا عمل ... مسوده أبيض والعظم القوي وهنا هل بعدما ابيض زرع في منارعه ... إلا حصاد وهل في وقت ذاك ونا حصد القضا بغتة تأتيه أمنية ... خف النوازل فالمغرور من أمنا فكم صغير زروع حصد ذاك أتى ... فانهض بعزم وحزم عل ذاك دنا شمر وعمر بحصن القلب حارسه ... ومن العدو الذي أمسى له وطنا أين الجهاد وإكثار السهاد إذا ... لذ إلىقاد نفى عن طرفه الوسنا وأين تأديب نفس في رياضتها ... بالجوع والصمت والسمت الذي حسنا وبئس مثلي بثوب العجز مشتملاً ... نحو التكاسل قد مهر الجياد ثنا يلقى علائقه أمست عوائقه ... عن كسب خير وفي القلب الونا وطنا سلم الذنوب وداء من عيوب هوى ... قد صيرا كل من قد ثبط زمنا يا بارد القلب يا خالي الفؤاد ومن ... ما هزه ذكر من في حاجز سكنا ولا نسيم صبا نجد الغرام ولا ... نشر الحزام ولا من في النقا عطنا ولا خيام لسلمى دون ذي سلم ... ولا العقيق ومن من رامتين دنا ولا صفا عند جيران الصفا وهوى ... من في خيام زهت من دون خيف منا من يشرب الحب لم ماء العذيب يذقومن زكا بالهوى ما شم طيب منا ولا بكى عندما ناح الحمام ولا ... يرتاح إن لاح من برق الحجاز سنا

ولا لنعما ونعمان هواه ولا ... يشتاق في المنزل الأصلي إلىضا وطنا ولا دنا من خيام في حمى وهوى ... نور الجمال الذي كم عاشق فتنا مثلي بعيد وكل قد ألم به ... النذير لاه ومن سطواته أمنا نذير هادم لذات الشبيب فتى ... مفيق لجماعات الصحاب دنا ومسكت ذا فصاحات به شمت الأ ... عدا وسروا وأحباب بكوا حزنا وقدموا لرحيل حان مركبه ... مطية إلىاحلين النعش والكفنا وشيعوه إلى أن جاء منزله ... تحت الجنادل في بيت البلاد فنا في ضيق للحد ترعى الدود آكلة ... خدين يا طألفا بالحسن قد فتنا ومقلة حل فيها الحسن سائلة ... وطيب الريح أضحى جيفه نتنا وبعد ذاك نشور وإلىحيل إلى ... دار الجزا فعذاب أو لماء منا ما لا يبال ولا عين رأته ولا ... لوصفه جاء ذكر طارق أذنا هذا مقالي تناهى في العراض وفي ... اعتذاري عن اللوم الملم بنا ما أحسن الحق والإنصاف حيث هما ... حلا ولو في مساكين هما سكنا فافهم هديت سوى نهج إلىشاد وكن ... محققاً ومحقاً من ملا فطنا حسن البلاغة مع حسن استعارتها ... ضاعا مع العي أو من يكتم الحسنا من ليس يمدح سلمى عندما جليت ... يحكي لمن في الثرى البدر البهي دفنا يا سامعاً لفظ نظمي لا تظن به ... مدحي لنفسي قبيح إن أقول: أنا لا تحسبن فيه تخصيصاً لمدحتها ... والله ما طرف قلبي نحو ذاك رنا لكني عارضت في مدح الشيوخ به ... من ذمهم في مديح والسباب عنى من لفظه ذاك مفهوم ومعذرتي ... في ذكر نفسي جلي عند من فطنا ما لي طريق ومرآة بها نظري ... شخصي سوى ما أرى غيري بها كمنا إلا الذي قلت في روم العراض به ... مثل الذي قال: لاسوء يظن بنا والله ما أرتضي فيها مطالعتي ... كيلا أرى شين وجه للذنوب جنا هاك المقال الذي جاء العراض لمن ... قال له ينهى ألفافيات بنا نظرت يوماً إلى المرآة إذ جليت ... فانكرت مقلماي عندما رأتا رأيت فيها شويخاً لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى فقلت اين الذي بالأمس كان هنامتى ترحل عن هذا المحل متى؟ فاستضحكت ثم قالت وهي ما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى هذا بذاك وكل لا دوام له ... أما ترى العود يذوي بعدما نبتا؟

سنة ست وعشرين وخمس مائة

بالواو يروي شويخاً عن مقالته ... صواب ذاك شييخاً حين شاب عتا بالله أنصف من المداح ذين هدى ... منا ومن مادح الدنيا بما نعتا ها قد ثنت عن ثمانين العنان وما ... في مهرها من كلال نحو ذاك أتى على الثمانين قد نافت ثمانية ... تزهو رياض عراض في أوان شتا ختامها حمد ربي والصلاة على ... ختام رسل به ألفاران كلمتا والآل والصحب سامي المجد ما نغمت ... حمامتا أيكة خضرا وغردتا ؟؟؟؟؟؟ سنة ست وعشرين وخمس مائة فيها كانت الوقعة بناحية الدينور بين السلطان سنجر وبين ابني أخيه: سلجوق ومسعود. قال ابن الجوزي: كان مع سنجر مائة وستون ألفا، ومع مسعود ثلاثون ألفا، وبلغت القتلى أربعين ألفا فقتلوا قتلة جاهلية على الملك لا على الدين، وقتل أتابك السلجوقي، وجاء مسعود لما رأى الغلبة إلى بين يدي سنجر، فعفا عنه، وأعاده إلى مكانه، وقرر سلطنة بغداد لطغرل بك - بالماء المهملة والغين المعجمة وإلىاء الموحدة قبل ألفاف - ورد هو إلى خراسان. وفيها التقى المسترشد بالله بزنكي - بالزاي والنون قبل ألفاف - ودبيس، وشهر المسترشد يومئذ السيف، وحمل بنفسه - وكان في الفتن فانهزم دبيس وقتل من عسكرهما خلق. وفيها توفي الملك الأكمل أحمد بن الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي المصري، سجن بعد قتل أبيه مدة إلى أن قتل الأمير، وأقيم الحافظ، وأخرج الأكمل؟ وولي وزارة السيف والقلم، وكان شهماً عالي آلهمة كأبيه وجده، فحجر على الحافظ، ومنعه من الظهور، وأخذ أكثر ما في القصر، وأهمل ناموس الخلافة العبيدية لأنه سنياً كأبيه، لكنه أظهر التمسك بالإمام المنتظر، وأبطل من الأذان: حي على خير العمل، وغير قواعد القوم، فأبغضه الدعاة والقواد، وعملوا عليه، فيكب للعب الكرة في المحرم فوثبوا عليه، وطعنه مملوك الحافظ بحربة، وأخرجوا الحافظ، ونزل إلى دار الأكمل واستولى على خزائنه.

سنة سبع وعشرين وخمس مائة

وفيها توفي أبو المعز محمد بن عبد الله السلمي العكبري، وهو آخر من روى عن القاضي أبي الحسن ألفاوردي. وروى عنه الجوهري والقاضي أبو طيب الطبري وغيرهم. وفيها توفي بوري - بضم الموحدة وكسر إلىاء بين الواو والماء - الملقب بتاج الملوك، صاحب دمشق ابن صاحبها طغتكين مملوك تاج الدولة السلجوقي فنفي عليه ألفاطنية، فخرج وتعلل أشهراً ومات، وولي بعده ابنه شمس الملوك اسماعيل، وكان شجاعاً مجاهداً جواداً كريماً. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله بن أبي جعفر ألفالكي، انتهت إليه رئاسة ألفالكية. روى عن ابن البر وغيره من الكبار، وسمع بمكة صحيح مسلم من أبي عبد الله الطبري. وفيها توفي القاضي أبو الحسن ابن الفياء البغدادي الحنبلي، وكان متفنناً مناظراً عارفاً بالمذهب ودقائقه، أكثر الحط على الأشعرية، قتل ليلة عاشوراء، وأخذ مآله، ثم قتل قاتله. سنة سبع وعشرين وخمس مائة فيها قدمت التركمان، فأغاروا على أعمال طرابل، فالتقاهم فينج طرابلس، فهزمهم التركمان. وفيها سار المسترشد بالله في اثني عثر ألفا إلى الموصل، فحاصرها ثمانين يوماً وزنكي بها، ثم ترحل خوفاً على بغداد من دبيس والسلطان مسعود. وفيها توفي مسند العراق أبو غالب بن البناء البغدادي الحنبلي. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن سلامة الكرخي. برع في المذهب وغوامضه على الشيخين أبي إسحاق وابن الصباغ، حتى صار يضرب به المثل في الخلاف والمناظرة، ثم علم أولاد الخليفة.

سنة ثمان وعشرين وخمس مائة

وفيها توفي العلامة أبو الفتح الميهن، وأبو سعيد صاحب التعليقة، تفقه بمرو وغزنة، وشاع فضله، وبعد صيته، وولي نظامية بغداد مرتين، وخرج له عدة تلامذة. وكان يتوقد ذكاء، تفقه على أبي المظفر بن السمعاني وموفق آلهروي، وكان يرجع إلى خوف ودين. وفيها توفي ابن الزاغوني أبو الحسن بن عبيد الله البغدادي شيخ الحنابلة. روى الحديث وقرأ القراءات، وبرع في المذاهب والأصول والوعظ، وصنف التصانيف واشتهر. وفيها توفي رئيس نيسابور وصدرها وقاضيها وعالمها أبو سعيد محمد بن أحمد الصاعدي، وأبو حازم بن الفياء الفقيه الحنبلي محمد ابن القاضي أبي يعلى، برع في المذهب والأصول والخلاف، وبرع أهل زمانه بالزهد والديانة، صنف كتاب التبصرة في الخلاف ورؤوس المسائل وشرح مختصر الجرمي، وغير ذلك. سنة ثمان وعشرين وخمس مائة وفيها قدم رسول السلطان سنجر، فأكرم، وأرسل إليه المسترشد بالله خلعة عظيمة، قومت بمائة وعشرين ألف دينار. ثم عرض المسترشد جيشه، فبلغ خمسة عشر ألفا في عدد وزينة لم ير مثلها، وجدد المسترشد قواعد الخلافة، ونشر رسمها، وهابته الملوك. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو الوقت أحمد بن علي الشيرازي صاحب إلىباط والأصحاب والمريدين ببغداد، وكان يحضر السماع. وفيها توفي شيخ الشافعية أبو علي ألفارقي الحسن بن ابراهيم، تفقه على محمد بن بيان ألفازروني، ثم ارتحل إلى الشيخ أبي إسحاق، وحفظ عليه المهذب، وتفقه على ابن الصباغ، وحفظ عليه الشامل، وكان ورعاً زاهداً صاحب حق مجوداً لحفظ الكتابين المذكورين، وقد سمع من أبي جعفر بن سلمة وجماعة، وولي قضاء واسط مدة وعليه تفقه القاضي أبو سعيد بن أبي عصرون. وفيها وقيل في التي تليها توفي ابن أبي الصلت أمية بن عبد العزيز ألفاني الأندلسي، كان ماهراً في علوم الأوائل من الطبيعي والرياضي والآلهي، كثير التصانيف بديع النظم،

سنة تسع وعشرين وخمس مائة

رأساً في معرفة علم آلهيئة والنجوم والموسيقى انتقل في البلاد ومات غريباً. ومن تصانيفه كتابه الذي سماه الحديقة، على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي، ورسالة العمل بالاصطرلاب، وكتاب الوجيز في آلهندسة، وكتاب الأدوية المفيدة، وكتاب في المنطق سماه تقويم الدهر، وكتاب سماه الانتصار في إلىد على ابن رضوان في ردة على حنين بن إسحاق في مسائلة. لما صنف الوجيز للأفضل الملقب بشاهنشاه عرضه على شيخه أبي عبد الله الحلبي فلما وقف عليه قال: هذا الكتاب لا ينفع المبتدىء، ويستغنى عنه للمنتهي، وكان فاضلاً في علوم الأدب عارفاً بفن الحكمة، يقال له الأديب الحكيم، وانتقل إلى ثغر الاسكندرية، ومن جملة ما ينسب إليه من النظم: إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرة، والغوارب ومما نسب إليه أيضاً العماد ألفاتب في الخريدة. وقائلة ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف إلىأي أم أنت عاجز؟ فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يجوزوه من المجد حائز وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز وله أيضاً: سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الأمر ليس يجور فياليت شعري كيف ألفاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير؟ فإن أك مجزياً بذنبي فإنني ... بسوء عقاب المذنبين جدير وإن يك عفو منك ربي ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور كانت وفاته بالمهدية من بلاد المغرب، ونزل من صاحبها علي بن يحيى بن تميم بن المعز منزلة جليلة بعد أن كان قد نفاه الأفضل من مصر. انتهى مختصراً. سنة تسع وعشرين وخمس مائة وفيها حشر السلطان محمود، وجميع الجيوش، ونفذ خمسة آلاف فكبسوا مقدمة المسترشد، وأخذوا خيلهم وأمتعتهم، فيد إلى بغدا بأسوأ حال، ثم سار الخليفة إليه

في سبعة آلاف، وكان مسعود بهمذان في بضع عشرة ألفا، فالتقوا في رمضان، فانكسر عسكر الخليفة، وأحيط به وبخواصه، وأخذت خزائنه، وكان معه على البغال أربعة آلاف ألف دينار، ولم يقتل سوى خمسة أنفس، وحصل المسترشد في أسر مسعود، وأقام أهل بغداد يوم العيد عليه سنة ألفاتم، وهاشوا على شحنة مسعود، فاقتتل الأجناد والعوام، وقتل جمع كثير، وأشرفت بغداد على اللهب. ثم أمر الشحنة فنودي أن سلمانكم آت بين يدي الخليفة، وعلى كتفه ألفاشية، فسكنوا. وأما مسعود فسار، ومعه الخليفة معتقلاً إلى مراغة - وبها داود بن محمود - فأرسل سنجر يهدد مسعوداً ويخوفه، ويأمره أن يتلافى الأمر بأن يعيد المسترشد إلى دسته، ويمشي في ركابه، فسارع إلى ذلك، واتفق أن مسعوداً ركب في جيشه، فهجم على سرادق المسترشد سبعة عشر من ألفاطنية، فقتلوه بظاهر مراغة، وجلس السلطان للعزاء، فوقع البكاء والنوح، وجاء الخبر إلى ولده إلىاشد، فبايعوه ببغداد طول الليل، وأقام عليه البغداديون مأتماً ما سمع بمثله قط. وكانت خلافة المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بالله عبد الله ابن محمد ألفائم آلهاشمي العباسي سبع عشرة سنة ونصفاً. واستخلف بعده ابنه، وسنه إذ ذاك سبع وعشرون سنة، وقيل إن ألفاطنية جهزهم عليه مسعود، قيل: ولم يل الخلافة بعد المعتضد بالله أشهم منه، كان بطلاً شجاعاً مقداماً شديد آلهيبة، ذا رأي ويقظة وهمة عالية. وقد روى عن أبي القاسم بن بيان إلىزاز - بالزاي المكررة قبل الألف وبعدها. وفيها توفي شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين - ولي دمشق بعد أبيه، وأخذ من الفرنج عدة حصون، وكان وافي الحرمة موصوفاً بالشجاعة، لكنه كان ظألفا مصادراً جباراً مفسداً، فيتبت أمه زمند خاتون من وثب عليه، فقتله في قلعة دمشق وكانت دولته ثلاث سنين وتولى بعده في الملك أخوه محمود. وفيها قتل حسن ابن الحافظ لدين الله العبيدي المصري الذي ولي وزارة أبيه ثلاثة أعوام، فظلم وغشم، وفتك حتى إنه قتل في ليلة أربعين أميراً، فخافه أبوه، وجهز لحربه جماعة، فالتقاهم، واختبطت مصر، ثم دس عليه أبوه من سقاه السم، فهلك.

سنة ثلاثين وخمس مائة

وفيها توفي دبيس بن صدقة ملك العرب أبو الأعز، ولد الأمير سيف الدولة الأسدي، كان فارساً شجاعاً مقداماً ممدحاً، خرج على المسترشد بالله، ودخل خراسان والشام والجزيرة، واستولى على كثير من العراق، قتله السلطان مسعود، وأظهر أنه قتله آخذاً بثأر المسترشد، وهو من بيت كبير، وإياه أراد الحريري في المقامة ألفاسعة والثلاثين بقوله: والأسدي دبيس، لأنه كان معاصره، فيام التقرب إليه بذكره في مقاماته، على ما ذكره ابن خلكان. وله نظم حسن منه قوله: ألا قل لبدران الذي حن نازعاً ... إلى أرضه والحر ليس يخيب تمتع بأيام السرور فإنما ... عذار الأماني بآلهموم تشيب ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيب وفيها توفي الحافظ الأديب الشيخ عبد ألفافي بن اسماعيل بن عبد ألفافي ألفارسي، صاحب تاريخ نيسابور، ومصنف مجمع الغرائب والمفهم في شرح مختصر صحيح مسلم. كان إماماً في الحديث واللغة والأدب والبلاغة. حدث عن جده لأمه الشيخ الإمام أبي القاسم القشيري وطبقته، أجازه أبو محمد الجوهري وآخرون. وفيها توفي قاضي الجماعة محمد بن أحمد التجيبي القرطبي ألفالكي. روى عن أبي علي الغساني وطائفة، وكان من جلة العلماء وكبارهم، مع الدين والخشوع. قتل مظلوماً بجامع قرطبة في صلاة الجمعة - رحمه الله تعالى -. سنة ثلاثين وخمس مائة فيها جاء أمير من جهة السلطان المسعود يطلب من إلىاشد بالله سبعمائة ألف دينار، فاستشار الأعيان، فأشاروا عليه بألفاجيل، فيد على مسعود بقوة نفس، وأخذ يتهيأ، فانزعج أهل بغداد، وعلقوا السلاح، ثم إن إلىاشد قبض على إقبال ألفادم، وأخذت حواصله، فتألم العسكر لذلك، وشغبوا، ووقع اللهب، ثم جاء زنكي، وسأل في إقبال سؤالاً تحته إلزام، فأطلق له. ثم خرج بالعساكر، فجاء عسكر مسعود، فنازلوا بغداد، وقاتلهم الناس، وخامر جماعة أمراء إلى إلىاشد، ثم بعد أيام وصل مسعود يطلب من إلىاشد الصلح، فقرئت مكاتبته على الأمراء، فأبوا إلا القتال، فأقبل مسعود في خمسة آلاف راكب، ودام الحصار، واضطرب عسكر الخليفة، وجرت أمور يطول ذكرها، ثم كاتب مسعود زنكي، وواعده ومناه، فكتب إلى الأمراء إنكم إن قتلتم زنكي أعطيتكم بلاده، فعلم زنكي بذاك، فيحل هو

وإلىاشد عن بغداد، فدخلها مسعود فأظهر العدل، واجتمع إليه الاعيان والعلماء، وحطوا على إلىاشد، وطعنوا فيه. وقيل خوفهم وأرهبهم إن لم يخلعوا إلىاشد، فكتبوا محضراً ذكروا فيه ما يقتضي خلعه، وأحضروا محمد بن المستظهر، فبايعوه، ولقبوه المقتفي لأمر الله. ثم أخذ مسعود جميع ما في دار الخلافة حتى لم يدع فيها سوى أربعة أفياس. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو نصر ابراهيم بن الفضل الأصفهاني. وفيها توفي شيخ دمشق ومحدثها النحوي الزاهد علي بن أحمد الغساني. روى عن أبي بكر الخطيب وكثيرين. قال السلفي: لم يكن في وقته مثله في دمشق كان إماماً زاهداً عائذاً ثقة، قال الحافظ ابن عساكر: كان متحرزاً متيقظاً منقطعاً في بيته. وفيها توفي أبو سهل محمد بن ابراهيم الأصبهاني المنكي راوي مسند إلىوياني عن أبي الفضل إلىازي. وفيها توفي الشيخ الكبير أستاذ الصوفية بخراسان ألفارف القدوة الشهير أبو عبد الله محمد بن حمويه الجويني. روى عن موسى بن عمران الانصاري وجماعة، وصنف في التصوف، وكان بعيد الصيت ومسند أصفهان في زمانه. وفيها توفي أبو بكر محمد بن علي الصألفاني. وراويه أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي النيسابوري فقيه الحرم ألفارسي. روى عن الكبار، وتفيد بكتب كبار، وصار مسند خراسان، وكان شافعياً مفتياً مناظراً محدثاً واعظاً، صحب إمام الحرمين أبا المعالي الجويني، وعلق عنه الأصول، ونشأ بين الصوفية، وعاش تسعين سنة، وهو المقول فيه: للفياوي ألف راوي. وكان يحمل الطعام إلى المسافرين الواردين عليه، ويخدمهم بنفسه - مع كبر سنه وقدره - وخرج حاجاً إلى مكة، وعقد له مجلس الوعظ ببغداد وسائر البلاد التي توجه إليها، وأظهر العلم بالحرمين، وعاد إلى نيسابور، وقعد للتدريس. وسمع صحيح البخاري من سعيد بن أبي سعد، وصحيح مسلم من عبد ألفافي ألفارسي، وسمع من شيخ أبي إسحاق الشيرازي والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، والأستاذ أبي القاسم عبد الكريم القشيري وإمام الحرمين، وتفيد برواية عدة كتب للمافظ البيهقي، مثل دلائل النبوة، والأسماء والصفات والبعث والنشور، والدعوات الكبيرة والصغيرة. والفياوي بضم الماء وفتح إلىاء، وهذه النسبة إلى فياوة بليدة مما يلي خوارزم، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة الشامون، وهو يومئذ أمير خراسان، وللفياوي فضائل جمة

سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة

ذكرت شيئاً منها في كتابي ألفاش المعلم، وممن رواها الإمام الحافظ إلىاوية ألفاهر المعروف بأبي القاسم ابن عساكر. سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة فيها دفع زنكي إلىاشد المخلوع عن الموصل، وتسلل الناس عنه، وبقي حائراً، فنفذ مسعود الذي فارس لماخذوه، ففاتهم وجاء إلى مراغة، فبكى عند قبر أبيه، وحثا على رأسه التراب، فيق له أهل مراغة، وقام معه داود السلطان ولد محمود، فالتقى داود ومسعود، فقتل خلق من جيش مسعود، وصادر مسعود إلىعية ببغداد، وعسف. وفيها أخذ زنكي بعلبك. وفيها توفي اسماعيل بن أبي القاسم النيسابوري، كان صوفياً صألفا من أصحاب الأستاذ أبي القاسم القشيري. وفيها أو فيما قبلها توفي مسند هراة في زمانه تميم بن أبي سعيد الجرجاني. وفيها توفي الحافظ أبو جعفر آلهمداني محمد بن الحسن، سمع بخراسان والعراق والحجاز. وفيها أبو عبد الله يحيى بن الحسن بن أحمد بن أحمد بن البناء البغدادي، وكان ذا علم وصلاح. سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة فيها قويت شوكت إلىاشد بالله وكثرت جموعه، فلم يلبث أن قتل. وفيها توفي الحافظ أبو نصر ألفازي محمد بن عمر الأصبهاني، قال ابن السمعاني: ما رأيت في شيوخي كثر رحلة منه، كان ثقة حافظاً. وفيها توفي أبو القاسم أحمد بن محمد بن القرطبي المالكي، أحد الأئمة - رحمه الله -. وفيها توفي اسماعيل بن أحمد الفقيه الشافعي النيسابوري. تفقه على إمام الحرمين، وبرع في الفقه، وروى عن جماعة.

سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة

وفيها توفي أبو المظفر عبد المنعم ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري، آخر إخوته وفاة، حدث عن البيهقي والكبار. وفيها توفي أبو الحسن الخدامي علي بن عبد الله الأندلسي، أحد الأئمة صنف في التفسير والأصول، وأجاز له الحافظ ابن عبد البر وأم الخير فاطمة بنت علي بن المظفر البغدادية المقرئة. وقيل في السنة التي قبلها وقيل بعدها توفي شيخ الكرخ وعالمها ومفتيها أبو الحسن محمد بن عبد الملك الفقيه الشافعي. قال ابن السمعاني: إمام ورع فقيه مفت، محدث أديب، أفنى عمره في طلب العلم ونشره. وفيها توفي إلىاشد بالله أبو جعفر بن المسترشد بالله بن المستظهر بالله، خطب بولاية العهد أكثر أيام والده، وبويع بعده. وكان شاباً أبيض مليحاً، تام الشكل شديد البطش، شجاع النفس حسن السيرة، جواداً شاعراً فصيحاً، لم تطل دولته، خلعوه لأمور ملفقة، وسار إلى أصبهان ومعه السلطان داود بن محمود، ومرض هناك، فوثب عليه جماعة من ألفاطنية وقتلوه. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث القرطبي. كان رأساً في الفقه والحديث والأنساب والتواريخ واللغة وعلو الإسناد. وفيها توفيت أم الخير فاطمة بنت علي البغدادي المقرئة المعروفة ببنت الزعبل - بالزاي والموحدة بينهما عين مهملة - روت صحيح مسلم وغريب الخطابي عن الحافظ أبي الحسين ألفارسي، وعاشت سبعاً وتسعين سنة. سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة قال أبو الفيج بن الجوزي: فيها كانت زلزلة عظيمة بحيرة، أتت على مائة ألف وثلاثين أهلكتهم، قيل: صار مكان الدماء أسود، وقال ابن الأثير: الذين هلكوا مائتا ألف وثلاثون ألفا. وفيها توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمنة. روى عن جماعة،

سنة أربع وثلاثين وخمس مائة

وتفيد بالإجازة عن أبي عمرو ألفاني. وفيها توفي جمال الإسلام أبو الحسن علي بن مسلم السلمي الشافعي، مدرس الغزالية ومفتي الشام في عصره، صنف في الفقه والتفسير، وتصدر للاشتغال وإلىواية. وفيها توفي صاحب دمشق محمود بن بوري، ولي بعد قتل أخيه شمس الملوك. سنة أربع وثلاثين وخمس مائة فيها حاصر زنكي دمشق. وفيها توفي القاضي أبو المفضل القرشي الدمشقي، من أصحاب الفقية الإمام أبي نصر المقدسي. وفيها توفي البديع الأصطرلابي هبة الله بن الحسين ألفاعر المشهور، أحد الأدباء الفضلاء. كان وحيد زمانه في علم الآلات الفلكية متقناً لهذه الصناعة، وأثنى عليه غير واحد من المؤرخين، وذكروا له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله: أهدى لمجلسه الكريم وإنما ... أهدى له ما حزت من نعمأنه كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مأنه وكان كثير الخلاعة يستعمل المجون في شعره، وكان قد جمعه ودونه، واختار ديوان ابن حجاج، ورتبه على مائة وواحد وأربعين باباً، وجعل كل باب في فن من فنون شعره، وكان قد جمعه ونفاه وسقاه: درة ألفاج من شعر ابن حجاج. وكان ظريفاً في جميع حركاته، والأصطرلابي نسبة إلى الأصطرلاب بفتح آلهمنة وسكون الصاد المهملة وبعضهم يكتبه بالسين وضم الماء المهملات وقبل الألف راء وبعدها موحدة وهو الآله المعروفة. قال كوشيار بن كنان بن باسهري الجبلي صاحب كتاب الزيج في إلىسالة التي وضعها في العلم الأصطرلابي: هو كلمة يونانية معناها ميزان الشمس، وقيل إن لاب اسم الشمس بلمان يونان، فكأنه قال: أصطر الشمس إشارة إلى الخطوط التي فيها، وقيل إن أول من وضعه بطلميوس صاحب المجسطي، وكان سبب وضعه له أنه كان معه كرة فلكية - وهو راكب - فسقطت منه، فداستها دابته، فخسفتها، فبقيت على هيئة الاصطرلاب. وكان أرباب علم الرياضيات يعتقدون أن هذه الصورة لا ترتسم في جسم كروي على هيئة الأفلاك، فلما

سنة خمس وثلاثين وخمس مائة

رأه بطلميوس على تلك الصورة علم أنه يرتسم في السطح ويكون نصف دائرة، ويحصل منه ما يحصل من الكرة، فوضع الاصطرلاب، ولم يسبق إليه، وما اهتدى أحد من المتقدمين إلى أن هذا القدر يتأتى في الخط، ولم يزل الأمر مستمراً على استعمال الكرة والاصطرلاب إلى أن استنبط الشيخ شرف الدين الطوسي المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين بن يونس - رحمهما الله تعالى -، وهو شيخه في هذا العلم - أن يضع المقصود من الكرة والاصطرلاب في خط، فوضعه وسماه العصا، وعمل له رسالة بديعة، وكان قد أخطأ في بعض هذا الوضع، فأصلحه الشيخ كمال الدين، وهذبه. والطوسي أول من أظهر هذا في الوجود، فصارت آلهيئة توجد في الكرة، لأنها تشتمل على الطول والعرض والعمق، ويوجد في السطح الذي هو مركب من الطول والعرض بغير عمق، ويوجد في الخط الذي هو عبارة عن الطول فقط، ولم يبق سوى النقطة، ولا يتصور أن يعمل فيها شيء، لأنها ليست جسماً ولا سطحاً ولا خطاً، بل هي في طرف الخط. كما أن الخط طرف السطح، والسطح طرف الجسم، والنقطة لا تتجزأ، فلا يتصور أن يرتسم فيها شيء، وهذا وإن كان خروجاً عما نحن بصدده فإنه لا يخلو عن فائدة، والعلم به خير من الجهل به. سنة خمس وثلاثين وخمس مائة فيها ألح زنكي على دمشق للحصار، وخرب وعاث بحوران، ثم التقاه عسكر دمشق، فقتل جماعة، ثم ترحل إلى الشرق. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الطليحي الأصبهاني، إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره. قال ابن السمعاني: هو أستاذي في الحديث، وعنه أخذت هذا القدر، وهو إمام في التفسير والحديث واللغة والأدب، عارف بالمتون والأسانيد. أملى بجامع أصبهان قربياً من ثلاثة آلاف مجلس. وقال أبو عامر العبدري: ما رأيت مثله ذاكرته، فيأيته حافظاً للحديث، عارفاً بكل علم متفنناً، وقال غيره: صنف التفسير في ثلاثين مجلما كباراً. وفيها توفي رزين بن معاوية العبدري الأندلسي، مصنف تجريد الصحاح. ومحمد بن عبد ألفاقي الأنصاري الحنبلي، سمع من علي بن عيسى ألفاقلاني، وأبي الطيب الطبري وطائفة. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وبرع في الحساب وآلهندسة، وشارك

في العلوم. قال ابن السمعاني: ما رأيت أجمع للفنون منه، نظر في كل علم. وفيها توفي الشيخ الكبير العالم ألفارف، ذو الأسرار والمعارف أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف آلهمذاني شيخ الصوفية بمرو وبقية مشايخ الطريق ألفالكين الشاملين، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، فأحكم مذهب الشافعي، وبرع في المناظرة، ثم ترك ذلك وأقبل على شأنه. روى عن الخطيب والكبار، وسمع بأصبهان وبخارى وسمرقند، ووعظ وخوف، وانتفع به الخلق، وكان صاحب أحوال وكرامات، وتوفي في ربيع الأول عن أربع وتسعين سنة. وفيها توفي أبو نصر محمد بن عبيد الله بن خاقان القيسي صاحب كتاب قلائد العقيان، له عدة تصانيف منها الكتاب المذكور، جمع فيه الشعراء المغرب وطائفة كثيرة، وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة. هكذا حكي عنه. وله أيضاً كتاب مطمح الأنفس ومسرح ألفانس في ملح أهل الأندلس، وهو ثلاث نسخ: كبرى ووسطى وصغرى، وهو كثير ألفائدة، لكنه قليل الوجود في هذه البلاد، وكلامه في هذه الكتب يدل على فضله وغزارة مادته، وكان كثير الأسفار سريع التنقلات. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه الموسوم بالمطرب من أشعار أهل المغرب: لقيت جماعة من أصحابه حدثوني عنه تصانيفه وعجائبه، وكان مخلوع العذار في دنياه، ولكن كلامه في تآليفه كالسحر الحلال والماء الزلال، قيل: ذبح في مسكنه في مراكش، أشار بقتله أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين. وفيها توفي أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف آلهمداني، الفقيه ألفاضل العالم الشامل إلىباني، قدم بغداد ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، واشتغل عليه حتى برع في أصول الفقه والمذهب والخلاف. وسمع الحديث من جماعة ببغداد وأصبهان وسمرقند، ثم زهد في الدنيا، ولزم العبادة والرياضة والمجاهدة حتى صار من العلماء الذين يهتدي بهم الخلق إلى الله عز وجل، وعقد له مجلس الوعظ في المدرسة النظامية في بغداد، وصادف قبولاً عظيماً من الناس. قال الشيخ الصالح أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي: حضرت مجلس شيخنا يوسف آلهمداني في النظامية - وكان قد اجتمع عليه العالم - فقام فقيه يعرف بابن السقا، وسآله، فقال الشيخ ألفارف ذو المعارف والنور يوسف بن أيوب المذكور: جلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفي، ولعلك تموت على غير دين الإسلام. قال أبو الفضل: فاتفق بعد

سنة ست وثلاثين وخمس مائة

هذا القول بمدة أن قدم رسول نصراني من ملك إلىوم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقا، وسآله أن يستصحبه، وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام، وأدخل في دينكم؛ فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك إلىوم، وتنصر، ومات على النصرانية. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة يوسف آلهمداني المذكور: سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرىء يقول: كان ابن السقا قارئاً للقرآن الكريم، مجوداً في تلاوته. حدثني من رآه في القسطنطينية ملقى على دكة مريضاً، وبيده حلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، قال: فسألته: هل القرآن باق على حفظك؟ قال: ما أذكر منه إلا آية واحدة " ربما يود الذين كفيوا لو كانوا مسلمين "، - الحجر 2 -، وألفاقي نسيته. نعوذ بالله من سوء القضاء. قلت وقد ذكرت في بعض كتبي عما نقل في مناقب الشيخ القطب إلىباني أستاذ الأكابر أبي محمد محيي الدين عبد ألفادر الجيلاني قدس الله تعالى سره قضية ابن السقا المذكور وكفيه، أنه كان سبب إساءته على رجل من الأولياء يقال له الغوث، وأنه خرج رسولاً للخليفة إلى ملك إلىوم، فافتتن بابنة الملك، فطلب زواجها، فامتنعوا من ذلك إلا بكفيه، فكفي. وقال بعضهم: كان أبو يعقوب المذكور صاحب الأحوال والمواهب الجزيلة والكرامات والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تربية المريدين الصادقين، وكان قد برع في الفقه، ففاق أقرانه، خصوصاً في علم النظر. وكان الشيخ أبو إسحاق يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه - مع صغر سنه - لزهده وحسن سريرته واشتغآله بما يعنيه، ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم، ونزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل إلىجوع إلى مرو في آخر عمره فأجاب، ورجع إليه، وخرج إلى هراة ثانياً، ثم عزم على إلىجوع إلى مرر، وخرج فأدركته منيته في الطريق، فدفن ثم نقل بعد ذلك إلى مرو، ونقل ذلك ابن النجار في تاريخه عن السمعاني. سنة ست وثلاثين وخمس مائة فيها كانت ملحمة عظيمة بين السلطان سنجر وبين الترك الكفية فيما وراء اللهر، أصيب فيها المسلمون، وأقبل سنجر في نفي يسير، بحيث وصل بلخ في ستة أنفس، وأسرت

زوجته وبنته، وقتل من جيشه مائة ألف أو أكثر، قيل: كان في القتلى أربعة آلاف امرأة، وكانت الترك في ثلاث مائة ألف فارس. وفيها توفي الشيخ الكبير ألفارف بالله الشهير ذو المواهب واللمائف والعلوم إلىبانية والمعارف أبو العباس ابن العريف أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي الصوفي. كان له معرفة بالعلوم وعناية بالقراءات وجمع إلىوايات والطرق، متناهياً في الفضل والدين. وكان المريدون والعباد والزهاد يقصدونه، ولما كثر أتباعه خاف منه السلطان، وتوهم أن يخرج عليه، فطلبه، فأحضر إلى مراكش، فتوفي في الطريق قبل أن يصل، وقيل بعد أن وصل، وكان من أهل المنية. وفيها توفي الإمام أحد العلماء الأعلام، الفقيه المحدث الأصولي، الأديب محمد بن علي التميمي ألفازري. شرح صحيح مسلم شرحاً جيداً سماه كتاب المعلم بفوائد كتاب مسلم، وعليه بنى القاضي عياض بن موسى اليحصبي ألفالكي كتاباً اسماه الإكمال في شرح مسلم. وله في الأدب كتب متعددة. وكان فاضلاً متقناً، توفي في ثامن عشر ربيع الأول من السنة المذكورة، وقيل يوم الاثنين ثاني الشهر المذكور بالمهدية وعمره ثلاث وثمانون سنة. وألفازري نسبة إلى مازر وهي بفتح الزاي، وقد تكسر أيضاً، وهي بليدة بجزيرة صقلية. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو القاسم اسماعيل بن أحمد السمرقندي. وفيها توفي الإمام المفتي الشافعي عبد الجبار بن محمد، إمام جامع نيسابور، تفقه على إمام الحرمين، وسمع البيهقي والقشيري والجماعة. وفيها توفي الشيخ ألفارف ذو المواهب واللمائف أبو الحكم عبد السلام بن عبد إلىحمن المعروف بابن برجان الأندلسي اللخمي الإشبيلي شيخ الصوفية ومؤلف شرح أسماء الله الحسنى، توفي غريباً بمراكش. قال الأبار: كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث، والتحقيق، بعلم الكلام، والتصوف مع الزهد والاجتهاد في العبادة، وقبره بإزاء قبر ابن العريف. وفيها توفي شيخ الحنابلة بالشام بعد والده ابن الشيخ أبي الفيح عبد الواحد الشيرازي الدمشقي الفقيه الواعظ.

سنة سبع وثلاثين وخمس مائة

وفيها توفي هبة الله بن أحمد البغدادي، المقرىء المحقق إمام جامع دمشق. ختم عليه خلق كثير، وله اعتناء بالحديث. سنة سبع وثلاثين وخمس مائة فيها توفي أبو الفتح بن البيضاوي القاضي عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد أخو القاضي القضاة أبي القاسم الزينبي لأمه. وفيها توفي صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين، كان يرجع إلى عدل ودين وتعبد وحسن طوية، وشدة إيثار لأهل العلم وتعظيم لهم، قيل: وهو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والذي وثب عليه ابن تومرت الملقب بالمهدي الذي صحبه عبد المؤمن. توفي في رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي الحافظ عمر بن محمد النسفي السمرقندي الحنفي. يقال له مائة مصنف. وفيها توفي قاضي دمشق وابن قاضيها أبو المعالي القرشي الشافعي. سمع من جماعة، وتفقه على الإمام أبي نصر المقدسي. سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة فيها حاصر سنجر مدينة خوارزم، وكاد أن يأخذها، فذل خوارزم شاه، وبذل الساعة. وفيها توفي الحافظ مفيد بغداد أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي. كان واسع إلىواية، متقناً دائم البشر، سريع الدمعة، جمع وخرج وحصل، ولم يتزوج قط. وفيها توفي الوزير أبو القاسم علي بن طراد الزينبي العباسي، وزير المسترشد والمقتفي. اشتغل بالعبادة والخير لما تغير عليه المقتفي إلى أن مات، وكان يضرب به المثل بحسنه في صباه. وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل الأسفيائيني، الواعظ المتكلم. له تصانيف في الأصول والتصوف. قال الحافظ ابن عساكر: أجرى من رأيت لماناً وجناناً، وأسرعهم جواباً، وأسلمهم خطاباً. لازمت حضور مجلسه، فما رأيت مثله واعظاً ولا مذكراً. وفيها توفي العلامة النحوي اللغوي المفسر المعتزلي أبو القاسم محمود بن عمر

الزمخشري الخوارزمي، صاحب الكشاف والمفصل. عاش إحدى وسبعين سنة متفنناً في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان إمام عصره في فنونه. وله التصانيف البديعة الكثيرة الممدوحة الشهيرة، عدد بعضهم منها نحو ثلاثين مصنفاً في التفسير والحديث وإلىواة وعلم الفيائض والنحو والفقه واللغة والأمثال والأصول والعروض والشعر. ومن ذلك كتاب شافي العي من كلام الشافعي وغير ذلك، وكان شروعه في تأليف المفضل في غرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمس مائة، وفيغ منه في غرة المحرم، أظنه قال: سنة خمس عشرة وخمس مائة. وكان قد جاور بمكة زماناً، فصار يقال له: جار الله لذلك، حتى صار هذا اللقب علماً عليه. وكانت إحدى رجليه ساقطة، فكان يمشي في خشب. وسبب سقوطها أنه أصابه في بعض أسفاره برد شديد وثلج كثير، وكان معه محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك خوفاً من أن يظن قطعها لريبة. وذكر بعض المؤرخين أنه أمسك عصفوراً، وربطه بخيط في رجله، ففلت من يده، فأدركه وقد دخل في جرق، فجذبه فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدته لذلك، ودعت عليه بقطع رجله كما قطع رجله. فلما وصل إلى سن الطلب، رحل إلى بخارى لطلب العلم، فسقط عن ألفابة، فانكسرت رجله، وبلغت إلى حالة اقتضت قطعها - والله أعلم أي ذلك كان -. ولما صنف كتاب الكشاف استتفتح الخطبة بالحمد لله الذي خلق القرآن، فقيل له: متى تركته على هذه آلهيئة هجره الناس، فغيره بالذي أنزل القرآن. وقيل: هذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف، ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين فقلت لها الدر الذي كان قد حشى ... أبو مضر أذني تساقط من عيني وهذا مثل قول القاضي أبي بكر الأرجان، ولا يدري أيهما أخذ من الآخر، لأنهما كانا متعاصرين وهو. ولم يبكني إلا حديث فياقهم ... لما أسرته إلى أدمعي

سنة تسع وثلاثين وخمس مائة

هو ذلك الدر الذي أودعته ... في مسمعي أجريته من مدمعي ومما أنشده لغيره في كتابه الكشاف عند تفسير قوله تعالى في سورة البقرة " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " - البقرة 26 -، فإنه قال: أنشدت لبعضهم: يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى عروق نياطها في نحوها ... والمخ في تلك العظام النحل اغفي لعبد تاب من فيطاته ... ما كان منه في الزمان الأول قال ابن خلكان: وكان بعض الفضلاء قد أنشدني هذه الأبيات بمدينة حلب، وقال: إن الزمخشري المذكور أوصى أن يكتب على لوح قبره: آلهي؛ لقد أصبحت ضيفك في الثرى ... وللضعيف حق عند كل كريم فهب لي ذنوبي في قراي فإنها ... عظام، ولا يقرى بغير عظيم سنة تسع وثلاثين وخمس مائة فيها أخذ زنكي إلىها من الفرنج. وتوفي تاشفين صاحب المغرب ولد علي بن يوسف بن تاشفين المصمودي البربري الملثم. كانت دولته في ضعف وسفال مع وجود عبد المؤمن، فتحصن، فصعد إليه أصحاب عبد المؤمن، فلما أيقن بآلهلكة ركض فرسه، فتردى إلى البحر، فتحطم وتلف، ولم يبق لعبد المؤمن منازع، فتوجه وأخذ تلمسان. وفيها توفي أبو منصور إلىزاز سعيد بن محمد البغدادي شيخ الشافعية، ومدرس النظامية، تفقه على الغزالي وأسعد الميهني والكيا وألفاشي والمتولي، وروى عن رزق الله التميمي. وفيها توفيت مسندة أصفهان أم البهاء، فاطمة بنت محمد البغدادية الواعظة، روت عن أبي الفضل إلىازي وجماعة. وفيها توفي أبو منصور محمد بن عبد الملك البغدادي المقرىء، مصنف المفتاح والموضع في القراءات العشرة.

وفيها توفي وقيل في التي بعدها توفي أبو منصور موهوب بن أبي طاهر الجواليقي البغدادي الأديب اللغوي. كان إماماً في فنون الأدب، وهو متدين ثقة غزير الفضل، وافي العقل، مليح الخط، كثير الضبط صنف التصانيف المفيدة، وانتشرت عنه مثل شرح أدب ألفاتب وثمة درة الغواص في أوهام الخواص للحريري صاحب المقامات، وسماه: التكملة فيما يلحن فيه الشامة، إلى غير ذلك، وله نوادر كثيرة. وكان إماماً للمقتفي بالله. وما زاده في أول دخوله عليه على قوله: السلام على أمير المؤمنين: ورحمة الله تعالى. فقال له اين التلميذ النصراني - وكان قائماً بين يدي المقتفي، وله ادلال الخدمة والصحبة: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه، لما لزمته الكفارة، لأن الله تعالى يختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله تعالى إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت فيما فعلت. فكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. سمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه، وأخذ عنه الناس علماً جما، وينسب إليه قليل من الشعر، من ذلك هذان البيتان، وقال بعض المطلعين: وجدتهما من جملة أبيات لابن الخشاب، وهما: ورد الورى سلمال جوادك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم قلت: لقد أبدع قائلهما في معناهما، وأجاد وبالغ في مدحه بما تضمنه هذا الإنشاد. وحكى اسماعيل بن الجواليقي المذكور قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر - والناس يقرؤون عليه - فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي؛ قد سمعت ببيتين من الشعر، ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني، وتعرفني معناهما. فقال: قل، فأنشد. وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجرة الناس تصليني بها النارا فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا فلما سمعهما والدي قال: يا بني؛ هذا شيء من معرفة علم النجوم، وتسييرها لأمر صنعه أهل الأدب، قال: فانصرف ألفاب من غير حصول فائدة، فاستحي والدي من أن

سنة أربعين وخمس مائة

يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم، ويعرف تسيير الشمس والقمر. فنظر في ذلك، وحصلت معرفته، ثم جلس. ومعنى البيت المسؤول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كأن الليل عندي في غاية القصر. انتهى. قلت: وفي نهاية الطول والقصر المذكورين في البرجين المذكورين. والاعتدال في برجي الحمل والميزان. وشدة البرد في برج الدلو، وشدة الحر في برج الأسد، أشرت بهذه الأبيات الأربعة حيث أقول: إذا طال بالجوزاء نهار مفاخراً ... رماه بقوس طول ليل فيقصر وإن حمل الإنصاف يوماً بعدله ... أتاه بميزان بها العدل يظهر وإن شد حبل البرد دلواً ليستقوا ... أتى أسد في حرب حر وعسكر فيكسر هذا ذاك حيناً، وحربهم ... سجال، ويغزو ذاك هذا فيكسر سنة أربعين وخمس مائة فيها توفي الحافظ أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي الأصبهاني. كان ثقة خيراً، يحفظ صحيح مسلم. سنة احدى واربعين وخمس مائة فيها حاصر عماد الدين زكي الملقب بالملك المنصور - صاحب الموصل - قلعة جعبر، فوثب عليه ثلاثة من غلمانه فقتلو، وتملك الموصل بعده ابنه غازي، وتملك حلب وغيرها من نواحيها ابنه الآخر نور الدين محمود. وكان زنكي من الأمراء المتقدمين، وفوض إليه السلطان محمود بن ملكشاه السلجوقي ولاية بغداد في سنة إحدى وعشرين وخمس مائة، ثم أمره السلطان محمود بالتجهيز إلى الموصل والاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل، وملكها، ودفع الفرنج عن

سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة

حلب وقد ضايقوها بالحصار - ثم عاد إلى الموصل، فأقام بها، وهو من كبراء الدولة السلجوقية، فقتله ألفاطنية بجامع الموصل - يوم الجمعة تاسع ذي القعدة سنة عشرين وخمس مائة - جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه واثخنوه جراحاً لأنه كان قد تصدى لقتلهم، وقتل منهم عصبة كبيرة، فلما قتل رسم المسترشد أمير المؤمنين بتولية الموصل لولده زنكي، فتوجه زنكي إلى الموصل، فتسلمها وما والاها من البلاد، ثم توجه إلى قلعة جعبر فحاصرها، حتى أشرف على أخذها، فأصبح مقتولاً كما تقدم. وفيها أخذت الفرنج طرابلس الغرب بالسيف ثم عمروها. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو البركات اسماعيل ابن الشيخ أبي سعد - أحمد بن محمود النيسابوري البغدادي، وكان جليل القدر. وفيها توفي زنكي الأتابك صاحب الموصل وحلب، وكان فارساً شجاعاً ميمون النقيبة شديد ألفاس، قوي إلىأس عظيم آلهيبة، ملك الموصل وحلب وحماه وحمص وبعلبك وإلىها والمعرة. قتله بعض غلمانه كما تقدم وهو نائم وهربوا إلى قلعة جعبر. وفيها توفي أبو الحسن سعد الخير بن محمد الأنصاري الأندلسي المحدث. كان فقيهاً عألفا متقناً، رحل إلى المشرق، وتفقه على الإمام أبي حامد الغزالي وشيخ المقرئين بالعراق. وفيها توفي المقرىء النحوي أبو محمد عبد الله بن علي البغدادي. سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة وفيها كان الغلاء المفيط - وفيما قبلها بإفريقية - حتى أكلوا لحوم الآدميين. وفيها توفي أبو الحسن بن الآبنوسي أحمد بن عبد الله البغدادي الشافعي الوكيل. سمع وتفقه وبرع، وقرأ الكلام والاعتزال، ثم لطف الله تعالى به وتحول سنياً.

وفيها توفي أبو جعفر أحمد بن عبد إلىحمن الأندلسي البطروجي أحد الأئمة. روى عن أبي علي الغساني وغيره. كان إماماً حافظاً بصيراً بالحديث ومعرفة رجآله وعلله، ومعرفة مذهب مالك ودقائقه. وله مصنفات مشهورة. وفيها توفي أبو القاسم علي ابن الإمام العلامة أبي نصر عبد السيد بن الصباغ. وفيها توفي أبو الفتح نصر الله بن محمد المصيصي ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي الأصولي الأشعري. سمع من أبي بكر الخطيب، وتفقه على الإمام أبي نصر المقدسي، ودرس بالغزالية، وأفتى واشتغل، وصار شيخ دمشق في وقته. وفيها توفي الشريف أبو السعادات المعروف بابن الشجري: هبة الله بن علي العلوي الحسيني البغدادي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، كان متضلما من علم الآداب وأشعار العرب وأيامها وأحوآلها، كامل الفضائل. له عدة تصانيف، منها: كتاب الأماني، أو قال: الأمالي وهو أكبر تآليفه وأكثرها فائدة، أملاه في أربعة وثمانين مجلما، مشتملاً على خمسة فنون من علم الأدب. ولما فيغ من إملأنه حضر عنده أبو محمد المعروف بابن الخشاب، والتمس سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه، ورد عليه في مواضع من الكتاب، ونسبه فيه إلى الخطأ. فوقف أبو السعادات المذكور على إلىد، فيد عليه في رده، وبين وجوه غلطه، وجمعه كتاباً سماه: الانتصار، وهو على صغر حجمه مفيد جداً، وسمعه عليه الناس. وجمع أيضاً كتاباً سماه: الحماسة، تضاهي به الحماسة لأبي تمام ألفائي، وهو كتاب مليح غريب، أحسن فيه. وله في النحو عدة تصانيف، وكان حسن الكلام حلو الألفاظ، فصيحاً جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث على جماعة من الشيوخ المتأخرين. وذكره الحافظ أبو سعد بن السمعاني في كتاب الذيل، وقال: اجتمعت معه في دار الوزير أبي القاسم بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئاً من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه وقرأت عليه جزءاً من أمالي أبي العباس الثعلب. وحكى أبو البركات عبد إلىحمن بن الأنباري في كتابه مناقب الأدباء: إن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري، لما قدم بغداد قاصداً للحج، مضى إلى زيارته شيخنا - أبو السعادات بن الشجري، ومضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي: واستأثر الأخبار قبل لمانه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر

سنة ثلاث واربعين وخمس مائة

ثم أنشد بعد دلك: كانت مساءلة إلىكبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعتأذني بأحسن مما قد رأى بصري فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لما قدم إليه زيد الخيل قال له: " يا زيد، ما وصف لي أحد في ألفاهلية ولا في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي غيرك ". قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده، ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر، والزمخشري بالحديث، وهو رجل أعجمي، هذا معنى كلام ابن الأنباري، وكان أبو السعادات المذكور نقيب ألفالبين بالكرخ نيابة عن ولده، وله شعر حسن، من ذلك قوله: هذه السديرة والغدير ألفافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح يا سدرة الوادي الذي إن ضله ... ألفاري هداه نشرها المتفاوح هل عايد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضى في ظلالك صالح شط المنار به ونوئي منزلاً ... بصميم قلبك فهو دان نازح غصن تعطفه النسيم وفوقه ... قمريحف به ظلام طايح ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح ظللنا به نبكي، فكم من مضمر ... وجداً أذاع هواه دمع سافح قلت ضله ألفاري رأيته الصواب، وفي الأصل المنقول منه: الوادي، ثم وجدته في نسخه أخرى كما ذكرت من الصواب. وهذه أبيات من قصيدة له في مدح الوزير المظفر بن علي الملقب بنظام الدين. سنة ثلاث واربعين وخمس مائة في ربيع الأول منها نازل الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون من دمشق، وكانوا مائة وثلاثين ألف راجل وعسكر البلد، فاستشهد نحو مائتين، ثم برزوا في اليوم الثاني، فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير. فلما كان في اليوم الشامس وصل غازي وأخوه نور الدين في عشرين ألفا إلى حماه. وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضرع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضج النساء والأطفال مكشفين إلىؤوس، وصدقوا الافتقار إلى الله عز وجل

فأغاثهم، وركب قسيس الفرنج، وفي عنقه صليب وفي يديه صليب، وقال: أنا قد وعدني المسيح أن آخذ دمشق، فاجتمعوا حوله، وحمل على البلد، فحمل عليه المسلمون فقتلوه - لعنة الله تعالى - وقتلوا حماره، وأحرقوا الصلمان، ووصلت النجدة، فانهزمت الفرنج، وأصيب منهم خلق. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي الوفاء المعروف بابن مسهر الموصلي. كان شاعراً بارعاً رئيساً مقدماً، يمدح الخلفاء والملوك والأمراء. وله ديوان شعر في مجلدين، ومن شعره في صفة الخيل. سود حوافيها بيض حجافلها ... صبح تولد بين الصبح والغسق من طول ما وطئت ظهر الدجى حنتاوطول ما كرعت من منهل الفلق ومنها في صفة الفهد: والشمس مذ لقبوها بالغزالة ... أعطته إلىشا حسداً من لونها اليقق ويعطيه حباً كي يسالمها ... على المنايا نعاج إلىمل بالحدق هذا ولم يبرزا مع سلم ... جانبه يوماً لناظره إلا على فيق وهذه الأبيات مع جودتها مأخوذة من أبيات الأمير المعروف بابن السراج الصوري. ولابن مسهر أيضاً في بعض الرؤساء: ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرق وغرب لأنك قلب لجسم الزمان ... وما صح جسم إذا اعتل قلب ومن غريب الاتفاق ما حكى أبو الفتح بن أبي الغنائم أنه رأى في منامه منشداً ينشد: وأعجب من صبر القلوص التي سرت ... بهودجك المنموم أنى استقلت وأطبق أحناء الضلوع على جوى ... جميع وصبر مستحيل مشتت قال أبو الفتح: فلما انتبهت مكثت مدة أسائل عن قائل هذين البيتين، فلم أجد عنه مخبراً، ثم اتفق بعد سنين نزول ابن مسهر المذكور في ضيافتي، فتجارينا في بعض اللمالي ذكر المنامات، فذكرت له المنام الذي رأيته والبيتين فقال: أقسم بالله أنهما من شعري، من جملة قصيدة منها: إذا ما لمان الدمع نم على الهوى ... فليس بشر ما الضلوع أحنت

فوالله ما أدري عشية ودعت ... أناحت حمامات النوى أم تغنت؟ وأعجب من صبر القلوص التي سرتبهودجك المنموم أنى استقلت أعاتب فيك اليعملات على النوى ... وأسأل عنك الريح من حيث هبت وألصق أحناء الضلوع على جوى ... جميع وصبر مستحيل مشتت قال: فلما أنشدنا هذه الأبيات إلىقاق عجبنا من هذا الاتفاق. وفيها توفي أبو إسحاق الغنوي ابراهيم بن محمد بن نبهان إلىقي الصوفي الفقيه الشافعي. تفقه على الإمام حجة الإسلام الغزالي وغيره، وسمع رزق الله التميمي، وكان ذا سمت وعبادة، وهو راوي خطيب ابن نباتة. وفيها توفي محدث بغداد ومفيدها المبارك بن كامل الخفاف، وكان فقيراً متعففاً. وفيها وقيل في التي تليها: توفي الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المعافيي الأندلسي الأشبيلي، رحل إلى المشرق، ودخل الشام، ولقي بها الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد، وسمع بها من جماعة، ثم دخل الحجاز فحج، ثم عاد إلى بغداد، وصحب الإمام أبا حامد الغزالي والإمام أبا بكر ألفاشي وغيرهما من العلماء والأدباء، ثم صدر عنهم ولقي بمصر والاسكندرية جماعة من المحدثين، فكتب عنهم، واستفاد منهم. ثم عاد إلى الأندلس، ثم قدم إلى اشبيلية بعلم كثير، ولم يدخل أحد قبله إلى المشرق من علماء المغرب في إلىحلة للعلم، وكان من أهل اليقين في العلوم والاستخبار والجمع لها، عارفاً متكلماً في أنواعها باقدامها حريصاً على نشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، مع آداب وأخلاق وحسن معاشرة، وكرم نفس. واستقضي ببلده، فنفع الله تعالى به أهلها لإبرام أمره ونفوذ أحكامه، وكان له في الظالمين صولة مرهوبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم. وله مصنفات منها كتاب عارضة الأحوذي في شرح الترمذي كذا هو في الأصل المنقول منه قال: وألفارضة: القدرة على الكلام، يقال فلان شديد ألفارضة إذا كان ذا قدرة على الكلام، والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: المستمر في الأمور القاهرة لها. وفيها توفي أبو الدر ياقوت إلىومي عتيق بن الخباري. حدث بدمشق ومصر وبغداد. وفيها توفي أبو الحجاج الفندلاوي يوسف بن دوناس المغربي ألفالكي. كان فقيهاً

سنة أربع وأربعين وخمس مائة

عألفا صألفا حلو المجالسة، شديد التعصب للأشعرية، صاحب حط على الحنابلة. قتل في سبيل الله في حصار الفرنج بدمشق، مقبلاً غير مدبر بالذيروز، وقبره يزار بمقبرة باب الصغير. وفيها قتل شاهنشاه ابن نجم الدين أيوب، في الوقعة التي اجتمع فيها الفرنج سبع مائة ألف ما بين فارس وراجل - على ما قيل - وتقدموا، إلى باب دمشق، وعزموا على أخذ بلاد المسلمين قاطبة، فنصر الله عليهم المسلمين - ولله الحمد -. سنة أربع وأربعين وخمس مائة فيها توفي القاضي أحمد بن محمد الأرجاني - بفتح آلهمنة وكسر إلىاء مع خلاف في تشديدها وتخفيفها وبعدها جيم - له شعر رائق، وكان قاضي تستر. وهو وإن كان في العجم ففي العرب محتدة. وكان فقيهاً شاعراً. وفي ذلك قوله: أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر أو أنا أفقه الشعراء شعري إذا ما قلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الالماء كالصوت في قلل الجبال إذا عل ... للسمع هاج تجاوب الأصداء قلت: ليس في الأصل المنقول منه قلل، بل لفظ آخر معناه غير مفهوم. ومن شعره: لوكنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس آلهزار لأنه يترنم والصعوة بالصاد المهملة، وآلهزار بالزاي المعجمة: طائران. ومنه: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تنظر منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة ومنه: أنحو كم ويرد وجهي القهقرى ... عنكم، فسيري مثل سير الكوكب فالقصد نحو المشرق الأقصى لكم ... والسير رؤي العين نحو المغرب

ومنه: أحب المرء ظاهره جميللصاحبه وباطنه سليم مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟ وهذا البيت الأخير يقرأ معكوساً، أعني: من آخره إلى أوله، ولا يتغير شيء من لفظه، ولا من معناه، وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف. وفيها توفي أبو المحاسن أسعد بن علي بن الموفق آلهروي الحنفي العبد الصالح، راوي الصحيح وألفارمي. وفيها توفي الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد بن محمد العبيدي الرافضي صاحب مصر. وفيها توفي القاضي الإمام العلامة أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن موسى ابن عياض اليحصبي، أحد الحفاظ الأعلام. سمع من أبي علي بن سكرة، وأبي محمد بن غياث وطبقتهما، وأجاز له أبو علي الغساني، وولي قضاء سبتة مدة ثم قضاء غرناطة، وصنف التصانيف الجليلة المفيده، منها: الإكمال في شرح صحيح مسلم، كمل به: المعلم في شرح مسلم للإمام ألفازري. ومنها: الشفا في تعريف حقوق المصطفى. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث. وكان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة، وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وهو من أهل اليقين في العلوم والذكاء. وله شعر حسن: ومنه قوله: الله أعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... فإن بعدكم عني جني حيني والحين بفتح الماء: آلهلاك، وبالكسر: الوقت. وفيها توفي الحافظ المقدسي أبو الحسن علي بن أبي المكارم الاسكندارني ألفالكي، كان فقيهاً فاضلاً، من أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه، صحب الحافظ أبا طاهر السلفي. وفيها توفي الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، ولازمه وانتفع به ابن خلكان. وأنشدني أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه: أيا نفس بألفاثور عنخير مرسلوأصحابه وألفابعين تمسكي عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من نشر له أن تمسكي وخافي غداً يوم الحساب جهنماً ... إذا لفحت نيرانها أن تمسك

قلت: وبيان الجناس في هذه القوافي الثلاث واختلاف معانيها أن الأولى من التمسك، والثانية من التطيب بالمسك، والثالثة من: مسه يمسه. قال: وأنشدني أيضاً لنفسه رحمة الله تعالى عليه: ولمياء تحيي من تحيي بريقها ... كأن مناج إلىاح بالمسك فيها وما ذقت فاهاً غير أني رويته ... عن الثقة المسواك، وهو موافيها هذا المعنى مستعمل، ومنه قول الآخر: وأخبرني أترابها أن ريقهاعلى ما حكى عود الأراك لذيذ وقول الآخر: يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك وفيها توفي يوسف الدين غازي بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ملك غازي المذكور الموصل بعد أن كان مقطعاً شهرزو، من جهة السلطان محمود السلجوقي، وكذلك ما كان لأبيه من ديار ربيع، وترتيب أحوآله، وأخذ أخوه نور الدين محمود حلب وما والاها من بلاد الشام، ولم تكن دمشق يومئذ لهم، وكان غازي المذكور منطوياً على خير وصلاح، يحب العلم وأهله، وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة، ولم تطل مدته في المملكة. سنة خمس وأربعين وخمس مائة فيها أخذت العربان ركب العراق، وأخذ للماتون - أخت السلطان مسعود - ما قيمته مائة ألف دينار، وتمنق الناس. ومات خلق جوعاً وعطشاً. وفيها نازل نور الدين دمشق وضايقها، ثم خرج إليه صاحبها مجير الدين، ووزيره ابن الصوفي، فخلع عليهما، ورد إلى حلب - ونفوس الناس قد أحبته لما رأوا من دينه -.

سنة ست وأربعين وخمس مائة

وفيها توفي المبارك بن أحمد الكندي البغدادي الخباز، سمع أبا نصر الزينبي، وعاصم ابن الحسن، وطائفة. وفيها توفي إلىئيس أبو علي الحسين بن علي النيسابوري، روى عن الفضل بن المحب وجماعة. سنة ست وأربعين وخمس مائة فيها توفي الحافظ أبو نصر عبد إلىحمن بن عبد الجبار، وكان صألفا فاضلاً متواضعا، سمع جماعة من شيوخ زمانه. وفيها توفي أبو الأسعد عبد إلىحمن بن عبد الواحد ابن الشيخ أبي القاسم القشيري خطيب نيسابور ومسندها. سمع من جده حضوراً، ومن جدته فاطمة بنت الدقاق، ويعقوب ابن أحمد الصيرفي وطائفة. وروى الكتب الكبار كالبخاري ومسند أبي عوانة. وفيها توفني الحافظ أبو الوليد الدباغ يوسف بن عبد العزيز اللخمي، ثم القرشي. سنة سبع وأربعين وخمس مائة وفيها توفي المقرىء الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بألفاني. أخذ القراءات عن أبي داود وغيره، وسمع الحديث، وتصدر للإقراء وتعليم العربية، وكان مشاركاً في علوم جمة، صاحب تحقيقات وإتقان، ولي خطابة بلده. وفيها توفي القاضي أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الفقيه الشافعي. ولد ببغداد، وسمع جماعة منهم ابن الشامون وابن المهتدي وابن الخياط. وكان ثقة صألفا، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، وانتهى إليه علو الإسناد بالعراق، وولي قضاء دير ألفاقول. وفيها توفي محمد بن منصور النيسابوري. شيخ صالح، سمع القشيري ويعقوب الصيرفي والكبار - رحمه الله -. وفيها توفي السلطان مسعود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي. استقل بالملك، وامتدت أيامه، وكان منهمكاً في اللهو واللعب، عاش خمساً وأربعين سنة، وكان قد آذى المقتفي، فقبض عليه شهراً، فمات. وقيل: حدث به القيء، وغلبه الغثيان، واستمر به ذلك إلى أن توفي. وكان قد اقتتل هو وأخوه محمود على الملك، فالتقيا، فانتصر عليه محمود، ثم تقلبت الأحوال بمسعود المذكور إلى أن تسلطن، وكان سلماناً عادلاً لين ألفانب، كبير

سنة ثمان واربعين وخمس مائة

النفس، ففيق مملكته على أصحابه، ولم يكن له من السلطنة غير الاسم، وكان حسن الأخلاق كثير المناح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي - صاحب الموصل - أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن أبي القاسم الشهرزوري في رسالته، فوصل إليه، وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير حتى قارب أذان المغرب، فعاد إلى خيمته، فأذن المغرب - وهو في الطريق - فيأى إنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه، ثم سآله كمال الدين: من أين أنت؟ فقال: أنا قاضي مدينة كذا، فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وهما أنا وأنت، وقاض في الجنة - وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم - فلما كان من الغد أرسل السلطان، وأحضر كمال الدين إليه، فلما دخل كمال الدين عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولانا؛ فقال: والله صدقت؛ ما أسعد من لا يرانا ولا نراه. سنة ثمان واربعين وخمس مائة فيها خرجت الغز على أهل خراسان، وهم تركمان ما وراء اللهر، فالتقاهم سنجر، فاستباحوا عسكره قتلاً واسراً، ثم هجموا نيسابور، فقتلوا فيها قتلاً ذريعاً، ثم أخذوا بلخ، وأسر السلطان سنجر، فبقي في أيديهم -، وكانوا نحو مائة ألف - فلما ملكت الخطا ما وراء اللهر طردوا عنها هؤلاء الغز فنزلوا بنواحي بلخ، ثم ساروا وعملوا بخراسان ما لا يعمله الكفار من القتل والأسر والخراب والمصادرة والعذاب، ثم تجمع عسكر خراسان، فواقعوا الغز وقعات، كان الظفي في أكثرها للغز. وفي السنة المذكورة أخذت الفرنج عسقلان بعد عدة حصارات، وكان المصريون يمدونها بالرجال والذخائر، فاختلف عسكرها، وقتل منهم جماعة، فاغتنم الفرنج غفلتهم، فيكبوا الأسوار ودخلوها. وفيها توفي الزاهد ألفابد أبو العباس أحمد بن أبي غالب البغدادي الوراق. زاره السلطان مسعود في مسجده، فتشاغل عنه بالصلاة، وما زاده على أن قال: يا مسعود؛ اعدل وادع لي الله، أكبر وأحرم بالصلاة، فبكى السلطان، وأبطل المكوس والضرائب وتاب. وفيها توفي أبو الحسين إلىفاء أحمد بن منير الأطرابلسي ألفاعر المشهور. وكان رافضياً هجاء فائق النظم، وله ديوان.

وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن نصر المخزومي ألفالدي، المعروف بابن القيسراني ألفاعر المشهور ومن الشعراء المجيدين والأدباء المتفننين - وكان بينه وبين ابن منير المذكور معارضة كجرير والفيزدق في زمانهما، وبينهما مهاجاة ومكاتبات وأجوبة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما كما جرت عادة التظراء، ومن شعر ابن المنير المذكور: وإذا الكريم رأى الخمول نزيلهفي منزل فالحزم أن يترحلا فالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقل سفهاً لحلمك إن رضيت بمشربرنق ورزق الله قد ملأ الملا ساهمت عيسك مر عيشك قاعداً ... افلا فليت بهن ناصية الفل فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخمل لا تحسبن ذهاب نفسك ميتة ... ما الموت إلا أن تعيش مذلل لا ترض من دنياك ما أرضاك مندنس وكن طيفاًجلى ثم انجل وصل آلهجير بهجر قوم كلما ... أمطرتهم شهداً جنوا لك حنظلا لله علمي بالزمان وأهله ... ذنب الفضيلة عندهم أن تكمل طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم ... إن قلت قال وإن سكت تأولا أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا والطرابلسي نسبة إلى طرابلس، وهي مدينة بساحل الشام قريبه من بعلبك، وقد تزاد آلهمنة في أولها، فيقال: أطرابلس، وقوله: سفهاً بحلمك إن رضيت بمشرب ... رنق، ورزق الله قد ملأ المل إلىنق: بإلىاء والنون وألفاف: قال في الصحاح: وإلىنق بالتحريك: مصدر قولك: رنق الماء بالكسر إذا تكدر، وعيش رنق: أي كدر، والله أعلم - ومن شعر ابن القيسراني: والله لو أنصف العشاق أنفسهم ... فدوك فيها بما عزوا وما صانوا ما أنت حين تغشى في مجالسهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان وله هذا البيت من قصيدة وكان كثير الإعجاب به: وأهوى الذي أهوى له البدر ساجداً ... ألست تري في وجهه أثر الترب ومن معانيه البديعة قوله من جملة قصيدة رائقة: هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن؟

ألفالدي نسبة إلى خالد بن الوليد المخزومي. قال ابن خلكان هذا بزعم أهل بيته، وأكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون إن خألفا - رضي الله تعالى عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع منذ زمان - والله أعلم -. وفيها توفي أبو الفتح عبد الملك بن عبد الله الكروخي آلهرو، المشهور بالخير والصلاح، رحمه الله. وفيها توفي الزاهد الواعظ أبو الحسن علي بن الحسن، درس بالصادرية وقام عليه الحنابلة لأنه تكلم فيهم، وكان معظماً مفخماً في الدولة معرضاً عن الدنيا. وفيها توفي الملك العادل علي بن السلار الكردي ثم المصري وزير الظافي العبيدي صاحب مصر. وكان سنياً شافعياً، شجاعاً مقداماً، شهماً مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمر بالقاهرة مساجد، وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاهرة. يحكى أنه دخل يوماً على الموفق أبي الكرم بن المعصوم، فشكا إليه حآله من غرامة لزمته بسبب الولاية، فلما أطال عليه الكلام قال له: والله إن كلامك لا يدخل في أذني، فحقد عليه لذلك، فلما ترقى إلى درجة الوزارة طلبه، فخاف منه واستتر مدة، فنادى عليه في البلد وأهدر دم من يخفيه، فأخرجه الذي خبأه، فخرج في زي امرأة بإزار، وخف فعرف وأخمد، وحمل إلى الملقب بالعادل، فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل، وأمر به فألقي على جنبه، وطرح اللوح تحت أذنه، ثم ضرب المسمار في أذنه الآخرى وصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك أم لا؟ ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح، ثم عطف المسمار على اللوح، ويقال إنه شنقه بعد ذلك، ثم آل الأمر إلى أن جهز عسكراً إلى جهة الشام، وجعل عليه عباس بن أبي الفتوح مقدماً، فكره المقدم المذكور فياق الديار المصرية وما هو عليه فيها من إلىاحة، وما يقاسيه في لماء العدو فيزق على العادل من قتله على فياشه في واقعة يطول ذكرها نسأل الله ألفافية من شر الدنيا وغوائلها. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، كان إماماً مبرزاً فقيهاً متكلماً، تفقه على أبي نصر القشيري وأحمد الخوافي وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري، وتفيد فيه.

وصنف كتباً، منها نهاية الإقدام في علم الكلام: وكتاب الملل والنحل وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام في الكلام وكان كثير المحفوظ، حسن المحاورة، يعظ الناس. دخل بغداد وأقام بها ثلاث سنين، فظهر له قبول كثير عند العوام، وسمع الحديث من علي ابن المديني وغيره، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني وذكره في كتاب الذيل. وشهرستان: بفتح السين المعجمة وإلىاء وسكون آلهاء بينهما والسين المهملة بعد إلىاء وقبل الألف المثناة من فوق وبعدها نون: وهو اسم لثلاث مدن: الأولى في خراسان بين نيسابور وخوارزم، وهي المشهورة، ومنها أبو الفتح المذكور، والثانية قصبة بناحية نيسابور من أرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصبهان، بينها وبين مدينة أصبهان نحو ميل، وبها قبر الإمام إلىاشد بن المسترشد. وكان الشهرستاني المذكور يروي بالإسناد المتصل إلى النظام البلخي العالم المشهور ابراهيم بن بشار أنه كان يقول: لو كان للفياق صورة لارتاع لها القلوب، ولهدأ الجبال، ولجمر الغضا أقل توهجاً من حمله، ولو عذب الله أهل النار بالفياق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب. وكان يروي للدريدي أيضاً باتصال الإسناد إليه ومن قوله: ودعته حين لا تودعه ... روحي ولكنها تسير معه ثم افترقنا وفي القلوب لناضيق مكان وفي الدموع سعه ويروي أيضاً مسنداً إليه: يا راحلين بمهجة ... في الحب متلفة شقيه الحب فيه بلية ... وبليتي فوق البلية كل ذلك رواه ابن السمعاني في الذيل. وفيها توفي الإمام العلامة محيي الدين محمد بن يحيى النيسابوري شيخ الشافعية وصاحب الغزالي. انتهت إليه رئاسة المذهب بخراسان، وقصده الفقهاء من البلاد، صنف التصانيف ودرس بنظامية بلده، واستفاد منه خلق كثير، وبرع علماً وزهداً، وصنف كتاب: المحيط في شرح الوسيط والإنصاف في مسائل الخلاف، وغير ذلك من الكتب. ذكره الحافظ عبد ألفافي ألفارسي في تاريخ نيسابور، وأثنى عليه وقال: كان له حظ في التذكير واستمداد في سائر العلوم، وكان يدرس بنظامية نيسابور، ثم درس بمدينه هراة في المدرسة النظامية، ومن جملة مسموعاته ما سمعت من الشيخ أحمد بن علي المعروف بابن عبدوس بقراءة الإمام أبي نصر عبد إلىحمن ابن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم القشيري في سنة ست وتسعين وأربع مائة: وحضر بعض فضلاء عصره، وسمع فوائده وحسن ألفاظه

سنة تسع وأربعين وخمس مائة

فأنشده: رواة الدين والإسلام تحيى ... بمحيي الدين مولانا ابن يحيى كأن الله رب العرش يلقي ... عليه حين يلقي الدرس وحيا توفي شهيداً - رحمه الله تعالى في شهر رمضان، قتلته الغز لما استولوا - على نيسابور، ولما مات رثاه جماعة من العلماء، ومن جملتهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيقهي، قال فيه: يا سافكاً دم عالم متبحر ... قد طار في أقصى الممالك صيته بالله قل لي يا ظلوم ولا تخف ... من كان محيي الدين كيف تميته؟ وفيها توفي الحافظ خطيب مرو أبو طاهر محمد بن محمد المروزي. تفقه على أبي المظفر السمعاني وغيره، وسمع من طائفة. وكذا معرفة وفهم مع الثقة والفضل والتعفف. وفيها توفي شيخ الصوفية ببلدة الخطيب أبو الفتح محمد بن عبد إلىحمن الكشميهني المروزي، آخر من روى كتاب البخاري عن محمد بن أبي عمران. وفيها توفي هبة الله بن الحسين بن أبي شريك ألفاسب، وكان حشوياً مذموماً.: فيها توفي صاحب الأحوال والكرامات أبو الحسن المقدسي. ؟؟؟ سنة تسع وأربعين وخمس مائة فيها تمكن المقتفي بموت السلطان مسعود، وعرض عسكره، وكانوا ستة آلاف فارس، فأنفق فيهم ثلاثمائة ألف دينار، وجهزهم مع الوزير ابن هبيرة. وحرض بعض كبار الدولة السلطان محمد على قصد العراق، واستأذن في التقدم، فأذن في ذلك، فجمع التركمان وجاؤوا، فسار لحربهم المقتفي، ونازلهم أياماً، ثم عمل المصاف في رجب، فانهزمت ميسرة المقتفي، فحمل بنفسه ورفع الصرخة، وسل السيف وصاح: آل مضر، كذب الشيطان. فوقعت آلهزيمة على التركمان، وأخذ لهم في ما قيل أربعمائة ألف رأس غنم، وأسرت أولادهم، ثم مالوا على واسط، فسار ابن هبيرة بالعساكر، فهزمهم ورجع منصوراً، فتلماه المقتفي.

وفيها نزل ألفارجي علي بن مهدي - الملقب: عبد النبي - إلىتهامة اليمن بمن تبعه من العساكر، وهو يستبيح دماء الناس، وكانت عقيدته التكفير بالذنب. روى بالإسناد في سيرة الشيخ الكبير ألفارف بالله المعروف بالصياد: أحمد بن أبي الخير اليمني: قال صاحبه الشيخ الجليل ذو العطاء الجزيل شيخ شيوخ الطريقة وإمامهم عي علوم الحقيقة عبد الله بن علي الأسدي اليمني قال: كنت أنا والصياد متتآخيين بمدينة زبيد في زمن الحبشة، وكنا معتكفين في المسجد الجامع، فلما كان آخر دولة الحبشة سمعنا بظهور علي بن مهدي وإقبال الناس عليه - سمعنا به في قرية من قرى وادي زبيد - فقال لي الصياد: يا أخي سر بنا نشاهد هذا إلىجل، إن كان كما زعموا صألفا تباركاً بزيارته. قال: فتقدمت أنا وهو في يوم الأحد الثالث عشر من شعبان سنة تسع وأربعين وخمس مائة إلى أن وصلنا إلى المكان الذي هو فيه، فوجدنا معه خلما كثيراً - وهو يطعمهم التمر، ويقدمهم على الأكل أفواجاً أفواجاً، وقد نصبوا له خشباً من النخل، وبنوا له على رأسه بيتاً لا يطلعه إلا بدرجة فلما وصلنا قعدنا في طرف الناس إلى أن أكلوا جميعهم. وصاح صائحهم: من كان لم يأكل فلمات وإلا فلا يلومن إلا نفسه، فلم يجبه أحد، وطلعوا إلى السهوة التي هو قاعد عليها بغدأنه، وقد أبصرنا ولم نشعر بإبصاره لنا، فقال لبعض أصحابه: قدم إلى هذين إلىجلين - وأومى إلينا - فأتى رسوله فقال: أجيبوا الإمام - صلوات الله عليه - وهكذا ذكر: الصلاة عليه. قال فكر هنا، فلم يزل بنا حتى سرنا معه، فلما وصلنا إليه سلمنا عليه، فيحب بنا وبش بنا بشاشة عظيمة، وقدم الطعام إلينا، فقلنا: ما لنا به حاجة، نحن صيام، ولم نأكل شيئاً. فقال لنا: أريد من تفضلكما أن تصحباني إلى مسجد ألفازة، فأجبناه إلى ذلك، وخرج معنا في ذلك الوقت وقد تغدى فأخذنا طريق االساحل إلى أن وصلنا مسجد ألفازة، فدخلنا المسجد جميعاً بعد صلاة الضحى، فيكعنا ما شاء الله تعالى، وقعدنا ولم يقعد ابن مهدي المذكور، بل يطالع من ألفاب ساعة ومن ألفاقة ساعة، ولم يزل كذلك ساعة، ثم رمى نفسه في المحراب وقال: أنا جاركما من هذا الشخص الذي وصل إلينا - قلت: يعني أنا مستجير بكما منه - قال: فتقدمنا إلى ألفاب فإذا بزيلعي يمشي على البحر - وهو طويل وبيده عصا يتوكأ عليها - فلما وصل إلينا سلم علينا ودخل المسجد، فلما رأى ابن مهدي زعق عليه زعقة منكرة وقال: يا شيطان يا فتان، تدخل هذا المسجد اليوم؟! أقتلك وأريح

الناس منك. وحمل عليه يريد أن يضربه بالعصا، فأخذنا ندفعه عنه، ونسآله بالله أن يتركه لنا، فقد استجار بنا، فتركه، وركع ركعتين في المسجد، وودعنا، وخرج يمشي على الماء في طريقه التي أتى فيها. ورجع ابن مهدي إلى حالته الأولى يطالع من ألفاب تارة ومن ألفاقة تارة أخرى، فلما كان بعد ساعة أخرى، أقبل ورمى نفسه في المحراب وقال: أنا جاركما من هذا الذي وصل إلينا، فقمنا وطالعنا، وإذا برجل بدوي طويل أقبل من الخبت، وهو يمشي وبيده عصا، فلما وصل إلى المسجد سلم علينا، فلما رأى ابن مهدي في المحراب صاح عليه صيحة منكرة مثل الصيحة الأولى وقال: يا شيطان يا فتان، ما تعمل في هذا الموضع المبارك؟!! اليوم أريح الناس منك. وحمل عليه بعصا ليضربه، فلم نزل ندفعه عنه، ونسآله بالله أن يتركه، فلم يتركه إلا بشدة عظيمة. ثم ركع ركعتين في المسجد، وودعنا، ورجع في طريقه الذي جاء منها، فقال لنا ابن مهدي: أريد أن تصحباني إلى الموضع الذي وجدتماني فيه، فقال له الصياد: ما بقينا نصحبك، ولا نمشي معك. فلم يزل بنا حتى أنعمنا له أن نصحبه إلى قرية الأهواب - بالماء الموحدة - فلما خرجنا معه إليها تركناه ورجعنا إلى زبيد في ذلك اليوم، فأقمنا بها مدة يسيرة، فلما كانت سنة أربع وخمسين وخمس مائة كثرت العساكر معه، وظهر منه ما ظهر من التكفير بالذنب واستباحة دماء المسلمين. انتهى. وفي سنة تسع وأربعين وخمس مائة المذكورة جاءت الأخبار أن السلطان محمود شاه قاصد بغداد، فاستعرض المقتفي جيشه، فزادوا على اثني عشر ألف فارس، فضعف عزم محمد شاه، فخامر عليه جماعة أمراء، ولجؤوا إلى الخليفة. وجاءت الأخبار بما لحق السلطان سنجر من الذل له اسم السلطنة، ولا يلتفت إليه وأنه يبكي على نفسه. وفيها في صفر أخذ نور الدين دمشق من مجير الدين أحمد بن بوري بن طغتكين على أن يعوضه بحمص، ولم ثم ذلك له، فغضب وسار إلى بغداد، وبنى بها داراً فاخرة، وبقي بها مدة، وبعث المقتفي عهداً بالسلطنة لنور الدين، وأمره بالمسير إلى مصر، فاشتغل عن ذلك بحرب الفرنج. وفيها توفي الظافي بالله أبو منصور اسماعيل ابن الحافظ لدين الله العبيدي. كان منهمكاً في الملاهي والقصف، وكان يأنس إلى نصر بن عباس ولد وزيره، فدس عليه من قتله، وأخفى قتله، ثم ذهب إلى أبيه عباس فأعلمه بذلك، وكان أبوه قد أمره بقتله، لأن نصراً كان في غاية الجمال وكان الناس يتهمونه به فقال له أبوه: قد أتلفت عرضك بصحبة الظافي وتحدث الناس فيكما، فاقتله حتى تسلم من هذه التهمة، فقتله. فلما كان الصبح من تلك الليلة حضر عباس إلى باب القصر، وطلب الحضور عند الظافي في شغل منهم، فطلبه الخدم في المواضع التي عادته أن يبيت فيها، فلم يوجد، فقيل لعباس: ما نعلم أين هو، فنزل عن مركوبه، ودخل القصر بمن معه ممن يثق بهم، وقال للخدم: أخرجوا إلي أخوي مولانا، فأخرجوا له جبرائيل ويوسف ابني الحافظ، فسآلهما عنه فقالا: سل ولدك عنه فإنه أعلم به منا، فأمر بضرب رقابهما وقال: هذان قتلاه، هذه خلاصة هذه القضية. والجامع الظافيي الذي بالقاهرة داخل باب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمره ووقف عليه شيئاً كثيراً - على ما يقال والله أعلم -. وفيها توفي أبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفياوي النيسابوري، كان رأساً في معرفة الشروط، حدث بمسند أبي عوانة، ومات من الجوع بنيسابور في فتنة الغز. وفيها توفي أبو العشائر محمد بن خليل القيسي الدمشقي، صاحب الإمام نصر المقدسي. وفيها توفي الحافظ أبو المعز - المبارك ابن أحمد الأنصاري. وفيها توفي مؤيد الدولة - وزير صاحب دمشق. ورجعنا إلى زبيد في ذلك اليوم، فأقمنا بها مدة يسيرة، فلما كانت سنة أربع وخمسين وخمس مائة كثرت العساكر معه، وظهر منه ما ظهر من التكفير بالذنب واستباحة دماء المسلمين. انتهى. وفي سنة تسع وأربعين وخمس مائة المذكورة جاءت الأخبار أن السلطان محمود شاه قاصد بغداد، فاستعرض المقتفي جيشه، فزادوا على اثني عشر ألف فارس، فضعف عزم محمد شاه، فخامر عليه جماعة أمراء، ولجؤوا إلى الخليفة. وجاءت الأخبار بما لحق السلطان سنجر من الذل له اسم السلطنة، ولا يلتفت إليه وأنه يبكي على نفسه. وفيها في صفر أخذ نور الدين دمشق من مجير الدين أحمد بن بوري بن طغتكين على أن يعوضه بحمص، ولم ثم ذلك له، فغضب وسار إلى بغداد، وبنى بها داراً فاخرة، وبقي بها مدة، وبعث المقتفي عهداً بالسلطنة لنور الدين، وأمره بالمسير إلى مصر، فاشتغل عن ذلك بحرب الفرنج. وفيها توفي الظافي بالله أبو منصور اسماعيل ابن الحافظ لدين الله العبيدي. كان منهمكاً في الملاهي والقصف، وكان يأنس إلى نصر بن عباس ولد وزيره، فدس عليه من قتله،

سنة خمسين وخمس مائة

وأخفى قتله، ثم ذهب إلى أبيه عباس فأعلمه بذلك، وكان أبوه قد أمره بقتله، لأن نصراً كان في غاية الجمال وكان الناس يتهمونه به فقال له أبوه: قد أتلفت عرضك بصحبة الظافي وتحدث الناس فيكما، فاقتله حتى تسلم من هذه التهمة، فقتله. فلما كان الصبح من تلك الليلة حضر عباس إلى باب القصر، وطلب الحضور عند الظافي في شغل منهم، فطلبه الخدم في المواضع التي عادته أن يبيت فيها، فلم يوجد، فقيل لعباس: ما نعلم أين هو، فنزل عن مركوبه، ودخل القصر بمن معه ممن يثق بهم، وقال للخدم: أخرجوا إلي أخوي مولانا، فأخرجوا له جبرائيل ويوسف ابني الحافظ، فسآلهما عنه فقالا: سل ولدك عنه فإنه أعلم به منا، فأمر بضرب رقابهما وقال: هذان قتلاه، هذه خلاصة هذه القضية. والجامع الظافيي الذي بالقاهرة داخل باب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمره ووقف عليه شيئاً كثيراً - على ما يقال والله أعلم -. وفيها توفي أبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفياوي النيسابوري، كان رأساً في معرفة الشروط، حدث بمسند أبي عوانة، ومات من الجوع بنيسابور في فتنة الغز. وفيها توفي أبو العشائر محمد بن خليل القيسي الدمشقي، صاحب الإمام نصر المقدسي. وفيها توفي الحافظ أبو المعز - المبارك ابن أحمد الأنصاري. وفيها توفي مؤيد الدولة - وزير صاحب دمشق. سنة خمسين وخمس مائة فيها عسكر طلائع بالصعيد، وأقبل لماخذ القاهرة، فانهزم منه عباس وابنه الذي كان قتل الظافي، ودخل طلائع القاهرة بأعلام مشهورة بثياب سود، مظهراً للحزن، وفي الأعلام شعور نساء القصر، كن يبعثن إليه بها في طي الكتب حزناً على الظافي. وفيها توفي الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن معد التجيبي الأندلسي الأقليشي سمع أبا الوليد بن الدباغ وطائفة، وبمكة من الكروخي، وكان زاهداً عارفاً متفنناً صاحب تصانيف مفيدة،: له شعر في الزهد. وفيها توفي، الحافظ محدث العراق أبو الفضل، محمد بن ناصر البغدادي، اعتني

سنة إحدى وخمسين وخمس مائة

بالحديث بعد أن برع في اللغة. قال ابن النجار: كان ثقة ثبتاً، حسن الطريقة متديناً، فقير متعففاً نظيفاً نزهاً، وقف كتباًِ وخلف ثياباً خليقة وثلاثة دنانير، لم يعقب. وفيها توفي أبو الكرم الشهرزوري المبارك بن الحسن البغدادي شيخ المقرئين ومصنف المصباح في العشرة، كان صألفا خيراً، قرأ عليه خلق كثير، وأجاز له أبو الغنائم بن الشامون وطائفة، وسمع من اسماعيل بن مسعدة وغيره، وقرأ القراءات على عبد السيد بن عتاب وطائفة، وانتهى إليه علو الإسناد. وفيها توفي قاضي القضاة بالديار المصرية أبو المعالي محلي بن جميع القرشي المخزومي الشافعي. ولي بتفويض العادل بن السلار، وله كتاب الذخائر في المذهب، من المصنفات المعتبرة. وفيها توفي الحافظ السلامي البغدادي محمد بن ناصر. كان حافظ بغداد في زمانه، أديباً وافي الحظ من الأدب، كثير البحث عن الفوائد وإثباتها، روى عنه الأئمة فأكثر وأخذ عنه علماء عصره، منهم الحافظ أبو الفيج بن الجوزي وأكثر روايته عنه. وفيها توفي الفقيه ألفاضل الورع الزاهد عمر بن عبد الله بن سليمان بن السري اليمني من جبال اليمن. توفي بمكة حاجاً. روى القاضي أبو الطيب طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير اليمني أنه كان قد أصابه بثرات في وجهه، فيام معالجتها على يد الحكيم، وارتحل إليه وكان في ذي جبلة - فيأى ليلة قدومه إليه عيسى ابن مريم - صلوات الله على نبينا وعليه - فقال: يا روح الله؛ امسح على وجهي وادع ل؛ ففعل، فلما قام من آخر ليلته وأمر الماء على وجهه وجد فيه خفة، وأحس عافية، فاستبشر بصدق رؤياه. فلما أسفي نظر في المرآة، فإذا وجهه قد صح وأنار، فحمد الله تعالى، ورجع إلى منزله قد عاماه العليم الحكيم. قلت: انظر - رحمك الله - كيف رام الشفاء من علاج الحكمة الكسبية، فشفاه الله تعالى بحكم الحكمة الوهبية الآلهية، ولم يجعل ذلك على يد من هو أفضل منه من الأنبياء، رده باللطف ومناسبة الحكمة من حكيم إلى حكيم ليكون شفاؤه بفضل تقدير العزيز العليم. سنة إحدى وخمسين وخمس مائة فيها توفي مسند أصبهان أبو القاسم اسماعيل بن علي بن الحسين النيسابوري، ثم الأصبهاني الصوفي، نيف على مائة سنة.

سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة

وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد اليزدي الشافعي المقرىء الزاهد، برع في القراءات والمذهب، وصنف في القراءات والفقه والزهد، وكان رأساً في الزهد والورع. وفيها توفي الشيخ أبو البيان بن محفوظ القرشي الشافعي اللغوي الدمشقي الصوفي المعروف بابن الحوراني، كان أستاذاً ملازماً للحفظ - والمطالعة، كثير العبادة بالمراقبة، كبير ألفان بعيد الصيت، صاحب أحوال ومقامات، لازماً للسنة والأثر. وله تآليف وأذكار مسجوعة وأشعار مطبوعة، وأصحاب ومريدون، وفقراء بهديه يقتدون. كان هو والشيخ رسلان شيخي دمشق في عصرهما. وفيها توفي الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة. كان علامة الزمان في علمه ومقرىء العصر في نظمه ونثره ومن نظمه الممدوح قوله أشكو إلى الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي ومن سقامين: سلم قد أحل دمي ... من الجفون، وسلم حل في جسدي ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سري، وواش منه بإلىصد ومن ضعيفين: صبري حين أذكره ... ووده، ويراه الناس طوع يدي وكان قد اشتغل بالأدب وبرع فيه، ثم اشتغل بالفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأجاد فيه، وتولى الخطابة في فارقين، وتصدر للفتوى بها، واشتغل عليه الناس، وانتفعوا به، ولم يزل على رئاسته وجلالته وامادته إلى أن توفي - رحمه الله تعالى. سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة فيها نازل بغداد محمد شاه ابن السلطان محمود، فاختلف عسكر المقتفي عليه، وقاتلت الشامة، ونهب ألفانب الغربي، واشتد الخطب، واقتتلوا في السفن أشد قتال، وفيق المقتفي الأموال والسلاح، ونهض أتم نهوض حتى إنه كان من جملة ما عمل له بعض الزخاجين ثمانية عشر ألف قارورة للنفط، ودام الحصار نحواً من شهرين، وقتل خلق كثير من الفييقين، وجاءت الأخبار بأخذ همذان - وهي لمحمد شاه - فقلق لذلك وقلت عليهم الميرة، وجرت أمور طويلة، ثم ترحلوا خائبين. وفيها خرجت الإسماعيلية على حجاج خراسان فقتلوا وسبوا، واستباحوا إلىكب

وضج الضعفاء والجرحى. شيخ اسماعيلي ينادي: يا مسلمون؛ ذهبت الملاحدة، فأبشروا، ومن هو عطشان سقيته، فبقي إذا كلمة أحد أجهز عليه، فهلكوا كلهم إلى رحمة الله. وفيها اشتد القحط بخراسان، وتخربت بأيدي الغز، ومات سلمانها سنجر، وغلب كل أمير على بلد، واقتتلوا، وتغيرت إلىعية الذين نجوا من القتل. وفيها هزم نور الدين الفرنج على صفد وكانت وقعة عظيمة: وجاءت الزلزلة العظمى بالشام، فهلك بحلب تحت إلىدم نحو خمس مائة، وخربت أكثر حماه ولم ينج من بعض البلاد إلا خادم وامرأة، ثم عمرها نور الدين. وفيها أخذ نور الدين من الفرنج غزة ونابل. وفيها توفي الملقب بشمس الملوك ابراهيم بن رضوان السلجوقي، تملك حلب مدة مديدة، ثم أخذها منه زنكي وعوضه نصيبين. وفيها توفي سنجر الملقب بالسلطان الأعظم ابن السلطان ملك شاه ابن ألب أرسلان ابن أحمد السلجوقي صاحب خراسان، قيل: وأحد ملوك العصر وأعرفهم نسباً وأقدمهم ملما وأكثرهم جيشاً، خطب له بالعراقين وأرمينية وأذربيجان والشام والموصل وديار بكر وربيعة والجزيرة والحرمين وخراسان وغير ذلك. وكان وقوراً مهيباً ذا حياء وكرم وشفقة على إلىعية، وكان مع كرمه المفيط أكثر الناس مالاً، اجتمع في خزائنه من الجواهر ألف وثلاثون رطلاً، قيل: هذا ما لم يملكه خليفة ولا ملك، فيما يعلم. وفيها توفي أبو مروان عبد الملك بن ميسرة اليحصبي ثم القرطبي، أحد الأعلام ممن جمع الله له الحديث والفقه مع الأدب ألفارع والدين والورع والتواضع. وفيها توفي مسند بخارى عثمان بن علي البيكندي - بالموحدة ثم المثناة من تحت ثم النون بين ألفاف وألفال المهملة على ما ضبط بعضهم - كان إماماً عألفا ورعاً عابداً متعففاً.

وفيها توفي رئيس أصفهان وعالمها محمد بن عبد اللطيف الخجندي - بالماء المعجمة وألفال المهملة وبينهما جيم ونون. قال ابن السمعاني: كان صدر العراق في زمانه على الإطلاق إماماً مناظراً واعظاً جواداً مهيباً، كان السلطان محمود يصدر عن رأيه، وكان بالوزراء أشبه منه بالعلماء، درس ببغداد بالنظامية، وكان يعظ وحوله السيوف. مات فجأة في قرية بين همدان والكرخ. وفيها توفي القاضي الأجل أبو بكر بن محمد بن عبد الله الشافعي في شهر رمضان، وحضر موته الإمام العالم العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير اليمني العمراني، وقال حين نعي عليه: ماتت المروءة. قلت: ومثل هذا المقال يقال في كل وصف جميل مات من اتصف به إذا كان غألفا عليه، مشتهراً فيه، متميزاً على غيره به، كما بلغني أنه لما توفي الشيخ الصالح أبو محمد المعروف بالسكري المغربي - رحمة الله عليه - قال الشيخ الكبير السيد الشهير ألفارف بالله الخبير نجم الدين الأصبهاني - قدس الله روحه - مات الفقر من الحجاز. وهذا الشيخ أبو محمد المذكور هو ناظم القصيدة التي مفتتحها: دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها أخذ القاضي أبو بكر المذكور الفقه عن الإمام العلامة زيد بن عبد الله اليفاعي. قلت: وقد تقدم نسبة الشافعي واليفاعي - وعلى الجملة - فالفيق بينهما أن الشافعي نسبة إلى جد واليفاعي إلى مكان. وكان هذا القاضي المذكور أديباً شاعراً مترسلاً فصيحاً، وله ديوان شعر مشهور في زمانه ومكانه، روى عن أبيه وخآله كتاب إلىسالة للمافعي، ومختصر المنني بروايتهما عن الشيخ الإمام عبد الملك بن محمد الشافعي، وولي قضاء اليمن من جبآلها إلى عدن، وكان له ولد يقال له محمد بن ابن أبي بكر، نبت نباتاً حسناً، وأخذ الفقه عن أخوآله بني عبد العليم، وكان له معرفة في علم الكلام واللغة والعربية وحسن الشعر، مات بالجند سنة ست وأربعين وخمس مائة، وقبره هنالك. ولما توفي أبوه بعده قبر هنالك أيضاً، ولأبيه فيه مدح ومرثية بأشعار كثيرة، ومن قصيدة له في ذلك: جوار الله خير من جواري ... له دار لكل خير دار وكان القاضي أبو بكر المذكور ذا جاه كبير وحظ عظيم عند الملوك، استوهب خراج الفقهاء، وخلصهم من المظالم، ولما قدم القاضي الإمام العلامة ذو الفضل العديد - الملقب

بالرشيد - من ديار مصر إلى اليمن أكرمه القاضي أبو بكر المذكور، وبجله، وكان الرشيد المذكور فاضلاً بارعاً ذا فنون كثيرة، وفضيلة شهيرة. وحكي انه أستأذن هو والجليس أبو المعالي المصري - ذات يوم على الوزير فلان - سماه - فلم يأذن لهما، واعتذر عن المواجهة، ووجدا عنده غلظة من الحجاب، ثم عاوداه مرة أخرى، واستأذنا عليه، فقيل لهما إنه نائم، فخرجا من عنده فقال القاضي الرشيد: توقع لأيام اللئام زوآلهافعما قليل سوف تنكر حآلها فلو كنت تدعو الله في كل حالة ... لتبقي عليهم ما أمنت انتقآلها وقال صاحبه أبو المعالي: لئن أنكرتم عنا ازدحاماً ... ليجتنبكم هذا الزحام وإن نمتم عن ألفاجات عمداً ... فعين الدهر لا تنام فلم يكن بعد أيام حتى نكب الوزير نكبة عظيمة. وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن محمد بن المبارك العكبري الفقيه الشافعي. أتقن المذهب على أبي بكر ألفاشي المستظهري، درس وأفتى وصنف وأقرأ له مصنف في شرح التنبيه للشيخ أبي إسحاق ومصنف في الأصول. وفيها توفي ابن خميس أبو عبد الله الحسين بن نصرالموصلي الجهني الشافعي، الملقب تاج الإسلام. قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي حامد الغزالي ببغداد، وعن غيره وولي القضاء برحبة مالك بن طوق، ثم رجع إلى الموصل، وصنف كتباً منها: مناقب الأبرار على أسلوب رسالة القشيري ومناسك الحج وأخبار المقامات. قلت: وقول ابن خلكان: على أسلوب رسالة القشيري، ليس إطلاقه هذا بمرضي ولا صحيح، فإن رسالة القشيري جمعت أصناما من العقائد والآداب وذكر المقامات والأحوال وأسمأنها واصطلاحات المشايخ الصوفية، من ذلك: ذكر اللوامع والطوالع، والبوادة واللوائح، والمحبة والشوق، والأنس وآلهيبة، والسكر والغيبة، والفناء والبقاء، إلى غير ذلك مما يطول ذكره ومما لم يذكره في مناقب الأبرار المذكور، وإنما ذكر فيه مما يناسب ما في إلىسالة قوله: ومنهم ومنهم فحسب.

سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة

وخميس جده الأعلى، والجهني نسبة إلى جهينة القبيلة المعروفة من قضاعة، سكن في قرية من الموصل مجاور القرية التي فيها العين المعروفة بعين القيارة التي ينفع الاستحمام بها من ألفالج والرياح ألفاردة، وهي مشهورة في بر الموصل. سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة قال ابن الأثير: فيها نزل ألف وسبعمائة من الإسماعيلية على رزق كبير للتركمان، فأخذوه، فأسرع عسكر التركمان، فأحاطوا بهم، ووضعوا فيهم السيف، فلم ينج منهم إلا تسعة أنفس - والحمد لله -. وفيها توفي الفقيه ألفاضل الورع الزاهد عمر بن اسماعيل بن يوسف. أخذ عن الإمام زيد بن الحسن المهذب وأصول الفقه، وكان رفيق الإمام يحيى بن أبي الخير في رحلتهما إلى احاطة، ورويا عنه: غريب الحديث في اللغة لأبي عبيد، ومختصر العين للمافي، وغير ذلك، وكان فاضلاً إماماً في العربية. أخذ الإمام يحيى عنه ألفافي والجمل للزجاجي، وأخذ عنه محمد بن موسى العمراني: الناسخ والمنسوخ في القرآن لأبي جعفر الصفار. وفيها توفي مسند الدنيا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ثم آلهروي الصوفي في الزاهد. كان مكثراً من الحديث عالي الإسناد، طالت مدته، فألحق الأصاغر والأكابر، سمع صحيح البخاري ومسند ألفارمي وعبد بن حميد بن جمال الإسلام ألفاؤدي في سنة خمس وستين وأربع مائة، وسمع من أبي عاصم الفضيلي ومحمد بن أبي مسعود ألفارسي وطائفة، وصحب شيخ الإسلام الأنصاري، وخدمه، وعمر ودخل بغداد، فازدحم الخلق عليه. وكان خيراً متواضعاً متودداً حسن السمت، متين الديانة محباً للرواية. وكانت ولادته بهراة في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ووفاته ببغداد في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة في رباط فيروز، وصلي عليه بالجامع صلاة الشامة، وكان الإمام في تلك الصلاة شيخ الشيوخ الأكابر أبو محمد محيي الدين عبد ألفادر الجيلي - قدس الله روحه - وكان الجمع متوافياً، ودفن في الشونيزي في الدكة المدفون فيها الشيخ رويم، وهو اخر من روى في الدنيا

عن ألفاؤدي. وفيها توفي الحافظ أبو مسعود عبد الجليل بن محمد الأصبهاني، أوحد وقته، وفي علمه، مع حسن طريقه وتواضعه. كان جيد المعرفة حسن الحفظ، ذا عفة وقناعة وإكرام للغرباء. وفيها توفي علي ابن عساكر المقدسي ثم الدمشقي الحساب، صحب الفقيه نصر المقدسي. وفيها توفي العلامة أبو حفص عمر بن أحمد النيسابوري الصفار، كان من كبار الشافعية ويذكر مع محمد بن يحيى، ويزيد عليه بالأصول، قال ابن السمعاني: هو إمام بارع مبرز، جامع لأنواع من العلوم الشرعية، سديد السيرة. مات يوم عيد الأضحى. وفيها توفي محمد بن عبد الله ألفاتب المعروف بابن التعاويذي البغدادي، ألفاعر المشهور، وله ديوان شعر. وكان باسمه - رأيته في أيام الناصر لدين الله، فالتمس أن ينقل باسم أولاده. ولما عمي سأل أن يجدد له راتب مدة حياته، فكان يواصل بشيء من الخشكار إلىومي، فكتب أبياتاً إلى صاحب المخزن الملقب بفخر الدين، ومن جملتها: حاشاك ترضى أن تكون خزانتي ... كخزانة البواب والنقاط سوداء مثل الليل شعر قفيزها ... ما بين طسوج إلى قيراط قد كدرت حسني المضي وغيرت ... طبعي السليم وأرقبت أخلاطي أخنت عليها ألفادثات وأفيطت ... فيها إلىداة أيما إفياط فتول تدبيري فقد أنهيت ما ... أشكوه من مرضي إلى بقراط وكان وزير الديوان ابن البلدي قد عزل أرباب الولايات، وصادرهم وعاقبهم، فعمل أبياتاً في ذلك منها: يا قاصداً بغداد جز عن بلدة ... للجور فيها زجرة وعتاب إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على إلىاجي لها الأبواب ليست وما بعد الزمان كعهدها ... أيام يعمر ربعها الطلاب ويجلها الرؤساء من ساداتها ... والجلة الأدباء والكتاب والدهر في أولى حداثته وللأ ... يام فيها نضرة وشباب والفضل في سوق الكرام يباع ل ... غالي من الأثمان والآداب

بادرت وأهلوها معاً فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب قال ابن خانكا: وأما قصيدته المشتملة على التشبيب والمدح فإنها في نهاية الحسن، قلت: وقد اختصرت في ترجمته الكبيرة المشتملة على المحاسن النضيرة على هذه الألفاظ اليسيرة، التعاويذي نسبة إلى كتابة التعاويذ - بالذال المعجمة وهي الحروز. ذكر موته بعض المؤرخين في السنة المذكورة، وذكر بعهم في سنة أربع وثمانين - والله أعلم -. وفيها توفي الإمام الأوحد العالم الأمجد عبد الله بن يحيى بن أبي آلهثم الصنعي، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل إحدى وثمانين. وكانت مدرسته في سهفنة. وروى ابن سمرة بسنده أنت الإمام يحيى بن أبي الخير كان يقول: عبد الله بن يحيى شيخ الشيوخ، وكانا متحابين يتزاوران، وحضر الإمام يحيى جنازته وهو وأصحابه من ذي الشرف - قال: وكان فاضلاً زاهداً ورعاً. روي أن ناساً من بني مليك ضربوه بالسيوف فلم تقطع سيوفهم، فسألوه عن ذلك فقال: كنت أقرأ سورة ياسين. قال: والذي أرويه أنه كان يقرأ آيات، وهي قوله تعالى: " ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم "، - البقرة 255 -، " فالله خير حافظاً وهو أرحم إلىاحمين " - يوسف 64 - و " حفظاً من كل شيطان مارد " - الصامات 7 - " وحفظاً ذلك تقدير العزيزالعليم " - فصلت 12 - " أن كل نفس لما عليها حافظ " - ألفارق 4 - " إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد وهو الغفور الودود " - البروج 12، 13، 14 -. إلى آخر السورة، قال: وهذه إلىواية وهي المشهورة. قال: وذكر أن الفقيه المذكور قال: خرجت يوماً مع جماعة، فيأينا ذئباً يلاعب شاة عجفاء، ولا يضرها بشيء، فلما دنونا منها نفي الذئب، فوجدنا في رقبة ألفاة كتاباً مربوطاً، فحللناه، فقرأنا فيه هذه الآيات. وله مصنفات مليحة منها: كتاب التعريف في الفقه، واحترازات المهذب، وكان يقوم بكفايته وما يحتاج إليه رجل من مشايخ بني يحيى، وهم بطن من يافع قلت: ويافع يقولون: هم أهل يحيى وأهل موسى وأهل عيسى، ثلاثة بطون بينهم بعض قرابة، وفيهم عز وشرف نفوس، فأهل موسى أخوالي - وألفالب عليهم الكرم والمشيخة وشرف النفوس - وأهل يحيى أخوال بني عمي - وألفالب عليهم العز والنجدة، ولا تزال الحرب بينهم وبين أعدأنهم ومن أهل يحيى المذكورين الولي الكبير الفقيه الشهير أبو بكر التغزي الذي كان السلطان الملك المؤيد في طوعه. وذكر ابن سمرة أنه تفقه بهذا الفقيه عبد الله بن يحيى المذكور خلق كثير.

سنة أربع وخمسين وخمس مائة

؟؟؟؟ سنة أربع وخمسين وخمس مائة فيها سارعبد المؤمن في مائة ألف، فنازل المهدية بحراً وبراً، فأخذها من الفرنج بالأمان، فخرجوا منها في البحر في وقت الشتاء، فغرق أكثرهم - ولله الحمد -. وفيها دخلت الغز بنيسابور، ووقعت فتنة وحروب وحمية وعصبية بين الشافعية والعلوية ومعهم الحنفية في نيسابور وتعبت إلىعية، وأحرقت أسواق ومدارس، ووقع القتل بالشافعية، ثم انتصروا وبالغوا في أخذ الثأر، وحرقوا مدرسة الحنفية. وفيها توفي أبو جعفر العباسي أحمد بن محمد بن عبد العزيز نقيب آلهاشميين، حدث ببغداد وأصبهان، وكان صألفا متواضعاً فاضلاً مسنداً. وفيها توفي أبو زيد جعفر بن زيد الشامي الحموي، مصنف رسالة البرهان كان صألفا عابداً صاحب سنة وحديث. وفيها توفي الحسن بن جعفر المتوكل العباسي. وكان أديباً شاعراً صألفا. وفيها توفي محمد شاه ابن السلطان محمود بن محمد ابن ملك شاه السلجوقي، وكان كريماً عاقلاً. سنة خمس وخمسين وخمس مائة فيها توفي العميد ابن القلانسي حمنة بن أسد التميمي الدمشقي. وفيها توفي سلمان غزنة حسن شاه، تملك بعد أبيه بهرام شاه. وفيها توفي قاضي العراق أبو جعفر الثقفي عبد الواحد بن أحمد، ولاه المستنجد قضاء القضاة، وولي بعده ابنه جعفر. وفيها توفي ألفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافي العبيد، أقيم في الخلافة بعد قتل أبيه - وله خمس سنين، وقد تقدم أن نصر بن عباس قتله بأمر عباس، ولما كان صبيحة الليلة التي قتل فيها الظافي حضر عباس إلى المصر على جاري عادته في الخدمة،

وطلب الاجتماع به موهماً عدم اطلاعه على قتله، وطلبوه في جميع مظانه في القصر، فلم يقفوا له على خبر، فتحققوا عدمه. فأخرج عباس أخوي الظافي وقال: أنتما قتلتما إمامنا، وما نعرفه إلا منكما، فأصرا على الإنكار صادقين، فقتلهما في الوقت لنفي التهمة عن نفسه، ثم استدعى بولده ألفائز - وعمره خمس سنين كما تقدم، وقيل: سنتان - فحمله على كتفه ووقف في صحن ألفار، فأمر أن تدخل الأمراء، فدخلوا فقال لهم: هذا ولد مولانا، وقد قتل عماه أباه، وقد قتلهما كما ترون، والواجب إخلاص الساعة لهذا الطفل، فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا. فصاحوا صيحة واحدة، فاضطرب منها الطفل، فبال على كتف عباس، وسماه: ألفائز، وسيره إلى أمه، واختل من تلك الصيحة، فصار يصرع في كل وقت، ويختلج، وخرج عباس إلى داره، ودبر الأمور، وانفيد بالتصرف - وكان وزيراً للظافي - وأما أهل القصر فإنهم اطلعوا على باطن الأمر، وأخذوا في الحيلة في قتل عباس وابنه، وكاتبوا طلائع ابن رزيك - بضم إلىاء وتشديد الزاي المكسورة وسكون المثناة من تحت بعدها كاف - الملقب بالملك الصالح، وكان إذ ذاك والي سبتة بني حصيب في الصعيد، وسألوه الانتصار لهم، وقطعوا شعورهم، وسيروها في طي الكتاب، وسودوا الكتاب، فلما وقف الصالح عليه اطلع من حوله من كبار الأجناد، وتحدث معهم في ذلك فأجابوه إلى الخروج معه، واستمال جمعاً من العرب، وساروا قاصدين القاهرة - وقد لبسوا السواد - فلما قاربوها خرج إليهم جميع من فيها من الأمراء والأجناد والسودان، وتركوا عباساً وحده، وخرج عباس في ساعته من القاهرة - ومعه ولده قاتل الظافي، وشيء من مآله وجماعة يسيرة من أتباعه - وقصدوا طريق الشام. وأما صالح فإنه دخل القاهرة بغير قتال، وما قدم شيئاً على النزول بدار عباس المعروفة بدار الشامون بن البطائحي، وقد ضاع مدرسة للحنفية، وتعرف بالسيوفية، واستحضر ألفادم الصغير الذي كان مع الظافي ومن معه من المقتولين، وحملوا وقطعت لهم الشعور، وانتشر البكاء والنياحة في البلد، ومشى الصالح والخلق قدام الجنازة إلى موضع الدفن، وتكفل الصالح بالصغير، ودبر أحوآله. وأما عباس ومن معه فإن أخت الظافي كاتبت فينج عسقلان بسببه، وشرطت لهم مالاً جزيلاً إذا أمسكوه، فخرجوا عليه وصادفوه، فتواقعوا واقتتلوا، وقتلوا عباساً وأخذوا مآله وولده، وانهزم بعض أصحابه إلى الشام، وسيرت الفرنج نصر بن عباس ألفاتل المذكور إلى القاهرة محتاطاً به في قفص حديد، فلما وصل تسلم رسولهم ما شرطوا لهم من ألفال، وأخذوا نصراً المذكور، ومثلوا به، ثم صلبوه على باب زويلة، ثم أحرقوه. هذه خلاصة

سنة ست وخمسين وخمس مائة

الواقعة وفيها طول - وأقيم بعد ألفائز المذكور العاضد وفي السنة المذكورة توفي المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بالله بن المقتدي بالله العباسي. كان عألفا فاضلاً لبيباً، حليماً شجاعاً، مهيباً خليقاً للإمارة كامل السؤدد، لا يجري في دولته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه، ووزر له علي بن طراد الزينبي، ثم أبو نصر بن حهيرة، ثم علي بن صدقة، ثم ابن هبيرة وحاجبه أبو المعالي بن الصاحب وجماعة بعده. وكان مليح الشبية عظيم آلهيبة، وكانت دولته خمساً وعشرين سنة، وقد جدد باباً للكعبة، واتخذ لنفسه تابوتاً من العقيق دفن فيه، وعقدت البيعة بعده لولده المستنجد بالله. وفيها توفي أبو الفتوح ألفائي محمد بن محمد آلهمداني صاحب الأربعين. سنة ست وخمسين وخمس مائة فيها توفي أبو حكيم اللهرواني الزاهد الفيضي، أحد من يضرب به المثل في الحلم والتواضع، أنشأ مدرسة بباب الأزج، واجتهد جماعة على امضأنه فلم يقدروا. وفيها توفي سلمان الغور الحسين بن الحسين. وفيها توفي سليمان شاه ابن السلطان محمد السلجوقي قيل: كان أهوج أخرق فاسقاً بل زيديقاً يشرب الخمر في نهار رمضان، قبض عليه الأمراء ثم خنق. وطلائع الملقب بالملك الصالح ابن رزيك، قد تقدم دخوله القاهرة لما استنجد به عند قتل الملك الظافي، فتولى الوزارة في أيام ألفائز، واستقل بالأمور وتدبير أحوال الدولة. وكان فاضلاً محباً لأهل الفضائل، سمحاً في العطاء سهلاً في اللماء جيد الشعر، ومن شعره: كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبراً وفينا الصد والإعراض ينسى الممات وليس يجري ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض ومنه: ومهذهف ثمل القوام سرت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه

ماضي اللماظ كأنما سلت يدي ... سيفي غداة إلىوع من جفنيه والناس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه فأعجب لسلمان يعم بعدله ... ويجور سلمان الغرام عليه مع أبيات أخرى، ومنه: مشيبك قد نضى صبغ الشباب ... وحل ألفاز في وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان تقضي ... وما ناب النوائب عنك نابي وكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي قد قصده من الموصل مدحه بقصيدته ألفافية التي أولها. أما كفاك تلاقي في تلاقيك ... ولست تنقم إلا فيط حبيكا وفيم تغضب إن قال الوشاة: سلاوأنت تعلم أني لست أسلوكا لا نلت وصلك إن كان الذي زعموا ... ولا شفا ظمئي جود ابن رزيكا وهي من نخب القصائد. ولما مات ألفائز وتولى العاضد مكانه استمر الصالح على وزارته، وزادت حرمته، وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة. وقد كان العاضد تحت قبضته، فيزق عليه من يقتله من أجناد الدولة، فكمنوا للصالح مرة بعد أخرى حتى قتلوه، وخرجت الخلع بمنصبه لولده العادل، وهذا الصالح المذكورهو الذي بنى الجامع على باب زويلة بظاهر القاهرة، وكان لما خرج أشرت على الوفاة قد أوصى ولده أن يتعرض لماور وزير مصر بسوء، وكان قد تمكن في بلاد الصعيد، ثم إنه قدم إلى القاهرة، وهرب العادل وأهله منها، وحمل من الذخائر ما لا يحصى، وندب شاور جماعة، فلحقوه وأخذوه أسيراً، وأحضروه إلى باب شاور، فوقف عنده زمناً طويلاً، ثم حبسه مدة، ثم قتله وتولى مكانه من الوزارة ومدة. ثم خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر الملقب بفارس المسلمين اللخمي المنذري، وغلبه وأخرجه من القاهرة. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه ابن شاور وصل إلى الملك العادل نور الدين مستنجداً، فأكرمه واحترمه، وبعث معه جيشاً، ثم إن شاور بعث إلى ملك الفرنج، واستنجده، وضمن له أموالاً، فيجع عسكر نور الدين إلى الشام، وحدث ملك الفرنج نفسه بملك مصر، فلما بلغ نور الدين ذلك جهز عسكراً، وجاءت أمور يطول ذكرها، ثم إن شاور المذكور قتل، وكان قتله عند مشهد السيدة نفيسة - رضي الله عنها - بين القاهرة ومصر، وكان طلائع المذكور أديباً شاعراً، فاضلاً جواداً، ممدحاً رافضياً، يجمع الفقراء ويناظرهم على الإمامة وعلى القدر، وله مصنف في ذلك.

سنة سبع وخمسين وخمس مائة

وفيها توفي أبو الفتح عبد الوهاب بن محمد ألفالكي المقرىء. وفيها توفي سلمان ما وراء اللهر خاقان محمود بن محمد التركي، ابن بنت السلطان ملك شاه السلجوقي. سنة سبع وخمسين وخمس مائة فيها حج إلىكب العراقي، وحيل بينهم وبين البيت إلا شرذمة يسيرة، ورجع الناس بلا طواف. وفيها توفي أبو مروان عبد الملك بن زهير الإشبيلي طبيب عبد المؤمن وصاحب التصانيف. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو الفتح الظاهر وألفال ألفاهر، والمعارف والأسرار، والكرامات والأنوار، والمقامات العلية والمواهب السنية، والأنفاس الصادقة والآيات ألفارقة: عدي بن مسافر الشامي ثم آلهكاري الزاهد. صحب الشيخ عقيلاً المنبجي والشيخ حماد الدباس، وإليه ينتسب ألفائفة العدوية. سار ذكره في البلاد، وتبعه خلق كثير، وعظم فيه الاعتقاد، وانقطع إلى جبل آلهكارية من أعمال الموصل، وبنى هناك زاوية، مال إليه أهل تلك النواحي ميلاً عظيماً، وقبره عندهم من المنارات المعدودة والمشاهد المقصودة - رضي الله تعالى عنه، ونفعنا به وبجميع الصالحين. وله كرامات كريمة وآيات عظيمة، منها أن بعض أصحابه كان مختلما بنفسه في بعض الصحارى، فقال له: يا سيدي، أشتهي الانقطاع في هذا المكان، فلو كان عندي ماء أشرب منه، وما أقتات به، فقام الشيخ إلى صخرتين كانتا هنالك، فوكز إحداهما فانفجرت منها عين ماء حلو عذب، ووكز الآخرى فنبتت فيها في الوقت شجرة رمان، وقال لها: أيتها الشجرة؛ أنبتي بإذن الله تعالى يوماً رماناً حلواً، ويوماً رماناً حامضاً، فقال صاحبه: وهو إسرائيل بن عبد المقتدر فأقمت هنالك سنين آكل من تلك الشجرة رماناً يوماً حلواً ويوماً حامضاً أحسن رمان وأطيبه في الدنيا. وفيها توفي الشيخ الإمام المحدث شيخ المحدثين سراج الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن حمير اليمني آلهمداني. روى عن جماعة كثيرين، وروى عنه الإمام يحيى بن أبي

سنة ثمان وخمسين وخمس مائة

الخير صحيح البخاري وسنن أبي داود، واجتمع عليه جماعة، وسمعوا عليه الكتابين المذكورين. وكان في الحديث متقناً للرواية عألفا بصحيحه ومعلوله. قال الإمام يحيى بن أبي الخير: ما رأيت أحفظ من هذا الشيخ - يعني: علي بن أبي بكر المذكور - في حفظ الحديث ولا أعرف منه، قيل له: ولا في العراق؟ قال: ما سمعت، قال ابن سمرة: وعنه أخذ شيخ قاضي عدن أحمد بن عبد الله القريظي، وله تصنيف مليح يعرف بكتاب الزلازل والأشراط، قال: وإليه ينتهي سند أكثر أصحابنا، وسمع عليه خلق كثير في الجند وعدن وغيرهما من بلاد اليمن. وفيها توفي أبو سعيد المؤيد بن محمد الأندلسي ألفاعر المشهور، من أعيان شعراء عصره، وله نظم عجيب مشتمل على المعاني المبتكرة، من ذلك قوله في وصف طنبور: وطنبور مليح الشكل يحكي ... بنغمته الفصيحة عندليبا روى لما روى نغماً فصاحاً ... حواها في تقنلها قضيبا كذا من عاشر العلماء طفلاً ... يكون إذا نشا شيخاً أديبا ولبعضهم في هذا المعنى: وعود له نوعان من لذة المنى ... فبورك جان مجتنيه وغارس تغنت عليه وهو رطب حمامة ... وغنت عليه قينة وهو يابس سنة ثمان وخمسين وخمس مائة فيها توفي الشيخ الزاهد أحمد بن محمد بن قدامة، وكان خطيب جماعيل بفتح الجيم وتشديد الميم وبكسر العين المهملة بعد الالف واللام بعد مثناة من تحت ففي من الفرنج مهاجراً إلى الله عز وجل، ثم صعد إلى الجبل، وكانوا يعرفون بالصالحية - لنزولهم بمسجد بني صالح، ومن ثم قيل جبل الصالحية - وكان قانتاً لله زاهداً صألفا، صاحب جد وصدق وحرص على الخير - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي ابن القطان هبة الله بن الفضل ألفاعر المشهور البغدادي، سمع الحديث من جماعة، وسمع عليه، وكان غاية في الخلاعة والمجون، كثير المناح والمداعبات، وله ديوان شعر، وذكره السمعاني في الذيل وقال: شاعر مجود مليح الشعر، رقيق الطبع، إلا أن آلهجاء غالب عليه، وهو ممن يتقي لمانه، كتبت عنه حديثين، وعلقت عنه مقطمات من

شعره، وذكر العماد في خريدة القصر: وكان مجمعاً على ظرفه ولطفه. وحكي أنه دخل يوماً على الوزير الزينبي وعنده الحيص - وقد عمل بيتين لا يمكن أن يعمل لهما ثالث، لأنه قد استوفى المعنى فيهما، فقال الوزير: وما هما؟ فأنشد: زار الخيال بخيلاًمثل مرسلهفما شفاني منه الضم والقبل ما زارني قط إلا كي يوافقني ... على إلىقاد فينفيه ويرتحل فالتفت الوزير إلى الحيص وقال له: ما تقول في دعواه؟ فقال: إن أعادهما سمع لهما الوزير ثالثاً، فقال له الوزير: أعدهما، فوقف الحيص لحظة ثم أنشد: وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفه حين أعيى اليقظة الحيل

المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس - وتسمى أمير المؤمنين - وقصدته الشعراء، وامتدحته بالمدائح الحسان، وكان أبيض مليحاً، أسود الشعر وضياً، معتدل الشامة جهوري الصوت، فصيحاً عذب المنطق، لا يراه أحد إلا أحبه بديهة، وكان ملما عادلاً عظيم آلهيبة عالي آلهمة، كثير المحاسن متين الديانة، يقرأ كل يوم سبعاً، ويجتنب لبس الحرير، ويصوم الاثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الأمور، كأنما خلق للملك. وذكر عماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أنه لما أنشده بعض الفقهاء: ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي أشار إليه أن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار، ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه خرج من مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفي بها رحمه الله تعالى - وعهد إلى ولده أبي عبد الله محمد، فاضطرب أمره، وأجمعوا على خلعه، وبويع أخوه يوسف. والكومي: بضم ألفاف وسكون الواو، وبعدها ميم: نسبة إلى كومية، وهي قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان. وذكر في بعض تواريخ المغرب أن ابن تومرت كان قد ظفي بكتاب يقال له: الجفي، وفيه ما يكون على يده، وقضية عبد المؤمن وجيشه واسمه وغير ذلك مما تقدم ذكره. وقال ابن قتيبة في أوائل كتاب اختلاف الحديث بعد كلام من علم باطنه بما وقع طويل: وأعجب من هذا التفسير - تفسير إلىوافض للقرآن الكريم وما يدعونه إليهم عن الجفي الذي ذكره سعد ابن هارون العجلي وكان رأس اليزيدية - فقال شعراً: ألم تر أن الرافضين تفيقوا ... فكلهم في جعفر قال منكرا وطائفة قالوا إمام ومنهم ... طوائف سمته النبي المطهرا ومن عجب لم أقصه جلد جفيهم ... برئت إلى إلىحمن ممن تجفيا مع أبيات أخرى. قم قال ابن قتيبة: وهو جلد جفيا دعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إلى عمله كل ما يكون إلى يوم القيامة، قيل: ويعنون بالإمام: الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وإلى هذا الجفي المذكور أشار أبو العلاء المعري بقوله: لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم في مسك جفي ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفي وقوله في: مسك جفي: هو بفتح الميم وسكون السين المهملة: الجلد، والجقر: بفتح الجيم وسكون الماء وبعدها راء: من أولاد المعز، ما بلغ أربعة أشهر والاثني جفية. وكانت

عادتهم في ذلك الزمان أنهم يكتبون في الجلود والعظام والخزف، وما شاكل ذلك. وفيها توفي سديد الدولة ابن الأنباري صاحب ديوان الإنشاء محمد بن عبد الكريم الشيباني ألفاتب البليغ، أقام في الإنشاء خمسين سنة، وناب في الوزارة ونفذ رسولاً، وكان ذا رأي وحزم وعقل. وفيها توفي الفقيه العلامة الإمام مفيد ألفالبين وقدوة الأنام الذي سارت بفضائله إلىكبان، واشتهر علمه في البلمان، النجيب ألفارع صاحب البيان أبو زكريا يحيى بن أبي الخير اليمني، من بني عمران المنتسبين إلى معد بن عدنان. ولد في سنة تسع وثمانين وأربع مائة، وتفقه بجماعة، منهم: خآله أبو الفتوح، ومنهم الإمامان زيد بن عبد الله اليفاعي، وزيد بن الحسين ألفايشي، وموسى بن علي الصعبي، وعبد الله بن أحمد، وعمر بن اسماعيل بن علقمة، وسالم بن عبد الله، وغير هؤلاء المذكورين، ومنهم شيخه في الحديث، ومنهم شيخه في الفقه، ومنهم شيخه في النحو ومنهم شيخه في اللغة ومنهم شيخه في الأصول. وحفظ على - ما ذكر ابن سمرة -: كتاب المهذب واللمع للشيخ أبي إسحاق، والملخص والإرشاد لابن عبدويه، وكافي الفيائض للصرد، والذي ذكره من مسموعاته من الحديث صحيح البخاري وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وقرأ في أصول الدين الحروف الستة، وتزوج في سنة سبع عشر بأم القاضي طاهر المذكور، وكان قد تسرى قبلها بحبسه. وتفقه ولده القاضي أبو الطيب طاهر المذكور، وخلفه في حلقته ومجلسه، وأجاب عن المشكلات في حياته، وجالس العلماء وروى عنهم، وأخذ عن غير واحد، وجاور في مكة سنين، فيوى عن كبار المحدثين في الحرم الشريف: كالأنصاري، وعن شيخ المقرئين أبي عبد الله محمد بن ابراهيم الحضرمي، ثم عاد إلى وطنه في سنة ست وستين، وولي قضاء ذي جبلة وأعمآلها من زمان بني مهدي إلى بعض أيام شمس الدولة من بني أيوب، وصنف مصنفات مليحة منها: مقاصد اللمع، ومنها كتاب في مناقب الإمامين الشافعي وأحمد بن حنبل، وجمع بين علم القراءات والحديث والفقه، وبرع في علم الكلام، وناظر بعض المخالذين بين يدي سلمان الوقت، فقطعه مراراً. رجعنا إلى ذكر والده الإمام يحيى بن أبي الخير، وفي سنة ثمان عشرة ابتدأ بمطالعة الكتب من شروح مختصر المنني والشامل لابن الصباغ وكتاب العدة والإبانة، وشرح التلخيص وغير ذلك من الفقهيات، فوجد فيها من المسائل ما ليس مذكوراً في المهذب

، فاستشار شيخه زيد بن عبد الله اليفاعي في ذلك، فأشار عليه بجمع ما ليس في كتاب المهذب، وشرع في تعليق كتاب الزوائد في السنة المذكورة، وولد ابنه طاهر سنة ثمان عشرة، وكمل كتاب الزوائد في سنة عشرين، وحج وزار في سنة إحدى وعشرين. وذكر ابن سمرة كلاماً فيما يتعلق بما جرى له في تلك الحجة من المناظرة والكلام في العقيدة مع بعض العلماء، رأيت تأخير ذكر ذلك إلى آخر ما يتعلق به الكلام، لئلا يفصل بين ما يتعلق بما نحن بصدده من تصنيفه، وبين غيره - مما يطول فيه الكلام ويباين في مذاهب الأنام ثم رجع فاستخرج كتابه المؤلف في الدور من كتاب ابن اللمان وغيره، ثم نظر في كتابه الزوائد، فإذا هو قد رتبه على ترتيب شروح مختصر المنني، وأغفل الدور وأقوال فقهاء الأمة من أرباب المذاهب المدونة المشهورة وغيرهم، فطالع وراجع، ثم ابتدأ بتصنيف كتابه البيان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وفيغ منه سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، فيتبه على ترتيب محفوظه - وهو المهذب - فجمع البيان في ست سنين، وجمع الزوائد في قريب من أربع سنين. قال ابن سمرة: وذكر في البيان عن الشريف العثماني مسائل تدل على غزارة علمه وفضله وجواز الأخذ باجتهاده ونقله. قلت وهذا الذي ذكره من نقله عن العثماني صحيح، وما ذكره من جواز الأخذ باجتهاد العثماني غير صحيح، فإن للعثماني في المذهب وجوهاً ضعيفة، جماهير أصحابنا على خلافها. ومن ذلك ما نقل عنه أن المكي وغيره ممن ينشىء إحرام الحج من مكة إذا طاف عند خروجه إلى عرفة، وسعى بعده يجزيه عن السعي المفيوض عليه في الحج، وهذ غير مسلم ولا موافق عليه، فإنه لا بد أن يقع السعي بعد طواف الاماضة أو طواف القدوم، ولا يصح بعد طواف لا يتعلق بمناسك الحج هذا هو المذهب الصحيح. وأما من أطلق من المصنفين في المذهب قوله أنه يصح بعد طواف صحيح. وقول بعضهم أنه يصح بعد طواف ما فلا بد من تقييد ذلك بقولنا: متعلق بمنسك من مناسك الحج، وتكون القيود في ذلك أربعة: الأول بعد طواف، والثاني صحيح، والثالث من مناسك الحج، وإلىابع لم يتخلل بينه وبين السعي وقوف. ومع ذلك فإن كتاب البيان وإن كان كتاباً جليلاً منتفعاً به في الآفاق فإن فيه وجوهاً ضعيفة - ليس هذا الكتاب موضع تتبع ذكرها - ويكفي منها ما ذكروا أن الشاموم إذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " ألفاتحة عند قراءة إمامه ذلك تبطل صلاته. ورجعنا إلى ذكر ما يتعلق بتصنيفه، قال ابنه القاضي طاهر: إنه ما علق الزوائد حتى

طالع في المهذب أربعين مرة بعد حفظه له. قلت: يعني أنه تكرر تتبع الكتاب لينظر: هل ما وجد من الزوائد في غيره فيه أم ل؟ لئلا يقع ما يسميه - زوائد ما هو موجود فيه - وذكر كلاماً مما يدل على قوة حفظه لكتاب المهذب وفهمه فيه، وتصرفه في معانيه وامادة الطلبة وتفهيمهم على حسب ما يليق بكل منهم من بسط الكلام والاقتصار على ما يحصل به الإفهام. قلت ولا شك أن إلىجل كان كذلك ماهراً في كثير من العلوم - سيما علم الفقه - خصوصاً كتاب المهذب، وعليه العمدة كان في جمعه كتاب البيان، ثم أضاف إليه ما ذكر من الزوائد كما فعل الشيخ في عبد الغفار في كتابه: ألفاوي كما نبه في خطبته بقوله: سميته ألفاوي لما حوى الفوائد الزوائد وما في اللماب، يعني أنه أودعه ما تضمنه كتابه المسمى باللماب، مع زوائد أخرى أضافها إليه. وبلغني أنه كثيراً ما كان يعتمد في جمع البيان على كتاب الشامل لابن الصباغ في بعض ما نقل. وروى ابن سمرة أنه لما فيغ من كتاب البيان سآله الفقيه محمد بن مفلح الحضرمي - وكان من جلة أصحابه أن يستخرج المسائل المشكلة، فاستخرج ذلك ووضعه في كتاب مستقل. وذكر أنه في أثناء تصنيف البيان اعتنر من التدريس لاشتغآله بجمعه. قلت: واللذة يجدها مع الاشتغال - خلقها الله تعالى في قلوب المشتغلين بالعلوم أو بالأعمال - ليكون عوناً على تحصيل المقاصد، بحيث إن الإنسان يقدم ذلك الشغل الذي هو فيه على غيره من حظوظ النفس، حكمة من الله تعالى ولطفاً، حتى أخبرني بعض شيوخنا أنه كان يتغذى بالاشتغال بالعلم، قلت: ولقد كنت في بعض الأوقات يبيت عشاي مطروحاً أول الليل إلى آخر وقت السحر، لما أجد من الميل إلى غيره. رجعنا إلى ما كنا. وذكر أنه أقام بسير بفتح السين المهملة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء وفي أوله موحدة مكسورة: مكان، حتى ظهرت حروب فيه وفتن، فانتقل إلى ذي السفا، ثم إلى ذي أشر، وأقام فيه سبع سنين يدرس ويقرأ، ثم ظهر ابن مهدي واستولى على زبيد وأعمآلها، ثم قويت شوكة ولده مهدي، وأغار على الجند وبواديها، وقتل من قتل في تلك النواحي سنة سبع وخمسين وخمس مائة، ثم في سنة ثمان أخذ جبال

اليمن وقتل فيها قتلاً ذريعاً، وحرق مسجدها في يوم الاثنين الثامن من شهر شوال، ثم رجع إلى زبيد ومات فيها، ثم ولي أخوه عبد النبي المعروف بالسيد والإمام، على ألسنة العوام، وأصحابه يقولون: عليه السلام وأسر أبا النور بن أبي الفتح، فمات في أسره بزبيد. وفي سنة اثنتين وستين أخذ المجمعة واستولى على مخلاف التعك، وزالت على يديه دولة آل زريع من المخلاف، دامت دولة بني مهدي خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وثمانية أيام، إلى أن قدم السلطان شمس الدين من الديار المصرية، ثم بعده سيف الإسلا، كلاهما من بني أيوب، وسيأتي ذكرهما مع غيرهما في تراجمهم إن شاء الله تعالى. وعبد النب، المذكور هو الذي جرى له مع الشيخين الكبيرين الوليين الشهيرين اليمنيين القديمين أبي العباس الصياد والشيخ علي الأسدي ما جرى في مسجد ألفازة من ساحل زبيد - على ما مضى ذكره. ولما كثر الفساد وخربت البلاد، وقتلت العباد في دولة بني مهدي انتقل الإمام أبو زكريا يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي المذكور إلى ذي السفال تغيباً عن الشرور، وتوفي في السنة التي تليها - رحمه الله تعالى - مبطوناً شهيداً، وما ترك فييضة في مرضه، فأقام ليلتين ينازع ويسأل عن أوقات الصلاة وذكر إلىاوي أنه كان ورده في كل ليلة سبع القران، يقرأه في صلاته، وربما قال في مائة ركعة. وكان من جملة تصانيفه: كتاب الانتصار في إلىد على القدرية الأشرار، وكتابه المشهور بغرائب الوسيط، ومختصر من إحياء علوم الدين للإمام حجة الإسلام واشتهر من تصانيفه المذكورات كتاب البيان، وانتفع به وشاع فضله في البلمان، وعد من الكتب الستة المشهورة المفيدة المبسوطة في الفقه المشكورة - بل الله تعالى برحمته تراه، وشكر سعيه، وجعل الجنة مأواه - وفيه يقول ألفاعر: م حجة الإسلام واشتهر من تصانيفه المذكورات كتاب البيان، وانتفع به وشاع فضله في البلمان، وعد من الكتب الستة المشهورة المفيدة المبسوطة في الفقه المشكورة - بل الله تعالى برحمته تراه، وشكر سعيه، وجعل الجنة مأواه - وفيه يقول ألفاعر: لله شيخ من بني عمران ... قد شاد قصر العلم بالأركان يحيى لقد أحيى الشريعة هادياً ... بزوائد وغرائب وبيان هو درة اليمن الذي ما مثله ... من أول في عصرنا أو ثاني

قلت: وأما ما ذكرت من تأخير الكرم على العقيدة، فذكر ابن سمرة أنه لقي الفقيه الإمام الواعظ الشريف محمد بن أحمد العثماني، وأنه ناظره في العقيدة - والشريف أشعري - فنظر الإمام يحيى مذهب الحنابلة، وذكر أنه استدل بالآية، وأنه ظهر بالحجة إلى أن نزف الشريف العرق من وجهه، كأنه يعني: خجلاً. وأما اجتماعه بالشريف المذكور، فظاهره الصحة، خلاف ما ذكر بعض الناس أنه اجتمع في تلك الحجة بأبي حامد الغزالي، وأنه بحث معه في المسائل الفقهية - وعليه فيو كما هو زي حجاج اليمن - وأن وأبا حامد أعجبه بحثه، فذلك غير صحيح، فإن الإمام أبا حامد توفي قبل ذلك في سنة خمس وخمسمائة. وأما ما ذكر من كون عقيدته حنبلية فصحيح بالنسبة إلى الحنابلة المتأخرين - حاشى الإمام أحمد - والمتقدمين منهم، وقد أوضحت ذلك، وأشبعت الكلام فيه في كتابي: المرهم، وإليه أشرت بقولي: وفي حشويات كسوفان أظلما ... هما جهة والحرف حاش ابن حنبل أعني أن ذلك مذهب الحشوية بعد أن أسفيت البدور لأئمة كل مذهب، وذكرت أن بدور المذاهب الثلاثة أنارت، وأنه حصل في بدور مذهب الحشوية كسوفان مظلمان، وهما ما ذكرت من القول بالجهة والحرف والصوت في كلام الله تعالى. وأما ما ذكرت - من كون الإمام أحمد والمتقدمين من أصحابه - براء مما ادعاه المتأخرون منهم، فممن نص على ذلك بعض الحنابلة: وهو الإمام أبو الفيج بن الجوزي، حتى ذكر أنهم صاروا شبه على المذهب باعتقادهم الذي يتوهم غيرهم أنه مذهب أحمد. وليس العجب من حنابلة الفيوع وإنما العجب من شافعية الفيوع كصاحب البيان المذكور ومن تابعه من أهل الجبال، والكلام معهم في شيئين: أحدهما الاحتجاج، والثاني الأئمة المحتجون. أما الاحتجاج فاستمداده من إلىاهين العقلية القواطع ونصوص الكتاب والسنة المنيرات السواطع، وذلك لعمري يحتاج في ذكره إلى مصنف مستقل مشتمل على مجلمات لايسع هذا المكان شيء منها. وأما الأئمة المحتجون فقد ذكرت منهم مائة إمام في كتابي: الموسوم بألفاش المعلم شاوش وكتاب المرهم المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية، وما اجتلوا به من الفضائل والمحاسن الحميدة والطريقة السديدة والأوصاف الجميلة، ومن متأخريهم جمال الإسلام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وتصنيفه في ذلك معروف - أعني تصنيفه في أصول الدين، وكذا فتياه التي رواها الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، وأنه قال فيها:

الأشعرية رؤوس أهل السنة، وقد أوضحت ذلك في كتابي: المرهم. وكان الشيخ أبو إسحاق وحده فيه كفاية لصاحب البيان المذكور، فإنه هو وغيره معترفون له بالفضائل العديدة والمحاسن الحميدة والطريقة السديدة، والأوصاف الجميلة الملاح ألفاهدة له بالصلاح والفلاح. ومنهم شيخ الإسلام معدن الفضائل والمحاسن ومعتمد الفتاوى الشيخ محيي الدين النواوي، فقد ملأت محاسنه الآفاق، وحصل من الموالف والمخالف عليه الاتفاق، فكان فيه وحده كفاية لمن عاصره منهم، وأتى بعده، ومذهبه معروف في شرح مسلم وغيره من كتبه فيما يتعلق بالعقيدة. ومنهم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، ومحاسنه وفضائله وعلومه ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وقد وقف المذكور يحيى على كتابه: الأحياء، وهو في العلوم بحر تلاطمت أمواجه، ومرتقى سنام عسر معراجه. فكل واحد من الثلاثة المذكورين فيه كفاية للمقتدين، فكيف باجتماعهم مع ما حووه من الفضل والدين!! بل اجتماع ألوف منهم الإمامين من الأئمة الأعلام المبرزين من المشايخ العارفين أولي الأنوار والأسرار واليقين، والعلماء الفضلاء الشاملين من المذاهب الثلاثة المعروفة!! وفي عقيدة الشيخ الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وحدها كفاية لمن رآها واعتقدها من العلماء، وكذا عقيدة الشيخ الكبير الولي الشهير أبي عبد الله القرشي، وقد ذكرت ألفاظها في كتابي المرهم، وكذلك عقيدة الإمام شهاب الدين السهروردي الموسومة بأعلام آلهدى، وغيرهم ممن يطول عددهم ويسمو مجدهم. قلت: وأما قول الخصوم من المذكورين وغيرهم: مذهبنا مذهب السلف، فهذا جهل منهم بمذهب السلف، فإن السلف ما خالفوا مذهب الخلف، إلا بعدم ذكرهم للماويل، مع اعتقادهم تنزيه الله تعالى عن سمات الخلق من التجسم والمكان والحركة والانتقال وسائر، سمات الحدوث والتغير والزوال، وقليل منهم وافق جمهور الخلف في ألفاويل، وقليل من الخلف وافق جمهور السلف في عدم ذكرهم ألفاويل. كل هذا حكاه الإمام محيي الدين النواوي عنهم في شرح صحيح مسلم، والعجب منهم، يقولون مذهبنا مذهب السلف، وهذا إمام المحدثين من السلف والخلف الذي مذهبه باهج ما أظلم ولا اندرس، شيخ الإمام

الشافعي: مالك بن أنس، تأول قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ". الحديث بتأويلين: أحدهما ينزل ملائكته تعالى ورحمته، والثاني أنه محمول على الاستعارة لأجابة ألفاعي واللطف، كما يقال: نزل الملك عن سريره إذا عدل في سيرته ولطف برعيته. أترى هؤلاء الخصوم يتوهمون أنهم أعلم وأدرى بالتحقيق، وأدين وأقرب إلى التوفيق مما ذكرنا من الأولياء العارفين، والعلماء الشاملين أولي النور والفهم والتدقيق!! كلا بل جمدوا على الظواهر، ما فهموا استحالتها بالبرهان ألفاطع، فهم كما قال الشيخ الإمام - شيخ الاسلام شهاب الدين السهروردي: - أيها الشامد المحيط به الجهات؛ فهمك ما ينتج لك إلا الجهات، يستحيل عندك أن لا يكون الشيء إلا في مكان -، وقد كان المكان لا في مكان يعني السماوات والأرض، إذ خلقنا بعد أن لم تكونا، فما ظنك بخالقهما تبارك وتعالى؟!! ولقد بلغني أن الإمام القاضي - طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير المذكور - لما شرح الله تعالى صدره للنور أنكر على والده مذهبه، وعنفه - وهو في مكة - بالمكاتبة، ولقد تعجبت من فقهاء جبال اليمن في عقائدهم بحضرة الشيخ الفقيه الصالح عبد الله ابن الشيخ الولي الشهير ذي المقام ألفالي، ألفاكن في ذي السفال، وسألته: من أين جاءهم هذا الاعتقاد؟ فقال لي: غرهم صاحب البيان. - هكذا يقول - والله تعالى على ما أقول وكيل. وأفهمني أن اعتقاده اعتقاد الإمام الغزالي، ولم يزل فقهاء الجبال كلهم قديماً، وبعضهم حديثاً - يقدحون في الإمام حجة الاسلام، وعقيدته السنية المخالفة لعقيدة الحشوية، وما ينكر فضل الغزالي ويسيء الظن به إلا كل مخذول محروم تعيس مشؤوم. فقد قال الشيخ الكبير ذو المناقب الكثيرة والفضائل الشهيرة: ألفارف بالله ذو النور القدسي أبو العباس - المعروف بالمرسي - لما ذكر الغزالي، إنا لنشهد له بالصديقية العظمى. وقال شيخه - شيخ الشيوخ في أوانه وقطبهم في زمانه - الشيخ أبو الحسن ألفاذلي قدس الله روحه: من كانت له إلى الله تعالى حاجة فليتوسل إليه بالإمام أبي حامد الغزالي. كل هذا رواه الشيخ الإمام تاج الدين عطاء الله في كتابه: لمائف المنن. وكذلك الفقيه الإمام ألفارف بالله تعالى رفع المقام الذي كثرت كراماته وعظمت، وقال للشمس يوماً: قفي، فوقفت، إلى أن وصل إلى موضعه الذي يريد من مكان بعيد: أبو الفدا اسماعيل بن محمد الحضرمي لما جاءته، فتوى من فقهاء الجبال يقولون فيها - لمبالغتهم في الطعن فيه -: هل يجوز قراءة كتب الغزالي؟ أجاب بجواب أوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، وآخره: ومحمد بن محمد بن محمد الغزالي سيد المصنفين. وفقهاء جبال اليمن مخالفون لفقهاء تهامتها، كما ذكر ابن سمرة أنه وقع في زمان

صاحب البيان تكفير من بعض فقهاء الجبال لفقهاء زبيد، هذا كله لانطوأنهم على الجمود، وعدولهم عن طريق الحق المحمود. رجعنا إلى ذكر الغزالي، وكذلك الشيخ الكبير الولي الشهير أبي العباس المعروف بالصياد اليمني في كتاب سيرته إلىضية الشهيرة المروية ما هو معروف من كونه رأى في حال ورد عليه أبواب السماء، وقد فتحت، ونزل منهما عصبة معهم خلع خضر ومركوب، فجاؤوا إلى مقبرة، فانشق قبر منها، وخرج منه إنسان، فألبسوه تلك الخلع، وأركبوه على ذلك المركوب، وعرجوا به من سماء إلى سماء، ولم يزالوا كذلك إلى أن حرقوا السماوات السبع وسبعين حجاباً بعدها، قا: فسألت بعضهم: من هذا؟ قال: الغزالي. قال: ولا أدري أين بلغ انتهاؤه هذا في حال كشف ومشاهدة وحال من الأحوال الواردة. وأما المنامات المباركة إلىضية ألفالة على صحة عقيدة الأشعرية، من رؤية إلىسول عليه السلام وغيره، فها أنا أعقد لها وحدها فصلاً. فصل في ذكر بعض المنامات المباركة إلىضية ألفالة على صحة عقيدة الأشعرية من رؤية إلىسول عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وشيء من رؤية الأولياء والملائكة الكرام. من ذلك ما روى الإمام الحافظ ابن عساكر بسنده إلى الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العشر الأواخر من شهر رمضان، فقال لي: يا علي، أنصر المذاهب المروية عني، فإنها الحق. - وكان ذلك سبب انتصابه للرد على المبتدعين -. قلت ومن ذلك ما روينا بالإسناد الصحيح المتصل ألفالي المسلسل إلى سيد الخلق إلىسول الكريم المبخل صلى الله عليه وآله وسلم أنه باهى بالإمام الغزالي موسى وعيسى ابن مريم - صلوات الله تعالى على الجميع - وقال: أفي أفتيكما حبر كهذا؟ قالا: لا. وأخبرني به الشيخ الفقيه الإمام الولي الكبير إلىفيع المقام شهاب الدين المعروف بابن الميلق عن شيخه السيد الكبير الفقيه ألفارف بالله الشهير تاج الدين بن عطاء الله ألفاذلي، عن شيخه أستاذ الأكابر معدن الأنوار ملقح السرائر أبي العباس المرسي ألفاذلي، عن شيخه القطب أبي الحسن ألفاذلي المذكور شيخ الشيوخ ألفاذلية المشهور، أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام باهى بالغزالي وذكر ما تقدم.

ومن ذلك ما تقدم في ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي في سنة خمس وخمسمائة من رواية الإمام الحافظ ألفاهر شيخ المحدثين أبي القاسم ابن عساكر في كتابه المشتمل على مناقب أبي الحسن الأشعري قال: سمعت الإمام الفقيه ابا القاسم سعد بن علي بن أبي القاسم ابن أبي هريرة الاسفيائيني الصوفي الأشعري بدمشق قال: سمعت الشيخ الأوحد زين القراء جمال الحرم أبا الفتح عامر بن النحام بن أبي عامر ألفاوي بمكة أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكر قصة طويلة مشتملة على مرتبة جليلة للإمام أبي حامد المذكور، ذكرتها أيضاً في كتاب نشر المحاسن ألفالية، وفي كتاب: ألفاش المعلم، ومختصرها أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين اليقظة والمنام، فإذا بالأئمة أصحاب المذاهب جاؤوا يعرضون مذاهبهم عليه، فذكر أن أول من جاءه الشافعي، فبش به وأكرمه، ثم جلس بين يديه، ثم كذلك ذكر في الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - وعرضا عليه مذهبهما، ثم كذلك كل ذي مذهب. قال: ثم جاء بعض المبتدعين ممن يبغض الصحابة بكتاب معه في كراريس ليعرضه، فطرد من بعيد، ولم يترك أن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وزجر، ورمي بالكراريس من يده، وأهين. قال إلىاوي: فلما رأيت أن القوم قد فيغوا - تقدمت وكان في يدي كتاب - فناديت وقلت: يا رسول الله؛ هذا معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؛ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: وإيش ذلك؟ قلت: يا رسول الله! هو قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي. فقعدت وابتدأت: بسم الله إلىحمن الرحيم، كتاب قواعد العقائد، وفيه أربعة فصول: الفصل الاول في كلمتي الشهادة. وذكر أنه قرأ العقيدة إلى أن انتهى إلى قول الإمام أبي حامد: معنى الكلمة الثانية وهي شهادة للرسول وأنه بعث إلىسول النبي الأمي القرشي إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس. فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والتبسم في وجهه صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهيت إلى نعته وصفته التفت إلي وقال: أين الغزالي؟ فإذا بالغزالي فقال: ها أنا ذا يا رسول الله؛ فتقدم وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيد عليه الجواب، وناوله يده العزيزة، والغزالي يقبل يده ويضع خديه عليها تبركاً به وبيده العزيزة المباركة، ثم قعد فقال: فما رأيت - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر استبشاراً بقراءة أحد مثلما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد. ثم انتبهت من النوم - وعلى عيني أثر الدموع مما رأيت انتهى مختصراً. ومن ذلك ما رأيته بالإسناد المتقدم عن الشيخ أبي الحسن ألفاذلي، وذكرته في غير كتاب من كتبي، ومختصره أن الامام أبا الحسن بن حرزم المعروف في لمان الشامة بابن حرازم المغربي كان ينكر على الغزالي، ويطعن فيه، فيأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام، وإذا بالغزالي قد اشكى به إليه، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بجلده. قال

الشيخ أبو الحسن ألفاذلي: ولقد مات يوم مات، وأثر السياط على جلده. قلت: وأخبرني بعض ذرية الشيخ ابن حرزم المذكور - وهو محرم جاث على ركبتيه باك بعينيه في الحرم الشريف - بزيادة على ما ذكرت مما هو مسطور في سيرد جده أنه كان جده المذكور مطاعاً في بلاد المغرب. وقال غيره: كان رئيس الفقهاء، فنظر في الإحيا، فقال: هو خلاف السنة. ثم التمس السلطان أن يأمر منادياً ينادي في البلاد بإحضار نسخ الإحياء، قال: فلما حضرت اجتمع هو والفقهاء، ونظروا فيها، وكان ذلك في يوم الخميس، فاجتمع رأيهم على أن يحرقوها يوم الجمعة بعد الصلاة. فلما كانت ليلة الجمعة رأى النبيً - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض الجوامع، ومعه أبو بكر وعمر والنور هنالك ساطع وهم جلوس فإذا بالإمام الغزالي قائم، فلما رآني قال: يا رسول الله؛ هذا خصمي. ثم جثا على ركبتيه، وزحف عليهما من مكانه إلى أن وصل إلى الموضع الذي فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وناوله نسخة من كتاب الإحياء، وقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا يزعم أني أقول عنك خلاف سنتك، فانظر فيه، فإن كان كما يزعم استغفرت الله تعالى وتبت، وإن كان شيئاً تستحسنه حصل لي من بركتك فخذ لي حقي من خصمي. قال: فنظر فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أوله إلى آخره، ثم قال: إن هذا حسن، ثم ناوله الصديق رضي الله تعالى عنه فنظر فيه ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لحسن، ثم ناوله عمر - رضي الله تعالى عنه - فنظر فيه، ثم قال كذلك. قال إلىاوي أبو الحسن المذكور: فعند ذلك أمر بتجريدي، فضربت خمسة أسواط، ثم شفع في الصديق وقال: يا رسول الله، إنما فعل هذا اجتهاداً في سنتك وتعظيماً لها. قال: فعند ذلك عفا عني أبو حامد، وبقيت متوجعاً لذلك خمساً وعشرين ليلة، ثم رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء، ومسح علي وتوبني فشفيت، ونظرت في الإحياء، ففهمته غير الفهم الأول. انتهى. قلت ومعلوم أن كتاب الإحياء مشتمل على عقيدة الأشعرية وعلى مذهب الصوفية، وقد استحسن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك، وصاحباه، فلزم أن تكون العقيدة حسنة حميدة، وطريقة الصوفية رضية سديدة. ومن ذلك ما أخبرني بعض الأخبار من أهل اليمن أنه شوهد الشيخ الإمام المحدث في

زبيد أحمد بن أبي الخير جألفا بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعرفه إلىائي، فقال: يا رسول الله، من هذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا الذي لم ينزل على سنتي: أحمد بن أبي الخير. قلت: وعقيدته عقيدة الأشعرية، والدليل على ذلك أنه سالني بعض الفقهاء من أهل عدن، هو الفقيه عمر بن يحيى المعروف بابن الجراف بالجيم وإلىاء المشددة عن عقيدة أشير عليه بها ليعتمد عليها، فقلت له: عليك بعقيدة الإمام عز الدين بن عبد السلام - وإنما أشرت بها لأنها لإمام فحل في مبارزة الخصوم، مشهور بالمحاسن وتحقيق العلوم - فقال لي: قد أشارعلي بها الإمام أحمد بن أبي الخير، فأعجبني ذلك، وسررت به لكونه من أئمة المحدثين، وبعضهم يعتقد الظواهر. قلت ومن ذلك منامات أخر مما يتعلق بي - مشتملة على كلام طويل أحكيها بلفظها أو معناها - والله على ما أقول وكيل. الله يجعل ذلك نصحاً لا تبجحاً، وإرشاداً لا تمدحاً، ويرزقنا السلامة من الزيغ والفتن ألفاطنة والظاهرة والعفو وألفافية في الدين والدنيا والآخرة. ومن ذلك ما أخبرني بعض مشايخ الصوفية اليمانيين المباركين الصالحين بمكة في بعض حجاته نفع الله تعالى ببركاته قال: لما دخلت تعز اجتمعت بجماعة من أهلها أو قال من فقهأنها فجرى ذكرك بقول لي فقالوا: ذاك أشعري يعني أنهم أخرجوا ذلك مخرج القدح في المذهب المذكور فقال: فبت وفي نفسي شيء من ذلك، فرأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله ما تقول في فلان؟ فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بجواب يسر، أستقبح أن أذكره لكونه يتعلق بالمدح لي والوعد بما لست من أهله، وإن كان فضل الله تعالى أوسع من ذلك، أسأله من كرمه تعالى حصول نيله. ومن ذلك أنه جاءني في كتاب من اليمن من بعض الصالحين في عدن - قبل تاريخ هذا الكتاب بنحو سنتين - مشتمل على معارف وحكم ومواعظ وعبر، فيه كفاية لمن اتغظ واعتبر، وهو مختوم بكلام مضمونه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جامع أو قال: في مسجد، وهو معه، وفي ذلك المسجد حلمات كثيرة، فأخذ - صلى الله عليه وآله وسلم - بيده ومشى به إلى حلقة، ذكر في كتابه أني أنا المتحدث فيها، ثم قال له - صلى الله عليه وآله وسلم -: عليك بحلقة الفقيه فلان، وأشار إلي. قلت: ووجه الاستدلال بهذا على صحة العقيدة أن من أمر ألفارع بمجالسته فقد أرشد إلى الاقتداء به، ومن جملة ما يقتدى به من الخصائل الحميدة: صحة العقيدة.

ومن ذلك أنه كما سماني صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المنام فقيهاً، فقد سماني في منام بعض الأولياء العارفين المنورين المكاشفين شيخاً واماماً. ومعلوم أن كل واحد من اللفظين متضمن لجواز الاتباع والاقتداء والإرشاد والاهتداء، ومن جملة الاقتداء الاتباع في الأقوال والأفعال والعقائد، وسائر الأحوال. وهذا المنام المذكور فيه كلام يطول، وسر ما فيه من المحصول ذكرته في باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتابي: الموسوم بالإرشاد، ومختصره أنه رآني على سرير في قصر في بستان، وعندي الشيخ الكبير ألفارف بالله سهل بن عبد الله، وأني أتيت بأربع خلع خضر، لبست واحدة، وخلعت ثلاثاً على ثلاثة من أصحابي، وأن إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء إلى ذلك البستان وسأل عني وقال: أين الشيخ فلان؟ ما جئنا إلا لزيارته، وأنه مسح بيده الكريمة على رأسي، ودعا لي، وأوصاني فقال له أصحابي: أوصنا، فقال: أوصيكم بما أوصيت به إمامكم ولم أكن إماماً لهم في الصلاة فعم بالإمامة، وفيهم الفقيه والصوفي. ثم أتى - صلى الله عليه وآله وسلم - بطبق، فيه فواكه، فأخذ منه حبة رمان، وأطعم كل من هو حاضر في ذلك البستان، ومن جملة إطعامه الفواكه لي ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ناولني بكفيه الكريمتين مرتين من بعض الثمار، وما رأى بعض الصالحين أنه رآني آكل رطباً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر وصف ذلك إلىطب والظرف الذي هو فيه، وحسنهما. ومن ذلك ما رأى بعض الصالحين من العالمين: وهو الفقيه الإمام المشهور بالصلاح عند الفقهاء والعوام أحمد الجبرتي - المدفون في عدن في شهر رمضان - في المنام، ومعناه إن لم يكن لفظه بعينه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مهتماً بأمر، فسأله عن اهتمامه، فقال عليه السلام: أريد أن أرى أربعة رجال في أربعة بلمان، وذكر من البلمان مكة والمدينة، وذكر للمدينة الشيخ عبد الوهاب الجبرتي وذلك في حياته رحمه الله تعالى أيام إقامته بالمدينة، وذكر لمكة ما هو مفهوم مما نحن بصدده وأستغفر الله العظيم من ذكره - ومعلوم أنه لا يولي إلا من يجوز الاقتداء به. ومن ذلك ما رأيت في المنام في بعض الأوقات المباركات في أوان التجرد والأنس في الخلوات وقد كان جماعة من أهل الخير والمشتغلين بالله تعالى لازموني في الإقامة معهم في بعض البلاد وقالوا: هو أصلح لك من الانفراد فمال ألفاطر إلى الانعزال، فذهبت عنهم سائحاً، فرأيت في المنام بعد أن قرأت سورة ألفائدة كأنه قد قرب طعام، وخصصت بشيء منه وحدي، وإلى جنبي جماعة جمعوا على طعام، فذهب أحدهم يمدح العزلة ويذم الاختلاط فقلت له: قد ذكروا أن الخلطة أفضل لمن يسلم فيها. قال: ومن ذا الذي يسلم اليوم في الخلطة؟! ثم سمعت كأن أناساً يتجادلون في مسألة الجهة، وواحد منهم يقول: إن لم يكن جهة فليس للوجود صانع - تعالى الله عن قوله هذا - فلما كان بعد ساعة سمعت إنساناً يصرخ، وهو يعاقب ويضرب، فسألت بعض من حضر هنالك عن ذلك فقال: هو ألفائل القول المذكور في الجهة. ثم أبصرت جنداً كأنهم عسكر سلمان قد أقبلوا على خيل وحدها، ومعها هجا، وهم يلزمون الناس ويمنعونهم في اعتقادهم، ولهم هيبة عظيمة في القلوب، فخشيت أن يمسكوني، فمروا بجنبي مسرعين وقالوا: اثبت على اعتقادك، فأنت على الحق. فذهب عني ما كنت أجده من الخوف، ثم نظرت كأن بقربي بئرين وخضرة كالمزارع أو البساتين، وإذا إنسان يقول وهو يشير إلى إحدى البئرين: هذي بئر فلان، حسبت أنها أوسع وأنها أغزر ماء من الآخرى، وأشار إلي أنه أخطاء في اعتقاده. ثم انتبهت من منامي، وأفكرت فيه، ففهمت جميع إشاراته من فضيلة العزلة والتخصيص بألفائدة بعد قراءة سورة ألفائدة ومعاقبة المعتقد للجهة، وعسكر السلطان الممتحنين في العقائد والأديان، والإشارة بالثبات على الصحيح من العقيدات إلا البئرين، ونسبة أحدهما إلى الشخص المذكور، ثم بعد ساعة ذكرت أنه مخالف في اعتقاده للجمهور، وهو ابن تيمية ومذهبه في ذلك مشهور. ومن ذلك ما أخبرني السيد الكبير الشيخ الولي الشهير الشريف جلال الدين شيخ بلاد ملمان - أمتع الله بحياته، وأعاد علينا من بركاته - أنه أمر في المنام أن يقرأ على عقيدتي ويعتقدها، وغير ذلك مما يكثر ذكره مما يتعلق بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وبالأولياء والملائكة الكرام مما رأه لي الأولياء أهل الكرامات والهناء، وما رأيته أنا، والحمد لله الجميل الثناء على ما منح من النعم، وأزال من العناء، وجزى الله نبينا وسيدنا محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الجزاء، وجمع بيننا وبينه وبين سائر الأحباب والمحبين في دار الكرامة والنعيم بمحض فضل الله الكريم. آمين اللهم آمين وصلاته وسلامه ورحمته وبركاته على عباده الذين اصطفى وخص من بينهم محمد المصطفى. وقد لوحت إلى شيء مما ذكرت ببعض الإشارات في ضمن هذه الأبيات، من بعض القصيدات وهي القصيدة الموسومة بنزهة الألفاب وطرفة الآداب، واستعارات المعاني الغراب، الممزوجة بحلاوة الشهد والحلاب في بيان حكم الإعراب. حيث أقول منها: فقلت له: قد ذكروا أن الخلطة أفضل لمن يسلم فيها. قال: ومن ذا الذي يسلم اليوم في الخلطة؟! ثم سمعت كأن أناساً يتجادلون في مسألة الجهة، وواحد منهم يقول: إن

لم يكن جهة فليس للوجود صانع - تعالى الله عن قوله هذا - فلما كان بعد ساعة سمعت إنساناً يصرخ، وهو يعاقب ويضرب، فسألت بعض من حضر هنالك عن ذلك فقال: هو ألفائل القول المذكور في الجهة. ثم أبصرت جنداً كأنهم عسكر سلمان قد أقبلوا على خيل وحدها، ومعها هجا، وهم يلزمون الناس ويمنعونهم في اعتقادهم، ولهم هيبة عظيمة في القلوب، فخشيت أن يمسكوني، فمروا بجنبي مسرعين وقالوا: اثبت على اعتقادك، فأنت على الحق. فذهب عني ما كنت أجده من الخوف، ثم نظرت كأن بقربي بئرين وخضرة كالمزارع أو البساتين، وإذا إنسان يقول وهو يشير إلى إحدى البئرين: هذي بئر فلان، حسبت أنها أوسع وأنها أغزر ماء من الآخرى، وأشار إلي أنه أخطاء في اعتقاده. ثم انتبهت من منامي، وأفكرت فيه، ففهمت جميع إشاراته من فضيلة العزلة والتخصيص بألفائدة بعد قراءة سورة ألفائدة ومعاقبة المعتقد للجهة، وعسكر السلطان الممتحنين في العقائد والأديان، والإشارة بالثبات على الصحيح من العقيدات إلا البئرين، ونسبة أحدهما إلى الشخص المذكور، ثم بعد ساعة ذكرت أنه مخالف في اعتقاده للجمهور، وهو ابن تيمية ومذهبه في ذلك مشهور. ومن ذلك ما أخبرني السيد الكبير الشيخ الولي الشهير الشريف جلال الدين شيخ بلاد ملمان - أمتع الله بحياته، وأعاد علينا من بركاته - أنه أمر في المنام أن يقرأ على عقيدتي ويعتقدها، وغير ذلك مما يكثر ذكره مما يتعلق بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وبالأولياء والملائكة الكرام مما رأه لي الأولياء أهل الكرامات والهناء، وما رأيته أنا، والحمد لله الجميل الثناء على ما منح من النعم، وأزال من العناء، وجزى الله نبينا وسيدنا محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الجزاء، وجمع بيننا وبينه وبين سائر الأحباب والمحبين في دار الكرامة والنعيم بمحض فضل الله الكريم. آمين اللهم آمين وصلاته وسلامه ورحمته وبركاته على عباده الذين اصطفى وخص من بينهم محمد المصطفى. وقد لوحت إلى شيء مما ذكرت ببعض الإشارات في ضمن هذه الأبيات، من بعض القصيدات وهي القصيدة الموسومة بنزهة الألفاب وطرفة الآداب، واستعارات المعاني الغراب، الممزوجة بحلاوة الشهد والحلاب في بيان حكم الإعراب. حيث أقول منها: ففي العلم مصباح وفي الجهل ظلمة ... تكون خلاف الاهتدا وضلائل ولكن نور العلم بالله فائق ... على كل نور للعلوم وفاضل ويتلوه علم الفقه، إذ عم نفعه ... به الخلق، والخلاق كل يعامل

فذاك هو المقصود لكنه إلى ... وسائل محتاج بها يتكامل وللعلم فضل ليس يجهل قدره ... سوى جاهل ما فوق ذلك جاهل فكم خبر قد صح عن سيد الورى ... بتفضيله القرآن في ذاك نازل وهذا زمان فيه عزت سلامة ... وشيخ لإرشاد المريدين كامل وشيخ تفيد ألفالبين علومه ... مع الفضل بالعلم المشرف عامل وقد عز جدا ذلكم في كليهما ... وإن قلت معدوماً فما القول باطل وممن له بالشيخ سمى نبينا ال ... إمام أبو إسحاق في شيراز نازل بهذا روى السمعاني البحر في كتابه ... الذيل في تاريخ بغداد ناقل وكان أبو إسحاق في ذا افتخاره ... دعاني النبي شيخاً لذلك قائل وقد جوزوا أشباه هذا للاقتدا ... ومن ذاك قرآن بيوسف نازل وإني لذو محل عن الخير إنما ... أرجى بمحض الفضل يخصب ما حل عسى الله ربي أن يحقق لي الذي ... أشار به غر شيوخ أفاضل بإبراز حكمات وما فيه غبطة ... لأهل زماني فاكهات فواضل وما في المنام المصطفى لي مسمياً ... إماماً وشيخاً ما دعا لي قائل كذاك فقيهاً قد دعاني مبادراً ... إلى حلقتي والعلم فيه محافل رأى كل ذالي سيد بعد سيد ... من الأولياء والحمد الله كامل فإن شئت صدق واقبل النصح أو تشافكذب ونصحي لا قبولاً تقابل وهاك ثماراً في قصيد تنوعت ... فكل ما تشا مما له الطبع قابل وما لم يناسب دع لمن فيه راغب ... فما لم له تكل فغيرك يأكل فإن طباع الخلق شثى فجامد ... ولين طبع للمحبة مائل بذكر استعارات المعاني شجونه ... وذكر الهوى كل به الذوق حاصل فكم من رقيق الغزل لم يلق ناسجاً ... وعذب زلال لم يرد ذاك ناهل يقر بأسماع جلاف تمجه ... وتمرر إن ذاقت قلوب علائل وهل فاق للمال السقيم حلاوة ... ويحفظ للماء اللطيف المناخل فإن قيل في ذي الحشو قل ذاك سكر ... ولوز، وفي هذين لذة مأكل إذا ما سماط مد من عربية ... به الادم صرفاً والطباع موالل وإن، كان معها زيرباج وغيره ... فمن كل لون يستطيب التناول قلت: وفي قولي من عريبة إلى آخره إشارة إلى ما أدخلت في العربية من علوم واستعارات، وحب ووعظ واعتقاد، ومدح إلىسول عليه افضل الصلاة والسلام، ومدح الأولياء الكرام والحضرة والمدام، واستعرت عربية السماط المذكور، وهي ما يعتاده العرب

من المرقة الصرف في طبخ اللحم لصرف عربية النحو غير مخلوط به غيره، أعني نوعته بهذه الأنواع لئلا تمله بعض الطباع، علما مني بأن إخواننا المتصوفين يملون من الوقوف على مجرد ظاهر العلم، ولهذا قلت: وها هي بألوان من الحلي تختلي ... بكل من الألوان في الحلو مائل فإن صادفت بعض المعاني مولما ... أخا شجن في عندها ثماثل خصوصاً إذا ما كان من مشرب الهوى ... له ذوق طبع أو مواجيد حاصل وإبراز حكمات وما فيه غبطة ... لأهل زماني فاكهات فواضل إشارة إلى ما ذكره ثلاثة من الأولياء الجلة العارفين بالله، فقولي بإبراز حكمات إشارة إلى ما قاله لي شيخنا وسيدنا وقدوتنا ألفارف بالله علي بن عبد الله الطواشي - قدس الله روحه - حيث قال: يا ما يبرز الله تعالى من هذا الصدر من الحكم وقولي: وما فيه غبطة: إشارة إلى ما قاله الشيخ الكبير الولي الشهير خالد بن شبيب الغزاوي، حيث قال وقد جرى ذكري في مجلسه: - يغبطه أهل زمانه فيما رواه بعض الصالحين عنه. وقولي: فاكهات فواضل: إشارة إلى قول الشيخ الكبير ألفارف بالله الخبير الشيخ عبد الهادي المغربي فيما روى عنه تلميذه عبد إلىزاق، وقد سئل عني: هو فاكهة زمانه. فهذا ما أشرت إليه من التنبيه لإزالة الإغماض في بعض هذه الألفاظ، فهذه الثلاث المذكورات مما أشار به الغر الأكابر الأفاضل المذكورون. ومما أشار إليه بعضهم أيضاً أنه قال: رأيتك قد أركبت فرساً، وحملت بين يديك غاشية، وحولك خلق، أو قال: بعدك، وأجلسك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على كرسي. وقال آخر منهم: رأيتك مزيناً بالذهب في يديك، والملائكة ترفعك في الهواء عند الكعبة، والحجر الأسود يضحك إليك، ورأيت في يدك عكازاً نصفه أخضر ونصفه أبيض، فسألتك عنه فقلت: هو من عند ربي عز وجل. وقال آخر منهم: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أصحب؟ فقال عليه السلام: فلاناً، وأشار إليك. وقال آخر منهم: سألت النبي عليه السلام في الصلاة أن يكفلك، فقال عليه الصلاة والسلام: قد فعلنا قبل أن تسأل. قلت: وأرجو من الله تعالى تحقيق ذلك وتحقيق ما قاله لي بعضم تجاه الكعبة لما أشار إلى شيء بشرني به، فقلت له: إن شاء الله تعالى، فقال لي: قد شاء، وما وعدني به صلى الله عليه وآله وسلم في منامي بعد أن شكوت إليه شيئاً فقال: أنا ظهرك أو سندك - مع ما تقدم من دعأنه صلى الله عليه وآله وسلم لي الدعاء المعين المذكور، وكذلك دعا لي صلى الله عليه وآله وسلم. - في أيام تعلمي - القرآن بدعاء ما فهمته بعد أن قبلت يده صلى

سنة تسع وخمسين وخمس مائة

الله عليه وآله وسلم، وأظنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك بي. والحمد لله على جميع ذلك، وأسأله الزيادة والإعادة من المهالك، وأن يجزي سيدنا محمداً وآله عنا أفضل الجزاء، وأن يوزعنا شكر نعمته، ويعيدنا من المكر والشقاء. سنة تسع وخمسين وخمس مائة فيها كسر نور الدين الفرنج، وأحاط بهم المسلمون فاستجر القتل والأسر بهم، فأسر صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس ومقدم نصارى إلىو، وتسلم نور الدين بعض القلاع. وفيها سار ملك القسطنطينية بجيوشه، وقصد بلاد الإسلام، فلما قاربوا مملكة أرسلان جعل التركمان يبيتونهم، ويغزون عليهم في الليل، حتى قتلوا منهم نحو عشرة آلاف، فردوا بذل وخيبة، وطمع فيهم المسلمون، وأخذوا لهم عدة حصون. وفيها سار جيش نور الدين مع مقدم عسكر أسد الدين، فدخلوا مصر، وقتل الملك المنصور الضرغام الذي كان قد قهر شاور السعدي، ثم تمكن شاور، وخاف من عسكر الشام، واستنجد بالفرنج، فأنجدوه من القدس وما يليه، ثم صالحوا أسد الدين، ورجع إلى الشام. وفيها توفي صاحب سجستان أبو الفضل نصر بن خلف، عمر مائة سنة، ملك منها ثمانين سنة، وكان عادلاً حسن السيرة، وما بلغنا أن أحداً من الملوك بلغ ملكه مثل هذا القدر. وفيها توفي وزير صاحب الموصل محمد بن علي المعروف بالجواد الأصبهاني. كان دمث الأخلاق مسن المحاضرة مقبول المفاكهة، استوزره صاحب الموصل، وفوض الأمور وتدبير الدولة إليه، وظهر حينئذ جود الوزير، وانبسطت يده، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال

ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعلم عليه، وأثر آثاراً جميلة، واجرى الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد، وعمل الدرج من أسفل الجبل إلى أعلاه، وبنى سور مدينة إلىسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان قد خرب من مسجده، وكان يحمل في كل سنة إلى مكة والمدينة من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة. وكان له ديوان مرتب باسم أرباب إلىسوم والقصاد لا غير، وتنوع في فعل الخير حتى أنه جاء في زمنه غلاء مفرط، فواسى الناس حتى لم يبق له شيء، وكان إقطاعه عشر مغل البلاد على جاري عادة وزراء الدولة السلجوقية. وأخبر بعض وكلأنه أنه دخل يوماً فناوله بقيارة وقال له: بع هذا واصرف ثمنه إلى المحاويج، فقال له الوكيل: إنه لم يبق شيء عندك سوى هذا البقيار والذي على رأسك، وإذا بعت هذا ربما تحتاج إلى تغيير البقيار، فلا تجد ما تلبسه، فقال له: إن هذا الوقت صعب كما ترى، وربما لا أجد وقتاً أصنع فيه الخير كهذا الوقت، فخرج الوكيل، وباع البقيار وتصدق بثمنه. وله من النوادر أشياء كثيرة، وأقام على هذه ألفالة إلى أن توفي السلطان غازي وتولى أخوه قطب الدين، فاستكثر إقطاعه، وثقل عليه أمره، وقبض عليه، وحبسه إلى أن توفي مسجوناً في العشر الأخير من شهر رمضان - وقيل من شعبان في السنة المذكورة - وصلي عليه، وكان يوماً مشهوراً من ضجيج الضعفاء والأرامل والأيتام حول جنازته، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين، ثم نقل إلى مكة - حرسها الله تعالى - وطيف به حول الكعبة بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانو يطوفون به كل يوم مراراً مدة مقامهم بمكة، وكان يوم دخوله مكة يوماً مشهوراً من اجتماع الخلق والبكاء عليه وكان معه شخص مرتب يذكر مآثره، ويعقد محاسنه إذا وصلوا به إلى المزارات والمواضع المعظمة، فلما انتهوا به إلى الكعبة وقف وأنشد: يا كعبة الإسلام هذا الذي ... جاءك يسعى كعبة الجود قصدت في الشام وهذا الذي ... لم يخل يوماً غير مقصود ثم حمل إلى مدينة إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفن بها بالبقيع بعد أن

سنة ستين وخمس مائة

أدخل المدينة وطيف به حول حجرة إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكان ولده الملقب جلال الدولة من الأدباء الفضلاء البلماء الكرماء، وله ديوان رسائل أجاد فيه، وجمعه أبو السعادات بن الأثير وسماه: كتاب الجواهر واللآلىء من إملاء المولى الوزير الجلالي. سنة ستين وخمس مائة فيها وقعت فتنةهائلة بأصبهان تعصباً للمذاهب، وبقي الشر والقتل والقتال ثمانية أيام حتى قتل خلق كثير، وأحرقت أماكن كثيرة. وفيها توفي أبو المعمر حذيفة بن سعد الأزجي. وفيها توفي فقيه أهل الجزيرة أبو القاسم عمر بن محمد الشافعي الجزري، إمام جزيرة ابن عمر ومفتيها. تفقه على الإمام الغزالي وغيره، وسمع عليه وعلى أخيه، وصحب ألفاشي صاحب كتاب المستظهري، واشتغل أولاً على الشيخ أبي الغنائم السلمي ألفارقي وعلى الكبار، وصار أحفظ أهل زمانه للمذهب، وله مصنف كبيرعلى أشكالات المهذب وغريب ألفاظه وأسماء رجاله، وكان من العلم والدين في محل رفيع، وانتفع به خلق كثير. وفيها توفي القاضي أبو يعلى الصغير محمد بن محمد ابن القاضي الكبير، أبو يعلى ابن الفراء البغدادي الحنبلي. وكان موصوفاً بالذكاء والفصاحة، ولي قضاء واسط، ثم عزل منها. وفيها توفي أبو طالب العلوي محمد بن محمد بن محمد الشريف الحسني البصري نقيب ألفالبين. روى عن أبي علي التستري وجعفر العبادي وجماعة، واستقدمه ابن هبيرة لسماع السنن، فروى الكتاب بالإجازة سوى الجزء الأول، فإنه بالسماع من التستري. وفيها توفي أبو الحسن ابن التلميذ أمين الدولة هبة الله بن صاعد النصراني البغدادي شيخ قومه وقسيسيهم.

وفيها توفي شيخ الطب جالينوس عصره صاحب التصانيف ووزير المقتفي أبو المظفر الملقب عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة. دخل بغداد شاباً، فطلب العلم وتفقه، وسمع الحديث وقرأ القراءات، وشارك في الفنون، وصار من فضلاء زمانه. ثم دخل في الكتاب، وولي مصارف الخزانة، ثم ترقى وولي ديوان ألفاص، ثم استوزره المقتفي، فبقي وزيراً إلى أن مات، وكان شامة بين الوزراء لعدله ودينه وتواضعه ومعروفه وفضائله. روى عن جماعة، ولما ولاه المقتفي امتنع من لبس خلعة الحرير، وحلف أنه لا يلبسها. وكان مجلسه معموراً بالعلماء والفقهاء والبحث وسماع الحديث. وشرح: الجمع بين الصحيحين، وألف كتاب العبادات في مذهب الإمام أحمد. ومات شهيداً مسموماً، وسمع منه خلق كثير منهم الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واختصر كتاب إصلاح المنطق، وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط، وغير ذلك. ومدحه الشعراء منهم: أبو الفتح محمد بن عبد الله سبط ابن التعاويذي، قال: سقاها الحياء أربع وطلول ... حكت دنفي من بعدهم ونحولي ضمنت لها أجفان عين قريحة ... من الدمع مدرار الشوؤن همول لئن حال رسم ألفارعما عهدته ... فعهد الهوى في القلب غير محيل خليلي قد هاج الغرام وشاقني ... سنا بارق بالأجر عين كليل ووكل طرفي بالسهاد بنظرتي ... قضاء مليء بالديون ملول إذا قلت قد أنحلت جسمي صبابة ... يقول: وهل حب بغير نحول وإن قلت دمعي بالأسى فيك شاهدي ... يقول شهود الدمع غير عدول فلا تعذلاني إن بكيت صبابة ... على ناقض عهد الوفاء ملول فابرح ما تمنى به الصب في الهوى ... ملال حبيب أو ملام عذول ودون الكئيب الفرد بيض عقائل ... لعين بألفاب لنا وعقول غداة التقت ألفاظها وقلوبنا ... فلم يجل إلا عن دم وقتيل ألا حبذا والي الأراك وقد وشت ... برياك ريحا شمأل وقبول وفي أبرديه كلما اعتلت الصباشفاء فؤاد بالغرامعليل دعوت سلواً فيك غير مساعد ... وحاولت صبراً عنك غير جميل تعرفت أسباب الهوى وحملته ... على كاهل للنائبات حمول فلم أحظ من حب الغواني بطائل ... سوى رعي ليل بالغرام طويل إلى كم تمنيني اللمالي بما جد ... رزين وقار الحلم غير عجول أهز اختيالاً في هواه معاطفي ... وأسحب تيهاً في ثراه ذيولي لقد طال عهدي بالنوال وإنني ... لصب إلى تقبيل كف مثيل

سنة إحدى وستين وخمس مائة

وإن يدي يحيى الوزير لمافل ... بها لي، وعون الدين خير كفيل وأهدي إلى الوزير عون الدين دواة بلور مرصعة بمرجان، وفي مجلسه جماعة فيهم حيص بيص، فقال الوزير: يحسن أن يقال في هذه الدواة شيء من الشعر، فقال بعض ألفاضرين: ألين لماود الحديد كرامةً ... يقدره في السرد كيف يريد ولان ذلك البلور وهو حجارة ... ومعطفه صعب المرام شديد فقال حيص بيص له: إنما وصفت صانع الدواة، ولم تصفهما؟! فقال الوزير: من غيره؟ فقال حيص بيص: صيغت دواتك من يوميك فاشتبها ... على الأنام ببلور ومرجان فيوم سلمك مبيض يفيض ندى ... ويوم حربك قان بالدم ألفاني وقد تقدمت حكاية عنه في السبب الذي نال به الوزارة في ترجمة السيد الجليل الولي الحفيل ذي الوصف الجميل والمجد الأثيل معروف - عرفنا الله تعالى بركته - في سنة مائتين. سنة إحدى وستين وخمس مائة فيها كثر ببغداد إلىوافض والسب، وعظم الخطب. وفيها توفي مسند أصبهان الإمام أبو عبد الله الحسن بن العباس الأصبهاني إلىستمي الفقيه الشافعي، سمع أبا عمرو بن منده وطائفة، وتفرد ورحل إليه، وكان زاهداً ورعاً خاشعاً فقيهاً مفتياً محققاً، تفقه بجماعة. وفيها توفي الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد المغربي الصنهاجي. روى عن أبي الحسن الجذامي والقاضي عياض، وكان عألفا بالحديث وطرقه وبالنحو واللغة والنسب، كثير الفضائل وقبره بظاهر بعلبك. وفيها توفي قطب الأولياء الكرام، شيخ المسلمين والإسلام، ركن الشريعة، وعلم الطريقة، وموضح أسرار الحقيقة، حامل راية علما للمعارف والمفاخر، شيخ الشيوخ وقدوة الأولياء العارفين الأكابر، أستاذ أرباب الوجود أبو محمد محيي الدين عبد ألفادر بن أبي صالح الجيلي، قدس الله روحه ونور ضريحه، لما تحلى - رضي الله عنه - بحلل العلوم الشرعية ونال لمائفها، وتجمل بتيجان الفنون الدينية، وحاز شرائفها، وهجر في مهاجرته إلى الحق كل الخلائق، وتزود في سفره إلى ربه عز وجل أحسن الآداب وأشرف الحقائق، وعقدت له ألوية الولاية فوق العلى ذوائبها، ورفعت له منازل جلي له، في سماء القرب

كواكبها، ونظر قلبه إلى رقوم الفتح في ذيول الكشف عن الأسرار، وشخص سره إلى شموس المعارف من مطالع الأنوار. وأشهدت بصيرته عرائس الحقائق في مقاصير الغيوب، وأسكنت سريرته حضرة القدس في خلوة وصل المحب بالمحبوب، ورفعت أسراره إلى مشاهد المجد والكمال، ودام إحضاره في معالم العز والجلال، هنالك نكشف له علم السر المصون، واتضح له حقيقة الحق المكنون، واطلع على معاني خفايا مكامن المكنونات، وشاهد مجاري القدر في تصاريف المشيئات، واخترع الحكم من معادنها، وأظهر التحف من مكامنها، فآتاه الله الأمر النقي من تدنيس التلبيس بالجلوس للوعظ والتصدر للتدريس. وكان أول جلوسه للوعظ في الحلبة النورانية في شوال سنة إحدى وعشرين وخمس مائة، فجلس مجلما لله درة من مجلس، تجلله الهيبة والبهاء، وتحف به الملائكة والأولياء، فقام بنص الكتاب والسنة خطيباً على الأشهاد، ودعا الخلق إلى الله تعالى فأسرعوا إلى الانقياد، فيا له من داع أجابته أرواح المشتاقين، ومن مناد لبته قلوب العارفين، ومن حاد هيم ركائب النفوس في فلوات الشوق إلى رؤية الجمال، ومن هاد ساق نجائب القلوب إلى حمى الوصال، ومن ساق روى عطاش العقول من شراب القدس، وشوقها إلى منادمة الحبيب على بساط الأنس، وكشف براقع اللبس عن وجوه المعارف، ورفع أغطية الغين عن عين شرائف اللمائف، وهز أعطاف القلوب بوصف جمال القدم، وأرقص أشباح الأرواح بسماع نعت كمال الكرم - وناغي أطيار الأسرار في صوامع قدسها بألفان لذيذ أنسها، فطارت من أركان أطورها في حبها إلى أنوار أنوار هامع جنسها، وجلى عرائس المواعظ فدهثى لبهجة حسنها العشاق، وزف مخدرات المواهب فصبا لمعنى جمالها كل مشتاق، ونطق بنفائس الحكم من رياض أنس أينعت مروجها، وأبرز جواهر التوحيد من بحار علوم تلاطمت أمواجها، يرى من معانيها درراً وياقوتاً، ويجد من درها دواء ومن ياقوتها قوتاً، ودبج روض الحقائق بحدائق ذات بهجة فيا لها للمالكين إلى الله محجة وحجة، وبث لآلىء الفتح على بساط الإفهام، فتسابق لالتقاطها أولو الألفاب والأقلام، فتنضدت منها فوائد هدى في أعناق ذوي الهمم العلية، يصل المتحلي بها بإذن الله تعالى إلى مقامات السنية، فجال في النفوس مجال الإنفاس في الصدور، وعبق بالقلوب عبق إلىوض الممطور، وأبرأ النفوس من أسقامها، وشفى الخواطر من أوهامها، فما سمعه إلا من أوضح بالتوبة دجونه، أو من اكتحل بالبكاء جفونه، فكم رد إلى الله عاصياً، وكم ثبت الله به واهياً، وكم أصحى من خمر الهوى سكارى، وكم فك من قيود الناس أسارى، وكم اصطفى الله به أوتاداً وأبدالاً، وكم وهب الله به مقاماً وحالاً، وما زالت نجائب المواهب ترحل إليه. رحمة الله تبارك وتعالى عليه: عبد له فوق المعالي رتبة ... وله المماجد والفخار الأفخر

ذكروالشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد

وله الحقائق والطرائق في الهدى ... وله المعارف كالكواكب تزهر وله الفضائل والمكارم والندى ... وله المناقب في المحافل تنشر وله التقدم والتعالي في العلى ... وله المراتب في النهاية تكبر غوث الورى غيث الندى نور الهدى ... بدر الدجى شمس الضحى بل أنور قطع العلوم مع العقول فأصبحت ... أطوارها من دونه تتحير ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تسطر قلت هذا ما ترجمه فيه بعضهم، وهو كذلك، بل فوق ذلك. وأما ترجمة الذهبي في قوله: والشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد: فمدحه بصفة الزهد، التي هي من أوائل منازل ألفالكين المبتدئين من المريدين، وقول: انتهى إليه التقدم في الوعظ والكلام على الخواطر؛ فغض من منصبه ألفالي، وقدح لا مدح فيما له من المفاخر والمعالي. فمن مدح ألفادات أهل نهاية ... وسامي مقامات بأوصاف مبتدي فقد ذمهم فيما به ظن مدحهم ... وكم معتد فيها بزعمه مهتدي وهو ألفائل - رضي الله تعالى عنه - منطقاً بالهدى والمعارف والحكم. لا بالهوى والخرافات والخطوط التي تذمم: ما في الصبابة منهل مستعذب ... إلا ولي فيه الألذ الأطيب أو في الوصال مكانة مخصوصة ... إلا ومنزلتي أعز وأقرب وهبت لي الأيام رونق صفوها ... فحلت مناهلها وطاب المشرب وغدوت مخطوباً بالكل كريمة ... لا يهتدي فيها اللبيب ويخطب أنا من رجال لا يخاف جليسهم ... ريب الزمان ولا يرى ما يرهب قوم لهم في كل مجد رتبة ... علوية وبكل جيش موكب أنا بلبل الأفراح أملىء دوحها ... طرباً، وفي العلماء باز أشهب أضحت جيوش الحب تحت مشيئتي ... طوعاً ومهما رمته لا يعزب أصبحت لا أملاً ولا أمنية ... أرجو، ولا موعودة أترقب ما زلت أرتع في ميادين إلىضى ... حتى وهبت مكانة لا توهب أضحى الزمان كحلة مرقومةتزهو ونحن لهالطراز المذهب أفلت شموس الأولين، وشمسنا ... أبداً على فلك العلى لا تغرب ذكروالشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد نسبه ومولده وصنعته رضي الله تعالى عنه أما نسبه رضي الله عنه فهو الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد ألفادر بن أبي صالح

موسى بن ابي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى ابن أمير المؤمنين أبي محمد الحسن ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله تعالى عليهم - سبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد، وبه كان يعرف حين كان بجيلان. وأما مولده رضي الله عنه: فسئل - رضي الله تعالى عنه - عن مولده فقال: لا أعلمه حقيقة، لكني قدمت بغداد في السنة التي مات فيها التميمي، وعمري إذ ذاك ثماني عشرة سنة. قال إلىاوي: والتميمي هذا هو أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب، توفي سنة ثمانين وأربع مائة، فيكون مولده رضي الله تعالى عنه سنة سبعين وأربعمائة، وذكر أبو الفضل أحمد ابن صالح الجيلي أن مولد الشيخ محيي الدين المذكور سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وأنه دخل بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وله ثماني عشرة سنة. قلت: وذكر بعضهم أنه منسوب إلى جيل بكسر الجيم وسكون المثناة من تحت وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان، وبها ولد، ويقال لها أيضاً جيلان وكيلان، وكيل أيضاً قرية على شاطىء دجلة على مسيرة يوم من بغداد من جهة طريق واسط، ويقال: فيها أيضاً جيل - بالجيم - ومن ثم يقال: كيل العجم، وكيل العراق والجيل أيضاً قرية تحت المدائن، وفي النسبة يقال: جيلاني وكيلاني وجيلي وكيلي. وأمه رضي الله تعالى عنه أم الخير أمة الجبار: فاطمة بنت أبي عبد الله الصومعي، وكان لها حظ وافر من الخير والصلاح. والصومعي من جملة - مشايخ جيلان ورؤساء زهادهم، وله الأحوال والكرامات الجلية، وأخوه الشيخ أبو أحمد عبد الله - سنه دون سنه - نشأ نشوءاً صألفا في العلم والخبرة، ومات بجيلان شاباً، وعمته المرأة الصالحة أم محمد عائثة بنت عبد الله ذات الكرامات الظاهرة. روي أن بلاد جيلان أجدبت مرة، واستسقى أهلها، فلم يسقوا، فأتى المشايخ إلى دار الشيخة عائشة المذكورة، وسألوها الاستسقاء لهم، فقامت إلى رحبة بيتها، وكنست الأرض وقالت: يا رب، أنا كنست، فرش أنت! قال: فلم يلبثوا أن مطرت السماء كأفواه القرب، فرجعوا إلى بيوتهم يخوضون في الماء. وأما صفة الشيخ رضي الله عنه فروي أنه كان نحيف البدن ربع الشامة، عريض الصدر عريض اللحية وطويلها، أسمر مقرون ألفاجبين، أدعج العينين، ذا صوت جهوري وسمت

شيء من علمه وتسمية بعض شيوخه

بهي، وقدر علي علم وفي - رضي الله عنه. شيء من علمه وتسمية بعض شيوخه قال بعض الأئمة المتكلمين في مناقبه: لما علم أن طلب العلم على كل مسلم فريضة، أنه شفاء للأنفس المريضة، إذ هو أوضح مناهج التقوى سبيلاً. وأبلغها حجة وأظهرها دليلاً، وأرفع معارج اليقين وأعلى مدارج المتقين، وأعظم مناصب الدين وأفخر مراتب المهتدين، وهو المرقاة إلى مقامات القرب والمعرفة، والوسيلة إلى المتولي بالحضرة المشرفة، شمر عن ساق الجد والاجتهاد في تحصيله، وسارع في طلب فروعه وأصوله، وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى علماء الأمة فاشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه، وعمر بداريته سره وعلنه، وتفقه بالشيوخ، منهم: أبو الوفاء علي بن عقيل، وأبو الخطاب محفوظ ابن أحمد الكلوذاني، وأبو الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى، وأبو سعد المبارك بن علي المخزومي رضي الله تعالى عنهم - وأخذ عنهم مذهباً وخلافاً وفروعاً وأصولاً. وسمع الحديث من جماعة، منهم أبو غالب محمد بن الحسن ألفاقلاني، وأبو سعد محمد بن عبد الكريم، وأبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون، وأبو بكر أحمد بن المظفر التمار، وأبو محمد جعفر بن أحمد ألفاري، وأبو القاسم علي بن أحمد الكرخي، وأبو عثمان اسماعيل ابن محمد الأصبهاني، وأبو طالب عبد ألفادر بن محمد، وابن عمه أبو طاهر عبد إلىحمن بن أحمد، وأبو البركات هبة الله بن المبارك، وأبو العز محمد بن المختار الهاشمي، وأبو نصر محمد، وأبو غالب أحمد، وأبو عبد الله يحيى أبناء الإمام أبي الحسن علي بن البنا، وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار، وأبو منصور عبد إلىحمن بن أبي غالب، وأبو البركات طلحة بن أحمد ألفاقولي وغيرهم - رحمة الله عليهم. وقرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي، وصحب الشيخ ألفارف بالله قدوة المحققين وإمام ألفالكين وحجة العارفين أبا الخير حماد بن مسلم الدباس، وأخذ عنه علم الطريقة وتأدب به، وأخذ الخرقة الشريفة من يد القاضي أبي سعد المخرمي، ولقي الجماعة من أعيان شيوخ الزمان وأكابر المشايخ أولي العرفان. أكرم بهم مجداً وسودداً، وشرفاً وفخراً مؤبداً. فهم حماة ملة الإسلام وذوادها، وأنصار الشريعة وأعضادها، وأعلام الدين وأركانه، وسيوف الحق وسنانه. فقام - رضي الله تعالى عنه في أخذ العلوم الشرعية عنهم دائباً، وفي تلقي الفنون الدينية منهم واصباً. حتى فاق أهل زمانه. وتميز من بين أقرانه. ثم إن الله تعالى أظهره للخلق وأوقع له القبول العظيم الشام، عند ألفاص منهم والشام، والهيبة والجلالة الوافرة، والمناقب الشريفة ألفاخرة عند العلماء، وأظهر الله الحكم من قلبه على لمانه، وظهرت علامات قربه، من الله تعالى وإمارات - ولايته، وشواهد تخصيصه مع

قدم راسخ في المجاهدة والعبادة، وتجرد خالص من دواعي الهوى وشوائب إلىكون إلى ألفادة، ومقاطعة دائمة بجميع الخلائق، وصبر جميل في طلب مولاة بقطع العلائق، وتجرع الغصص على مر الشدائد والبلوى، ورفض كلي لجميع الأشغال اشتغالاً بالمولى. ثم لما أراد الله به نفع الخلائق بعدما تضلع من العلوم الظاهرة وأسرار الحقائق، أضيف إلى مدرسة أستاذه أبي سعد المخرمي مما حولها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها، وبذل الأغنياء في عمارتها أعمالهم، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم، فتكملت المدرسة المنسوبة إليه الآن، وكان الفراغ منها في سنة ثمان وعشرين وخمس مائة، وتصدر فيها للتدريس والوعظ والفتوى، وجلس بها للوعظ وقصد بالزيارات والنذور، واجتمع عنده بها من العلماء والفقهاء والصلحاء جماعة كثيرون، انتفعوا بكلامه وصحبته ومجالسته وخدمته، وقصد إليه طلبة العلم من الآفاق، فحملوا عنه وسمعوا منه، وانتهت إليه تربية المريدين بالعراق، وولي خزانة الأسرار وأوتي مقاليد الحقائق، وسلمت إليه أزمة المعارف، وصرف في الوجود المغارب منه والمشارق، فأصبح قطب الوقت مرجوعاً إليه حكماً وعلماً، وقام بالنظر والفتيا نقضاً وبرماً، وبرهن على العلم فرعاً وأصلاً، وبين الحكم عقلاً ونقلاً، وانتصر للحق قولاً وفعلاً. وصنف كتباً مفيدة وأملأ فوائد فريدة، فتحدث بذكره إلىفاق، وسارت بفضله إلىكبان وانتشرت أخباره في الآفاق، وأعملت المطي إليه ومدت إليه الأعناق، وتنزهت في حدائق محاسنه الأعين، ونطقت ببدائع أوصافه الألسن، ولقب بإمام الفريقين وموضح الطريقين، وكريم الجدين ومعلم الطرفين، مشتملاً برداء المفاخر والفضائل، صادقاً فيه قول ألفائل: بمقدمه انهل السحاب وأعشب ال ... عراق وزال الغي واتضح إلىشد فعيدانه رند، وصحراؤه حمى ... وحصاؤه در وأمواجه شهد يميس به صدر العراق صبابة ... وفي قلب نجد من محاسنه وجد وفي الشرق برق من مقابس نوره ... وفي الغرب من ذكرى جلالته رعد فأضحى الزمان مشرقة به مناكبه، والدين مشرفة به مناصبه، والعلم عالية به مراتبه، والشرع منصورة به كتائبه، فانتمى إليه جمع عظيم من العلماء، وتلمذ له خلق كثير من الفقهاء، حذفت ذكرهم اختصاراً لكثرة عددهم ومشقة ذكرهم. وكذلك لبس الخرقة منه خلائق لا يحصون - من الفقراء والمشايخ الكبراء والعلماء

الخبراء، وقد ذكرت في كتاب: خلاصة المفاخر في أخبار مناقب الشيخ عبد ألفادر وفي كتاب: نشر المحاسن ألفالية في فضل المشايخ أولي المقامات ألفالية، وغيرهما أن جمهور شيوخ اليمن يرجعون في لبس الخرقة إليه، بعضهم لبسها من يده لما قدمت أعلام فضائله عليهم، والأكثرون من رسول أرسله إليهم. وفيه وفي ألفاس الخرقة وانتساب معظم شيوخ اليمن في لبسها إليه. قلت في بعض القصيدات العشرة الأولة من هذه الأبيات: وفي منهج الأشياخ ألفاس خرقة ... لهم سنة أصل روى ذاك عن أصل ولبس اليمانيين يرجع غألفا ... إلى سيد سامي فخار على الكل إمام الورى قطب الملا قائلاً على ... رقاب جميع الأولما قدمي أعلى فطأطأ له، كل بشرق ومغرب ... رقاباً سوى فرد فعوقب بالعزل مليك له التصريف في الكون نافذ ... بشرق وغرب الأرض والوعر والسهل سراج الدجى شمس على فلك العلى ... بجيلان مبدؤها طلوعاً بلا أفل طراز جمال مذهب فوق حلة ... غد الكون فيها الدهر يختال ذا رفل يتيمة در زان عقد ولأنه ... يهيج على جيد الوجود به مجلي لجدواك يا بحر الندى عبد قادرإلىيافعي ذو افتقار وذو محل قفا هاهنا في رأس نهر عيونهم ... ملاها ومن بحر النبوة مستملي وسبحانك اللهم رباً مقدساً ... وواسع فضل للورى فضله مولي وأما كراماته رضي الله عنه، فخارجة عن الحصر، وقد ذكرت شيئاً منها في كتاب نشر المحاسن، وقد أخبرني من أدركت من أعلام الأئمة الأكابر أن كراماته تواترت، أو قريب من التواتر. ومعلوم بالاتفاق أنه لم يظهر ظهور كراماته لغيره من شيوخ الآفاق. وها أنا أقتصر في هذا الكتاب على واحدة منها، وهي ما روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقرىء أبو الحسن علي بن يوسف بن جرير بن معضاد الشافعي اللخمي في مناقب الشيخ عبد ألفادر بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلة أعلام الهدى العارفين المقنتين للاقتداء قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشيخ عبد ألفادر، فقالت له: يا سيدي، إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل، ولك. فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت أمه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفراًمن آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قرصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيدي؛ تأكل لحم دجاج ويأكل ابني خبز الشعير!! فوضع يده على تلك العظام وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيي العظام وهي

رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت. فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فلماكل ما شاء. وأما كلامه رضي الله عنه فكثير جداً في انواع شتى، لا تسعه إلا مجلمات ودفاتر، وقد ذكرت شيئاً منه في كتاب: نشر المحاسن وخلاصة المفاخر. وها أنا أذكر منه ألفاظاً مختصرة في الشريعة المطهرة. قال رضي الله تعالى عنه: الإيمان طائر غيبي ينزل من أفق يختص برحمته من يشاء، فيسقط على شجرة قلب العبد، يترنم بلذيذ لحون يبشرهم ربهم، يطير من قفص صدر صاحبه إلى مقعد صدق الشريعة المحمدية - ثمرة شجرة الوجود -. الملة الإسلامية شمس أضاءت بنورها ظلمة الكون إتباع شرعه يعطي سعادة ألفارين. في قلب صاحب الشرع الأعظم ودائع بدائع الحكم. في أسرار صاحب الناموس الأكبر خزائن جواهر الغيب، اجعل قبول أمره طريقك إلى الله تعالى، صير كعبة عقلك مهبط أملاك كلمات أحكامه. من ماء غمام أقواله تشرب عطاش الأرواح. في عيون حياة ألفاظه يغتسل خطر العقول. نادى منادي الطلب للأرواح الشامنة في القوالب، آثار ساكن عزمها إلى العلى، طارت بأجنحة الغرام في فضاء المحبة، وقعت بعد التعب على أغصان الشوق، تناغت في شجرة بلابلها بمطربات ألفان الحنين إلى جمال وأشهدهم، وأزعجها هبوب نسيم الغرام إلى إعادة لذاذة ألست خرجت بعض تلك الطيور من أقفاص الصدور، ويتلمح أثراً من مطارها القديم، تنشق نسمة من مهب التكليم، تتذكر عيشها في ظل أثل الوص، تشكو جواها بعد بعاد الأحباب، فسمعت داعي الله تعالى بلمان إنسان عين الوجود، انتقش دعاؤه - صلى الله عليه وآله وسلم - في صفحات ألواح الأرواح، صارت دعوته ريحاً تهز أغصان أشجار القلوب، أضطربت فرسان العقول في ميادين الصور غراماً بما سمعت، اهتزت الألفاب بأيدي الوجد طرباً بذلك الوجد، صار عشقها له سراً من اسرار القدم، وأصبح ولههاً به، لطيفة من لمائف القدر، إذا أشرقت على النفوس الخربة أنوار الغيب حفظت الأسرار وارتفعت الحجب الظاهرة عن عيون بصائرها، لاحظت جمال صاحب الكون مشاهدته بصفاء مرايا الأسرار، كعبة كل عارف، موضع نظرات الحق منه أقرب الطرق إلى إلله تعالى، لزوم قانون العبودية والاستمساك بعروة الشريعة الإسلامية والاستقامة على جادة التقوى. أنسك بالله على قدر وحشتك عن غيره، ثقتك به على قدر معرفتك له، الكدر في الأعمال نوع من الحرمان. الانغماس في طلب الدنيا يثني العقل عن طلب الله عز وجل، الرياء في المطالب كسوف في شموس طلب ألفالب، والنفاق في المقاصد خدش في وجوه قصد ألفاصد، عدم المطلوب

عذاب القلوب، فرقة الأحباب عذاب العقول، علائق زهرة الدنيا حجاب يمنع من الوصول إلى ملكوت العلى، إقبالك على الله تعالى بوجه عبادتك سبب إقبالك عليه بوجه إلىحمة، لو بلغ طفل عقلك الأسد في حجر ألفاديب ما التفت إلى الدنيا، لكن هو بعد في مهد، شغلتنا أموالنا وأهلونا، الأرواح القاهرة قناديل هياكل الأجساد، العقول الصافية ملوك قصور الصور. يا غلام افتح عين قلبك لتلقى عرائس أسرار الأزل، وانتشق بمشم روحك هبوب نسيم لمائف القدر، إن الله تعالى وضع تماثيل الوجود على ساحل بحر الدنيا لامتحان عيون أهل البصيرة، وسلم من الالتفات إلى زخرفها أطفال أرواح أقيمت في مقصورة الثبات، وربيت في حجور العصمة، وأرخيت عليها أكناف آيات الأمر، وكوشفت بلمائف محبات القدر، وجليت عليها عرائس الغيب. وقال رضي الله تعالى عنه: حليت عروس آدم في خلع، إن الله اصطفى، وسجدت الملائكة لسطوع نور " ونفخت فيه من روحي "، - الحجر 29 - وسمع موسى فوق روضة الطور بلبلاً يترنم بلذيذ لحن: إني أنا الله. وانس ساقياً يفرغ شراب القدم في كؤوس، أنا اخترتك، أشتاق إلى رؤية ألفاقي، هزت أعطافه نشوات سكره، وكتب بيده شدة توقه في طرس عشقه حروفاً، أرني، فانقلب القلم في يده، فقال: لن تراني. قيل له عند انقضاء دولته: يا موسى؛ سلم بقلم إلىسالة لصاحب: " ويكلم الناس في المهد " - آل عمران 46 - واعطه الدواة ليكتب في كتب توحيدي: إني عبد الله. وتنقش في صحف رسالته سطور: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " - الصف 6 - يمت في مقصورة الثبات، وربيت في حجور العصمة، وأرخيت عليها أكناف آيات الأمر، وكوشفت بلمائف محبات القدر، وجليت عليها عرائس الغيب. وقال رضي الله تعالى عنه: حليت عروس آدم في خلع، إن الله اصطفى، وسجدت الملائكة لسطوع نور " ونفخت فيه من روحي "، - الحجر 29 - وسمع موسى فوق روضة الطور بلبلاً يترنم بلذيذ لحن: إني أنا الله. وانس ساقياً يفرغ شراب القدم في كؤوس، أنا اخترتك، أشتاق إلى رؤية ألفاقي، هزت أعطافه نشوات سكره، وكتب بيده شدة توقه في طرس عشقه حروفاً، أرني، فانقلب القلم في يده، فقال: لن تراني. قيل له عند انقضاء دولته: يا موسى؛ سلم بقلم إلىسالة لصاحب: " ويكلم الناس في المهد " - آل عمران 46 - واعطه الدواة ليكتب في كتب توحيدي: إني عبد الله. وتنقش في صحف رسالته سطور: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " - الصف 6 وقال رضي الله تعالى عنه: طارت نحل الأرواح قبل وجود الأشباح من كورات كن في فضاء مروض التوحيد، ليرعى من زهر أشجار الأنس، ويأكل من ثمار أغصان المعرفة، ويتخذ بيوتاً في مواطن القدس فوق قمم جبال العز، ويسلك سبيل الدنو إلى ربها في حضرة العلو في مقام قربها، ويجني ثمرات الحضور بأيدي الهمم ألفالية، فاصطادها صياد القدر بشباك التكليف، وحصرها بيد الأمر في أقفاص الأشباح، فألهتها من الهياكل بهجة حسن الصفة، وألفت مساكن البشرية، فنسيت موطناً من القدس الأشرف، فأوحى ربك إلى نحل الأرواح أن اسلكي سبل ربك ذللاً في مسالك الأشباح، وكلي من كل ثمرات الشريعة، وارعي من أزهار أنوار الحقيقة. فلما طار طائرها ليرعى حب الحب من حدائق المجاهدة وقع في شرك المحبة، ورأى ماء البلاء في غدير الولاء، فقال: كيف الخلاص؟ روض أنيق

لكن ثمره مر، ومنهل عذب لكن فيه كم من غريق؟ فناداها حادي مطايا صدق الطلب بلمان النصح: يا أرباب الوله في حب معشوق الأرواح! ويا أصحاب الحرق في غاية أماني العارفين! ما بينكم وبين مطلوبكم سوى ارتفاع استار الصور، ولا يحجبكم عنه إلا حجب الهياكل، فطيروا إليه بأجنحة الغرام، واطلبوا عنده الحياة الأبدية، وموتوا عن شهوات إرادتكم ليحييكم به عنده في مقعد صدق. وقال رضي الله تعالى عنه: سرير الأسرار لا ينصب إلا في سرادق حق اليقين، وحق اليقين نقطة دائرة التوحيد، والتوحيد قاعدة بناء الوجود، الهوية الأحدية مغناطيس حديد قلوب العارفين، وإلىوضة الأبدية مراتع أسرار المكاشفين، كاشف الأرواح ليلة ألست بأسرار قدمه، الاطف العقول في مقام، وإذ أخذ بالألفاف تقرير عهده، باسط الخواطر في حضرة السرمدية بمباسطة، وأشهدهم بقرب إلى الأسرار في جناب الأزل بمخاطبة ألست، سقاهم كأس حبه بأيدي سقاة قربه، خرجوا إلى الدنيا وفي رؤوسهم نشوات ذلك الخمار، وفي عيون عقولهم بقايا رسوم ذلك الجمال، وفي أحداق قلوبهم يرفاه ذلك الجناب. واحرقتاه عليكم!! كيف تموتون وما عرفتم - ربكم؟!! الشجاعة صبر ساعة يا عجمي الفطنة، سافروا إلى بلاد العرب يا موتي الطبيعة، سافروا إلى بلاد هند الهداية. سقى بعض العارفين من هذا الشراب قطرة، وأفرغ ساقي القدر له منه بقية، فقامت روحه ترقص طرباً بين ندمأنه، قرأ لمان حال موسى وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً. قال المخبر عن صدق طلبه: " وخر موسى صعقاً " - الأعراف 143 - قيل: يا موسى؛ معدة طبعك ضعيفة عن تناول شراب، تجلي أنيق عينك ضيق عن مقابلة أنوار سبحات " ارني أنظر إليك " - الأعراف 143 - عين الحدث لا تنفتح في شعاع شمس القدم، ورد النظر ما يطلع في شجر كانون هذا الكون، أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا خلعة النظر في الدنيا مدخرة في خزائن الغيب لصاحب " قاب قوسين " - النجم 9 - هذا الشرف لا يناله من الخلائق سوى سيد ولد آدم ويتيمة عقد البشر: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده "، - الأنعام 152 -. قال إلىواة عنه: وأول كلام تكلم به على الناس على الكرسي - رضي الله تعالى عنه، قوله: أغواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللمان، فتشتري بنفائس أثمان حسن الساعة " في بيوت أذن الله أن ترفع "، - النور 36 -. قلت: فهذا ما أثرت الاقتصار على ذكره للاختصار من كلامه الجليل المقدار المشتمل على الحكم والمعارف والأسرار. وقد أشرت في بعض هذه الأبيات المختصرة إلى محاسن

كلامه المشتهرة، المنسوجة في الأسلوب الغريب الذي لم ينسج غيره على منواله العجيب: أيا مادحاً نسجاً وشاه ابن جوزي ... حلاه بأسلوب بعنيك فاخر كأنك لم تنظر نسيج معارف ... وأسرار زاهي حكمة وسرائر بأطرف أسلوب وأطرف حلةوأشرف نسج باهجالحسن زاهر لدى حضرة ألفاه أشرف صانع ... وأعرف أستاذ دعي عبد قادر به شرف الأكوان قطب زمانه ... رداء مجده فيه طراز المفاخر له قدم تسمو تعالى فخارها ... لها خضعت طوعاً رقاب الأكابر وما نسج فتح من نفيس مواهب ... كنسج طباع من قريحة خاطر وأين الثريا في علاها من الثرى ... وبل الندى في الفضل من وبل ماطر كذا أين من باز العلى عاكف يرى ... على جيفة أو لاقط المتناثر فما طائر تلقيه للماز صائداً ... وللماز تلقى صائداً كل طائر وأين بعيد ألفار من ساكن الحمى ... نديم هوى في حضرة القدس حاضر تسقى من إلىاح التي لم ريحها ... يرح ذاك، فضلاً عن شراب تداير شريف معلى بل مولى على الورى ... وتصريفه قد عمهم غير قاصر له في الوجود ألفاه والحكم نافذ ... خفير الورى في عصره غير خافر لقد خفر الأكوان شرقاً ومغرباً ... وما في ضياء أخفرن أو دياجر له الجن والأملاك والأنس كلهم ... يخافون لا شخص يرى غير حاذر به اسأل، فإن ألفيت قولي مصدقاً ... وإلا أكذبن للمافعي في المحاضر على روحه رضوان ربي مقدساً ... مدى الدهر زاكي النشر من غير آخر وختمي لها حمدي لربي مصلما ... على المصطفى من قبل خلق العناصر محمد الشامي على ذروة العلى ... غياث الورى عند الدواهي الذواعر قلت: وأما اعتقاده فقد أخبرني - والله - من لا أشك في صدقه من أصحاب شيخ عصره وفريد دهره الشيخ نجم الدين الأصبهاني - قدس الله تعالى روحه - أنه قال: رجع آخراً عما كان يعتقده أولاً لما بلغه أن الفقيه الإمام ألفارع المشكور تقي الدين بن دقيق العيد المشهور تعجب من شذوذ الشيخ عبد ألفادر المذكور في اعتقاده عن موافقة الجمهور من المشايخ العارفين والعلماء المحققين في مسألة الجهة المعروفة. قلت: ومثل الشيخ نجم الدين المذكور إذا أخبر فعلى الخبير سقط المخبر، إذ هو من أهل الاطلاع ظاهراً وباطناً. أما ألفاطن فلأنه من أهل النور والكشف، وأما الظاهر فلقرب ألفار إذ كان العراق لهما موطناً، فهو الجامع - بين المعرفتين جميعاً مرتقياً في الولاية مقاماً

عزيزاً رفيعاً. ومما يؤيد ذلك ويدل على عدم اعتقاده الجهة والمكان في حال النهاية والعرفان كلامه المشهور عنه في مناقبه الثابتة برواية الرجال ألفائعة في البلمان، ومن ذلك قوله المشتمل على يواقيت الحكم وابتهاج النور، وهو هذا النسيج العجيب والأسلوب الغريب والدر المنثور. قال رضي الله تعالى عنه: نودي في معاقل الأفاق وفجاج الأكوان ومعالم المصنوعات أن سلمان الصفات القديمة وملك النعوت العظيمة يريد أن يمر على مسالك المعالم ويبدو في مشاهد الشواهد، فحدقوا عقولكم وصفوا سرائركم، وقيدوا أفكاركم وغضوا أبصاركم، واحصروا بلاغتكم وكفوا مناطقكم والسنتكم. فبرز من جناب العزة سنا بارق مجلل بالهيبة، مظلل بالعظمة، متوج بالجلال، مكلل بالكمال، أخذ بنواصي الأنوار قاهراً لمعاني الأسرار، فتجلى في حلل لطفه وتلطفه، ودنا بتقربه وتعرفه، له مطالع ومشارق، ولوائح وبوارق، وشواهد ومناطق، ومعارف وحقائق، وعوارف ومناشق، تجلو مطالعة " إلىحمن على العرش استوى " - طه 5 - ويسفر مشارقه " وسع كرسيه السماوات والأرض " - البقرة 255 - ويوضح لوامحه، " يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء "، - ألفائدة 64 - ويكشف بوارقه " وهو معكم أينما كنتم "، - الحديد 4 - ويبدي شواهده " والسماوات مطويات بيمينه "، - الزمر 67 - ويفصح مناطقه " والله من ورأنهم محيط "، - البروج 20 - وينادي معارفه " وهو السميع البصير "، - الشورى 11 - ويطق حقائقه " ليس كمثله شيء "، - الشورى 11 - ويشهد عوارفه " لا تدركه الأبصار "، - الانعام 103 - وتتأرج مناشقة " قل الله ثم ذرهم " وظهرت معه بدائع القدم في أحسن صورة من بهجة الكمال ألفارز من حريم العز، عليها من ملابس الجمال غرائب العجائب، فطاف بها طائف من ربك في طرائق المكنونات ومصنوعات المصنوعات ومكنونات ألفائنات، فوقع الكل في مهاوي الهيبة، وتاهوا في مهامه الدهشة، وإذا الندا من حضرة القدس " ألست بربكم " فقالوا بلمان الذل والخضوع في مقام التوحيد والإقرار بوحدانية إلهيته: بلى، وأشهدهم على أنفسهم لقيام الحجة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم، فيتبع الخلائق ذلك ألفارق، وسلكوا نحوه طرائق، فاقتفى قوم ولم يستضيئوا هى من علم ولا إثارة، بل حكموا العقول ومقاييسها. فاتبعوا الأهوية وأباليسها. فمنهم طائفة ضلوا في تيه التمويه ووقعوا في التجسيم والتشبيه، الذين أهلكهم الشقاء حين ابتلى أخيارهم، وأولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. ومنهم فرقة - حاروا في أضاليل التعطيل. ومنهم عصابة هلكوا ابأباطيل الحلول، وأغرقوا فأدخلوا ناراً، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً. ومبادىء التوحيد والتنزيه تنادي في صفحات الوجود أن سلمان الصفات القديمة

وملك النعوت العظيمة إلى الآن في مقر العز والجلال ومظل القدرة والكمال. ما انتقل إلى مكان، لم يتغير عما عليه كان. يحتجب بجلال عزته في معالي كبريأنه وعظمته، فوجم العرش من خوف البطش، إذ جعل محلاً للافتراء ومجالاً للامتراء، وصاح بلمان إلىهبة من البعد: يا أرباب الغيبة عن إلىشد، إني منذ خلقت في دهشة الوله ووحشة التحير لمع لي من جناب الأزل بارق " إلىحمن على العرش استوى "، - طه 5 - فلما صوبت نظري إلى نفسي وقع حده على جرم السماء فانطبع فيه: " ثم استوى إلى السماء "، - البقرة 29 - فهبت فيها نظري، وشخص إليها بصري وطمحت إشراقات أنواره إلى عالم الثرى، فانتقش في طي مكنوناته مكتوب " واسجد واقترب "، - العلق 19 - فأتى رهين غريتي وقرين زفرتي، لا أسمع غير الأخبار ولا أشهد غير الآثار، وأتبع قوم سبيل إلىشاد في إشراق أنواره. ونصبو الشرع أمامهم، وأخذوا الحق إمامهم، واقتدوا بعساكر التوفيق جنداً جنداً، وسبقت إليهم ركائب ألفاييد وفداً وفداً، وشموس الهداية تسري معهم، وعيون العناية ترعى مرتعهم وتجمعهم، فأوصلهم الصدق في اتباع الحق إلى مسالك التوحيد ومعارف التمجيد، وعلت بهم إلىتب إلى مقام القرب، وسقوط الكيف والتشبيه والحدود، ووجوب التنزيه والإجلال لواجب الوجود. قلت: فهذا بعض كلامه في ذلك محتوياً على التوحيد والتنزيه ومصرحاً بنفي التجسيم والتشبيه، مفصحاً بكون الحق تعالى لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغيرعما عليه كان، جامعاً بين فصاحة العبارة وملاحة الاستعارة وكذلك قوله في المشاهدة: لا بد في الشهود من سقوط مشهودين ونفى تعلق الحط بالحيز والوقت والأين، ومحو ثبوت الفيق والجمع والقرب والبين. وقد ذكرت في كتاب نشر المحاسن. شيئاً من كلامه في الاعتقاد والأسرار وعلم ألفاطن. ومن كلامه أيضاً المروي عنه في مناقبه لما قيل له أن فلاناً - وسموا له بعض مريديه - يقول إنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه، فاستدعى به وسأله عن ذلك فقال: نعم، فانتهره ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود إليه فقيل له: أمحق هذا - أم مبطل؟ قال: هو محق ملبس عليه، وذلك أنه شهد ببصيرته نور الجمال، ثم خرق من بصيرته إلى بصره منفذاً فرأى بصره ببصيرته يتصلى شعاعها بنور شهوده، فظن أن بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصره ببصيرته فحسب، وهو لا يدري. قال الله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان "، - الرحمن20 - وان الله يبعث بمشيئته على أيدي ألفافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما يأخذ المصور من الصور، ولا ضرر، ومن وراء ذلك رداء كبريأنه الذي لا سبيل إلى انخراقه. قال إلىاوي: وكان جمع من المشايخ والعلماء حاضرين هذه الواقعة، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال إلىجل، وقام بعضهم ومزق ثيابه، وخرج إلى الصحراء عرياناً يعني هائماً. جنداً جنداً، وسبقت إليهم ركائب ألفاييد وفداً وفداً، وشموس الهداية تسري معهم، وعيون العناية ترعى مرتعهم وتجمعهم، فأوصلهم الصدق في اتباع الحق إلى مسالك التوحيد ومعارف التمجيد، وعلت بهم إلىتب إلى مقام القرب، وسقوط الكيف والتشبيه والحدود، ووجوب التنزيه والإجلال لواجب الوجود. قلت: فهذا بعض كلامه في ذلك محتوياً على التوحيد والتنزيه ومصرحاً بنفي التجسيم والتشبيه، مفصحاً بكون الحق تعالى لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغيرعما عليه كان، جامعاً بين فصاحة العبارة وملاحة الاستعارة وكذلك قوله في المشاهدة: لا بد في الشهود من سقوط مشهودين ونفى تعلق الحط بالحيز والوقت والأين، ومحو ثبوت الفيق والجمع والقرب والبين. وقد ذكرت في كتاب نشر المحاسن. شيئاً من كلامه في الاعتقاد والأسرار وعلم ألفاطن. ومن كلامه أيضاً المروي عنه في مناقبه لما قيل له أن فلاناً - وسموا له بعض مريديه - يقول إنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه، فاستدعى به وسأله عن ذلك فقال: نعم، فانتهره ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود إليه فقيل له: أمحق هذا - أم مبطل؟ قال: هو محق ملبس عليه، وذلك أنه شهد ببصيرته نور الجمال، ثم خرق من بصيرته إلى بصره منفذاً فرأى بصره ببصيرته يتصلى شعاعها بنور شهوده، فظن أن بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصره ببصيرته فحسب، وهو لا يدري. قال الله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان "، - الرحمن20 - وان الله يبعث بمشيئته على أيدي ألفافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما يأخذ المصور من الصور، ولا ضرر، ومن وراء ذلك رداء كبريأنه الذي لا سبيل إلى انخراقه.

قال إلىاوي: وكان جمع من المشايخ والعلماء حاضرين هذه الواقعة، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال إلىجل، وقام بعضهم ومزق ثيابه، وخرج إلى الصحراء عرياناً يعني هائماً. قلت: وقوله: ومن وراء ذلك رداء الكبرياء الذي لا سبيل إلى انخراقه - نحو مما أشار إليه الشيخ الكبير ألفارف بالله السيد الجليل شيخ الشيوخ أبو الغيث ابن جميل - قدس الله روحه - بقوله: كل خيال نقاب لوجه الأمر العزيزي، والأمر العزيزي نقاب لجلال جمال سبحات وجه الله الكريم فرضاً، لئلا يبرز من ذلك الجلال ذرة، فلا يبقى أحد من الثقلين، ولا من سواهما لا يعرف لله طاعة ولا عصياناً. قلت: قوله: لا يعرف لله طاعة ولا عصياناً: يظهر فيه لي احتمالان، الاحتمال الأول: الإشارة إلى الفناء الكلي، واصطلام الحس والمحسوس، وفقدان وجدان جميع الوجود لاستيلاء سلمان جلال الجمال في حالة الشهود، فلا يشعر حينئذ بطاعة ولا معصية ولا مطيع ولا عاصي. والاحتمال الثاني: أن يشهد القدر سابقاً المقدور بسوط - القضاء المبرم، وقائداً له إلى العلم ألفابق بزمام الحكم المحكم، وصار مزعجاً بالخروج إلى حيز الوجود من حيز العدم، واقعاً - لا محالة - بقدرة الملك ألفادر وإيجاد خالق كل شيء العزيز ألفاهر المهروب منه إليه المستعاذ به منه، جل وعلا وتبارك وتعالى. قلت: فهذا ما اقتصرت عليه من ترجمة قطب الأولياء الأكابر المتوج بتاج الشرف والمفاخر، شيخ الوجود ومطلع السعود، محيي الدين عبد ألفادر، الذي لا تسع ترجمة محاسنه إلا مجلمات، على هذه النبذة اليسيرة في نحو تصنيف كراسة صغيرة، وقد اقتصر الذهبي منهاعلى نحو سبعة أسطرحقيرة. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد ابن منصور المروزي، محدث المشرق، صاحب التصانيف الكثيرة وإلىحلة الواسعة. سمع بنيساور وهراة وبغداد وأصبهان ودمشق، وله معجم شيوخه في عشر مجلمات. كان ثقة مكثراً واسع العلم كثير الفضائل، ظريفاً لطيفاً نبيلاً متجملاً شريفاً. وفي السنة المذكورة توفي القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد ابن القاضي الرشيد أبي الحسن علي الغساني الأسواني. كان من أهل الفضل والنباهة وإلىئاسة، صنف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء، وله ديوان شعر، ولأخيه القاضي المهذب ديوان شعر أيضاً، وكانا مجيدين في نظمهما ونثرهما، ومن نظم القاضي المهذب قوله في قصيدة:

وترى المجرة والنجوم كأنما ... تسقي الرياض بجدول ملآن لو لم يكن نهراً لما عامت به ... أبداً نجوم الحوت والسرطان وذكر العماد ألفاتب في كتاب السيل على الذيل الذي ذيل به على الخريدة أنه كان أشعر من أخيه الرشيد، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم. قلت: ويشبه أن يكون نسبة هذين الأخوين الشريفين: إلىضي والمرتضى، فإن إلىضي كان أشعر، والمرتضى كان أعلم. وولي الرشيد المذكور النظر في ثغر الاسكندرية بغير اختياره، وقتله الوزير شاور ظلماً وكان أوحد عصره في علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات، والآداب والشعريات. وقال العماد: أنشدني محمد بن موسى اليمني ببغداد قال: أنشدني القاضي الرشيد باليمن لنفسه في رجل: لئن خاب ظني في رجائك بعدما ... ظننت فإني قد ظفرت بمنصفر فإنك قد كلفتني محل منة ... ملكت بها شكري لدى كل موقف لأنك قد حذرتني كل صاحب ... وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي وله أيضاً مما نقله عنه العماد المذكور. إذا ما نبت بالحر دار يودها ... ولم يرتحل عنها فليس بذي حزم وهبه بها صباً ألم يدر أنه ... سيزعجه منها الحمام على رغم وله أيضاً مما أنشده عنه أمير أبو الفوارس مرهف بن أسامة: جلت علي إلىزايا بل جلت هممي ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر غيري بغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما يأتي من الغير لو كانت النار للماقوت محرقة ... لمان يشتبه ألفاقوت بالحجر لا تغررن بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على درر ولا تظن خفاء النجم من صغر ... فالذنب في ذاك محمول على البصر وهذا البيت الأخير مأخوذ من قول أبي العلاء المعري، حيث قال فى قصيدة له طويلة: والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم فى الصغر وكان الرشيد قد سافر إلى اليمن رسولاً، ومدح جماعة من ملوكها. وممن مدحه منهم علي بن حاتم الهمداني، قال فيه: لئن أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ... فلست أبالي القحط في أرض قحطان

سنة اثنتين وستين وخمس مائة

ومذ كفلت لي مأرب بمأربي ... فلست على آسوان يوماً بأسوان وإن جهلت حقي زعانف خندف ... فقد عرفت فضلي غطارف همدان فحسده ألفاعي وهو في مذهب الإسماعيلية الذي يدعو الخلق إلى متابعة الإمام المعصوم على زعمهم في عدن على ذلك، فكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه، فأمسكه وأنفذه إليهم مقيداً مجرداً، وأخذ جميع موجوده، فأقام باليمن مدة، ثم رجع إلى مصر، فقتله شاور كما تقدم، وقوله: وإن جهلت حقي زعانف خندف ... فقد عرقت فضلي غطارف همدان يحتاج إلى تفسير لمن ليس باللغة خبيراً، أما الزعانف فهي بالزاي ثم العين المهملة وبين الألف والماء نون - وهي اطراف الأديم وأكارعه، وأما خندف وهي بكسر الماء المعجمة وقبل ألفال المهملة نون ساكنة وهي قبيلة تنسب إلى أمها امرأة ألفاس بن مضر، واسمها ليلى. والخندفة مشية كالهرولة، ويقال: خندف إلىجل، إذا مشى قألفا قدميه كأنه يغترف بهما، وأما غطارف فهو بالغين المعجمة والماء المهملة وإلىاء بعد الألف جمع غطريف، وهو السيد، وفرخ ألفازي، وقحطان قبيلة مسماة باسم جدها وهو أبو اليمن وهمدان بألفال المهملة وسكون الميم قبلها قبيلة من اليمن. وأما بالذال المعجمة وفتح الميم فبلد بالعجم. والغساني بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة نسبة إلى غسان، وهي قبيلة كبيرة من الازد، شربوا من ماء غسان، وهو باليمن فنسبوا إليه، ومنهم بنو جفنة رهط الملوك. ويقال غان اسم قبيلة، والأسواني نسبة إلى أسوان بضم الهمزة وسكون السين المهملة، وهي بلدة بصعيد مص. سنة اثنتين وستين وخمس مائة فيها سار أسد الدين السير الثاني إلى مصر ببعض جيش نور الدين، فنازل الجيزة شهرين، واستنجد وزيرمصرالفرنج، فدخلوا إلى النيل من دمياط، والتقوا، فانتصر أسد الدين، وقتل ألوف من الفرنج. قال ابن الأثير: هذه من أعجب ما أرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر والفرنج. ثم

استولى أسد الدين على بلاد الصعيد وتقوى بخراجها، وأقامت الفرنج بالقاهرة حتى استر أسوا، ثم قصدوا الاسكندرية وقد أخذها صلاح الدين، فحاصروه أربعة أشهر، ثم كرأسد الدين منجداً له، فترحلت الملاعين بعد أن قد استقر لهم بالقاهرة شحنة، وقطيعة مائة ألف دينار في الشام. وصالح شاور أسد الدين على خمسين ألف دينار، وأخذها ونزل الشام. وفيها قدم قطب الدين صاحب الموصل على أخيه نور الدين، فغزوا الفرنج، فأخذوا حصناً بعد حصن. وفيها احتراق البلادين حرقاً عظيماً، حتى صار تاريخاً، وأقامت النار أياماً. وفيها توفي خطيب دمشق أبو البركات الخضر بن شبل الفقيه الشافعي، درس بالغزالية وبالمجاهدية، وبنى له نور الدين المدرسة المعروفة بالعمادية. وفيها توفي ابن حمدون صاحب التذكرة أبو المعالي محمد بن أبي سعد ألفاتب الملقب كافي الكفاءة البغدادي. كان فاضلاً ذا معرفة تامة بالأدب والكتابة، من بيت مشهور بإلىئاسة والفضل، صنف كتاب التذكرة، وهو من أحسن المجاميع، يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار، لم يجمع أحد من المتأخرين مثله، ذكره العماد ألفاتب في كتاب الخريدة، وأنشد لنفسه لغزاً في مروحة الجيش: ومرسلة معقودة دون قصدها ... منفذة تجري لجيش طليقها يمر خفيف الريح وهي مقيمة ... وتسري وقد سدت عليها طريقها لها من سليمان النبي وراثة ... وقد عزمت نحو النبيط عروقها إذا صدق النوء الشمالي أمحلت ... وتمطر والجوزاء ذاك حريقها وتحسبها إحدى الصنائع أنها ... لذلك كانت كل روح صديقها قلت: وفي المروحة أيضاً أنشدنا بعض شيوخنا، وهو الشيخ الصالح أبو بكر ابن ألفائغ لنفسه: وفي عدن حر كأن لهيبه ... من النار في أرجأنها اليوم لافح أدافع عني بالمراوح جيشه ... فيا ضعف من يحمي قفاه المراوح

سنة ثلاث وستين وخمس مائة

وفيها توفي الإمام تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي، ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في مختصره فقال. أبوسعد واسطة عقد البيت السمعاني، وعينهم ألفاصرة ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رئاستهم، وبه كملت سيادتهم. رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان مرات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها، ولقي العلماء وجالسهم، وأخذ عنهم، واقتدى بأفعالهم الجميلة وأثارهم الحميدة، وروى عنهم. وكانت عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ، وكان حافظاً ثقة مكثراً واسع العلم كثير الفضائل ظريفاً لطيفاً مبجلاً نظيفاً نبيلاً شريفاً، وصنف التصانيف الحسنة العزيزة ألفائدة، من ذلك تذييل تاريخ بغداد الذي صنفه ألفاضل أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلما. وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلما، والأنساب نحو ثماني مجلمات وهو الذي اختصره الشيخ عز الدين المذكور، واستدرك عليه مختصره في ثلاث مجلمات. وكانت ولادة أبي سعد يوم الاثنين ألفادي والعشرين في شعبان سنة ست وخمس مائة، وكان أبوه إماماً فاضلاً مناظراً فقيهاً محدثاً شافعياً، وله عدة تصانيف وشعر غسله قبل موته وإملاء لم يسبق إلى مثله، وتوفي أبوه المذكور وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني عشر صفر سنة عشر وخمس مائة. وفيها توفي الحافظ المفسر الواعظ الأديب المتقن أبو شجاع عمر بن محمد البسطامي. ؟؟؟ سنة ثلاث وستين وخمس مائة وفيها أعطى نور الدين لنائبه أسد الدين حمص وأعمالها، فبقيت في يده مائة سنة. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي الأصبهاني المقرىء، كان عألفا زاهداً معمراً.

سنة أربع وستين وخمس مائة

وفيها توفي أبو الحسين هبة الله بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الفقيه الشافعي، قرأ القراءات وسمع الحديث وتفقه ودرس بالغزالية، وأفتى واعتنى بفنون العلم، وكان ورعاً خيراً كبير القدر، عرضت عليه خطابة البلد فامتنع. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ألفارف بالله الخبير ذو المقامات الطية والأحوال السنية والأنفاس الصادقة والكرامات ألفارقة والتصانيف المفيدة الوثيقة في الشريعة والحقيقة أبو النجيب عبد ألفاهر بن عبد الله السهروردي القرشي البكري، نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بينه وبينه اثنا عشر أباً، كان من أعيان المحققين وأعلام العلماء الشاملين وصفوة العارفين، وهو أحد من درس بالنظامية وتصدر للفتوى، وجمع ووضع التصانيف، وكان يلقب مفتي العراقين وقدوة الفريقين انعقد عليه إجماع المشايخ والعلماء بالاحترام، وأوقع الله له في الصدور القبول الشام، وكان يشرح أحوال القوم، ويتطيلس ويلبس لماس العلماء، ويركب البغلة ويرفع بين يديه - ألفاشية على ما نقله بعض العلماء في تصنيفه. ومن كراماته ما روى بعض أصحابه، وهو الشيخ أبو محمد عبد الله بن مسعود المعروف بإلىومي قال: مررت مرة مع شيخنا أبي النجيب بسوق السلطان ببغداد، فنظر إلى شاة مسلوخة معلقة عند جزار، فوقف عنده وقال له: إن هذه ألفاة تقول لي أنها ميتة، فغشي على الجزار، فتاب على يدي الشيخ المذكور، وأقر بصحة قوله. وله كرامات أخرى، وكلام نفيس ومحاسن جليلة لا نطول بذكر ذلك. وفيها قتل ظلماً القاضي المهذب أبو محمد الحسن ابن القاضي الرشيد الغساني الأسواني، وكان أوحد عصره في العلوم الشرعيات والهندسية والرياضيات والآداب والشعريات. ومن شعره ما تقدم من قوله في سنة إحدى وستين: غيري يغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما يأتي من الغير إلى آخر الأبيات سنة أربع وستين وخمس مائة فيها سار أسد الدين مسيره الثالث إلى مصر، وكانت الفرنج قد ملكت تنيس

وحاصروا القاهرة، وأخذوا كل ما كان خارج السور، فكاتب شاور نور الدين واستنجد به، وسود كتابه وجعل في طيه ذوائب نساء القصر. وكان نور الدين بحلب، فساق إليه أسد الدين من حمص، فجمع العساكر ثم توجه في عسكر يقال كان سبعين ألفا ما بين فارس وراجل، فتقهقرت الفرنج، ودخل القاهرة وجلس في دست الملك، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة، وعهد إليه بوزارته، وقبض على شاور، فأرسل إليه العاضد بطلب رأس شاور، فقطعه، وأرسل به إليه. وشاور المذكور كان قد ولاه الملك الصالح بلاد الصعيد، ثم لما مات الملك الصالح دخل القاهرة بالعساكر، وقتل الملك ولد الملك الصالح، وجلس مكانه. ثم بعد شهرين مات أسد الدين، فقلد العاضد منصبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين، ولقبه بالملك الناصر، ثم ثار عليه السودان، فحاربهم وظفر بهم وقتل منهم قتلاً عظيماً. وفيها توفي صاحب دمشق مجير الدين الملقب بالملك المظفر. وفيها توفي شاور مقتولاً كما ذكرنا، وقد تقدم ذكر قهره لوزير العاضد الملقب بالعادل، وقتله له وجلوسه في الوزارة مكانه. وفيها توفي شيخ المقرئين بالأندلس أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن هذيل. وكان فيه مجموع فضائل من القراءة والزهد والورع والتواضع والتقلل من الدنيا والإعراض عنها وكثرة الصيام والقيام والصدقة والتجويد والإتقان في القراءات. وفيها توفي القاضي زكي الدين أبو الحسن علي ابن القاضي أبي المعالي محمد بن يحيى القرشي قاضي دمشق، استعفي عن القضاء فأعفي، وسار فحج. وفيها توفي أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي الأموي العثماني، كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب وإلىسائل، وتولى القضاء بدمشق، وكانت له عند السلطان صلاح الدين المنزلة السنية

والمكانة المكينة، ولما فتح السلطان صلاح الدين مدينة حلب أنشده القاضي محيي الدين أبو المعالي المذكور قصيدة أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها هذا البيت: وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب وكان كما قال، فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في تفسير قوله تعالى " ألم غلبت إلىوم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " - إلىوم ا - 3 - والمنقول عن ابن برجان أنه ذكر له حساباً طويلاً وطريقاً في استخراج ذلك حتى حرره من قوله تعالى " بضع سنين ". ولما ملك صلاح الدين المذكور حلب فوض الحكم والقضاء بها للماضي أبي المعالي المذكور. ولما فتح القدس تطاول إلى الخطابة بها يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون هو الذي يعتن لذلك، فخرج المرسوم للماضي أبي المعالي المذكور أن يخطب، وحضر السلطان وأعيان دولته، وذلك في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح، فلما رقي على المنبر استفتح بسورة ألفاتحة ثم قال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، ثم قرأ سورة الأنعام " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور " إلى آخر الآيات الثلاث، ثم قرأ من سورة سبحان " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولما ولم يكن له شريك في الملك " - الاسراء 111 - الآية، ثم قرأ من أول الكهف " الحمد لله " إلى اخر الثلاث الآيات، ثم قرأ من النمل " وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " - النمل 59 - ثم قرأ من سورة سبأ " الحمد لله " الخ الآية، ثم قرأ من سورة فاطر " الحمد لله فاطر السموات والأرض "، - فاطر 1 - وكان قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن الكريم، ثم شرع في الخطبة فقال:؟ الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور جماعة أدباً كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته. بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل ألفاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر

دينه على الدين كله، ألفاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهرعلى خليقته فلا ينازع، والآمر بما شاء فلا يراجع، وألفاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأولمانه ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضار، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهراً جهاره، وأشهد أن لا آله الا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشك ودافع الشرك وداحض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة ألفاوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خيلفته أبي بكر الصديق ألفابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلمان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وأصحابه وألفابعين لهم بإحسان. أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الداية القصوى والدرجة العلما لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه ألفالة من الأمة ألفالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدى المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيها اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بنى عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، وإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم ابراهيم ومعراج نبيكم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وقبلتكمم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقدس الأولياء، ومدفن إلىسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألفاها إلى مريم وروحه عيسى الذي كرمه برسالته، وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون "، - النساء 172 - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه إله، إذا لذهب كل إله بما خلق، وأملا الآية " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "، أألفائدة 17، 72 - إلى آخر الآيات من ألفائدة..... وهو أول القبلتين وثاني المسجد وثالث الحرمين، لا تشد إلىحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. وهذا نحو من ثلث خطبته، رمت الاقتصار إيثاراً للاختصار. وفيها توفي الحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي العبشمي الأصبهاني، معه إله، إذا لذهب كل إله بما خلق، وأملا الآية " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "، أألفائدة 17، 72 - إلى آخر الآيات من ألفائدة..... وهو أول القبلتين وثاني المسجد وثالث الحرمين، لا تشد إلىحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا

سنة خمس وستين وخمس مائة

تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. وهذا نحو من ثلث خطبته، رمت الاقتصار إيثاراً للاختصار. وفيها توفي الحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي العبشمي الأصبهاني، سمع من جماعة كثيرين، واعتنى بالحديث وجمعه، ووعظ وأملا وكان ذا قبول ووجاهة، توفني في طريق الحجاز، رحمه الله تعالى. ؟؟ سنة خمس وستين وخمس مائة فيها وقعت الزلزلة العظمى بالشام، وأطنب جماعة في تعظيمها حتى قال بعضهم هلك بحلب تحت الهدم ثمانون ألفا. وفيها حاصرت الملاعين الفرنج دمياط خمسين يوماً، ثم ارتحلوا من أجل أن نور الدين وصلاح الدين أجلما عليهم وعلى بلادهم براً وبحراً. وعن صلاح الدين أنه قال: ما رأيت أكرم من العاضد، أخرج إلي في هذه المرة ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها. يعني بالعاضد أحد الخلفاء العبيديين. وفيها حاصر نور الدين سنجار، ثم أخذها بالأمان، وتوجه إلى الموصل وبنى بها جامعاً، ورتب أمورها، ثم رجع فنازل الكر، ونصب عليها منجنيقي، ثم رحل عنها لحرب نجدة الفرنج، فانهزموا. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع الجيلي ثم البغدادي، أحد العلماء والمعدلين والفضلاء والمحدثين.

سنة ست وستين وخمس مائة

وفيها توفي صاحب الموصل وابن صاحبها السلطان قطب الدين مودود بن زنكي. وفيها توفي أبو المكارم عبد الواحد بن هلال الأزدي المعدل، سمع من غير واحد، وأجاز له الفقيه نصر، وكان رئيساً جليلاً كثير العبادة والبر. وفيها توفي أبو بكر بن النقور، بالنون وألفاف وفي آخره راء، عبد الله بن محمد البغدادي ثقة محدث من اولاد الشيوخ. سنة ست وستين وخمس مائة فيها توفي أبو زرعة طاهر ابن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ثم الهمذاني. وفيها توفي الحافظ المعدل أبو مسعود عبد إلىحمن بن أبي الوفاء علي بن أحمد الأصبها ني. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن يوسف الزينبي شاطبة، سمع من جماعة قال بعضهم: كان عارفاً بالأثر مشاركاً في التفسير، حافظاً للفروع، بصيراً باللغة والكلام فصيحاً مفوهاً، مع الوقار والصمت والصيام والخشوع، ولي قضاء شاطبة، وحدث وصنف. وفيها توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي العباسي. وفيها توفي ابن الجلال القاضي الأديب موفق الدين يوسف بن محمد، صاحب ديوان الإنشاء. ولي بعده القاضي المعروف بألفاضل. وفيها توفي المعافري عبد الجبار بن محمد المغربي، كان إماماً في اللغة وفنون الأدب، اشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، واشتغل ببغداد ودخل الديار المصرية. سنة سبع وستين وخمس مائة في أولها تجاسر صلاح الدين وقطع خطبة العاضد العبيدي، وخطب للمستضيء أمير

المؤمنين العباسي، فأعقب ذلك موت العاضد العبيدي يوم عاشوراء، فجلس صلاح الدين للعزاء، وبالغ في الحزن والبكاء، وتسلم القصر وما حوى، واهتبط على أهل القصر في مكان أفرد لهم، وقرر لهم ما يكفيهم، ووصل إلى بغداد أبو نصر سعد بن عصرون رسولاً بذلك، فزينت بغداد فرحاً وكانت خطبة بني العباس قد قطعت من مصر مائتي سنة وتسع سنين وحلت مكانها خطبة بني عبيد. فأرسله بالخلع لنور الدين وصلاح الدين، وكانت خلعة نور الدين فرجية وجبة وقباء وطوق ذهب وزنه ألف دينار، ومعها حصان بسرجه، وحصان يجنب بين يديه، وسيفان ولواء، فقفد السيفين إشارة إلى الجمع له بين الشام ومصر. وفيها سار نور الدين لحصار الكرك، وطلب صلاح الدين فاعتذي، فلم يقبل عذره، وهم بالدخول إلى مصر وعزل صلاح الدين عنها، فبلغ ذلك صلاح الدين فجمع خواصه وواله وخاله شهاب الدين ألفارمي في جماعة أمراء، واستشارهم فقال ابن أخيه عمر: إذا جاءنا ققاتلناه. وتابعه غيره على ذلك من ألفاضرين، فشتمهم والد صلاح الدين نجم الدين أيوب، وأحد وزيرهم، وقال لابنه: أنا أبوك وهذا خالك، في هؤلاء من يريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا، قال: والله لو رأيت أنا وهذا نور الدين لم يمكنا إلا أن ننزل نقبل الأرض، ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا، فما ظنك بغيرنا، وهذه البلاد لنور الدين؟! ! فإن أراد عزلك فأي حاجة له في المجيء، بل يطلبك بكتاب. ثم تفرقوا وكتب غير واحد من الأمراء بهذا المجلس المذكور إلى نور الدين، فلما خلا نجم الدين بابنه قال: أنت جاهل، تجمع هذا الجمع وتطلعهم على سرك؟! فلو قصدك نور الدين لم تر منهم معك أحداً، فاكتب إليه واخضع له، ففعل. وفيها توفي يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي الملقب صائن الدين، أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك، ودخل الاسكندرية وسمع من جماعة كثيرة وكذلك بمصر، ودخل بغداد وقرأ القران، وسمع

الحديث على جماعة من أكابر زمانه، وكان ديناً ورعاً، عليه وقار وسكينة، وكان ثقة ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً، وأقام بدمشق مدة، واستوطن الموصل، ودخل أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر. قال ابن خلكان: وكان شيخنا قاضي حلب بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع يفتخر بقراءته عليه ورويته، وكان كل يوم يسمط له دجاجة، ويتولى طبخها بيده. وكان كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير ألفاتب الواسطي: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين وفيها توفي العلامة أبو محمد الخشاب عبد الله بن أحمد البغدادي النحوي المحدث، طلب وسمع وأكثر وقرأ الكثير وكتب بخطه المليح المتقن، وأخذ العربية عن أبي السعادات ابن الشجري وابن الجواليقي، وأتقن النحو واللغة والتصريف والنسب والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك، وصنف التصانيف. وكان إليه المنتهى في حسن القراءة وسرعتها وفصاحتها مع الفهم والعذوبة، وانتهت إليه الإمامة في النحو، وكان متضلما من العلوم، وخطه في نهاية الحسن، وكان ظريفاً مزاحاً، وله شعر قليل من ذلك قوله في كتاب اللغز: وذي أوجه لكنه غير بائح ... بصر، وذو الوجهين للسر مظهر تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تنظر وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد: خلقت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملاء مسمعي من أبصرا وشرح كتاب الجمل لعبد ألفاهر الجرجاني وسماه: المرتجل في شرح الجمل، وترك أبواباً في وسط الكتاب ما تكلم عليها، وشرح اللمع لابن جني ولم يكمله. وكانت فيه بزازة وقلة اكتراث بألفاكل والملابس، وسخ الثياب يسقى في جرة مكسورة، وما تأهل قط ولا تسرى. وذكر العماد انه كان بينه وبينه صحبة ومكاتبات، قال: ولما مات رأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: خيراً، فقلت: فهل يرحم الله الأدباء؟ فقال: نعم، فقلت: وإن كانوا مقصرين؟ فقال: يجري عتاب كثير ثم يكون بعده النعيم. انتهى. قلت فافهم معنى هذا الكلام أيها الواقف عليه، إنما ذكر هذا للمقصرين في الخيرات لا للماصين أولي السيئات كأمثالنا. نسأل الله الكريم أن يسامحنا ويعفو عنا.

وفيها توفي العاضد لدين الله عبد الله ابن الحافظ لدين الله العبيدي المصري، أحد خلفاء ألفاطنية. وفي أيامه قدم حسين بن نزار بن المستنصري في جموع من المغرب، فلما قرب منه غدر به أصحابه، وقبضوا عليه وحملوه إلى العاضد، فذبحه صبراً. وكان موت العاضد بإسهال مفرط، وقيل: مات غماً لما سمع بقطع خطبته. وفيها توفي أبو الحسن بن النعمة على بن عبد الله الأنصاري الأندلسي، أحد الأعلام، تصدر لإقراء القرآن والحديث الفقه والنحو واللغة، وكان عألفا حافظاً للفقه والتفاسير ومعاني الآثار، مقدماً في علم اللمان -، فصيحاً مفوهاً ورعاً فاضلاً معظماً، دمث الأخلاق. انتهت إليه رئاسة الإقراء والفتوى، وصنف كتاباً كبيراً في شرح سنن النسائي بلغ فيه الداية. وفيها توفي أبو المظفر محمد بن أسعد بن الحكي، كان له القبول الشام في الوعظ بدمشق، سمع ودرس وصنف تفسير القرآن، وشرح مقامات الحريري. وفيها توفي أبو حامد النووي الطوسي الفقيه الشافعي محمد بن محمد، تلميذ محمد ابن يحيى. كان إليه المنتهى في معرفة علم الكلام والنظر والبلاغة والجدل، بارعاً في معرفة مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وصنف في الخلاف تعليقة جيدة، وله جدل مليح سماه: المقترح في المصطلح، أكثر الفقهاء الاشتغال به، وشرحه الفقيه أبو الفتح مظفز بن عبد الله المصري شرحاً مستوفي، وكان حلو العبارة ذا فصاحة وبراعة، دخل بغداد فصادف قبولاً وافراً من الشام وألفاص، وكان يحضر عنده كل يوم خلق كثير، وله حلقة المناظرة بجامع القصر، ويحضر عنده المدرسون والأعيان، ويجلس للوعظ في النظامتة - ومدرسها يومئذ ألفاشي أحمد بن عبد الله - وكان هو يدرس في المدرسة النهائية قريباً من النظامية، يذكر فيها كل يوم عدة دروس. وذكر بعض المؤرخين أنه وعظ، وبعد صيته، وشغب على الحنابلة فأصبح ميتاً ويقال إن الحنابلة أهدوا له مع امرأة صحن حلواء مسمومة.

سنة ثمان وستين وخمس مائة

وفيها توفي الإمام أبو بكر الأزدي يحيى بن سعدون القرطبي النحوي، نزيل الموصل وشيخها، سمع بقرطبة ومصر وبغداد، وأخذ عن الزمخشري وبرع في العربية والقراءات، وتصدر فيها مدة. وكان ذا عبادة وورع، وتبحر في العلوم. وفيها توفي أبو الفتوح نصرالله بن قلانس ألفاعر اللخمي الإسكندري. كان شاعراً مجيداً وفاضلاً نبيلاً، صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر السلفي، وانتفع بصحبته، وأثنى عليه الحافظ المذكور، ودخل بلاد اليمن، وامتدح بعض الوزارء في مدينة عدن، فأحسن إليه وأجزل صلتة، تم ركب البحر فغرق جميع ما كان معه، فعاد إليه عرياناً، وأنشده قصيدة مطلعها: صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا ... فعدنا إلى مغناك والعود أمد وأنشده أيضاً قصيدة مفتتحها: سافر إذا حاولت قدراً ... سار الهلال فعاد بدرا والماء يكسب ماجرى ... طيبا ًويخبث ما استقرا وتنقل الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا ومعنى البيت الثاني مأخوذ من قول بديع الزمان: الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه. والبيت الثالث مأخوذ من قول صرد ألفاعر وهو: نقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني في الخدور لولا التنقل ما ارتقى ... درر البحور إلى النحور سنة ثمان وستين وخمس مائة فيها دخل قراقوش - بألفاق مكررة والشين المعجمة - ابن أخي السلطان صلاح الدين بلاد المغرب، فنازل طرابلس مدة وافتتحها - وكان للفرنج -. وفيها سار شمس الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن، فافتتحها وقبض على المتغلب عليها الزنديق المسمى بعبد النبي.

وفيها حاصر صلاح الدين الكرك، ولم يفتتحها في هذه المرة. وفيها سار نور الدين فافتتح بهنسة وغيرها، ثم دخل الموصل، ودان له صاحب إلىوم. وفيها توفي الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين - ويلقب بالملك الأفضل، والد الملوك: صلاح الدين وسيف الدين وشمس الدولة وسيف الإسلام وشاهنشاه وتاج الملوك بوري وست الشام وربيعة خاتون، وأخو الملك أسد الدين. شب به فرسه، فحمل إلى داره ومات بعد أيام، وكان يلقب بالأجل الأفضل. وأول ما ولي نجم الدين المذكور ولاية قلعة تكريت بعد ولاية أبيه لها بتولية وإليها نائب السلطان غياث الدين مسعود السلجوقي، ثم إن النائب المذكورغضب على نجم الدين بسبب أخيه أسد الدين، وذلك أنه مرت عليه امرأة باكية، فسألها كن سبب بكأنها، فذكرت له أنه تعرض لها إنسان، فتناول أسد الدين حربة بيد ذلك الإنسان، وضربه بها فقتله، فأمسكه أخوه نجم الدين واعتقله، وكتب إلى النائب يعرفه بذلك، فوصل جوابه وهو يقول لأبيكما: علي حق، وبيني وبينه مودة مؤكدة، فما يمكنني أن أكافئكما بسيئة تصدر مني ولكني أشتهي منكما أن تخرجا من بلدي. فلما وصلهما الجواب ما أمكنهما المقام بتكريت، فخرجا منها، ووصلا إلى الموصل، فأحسن إليهما الأتابك عماد الدين زنكي، وزاد في إكرامهما والإنعام عليهما، وأقطعهما إقطاعاً جسناً، ثم لما ملك الأتابك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب، وفيها بنى خانقاهاً للصوفية يقال لها النجمية - وهي منسوبة إليه - عمرها في مدة إقامته بها، وكان رجلاً مباركاً كثير الصلاح مائلاً إلى أهل الخير، حسن النية جميل الطوية، ديناً عاقلاً كريماً، وفي سيرته وما جرى له كلام طويل ذكروا في آخره أنه لما تولى ولده صلاح الدين وزارة الديار المصرية في أيام العاضد صاحب مصر من العبيديين استدعى أباه نجم الدين المذكور من الشام. - وكان في دمشق في خدمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي - فجهزه نور الدين وأرسله إليه، فدخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد إلى لقائه إكراماً لولده صلاح الدين، وفعل معه من الأدب ما هو اللائق بمثله، وعرض صلاح الدين على والده المذكور أمر الوزارة كله، وجعله له فأبى

سنة تسع وستين وخمس مائة

وقال: يا ولدي؛ ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له، ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة. ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد - كما سيأتي في ترجمته - ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها، وأبوه بالقاهرة، فركب يوماً ليسير على عادة الجند فخرج من باب النصر - أحد أبواب القاهرة - فشبت به فرسه، فألقاه، وبقي متألفا أياماً، ثم توفي - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي. كان نحوياً بارعاً، أصولياً متكلماً، رئيساً ماجداً، قدم دمشق واشتغل بها، وصنف في الفقه والنحو والكلام، وعاش ثمانين سنة. وسمع الحديث، وقرأ مذهب الإمام الشافعي وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، والخلاف على أسعد الميهن، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان صاحب الوجيز والوسيط في أصول الفقه، وقرأ النحو على الفصيحي، والفصيحي قرأ على عبد القاهر الجرجاني صاحب الجمل الصغير، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ورحل إلى الشام، واستوطن دمشق وتوفي بها. وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصلين والنحو، وله ديوان شعر، ومدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقصيدة، ومن شعره: سلوت بحمد الله عنها فأصبحت ... دواعي الهوى من نحوها لا أجيبها على أنني لا شامتإن أصابهابلاء، راض لواش بعيبها ولقب نفسه ملك النحاة وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك وأخذ عنه جماعة ادباء كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته. سنة تسع وستين وخمس مائة فيها توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، كان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى الخير مجاهداً في سبيل الله كثير الصدقات، بنى المدارس في بلاد الإسلام الكبار مثل دمشق وحلب وبعلبك ومنبج والرحب، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع

الره، وجامع منبج، ومارستان دمشق، ودار الحديث بها، وله من المناقب وألفاثر والمفاخر ما يستغرق الوصف، وكان في الأولياء معدوداً من الأربعين، وصلاح الدين من الثلاث مائة، ذكر ذلك بعض الشيوخ العارفين. لما قتل أبوه سار في خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب وعساكر الشام إلى مدينة حلب وحماة وحمص ومنبج وحران فملكها، وملك أخوه سيف الدين الموصل وما والاها، ثم إن نور الدين نزل على دمشق محاصراً لها - وصاحبها يومئذ مجير الدين أتابك الملك رواق بن تتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة السلجوقي - وكان نزول نور الدين عليها ثالث صفر سنة تسع واربعين وخمس مائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، ثم استولى على بقية بلاد الشام من حمص وحماة وبعلبك - وهو الذي بنى سورها - ومنبج وما بين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهنسا وتلك الأطراف، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج أيضاً حارم وعزاز وبانياس وغير ذلك مما يزيد عدته على خمسين حصناً، ثم سير الأمير أسد الدين عم صلاح الدين إلى مصر ثلاث مرات، وملكها السلطان صلاح الدين في المرة الثالثة نيابة عنه، وجعل اسمه في الخطبة والسكة.

وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية - وإليه تنسب الطائفة السنية مكاتبات ومحاورات بسبب المحاورة - فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يهدده فيه ويتواعده بسب اقتضاء ذلك، فشق على سنان، فكتب جوابه أبياتاً ورسالة: يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه قام الحمام إلى البازي يهدد ... فاستيقظت لأسود البر أصيعه أضحى يسدفم الأفعى بإصبعهيكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه وقفنا على تفصيله وحمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم ما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي فتلك أماني كاذبة وخيالالت غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، كم من قوي وضعيف، ودنيء وشريف، فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: " ما أوذي نبي ما أوذيت "، وقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون، وإذا " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً "، وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رحالنا، وما يتمنوه من الفوت ويتقربون به إلى حياض الموت قل " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "، - الجمعة 6و7 - وفي أمثال العاقة السائرة: أو للبط تهددون بالشط؟ فهيىء للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك ولأتعبنهم فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز. وفي رواية: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر ص. والصحيح أنه كتب هذا اللفظ إلى السلطان صلاح الدين بن أبي أيوب، وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة، وسيرته في حسنها شهيرة. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بعلة

الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع ودفن في بيت بقلعة دمشق كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بالمدرسة التي أنشأها عند باب سوق الخواصين. وروي عن جماعة أن الدعاء عند قبره مستجاب، وكانت ولادته سنة إحدى عشرة وخمس مائة، فجميع عمره نيف وخمسون سنة، وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح اسماعيل، فقام من بعده، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها في بلاد الشام، وتركه في مدينة حلب، ولم يزل بها حتى توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة - رحمه الله تعالى -. وفيها وعظ الشهاب الطوسي ببغداد فقال: ابن ملجم لم يكفر بقتل علي - رضي الله تعالى عنه - فرجموه بالآجر، وهاجت الشيعة، فلولا العلماء لقتل، وحرقوا منبره، وهيؤوا له للمعياد الآتي قوارير النفط - ليحرقوه، ولامه نقيب النقباء، فأساء الأدب، فنفوه، فذهب إلى مصر وارتفع بها شأنه وعظم. وفيها توفي الحافظ أبوعلي العطار الحسن بن أحمد الهمداني المقرىء الأستاذ، شيخ همدان وقارئها وحافظها. رحل وحمل القراءات والحديث، قرأ بواسطة علي القلانسي، وببغداد على جماعة، وسمع من ابن بيان وطبقته، وبخراسان من الفراوي وطبقته، وبرع على حافظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى والقصص والسير، وله تصانيف في القراءات والحديث والرقائق في مجلدات كبيرة، منها كتاب زاد المسافر خمسون مجلداً. وكان إماماً في العربية، وحفظ في اللغة كتاب الجمهرة، وأخرج جميع ما ورثه، وكان أبوه تاجراً، وسافر مراراً ماشياً يحمل كتبه على ظهره، ويبيت في المساجد، ويأكل خبز الدخن إلى أن نشر الله تعالى ذكره في الآفاق. قال ابن النجار: هو إمام في علوم القرآن والحديث والأدب والزهد والتمسك بالأثر. وفيها توفي سعيد بن المبارك البغدادي النحوي المعروف بابن الدهان، صاحب التصانيف الكثيرة، ألف شرحاً للإيضاح في ثلاثة وأربعين مجلداً، وكان سيبويه زمانه. وفيها توفي المسمى بعبد النبي ابن المهدي، الذي تغلب على اليمن، وتلقب

بالمهدي. وكان أبوه أيضاً قد استولى على اليمن، فظلم وغشم وذبح الأطفال، وكان باطنياً من دعاة المصريين بني عبيد، وهلك سنة ست وستين، وقام بعده ولده المذكور فاستباح الحرائر وتمرد على الله فقتله شمس الدولة كما مضى. وفيها توفي الفقيه عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني الشافعي الفرضي نزيل مصر وشاعر العصر. كان شديد التعصب للسنة أديباً ماهراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها: هراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها: الحمد للعيش بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أوليت من نعم لا أجحد الحق عندي للركاب به ... تمنيت اللجم فيها ريتة الخطم قرير، بعد مرار العيش من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم وأجري من الكعبة البطحاء والحرم ... السامي إلى كعبة المعروف والكرم إلى أن قال: أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً ... فوز النجاة، وأجري البر في القسم لقد حمى الدين والدنيا وأهلهم ... وزيره الصالح الفراج للغمم خليفة ووزير مد عدلهما ... ظلاً على مفرق الإسلام والأمم زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى تتعاطى منية الديم فاستحسنا قصيدته، وأجز لاصلته، ثم رجع متوجهاً إلى مكة، ثم منها إلى زبيد في سنة إحدى وخمسين، ثم حج من عامه، فأعاده صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر

سنة سبعين وخمس مائة

مرة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد. وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة مؤكدة قبل وزارته، فلما وزر استحال عليه فكتب إليه: إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب ولا تحتقر كبداً ضعيفاً فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب فقد هد قدماً عرش بليقس هدهد ... وخرب فأر قبل ذا سد مأرب إذا كان رأس ألفال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب مع أبيات اخرى بالغة في الحسن، وقوله: من أمم هو بفتح الهمزة والميم الأولى، يقال: أخذت ذلك من أمم أي من قرب. قال زهير: وحيره ما هم لو أنهم أمم أي: لو أنهم بالقرب مني. والأمم أيضاً الشيء اليسير، يقال: ما سألت إلا أمماً. وأما الأمم بضم الهمزة في قوله: ظل على مفرق الإسلام والأمم فهو جمع أمة. سنة سبعين وخمس مائة فيها قدم صلاح الدين وأخذ دمشق بلا ضربة ولا طعنة، وسار الصالح اسماعيل في حاشيته إلى حلب، ثم سار صلاح الدين فحاصر حمص بالمجانيق، ثم سار فأخذ حماة، ثم حاصر حلب، ثم رد وتسلم حمص، ثم عطف إلى بعلبك فتسلمها، ثم كر والتقى صاحب الموصل مسعود بن مودود فإنهزم عسكر الموصل أسوأ هزيمة، ثم وقع الصلح. واستناب بدمشق أخاه سيف الإسلام، وكان بمصر أخوه العادل. وفيها توفي أحمد بن المبارك خادم الشيخ عبد القادر الذي كان يبسط المرقعة له على الكرسي. وفيها توفي القاضي علي بن عمر بن عبد العزيز بن قرة اليمني. كان حافظاً في التفسير واعظاً على المنابر، مقبول الكلمة في أهل بلده عارفاً بتأويل الرؤيا. قيل: إن رجلاً رأى في المنام الفقيه نعيماً العشاري الذي كان يحفظ عشرة علوم، فسأله عن رؤيا فقال: إن تأويل الرؤيا يا صرف عني إلى القاضي علي بن عمر. توفي في الطرية - بتشديد الياء المثناة من تحت وفتح الطاء المهملة وكسر الراء - قرية في ناحية مسجد الرباط من بلاد اليمن بساحل عدن. سنة احدى وسبعين وخمس مائة فيها شنق السلطان المبتدع ابن مهدي - الملقب نفسه عبد

النبي - هو وأخوه أحمد في زبيد برسم السلطان شمس الدولة أول من ملك اليمن من بني أيوب. وابن مهدي المذكور من الآفات الكائنات والبليات والفتن العظيمات في بلاد اليمن. وفيها نقض صاحب الموصل الصلح، وسار إلى السلطان سيف الدين غازي، فالتقاه صلاح الدين بنواحي حلب، فانهزم غازي وجمعه - وكانوا ستة آلاف وخمس مائة - لم يقتل سوى رجل واحد، ثم سار صلاح الدين فأخذ منبج ثم نازل قلعة عزاز، ووثب عليه الإسماعيلية فجرحوه في خد، فأخذوا وقتلوا، وافتتح القلعة، ثم نازل حلب شهراً، ثم وقع الصلح: وترحل عنهم، وأطلق قلعة عزاز لولد السلطان نور الدين علي. وفيها توفي الفقيه الإمام المحدث البارع الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الواسع شيخ الإسلام. ومحدث الشام ناصر السنة قامع البدعة، زين الحافظ بحر العلوم الزاخر، رئيس المحدثين المقر له بالتقدم، العارف ألفاهر ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر، الذي اشتهر في زمانه بعلو شأنه، ولم ير مثله في أقرانه، الجامع بين المعقول والمنقول، والمميز بين الصحيح والمعلوم، كان محدث زمانه ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث واشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، رحل وطوف، وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً جمع بين معرفة المتون والاسانيد، سمع ببغداد في سنة عشر وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث محظوظاً على الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلداً، أتى فيه بالعجائب، وهوعلى نسق تاريخ بغداد.

قال الإمام ابن خلكان: قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - وقد جرى ذكر تاريخ ابن عساكر المذكور، وأخرج لي منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه. قال: ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع الإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها، وله تآليف حسنة غيره، وأخرى ممتعة، قال: وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل: ألا إن الحديث أجل علم ... وأشرفه الأحاديث العوالي وأنفع كل علم منه عندي ... وأحسنه الفوائد في الأمالي وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... محققه كأفواه الرجال فكن يا صاح ذا حرص عليه ... وخذه من الرجال بلا ملال ولا تأخذه من صحف فترمى ... من التصحيف بالداء العضال ومن المنسوب إليه أيضاً: أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا العزل تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل فياليت شعري ممن أكوان ... وما قدر الله لي في الأزل وقد التزم في هذه الأبيات ما لا يلزم، وهو اطراد الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة حيث يقول: شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل وليس بينهما إلا تغييريسير كما تراه. وقال بعض أهل العلم بالحديث والتواريخ: ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ فيه الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. قلت: بل من تأمل تصانيفه من حيث الجملة علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم، وفضائل تحتها من المناقب والمحاسن كل طائل. ومن تآليفه الشهيرة المشتملة على الفضائل الكثيرة كتاب: تبيين كذب المفتري فيما ذسب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري. جمع فيه بين حسن العبارة والبلاغة والإيضاح والتحقيق

واستعياب الأدلة النقلية وطرقها، مع إسناد كل طريق. وذكر فيه طبقات أعيان أصحابه من زمان الشيخ أبي الحسن إلى زمانه، وأوضح ماله من المناقب والمكارم والفضائل والعزائم ورد إلى من رماه وافترى عليه بالعظائم. قلت: وكتابه المذكور الذي وفق لإنشائه ووضعه، قد اختصرته أنا في نحو من ربعه وسميته: الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم. المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية، ذكر هو فيه قريباً من ثمانين إماماً من أعيان الأئمة الأشعرية، ووفيته فيما اختصرته مائة من الأئمة الجلة النقية، واختصاري له بحذف الأسانيد اختصاراً على ما هو المقصود والمراد من ذكر أعيان الأئمة المشهورين بالموافقة في الاعتقاد، والرد على المبتدعين أولي الزيغ والإلحاد. وكان ابن عساكر المذكور - رضي الله عنه - حسن السيرة والسريرة. قال الحافظ الرئيس أبو المواهب: لو أر مثله، ولا من اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة منذ أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع وتحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة إياها بعد ما عرضت عليه، وقلة الالتفات - أو قال -: عدم الالتفات إلى الأمراء، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المكنر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذكره الإمام الحافظ ابن النجار في تاريخه فقال: إمام المحدثين في وقته، ومن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة والثقة، وبه ختم هذا الشأن. وقال ابنه الحافظ أبو محمد القاسم: كان أبي - رحمه الله تعالى - مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم في كل جمعة، وفي شهر رمضان في كل يوم، ويحيي ليلة النصف للعيدين، وكان كثير النوافل والإذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة يذهب في غير طاعة. سمع من جماعة من المحدثين كثيرين نحواً من ألف وثلاث مائة شيخ وثمانين امرأة، وحدث بأصبهان وخراسان وبغداد وغيرها من البلاد، وسمع منه جماعة من كبار الحفاظ وخلق كثير وجم غفير. وقال الحافظ عبد القاهر الرهاوي: رأيت الحافظ السلفي والحافظ أبا العلاء الهمداني والحافظ أبا موسى المدني، فما رأيت فيهم مثل ابن عساكر رحمه الله تعالى. وفيها توفي السيد الفقيه الورع الزاهد أبو بكر بن سالم بن عبد الله من جبال اليمن،

سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة

استأذن عليه السلطان شمس الدولة، فتبرك بالسلام عليه واستسعد بالنظر إليه، وسأله الدعاء وأن يمسح له على بدنه. وفيها توفي جعدة العطاردي الإمام مجد الدين الفقيه الشافعي الأصولي الواعظ أبو منصور محمد بن أسعد - الطوسي - تلميذ الإمام البغوي، وراوي كتابيه: شرح السنة ومعالم التنزيل. دخل بلداناً كثيرة، وتفقه وبعد صيته في الوعظ، هكذا ذكر بعضهم. وقال ابن خلكان: كان فقيهاً فاضلاً واعظاً فصيحاً أصولياً، اشتغل على الإمام السمعاني، ثم على الإمام البغوي، وذكر تنقله إلى مرو، ثم إلى مرو روذ، ثم إلى بخارى، وعوده إلى مرو، وعقد مجلس الوعظ له بها، ثم انتقل إلى العراق، ثم إلى الموصل واجتمع الناس عليه بسبب الوعظ، وسمعوا منه الحديث، وأنشد يوماً على الكرسي من جملة أبياته: تحية صوب المزن يقرأها الرعد ... على منزل كانت تحل به هند تأت فأعرناها القلوب صبابة ... وعارية العشاق ليس لهارد وكانت مجالسه في الوعظ من أحسن المجالس. سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة فيها أمر السلطان صلاح الدين ببناء السور الكبيرالمحيط بمصر والقاهرة من البر، وطوله تسع وعشرون ألف ذراع وثلاث مائة ذراع بالقاسمي فلم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. وأنفق عليه أموالاً لا تحصى، وأمر أيضاً بإنشاء قلعة الجبل، ثم توجه إلى الاسكندرية، وسمع الحديث من السلفي. وفيها وقعة مقدم السودان المسمىبالكنز، جمع جيشاً بالصعيد، وسار إلى القاهرة في مائة ألف، فخرج له لحربه نائب مصر سيف الدولة، فالتقوا، فانكسر الكنز، وقتل في

سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة

المصاف من السودان، قيل: ثمانون ألفاً. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن الأموي العثماني الديباجي محدث الإسكندرية، وكان صالحاً متعففاً يقرىء النحو واللغة والحديث. وفيها توفي أبو الفضل قاضي القضاة ابن السهروردي، ومن جلالته أن السلطان صلاح الدين لما أخذ دمشق وتمنعت عليه القلعة أياماً مشى إلى دار القاضي أبي الفضل المذكور، فانزعج، وخرج ليلقاه فدخل وجلس وقال: طب نفساً، فالأمر أمرك والبلد بلدك. سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة فيها وقعة الرملة سار صلاح الدين من مصر، فسبى وغنم بلاد عسقلان، وسار إلى الرمل، فالتقى الفرنج، فحملوا على المسلمين وهزموهم، وثبت السلطان صلاح الدين وابن أخيه تقي الدين، ودخل الليل واحتوت الفرنج على العسكر بما فيه، وتمزق العسكر، وعطشوا في الرمال وأستشهدوا جماعة، وتحير صلاح الدين ونجا، وقتل ولد لتقي الدين عمره عشرون سنة، وأشر الأمير الفقيه عيسى الهكاري، وكانت نوبة صعبة، ونزلت الفرنج على حماة، وحاصرتها أربعة أشهر لاشتغال السلطان بلم سعث الجيش. وفيها توفي السلطان أرسلان السلجوقي، والوزير أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله، وكان جواداً سرياً معظماً مهيباً، خرج للحج في تجمل عظيم، فوثب عليه واحد من الباطنية فقتله فى أوائل ذي القعدة.

سنة اربع وسبعين وخمس مائة

وفيها توفي أبو محمد ابن المأمون الأديب هارون بن العباس العباسي المأموني البغدادي، صاحب التاريخ، وشرح أيضاً مقامات الحريري. سنة اربع وسبعين وخمس مائة فيها أخذ ابن قرابا الرافضي، ووجد في بيته يسب الصحابة، فقطعت يده ولسانه، ورجمته العامة، فهرب وسبح في الماء، فرموه بالآجر فغرق، فأخرجوه وأحرقوه. ثم ألحق ذلك بالتتبع على الرافضة، وأحرقت كتبهم، وانقمعوا حتى صاروا إلى ذلة اليهود، وتهيأ عليهم من ذلك ما لم يتهيأ ببغداد نحو مائتين وخمسين سنة. وفيها خرج نائب دمشق فرخ شاه ابن أخي السلطان، فالتقى الفرنج، فهزمهم وقتل مقدما لهم كان يضرب به المثل في الشجاعة. وفيها أطلق السلطان حماة عند موت صاحبها - خاله شهاب الدين - لابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه، وأطلق له أيضاً المعرة ومنبج وفاء منه، فبعث إليها نوابه. وفيها توفي حيص بيص أبو الفوارس سعد بن محمد التميمي الشاعر، وله ديوان معروف، وكان وافر الأدب متضلعاً من اللغة، بصيراً بالفقه والمناظرة. وقال الشيخ نصر الله بن محلي: - قال ابن خلكان: وكان من ثقات أهل السنة، رأيت في المنام علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه - فقلت له: يا أمير المؤمنين؛ يفتحون مكة ويقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم تم على ولدك الحسين ما تم، فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟!! فقلت لا، فقال: اسمعها منه. ثم استيقظت فبادرت إلى دار ابن الصيفي، فخرج إلي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني: ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح وحللتم قتل الأسارى وطال ما ... عدونا على الأسراء نعفوا ونصفح وحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه يرشح

سنة خمس وسبعين وخمس مائة

وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص؟! فبقي عليه هذا اللقب. ومعنى هاتين الكلمتين: الشدة والاختلاط. وفيها توفيت مسندة العراق شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج، الكاتبة العابدة الصالحة الدينورية الأصل، البغدادية المولد والوفاة. كانت من أهل كتبة الخط الجيد، وسمع عليها خلق كثير، وكان لها السماع العالي، ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر، سمعت من أبي الخطاب نصر بن أحمد بن النضر وأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن طلحة الثعالبي، وطراد بن محمد وآخرين واشتهر ذكرها وبعد صيتها، وكانت ذات بر وخير. والدينورية نسبة إلى دينور، قيل بكسر الدال المهملة. قال الحافظ أبو سعد السمعاني بفتحها. وقال ابن خلكان: الأصح الكسر: وهي بلدة من بلاد الجيل نسب إليها جماعة من العلماء. وفيها توفي القدوة المشار إليه بالصلاح والورع والعبادة وإجابة الدعوة أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي، قرأ العربية ولزم أبا بكر بن العربي مدة، وكان من أولياء الله تعالى الذين تذكر بالله رؤيتهم، وآثار مشهورة مشكورة، وكراماته موصوفة معروفة مع الحظ الوافر من الفقه والقراءات. وفها توفي السديد محمد بن هبة الله بن عبد الله السلماسي الفقيه الشافعي، كان إماماً في عسره، تولى الإعادة بالمدرسة النظامية ببغداد، وكان مسدداً في الفتيا، واتقن عدة فنون، وهو الذي شهر طريقة الشريف بالعراق، وقيل إنه كان يذكر بطريقة الشريف والوسيط والمستصفى للغزالي من غير مراجعة كتاب. قصده الناس من البلاد، واشتغلوا عليه، وانتفعوا به، وخرجوا علماء مدرسين مصنفين، من جملتهم الشيخان الإمامان عماد الدين محمد وكمال الدين موسى ولدا يونس، والشيخ شرف الدين أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر وغيرهم من الأفاضل والسلماسي بفتح السين المهملة واللام والميم وبعد الالف سين ثانية نسبة الى سلماس: وهي مدينة من " بلاد آذربيجان، تخرج به جماعة مشاهير. سنة خمس وسبعين وخمس مائة فيها نزل صلاح الدين على بانياس، وأغارت سراياه على الفرنج، ثم أخبر بجمع الفرنج وتهيئهم للمجيء، فبادر في الحال وكبسهم، فإذا هم في ألف قنطارية وعشرة آلاف راجل، فحملوا على المسلمين فثبتوا لهم، ثم حمل المسلمون عليهم فهزموهم، ووضعوا فيهم السيف وأسروا مائتين وستين - أسيراً، منهم مقدم لهم، فاستفك نفسه بألف أسير،

وبجملة من الما، وانهزم ملكهم جريحاً. وفيها جاء أرسلان صاحب الروم في عشرين ألفاً، فنهض إليه تقي الدين صاحب حماة وسيف الدين المسطور في ألف فارس، فكبسوا على الروميين، فركبوا خيولهم عري، ونجوا، وحوى تقي الدين الخيام بما فيها، ثم من على الأسرى بأموالهم وسرجهم. وفيها توفي المستضيء بأمر الله بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدي العباسي، وبويع بعد أبيه، وكان ذا دين وحلم وأناة ورأفة ومعروف زائد. قال ابن الجوزي: أظهر من العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا، وفرق مالاً عظيماً للهاشميين وفي المدارس، وكان ليس للمال عنده وقع، أو قال: قدر. انتهى كلامه. قيل: وكان يطلب ابن الجوزي، ويأمره بعقد مجلس الوعظ، ويجلس بحيث يسمع ولا يرى. وفي أيامه اختفى الرفض ببغداد ووهي، وأما بمصر والشام فتلاشى، وزالت دعوة العبيديين، وخطب له بديار مصر واليمن وبعض المغرب، وبويع بعده ابنه أحمد الناصر لدين الله. واليسع بن عيسى بن حزم الغافقي المقرىء، أخذ القراءات عن جماعة منهم أبوه، وأقرأ بالاسكندرية والقاهرة، وقربه صلاح الدين واحترمه، وكان فقيهاً مفتياً محدثاً، مقرئاً نساباً اخبارياً بديع الخط، وقيل: هو أول من خطب بالدعوة العباسية بمصر. وفيها توفي الحافظ أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الزبيري الدمشقي القاضي نزيل بغداد، صحب أبا النجيب السهروردي، وسمع من أبي الدر ياقوت الرومي وطائفة. وتوفي الحافظ المقرىء محمد بن خير الإشبيلي، فاق الأقران في ضبط القراءات وبرع في الحديث واشتهر بالإتقان وسعة المعرفة بالعربية. وفيها توفي الحافظ ابن أبي غالب الضرير، برع في الحديث حتى صار يرجع إلى قوله، وانتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه. وفيها توفي أبو الفضل منوجهر بن محمد الكاتب، كان أديباً فاضلاً مليح الإنشاء حسن الطريقة، روى عن جماعة المقامات عن الحريري.

سنة ست وسبعين وخمس مائة

وفيها توفي الأستاذ المقرىء المحقق يوسف بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن عباد، أخذ القراءات عن جماعة، وسمع عن خلق كثير، واعتنى بصناعة الحديث، وكتب العالي والنازل، وبرع في معرفة الرجال، وصنف التصانيف الكثيرة. سنة ست وسبعين وخمس مائة فيها نزل صلاح الدين على حمص من بلاد الأرمن، فافتتحه وهدمه، ثم رج، فوافاه التقليد وخلع السلطنة من الناصر لدين الله، فركب، وكان يوماً مشهوراً. وفيها قدم السلطان سيف الإسلام بن أيوب إلى بلاد اليمن مولى عليها بعد أخيه شمس الدولة. وفيها توفي القاضي الفقيه العالم الورع الزاهد محمد بن سعيد القريضي - اليمني اللحجي - بسكون الحاء المهملة وكسر الجيم - وكان موصوفاً بالفضائل والمحاسن، وله مصنفات حسنة منها: المستصفى في ذكر سنن المصطفى ومختصر الإحياء قيل إنه رأى صلى الله عليه وآله وسلم - فدعا له بالتثبيت. وفيها توفي القاضي ابن القاضي طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، تقلد ولاية القضاء في أيام شمس الدولة، ومات في شهفة - يوم الجمعة منتصف ذي الحجة. وفيها توفي أبو طاهر السلفي الحافظ العلامة الكبير مسند الدنيا. وفيها توفي معمر الحفاظ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصفاني. سمع من الثقفي وأحمد بن عبد الغفار ومكي - الإسلام وخلق كثير، وخرج عنهم في معجم، وحدث بأصبهان قال: وكنت ابن سبع عشرة سنة أو أكثر أو أقل، ورحل تلك السنة فأدرك بها أبا الخطاب وابن البطر ببغداد، وعمل معجماً لشيوخ بغداد، ثم حج وسمع بالحرمين والكوفة والبصرة وهمدان والزنجان والري والدينور وقزوين وأذربيجان والشام ومصر،

فأكثر وأطال، وتفقه فأتقن مذهب الشافعي، وبرع في الآدب وجود القرآن بروايات، وكان اشتغاله بالفقه على أبي الحسن الكيا، وفي اللغة على الخطيب يحيى بن علي التبريزي اللغوي، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار - وزير الظافر العبيدي صاحب مصر مدرسة في الإسكندرية، وفوضها إليه ومما وجه بخطه من قصيدة لمحمد بن عبد الجبار الأندلسي. لولا اشتغال بالأمير ومدحه ... لأطلت في ذاك الغزال تغزلي لكن أوصاف الجلال غلبنني ... فتركت أوصاف الجمال بمعزل واستوطن الإسكندرية بضعاً وستين سنة مكباً على الاشتغال والمطالعة والنسخ وتحصيل الكتب، وجاوز المائة بلا ريب، وإنما النزاع في مقدار الزيادة، ومات يوم الجمعة بكرة الخامس ربيع الآخر رحمه الله تعالى. وفيها توفي شمس الدولة الملك المعظم توران شاه بن أيوب بن شاذي، وكان أسن من أخيه صلاح الدين، وكان يحترمه ويتأدب معه. أرسله فغزا النوبة، فسبى وغنم، ثم بعثه فافتتح اليمن - وكانت بيد الخوارج الباطنية - وأقام بها ثلاث سنين، بعثه إليها لما بلغه أن باليمن، إنساناً يسمى عبد النبي بن مهدي يزعم أنه ينتشر ملكه حتى يملك الأرض كلها، وكان قد ملك كثيراً من بلاد اليمن واستولى على حصونها، وخطب لنفسه، فجهز صلاح الدين جيشاً إليها مع أخيه المذكور من الديار المصرية في رجب سنة تسع وستين وخمسمائة، فمضى إليها، ففتح الله على يديه، وقتل الخارجي المذكور الذي كان فيها، وملك معظمها، وأعطى وأغنى خلقاً كثيراً، وكان كريماً أريحياً، ثم اشتاق إلى أطيب الشام ونضارتها، وكان القاضي الفاضل يكتب إليه الرسائل الفائقة، ويودعها شرح الأشواق. وكانت له من أخيه إقطاعات، وتوابه باليمن يجبون له الأموال. ومات وعليه من الديون مائتا ألف دينار، فقضاها عنه أخوه صلاح الدين. ولما تزايد به الشوق قدم إلى الشام وأقام بدمشق نائباً لأخيه، ثم تحول إلى مصر فتوفي بالإسكندرية، فنقل إلى الشام، فدفنته أخته ست الشام بمدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبر ولدها حسام الدين، وكان قد تزوجها ناصر الدين، وتوفيت في ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة. وحكى الشيخ الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب - نزيل مصر قال: رأيت في النوم شمس الدولة وهو ميت، فمدحته بأبيات وهو في القبر، فلف كفنه ورماه إلي

وأنشدني: لا تستقلن معروفاً سمحت به ... ميتاً فأمسيت منه عارياً بدني ولا تظنن جودي شأنه بخل ... من بعد بذلي ملك الشام واليمن إني خرجت من الدنيا وليس معي ... من كل ما ملكت كفي سوى كفني وتوران بضم المثناة من فوق وبعد الواو راء - ومعنى توران شاه: ملك الشرق. وفيها توفي أبو المفاخر المأموني راوي صحيح مسلم بمصر: سعيد بن الحسن العباسي، روى الحديث هو وابنه وحفيده ونافلته. قلت: هكذا قال الذهبي مغايراً بين الحفيد والنافلة، والمعروف اتحادهما، وهما ولدا ولد، نعم قد قيل أيضاً أن الحفدة يطلقون على الأعوان والخدم. وفيها توفي أبو الحسن بن عطار النحوي علي بن عبد الرحمن السلمي، كان علامة اللغة وحجة في العربية. وفيها توفي أبو العز محمد بن محمد المعروف بابن الخراساني البغدادي الأديب صاحب العروض والنوادر وديوان شعر في مجلدات. كان صاحب طرف وذكاء مفرط وتفنن في الأدب، روى عن جماعة. وفيها توفي صاحب الموصل غازي بن زنكي، كان منطوياً على خير وصلاح، يحب العلم وأهله، وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة، وقدم مع سيف الإسلام إلى اليمن. وفي هذه السنة أو بعدها توفي الفقيه الفاضل القاضي أثير الدين قاضي قضاة المسلمين باليمن، وسمع عليه الشهاب وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وسمعه وهو ابن ثلاث سنين، سمعه عليه جماعة. قال ابن سمرة: كنت فيهم. ثم غضب عليه السلطان سيف الإسلام، وحمله رسالة إلى بغداد في صورة طرد وإبعاد، ثم رجع إلى مكة وكتب إلى سيف الإسلام سلطان اليمن: وما أنا إلا المسك ضاع عندكم ... يضيع وعند الأكرمين يضوع وفيها توفي - وقيل في سنة تسع - أبو الفضل الشيخ الإمام - رضي الله عنه - الموصلي الشافعي يونس بن محمد بن منعة رضي الدين والد الشيخين: عماد الدين أبي حامد محمد، وكمال الدين أبي الفتح موسى. تفقه الشيخ يونس على الحسين بن نصير السكبي الجهني

الملقب تاج الإسلام في الموصل حين قدمها، وكان أصله من أهل إربل، ثم انحدر إلى بغداد، وتفقه بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد مدرس النظامية، ثم أصعد إلى الموصل، فصادف بها قبولاً تاماً عند المتولي بها الأمير أبي الحسن - والد الملك المعطم - وجعل إليه تدريس مسجده، وفوض نظره إليه، وكان يدرس ويناظر ويفتي، فقصده الطلاب للاشتغال عليه والمباحثة مع ولديه المذكورين، ولم يزل على قدم الفتوى والتدريس والمناظرة إلى أن توفي بالموصل في السنة المذكورة. وكانوا بيت علم، خرج من بينهم جماعة من الفضلاء، وانتفع بهم أهل تلك البلاد وغيرها، وكانوا مقصودين من بلاد العراق والعجم وغيرها. وفيها توفي سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ين أقسنقر صاحب الموصل، تقلد المملكة بعد وفاة أبيه مودود، ولما توفي والده بلغ الخبر نور الدين، فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل، فوصل إلى الرقة في المحرم سنة ست وستين وخمس مائة وملكها، وسار منها إلى نصيبين، فملكها في الشهر المذكور، وأخذ سنجار في ربيع الآخر، ثم قصد الموصل، وقصد أن لا يقاتلها، فعبر بعسكره من محاصة - وهي بليدة بقرب الموصل - وسار حتى خيم قبالة الموصل، وراسل ابن أخيه سيف الدين المذكور، وعرفه صحة قصده، فصالحه، ودخل الموصل وأقر صاحبها فيها، وزوجه ابنته، وأعطى أخاه عماد الدين سنجار، وخرج من الموصل وعاد إلى الشام، ودخل حلب في شعبان من السنة المذكورة، فلما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق، نزل على حلب فحاصرها، وسير سيف الدين جيشاً مقدمه أخوه عز الدين مسعود، والتقوا عند قرون حماة، فانكسر عز الدين بن مسعود، فتجهز سيف الدين بنفسه، فخرج إلى لقائه وتصافا على تل السلطان بين حلب وحماة - سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فانكسرت ميسرة صلاح الدين بمظفر الدين بن زين الدين فإنه كان في ميمنة سيف الدين - ثم حمل صلاح الدين بنفسه، فانهزم جيش سيف الدين وعاد إلى حلب، ثم رحل إلى الموصل، ولما توفي سيف الدين تولى بعده أخوه عز الدين مسعود.

سنة سبع وسبعين وخمس مائة

وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو الجاه الواسع المعروف بمدافع. سنة سبع وسبعين وخمس مائة فيها توفي الملك الصالح أبو الفتح اسماعيل ابن السلطان نور الدين محمود بن زنكي ختنه أبوه، فزينت دمشق، وعمل وقتاً باهراً، ثم مات أبوه بعد ختانه بأيام، فأوصى له بالسلطنة، فلم يتم له ذلك، وبقيت له حلب، وكان شاباً ديناً عاقلاً محبباً إلى أهل حلب إلى الغابة، بحيث إنهم قاتلوا صلاح الدين قتال الموت لما جاء ليتملكها، وما تركوا شيئاً من مجهودهم، ولما توفي أقاموا عليه المآتم، وبالغرا في النوح والبكاء عليه، وفرشوا الرماد في الطرق وكان عمره تسع عشرة سنة، وأوصى بحلب ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود، فجاء وتملكها. وفيها توفي كمال الدين بن الأنباري العبد الصالح أبو البركات عبد الرحمن بن محمد. كان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو، وتفقه في مذهب الإمام الشافعي بالمدرسة النظامية، وتصدرلإقراء النحوواللغة، وأخذ اللغة عن أبي منصور بن الجواليقي، والنحو عن أبي السعادات هبة الله بن السجزي الآتي ذكر فضله - إن شاء الله تعالى - وأخذ عنه، وانتفع بصحبته في علم الأدب، واشتغل عليه خلق كثير وصاروا علماء، وصنف في النحو كتاب أسرار العربية، وهو كتاب سهل المأخذ كثير الفائدة وله كتاب الميزان في النحو أيضاً، وكتاب في طبقات الأدباء جمع فيه بين المتقدمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتبه كلها نافعة، وكان نفسه مباركاً ما قرأ عليه أحد إلا وتميز، ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلاً بالعلم العبادة، وترك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة زاهداً عابداً. وكانت ولادته في سنة ثلاث عشرة وخمس مائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. والأنبار: بلدة قديمة على الفرات بينها ويين بغداد عشرة فراسخ. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الفتح عمر بن علي ابن الشيخ محمد بن حمويه الجويني الصوفي، روى عن جده الفراوي، وجماعة، ونصبه نور الدين شيخ الشيوخ بالشام، وكان وافر الحرمة. سنة ثمان وسبعين وخمس مائة فيها سار صلاح الدين فافتتح حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبصرة،

ونازل الموصل، ولم يظفر بها لحصانتها، ثم جاء رسول الخليفة يأمره بالترحل عنها، فرحل عنها، ورجع، فأخذ عز الدين مسعود، وعوضه بسنجار. وفيها لبس لباس الفتوة الناصر لدين الله من شيخ الفتوة عبد الجبار، وابتهج بذلك، وبقي يلبس الملوك. وفيها بعث صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بذلك - بالطاء المهملة والغين المعجمة والمثناة من فوق قبل الكاف ومن تحت بعدها ثم النون - على مملكة اليمن، فدخلها وتسلمها من نواب أخيه. وفيها توفي أبو الكرم هبة الله بن علي الأنصاري الخزرجي المصري المعروف بالبوصيري، كان أديباً كاتباً، له سماعات عالية وروايات تفرد بها، والحق الأصاغر بالأكابر في علو الإسناد، ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله. سمع بقراءته جماعة من الكبار، ورحل إليه الطلاب من الأمصار. قال الذهبي. وفيها توفي أحمد بن الرفاعي الزاهد القدوة أبو العباس بن علي بن يحيى كان أبوه قد نزل بالبطائح، بالعراق بقرية أم عبيدة، فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، فولدت له الشيخ أحمد في سنة خمس مائة، وتفقه قليلاً على مذهب الشافعي، وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة، والذل والانكسار والارزاء على نفسه، وسلامة الباطن. ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتحدرت لهم أحوال شيطانية من دخول النيران والركوب على السباع واللعب بالحيات، وهذا ما عرفه الشيخ والأصلحاء أصحابه - فنعوذ بالله من الشيطان. قلت: هذه ترجمة الذهبي عليه في كتابه الموسوم بالعبر، ولم يزد على هذا، وهذا من العجائب في اقتصاره على هذا في ذكر شيخ الشيوخ الذي ملأت شهرته بالمشارق والمغارب، تاج العارفين، وإمام المعرفين، ذي الأنوار الزاهرة، والكرامات القاهرة، والمقامات العلية والأحوال السنية، والبركات العامة، والفضائل الشهيرة بين الخاصة والعامة: أحمد بن أبي الحسن الرفاعي. وقد ذكرت شيئاً من كراماته ومحاسنه في كتابي الموسوم بروض الرياحين، وفي كتاب الموسوم بالأطراف، وهو كما ترجم عليه بعض العلماء الفضلاء المعتقدين في المشايخ والفقراء حيث قال فيه: هو من أجل العارفين وعظماء المحققين وصدور المقربين، صاحب المقامات العلية والأحوال السنية، والأفعال الخارقة. والأنفاس الصادقة، والفتح المؤنق والكشف المشرق، والقلب الأنور والسر الأظهر والقدر الأكبر، والمعارف الباهرة والحقائق الظاهرة، واللطائف الشريفة والهمم

المنيفة، والقدم الراسخ في التصريف الناقد، والباع الطويل في أحكام الولاية، خرق الله على يديه العوائد، وقلب له الأعيان، وأظهر العجائب، فله مجلس القرب في الحضرة الشريفة، ورفيع المقام والقبول العظيم عند الخاص والعام، عطرت بذكره الآفاق والأقطار، ولاح منه نور الفلاح، واستطار صيته في الوجود استطارة النار بالرياح. قلت: ومن كراماته ما روى ابن أخته الشيخ الجليل أبو الحسن علي قال: كنت يوماً جالساً عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد رضي الله تعالى عنه، وليس فيها غيره، وسمعت عنده حساً، فنظرت فإذا عنده رجل ما رأيته قبل، فتحدثا طويلاً، ثم خرج الرجل من كوة في حائط الخلوة ومر في الهوى كالبرق الخاطف، فدخلت على خالي وقلت له: من الرجل؟ فقال له: أو رأيته؟. قلت: نعم، قال: هو الرجل الذي يحفظ الله - عز وجل - به قطر البحر المحيط، وهو أحد الأربعة الخواص، إلا أنه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم. فقلت له: يا سيدي؛ ما سبب هجره؟ قال: إنه مقيم بجزيرة في البحر المحيط، ومنذ ثلاث ليال أمطرت جزيرته حتى سالت أوديتها، فخطر في نفسه: لو كان هذا المطر في العمران، ثم استغفر الله تعالى، فهجر بسبب اعتراضه. فقلت له: أعلمته؟ قال: لا، إني استحييت منه، فقلت له: لو أذنت لي لأعلمته، فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم، فقال: رنق، فرنقت، ثم سمعت صوتاً: يا علي، ارفع رأسك، فرفعت رأسي من رنقي، فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط فتحيرت في أمري، وقمت أمشي فيها فإذا بذلك الرجل، فسلمت عليه وأخبرته، فقال: ناشدتك الله ألا فعلت ما أقول لك، قلت: نعم، قال: ضع خرقتي في عنقي، واسحبني على وجهي، وناد علي، هذا جزاء من تعرض على الله سبحانه. قال: فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه، وإذا هاتف يقول: يا علي، دعه فقد ضجت عليه ملائكة السماء باكية عليه وسائلة فيه، وقد رضي عنه. قال: فأغمي علي ساعة، ثم سري عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته. والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. قلت وقد اقتصرت على ما يسمع من كراماته في هذه القضية الفردة من بين ما لا يحصى، ولا يستطيع من رام ذلك عده. قال الإمام ابن خلكان: كان شافعي المذهب، أصله من العرب وسكن في البطائح في قرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالبطائحية والرفاعية من الفقراء منسوبة إليه. قال: ولأتباعه أحوال عجيبة في الحيات والنزول في التنانير وهي تضطرم بالنار فيطفئونها، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل منهم، وأمورهم مشهورة مستفيضة، فلا حاجة إلى الإطالة. وذكر أصحابه وأتباعه ذكراً جميلاً يدل على حسن اعتقاده في الفقراء من حيث الجملة، وحمل أحوالهم على السداد خلافاً لما قدمته عن الذهبي من الطعن فيهم وسوء الاعتقاد. قال ابن خلكان: وكان للشيخ أحمد - على ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة - شعر، فمنه على ما قيل: هـ. قال: فأغمي علي ساعة، ثم سري عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته. والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. قلت وقد اقتصرت على ما يسمع من كراماته في هذه القضية الفردة من بين ما لا يحصى، ولا يستطيع من رام ذلك عده. قال الإمام ابن خلكان: كان شافعي المذهب، أصله من العرب وسكن في البطائح في قرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالبطائحية والرفاعية من الفقراء منسوبة إليه. قال: ولأتباعه أحوال عجيبة في الحيات والنزول في التنانير وهي تضطرم بالنار فيطفئونها، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل منهم، وأمورهم مشهورة مستفيضة، فلا حاجة إلى الإطالة. وذكر أصحابه وأتباعه ذكراً جميلاً يدل على حسن اعتقاده في الفقراء من

حيث الجملة، وحمل أحوالهم على السداد خلافاً لما قدمته عن الذهبي من الطعن فيهم وسوء الاعتقاد. قال ابن خلكان: وكان للشيخ أحمد - على ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة - شعر، فمنه على ما قيل: إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوق وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحتي بحار للهوى تتدفق سلوا أم عمر وكيف بات أسيرها ... تفك الأسارى دونه وهو موثق فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطاق قال: ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين. والرفاعي بكسر الراء نسبة إلى رجل من العرب يقال له رفاعة، قال: هكذا نقلته من خط بعض أهل بيته، بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الهاء دال مهملة - وهي عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط وبصرة، ولها في العراق شهرة. انتهى. قلت: وذكر غيره أن الأبيات المذكورة سمعها الشيخ سيدي أحمد المذكور من القوال، وكانت سبب موته. وفي مناقبه وما اتصف به من المحاسن والآداب والكرامات العظام مصنف لبعض الأئمة الأعلام، وهو السيد الجليل المعروف بابن عبد المحسن الواسطي. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ محدث الأندلس ومؤرخها ومسندها أبو القاسم بن بشكوال خلف بن عبد الملك الخزرجي الأنصاري القرطبي. كان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، منها كتاب الصلة الذي جعله ذيلاً على تاريخ علماء الأندلس تصنيف القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد المعروف بابن الفرضي، وقد جمع فيه خلقاً كثيراً، وله كتاب صغير في أحوال الأندلس - وما أقصر فيه - وكتاب الغوامض والمبهمات، وذكر فيه من جاء ذكره مبهماً في الحديث، فعينه ونسج فيه على منوال الخطيب البغدادي الذي وضعه على هذا الأسلوب، وجزء لطيف ذكر فيه من روى الموطأ عن أنى بن مالك - كذا في الأصل الذي وقفت عليه. من تاريخ ابن خلكان، عن أنى بن مالك - ولم يقل: مالك بن أنس، فإن أراد رواة الموطأ عن أنس بن مالك الصحابي فهو صحيح. وقال: ورتب أسماءهم على حروف المعجم فبلغت عدتهم ثلاثاً وسبعين رجلاً. ومجلد لطيف سماه:

سنة تسع وسبعين وخمس مائة

كتاب المستعين بالله تعالى عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات والدعوات وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات، وله غير ذلك من المصنفات. وفيها توفي خطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي ثم البغدادي. قال ابن النجار: قرأ الفقه والأصول على الكبار وأبي بكر الشاشي، والأدب على أبي زكريا التبريزي، وولي خطابة الموصل زماناً، وتفرد في الدنيا وقصده الرحالون. وفيها توفي الفقيه العلامة أبو المعالي مسعود بن محمد النيسابوري، تفقه على محمد ابن يحيى صاحب الغزالي، وتأدب على أبيه، وسمع من جماعة، وبرع في الوعظ وحصل له القبول ببغداد، ثم قدم دمشق ودرس بالمجاهدية والغزالية، ثم خرج إلى حلب ودرس بالمدرستين اللتين بناهما نور الدين وأسد الدين، ثم ذهب إلى همدان ودرس بها، ثم عاد إلى دمشق ودرس بالغزالية وانتهت إليه رئاسة المذهب بدمشق، وكان حسن الأخلاق قليل التصنع. مات في سلخ رمضان ودفن يوم العيد، وكان عالماً صالحاً ورعاً، صنف كتاب الهادي في الفقه - وهو مختصر نافع -، لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى. سنة تسع وسبعين وخمس مائة فيها توفي بوري - بضم الموحدة وكسر الراء - ابن أيوب بن شاذي، الملقب بتاج الملك، أخو السلطان صلاح الدين، وهو أصغر أولاد أبيه. قال ابن خلكان: كانت فيه فضيلة، وله ديوان شعر فيه الغث والسمين، ولكنه بالنسبة إلى مثله جيد. ومما نقل عنه من الشعر: ياحياتي حين ترضى ... ومماتي حين تسخط آه من ورد على خديه بالمسك منقط ... بين جفنيك سلطان على ضعفي مسلط قد تصبرت وإن ... برح بي الشوق وأفرط فلعل الدهر يوماً ... بالتلاقي منك يغلط ومنه أيضاً: أيا حامل الرمح الشبيه بقده ... ويا شاهراً سيفاً حكى لحظة غضبا ضع الرمح واغمد ما سللت فربما ... قتلت، وما حاولت طعناً ولا ضربا

ومنه أيضاً: أقبل من أعشقه راكباً ... من جوانب الغور على أشهب فقلت: سبحانك يا ذا العلي ... أشرقت الشمس من الغرب قلت: وجميع أشعاره هذه ليس فيها شيء من الغث الذي ذكر عنه، بل كلها من السمين الحسن المنبىء عن فضيلة اللسن. وكان موته من جراحه أصابته في مدينة حلب يوم حاصرها أخوه صلاح الدين، وكانت طعنة في ركبتي. قال: العماد الأصبهاني في البرق الشامي: بينما صلاح الدين جالس في سماط قد أعده في المخيم ضيافة بعد الصلح، وعماد الدين صاحب حلب إلى جانبه، ونحن في أغبط عيش وأتم سرور، إذ جاء الحاجب إلى صلاح الدين وأسر إليه بموت أخيه، فلم يتغير عن حالته، وأمر بتجهيزه ودفنه سراً وأعطى الضيافة حقها إلى آخرها. ويقال أنه كان يقول: ما أخذنا حلب رخيصة بقتل تاج الملك. وفيهل توفي قاضي زبيد الإمام الفاضل البارع المجود علي بن حسين السيري - بفتح السين المهملة وسكون المثناة من تحت وكسر الراء قرية مصيرة - بضم الميم وفتح الصاد المهملة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء - بمخلاف الساعد قافلاً من مكة. وكان مع فضله ورعاً نظيفاً، تفقه على شيوخ زبيد، وأجمع على تفضيله الموالف والمخالف، ويقال إنه أجاب عن ألف مسألة وردت عليه من التعنت التي يمنحه به أهل زبيد على يد القاضي ابن النجاب. قال ابن سمرة في تاريخه؛ ولقد سمعت من بعض المشايخ السادة بشواحط، يعني؛ في جبال اليمن مكاناً يذكر من بعض فضائله وكرمه ما يتعجب منه السامع ويقصر عن بلوغه الطامع، مع ديانته وأمانته. وفيها وقيل بل في سنة ست كما تقدم توفي الإمام رضي الدين يونس الموصلي الشافعي. وفيها توفيت الشيخة الفاضلة تقية بنت غيث - بالغين المعجمة ثم المثناة من تحت ثم المثلثة - ابن علي السلمي الصوري. صبحت الحافظ أبا طاهر محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني - وكانت فاضلة ولها شعر جيد - ذكرها في بعض تعاليقه وأثنى عليه، وكتب بخطه: عثرت في منزل سكناي فانجرح أخمصي، فشقت وليدة في الدار خرقة من خمارها وعصبته، فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها:

لو وجدت السبيل جدت بخدي ... عوضاً من خمار تلك الوليدة كيف لي أن أقبل اليوم رجلاً ... سلكت دهرها الطريق الحميدة قال ابن خلكان: وحكى الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري أنها نظمت قصيدة تمدح بها الملك المظفر عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين - وكانت القصيدة خمرية - وصفت بها آلة المجلس وما يتعلق بالخمر، فلما وقف عليها قال: الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمن صباها. فبلغها ذلك، فنظمت قصيدة أخرى حربية وصفت فيها الحرب وما يتعلق بها أحسن وصف، ثم سيرت بها إليه تقول: علمي بتلك كعلمي بهذه. وكان قصدها براءة ساحتها مما نسبها إليه في صباها. وفيها توفي أبو عبد الله محمد المعروف بالأبله البغدادي الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة، وله ديوان شعر كثير الوجود بأيدي الناس، ذكره العماد الأصبهاني فقال: هو شاب ظريف يتزي بزي الجند، رقيق أسلوب الشعر حلو الصناعة رائق البراعة، عذب اللفظ أرق من النسيم السحري وأحسن من الوشي التستري، وكل ما ينظمه ولو أنه يسير والمغنون يغنون برانقات أبياته فهم يتهافتون على نظمه المطرب تهافت الطير الحوم على عذب المشرب. ومن رقيق شعره: دعني أكايد لوعتي وأعاني ... أين الطليق من الأسير العاني آليت لا أدع الملام بعزتي ... من بعد ما أخذ الغرام عناني أولى تروض العاذلات وقد أرى ... روضات حسن في خدود حسان ولدي يلتمس السلو ولم يزل ... حي الصبابة ميت السلوان يا برق إن تجفو العقيقوطالماأغنته عنكسحائب الأجفان في قصيدة له طويلة وله من أخرى لئن وقرت يوماً بسمعي ملامة ... لهند فلا عقب الملامة في هند ولا وجدت عيني سبيلاً إلى البكا ... ولا بت في أصل الصبابة والوجد وبحت بما ألقى ورحت مقابلاً ... سماحة مجد الدين بالكفر والجحد

سنة ثمانين وخمس مائة

سنة ثمانين وخمس مائة فيها نازل صلاح الدين الكرك، ونصب عليها المجانيق، فجاءتها نجدات الفرنج، فرأى أن حصارها يطول، فسار وهجم نابلو، فنهب وسبى. وفيها أخذ كحلان - بضم الكاف وسكون الحاء المهملة - وأخرج منه أهله، وعقد في ولايته للشريف مهدي بن أسعد بن عبد الصمد الجوالي. وفيها توفي السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن القيسي صاحب المغرب، كان أبوه قد جعل الأمر بعده لولده محمد، وكان طياشاً شريباً للخمر، فخلعه الموحدون واتفقوا على أبي يعقوب، وكان حلو الكلام ومليح المفاكهة، بصيراً باللغة وأيام الناس، قوي المشاركة في الحديث والقرآن وغير ذلك. وقيل إنه كان يحفظ أحد الصحيحين، وكان سخياً جواداً، هماماً فقيهاً حافظاً، لأن أباه هذبه، وقرن به أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأ في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء، أولى التحقيق والإتقان، وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جماعاً مناعاً ضابطاً بخراج مملكته، عارفاً بسياسة رعيته، وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام، وقد فوض الأمر إليهم لما علم من صلاحهم لذلك. والدنانير اليوسفية منسوبة إليه. فلما تمهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه دخل إلى جزيرة الأندلس، فكشف مصالح دولته، وتفقد أحوالها، وفي صحبته مائة ألف فارس من المغرب، أو قال: من العرب والموحدين، ثم أخذ في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، - وكانوا قد استولوا عليها - فاتسعت مملكة الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية، وفتح مدينة قفص، ثم دخل جزيرة الأندلس في سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها، فحاصر العدو هنالك شهراً، واصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وكان قد استخلف ولده يعقوب، وقيل: إنه لم يستخلف، بل اتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد

سنة احدى وثمانين وخمس مائة

المؤمن على تملكه، فملكوا. وذكر بعض المؤرخين أنه افتتح الأندلس وغيرها، وتهيأ له من ذلك ما لا يتهيأ لأبيه، وهادن ملك صقلية على جزية تحملها، وكان يملي أحاديث الجهاد بنفسه على الموحدين، فتجهز لغزو النصارى، واستنفر في سنة تسع وسبعين ودخل الأندلس، ثم تكلموا في الرحيل، فتسابق الجيش حتى بقي أبو يعقوب في قلة من الناس، فانتهزت الفرنج الفرصة، وخرجوا فحملوا على الناس فهزمزهم، وأحاطت الفرنج بالمخيم فقتل على بابه طائفة من أعيان الجند وخلصوا إلى أبي يعقوب، وطعن في بطنه، ومات بعد أيام يسيرة في رجب، وبايعوا ولده يعقوب. سنة احدى وثمانين وخمس مائة فيها نازل صلاح الدين الموصل، وكانت قد سارت إلى خدمته ابنة الملك نور الدين محمود زوجة عز الدين - صاحب البلد - وخضعت له، فردها خائبة وحصر الموصل، فبذل أهلها نفوسهم وقاتلوا أشد قتال، فندم وترحل عنهم لحصانتها، ثم نزل على ميافارقين، فأخذها بالأمان، ثم رد إلى الموصل وحاصرها أيضاً، ثم وقع الصلح على أن يخطبوا له وأن يكون صاحبها طوعه، وأن يكون لصلاح الدين شهرزور وحصونها، ثم رحل فمرض واشتد مرضه بحران حتى أرجفوا بموته، وسقط شعر لحيته ورأسه. وفيها هاجت الفتنة العظيمة بين التركمان وبين الأكراد في الجزيرة، وقتل من الفريقين خلق لا يحصون. وفيها توفي صدر الإسلام أبو الطاهر اسماعيل بن بكر المعروف بابن عوف الزهري الإسكندراني المالكي. تفقه على أبي بكر الطرطوسي، وسمع منه ومن أبي عبد الله الرازي. برع في المذهب وتخرج به الأصحاب، وقصده السلطان صلاح الدين وسمع منه الموطأ. وعاش ستاً وتسعين سنة. وفيها توفي البهلول محمد شمس الدين صاحب أذربيجان وعراق العجم، ويقال: كان له خمسة آلاف مملوك. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والأحوال الفاخرة والأنوار القاهرة، والمقامات العالية والمناقب السامية، والمواهب الجزيلة والأوصاف الجميلة، والطور العالي، في الحقائق والمعراج الرفيع في المعارج، والترقي في

درجات السابقين والسبق إلى منازل المقربين: حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنه - كان من أجلاء المشايخ العارفين وأعيان الصفوة المحققين، أحد أركان هذا الشأن وعلم العلماء الأعيان، صاحب التصريف النافذ في الوجود، والقدم الراسخ وعظيم الفضل النابع من عين الوجود، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الشيخ أبو الحسن القرشي: إن أربعة من المشايخ يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء: الشيخ معروف الكرخي، والشيخ عبد القادر الجيلي، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - انتهت إليه رئاسة هذا الأمر علماً وحالاً وزهداً واجلالاً، تزكى في تربيته كثير من المريدين بالرياضات، وتخرج بصحبته غير واحد من أهل المقامات، وتلمذ له جماعة كثيرة من أصحاب الأحوال والكرامات، وأشار إليه المشايخ والعلماء وغيرهم بالتبجيل، وانتهى إليه عالم عظيم ونال العطاء الجزيل. ومن كلامه رضي الله عنه: قيمة القشور بلبابها وقيمة الرجال بألبابها، وعز العبيد بأربابها وفخر المحبة بأحبابها. ثم قال: آثار المحبة إذا بدت أماتت قوماً وأحيت أسراراً، ونفت أشراراً وأنارت أسراراً. ثم أنشد: وإذا الرياحمع العشي تناوحتأسهرن حاسده وهجن غيورا وأمتن ذا بوجود وجد دائم ... وأقمن ذا، وكشفن عنه ستورا ومنه المحبة تعلق القلب بين الهيبة والأنس، وهي سمة الطائفة وعنوان الطريقة، ووسيلة إلى رؤية المحبوب وهيمان إلى لقاء المطلوب. وكان رضي الله تعالى عنه يتمثل بهذه الأبيات: مواجيد حق، أوجد الحق كلها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر وما الحب إلا خطرة ثم نظرة ... ينشي لهيباً بين تلك السرائر إذا سكن السر السريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال لأهل البصائر فحال بعيد السر عن كنه وجده ... ويحضره للشوق في حال حائر حاول به رمت ذرى السر وانثنت ... إلى منظراً فناه عن كل ناظر قلت هكذا في الاصل ثلاثة أحوال، والمفسر منها حالان دون الثلاث. وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات وعجائب الآيات ما يذهل العقول وذكر اليسير منه يطول. من ذلك ما حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال: سافرت مرة من اليمن في البحر المالح، فلما توسطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كل جانب، وانكسرت بنا السفينة، فنجوت على لوح منها، فألقاني إلى جزيرة، فطفت فيها،

فلم أر فيها أحداً، وإذا هي كثيرة الخيرات. رأيت فيها مسجداً فدخلته فإذا فيه أربعة نفر، فسلمت عليهم فردوا علي السلام، وسألوني عن قصتي فأخبرتهم، وجلست عندهم بقية يومي ذلك، فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيماً. فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني فقاموا يبادرون إلى السلام عليه، فتقدم وصلى بهم العشاء، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إلهي؛ لا أجد لي في سواك مطمعاً، ولا إلى غيرك منتجعاً، قد أنخت ببابك ناظراً إلى حجابك، متى تكشف لي عن تفريج الكربة، والترقي إلى مجلس القرية، وقد أوثقت نفسي عن السرور بك فوسمتها بذكرك، ولي فيها كوامن أفراح ترتاح إليها صبابات أشواقي، ولي معك أحوال سيكشفها اللقاء يا حبيب التائبين، ويا سرور العارفين، ويا قرة عين العابدين، ويا أنس المنفردين، ويا حرز اللاجين ويا ظهر المنقطعين، ويا من حنت إليه قلوب الصديقين، ويا من أنست به أفئدة المحبين، وعليه عكفت همة الخاشعين. ثم بكى بكاء شديداً، ورأيت الأنوار قد حفت بهم وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر، ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول: سير المحب إلى المحبوب إعجال ... والقلب فيه من الأحوال بلبال أطوي المهامة من قفر على قدم ... إليك يدفعني سهل وأجبال فقال ولي أولئك النفر: اتبع الشيخ، فتبعته، وكانت الأرض برها وبحرها وسهلها وجبلها يطوي تحت أقدامنا طياً. كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول: يا رب حيوة كن لحيوة، وإذا نحن بحران في أسرع وقت، فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح. سكن حران واستوطنها إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن زكريا المدرس في الشويرا: بضم الشين المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفتح الراء من بلاد اليمن. توفي وله ولد خلفه يفضل عليه في العلم، خلفه في التدريس اسمه ابراهيم، تفقه بأبيه المذكور، وكان يختم في رمضان في كل يوم وليلة. وفيها توفي المهذب بن الدهان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي ذو الفنون. توفي بحمص وكان مدرسايها. وفيها توفي الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط، أحد الاعلام، مؤلف الأحكام الكبرى، والصغرى، والجمع بين الصحيحين،

وكتاب الغريبين في اللغة، وكتاب الجمع بين الكتب الستة. نزل ببجاية، وولي خطابتها، وتوفي بها بعدما لحقه محنة من الدولة، وكان مع جلالته في العلم قانعاً متعففاً موصوفاً بالصلاح والورع ولزوم السنة. وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة المشهور أبو زيد عبد الرحمن ابن الخطيب عبد الله ابن الخطيب أحمد الخثعمي السهيلي الأندلسي المالقي صاحب كتاب الروض الأنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الله تعالى في المنام ورؤية النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة السر في أعور الدجال، ومسائل كثيرة مفيدة وقال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها: يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقهفي قول كنامنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع؟ من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع؟ حاشا لمجودك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع قلت: قوله: فإن الخير عندك أجمع: يحتاج إلى تأويل في إعرابه، والإلزم أن يكون من الإقواء المعيب في الشعر، فإن أجمع تأكيد للخير وهو منصوب فيكون منصوباً وله أشعار كثيرة نافية، أخذ القراءة عن جماعة، وروى عن ابن العربي والكبار، وبرع في العربية والنحو واللغة وفي الأخبار والآثار. وكان ببلده يتصف بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف، حتى نما خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليها وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام، وتوفي بها. والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها. ومالقة: بفتح الميم واللام والقاف مدينة كبيرة بالأندلس. وغلط السمعاني في قوله أنها بكسر اللام.

سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة

وفيها توفي الحافظ أبو موسى محمد بن عمر المعروف بالمديني صاحب التصانيف. سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة قال العماد الكاتب: أجمع المنجمون في هذا العلم في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب السبعة في الميزان بطوفان الريح، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم، فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الماء والأزواد وتهيؤوا، فلما كانمت الليلة التي عينها المنجمون بمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان والشموع توقد ولم يتحرك ولم تر ليلة مثلها في ركودها. وقال محمد بن القادسي: فرش الرماد في أسواق بغداد، وعلقت المسوح يوم عاشوراء، وناح أهل الكرخ، وتعدى الأمر إلى سب الصحابة، وكانوا يصيحون به ما بقي كتمان. وقالى غيره: وقعت فتنة ببغداد بين الرافضة والسنية قتل فيها خلق كثير، وكان ذلك منسوباً إلى الصاحب الملقب بمجد الدين. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله المقدسي ثم المصري النحوي صاحب التصانيف، روى عن طائفة، وانتهى إليه علم العربية في زمانه، وقصد من البلاد لتحقيقه وتبحره، وكان يتحدث ملحوناً ويتبرم ممن يخاطبه بإعراب. ويحكى عنه حكايات في سذاجة الطبع، يأخذ في كمه العنب مع الحطب والبيض، فيقطر على رجله ماء العنب فيرفع رأسه ويقول: هذا من العجب، يمطر مع الضحو. سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة فيها افتتح صلاح الدين بالشام فتحاً مبيناً ونصر نصراً مبيناً، وهزم الفرنج وأسر ملوكهم، وكانوا أربعين ألفاً. ونازل القدس وأخذه، وأخذ عكا وافتتح عدة حصون، وعز الإسلام وعلاه، ودخل على المسلمين سرور لا يعلمه إلا الله تعالى، وفيها قتل ابن

الصاحب ببغداد، فذلت الرافضة. وفيها توفي القاضي عيسى بن علي، ولاه سيف الإسلام قضاء الجند. وفيها توفي الفقيه الفاضل الورع المصنف حسن بن أبي بكر الشيباني الساكن في الجوهة من بلاد اليمن، تفقه على الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبدويه المتقدم ذكره، وبعبد الله الهروي والطويري، لزم مجلسه تسع سنين، ورحل إلى عدن رحلتين بينهما أربعون سنة، وله مصتفات حسنة. وعرض عليه قضاء زبيد في ولاية شمس الدولة، وفي ولاية أخيه سيف الإسلام فامتنع واعتذر، فقيل له: أرشدنا إلى من تراه، فأشار بالقاضي عبد الله بن محمد بن أبي عقامة. قال ابن سمرة بعدما ذكر بني عقامة: وبهم نشر الله تعالى مذهب الشافعي في تهامة. وذكر منهم جماعة منهم: القاضي أبو الفتوح بن أبي عقامة - بفتح العين المهملة - الثعلبي كان عالماً مجوداً، له مصنفات حسنة منها: كتاب التحقيق، وكتاب الخبايا، أخذ عن الفقيه أبي الغنائم، وهو عن الشيخ أبي حامد الاسفرائيني ومنهم القاضي محمد بن علي بن أبي عقامة الخطيب، قيل إنه ولي قضاء زبيد زمن الحبشة، وكان معظماً عندهم ذا جاه كبير وعلم غزير. ومنهم الحسن بن محمد بن أبي عقامة الخطيب، قيل إنه كان ينظم الخطبة على المنبر، وإليه تنسب الخطب العقامية. ومنهم القاضي محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة وأخوه أبو بكر ابن عبد الله، وقال: وآخرهم في هذا الزمان القاضي عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة الثعلبي قاضي زبيد من جهة الأمير، تفقه فقهاء زبيد وأخذ عنهم، وله معرفة بالحديث والتفسير. وفضائل آل أبي عقامة مشهورة. قلت: وفقهاء اليمن ينشدون أبياتاً وينسبونها إلى القاضي ابن أبي عقامة يمدح فيه بمعرفة عشرين علماً، ولا أدري أي المذكورين هو. وفيها قويت نفس السلطان ابن أرسلان، وأرسل إلى بغداد بأن يعمر له دار السلطان وأن يخطبوا له ويرفع له الشأن، فأمر الناصر بهدم الدار والآخراب، وأخرج رسوله مهاناً بلا جواب. وفيها توفي شيخ الفتوة وحامل لوائها عبد الجبار بن يوسف البغدادي حاجاً بمكة. وكان قد علا شأنه بكون الخليفة الناصر يفتي، ومحدث بغداد وصالحها عبد المغيث بن زهير وابن الدامغاني قاضي القضاة أبو الحسن علي بن أحمد الحنفي. وكان ساكناً وقوراً محتشماً.

سنة اربع وثمانين وخمس مائة

وفيها توفي المقدم الأمير الكبير محمد بن عبد الملك، كان من أعيان أمراء الدولتين بطلاً شجاعاً محتشماً عاقلاً، شهد في الشام المذكور الفتوحات، وحج، فلما نزل بعرفات رفع علم السلطان صلاح الدين، وضرب الكوسات فأنكر عليه أمير ركب العراق، فلم يلتفت وركب في طلبه وركب إليه الآخر، فالتقوا وقتل جماعة من الفريقين، وأصاب ابن المقدم سهم في عينه، فخرج سريعاً، ثم مات من الغد بمنى. وتوفي شيخ الحنابلة الملقب بناصر الإسلام نصر بن قينان - وكان موصوفاً بالورع والزهد والتعبد. وفيها توفي مجد الدين الصاحب هبة الله بن علي، ولي أستاذ دار للمستضيء، ولما ولي الناصر رفع منزلته وبسط يده وكان رافضياً سباياً لما تمكن أحيى شعار الإمامية، واشتهر بأشياء قبيحة، فقتل وأخذت حواصله، من جملتها ألف ألف دينار. سنة اربع وثمانين وخمس مائة دخلت، وصلاح الدين يصول وبخيوله يجول، حتى لاقت الفرنج منه ما ذكره يطول، وافتتح أخوه الملك العادل الكرك بالأمان، سلموها له لفريط القحط في رمضان. وفيها توفي أسامة بن مرشد الأمير الكبير مؤيد الدولة أبو المظفر الكناني - الشيرازي، أحد الأبطال المشهورين والشعراء المبرزين، له عدة تصانيف في الأدب والأخبار والنثر ونظم الأشعار، له ديوان شعر في جزأين ومن شعره: لا تستعر جلداً على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم واعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعاً وإلا عدت عودة راغم

وله في ابن طليب المصري، وقد احترقت داره: انظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قهراً إلى الإقرار بالأقدار ما أوقد ابن طليب قط بداره ... ناراً وكان خرابها بالنار قال ابن خلكان: ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه بن صورة المصري - دلال الكتب - كانت له دار موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال علي بن مفرح المعروف بالمنجم: أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم كذا كل مال أصله من نهاوش ... فمما قليل في نهار يعدم قلت: ومع هذا البيتين بيت ثالث أفرط فيه ما ينبغي أن يذكر، والبيت الثاني مأخوذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أصاب مالاً من نهاوش أهبه الله في نهابر ". والنهاوش الحرام، والنهابر المهالك. وقال لغزاً، وقد قلع ضرسه: وصاحب لا أمل الدهرصحبتهيشفي لنفسيويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد قلت: وقد فسرت هذا اللغز حيث قلت: ضرس امرىء غاب عن عينيه في فمه ... عليه في طحن مايغذوه معتمد نعم الرحى صور الباري بحكمته ... تراه عند انقلاع غير مرتدد وفيها توفي الإمام عبد الرحمن بن محمد بن حبيش الأنصاري. كان من أئمة الحديث والقراءات والنحو واللغة، ولي خطابة مرسية وقضاءها، واشتهر ذكره وبعد صيته، وصنف كتاب المغازي في مجلدات. وفيها توفي شيخ الحنفية في زمانه بما وراء النهر عمر ابن الإمام شمس الأئمة بكر بن علي رحمه الله تعالى. وفيها توفي التاج المسعودي محمد بن عبد الرحمن الخراساني الصوفي الرحال

الأديب. كتب وسعى وجمع فأوعى، وصنف شرحاً طويلاً للمقامات، استوعب فيه ما لم يستوعبه غيره في خمس مجلدات كبار، ولم يبلغ أحد من شرح المقامات إلى هذا القدر ولا إلى نصفه، وكان مقيماً بدمشق، والناس يأخذون عنه بعد أن كان يعلم الملك الأفضل عند السلطان صلاح الدين، حصل له بطريقة كتباً نفيسة غريبة، وبها استعان على شرح المقامات. وحكى أبو البركات الهاشمي قال: لما دخل السلطان صلاح الدين حلب نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب، وقعد في خزانة كتب الوقف، واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع، ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل وقال ابن النجار: كان من الفضلاء في كل فن في الفقه والحديث والأدب، وكان من أظرف المشايخ وأجملهم، توفي عن اثنتين وثمانين سنة. وفيها توفي أبو الفتح التعاويذي، الشاعر الذي سار نظمه في الآفاق، وتقدم على شعراء العراق. هكذا ذكر بعضهم في السنة المذكورة، وقد قدمنا عن بعضهم ذكر موته في سنة ثلاث وخمسين، وذكرت شيئاً من فضائله هناك. وفيها توفي الإمام الحافظ محمد بن موسى الخازمي الهمداني الملقب زين الدين، أحد الحفاظ المتقنين وعباد الله الصالحين، سمع من أبي الوقت حضوراً، وسمع من أبي زرعة، ومعمر بن الفاخر بالخاء المعجمة ورحل إلى العراق وأصبهان والجزيرة وبلاد فارس وهمدان والشام والنواحي، وصنف التصانيف، وكان إماماً ذكياً ثاقب الذهن، فقيهاً بارعاً ومحدثاً ماهراً، بصيراً بالرجال والعلل، متبحراً في علم السنن ذا زهد وتعبد، وتأله وانقباض عن الناس، وغلب عليه الحديث، وبرع فيه واشتهر به، وصنف فيه وفي غيره كتباً مفيدة منها: الناسخ والمنسوخ في الحديث، وكتاب الفصل في مشتبه السنة، وكتاب عجالة المبتدىء في النسب، وكتاب ما اتفق لفظه وافترق مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط، وكتاب سلسلة الذهب فيما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي، وشروط الأئمة، وغير ذلك من الكتب النافعة. واستوطن بغداد ساكناً في الجانب الشرقي، ولم يزل مواظباً للاشتغال ملازم الخير إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه، فدفن في الشونيزية إلى جانب سمنون بن حمزة، مقابل قبر الجنيد رحمة الله تعالى على الجميع، بعد أن صلى عليه خلق كثير برحبة جامع القصر، وحمل إلى الجانب الغربي فصلي عليه مرة بعد أخرى، وفرق كتبه على أصحاب الحديث. وكانت ولادته في سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمس مائة،

سنة خمس وثمانين وخمس مائة

ونسبته إلى جده حازم. وفيها توفي الفقيه الفاضل قاضي عدن ذو الفضل أحمد بن عبد الله بن محمد اليمني القريظي، كان حافظاً مجوداً في الحديث بارعاً عارفاً باللغة والعربية، أقام في مجلس الحكم بها أربعين سنة. سنة خمس وثمانين وخمس مائة في أول شعبان منها التقى صلاح الدين الفرنج، وفي وسطه التقاهم أيضاً، فانهزم المسلمون واستشهد جماعة، ثم ثبت السلطان والأبطال كروا عليهم ووضعوا فيه السيف، وجافت الأرض من كثرة القتلى، ونازلت الفرنج عكا، فساق صلاح الدين وضايقهم، وبقي محاصراً، والتقاهم المسلمون مرات، وطال الأمر وعظم الخطب، وبقي الحصار والحالة هذه عشرين شهراً أو أكثر، وجاء الفرنج في البر والبحر، وملأوا السهل والوعر حتى قيل إن عدة من جاء منهم بلغت ست مائة ألف. وفيها توفي فقيه الشام قاضي القضاة أبو سعد عبد الله بن محمد المعروف بابن عصرون التميمي ئم الموصلي وأحد الأعلام. تفقه بالموصل وسمع بها، ثم رحل إلى بغداد فقرأ القراءات ودرس النحو والأصلين ودخل واسط وتفقه بها، ورجع إلى الموصل بعلوم جمة، ودرس بها وأفتى، ثم سكن سنجار، ثم قدم حلب ودرس بها وأقبل عليه نور الدين، فقدم معه عند مفتتح دمشق، ودرس بالغزالية، ثم رد وولي قضاء سنجار وحران مدة، ثم قدم دمشق وولي القضاء لصلاح الدين، وله مصنفات كثيرة. وفيها توقي المبارك بن المبارك شيخ الشافعية في وقته ببغداد وصاحب الخط المنسوب ومؤدب أولاد الناصر لدين الله، درس بالنظامية، وتفقه به جماعة وحدث، وكان صاحب علم وعمل ونسك وورع، وكان قد جود للكتابة حتى بالغ بعضهم وقال: هو أكتب من ابن البواب. ثم اشتغل بالفقه فبلغ فيه الداية. وفيها توفي صاحب الطريقة في الخلاف أبو طالب محمد بن علي التميمي الأصبهاني. تفقه على الشهيد محمد بن يحيى تلميذ حخه الإسلام أبي حامد الغزالي، وبرع في الخلاف، وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتدبيره على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق. وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصاروا علماء مشاهير، وكان له في الوعظ اليد الطولى، وكان متفنناً في العلوم خطيباً،

سنة ست وثمانين وخمس مائة

قاضياً مدرساً. وفيها توفي محمد بن يوسف البحراني الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية متفنناً في أنواع الشعر، من أعلم الناس بالعروض والقوافي، وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من ردئيه، واشتغل بشيء من علوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وبدأ بنظم الشعر وهو صبي صغير بالبحرين جرياً على عادة العرب قبل أن ينظر في الأدب. وكان قد رحل إلى شهرزور، وأقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق وخدم السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى بقصيدة طويلة، وله ديوان شعر جيد ورسائل حسنة، ومن شعره قصيدة مدح بها أبا المظفر صاحب إربل، من جملتها هذه الأبيات. رب دار بالفضا طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها درست إلا بقايا أسطر ... سمح الدهر بها ثم محاها كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها والبحراني نسبة إلى البحرين: وهي بليدة بالقرب من هجر. قال الأزهري: وإنما سمي البحرين لان في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، وعن أبي محمد اليزيدي قال: سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى الحصنين، ثم قالوا: حصني وبحراني، فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا: حصناني لاجتماع النونين، قال: وقلت أنا: كرهوا أن يقولوا بحري، فيشبه النسبة إلى البحر. سنة ست وثمانين وخمس مائة فيها توفي الحافظ الكبير أبو المواهب الحسن بن هبة الله المحفوظ ابن صصري الدمشقي، سمع من الحافظ ابن عساكر وغيره، وتخرج به، وسمع بالعراق وهمدان وأصبهان والجزيرة والنواحي من شيوخ فيها، وبرع في هذا الشأن، وجمع وصنف مع الثقة والجلالة والكرم والرئاسة. وفيها توفي الحافظ النحوي محمد بن عبد الله الفهري الاشبيلي، برع في الفقه والعربية، وانتهت إليه الرئاسة في الحفظ والفتيا.

سنة سبع وثمانين وخمس مائة

وفيها توفي قاضي القضاة أبو حامد محمد ابن قاضي القضاة أبي الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري الشافعي، له مع فضائله أشعار جيدة، منها قوله في وصف جرادة: لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤه ضيغم خبتهاأفاعي الرمل بطناً وأنعمتعليها جياد الخيل بالرأس والفم ويحكى عنه رئاسة جسيمة ومكارم عظيمة. سنة سبع وثمانين وخمس مائة فيها اشتدت مضايقة الفرنج لعكا وقلة الأقوات على المسلمين بها، فسلموها بالأمان. وفيها توفي أبو المعالي عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيساوري مسند خراسان، سمع من جده وجماعة. وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر عمر ابن شاهنشاه بن أيوب أحد الأبطال ابن أخي السلطان صلاح الدين. كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب، مؤيداً في الوقائع، له مشاهد مشهورة مع الفرنج، وآثار حميدة في المضافات دلت عليه التواريخ، وله في أبواب البر معروف متسع، منها مدارس شافعية ومالكية وأوقاف كثيرة، وكثرة إحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير، وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها، ثم استدعاه صلاح الدين إليه في الشام ورتب في الديار المصرية ولده العزيز الملك عثمان ومعه الملك العادل، فشق ذلك على الملك المظفر المذكور، وعزم على دخول بلاد المغرب، وقبح عليه أصحابه ذلك فامتثل قول عمه، وحضر إلى خدمته وخرج صلاح الدين فالتقاه، وفرح به وأعطاه حماة، فتوجه إليها ورتب فيها بعده ولده الملك المنصور أبو المعالي الملقب ناصر الدين. وفيها توفي الفقيه نجم الدين محمد بن الموفق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي. تفقه على الإمام محمد بن يحيى تلميذ حجة الاسلام، وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح

الوسيط، وألف كتاباً سماه تحقيق المحيط، في ستة عشر مجلداً. روى ودرس وأفتى، وكان صلاح الدين يعتقد فيه ويبالغ في احترامه، وعمر له مدرسة الشافعية، وكان يبالغ في ذم العبيديين، ولما هاب صلاح الدين من الإقدام على قطع خطبة العاضد وقف قدام المنبر، وأمر أن يخطب الخطيب لبني العباس، ففعل ولم يقع، إلا الخير. قال الذهبي: ثم عمد إلى قبر ابن الكيزاني - من غلاة السنة وأهل الأثر - فنبشه وقال: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد. يعني: هو والشافعي، فثارت حنابلة مصر عليه، ووقعت الفتنة وصار بينهم حروب. قلت: وقوله من غلاة السنة وأهل الأثر: أي ممن يتغالى في تقرير الظواهر وعدم تأويلها، وإنما قال الذهبي: وغلاة أهل السنة، لأنه كثيراً ما يشير إلى أن الظاهرية هم أهل السنة، مفهماً بذلك أن اعتقاده موافق لأهل الظاهر - والله أعلم بالسرائر - ولما توفي المذكور في السنة المذكورة دفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وبينهما شباك. وكان أصحابه يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وفيها توفي الحكيم شهاب الدين يحيى بن حبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة - السهروردي المقتول بحلب. كان بارعاً في الحكمة وعلوم الفلسفة والأصول الفقهية وعلم الكلام - وشيخه وشيخ فخر الدين الرازي واحد، وهو مجد الدين الجيلي، وكان الحكيم المذكور مفرط الذكاء فصيح العبارة، مناظراً محجاجاً متزهداً، وكان علمه أكثر من عقله، ويقال إنه كان يعرف السيمياء. حكي أنه خرج من دمشق مع جماعة، فلما وصلوا إلى القابون لقوا قطيع غنم مع تركماني، فقال أصحابه: زيد رأساً من هذا الغنم، فأخذوا رأساً بعشرة دراهم كانت معه، فقال صاحب الغنم: خذوا رأساً أصغر منه، فقال: امشوا وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدموا، وبقي يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما بعدوا قليلاً تبعهم وتركه، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، فلم يلتفت إليه حتى لحقه وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخلفني؟ وإذا بيده قد انخلعت من عند كتفه وصارت في يد التركماني، ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير، ورمى اليد وخاف وهرب، وأخذ هو تلك بيده اليمنى، ولحق أصحابه وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه. ولما وصل إلى أصحابه رأوا في يده اليمنى منديلاً لا غيره. قال ابن خلكان: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة - انتهى والله أعلم بصحتها. قلت: ومثل هذا ما سمعته ممن يحكى عمن صاحب ابن سينا إلى جبل حراء أنه أخذ

من بدوي شاة في الطريق، فذبحها هو وأصحابه، وشووها وأكلوها، فجاء البدوي إلى رأس الجبل يطالبه بالثمن، فجلس معه في مكانه بعيداً عن رفقائه، وتمدد بين يدي البدوي، فنظر إليه ذلك البدوي فإذا هو مذبوح، ففزع البدوي وهرب. قلت: وهذه الأفعال وأشباهها يئست من أفعال، وبئس من يفعلها، وبئس المعلم - الموصل إليها. رجعنا إلى ذكر الحكيم السهروردي، له تصانيف عديدة كالتنقيحات في أصول الفقه، والتلويحات، وكتاب الهياكل، والرسالة الغريبة وغير ذلك. ومن كلامه: حرام على الأجساد المظلمة أن تلحق في ملكوت السماوات، فوحد الله تعالى وأنت بتعظيمه ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو ما كان في الوجود شمس لأظلمت الأكوان، وأبى النظام أن يكون غير ما كان، فخفت حتى قلت لست بظاهر، وظهرت من سعيي على الأكوان، اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف. وتنسب إليه أشعار، فمن ذلك: جعلت هياكلها تجرعلى الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقا وتلفتت نحو الديار فشاقها ... ربع عفت أطلاله فتمزقا وقفت تسائله فرد جوابها ... رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا فكأنها برق تآلف بالحمى ... ثم انطوى وكأنه ما أبرقا ومن شعره المشهور: أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانة والراح وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لقاء جمالكم ترتاح وارحمتا للعاشقين تحملوا ... ثقل المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح فإذا هم كتموا فحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح وبدت شواهد للسقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح خفض الجناح لكم وليس عليكم ... للصب في خفض الجناح جناح فإلى لقاكم نفسه مرتاحة ... وإلى رضاكم طرفه طماح عودوا بنور الوصل من غسق الدجى ... فالهجر ليل والوصال صباح صافاهم فصفوا له قلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح ركبوا على سفن الهوى ودموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأتاهم المفتاح لا يطربون بغير ذكر حبيبهم ... أبداً وكل زمانهم أفراح حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتكوا لما رأوه وصاحوا

سنة ثمان وثمانين وخمس مائة

أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح مع أبيات أخرى في أثنائها وفي آخرها أوليتها حذف هجر الإعراض - عند لمعان برق سحاب بعض الأعراض. وكان شافعي المذهب ويلقب بالمؤيد بالملكوت. قال ابن خلكان: وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهرعنه ذلك، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله، بما ظهر لهم من سوء مذهبه في اعتقاده قال: وقال الشيخ سيف الدين الآمدي: اجتمعت بالسهروردي في حلب، فقال لي: لا بد لي أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسبها، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل. وكان في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، فحبسه، ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدين - وعمره ثمان وقيل: ست وثلاثون - وقيل: قتله وصلبه أياماً. وقيل: خير بين أنواع القتل فاختار أن يموت جوعاً لاعتياده الرياضات، فمنع من الطعام حتى تلف. ونقل ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد قال: أقمت بحلب للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمر، فمنهم من ينسبه إلى الزندقه والإلحاد - وهم أكثر الناس - ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات ويقولون: ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك. وانتهى، والله أعلم ببواطن العباد وإليه المرجع والمعاد. سنة ثمان وثمانين وخمس مائة فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بجيوشه، فالتقى ملك الهند، فانتصر المسلمون واستحر القتل بالهنود، وأسر ملكهم، وغنم المسلمون ما لا ينحصر، من ذلك أربعة عشر فيلاً. وفيها التقى المسلمون بالشام الفرنج غير مرة، والنصرة كلها للمسلمين إلا واحدة، مقدمها الملك العادل، فدهمهم العدو وهزمهم. وفيها توفي أبو الفضل اسماعيل بن علي الشافعي الفرضي، من أعيان المحدثين.

سنة تسع وثمانين وخمس مائة

تفقه على جمال الإسلام ابن المسلم وغيره، وسمع من هبة الله بن الأكفاني وطبقته، ورحل إلى بغداد فسمع بها جماعة من الكبار، وكتب الحديث الكثير، وكان بصيراً بعقد الوثائق والسجلات. وفيها توفي المشطوب الأمير - مقدم الجيوش سيف الدين علي بن أحمد بن أبي الهيجاء الهكاري نائب عكا، لما أخذت الفرنج عكا أسروه، ثم اشتري بمبلغ عظيم، ثم أقطعه صلاح الدين القد، فتوفي بها. وفيها توفي أبو المرهف نصر بن منصور الشاعر المشهور، كان ضريراً، قدم بغداد وحفظ القرآن المجيد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع الحديث من القاضي ابن الباقلاني وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك وأبي الفضل ابن الناصر وغيرهم، وقرأ الأدب على ابي منصور الجواليقي، وله ديوان شهر، ومن شعره قوله من قصيدة له: وأخوف ما أخاف على فؤادي ... إذا ما أنجد البرق اللموع لقدحملت من طول الثناء ... عن الأحباب ما لا أستطيع وكان زاهداً ورعاً حسن المقاصد في الشعر. سنة تسع وثمانين وخمس مائة وفيها توفي صاحب مكة داود بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن أبي هاشم العلوي الحسيني. ومحمود سلطان شاه أخوه الملك علاء الدين خوارزم شاه ابنا أرسلان الخوارزمي. وسنان بن سليمان أبو الحسن البصري الإسماعيلي الباطني صاحب الدعوة وصاحب حصون الإسماعيلية. كان أديباً متفنناً متكلماً عالماً عارفاً بالفلسفة أخبارياً شاعراً. وصاحب الموصل السلطان عز الدين مسعود بن مودود أتابك بن زنكي. قال ابن الأثير: بقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وبالتلاوة، ورزق خاتمة خير، وكان كثير الخير والإحسان يزور الصالحين ويقربهم ويشفعهم، وفيه حلم وحياء ودين. ودفن في مدرسته في الموصل، وتملك بعده ولده نور الدين.

وفيها توفي السلطان صلاح الدين الملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف في آخره ياء النسبة ومعناه بالعربية فرحان - صاحب الديارالمصرية والبلاد الشامية والعراق واليمنية. وتراجم أبيه أيوب وقرابته من الإخوة والأعمام مذكورة في مواضعها، وصلاح الدين المذكور كان واسطة العقد وشهرته وشائعته شهيرة مغنية عن مدحته والتعريف بصفته وسيرته. وقد ذكر بعض المؤرخين الاتفاق على أن أباه وأهله من الاكراد، وذكر بعضهم نسبه أباً، فإما إلى عدنان ثم رفعه إلى آدم صلى الله عليه وسلم وذكر ابن الأثير أن مجاهد الدين متولي شحنة العراق من جهة السلطان غياث الدين السلجوقي مسعود رأى في نجم الدين أيوب شاذي عقلاً ورأياً حسناً وحسن سيرة، فجعله وألياً بتكريت حافظاً للقلعة، فلما انهزم أتابك الشهيد صاحب - الموصل عماد الدين زنكي بالعراق في أيام الإمام المسترشد وكان قد جاء على قصد حصار بغداد - وصل بعد انهزامه إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه فأحسن نجم الدين إليهم وسيرهم، ثم إن أسد الدين أخا نجم الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما، وأخرجهما من تكريت، فقصدا عماد الدين زنكي صاحب الموصل، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، واقطعهما إقطاعاً حسناً وصار من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين والياً عليها وحافظاً، فلما قتل عماد الدين زنكي وتولى بعده ولده سيف الدين غازي بن زنكي أرسل إليه نجم الدين أيوب، وطلب منه عسكراً ليستعين به على قتال صاحب دمشق مجير الدين - وكان قد حاصر أيوب فلم ينجده بالعسكر، فلما رأى نجم الدين تلك الحال وخاف أن يؤخذ قهراً، أرسل في تسليم القلعة، وطلب أقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك، وحلف له صاحب دمشق، فسلم القلعة ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع، وصار عنده من أكبر الأمراء. واتصل أخوه أسد الدين بالخدمة النورية المتعلقة بنور الدين محمود صاحب حلب - وكان يخدمه - فقربه نور الدين وأقطعه، وكان يرى منه في الحروب آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فصارت له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عساكره. وكان صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة بقلعة تكريت لما كان عمه وأبوه بها، ثم إن عماد الدين قصد حصار دمشق فلم تحصل له، فرجع إلى بعلبك فحاصرها شهراً وملكها سنة أربع وثلاثين وخمس مائة، ورتب فيها نجم الدين أيوب، ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع. وحاصر نور الدين بن عماد الدين زنكي دمشق،

فأخذها، فلازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخائل السعادة عليه لائحة، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة بتأييد الله تعالى، ونور الدين يرى له ويؤثره، وتعلم منه صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى تجهز للمسير مع عمه أسد الدين إلى الديار المصرية لما جاء شاور مستغيثاً إلى الشام بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وخمس مائة، فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين بن شاذي في جماعة من عسكره، وكان صلاح الدين من جملتهم في خدمة عمه وهو كاره للسفر معهم، وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره، شاور حتى دخلوا مصر فاستولوا عليها. وكان الملك المنصور أبو الأشبال الضرغام بن عامر بن سوار الملقب بفارس المسلمين اللخمي المنذري قد استولى على الديار المصرية، فقتل عند مشهد السيدة نفيسة بين القاهرة ومصر، واجتز رأسه وطيف به ثلاثة أيام، ثم دفن عند بركة الفيل، وبنيت عليه قبة. ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصده وعاد إلى منصبه واستمرت أموره غدر بأسد الدين، واستنجد بالفرنج عليه، فحصروه في بلبيس، فخلى لهم البلاد طامعاً في العود إليها وملكها، وعاد إلى الشام في سنة تسع وخمسين وخمس مائة، فأقام بها مفكراً في تدبير عوده إلى مصر محدثاً نفسه بالملك لها، مقرراً ذلك معه نور الدين إلى سنة اثنين وستين وخمس مائة. وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد فخاف عليها فكتب إلى الفرنج وقرر معهم أنهم يجيؤون إلى البلاد، ويمكنهم تمكيناً كلياً ليعينوه على استئصال أعدائه، فبلغ ذلك نور الدين وأسد الدين، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويتطرقوا إلى ملك غيرها من البلاد، فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر - وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين - فوصلوا إليها وصولاً مقارباً لوصول الفرنج إليها، واتفق شاور والمصريون جميعهم والفرنج على أسد الدين، وجرت حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن البلاد، وانفصل أسد الدين أيضاً راجعاً إلى الشام. وسبب رجوع الفرنج أن نور الدين جرر العساكر إلى بلادهم في تلك السنة، فخافوا على بلادهم وعادوا إليها، وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره عن مقاومة الفرنج - والمصريين، وما عاينوه من الشدائد وما عاينوه من الأهوال، وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر. ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثانية وقيل ثالثة بسبب أن الفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون الديار المصرية، فسار بنفسه وماله

وإخواته وأهله ورجاله. وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر أرسل إلى أسد الدين يستصرخه، فخرج مسرعاً، ولما علم الفرنج بوصوله إلى مصر واتفاقه مع أهلها رحلوا راجعين على أعقبهم ناكصين. وقام اسد الدين بها، يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان قد وعدهم بمال في مقابلة ما خسروا من النفقة، فلم يعطيهم شيئاً، وعلقت مخالب أسد الدين في البلاد، وعلم أنه متى وجد الفرنج فرصة أخذوا البلاد، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور، فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه. وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدين يترددون إلى خدمة شاور وهو يجتمع بأسد الدين في بعض الأحيان، وكان يركب على عادة وزرانهم بالطبل والبوق والعلم، فلم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلا أسد الدين بنفسه، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً، وسار إلى جانبه وأخذ يتلاعب به، وأمر العسكر أن يقصدوا أصحابه، ففزوا ونهبهم العسكر، وأنزل شاور في خيمة مفردة وأمر بجز رأسه. وأرسل المصريون إلى أسد الدين خلع الوزارة، فلبسها وسار ودخل القصر، وترتب وزيراً وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمس مائة، ودام آمراً وناهياً - وصلاح الدين مباشر الأمور ومقررها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته - إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، فمات أسد الدين في القاهرة، ودفن بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد مدة بوصية منه. وذكر بعضهم أن أسد الدين دخل القاهرة في سنة أربع وستين وخمس مائة وخرج إليه العاضد آخر ملوك العبيديين، وتلقاه وحضر يوم الجمعة ثالث يوم دخوله، وجلس جانب العاضد، فخلع عليه، وأظهر له شاور وداً، وطلب منه أسد الدين مالاً ينفقه في العسكر، فدافعه وأرسل إليه أن الجند تغيرت قلوبهم عليه بسبب عدم النفقة، فإذا خرجت فكن منهم على حذر، فلم يكترث شاور بكلامه، وعزم أن يعمل دعوة يستدعي إليها أسد الدين والعساكر الشامية، ويقبض عليهم، فأحس أسد الدين بذلك، فاتفق صلاح الدين وعز الدين وبعض كبراء الدولة على قتل شاور وأعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، وخرج شاور قاصداً أسد الدين - وخيامهم كانت على شاطىء النيل - فلم يجده في خيمته، وكان قد ركب إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه بالقرافة - فقال شاور: يمضي إليه، فساروا، فاكتنفه صلاح الدين مع آخر، فأنزلاه عن فرسه، فهرب أصحابه وأخذ أسيراً، وكتف، ولم يمكنهم قتله بغير إذن نور الدين، فأرسل العاضد يأمرهم بقتله فقتلوه. وكان ذا شهامة ونجابة وفروسية، قد تمكن فى بلاد الصعيد، ثم توجه إلى القاهرة وأخذ الوزارة، ثم توجه إلى

الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين لما خرج عليه ضرغام بن عامر اللخمي المنذري وأخرجه عن القاهرة وولي الوزارة مكانه، فأنجده بالأمير أسد الدين. وأصل شاور من بني سعد من نسل والد حليمة التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي كيفية قتله اختلاف كثيرة، والقصد من ذكر هذه الأشياء التوصل إلى ذكر ولاية السلطان صلاح الدين وسيرته. فلما مات أسد الدين استقرت الأمور بعده لصلاح الدين، وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، وما زال على قدم الخير وفعل ما يقربه وإلى الله تعالى إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد، وغشي الناس من سحائب الأفضال والإنعام ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام، هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة، ويجالس أهل العلم والفقه والتصوف، والناس يهرعون إليه من كل صوب، ويفدون عليه من كل جانب، وهو لا يخيب قاصداً، ولا يعدم وافداً إلى سنة خمس وستين وخمس مائة، فلما عرف نور الدين انتشار أمر صلاح الدين بمصر أخذ حمص من نواب أسد الدين. ولما علم الفرنج ما جرى بين المسلمين وعساكرهم، وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه سيملك بلادهم، ويخرب ديارهم، ويقلع آثارهم اجتمعوا هم والروم جميعاً، وقصدوا الديار المصرية، وتوجهوا إلى دمياط، ومعهم آلة الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. فلما بلغ صلاح الدين ذلك استعد بتجهيز الرجال وجمع الآلة، وبالغ في العطايا والهبات، وكان متحكماً لا يرد أمره في شيء. فلم يزل الحصار والقتال بين المسلمين وبينهم حتى رحلوا عنها خائبين، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين مع والده اليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده نجم الدين أيوب، ليتم له السرور، وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف عليه السلام، فوصل والده إليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده وإكرامه له لما وصل إليه وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخواته، فلم يجبه إلى ذلك وقال: أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فيفسد حمص من نواب أسد الدين. ولما علم الفرنج ما جرى بين المسلمين وعساكرهم، وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه سيملك بلادهم، ويخرب ديارهم، ويقلع آثارهم اجتمعوا هم والروم جميعاً، وقصدوا الديار المصرية، وتوجهوا إلى دمياط، ومعهم آلة الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. فلما بلغ صلاح الدين ذلك استعد بتجهيز الرجال وجمع الآلة، وبالغ في العطايا والهبات، وكان متحكماً لا يرد أمره في شيء. فلم يزل الحصار والقتال بين المسلمين وبينهم حتى رحلوا عنها خائبين، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين مع والده اليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده نجم الدين أيوب، ليتم له السرور، وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف عليه السلام، فوصل والده إليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده وإكرامه له لما وصل إليه وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخواته، فلم يجبه إلى ذلك وقال: أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فيفسد البلاد.

فصل

فصل انتهاء اللولة العبيدية واقامة الدولة العباسية اعلم أنه لما كان شهر المحرم مفتتح سنة سبع وستين وخمس مائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر، وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين لما ثبت قدمه في مصر، وزال المخالفون له، وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود، يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين للخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نورالدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة له، واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة له، فاستشار أمراءه كيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من ساعد على ذلك، ومنهم من خاف. وكان قد وصل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدىء بها. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للمستضيء بأمر الله، فلم ينكر أحد ذلك. فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله، ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك وقال: إن سلم فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن ينغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله. فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بذلك. قلت: وقد نقلت عن بعضهم في كتاب المرهم أن العاضد مات غماً بما فعله صلاح الدين، ولم يقدرعلى منعه من ذلك. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما فيه. ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بهم من يحفظهم، وجعل أولادهم وعمومتهم وأبناءهم في إيوان من القصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، وأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من سكانه وأهله. فسبحان من لا يتغير ملكه ولا يزول، ولا يؤثر فيه مرور الأيام والدهور. وكان ابتداء الدولة العبيدية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين. ذكر أئمة العبيديين وعدد سني دولتهم أما عددهم فجملتهم أربعة عشر: أول من ظهر منهم على إفريقية عبيد الله الملقب بالمهدي، ثم بعده القائم بأمر الله، ثم المنصور، ثم المعز، ثم العزيز ثم الحاكم وهو الذي

ذكر خلفاء بني العباس وعدد سني دولتهم

ملك مصر والشام والحجاز والمغرب، ثم الظاهر، ثم المستنصر، ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم. ومدة دولتهم مائتا سنة وست وستون سنة. وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثمان سنين. قلت: وإذ قد ذكرت عدد أئمة العبيديين ومدة دولتهم فلأذكرن عدد خلفاء بني العباس ومدة دولتهم، ثم كذلك أفعل في بني أمية ودولتهم، وأذكر الخلفاء الراشدين المستحقين ومدة خلافتهم، ليسهل معرفة الجميع في موضع واحد لمن أراد الاطلاع على ذلك. ذكر خلفاء بني العباس وعدد سني دولتهم هم سبعة وثلاثون: السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ثم أخوه عبد الله أبو جعفر المنصور، ثم المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، ثم الهادي موسى بن المهدي، ثم الرشيد هارون بن المهدي، ثم الأمين محمد بن هارون الرشيد، ثم أخوه المأمون عبد الله بن هارون، ثم المعتصم محمد بن هارون، ثم الواثق هارون بن المعتصم، ثم المتوكل جعفر بن المعتصم، ثم المستنصر محمد بن المتوكل، ثم المستعين أحمد بن المعتصم، ثم المعز محمد بن المتوكل، ثم المهتدي محمد بن الواثق، ثم المعتمد أحمد بن المتوكل، ثم المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل، ثم المكتفي علي بن المعتضد، ثم المقتدر جعفر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل، ثم القاهر بن أحمد بن المعتضد، ثم الراضي أحمد - وقيل محمد بن المقتدر - ثم المقتفي، ثم المتقي ابراهيم بن المقتدر، ثم المستكفي عبد الله بن محمد بن المكتفي، ثم المطيع الفضل ابن المقتدر، ثم الطائع عبد الكريم بن المطيع، ثم القادر أحمد بن إسحاق بن المقتدر، ثم القائم عبد الله بن القادر، ثم المقتدي عبد الله بن محمد بن القائم، ثم المستظهر أحمد بن المقتدي، ثم المسترشد الفضل بن المستظهر، ثم الراشد جعفر - وقيل منصور بن المسترشد - ثم المقتفي محمد بن المستظهر، ثم المستنجد يوسف بن المقتفي، ثم المستضيء الحسن بن المستنجد، ثم الناصر محمد بن المستضيء، ثم الظاهر محمد بن الناصر، ثم المستنصر بن الظاهر، ثم المستعصم عبد الله بن المستنصر. وأما مدة خلافتهم في خمس مائة وأربع وعشرون سنة. ذكر ملوك بني أمية وعدد سني دولتهم هم ثلاثة عشر: معاوية بن أبي سفيان، ثم يزيد بن معاوية، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد

ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم

ابن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم مروان بن محمد الجعدي، وهو آخر ملوك بني أمية. وأما مدة دولتهم فهي إحدى وتسعون سنة. ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم هم المشار إلى خلافتهم بقوله عليه السلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم الحسن بن علي وبه تمام الثلاثين من السنين المذكورة. رجعنا إلى ما كنا بصدده من ذكر بعض ما جرى في دولة السلطان صلاح الدين: فلما استولى على القصر الذي كان فيه العاضد وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب وباع ما شاء، وكان فيه من الجواهر والذخائر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك، مما جمع على طول السنين. ومن ذلك قضيب الزفرد طوله نحو قصبة ونصف، والخيل الياقوت - لعله بالخاء المعجمة ثم المثناة من تحت وفي الأصل ضبطه بالجيم والباء الموحدة والله اعلم - غير ذلك من الكتب المنتخبة بالخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. ولما خطب للمستضيء بأمر الله أرسل إليه نور الدين يعرفه ذلك، فحل عنده أعظم محل، وسير اليه الخلع الكاملة إكراماً له، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر، وكانت هذه أول هيئة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها. ثم إنه وقع بين نور الدين وبين صلاح الدين وحشة يطول ذكر سنيها، فعزم نور الدين على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فظهر لصلاح الدين ذلك، فجمع أهله كما تقدم - وفيهم أبوه وخاله وسائر الأمراء، وأعلمهم بما بلغه، واستشارهم فلم يجبه أحد بشيء، فقام تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه من البلاد. ووافقه بعض أهله، فشتمهم والد صلاح الدين، وأنكر ذلك واستعظمه، وشتم تقي الدين وقال له: اقعد. وقال لولده صلاح الدين: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟! والله لو رأيته - أنا وخالك - لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟!!، وكل من تراه من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، وأي حاجة إلى هذا ترسل المولى فلاناً - وسماه يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني، أو قال: ويجرني إليك، فما ها هنا ما يمتنع

عليك. وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، نحن مماليك نور اللين وعبيده، يفعل بنا ما يريد. فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. فلما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك؟! وإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم ير معك أحداً من هذا العسكر. وكانوا أسلموك إليه. وأما الآن بعد هذا المجلس فيكتبون إليه ويعرفونه قولي فاكتب أنت إليه وارسل إليه في المعنى، وقل: أي حاجة لك في قصدي أرسل إلي بأحد يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بغيرنا، والأقدار تفعل عملها. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصبة سكر مصر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده، واشتغل بغيره، وكان الأمر كما ظنه نجم الدين أيوب. وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين وخمس مائة كما تقدم في ترجمته، وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له الكنز، جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وانضاف إليه المصريون، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوهم وكسروهم، وذلك في سنة سبعين وخمس مائة. واستقر لصلاح الدين قواعد الملك، وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح، اسماعيل في دمشق، وكان شمس الدين بن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين بن الداية وأخيه حسن، وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل ابن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل أولاد الداية. ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن الملك الصالح ولد نور الدين صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض باعباء الملك، فتجهز من مصر في جيش كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحلثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة

وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحل حتى وافى الفرنج على الرملة في أوائل سنة ثلاث وسبعين، وكانت الكسرة على المسلمين. فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في

الطريق، وأسروا منهم جماعة، منهم الفقيه عيسى الهكاري، وكان ذلك وهناً عظيماً جبرها الله تعالى بوقعة بعدها. ثم التمس الروم منه الصلح فصالحهم، وتوفي الملك الصالح بن نور الدين في السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وسبعين - وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. فلما بلغ عز الدين المذكور موت الملك الصالح ووصيته له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين، فوصل إليها وصعد القلعة، واستولى على ما بها من الحواصل، وتزوج أم الملك الصالح، ثم قايض عز الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين، وجاء صلاح الدين وحاصره، ثم صالح عماد الدين صلاح الدين على أن ينزل له عن حلب ويعوضه عنها بسنجار والخابور ونصيبين وسروج، وحلف صلاح الدين على ذلك، وتسلم قلعة حلب، وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبياً. ثم سار صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل - وهو بمصر يستدعيه ليجتمعوا على الكرك، فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم، واجتمعوا في شعبان سنة تسع وسبعين وخمس مائة. فلما بلغ الفرنج الخبر حشروا خلقاً كثيراً وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين، ورحل عن الكرك واستصحب أخاه الملك العادل معه، ودخل دمشق. وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال الحميدة. ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت. ثم إن صلاح الدين رأى عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح - وكانت بيد أخيه - فأعطاها ابنه الملك الظاهر، ونزل صلاح الدين على الموصل وحاصرها ثلاث مرات، فلم يقدر على أخذها، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها، ثم مرض صلاح الدين فسار إلى حران، فلحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب، وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وما وراء الفرات من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر، وينقش اسمه على السكة. فلما حلفا أرسل صلاح الدين نوابه فتسلموا البلاد التي وقع الصلح عليها، وطال مرضه حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده - وكان عنده منهم الملك العزيز - وجاء أخوه العادل من حلب - وهو ملكها يومئذ - وجعله وصياً على الجميع، وأوصى لكل واحد منهم بشيء من البلاد، وكان عنده أيضاً ابن عمه ناصر الدين،

فأقطعه حمص والرحبة، وسلم السلطان صلاح الدين ولده الملك العزيز إلى الملك العادل، وجعله أتابكه. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين في رابع شهر ربيع الآخر - سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة في يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، وسار حتى نزل على بحيرة الطبرية - على سفح الجبل - ينتظر قصد الفرنج له، فلم يتحركوا ولا خرجوا عن منازلهم، فلما رآهم لا يتحركون ترك جريده على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، ونازل طبرية وهجمها، فأخذها في ساعة واحدة، وانتهت الناس بابها، وأخذوا في النهب والقتل والسبي والحرق، وبقيت القلعة محمية بمن فيها. ولما بلغ العذو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك، ورحلوا نحوها، وبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصرها، ولحق بالعسكر فالتقى العدو على سفح طبرية، وحال الليل بين العسكرين، فناما على مصافهما ليلة الجمعة إلى بكرة يومها، واستمرت نار الحرب، واشتد الأمر وضاق الخناق بالعدو، وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت، وهم ينظرون قد أيقنوا بالويل والثبور، وأنهم في غدهم من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يضطرم، ولم يبق إلا الظفر ووقوع الوبال على من كفر، حتى حال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين بمقامه إلى صبيحة يوم السبت، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملوا بأجمعهم عليه وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين. وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا فيهم السهام، وحكموا فيهم السيوف القواضب، وأشعلوا حولهم النيران، وصدقوا فيهم الضرب والطعان، وضاق بهم الأمر حتى كادوا يستسلمون خوفاً من القتل، فأسر

مقدمهم وقتل الباقون. وقال بعض الرواة: حكى لي من أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان، ثم رحل السلطان إلى عكا فأخذها، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فكانوا أكثر من أربعة آلاف، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع، لأنها كانت مظنة التجارة، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل فأخذوا الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصر. ولما استقرت قواعد عكا وقسمت أموالها صار يشن الغارة ويأخذ بلداً بعد بلد، فأخذ صيدا وعسقلان - والرملة والداروم والأماكن المحيطة بالقدس، ثم شمرعن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمداً على الله مفوضاً أمره إليه، ومنتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث الله على انتهازه على لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوله: " من فتح له باب خير فلينتهزه، فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ". وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة من كان فيه من المقاتلة، فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب، ونصب المجانيق، وضايق البلد بالزحف والقتال، حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم أمارات الفتح وظهور المسلمين عليهم، وكانوا قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر، وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه، فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، وحصل الاتفاق عليه بالمراسله من الطائفتين، وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون السابع والعشرين من رجب المعظم - وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال -، وكان فتحه عظيماً

شهده الأولياء والعلماء وخلق، وقصده أهل الخير من البلدان القريبة والبعيدة، وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وتكسر الصليب التي كانت على قبة الصخرة، وكان شكلاً عظيماً، ونصر الله المسلمين على يدي صلاح الدين نصراً عزيزاً. وكان الفرنج قد استولوا عليه سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم السلطان صلاح الدين في التاريخ المذكور. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكراً وأنثى ديناراً واحدا. فمن أحضر قطيعته نجى بنفسه وإلا أخذ أسيراً، وأخرج - عن كل من كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقاً، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبوها الفقهاء والعلماء والزاهدين والوافدين عليه، وقد تقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه، وهي مدينة عظيمة، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جيء له شيء، وكان يقارب مائتي ألف ألف دينار وعشرين ألفاً. ولما فتح القدس حسن عنده قصد صور، وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليها. فسار نحوها حتى أتى عكا، فنزل عليها. ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجهاً الى صور، فنزل قريباً منها، وأرسل بإحضار آلات القتال، فلما تكاملت عنده نزل عليها، وقاتلها وضايقها في البر والبحر، ثم أسروا من المسلمين المقدم الرئيس وخمس قطع من المسلمين، وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين، فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره - وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار - وامتنع الناس من القتال لكثرة الامطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بالرحيل ليستريح الرجال، ويتجمعوا للقتال. فرحلوا عنها وجمعوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله. ثم خرج السلطان صلاح الدين وسار إلى بلاد العدو، ومعه عماد الدين صاحب سنجار، ومظفر الدين بن زين الدين، وعسكر الموصل قاصدين خدمته والغزاة معه، فسار نحو حصن الأكرا، ودخل بلاد العدو حتى وصل إلى طرطو، فوقف قبالتها ينظر إليها، والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة لها برجان كالقلعتين، فركبوا

وقاربوا البلد، وزحفوا واشتد القتال وباعثوها، وصعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسيف، وغنموا جميع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده: يع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى

شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده: اقتلاني ومالكاً ... وإقتلا مالكاً معي يريد بذلك أنه قد رضي أن أتلف إذا أتلف الله أعداءه. قيل: وهذا البيت له سبب، وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي تماسك هو وعبد الله بن الزبير يوم الجمل، وكل واحد منهما من الأبطال المشهورين، وكان ابن الزبير مع خالته عائشة - رضي الله تعالى عنها - والأشتر مع علي - رضي الله عنه - وكان كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته، وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير ينشد البيت المذكور، وقيل إن الأشتر دخل على عائشة - رضي الله تعالى عنها - بعد وقعة الجمل فقالت: يا أشتر، أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة. فأنشدها:

أعايش؛ لولا أنني كنت طاوياً ... ثلاثاً لألقيت ابن أختك هالكا غداة ينادي والرماح تنوشه ... بآخر صوت اقتلوني ومالكا فنجاه مني أكله وشبابه ... وخلوة جوف لم يكن متماسكا وقيل إن عائشة رضي الله تعالى عنها أعطت البشارة على سلامة ابن الزبير من الأشتر عشرة آلاف درهم، وان ابن الزبير قال: لاقيت الأشتر النخعي، وما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً. والله أعلم. رجعنا إلى ما كنا فيه. ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من البحر، واستظهروا على المسلمين بعكا، فضاق المسلمون من ذلك، وعزموا على صلح الفرنج بأن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمس مائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم، ويخرجوا بأنفسهم وما معهم سالمين من الأموال والأقمشة مختصة بهم، وذراريهم ونسأئهم، وكتبوا بذلك كتباً فلما علم السلطان أنكره إنكاراً عظيماً، وعظم عليه هذا الأمر وعزم على أن يكتب إليهم في الإنكار عليهم المصالحة على هذا الوجه، وبقي متردداً في هذا، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حربهم، ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب. وذكر بعضهم أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها، وساروا على الساحل - والسلطان وعساكره قبالتهم، وكان بينهم قتال عظيم، ونال المسلمين منه وهن شديد - فاستشار السلطان أرباب مشورته في خراب عسقلان خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس، وينقطع بها طريق مصر، فاتفق رأيهم على ذلك، فشرع في خرابها، فلحق الناس من خرابها حزن عظيم، واشتد على أهل البلد ذلك، وعظم فراق أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدورن على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد، واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم، وتشتتوا، فذهب بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة. ثم وصل خبر من جانب الملك العادل أن الفرنج قد تحدثوا معه في الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم ما في النفوس من الضجر، وكثرة ما هم عليهم من الديون. وكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه، وحث الناس على العجلة في الخراب المذكور خوفاً من هجوم الفرنج، وأمر بإحراق البلد، فأضرمت النيران في بيوته، وكان سورها عظيماً، ولم يزل الحريق يعمل في البلد من عشرين

في شعبان إلى سلخه، وأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. قال بعض الرواة: ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه للإحراق، ثم خرج إلى اللد وأمر بإخرابها وإخراب القلعة التي بالرمل، ففعل ذلك، والتمس بعض أكابر ملوك الفرنج أن يجتمع بالسلطان صلاح الدين بعدما اجتمع بأخيه الملك العادل، فاستشار صلاح الدين أصحابه من أكابر دولته في ذلك، فوقع الاتفاق على أن ذلك يكون بعد الصلح، ثم قال السلطان صلاح الدين: متى صالحنا هم لم نأمن غائلتهم، ولو حدث لي حادث الموت كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى على الفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت. ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح، وجرت وقعات كثيرة، ثم وقع الصلح بينهم، ثم أعطى العساكر الواردة عليه المنحدرة من البلاد البعيدة الدستور، فساروا عنه، وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاؤوهم الى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس، وتوجه السلطان إلى القدس، وأخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق، وأقام هو في القدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً، ويتأهب إلى المسير إلى الديار المصرية وانقطع عزمه عن الحج، ثم قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويتفقد القلاع ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً، ويعود إلى القدس ومنه الى الديار المصرية. وقال ابن خلكان: قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي انشأها، فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع دخل دمشق وفيها أولاده: الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين وأولاده الصغار، وجلس للناس يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، وحضروا عنده وبلوا شوقهم منه، وأنشد الشعراء فلم يتخلف منه أحد من الخاص والعام، وأقام بنشر جناح عدله وبهطل سحاب إنعامه وفضله، ويكشف عن مظالم الرعاياء. عمل الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر، وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام. ل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر،

وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام. ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام تغمده الله تعالى برحمته، كان من محاسن الدنيا وغرائبها. ومن مصالح الأمور الدينية، ودفع نوائبها، وذكر بعضهم أنه لم يخلف في خزائنه ذهباً ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهماً مصرية وخرصاً واحداً من الذهب صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى والد الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها رسالة بديعة مشتملة على معان رفيعة مع الإيجاز الفائق والنطق الرائق، في حالة يذهل فيها الإنسان عن نفسه، والخطب الذي صير الضرغام في رمسه، وهي: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف - في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الخناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء. ويدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع

اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم - والسلام. وقد تقدم ذكر أولاده وهم: الأفضل والظاهر والعزيز - وهو الملقب بالظافر فيما تقدم - ويعرف بالمشمر لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر، فغلب عليه هذا اللقب، وتوفي في سنة سبع وعشرين وستمائة بحران عند ابن عمه الملك الأسرف بن الملك العادل، ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً. ثم إن ولده الملك العزيز لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب القبة المذكورة المدرسة العزيزية، ووقف عليها وقفاً جيداً، ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية عمر بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه -. وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنهما - وجعل على ذلك وقفاً جيداً، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاً، ووقف عليها وقفاً طائلاً، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد أيضاً والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين النجار وقفاً على الشافعية وقفاً جيداً أيضاً، وله بمصر أيضاً مدرسة للمالكية، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستان، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة وقفها كثير خانقة بها. قلت: وصلاح الدين كاسمه لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام، وما له من محاسن الأحكام، وفعل من المعروف في الأوقاف العظيمة ما تضمن النفع العام - فالله تعالى يقدس روحه وينور ضريحه - مع أن كثر هذه الوقوفات من المدارس وغيرها غير منسوبة إليه في الظاهر، ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على علم التواريخ. قالوا: وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العضيم والمرتبة المرتفعة كثير التواضع واللطف، قريباً من الناس رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه، حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين الحميري، وقيل إنه قول أبي محمد أحمد بن خيران الشامري: وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة، وداعي الصبح قد هتفا فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك سر الحب بي شغفا ثم انتبهت، وآمالي تخيل لي ... نيل المنى، فاستحالت غبطتي أسفا قيل: وكان يعجبه ايضاً إنشاد أبي الحسن المعروف بابن المنخم.

وما خضب الناس البياض لقبحه ... فأقبح منه حين يظهر ناضله ولكنه مات الشباب فسودت ... على الرسم من حزن عليه منازله فكان يمسك بكريمته وبنظر إليها ويقول: إي والله، مات الشباب. وأرسل إليه بعض الشعراء بقصيدتين من بغداد، قال في آخر إحداهما: يا سلم، إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين أوعدت مغبوناً فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى نخيل أو وفاء خؤون ليت الظنين على المحب بوصله ... أخذ السماحة من صلاح الدين ومما قيل فيه لبعض شعراء المشرق. الله أكبر جاء القوس باريها ... ورام أسهم دين الله راميها فكم لمصر على الأمصار من شرف ... بيوسفين وهل أرض تدانيها؟ فبابن يعقوب هزت جيدها طرباً ... وبابن أيوب هزت عطفهاتيها قل للملوك تخلي عن ممالكها ... فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها فلما أنشده إياها أعطاه ألف دينار. ومدحه المهذب أبوحفص عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها. سلام مشوق قد يراه التشوق ... على خيره الحي الذي يتفرق وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً، وفيها البيتان السائران اللذان ثمثل بهما مدعي الأشجان مع بعد المكان، أحدهما. وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق وهذا البيت أخذه من قول بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة: وقالت لي الأيام إن كنت واثقاً ... بأبناء أيوب فأنت الموفق وقد مدحه خلق كثير من الشعراء تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته.

سنة تسعين وخمس مائة

سنة تسعين وخمس مائة فيها سار بعض ملوك الهند وقصد بلاد الإسلام، فطلبه شهاب الدين صاحب غزنة، فالتقى الجمعان على نهر ماخون. قال ابن الاثير: وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر ألف ألف نفس على ما قيل، فصير الفريقان وكان النصر لشهاب الدين الغوري. وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدين سبعين فيلاً، وقتل ملكهم، وكان قد شد أسنانه بالذهب، فما عرف إلا بذلك، وكان أكبر ملوك الهند. ودخل بلاده شهاب الدين وأخذ من خزائنه ألف حمل وأربع مائة حمل، وعاد إلى غزنة، ومن جملة الفيلة فيل أبيض. وفيها توفي الفقيه العلامة الشافعي القزويني الواعظ أبو الخير أحمد بن اسماعيل الطالقاني. قدم بغداد ودرس بالنظامية، وكان إماماً في المذهب والخلاف والأصول والوعظ. وروى كتباً وكباراً، ونفق كلامه بحسن سمته وحلاوة منطقه وكثرة محفوظاته، وكان صاحب قدم راسخ في العبادة، كبير الشأن عديم النظير. رجع إلى قزوين سنة ثمانين، ولزم العبادة إلى أن مات في محرم السنة المذكورة رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام المقرىء أحد الأعلام أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف الرعيني الشاطبي الضرير، صاحب القصيدة المشهورة المباركة الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، حقق القراءات على غير واحد من أثمة القراء، وسمع الحديث من طائفة من المحدثين، وكان إماماً وعلامة محققاً، كثير الفنون واسع الحفظ، نظم القصيدتين اللتين سارت بهما الركبان وخضعت لبراعة نظمهما فحول الشعراء وأئمة القراء والبلغاء، وكان ثقة زاهداً ورعاً كبير القدر، نزل القاهرة وتصدر للإقراء بالمدرسة الفاضلية، وشاع أمره وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء. وكان عالماً بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيراً وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان إذا قرىء عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظ، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد في علم النحو واللغة، عارفاً بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصاً فيما يقول ويفعل، ولا يجلس

للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية. لا يزيد على ذلك. وقال بعض اصحابه: كان الشيخ كثيراً ما ينشد هذا اللغز في نعش الموتى، وهو في ديوان الخطيب يحيى بن سلامة الخصلفي - بالخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء بين اللام وياءالنسبة. أتعرف شيئاً في السماء نظيره ... إذا صار سار الناس حيث يسير فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً ... وكل أمير يعتر به أسير يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير ولم يسترد عن غربة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور وكانت ولادته في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة وخطب ببلده وهو فتى، ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة، وكان يقال إنه يحفظ عند دخوله إليها وقر بعير من العلوم، وكان نزيل القاضي الفاضل، رأيته بمدرسة بالقاهرة مصدراً لإقراء القرآن الكريم والنحو واللغة إلى أن توفي، فدفن في تربة قاضي المذكور بالقرافة الصغرى. وفيرة بكسر الفاء وسكون المثناة من تحت وتشديد الراء والرعيني بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ياء النسبة: نسبة إلى ذي رعين: وهذا جد قبائل اليمن، نسب إليه خلق كثير، ومن جملتهم يافع جد قبيلتنا الكبير الشهيرة. الشاطبي - نسبة الى شاطبة مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء، وقيل أبو القاسم هو اسم الشاطبي، وكنيته اسمه، والصحيح ما تقدم. وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع محمد بن علي المعروف بابن الدهان البغدادي الفرضي الحاجب الأديب. له أوضاع بالجداول في الفرائض وغيرها، وصنف غريب الحديث في ستة عشر مجلداً الطافاً، رمز فيها حروفاً يستدل بها على اماكن الكلمات المطلوبة منه. وكان قلمه أبلغ من لسانه، وجمع تاريخاً وغير ذلك وله يد طولى في معرفة النجوم وحل الأزياج، وله شعر جيد منه ما كتبه إلى بعض الرؤساء، وقد عوفي من مرضه: تذر الناس يوم برئك صوماً ... غير أني نذرت وحدي فطرا عالماً أن يوم برئك عيد ... لا أرى صومه ولو كان نذرا وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن ابراهيم الانصاري المالقي، صاحب الإمام

ابن العربي كان إماماً معروفاً يسرد المتون والأسانيد عارفاً بالرجال واللغة ورعاً جليل القدر، طلبه من السلطان ليسمع بمراكش، فمات بها. وفيها توفي الشيخ الكبير قدوة العارفين وأستاذ المحققين، صاحب الكرامات الخارقة والانفاس الصادقة، والمقامات العلية والأحوال السنية، والهمم السامية والبركات النامية، والمعارف الجليلة والمواهب الجزيلة، والقدم الراسخ والمنهج المحمود، والباع الطويل في التصرف النافذ في الوجود، والمظهر العظيم والمحل الكريم أبو مدين شعيب بن الحسن، وقيل ابن الحسين المغربي - قدس الله روحه - أحد أركان هذا الشأن وأجمل الأكابر الأعيان، أظهر الله على يديه عجائب الآيات، ونطقه بفنون الحكم وكشف له الأسرار المغيبات، ورزقه القبول العظيم التام، والهيبة الوافرة في قلوب الأنام، ونشر ذكره في الآفاق وانعقد الإجماع على فضله، واجتمع عنده جمع كثير من الفقهاء والصلحاء، وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء، مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي، والشيخ أبي عبد الله القرشي، والشيخ أبي محمد عبد الله الفارسي، والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي، والشيخ أبي غانم سالم، والشيخ أبي علي واضح، والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي، والشيخ أبي محمد عبد الواحد، والشيخ أبي الربيع المظفري، والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء. وتلمذ له خلق كثير من أهل الطريق، وقال بارادته جم غفير من أصحاب الأحوال، وانتهى إليه عالم عظيم من الصلحاء وتأدب بين يديه المشايخ والعلماء، وله كلام نفيس على لسان أهل الحقائق، وكرامات عظام باهرات وخوارق. فمن كلامه: أغنى الأغنياء من أبدى له الحق حقيقة من حقه، وأفقر الفقراء من ستر الحق حقه عنه ومنه إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره، وليس للقلب سوى وجهة واحدة، فإلى أي جهة توجه حجب عن غيرها، واذا سكن الخوف القلب أورثه المراقبة، ومن تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء، وما وصل إلى صريح الحرية من عليه من نفسه بقية. ومن كراماته ما روي أنه كان يوماً ماراً على الساحل فاعترضه طائفة من الفرنج، وحملوه معهم أسيراً إلى سفينة عظيمة لهم، فلما صار فيها إذا جماعة من المسلمين أسارى، فأخذوهم وفيها جعلوهم، فلما استقر الشيخ المذكور فيها مدوا قلوعها وعزموا على المسير، فلم تذهب بهم السفينة، ولا تحركت من مكانها - على قوة الريح وشدة هبوبها وهيجانها - فلما أيقنوا أنهم على المسير لا يقدرون، وخافوا أن يدركهم المسلمون قال بعضهم لبعض: هذا بسبب هذا المسلم ولعله من أصحاب السرائر - يشيرون إلى الشيخ المذكور - فعند ذلك أمروه بالنزول فقال: لا أفعل حتى تطلقوا كل من في سفينتكم من المسلمين، فلما علموا أن

لابد لهم من ذلك الذي قال فعلوا وسارت بهم السفينة في الحال، ومن شعره: يا من علا فرأى ما في الغيوب وما ... تحت الثرى، وظلام الليل منسدل أنت الغياث لمن ضاقت مذاهبه ... أنت الدليل لمن حارت به الحيل إنا قصدناك والآمال واثقة ... والكل يدعوك ملهوف ومبتهل فإن عفوت فذو فضل وذو كرم ... وإن سطوت فأنت الحاكم العدل ومما أنشد بعض العلماء والصلحاء في مدحه من أهل المغرب. تبدت لنا اعلام علم الهدى صدقا ... فسار بشمسى الدين مغربنا شرقا وأشرق منها كل ما كان آفلاً ... وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا العز المغربي، وكمل على يديه، وكان سلطان المغرب في زمانه قد أمر بإشخاصه إليه، فلما وصل إلى تلمسان قال: ما لنا وللسلطان! الليلة نزور الإخوان، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال: ها قد جئت، ها قد جئت، وعجلت إليك رب لترضى. فمات ودفن في جبانة العباد، وقد ناهز الثمانين. وقبره بها ظاهر للزائرين، رضي الله عنه وعن سائر الصالحين. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام العارفين: جاكير: صاحب الفتح السني والكشف الجلي، والكرامات الباهرة والأحوال الفاخرة والمقامات العلية والأنفاس الزكية، والتصريف النافذ في العوالم، ومحاسن الأوصاف، وجميل الشيم والمكارم، والمعارف. كان تاج العارفين - رضي الله تعالى عنه - يثني عليه وينوه بذكره وبعث إليه طاقيته مع الشيخ علي ابن الهيتي، ولم يكلفه الحضور وقال: سألت الله تعالى أن يكون جاكير من مريدي، فوهبه لي. وكان رضي الله تعالى عنه يقول: ما أخذت العهد على أحد حتى رأيت اسمه مرقوماً في اللوح المحفوظ من جملة مريدي. وقال أيضاً أوتيت سيفاً ماضي الحد، أحد طرفيه بالمشرق والآخر بالمغرب، لو أشير به إلى الجبال الشوامخ لهوت. وروى الشيخ أبو الحسن علي ابن الشيخ الصالح ابن الشيخ العارف أبي الصبر يعقوب قال: أخبرنا أبي قال: سمعت والدي يقول: كانت نفقة شيخنا الشيخ جاكير بالجيم والمثناة من تحت بين الكاف والراء - رضي الله تعالى عنه من الغيب، وكان نافذ التصرف خارق الفعل متواتر الكشف، يندر له كثير. وكنت عنده يوماً فمرت به بقرات مع راعيها فأشار إلى إحداهن وقال: هذه حامل

سنة احدى وتسعين وخمس مائة

بعجل أحمر أغر، صفته كذا، يولد وقت كذا من يوم كذا، وهو نذر لي، ويذبحه الفقراء يوم كذا، ويأكله فلان وفلان، ثم أشار إلى الأخرى وقال: هذه حامل بأنثى، ومن صفتها كذا تولد وقت كذا، وهي نذر لي، ويذبحها فلان رجل من الفقراء يوم كذا، ويأكلها فلان وفلان، ولكلب أحمر فيها رزق. قال: فوالله لقد جرت الحال على ما وصف، ولم يخل منها بشيء، ودخل كلب أحمر إلى الزاوية، واختطف قطعة من لحم الأنثى وذهب بها. ومن كلامه - رضي الله تعالى عنه - إذا قدحت نار التعظيم مع نور الهيبة في زناد السر تولد منها شعاع المشاهدة، فمن شاهد الحق عز وجل في سره سقط الكون من قلبه. وأصله من الأكراد، سكن صحراء من صحارى العراق بالقرب من قنطرة الرصاص على يوم من سامرا، ولم يزل مستوطناً بها إلى أن مات بها، وقبره بها ظاهر يزار يؤمه من البعد الزوار، قد عمر الناس عنده قرية، رغبة في مجاورته والتماساً منهم لبركته. سنة احدى وتسعين وخمس مائة فيها كانت وقعة الزلاقة بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ملك الفرنج، فدخل يعقوب وغدا من زقاق سبتة في مائة ألف غير المطوعة، وأقبل الكافر عدو الله في مائتي ألف وأربعين ألفاً فانتصر بحمد الله الإسلام، وانهزم الكلب في عدد يسير، وقتل من الفرنج على ما أرخ أبو شامة وغيره مائة ألف وستة وأربعون ألفاً، وأسر ثلاثون ألفاً، وغنم المسلمون غنيمة لم يسمع بمثلها، حتى بيع السيف بنصف درهم، والحصان بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة. وفيها سار الملك العزيز ولد صلاح الدين من مصر، فنزل بحوران لياخذ دمشق من أخيه الأفضل، فاتخذ الأفضل عمه العادل، فرجع العزيز، وتبعاه، فدخل القاضي الفاضل في الصلح بينهم، وأقام العادل بمصر. وفيها توفي الحافظ القدوة الإمام أحد العلماء الأعلام أبو محمد عبد الله الأندلسي الزاهد: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله المرسي، سمع فأكثر على أبي الحسن بن مغيث وابن العربي والكبار، وتفنن في العلوم، وبرع في الحديث، وطال عمره، وشاع ذكره، وكان قد سكن سبتة فاستدعاه السلطان إلى مراكش ليسمع.

سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة

سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة فيها قدم العزيز دمشق مرة ثالثة ومعه عمه العادل، فحاصرا دمشق، ثم حاصر جند الأفضل عليه، ففتحوا لهما ودخلا في رجب، وزال ملك الأفضل، ورجع العزيز، وبقي العادل بدمشق وخطب بها للعزيز قليلاً. وفيها توفي الشيخ السديد شيخ الطب بالديار المصرية الملقب شرف الدين عبد الله بن علي. أخذ الصناعة عن الموفق بن زربي - بالزاي ثم الراء ثم الموحدة وياء النسبة - وخدم العاضد صاحب مصر، ونال الحرمة والجاه العريض، وعمر دهراً، وأخذ عنه النفيس بن الزبير. وحكي أنه حصل له في يوم ثلاثون ألف دينار، وحكى عنه تلميذه أبن الزبير أنه لما ظهر ولدي الحافظ لدين الله حصل له نحو خمسين ألف دينار. وفيها توفي الحبر الإمام أبو القاسم محمود بن المبارك الواسطي ثم البغدادي الفقيه الشافعي، أحد الأذكياء المناظرين المشار إليه في زمانه، والمقدم على أقرانه، درس بالنظامية، وقم دمشق، بنيت له مدرسة جاروخ - بالجيم في أوله والخاء المعجمة في آخره - ثم توتجه إلى شيراز وبنى له ملكها مدرسة، ثم أحضره ابن القضاب وقدمه. وفيها توفي أبو الغنائم محمد بن علي معروف بابن المعلم الشاعر المشهور، كان شاعراً رقيق الشعر لطيف الطبع، يكاد شعره يذوب من رقته، وهو أحد من اشتهر شعره وانتشر ذكره، ونبل بالشعر قدره، وحسن به حاله وأمره، وطال في نظمه عمره، وساعده على قبوله دهره، وأكثر القول في الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني، يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصباية والغرام، فعلق بالقلوب، ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وتحفظوا وتداولوه بينهم، واستشهد به الوغاظ واستحلاه السامعون. قال ابن خلكان: سمعت من جماعة من مشايخ البطائح يقولون: ما سبب لطافة شعر ابن المعلم؟! ألا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء المنتسبون إلى الشسخ أحمد بن الرفاعي، وغنوا بها في سماعاتهم، فطابوا عليها، فعادت عليه بركة أنفاسهم. قال: ورأيتهم يعتقدون ذلك اعتقاداً لا شك فيه عندهم، قال: وبالجملة، فشعره شبيه النوح، ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا وهاج غرامه. قال: وكان بينه وبين ابن التعاويذي الشاعر المتقدم

سنة ئلاث وتسعين وخمس مائة

ذكره تنافس، وهجاه ابن التعاويذي بابيات أجاد فيها. ومن شعر ابن المعلم: ردوا علي شوارد الأظعان ... ما الدار إن لم تغن من أوطاني ولكم بذاك الجزع من متمتع ... هزت معاطفه بغصن البان أبدى قلونه بأول موعد ... ومن الوفاء لنا بوعد ثان فمتى اللقاء ودونه من قومه ... أبناء معركة وأسد طعان تعلو الرماح وما أظن أكفهم ... خلقت لغير ذوابل المران وتقلد وابيض السيوف فما ترى ... في الحي غير مهند وسنان ولئن صددت، فمن مراقبة العدا ... ما الصد عن ملك ولا سلوان يا ساكني نعمان أين زماننا ... بطويلع يا ساكني نعمان وحكي عن ابن المعلم المذكور أنه قال: كنت ببغداد فاجتزت يوماً بالموضع الذي يجلس فيه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي الواعظ، فرأيت الخلق مزدحمين، فسألت بعضهم عن سبب ازدحامهم فقال: هذا ابن الجوزي الواعظ جالس. - ولم أكن علمت بجلوسه - فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته، وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهدا على بعض إشاراته؛ ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول: يزداد في مسمعي تكرار ذكركم ... طيباً وبحسن في عيني تكرره فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بهذا البيت من شعري، ولم يعلم بحضوري لا هو ولا غيره من الحاضرين. سنة ئلاث وتسعين وخمس مائة فيها افتتح العادل يافا، وفيها أخذت الفرنج من المسلمين بيروت، وهرب أميرها الى صيدا. وفيها توفي سيف الإسلام الملك العزيز طغتكين بن أيوب بن شاذي صاحب اليمن. كان أخوه الملك الناصر صلاح الدين لما ملك الديار المصرية قد سير أخاه شمس الدولة إلى بلاد اليمن، فدخلها واستولى على كثير من بلادها ثم رجع عنها على ما هو مذكور في ترجمته في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ثم سير السلطان صلاح الدين إليها بعد ذلك أخاه سيف الإسلام، وذلك في سنة سبع وسبعين وخمس مائة وكان رجلاً شجاعاً كريماً مشكور

سنة اربع وتسعين وخمس مائة

السيرة وحسن السياسة، مقصوداً من البلاد الشاسعة لاحسانه وبره. وكانت وفاة سيف الإسلام بالمنصورة مدينة اختطها باليمن، وتولى بعده ولده الملك المعز فتح الدين اسماعيل الذي سفك الدماء وظلم وعسف وادعى أنه أموي. وللمعز المذكور صنف أبو الغنائم مسلم بن محمود الشيرازي كتابه الذي سماه: عجائب الأسفار وغرائب الأخبار وأودع فيه من أشعاره وأخبار الناس كثيراً. وذكر بعضهم أنه مات بالحمراء من بلاد اليمن، وذكر أبو الغنائم في كتابه جمهرة الإسلام ذات النثر والنظم وأنه مات بثغر ودفن بها في المدرسة، ثم قال: وقتل ولده فتح الدين أبو الفداء اسماعيل في رجب سنة ثمان وتسعين بمكان شامي زبيد، وتولى مكانه أخوه الملك الناصر أيوب. وكان أبو الغنائم المذكور أديباً شاعراً، وكان أبوه أبو الثناء محمود نحوياً متصدراً الإقراء النحو بجامع دمشق، ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال ابن عنين: أنشدني محمود المذكور لنفسه: يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى إذا صح الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد يوجد في القري وفيها توفي الوزير عبد الله بن يونس البغدادي، تفقه واشتغل بالأصول والكلام وقرأ القراءات وسمع من أبي الوقت، وصنف كتاباً في الكلام والمقالات، ثم توكل لأم الخليفة، فترقى وعظم قدره، وولى وزارة الناصر لدين الله. سنة اربع وتسعين وخمس مائة فيها استولى علاء الدين خوارزم شاه على بخار، وكانت للمعين صاحب الخطا، وجرى له معه حروب وخطوب، ثم انتصر علاء الدين وقتل خلقاً من الخطا. وفيها توفي السيد الكبير أبو علي الحسن بن مسل، المشار إليه في العراق في زمانه. ويقال إنه كان من الأبدال، زاره الخليفة الناصر غير مرة، وتفقه وسمع من أبي البدر الكرخي، وكان كثير البكاء دائم المراقبة متبتلاً في العبادة مشهوراً برفض الدنيا، بلغ التسعين رحمة الله تعالى

سنة خمس وتسعين وخمس مائة

عليه. وفيها توفي صاحب سنجار الملك عماد الدين زنكي بن مودود، تملك حلب بعد ابن عمه الصالح اسماعيل، فسار صلاح الدين ونازله، ثم أخذ منه حلب وعوضه بسنجار، وكان عادلاً متواضعاً، وتملك بعده ابنه قطب الدين محمد. وفيها توفي قوام الدين يحيى بن سعيد الواسطي المعروف بابن الزياد صاحب ديوان الإنشاء ببغداد انتهت إليه رئاسة الترسل، مع معرفته بالفقه والأصول والكلام والنحو والشعر، أخذ عن ابن الجواليقي، وحدث عن القاضي الأرجاني وغيره، وولي نظر واسط، ثم ولي حجابة الحجاب. سنة خمس وتسعين وخمس مائة وفيها بعث الخليفة خلع السلطنة لخوارزم شاه. وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقاه الناس، وبقي في المطمورة خمس سنين. كذا ذكر الذهبي، ولم يبين لأي سبب سجن. وكنت قد سمعت فيما مضى أنه حبس بسبب الشيخ عبد القادر، بأنه كان ينكر عليه، وكان بينه وبين ابنه عداوة بسبب الإنكار المذكور. وأخبرني من وقف على كتاب له ينكر على قطب الأولياء. وتاج المفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر الشيخ محيي الدين عبد القادر - قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه - وإنكار ابن الجوزي عليه وعلى غيره من الشيوخ أهل المعارف والنور من جملة الخذلان وتلبيس الشيطان والغرور. والعجب منه في انكاره عليهم وبمحاسنهم يطرز كلامه فقد ملأت - والحمد لله - محاسنهم الوجود، فلا مبالاة بذم كل مغرور وحسود. قال الذهبي: وفيها فتنة الفخر الرازي صاحب التصانيف. وذلك أنه قدم هراة، ونال إكراماً عظيماً من الدولة، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع يوماً هو والقاضي مجد الدين ابن القدوة، فناظرا، ثم استطال فخر الدين على ابن القدوة وشتمه، ونال منه ما خرج فيه إلى الإهانة له. فلما كان من الغد جلس ابن عم مجد الدين فوعظ الناس وقال: ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس؛ ما نقول إلا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأما قول أرسطو أو كفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله؟ وبكى فأبكى الناس، وضجت الكرامية وثاروا من كل ناحية، وحميت الفتنة، فأرسل السلطان الجند وسكتهم، وأمر الرازي بالخروج. قلت: هكذا ذكر من المؤرخين من له غرض في الطعن

على أئمة الأشعرية. ثم أتبع ذلك بقوله. وفيها كانت بدمشق فتنة الحافظ عبد الغني. وكان أماراً بالمعروف داعية إلى السنة فقامت عليه الأشعرية وأفتوا بقتله، فأخرج من دمشق مطروداً. انتهى كلامه بحروفه في القصتين معاً. ومذهب الكرامية والظاهرية معروف، والكلام عليهما إلى كتب الأصول الدينية مصروف، فهنالك يوضح الحق البراهين القواطع، ويظهر الصواب عند كشف النقاب للمبصر والسامع. وفيها مات العزيز صاحب مصر أبو الفتح عثمان ابن السلطان صلاح الدين. وكان شاباً ذا كرم وحياء وعفة. قالوا: وبلغ من كرمه أنه لم يبق له خزانة، وبلغ من عفته أنه كان له غلام بألف دينار، فحل لباسه، ثم أدركه التوفيق فتركه، وأسرع إلى سرية له فقضى حاجته منها. وأقيم والده علي، فاختلف الأمراء، وكان بعضهم للأفضل، فسار إلى مصر، ثم سار بالجيوش ليأخذ دمشق من عمه، فوقع الحصار، ثم دخل الأفضل من باب السلامة، وفرحت به العامة وحوصرت القلعة مد. وفيها صلب بدمشق إنسان زعم أنه عيسى ابن مريم، وأضل طائفة، فأفتى العلماء بقتله. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي المعروف بابن رشد. تفقه وبرع وسمع الحديث، وأتقن الطب، ثم أقبل على الكلام والعلوم الفلسفية حتى صار يضرب به المثل فيها، وصنف التصانيف، وكان ذا ذكاء مفرط وملازمة للاشتغال ليلاً ونهاراً. وتآليفه في الفقه والطب والمنطق والرياضي والإلهي. وكانت وفاته بمراكش. وفيها توفي شيخ الطب وجالينوس العصر محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي أخذ الصناعة عن أبي العلاء زهير بن عبد الملك، وبرع ونال تقدماً وحظوة عند السلاطين، وحمل الناس عنه تصانيفه. وكان جواداً ممدحاً محتشماً كثير العلم قيل: إنه حفظ صحيح البخاري كله، وحفظ شعر ذي الرمة، وبرع في اللغة. توفي بمراكش. وفيها توفي العلامة يحيى بن علي البغدادي الشافعي المعروف بابن فضلان. كان

من أئمة علم الخلاف والجدل مشاراً إليه. وفيها توفي المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب الملقب بأمير المؤمنين. قد تقدم ذكر جده عبد المؤمن، ولما مات أبوه اجتمع رأي المشايخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقد له الولاية ودعوة أمير المؤمنين كأبيه وجده، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أئمة ملكهم ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمر الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته والأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أحواله وعظمت الفتوحات. ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبيرالمملكة من هناك، فأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها، ومهد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك على سائر بلاد الإسلام التي في مملكته فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق الملثم في شعبان سنة ثمانين وخمس مائة، وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه يعقوب عشرين ألف فارس وأسطوله في البحر. ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين، فاستعاد ما أخذ من البلاد، ثم عاد إلى مراكش. وخرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين، فنهبوا وسبوا، فانتهى مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبيرالمملكة من هناك، فأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها، ومهد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك على سائر بلاد الإسلام التي في مملكته فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق الملثم في شعبان سنة ثمانين وخمس مائة، وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه يعقوب عشرين ألف فارس وأسطوله في البحر. ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين، فاستعاد ما أخذ من البلاد، ثم عاد إلى مراكش. وخرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين، فنهبوا وسبوا، فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب، فتجهز لقتالهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب، واحتفل فيها وجاء إلى الأندلس، فعلم الفرنج فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم. وكان قد كتب إليه ملك الفرنج يتهدد المسلمين، ومن جملة كتابه باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، ثم عقب ذلك بالتوبيخ للأمير يعقوب والتهديد في كلام يطول. فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه: ارجع إليهم، " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " - النمل 37 - إن الجواب ما ترى، لا ما تسمع. ثم كتب هذا البيت: ولا كتب إلا المشرقية عنده ... ولا ارسل إلا الخميس العرمرم بيت المتنبي المشهور. ثم أمر باستدعاء الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات

بظاهر البلد من يومه، وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة، فعبر فيه إلى الأندلس، وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج - وقد اعتدوا وأحشدوا وتأهبوا - فكسرت كسرة شنيعة بعد أن أمر فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا، ففعلوا وانهزم الفرنج، وأعمل فيهم السيف، فاستأصلهم قتلاً، وما نجا منهم إلا ملكهم في نفر يسير. وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل إنه حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع. أما الدواب على اختلاف أنواعها فلم ينحصر لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها. ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً، بل يضربون رقاب الجميع - قلوا أو كثروا. ثم أتبعهم بجيش، فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب، فملكها يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً. ولكثرة الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج، فعاد إلى اشبيلية. وله مع الفرنج حروب عديدة أذلهم فيها، ونال منهم قتلاً ونهباً وتخريباً لديارهم، إلى أن التمسوا منه الصلح فصالحهم. وانتقل الى مدينة سلاوينا، وهي بالقرب منها مدينة عظيمة سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط، ثم رجع إلى مراكش. وبعد هذا اختلفت الرواية في أمره، فمن قائلين إنه تجرد وساح في الأرض، وانتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يعرف - ومات خاملاً، ومن قائلين إنه لما رجع إلى مراكش توفي - رحمه الله تعالى. قلت وسأذكر فيما بعد ما يؤيد قول من قال إنه تجرد عن الملك وساح في البلاد. وكان ملكاً جواداً عادلاً متمسكاً بالشرع المطهر، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر - كما ينبغي - من غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبس الصوف ويقف للمرأة والضعيف، فيأخذ لهم حقهم من كل ظالم عنيف، وأوصى أن يدفن في قارعة الطريق ليترحم عليه من أوصلته طريقه إليه من كل من مر به - أقبل لحاجة أو أدبر. وكان قد أمر علماء زمانه أن لا يقلدوا أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. قال ابن خلكان: ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا - وهم على تلك الطريق - مثل أبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمر ومحيي الدين بن العربي نزيل دمشق

وغيرهم. وكان يعقوب المذكور يعاقب على ترك الصلاة، ويامر بالنداء في الاسواق بالمبادرة إليها، فمن غفل عنها واشتمل بمعيشة عزر تعزيراً بليغاً. وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطانه حتى لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخل ولايته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس. وكان محسناً محباً للعلماء مقرباً للأدباء مصغياً إلى المدح مثيباً عليه، وله ألف أبو العباس الموحدي كتابه الموسوم بصفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر. قال ابن خلكان: وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان. وإلى الأمير يعقوب نسبت الدنانير اليعقوبية المغربية. وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين رسولاً يستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين، بل بأمير المسلمين، فعز عليه ذلك، ولم يجبه إلى ما طلب منه. فلما توفي الأمير يعقوب بايع الناس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب - ويلقب - بالناصر وارتجع الفدية من الملثم المتقدم ذكره، وكان قد استولى عليها، ثم تحول محمد بن يعقوب، ثم توفي بعد ذلك في سنة ست عشرة وستمائة. والمغاربة يقولون إنه أوصى عبيده بحراسة بستانه وحفظه، فتنكر وجعل يمشي في بستانه ليلاً، فعندما رأوه ابتدروه بالرماح، فجعل يقول: أنا الخليفة أنا الخليفة، فما تحققوه حتى هلك. والله أعلم بذلك. ولم يزل بنو عبد المؤمن يتوارثون الملك إلى أن انتهى إلى أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، فوقعت بينه وبين بني مريم حرب قتل فيها، فانقرضت دولة بني عبد المؤمن، واستولى بنو مريم على ملكهم، ولم يزل الملك في عنقهم إلى الآن. قلت: هكذا قال ابن خلكان، وهكذا هو أيضاً إلى الآن، لكنه قد تضعضع واضطرب لعدم طاعة العرب. قلت: وقد تقدم أن بعض المغاربة يذكرون أن الأمير يعقوب خلى الملك وساح في الأرض. ووعدت هناك بذكر ما يؤيد هذا القول، وها أنا أذكره الآن: سمعت ممن لا أشك في صلاحه من الفقراء الصادقين المتجردين المباركين من بلاد المغرب أن جمعاً من شيوخ المغاربة ذكروا رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - وما جمع فيها من مشايخ المشارقة وذكر مناقبهم، فراموا أن يعارضوا رسالته برسالة مشتملة على شيوخ يذكرونهم فيها - من شيوخ المغاربة - ثم ذكروا أن في شيوخ الرسالة القشيرية من تجرد عن الملك، ولم يجدوا في شيوخ المغرب من هو كذلك، فقالوا: ما تتم لنا معارضة الرسالة يعقوب خلى الملك وساح في الأرض. ووعدت هناك بذكر ما يؤيد هذا القول، وها أنا أذكره الآن: سمعت ممن لا أشك في صلاحه من الفقراء الصادقين المتجردين المباركين من بلاد المغرب أن جمعاً من شيوخ المغاربة ذكروا رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - وما جمع فيها من مشايخ المشارقة وذكر مناقبهم، فراموا أن يعارضوا رسالته برسالة مشتملة على شيوخ يذكرونهم فيها - من شيوخ المغاربة - ثم ذكروا أن في شيوخ الرسالة القشيرية من تجرد عن الملك، ولم يجدوا في شيوخ المغرب من هو كذلك، فقالوا: ما تتم لنا معارضة الرسالة

سنة ست وتسعين وخمس مائة

المذكورة إلا بملك منها يزهد ويسلك طريق ابن أدهم المشكور. فاهتموا لحصول ملك يزهد في الدنيا من ملوك المغرب ليعارضوا به ابن أدهم على المنصب، فجاء الشيخ الكبير الولي الشهير أبو ابراهيم بن أدهم إلى أمير المؤمنين - يعقوب المذكور فيما تقدم - واجتمع به، فسر يعقوب بذلك، وأخرج له من خزائنه جواهر نفيسة إكراماً له في مجيئه إليه، فالتفت أبو ابراهيم إلى شجرة هنالك وإذا هي حاملة جواهر تدهش العقول، فدهش أمير المؤمنين يعقوب، وهاله ما رأى من تصريف عباد الله في ملك الله، وما أكرمهم به ووالاهم، ورفع قدرهم وأعلاهم، حتى صارت ملوك الدنيا بين أيديهم كالخدم، وملكهم حقير كالعدم. فعند ذلك احتقر يعقوب ما هو فيه من ملك الدنيا، فزهد فيه، وصار من كبار الأولياء. سنة ست وتسعين وخمس مائة فيها تسلطن علاء الدين خوارزم شاه محمد بعد موت أبيه. وفيها كانت محاصرة دمشق. وبها العادل، وعليها الأفضل والظاهر ابنا صلاح الدين وعساكرهما نازلة، قد خندقوا عليهم من أرض اللوان إلى بلد آخر، فأمن من كبسة عسكر العادل، ثم ترحلوا عنها، ورجع الظاهر إلى حلب، وسار الأفضل إلى مصر، فساق وراءه العادل وأدركه عند العراب، ثم تقدم عليه وسبقه إلى مصر، فرجع الأفضل خائباً إلى صرخد - بالخاء المعجمة - وغلب العادل على مصر وقال: هذا صبي. وقطع خطبته، ثم أحضر ولده الكامل وسلطنه على الديار المصرية، فلم ينطق أحد من الأمراء. وسهل له ذلك اشتغال أهل مصر بالقحط، فإن فيها كسو النيل من ثلاثة عشر ذراعاً إلى ثلاثة أصابع، واشتد الغلاء وعدمت الأقوات، وشرع الوباء وعظم الخطب إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى. وفيها توفي العلامة أبو اسحاق العراقي ابراهيم بن منصورالمصري الخطيب، شيخ الشافعية بمصر. شرح كتاب المهذب في عشرة أجزاء شرحاً جيداً. قلت: وهذا المذكور أول شراح المهذب، وهم خمسة فيما علمت، والثاني الإمام العلامة أبو عمر وعثمان بن

عيسى الماراني الملقب ضياء الدين شرح الكتاب المذكور في قريب من عشرين مجلداً لكنه لم يكمله، بل بلغ فيه إلى كتاب الشهادات وسماة الاستقصاء لمذاهب العلماء والفقهاء. وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته في السنة التي توفي فيها سنة اثنين وستمائة بالقاهرة. والثالث والرابع السيدان الكبيران الوليان الشهيران الإمامان الجليلان أبو الذبيح اسماعيل ابن محمد الحضرمي اليمني، وأبو زكريا محيي الدين النووي، وهما متعاصران توفيا في سنةواحدة سنة ست وسبعين وستمائة. ولا أدري أيهما سبق بالشرح، فلهذا جمعتهما، وسيأتي ذكرهما في السنة المذكورة، وثني من فضائلهما بالتعديد. والخامس الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكل هؤلاء المذكورين ما أكملوا شرحه سوى العراقي والحضرمي وشرح السبكي، إنما بناه على ما انتهى إليه النووي، وهو باب الربا، ولم يكمله أيضاً ولقب أبو إسحاق المذكور بالعراقي لاشتغاله ببغداد. وفيها توفي علاء الدين خوارزم شاه سلطان الوقت. ملك من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى بغداد. وكان جيشه مائة الف فارس وهو الذي أزال دولة سلجوق. وكان شجاعاً فارساً عالي الهمة، تغير على الخليفة، وعزم على قصد العراق، فجاءه الموت فجأة في رمضان، وحمل إلى خوارزم، وقيل كان عنده أدب ومعرفة بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وقام مدة بعد ولده قطب الدين محمد. وفيها توفي مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جميل الكيلاني الشافعي الفرضي مدرس مدرسة صلاح الدين في القدس، وهو أحد من قام على الحكيم الشهروردي وأفتى بقتله. وفيها توفي أبو علي المعروف بالقاضي الفاضل عبد الرحيم ابن القاضي الملقب بالأشرف أبي المجد علي ابن القاضي الملقب بالسعيد أبي محمد الحسن بن الحسن اللخمي العسقلاني المولد، المصري الدار، وزر للسلطان صلاح الدين، وتمكن منه غاية التمكن: وبرز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد في أكثرها. قال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة في حقه: رب العلم والبيان واللسن واللسان، القريحة والوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة،

تخترع الأفكار وتفترع الأبكار، وتطلع الأنوار وتبدع الازهار، وهو ضابط الملك بآرائه ورابط السلك بآلآئه، أن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة. أين قس في فصاحته؟! وأين قيس في مقام حصافته؟! وأين حاتم وعمرو في سماحته وحماسته؟! وأطال القول فيما سمت به مدائحه. فالله تعالى يسامحنا ويسامحه. وذكر له رسالة لطيفة كتبها إلى صلاح الدين من جملتها: أدام الله السلطان الملك وثبته، وتقبل عمله بقبول صالح وأنبته، وأرغم أنف عدوه بسيفه وكتبه، خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب لما نابه المنزل عنها وقل عليه الموفق فيها. وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها، ووجب على أهلها شكرها. هاجر من هجر عيذاب وملحا سارياً في ليلة أمل كلها نهار، فلا يسأل عن صحبها، وقد رغب في خطابة الكرك وهو خطيب - وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس - وهو قريب - وبرع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب - والفقر سائق عنيف، والمذكور خامل لطيف، والسلام. ومن رسالة له في قلعة شاهقة يقال إنها قلعة كوكب قال: وهذه العلقة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة ذائلة إذا حصنها - الأصيل كان الهلال لها قلامة. وله في النظم أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين يتشوق إلى نيل مصر: في خطابة الكرك وهو خطيب - وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس - وهو قريب - وبرع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب - والفقر سائق عنيف، والمذكور خامل لطيف، والسلام. ومن رسالة له في قلعة شاهقة يقال إنها قلعة كوكب قال: وهذه العلقة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة ذائلة إذا حصنها - الأصيل كان الهلال لها قلامة. وله في النظم أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين يتشوق إلى نيل مصر: بالله قل للنيل عني أنني ... لم أشف من الفرات غليل وسل الفؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان جفني بالدموع بخيلا يا قلب كم خلقت ثم بثينة ... وأعيذ صبرك أن يكون جميلا قلت: وهذا البيت رمز فيه رمزاً أشار فيه إلى ما كان بين بثينة وجميل من الحب وهيمان جميل بها، وإعاذته بالله من أن يكون متصفاً بما اتصف به جميل من الهيمان وفرط الحب الذي لا يقوى عليه إنسان، واستعار ذلك لما في قلبه من المحبة للنيل. ومنها قوله: إذا السعادة لاحظتك عيونها ... ثم المخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... وافتل بها الجوزاء وهي عنان قلت والظاهر أن قوله: وافتل - بالفاء والمثناة من فوق - من فتل العنان.

سنة سبع وتسعين وخمس مائة

وأثنى عليه أيضاً الفقيه عمارة اليمني في كتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء - المصرية. وقيل: إن كتبه بلغت مائة ألف مجلد، وكان له آثار جميلة وأفعال حميدة وديانة متينة وأوراد كثيرة. وكان دخله في السنة من مغله دون خمسين ألف دينار، وكان عمره بضعاً وستين سنة. وفيها توفي الشهاب الطوسي أبو الفتح محمد بن محمود نزيل مصر شيخ الشافعية. درس وأفتى ووعظ وصنف وتخرج به الأصحاب، وكان رئيساً معظماً ينبه على الملوك لصنعه، يركب بالغاشية والسيوف المسلولة - وبين يديه ينادي هذا الملك العلماء - وكان صاحب صولة في القيام على الحنابلة ونصرة الأشاعرة. وفيها توفي أبو الفتوح عبد المنعم بن أبي عبد الوهاب بن سعد الملقب شمس الدين الحراني الأصل البغدادي المولد، الحنبلي المذهب. كان تاجراً، وله في الحديث السماعات العالية، وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض، وألحق الصغار بالكبار، لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد، توفي في بغداد ودفن بمقبرة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى بمائة وثمان وأربعين جارية. سنة سبع وتسعين وخمس مائة فيها كان الجوع والموت بالديار المصري، وجرت أمور تتجاوز الوصف ودام ذلك إلى نصف الشام الثاني، حتى قيل - أو قال قائل: مات ثلاثة أرباع أهل البلد المذكور لما أبعد والذي دخل تحت قلم الحشرية في مدة اثنتين وعشرين شهراً مائتا ألف وإحدى عشر ألفاً بالقاهرة، وهذا قليل في جنب من هلك بمصر والحواضر وفي البيوت والطرق ولم يدفن - وكله يسير في جنب من هلك بالإقليم. وقيل إن مصر كان فيها تسع مائة منسج، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجاً. فقس على هذا - وبلغ الفروخ مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية لولا ما جلب من الشام. وأما أكل لحم الآدميين فشاع واستفاض، وقيل: تواتر. وفي شعبان منها كانت الزلزلة العظمى التي عمت أكثر الدنيا. قال أبو شامة: مات

بمصر خلق تحت الهدم قال: ثم هدمت نابلس، وذكر خسفاً عظيماً، وأحصى من هلك في هذه السنة فكان ألف ألف ومائة ألف. وفيها كانت مراسلات الأمراء من مصر للأفضل والظاهر، وكرهوا العادل، وتطيروا بكعبة أسرع الأفضل إلى حلب، فخرج معه أخوه واتفقا على أن تكون دمشق للأفضل، ثم يسيران إلى مصر، فإذا ملكاها استقر بها الأفضل وتبقى الشام كلها للظاهر. فنازلوا دمشق وبها المعظم، وقدم أبوه إلى نابلس، فاستمال الأمراء وأوقع بين الأخوين - وكان من دهاة الملوك - فترحلوا. وكان بخراسان فتن وحروب عظيمة على الملك. وفيها توفي الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي البغدادي التميمي البكري نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - كان علامة عصره وإمام وقته في أنواع العلوم من التفسير والحديث والفقه والوعظ والسير والتواريخ والطب وغير ذلك. ووعظ من صغره وعظاً فاق فيه الأقران، وحصل له القبول التام والاحترام. حكي أن مجلسه حزر بمائة ألف، وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر. وصنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء اتى فيها بأشياء غريبة - وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله: المنتظم في التاريخ، وهو كتاب كبير، وله: الموضوعات، في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع. وله تنقيح فهوم الأثرة على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة - وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد، وكتب بخطه شيئاً كثيراً، والناس يغالون في ذلك. قال ابن خلكان حتى نقلوا أن الكراريس التي كتبها جمعت وحبست مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. قال: وهذا شيء عظيم لا يقبله العقل. قلت: وهو كما قال: ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فحصل منها شيء كثير. وأوصى أن يسخن الماء الذي يغسل به - بعد موته - بها، فكفت وفضل منها. وله أشعار لطيفة،....منها قوله معرضاً بأهل بغداد: عذيري من فتية بالعراق ... قلوبهم بالجفا قلب يرون العجيب كلام الغريب ... وقول القريب فلا يعجب ميادينهم أن تبدت بخير ... إلى غير جيرانهم تقلب

عذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحي ماتطرب وله أشعار كثيرة. وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، من ذلك ما يحكي أنه وقع النزاع ببغداد بين السنية والشيعية في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - فرضي الكل بما يجيب عنه الشيخ أبو الفرج، وأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنية: هو أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - لأن ابنته عائشة تحت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقالت الشعية: هو علي، لان فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تحته، وقال: وقال ابن خلكان: وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاًعن البديهة. انتهى. قلت: ومن نوادره ما سمعت من بعض أهل العلم: يحكى أن الخليفة غضب على إنسان من حاشيته، فأراد أن يعاقبه، فهرب فلزم أخاه، وصادره وأخذ له مالاً، فشكى ذلك المصادر إلى ابن الجوزي، وذكر له القضية فقال له: إذا انقضى مجلس وعظي فقم قدامي حتى تذكرني - وكان الخليفة يسمع وعظه من خلف الستر - كما تقدم فلما كان أول مجالسته الوعظ بعد ذلك - وانقضى المجلس - قام ذلك الإنسان المصادر، فلما رآه الشيخ أبو الفرج أنشد معرضاً يكون البريء، لا يؤاخذ بذنب الجزىء، محرضاً للخليفة على العدل والإحسان، وأن يعاد المال المأخوذ على ذلك الإنسان. قفي ثم اخبرينا يا سعاد ... بذنب الطرف لم سلب الفؤاد؟ وأي قضتة حكمت إذا ماجنى زيدبه عمرو يقاد؟! يعاد حديثكم فيزيد حسناً ... وقد يستحسن الشيء المعاد فقال الخليفة من وراء الستر: يعاد، يعني: المال، فأعيد على ذلك الشخص ماله وانجبر حاله. قلت: وكلام ابن الجوزي، وإن افتخر، فهو بالنسبة إلى كلام القطب عبد القادر محقر، ولو سلم من طعنه وإنكاره على المشايخ علماء الباطن لبقي مكتسباً يحلل الحاسن. وقد قدمت ذكر ذلك الإنكار وأنشدت في الفرق بين الكلام أبياتاً من الأشعار، ذكرت ذلك في تاريخ سنة خمس وتسعين وخمس مائة التي أخرج فيها من السجن، وفي سنة إحدى وستين التي فيها ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه. وكانت ولادة ابن الجوزي سنة ثمان، وقيل عشر وخمس مائة تقريباً، وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان ببغداد بباب حرب. والجوزي بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره زاي وياء النسبة - إلى موضع يقال له فرضة

الجوز. قال ابن النجار: وكان أبوه يعمل الصفر، وكان ولده محيي الدين يوسف محتسب بغداد. وتولى تدريس المستنصرية لطائفة الحنابلة، وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك، ثم صار أستاذ دار الخلافة. وكان سبطه شمس الدولة - أبو المظفر يوسف الواعظ المشهور - له صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم. وصنف تاريخاً كبيراً. قال ابن خلكان: رأيته بخطه في أربعين مجلداً أسماه: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان. وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع بن المقرون البغدادي، أحد أئمة الإقراء. كان صالحاً عابداً ورعاً مجاب الدعوة، من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان يتقوت من كسب يده. وفيها توفي العماد الكاتب الوزير الفاضل، أبو عبد الله محمد بن محمد الأصبهاني الفقيه الشافعي تفقه بالمدرسة النظامية وأتقن الخلاف وفنون والأدب، وسمع من الحديث، ولما حصل تعلق بالوزير يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ثم انتقل إلى دمشق، - وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكي - فتعرف به، وعرفه السلطان صلاح الدين ووالده، ونوه بذكره القاضي كمال الدين السهروردي عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله، وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي. وقال غيره: لم يكن قد مارس هذه الصناعة، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها، وأتى فيها بالغرائب. وكان ينشىء الرسائل باللغة العربية والعجمية أيضاً. وحصل بينه وبين صلاح الدين مودة أكيدة امتزاج تام، وعلت منزلته عند نور الدين، وصار صاحب سره وسيره رسولاً في أيام الخليفة المستنجد، فلما عاد فوض إليه التدريس في المدرسة المعروفة، ثم رتبه في إشراف الديوان، ثم لما تسلم صلاح الدين قلعة حمص حضر بين يديه وأنشده قصيدة، ثم لازمه وترقى عنده حتى صار في جملة الصدور المعدودين والأماثل الممجدين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان صلاح الدين بالقيام بالمصالح، والعماد ملازم للباب، وهو صاحب السر المكتوم. وصنف التصانيف النافعة، من ذلك: خريدة القصر وجريدة أهل العصر، جملة ذيلاً على زينة الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري، والخطيري جعله ذيلاً على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على يتيمة الثعالبي، والثعالبي

جعل كتابه ذيلاً على كتابه البارع لهارون المنجم. وذكر العماد المذكور الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وبعدها، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والعرب ولم يترك إلا النادر. كتابه المذكور عشر مجلدات، وصنف كتاب: البرق الشامي في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، ووسمه بالبرق لسرعة انقضاء تلك الأيام. وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس. وكتاب السيل على الذيل جملة ذيلاً على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب. وكتاب نصرة الفترة وعصرة الفترة في اخبار الدولة السلجوقية. وله ديوان رسائل، وديوان شعر في أربع مجلدات. وكانت بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطائف. فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر، فلا كبابك الفرس، فقال له الفاضل: دام علاء العماد. فأتى كل واحد منهما بألفاظ تقرأ على ترتيبها المذكور، وتقرأ مقلوباً، أعني من آخر حروفها مرتبة إلى أولها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال: ها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال: مما اثارته السنابك ... والجو منه مظلم لكن أثارته السنابك ... يا دهر لي عبد الرحيم فلست اخشى مس نابك......................... فاتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة مكتسياً حلة الحسن. قلت: وأما رسالته إلى القاضي الفاضل لما رجع من الحج - التي استحسنها ابن خلكان - فليست بحسنة من جهة لدين ولا من جهة البيان، فإنه بالغ فيها مبالغة محرجة لشعائر الله تعالى المنظمة إلى حد الامتهان، حيث قال: راكباً فرس البيان في ميدان بلاغة الإنسان الراكض، جواد اللسن الحاصل من نتائج جبلة الجنان وجرأة اللسان. طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجى منيل الجدى - ومنير الدجى، ولندى الكعبة من كعبة الندى، وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى، وللقائم الكريم من مقام الكريم، ومن حاطم فقار الفقر للحطيم، ومتى هرم لمنى الحرم، وحاتم الكرم لمائح زمزم، ومتى ركب البحر البحر وسلك البر البر، ولقد عاد قيس إلى عكاظه، وعاد قيس لحفاظه، ويا عجباً للكعبة!! يقصدها كعبة الفضل والأفضال، والقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال. قلت: وليس كما قال غيره في مدح بعض الأولياء، فإنهم من احباب الله تعالى الأصفياء.

سنة ثمان وتسعين وخمس مائة

سنة ثمان وتسعين وخمس مائة فيها تغلب قتادة بن ادريس الحسيني على مكة، وزالت دولة بني فليتة. وفيها توفي صاحب اليمن وابن صاحبها الملك المعز اسماعيل بن الملك سيف الاسلام طغتكين - بن نجم الدين أيوب بن شاذي كان مجرماً مصراً على شرب الخمر والظلم، ادعى أنه أموي وخرج يروم الخلافة، فوثب عليه أخوان من أمرائه فقتلاه، وولي بعده أخ له صبي، يدعى بالملك الناصر أيوب. وفيها توفي مسند الشام أبو طاهر بركات بن ابراهيم المعروف بالخشوع، سمع من ابن الأكفاني وجماعة. وفيها توفي الحافظ أبو الثناء حماد بن هبة الله. وفيها توفي اللؤلؤ الحاجب العادل، من كبار الدولة، له مواقف حميدة بالسواحل. وكان مقدم المجاهدين المؤيدين الذين ساروا لحرب الفرنج الذين قصدوا الحرم النبوي في البحر وظفروا قيل إنه سار لؤلؤ موقناً بالنصرة، وأخذ معه قيوداً بعدد الفرنج، وكانوا ينيفون على ثلاثمائة - كلهم أبطال من الكرك والشوبك - مع طائفة من العرب المرتدة، فلما بقي بينه وبين المدينة يوم أدركهم لؤلؤ، وبذل الأموال للعرب فخامروا معه، وذلت الفرنج، واعتصموا بحبل، فترحل لؤلؤ وصعد إليهم بالناس - في تسعة أنفس، فهابوه وسلموا أنفسهم، فصفدهم وقيدهم كلهم، وقدم بهم مصر، وكان يوم دخولهم يوماً مشهوراً. وكان لؤلؤ شيخاً أرمينياً من غلمان القصر، فخدم مع صلاح الدين مقدماً، وكان أينما توجه فتح ونصر، ثم كبر وترك الخدمة. وكان يتصدق كل يوم بطعام عدة قدور وباثني عشر ألف رغيف، ويضيف ذلك في شهر رمضان. وفيها توفي ابن الزكي قاضي الشام محيي الدين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة زكي الدين علي ابن قاضي القضاة منتجب الدين محمد بن يحيى - القرشي الشافعي. كان فقيهاً إماماً طويل الباع في الإنشاء والبلاغة، فصيحاً كامل السؤدد.

سنة تسع وتسعين وخمس مائة

سنة تسع وتسعين وخمس مائة وفيها تمكن العادل من الممالك، وأبعد الملك المنصور علي بن العزيز - صلاح الدين، وأسكنه بمدينة الرها. وفيها رمي بالنجوم، ذكر ذلك جماعة من المؤرخين قال بعضهم في سلخ المحرم ماجت النجوم وتطايرت كتطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق وضجوا بالدعاء. قالوا: ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها توفي غياث الدين سلطان غزنة أبو الفتح محمد. كان ملكاً جليلاً عادلاً محباً إلى رعيته كثير المعروف والصدفات، وتفرد بالملك بعده أخوه السلطان شهاب الدين. وفيها توفي القاضي محمد بن أحمد الأموي المرسي المالكي، أحد أئمة المذهب، عرض المدونة على والده، وأجاز له الكبار، وأفتى ستين سنة، وولي قضاء مرسية وشاطبة وصنف التصانيف. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الموفق مسعود بن شجاع المعروف بالبرهان الحنفي، درس في النورية والخانوتية، قاضي العسكر، كان صدراً معظماً مفتياً رأساً في المذهب، وكان لا يغسل له فرجية، بل يهبها ويلبس جديدة. وفيها توفي الإمام أبو الحسن علي بن ابراهيم الأنصاري الدمشقي الحنبلي الواعظ، كان من رؤوس العلماء. وفيها توفي الحسن بن سعيد الملقب علم الدين الشاتاني - بالشين المعجمة وبين الألفين مثناة من فوق وقبل ياء النسبة نون - كان فقيهاً وغلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به، وكان الوزير أبو المظفر بن هبيرة كثير الإقبال عليه والإكرام له، وذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه، وقال يمدح صلاح الدين بقصيدة أولها: أرى النصر معقوداً برايتك الصفرا ... فسروا ملك الدنيا فأنت بها أحرى يمينك فيا اليمن واليسر في اليسرى ... فبشرى لمن يرجو الندى بهما بشرا وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير إمام العارفين ودليل السالكين، صاحب الأحوال الفاخرة الكرامات الباهرة، والمقام العلي. والكشف الجلي، والعطاء السني والمشرب الهني، والمحاضرات القدسية والمسامرات الأنسية، والحقائق الربانية والأسرار

سنة ست مائة

الإلهية أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم القرشي الهاشمي، - قدس الله تعالى روحه - كان له التصريف النافذ في الوجود، والفضل الفائض من فيض الجود، والباع الطويل في أحكام الولاية، والجانب الرحيب في أحوال النهاية، والقدم الراسخ في التمكين المكين، والسبق إلى ذري درجات، المقربين، أحد أركان هذا الشأن، وعلم أعلامه وقدوة ساداته الأعيان، أجمع على جلالته أكابر الأولياء والعلماء، واتفق على فضيلته سكان الحضرة والحمى، وتبرك الجلة بآثاره، والتمسوا الهدى بإضاءة أنواره. وله كلام وكرامات، مودع بعضها في بعض المصنفات، مما اعتنى بجمعه وتأليفه الشيخ الإمام الحفيل السيد الجليل تلميذه أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني. وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب روض الرياحين، وكتاب أطراف السامعين. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: الزم الأدب وحدك من العبودية، ولا تتعرض لشيء، فإن أرادك له أوصلك إليه، ومنه: العالم من نطق عن سرك واطلع على عواقب أمرك، ومن كراماته رضي الله عنه ما ذكر قال: كنت بمنى فعطشت ولم أجد ماء، ولم يكن معي ما أشتري به، فمضيت أطلب بيراً من الآبار، فوجدت عليه أعاجم يستقون الماء، فقلت لأحدهم: ضع لي في هذه الركوة ماء، فضربني وأخذ الركوة من يدي ورمى بها بعيداً، فمضيت إليها لأخذها وأنا منكسر النفس - فوجدتها في بركة ماء حلو، فاستقيت وشربت، وجئت بها إلى أصحابي فشربوا، وأعلمتهم بالقصة، فمضوا إلى المكان ليستقوا منه فلم يجدوا ماء ولا أثر الماء، فعلمت أنها آية. سنة ست مائة فيها وقعت فتنة بين صاحب الموصل نور الدين، وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، فاستنجد القطب بجاره الملك الأشرف موسى - وهو بحران - فسار معه وعمل مصافاً مع صاحب الموصل، فكسره الأشرف وأسر جماعة من أمرائه، ثم اصطلحا في آخر العام، وتزوج الأشرف بأخت صاحب الموصل.

وفيها أخذت الفرنج فوة واستباحوها، وهي بليدة حسنة، دخلوا إليها من فم رشيد في النيل. وفيها توفي العلامة أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي القزويني، ركن الدين المعروف بالطاوسي الحنفي. كان إماماً فاضلاً مناظراً محجاجاً فيما يعلم الخلاف، ماهراً فيه، اشتغل على الشيخ رضي الدين النيسابوري صاحب الطريقة في الخلاف، وبرز فيه، وصنف ثلاث تعاليق في الخلاف مختصرة، وثانية متوسطة أو كما قيل، وثالثة مبسوطة. وأجمع عليه الطلبة بمدينة همدان، وقصدوه من البلاد البعيدة والقريبة للاستفادة عليه، وعلقوا تعاليقه، وبنى له الحاجب جمال الدين بهمدان مدرسة تعرف بالحاجبية، وطريقته الوسطى خير من طريقته الأخيرتين لأن نفعها كثير وفوائدها جمة. قال ابن خلكان: واكثر اشتغال الناس في هذا الزمان بها، واشتهر صيته في البلاد، وحملت طرائقه إليها. والطاوسي: قيل نسبة إلى طاوس بن كيسان التابعي. وفيها توفي الإمام العالم العلامة أبو الفتوح العجلي منتجب الدين أسعد بن أبي الفضائل محمود بن خلف الأصبهاني الواعظ، شيخ الشافعية. كان من الفقهاء الفضلاء الموصوفين بالعلم والزهد، مشهوراً بالعبادة والنسك والقناعة، لا يأكل إلا من كسب يده. وكان يورق ويبيع ما يتقوت به، وكان واعظاً، ثم ترك الوعظ وألف كتاب آفات الوعاظ، سمع ببلده الحديث على جماعة، منهم: الحافظ اسماعيل بن محمد بن الفضل وأبو الوفا غانم بن أحمد الجلودي وأبو الفضل عبد الرحيم بن أحمد البغدادي وأبو المظفر قاسم بن الفضل الصيدلاني وغيره. وقدم بغداد وسمع بها من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي، وله إجازة حث بها عن أبي القاسم زاهر بن طاهر وأبي الفتح اسماعيل بن أبي الفضل - الاخشيدي وأبي المبارك عبد العزيز الأزدي وغيرهم، وعاد إلى بلده وتبحر وتمهر واشتهر وصنف عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب شرح مشكلات الوسيط والوجيز للغزالي، تكلم في المواضع المشكلة من الكتابين، ونقل من الكتب المبسوطة عليها، وله كتاب تتمة التتمة للمتولي، وعليه كان الاعتماد في الفتوى بأصهان. والعجلي بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل بن لجيم - بضم اللام وفتح الجيم - وكان عجل المذكور يعد من الحمقى، من أجل أنه كان له فرس جواد، فقيل له أن لكل فرس جواد اسماً، فما اسم فرسك؟ فقال: لم اسمه بعد، فقيل له: سمه؛ ففقأ إحدى عينيه وقال: قد سميته الأعور. وفيه قال بعض شعراء العرب:

رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل يقال عار عينه - بالمهملة إذا فقأها. وبنو العجل قبيلة كبيرة من العرب شهيرة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، سمع في دمشق والاسكندرية وبغداد وأصبهان، وصنف التصانيف، ولم يزل يسمع ويكتب، وإليه انتهى حفظ الحديث متناً وإسناداً ومعرفة، مع الورع والعباد والتمسك بالأثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيرته مذكورة في جزأين تأليف الحافظ الملقب بالضياء. وفيها وقيل في سنة ثلاث وست مائة توفي الشيخ الحافظ عبد الرزاق ابن الشيخ القطب عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، أسمعه أبوه عن أبي الفضل الأرموي وطبقته، ثم سمعه بنفسه. وفيها توفيت فاطمة بنت سعد الخير بن محمد أم عبد الكريم بن أبي الحسن الأنصاري رضي الله عنهم.

سنة اثنتين وست مائة

/سنةاحدى وست مائة فيها تغلبت الفرنج على مملكة القسطنطينية وأخرجوا الروم عنها بعد حصار طويل وحروب كثيرة. وفيها توفي المحدث أحمد بن سليمان الحربي المقرىء المفيد، والرجل الصالح عبد الرحيم بن محمد بن محمد نزيل همدان، وأبو الفضل محمد بن الحسين المقري الدمشقي المعروف بابن الخصيب. سنة اثنتين وست مائة فيها سلم خوارزم شاه محمد بن ترمذ إلى ملك الخطا، فكان ذلك هو الخطأ بعينه وتشوش الناس لذلك قيل: وما فعله إلا مكيدة ليتمكن من ممالك خراسان. وفيها توفي مدرس الأرمينية المعروف بالتقي الأعمى سرق ماله فاتهم به قائده، فاحترق قلبه، فأهلك نفسه، وجد مشنوقا بالمنارة الغربية، نسأل الله العافية. وفيها توفي الإمام العلامة أبو عمر. وعثمان بن عيسى الهدباني بالدال المهملة والباء الموحدة، وقبل ياء النسبة نون الماراني بالراء بين الألفين والنون بعد الثانية الملقب ضياء الدين، كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الإمام الشافعي قرأ وتمهر في فروع المذهب وأصوله، وشرح المهذب شرحا لم يسبق إلى مثله في قريب من عشرين مجلدا، لكنه لم يكمله بلغ فيه إلى كتاب الشهادات، وسماه الاستقصاء لمذاهب الفقهاء. وشرح اللمع في أصول الفقه للشيخ أبي اسحاق الشيرازي أيضا شرحا مستوفي في مجلدين، وغير ذلك، ووقف عليه الأمير جمال الدين الهكاري في مدرسة أنشأها في القاهرة، وفوض تدريسها إليه، ولم يزل بها إلى أن توفي، وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية، وهو في نسبته راجع إلى ابن عبدوس الماراني نسبة إلى بني ماران، توفي بعد أن نيف على الثمانين، ودفن بالقرافه الصغرى

سنة ثلاث وست مائة

وفيها توفي السلطان أبو المظفر محمد شهاب الدين الغوري صاحب غزنة قتلته الإسماعيلية بعد قفوله من غزو الهند، وكان ملكًا جليلاً مجاهدًا، واسع المملكة حسن السيرة، وهو الذي حضر عنده الإمام فخر الدين الرازي، فوعظه وقال: يا سلطان العالم لا سطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى، فانتحب السلطان باكياً. وفيها توفي أبو العز عبد الباقي بن عثمان الهمداني الصوفي، وكان ذا علم وصلاح. وفيها توفي أبو يعلى حمزة بن علي بن حمزة البغدادي، كان خيراً زاهداً بصيراً بالقراءات، حاذقا فيها. سنة ثلاث وست مائة فيها وقعت حروب خراسان، قوي فيها ملك خوارزم شاه، واتسع وافتتح بلخ غيرها، ونازلت الفرنج حمص، فصار إليهم المبارز وحاربهم. وفيها توفي الحافظ الثقة عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي أسمعه أبوه من أبي الفضل الأرموي وطبقته، ثم سمع هو بنفسه، قيل: لم ير مثله في وقته في يقظة وتجربة. وفيها توفي داود بن محمد بن محمود الأصبهاني وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي ابن فاضل الصوري المصري، كتب الكثير، واكثر عن السلفي سمع بمصر من الشريف الخطيب، وقرأ القراءات على الغافقي. وفيها توفي محمد بن معمر القرشي الأصبهاني، سمع من خلق كثير، وكان عارفًا بمذهب الشافعي، وبالعربية والحديث، قوي المشاركة، محتشمًا ظريفًا وافر الجاه. وفيها توفي أبو الحزم الإمام العلامة ضياء الدين محمد الموصلي المقري النحوي الضرير، صاحب ابن الخشاب، برع في القراءات والعربية واللغة وغير ذلك، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل فقال: هو جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب، والمجمع على دينه وعقله، والمتفق على علمه وفضله رحل إلى بغداد، ولقى بها مشائخ

سنة أربع وست مائة

النحو واللغة والحديث، وكان واسع الرواية، وكان أبدا يتعصب لأبي العلاء المعري ويطرب إذا قرىء عليه شعره للجامع بينهما من العمى والأدب.. قال ابن خلكان: وحكى بعض من أخذ عنه أنه لما كان ببلده كان جيرانه ومعارفه يسمونه مكيك تصغير مكي، فلما ارتحل واشتغل وحصل اشتاقت نفسه إلى وطنه، فعاد إليه، فتسامع به من بقي ممن كان يعرفه، فزاروه وفرحوا به لكونه فاضلأ من أهل بلدهم، وبات تلك الليلة، فلما كان سحر خرج إلى الحمام فسمع امرأة في غرفتها تقول لأخرى: ما تدرين من جاء؟ فقالت: لا، فقالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا أقعدن في بلد. أدعى فيها مكيك، فسافر من غير تربث، وعاد إلى الموصل، ثم سافر إلى الشام لزيارة بيت المقدس. سنة أربع وست مائة فيها تملك الملك الأوحد أيوب بن العادل مدينة خلاط. وفيها توفي أبو العباس الرعيني أحمد بن محمد الإشبيلي المقري، وكان من الأدب والزهد بمكان. وفيها توفي ابن الساعاتي علي بن محمد الشاعر الملفق صاحب ديوان الشعر. وفيها توفي أبو ذر مصعب بن محمد الجياني النحوي اللغوي صاحب التصانيف، وحامل لواء العربية في الأندلس، ولي خطابة إشبيلية مدة، ثم قضاء جيان، ثم تحول إلى فاس، بعد صيته، وسارت الركبان بتصانيفه. سنة خمس وست مائة فيها توفي الملك سنجر شاه ابن غازي قتلة ابنه غازي وحلفوا له ثم وثب عليه من الغد خواص أبيه وقتلوه، وملكوا أخاه الملك المعظم، وكان سنجر سيىء السيرة ظلومًا وفيها توفي المحدث العالم محمد بن المبارك البغدادي. وفيها توفي أبو الجود غياث بن فارس اللخمي مقري الديار المصرية.

سنة ست وست مائة

سنة ست وست مائة فيها نزلت الكرج بالراء الجيم على خلاط، فلما كادوا أن يأخذوها، زحف ملكهم في جيشه، فوصل إلى باب البلد. وفيها توفي الأوحد بن العادل، فبرز إليه عسكر المسلمين، فظفر به فرسه فأحاط المسلمون، وأسروه، وهرب جيشه. وفيها سار خوارزم شاه صاحب خراسان في جيوشه، وقطع النهر، فالتقى الخطا وكانت ملحمة عظيمة انكسر فيها، وقتل منهم خلق كثير، واستولى خوارزم شاه على ما وراء النهر، وكان كشلوخان بالشين والخاء المعجمتين وعسكره، وقد أخرجتهم الخطا من أرضهم، ونزلوا بلاد الترك، وجرت لهم حروب مع الخطا، فلما عرفوا أن خوارزم شاه كسرهم قصدوهم، فكاتب ملك الخطا في الحال خوارزم شاه يقول: إما ما كان منك من بلادنا، وقتل رجالنا، فمغفور فقد أتانا عدو لا قبل لنا به، وقد انتصروا علينا وأخذونا لم يبق لهم دافع عنك والمصلحة أن تسير إلينا وتجيرنا، فكاتب خوارزم شاه كشلوخان، إنا معك، وكاتب ملك الخطأ كذلك، وسار بجيوشه إلى أن نزل بقرب مكان المصاف، فتوهم كلا الفريقين أنه معهم، وأنه مكين لهم، فالتقوا، فانهزمت الخطا فمال حينئذ مع كشلوخان، ورأى رأيًا نحسًا، وهو إن أمر أهل بلاد الترك بالجلاء إلى بخارى وسمرقند، ثم خربهما جميعًا وشتت الناس. وفيها توفي أسعد بن المنجا بن أبي البركات القاضي أبو المعالي التنوخي المغربي، ثم الدمشقي روي عن القاضي الأرموي وتفقه على الشيخ عبد القادر وغيره. وفيها توفيت أم هاني عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الأصبهانية، وهي آخر من روى عن عبد الواحد صاحب أبي نعيم، ولها إجازة من أبي علي الحداد وجماعة، وسمعت المعجمين الصغير والكبير للطبراني من فاطمة الجوزدانية. وفيها توفي الإمام الكبير العلامة التحرير الأصولي المتكلم المناظر المفسر صاحب التصانيف المشهورة في الآفاق الحظية سوق الإفادة بالاتفاق فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين القرشي التيمي البكري الملقب بالإمام عند علماء الأصول المقرر

لشبه مذاهب الفرق المخالفين والمبطل لها بإقامة البراهين الطبرستاني الأصل الرازي المولد المعروف الشافعي المذهب فريد عصره، ونسيج وحد الذي قال فيه بعض العلماء. خصه الله برأي هو للغيب طليعة ... فيرى الحق بعين دونها حد الطبيعة ومدحه الإمام سراج الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي الخوارزمي بقوله: أعلمهن علمًا يقينًا إن رب العالمينا ... لو قضى في عالميهم خدمة للأعلمينا أخدم الرازي فخر أخدمة العبد بن سينا فاق أهل زمانه الأصلين والمعقولات، وعلم الأوائل، صنف التصانيف المفيدة في فنون عديدة. منها تفسير القران الكريم جمع فيه من الغرائب والعجائب ما يطرب كل طالب، وهو كبير جدًا لكنه لم يكمله وشرح سورة الفاتحة في مجلد، ومنها في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول وكتاب الأربعين والمحصل وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان وكتاب المباحث المشرقية، وكتاب المباحث المعادية في مطالب المعادية وكتاب تهذيب الدلائل وعيون المسائل وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار وكتاب أجوبة المسائل النجارية وكتاب تحصيل الحق وكتاب الزيدة والمعالم وغير ذلك، وفي أصول الفقه والمحصول والمعالم في الحكمة الملخص وشرح الملخص لابن سينا وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة وغير ذلك، وفي الطلسمات السر المكتوم وشرح أسماء الله الحسنى ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري وشرح الوجيز في الفقه للغزالي. وشرح سقط الزند للمعري. وله مختصر في الإعجاز ومؤاخذات جيدة على النحاة وله طريقة في الخلاف، وله في الطب شرح الكليات للقانون، وصنف في علم الفراسة، وله مصنف في مناقب الشافعي، وكل كتبه مفيدة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة بين العباد، فإن الناس اشتغلوا بها، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتي فيها بما لم يسبق إليه، وله في الوعظ اليد البيضاء ويعظ باللسانين العربي والعجمي، وكان يلحقه الوجد حال الوعظ، ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات، ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن الأجوبة، المجادلات على اختلاف أصنافهم ومذاهبم ويجيء إلى مجلسه الأكابر والأمراء والملوك، وكان صاحب وقار وحشمة ومماليك وثروة، وبزة حسنة، وهيئة جميلة، إذا ركب مشى معه نحو ثلاث مائة مشتغل على اختلاف مطالبهم في التفسير والفقه والكلام والأصول والطب

وغير ذلك، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة كان يلقب بهراة شيخ الإسلام، وكان مبدأ اشتغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السمناني بالسين المهملة والنون مكررة قبل الألف وبعدها، واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري، واشتغل على المجد الجيلي صاحب محمد بن يحيى الفقيه أحد تلامذة الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ولما طلب المجد إلى مراغة ليدرس بها صحبه وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة، ويقال: إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في أصول الدين والمستصفى في أصول الفقه للغزالي وكذا المعتمد لأبي الحسين البصري، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما وراء النهر، فجرى له أيضا هنالك كذلك، فعاد إلى الري، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان، ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب، وأيقن بالموت، فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب، فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، كذا قاله ابن خلكان قلت: وعلى تقدير صحة ذلك يحمل على استيلاء شرعي من نحو وصاية أو وكالة قال: ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بالغين المعجمة والزاي والنون في جملة من المال، ثم مضى إليه لاستيفائه منه، فبالغ في إكرامه والإنعام عليه، وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد المعروف بخوارزم شاه، فحظي عنده، ونال أسمى المراتب، ولم يبلغ أحمد منزلته عنده، ولما قدم إلى هراة نال من الدولة إكرامًا عظيمًا، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع يومًا مع القاضي مجد الدين ابن القدوة، فتناظر ثم استطال فخر الدين علي ابن القدوة، ونال منه وأهانه فعظم ذلك على الكرامية، وثاروا من كل ناحية، فقامت بينهم فتنة فأمر السلطان الجند بتسكينها وذلك في سنة خمس وتسعين وخمس مائة ولم يزل بينه وبين الكرامية السيف الأحمر، فينال منهم وينالون منه سبًا وتكفيرًا حتى قيل إنهم سموه فمات من ذلك، وكان موته بهراة يوم الاثنين يوم عيد الفطر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. ومناقبه أكثر من أن تحصر به وتعد وفضائله لا تحصى ولا تحد. وكان له مع ما جمع من العلوم شيء من الكلام المنظوم، ومن ذلك قوله: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال

فأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم تستفد من بحثناطول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وكم من جبال قد علت شرفاته رجال فزالوا والجبال جبال وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار. وحكى شرف الدين بن عنين أنه حضر عرسه يومًا، وهو يلقي الدروس في مدرسته ودرسه حفل بالأفاضل واليوم شات وقد سقط ثلج كثير، فسقطت بالقرب منه حمامة، وقد طردها بعض الجوارح، فلما دفعت ما رجعت خوفًا من الحاضرين في المجلس، ولم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها وأخذها. قلت: هكذا حكى والدي حكوا في علم المعاني والبيان أنها وقعت في حجر الإمام فخر الدين فأنشده بن عنين في الحال. يا ابن الكرام المطمعين إذا استواى ... في كل مسغبة وثلج خاشف الغامضين إذ االنفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيح الزاعف من نبأ الورقاء أن ... محلكم حرم وأنك ملجأ للخائف مع أبيات أخرى منها قوله: جاءت سليمان الزمان لشكوها ... والموت تلمع من جناحي خاطف وهذا البيت مع البيت الثالث هما اللذان المذكوران في علم المعاني والبيان من المبدعات إذا افتتحا بقوله جاءت سليمان الزمان حمامة إلى آخره، ثم أتبع بقوله: من نبأ الورقاء أن محلكم إلى آخره كانا من الموجز المبدع قوله: خاشف هو بالخاء والشين المعجمتين يقال: خشف الثلج إذا تحرك، ومنه قول الشاعر يصف البرده: إذا كبد النجم السماء يشو ... على حين هر الكلب والثلج خاشف

وقال أبو عبد الله الحسين الواسطي: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر عقب كلام عاتب فيه أهل البلد: المرء مادام حيًا يستهان به ... ويعظم الرزء فيه حين يفتقد وذكر فخر الدين في كتابه الموسوم بتحصيل الحق، أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي الإسحاق الإسفرائيني وهو على الشيخ أبي الحسن الباهلي وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي بن أبي إسماعيل الأشعري الناصر لمذهب أهل السنة والجماعة، وأما اشتغاله في فروع المذهب، فإنه اشتغل على والده المذكور، ووالده على أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي، وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزى، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن شريح، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي المطلبي رضي الله تعالى عنه. وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، قيل: ثلاث وأربعين وخمس مائة بالري وتوفي يوم الاثنين يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، كما تقدم رحمه الله تعالى، وفيها توفي العلامة مجد الدين أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير الشيباني الجزري، ثم الموصلي الكاتب. قال أبو البركات بن المستوفي في حقه: أشهر العلماء ذكر أو أكثر النبلاء قدرا وأوحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم أخذ النحو عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن المبارك، وسمع الحديث متأخرًا، ولم يتقدم له رواية، وله المصنفات البديعة والرسائل الوسيعة. منها جامع الأصول في أحاديث الرسول جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة، ومنها كتاب النهاية في غريب الحديث في خمس مجلدات وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في تفسير القرآن أخذه من

تفسير الثعلبي والزمخشري، وله كتاب المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار، وكتاب لطيف في صنعة الكتابة، وكتاب البديع في شرح الفصول في النحو لابن الدهان، وديوان رسائل والكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي وغير ذلك من التصانيف. وله ديوان الإنشاء لصاحب الموصل مسعود بن مودود ارسلان شاه وحظي عنده، وتوفرت حرمته لديه، وكتب له مدة، ثم عرض له مرض الفالج، فكف يده من الكتابة ورجليه من الحركة، وأقام في داره يغشاها الأكابر والعلماء وأنشأ رباطًا، ووقف أملاكه على رباطه المذكورة، وعلى داره التي سكنها. قال ابن خلكان: وبلغني أنه صنف كتبه كلها في مدة تعطله، فإنه تفرغ لها وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الأخبار والكتابة، وله شعر يسير، ومن ذلك ما أنشده للأتابك صاحب الموصل، وقد زلت بغلته. إن زلت البغلة من تحته ... فإن في زلتها عذرا حملها من علمه شاهقاً ... ومن ندى راحته بحرا وحكى أخوه أبو الحسن أنه جاءه رجل مغربي، فالتزم أن يداويه ويبرئه ما هو فيه، وأنه لا يأخذ أجرة إلا بعد برئه. قال: فملنا إلى قوله، وأخذ في معالجته بدهن، حتى لانت رجله، وأشرف على كمال البرء، فقال لي: أعط هذا المغربي شيئا يرضيه واصرفه، فقلت له: لم ذا وقد ظهر نجح معالجته. فقال: الأمر كما يكون ولكني في راحة مما كنت فيه من صحبة هؤلاء القوم والالتزام بإحضارهم، وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذل نفسي بالسعي إليهم. وأنا الآن قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاؤوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعيش باقيه حرًا سليمًا من الذل، فقد أخذت منه بأوفر حظ. قال: فقبلت منه قوله وصرفت الرجل بإحسان. وفيها توفي أبو المكارم أسعد بن الخطير مهذب بن ميناء الكاتب الشاعر، كان ناظر الدواوين. بالديار المصرية، وفيه فضائل عديدة ونظم سيرة السلطان صلاح الدين، وله ديوان شعر ومن جملته قوله.

سنة سبع وست مائة

يعاتبني وينهى عن أمور ... سبيل الله أن ينهوك عنها أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما علي أضر منها سنة سبع وست مائة فيها توفي صاحب الموصل أرسلان شاه ابن السلطان مسعود، وكان شهمًا شجاعًا سائسًا مهيبًا، قال أبو السعادات ابن الأثير وزيره: ما قات له في فعل خير الإبادر فيه، وقال أبو المظفر ابن جوزي: كان جبارًا سافكًا للدماء. وقال ابن خلكان: كان شهمًا عارفًا بالأمور تحول شافعيًا، ولم يكن في بيته شافعي سواه، وبنى مدرسة للشافعية بالموصل قل أن يوجد مدرسة في حسنها. توفي في شبارة بالشط ظاهر الموصل والشبارة بالشين المعجمة مفتوحة والموحدة مشددة، وبين الألف والهاء راء، وهي عندهم الحراقة عند أهل مصر، وكتم موته حتى دخل به إلى دار السلطنة بالموصل. ودفن في تربته التي بمدرسته المذكورة، وخلف ولدين هما الملك القاهر مسعود، والملك المنصور زنكي، وسيأتي ذكر كل واحد منهما في ترجمته إنشاء الله تعالى، وتسلطن بعده ابنه مسعود. وفيها توفي مؤيد الدولة أسامة بن مرشد الكلبي من اكابر أهل قلعة سعير وشجعانهم علمائهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب، وله ديوان شعر في جزأين منه قوله. لا تستعر جلداً على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم وإعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعًا وإلا عدت عودة راغم ومنه قوله في دار ابن طليب احترقت: أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قهرا إلى الإقرار بالأقدار ماأوقد ابن طليب قط بداره ... نارًا وكان خرابها بالنار ومما يناسب هذه الواقعة ما حكي، أن إنسانًا معروفًا بابن صورة المصري كانت له بمصر دار موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال أبو الحسن بن مفرج المعروف بابن المنجم أقول وقد عاينت دار ابن قعورة ... وللنار فيها مارج يضرم

سنة ثمان وست مائة

كذا كل مال أصله من مهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم والبيت الثاني مأخوذ من قوله عليه السلام: " من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر والمهاوش: الحرام، والنهابر: المهالك. فيها توفي مسند العراق الحافظ أبو أحمد عبد الوهاب بن سكينة البغدادي الصوفي، سمع الحديث، وقرأ القراءات، وقرأ الفقه والخلاف والنحو. وقال ابن النجار: هو شيخ العراق في الحديث والزهد والسمت وموافقة السنة، كانت أوقاته محفوظة لا يمضي له ساعة إلا في تلاوة، أو ذكر، أو تهجد أو اسماع، وكان يديم الصيام غالبآ ويستعمل السنة في أموره، قال: وما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتًا. وفيها توفي الشيخ أبو عمر المقدسي الزاهد محمد بن أحمد المعروف بابن قدامة سمع من جماعة، وكتب الكثير بخطه، وحفظ القرآن والحديث والفقه، وكان إمامًا فاضلأ مقريًا زاهدأ عابدًا قانتاً لله خائفًا من الله منيبًا إلى الله، كثير النفع لخلق الله، ذا أوراد وتهجد واجتهاد وأوقات مقسمة على الطاعات من الصلاة والصيام والذكر، وتعليم العلم، والفتوة والمروة والخدمة والتواضع، وكان عديم النظير في زمانه حطب بجامع الجبل إلى أن توفي في رحمه الله تعالى. سنة ثمان وست مائة فيها قدم بغداد رسول جلال الدجين حسن صاحب الألموت بدخول قومه في الإسلام، وأنهم قد تبرؤوا من الباطنية، وبنوا المساجد والجوامع، وصاموا رمضان، فسر الخليفة بذلك. وفيها وثب قتادة الشريف الحسني أمير مكة على الركب العراقي بمنىً فنهبهم، وقتل جماعة قيل: راح للباس في ذلك ما قيمته ألف ألف دينار.

وفيها توفي أبو العباس العاقولي أحمد بن الحسن أبي البقاء المقرىء، قرأ القراءات، وسمع الحديث والروايات المتعددات. وفيها توفي العلامة ابن نوح الغافقي محمد بن أيوب الأندلسي، قرأ القراءات، وسمع الحديث، وتفقه وبرع في مذهب ملك، ولم يبق له في وقته نظير في شرق الأندلس تفننًا واستيخارًا، كان رأسًا في القراءات والفقه والعربية، وعقد المشروطة قال: الإبار: تلوت عليه وهو أغزر من لقيت علمًا وأبعدهم صيتًا. وفيها توفي الإمام العلامة محمد بن يونس الملقب عماد الدين الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في الأصول والخلاف والجدل، وكان له صيت عظيم في زمانه، وقصده الفقهاء من البلاد الشاسعة للاشتغال، وتخرج عليه خلق كثير صاروا كلهم أئمة مدرسين يشار إليهم، وكان مبدأ اشتغاله على أبيه، ثم توجه إلى بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على السديد محمد السلماسي، وكان معيدًا بها، والمدرس يومئذ الشريف يوسف بن بندار الدمشقي، وسمع بها الحديث من أبي عبد الرحمن بن محمد الكشميهني، ومن أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعاد إلى الموصل، ودرس بها في عدة مدارس، وصنف كتبًا في المذهب منها كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلاً وعقيدة، وتعليقه في الخلاف، لكنه لم يتمها، وكانت إليه الخطابة في الجامع المجاهدي مع التدريس في المدرسة النورية والغربية والزنكية والنفسية والعلانية، وتقدم في دولة نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل تقدمًا كثيرًا، وتوجه رسولاً إلى بغداد من غير مرة، وإلى الملك العادل، وناظر في ديوان الخلافة، واستقل في مسألة شراء الكافر للعبد المسلم، وتولى القضاء بالموصل، ثم انفصل عنه بأبي الفضائل القاسم بن يحيى الشهرزوري الملقب ضياء الدين، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي بالموصل. وكان شديد الورع والتقشف لا يلبس الثوب الجديد حتى يغسله، ولا يمس القلم للكتابة إلا ويغسل يده، وكان دمث الأخلاق يعني سهلها، لطيف الخلوة ملاطفا بحكايات وأشعار، وكان كثير المباطنة لنور الدين صاحب الموصل، يرجع إليه في الفتاوى، ويشاوره في الأمور، وله صنف العقيدة المذكورة، ولم يزد معه، أو قال: يبحث معه حتى

انتقل عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما، ولمم يوجد في بيت أتابك مع كثرتهم شافعي سواه. ولما توفي نور الدين توجه إلى بغداد في الرسالة بسبب تقرير ولده الملك القاهر مسعود، فعاد وقد قضى الشغل ومعه الخلعة والتقليد، وتوفرت حرمته عند القاهر أكثر مما كانت عند أبيه، وكان مكمل الآداب، غير أنه لم يرزق سعادة في تصانيفه فإنها ليست على قدر فضائله. وكان الملك المعظم صاحب إربل يقول: رأيت الشيخ عماد الدين في المنام بعد موته، فقلت له: أما مت؟! فقال: بلى، ولكني محترم رحمه الله تعالى. وفيها توفي القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد السعدي، الشاعر المشهور، المصرفي صاحب ديوان الشعر البديع، ونظم رائق الحسن الرفيع أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء، أخذ الحديث عن أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني، وكان كثير التخصيص والنعم، وافر السعادة من الدنيا، حميد الشيم اختصر كتاب الحيوان للجاحظ وسمي المختصر روح الحيوان، وله ديوان جميعه موشحات سماء دار الطراز وجمع شيئًا من الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل، ومن محاسن شعره قوله في غزل قصيدة مدح بها القاضي الفاضل: ولو أبصر النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد ومن قال: إن الخيرزانة قدها ... فقولوا له: إياك أن يسمع القد وكان بمصر شاعر يقال له: أبو المكارم هبة الله بن وزير، فبلغ القاضي الملقب بالسعيد المذكور أنه هجاه، فأحضره إليه وأد به وشتمه، فكتب إليه أبو الحسن المعروف بابن المنجم الشاعر المشهور: قل للسعيد أدام الله نعمته ... صديق ابن وزير كيف تظلمه صفعته إذا غدا يهجوك منتقمًا ... وكيف من بعد هذا ظلت تشتمه هجو يهجو، وهذا الصفع فيه ربًا ... والشرع ما يقتضيه، بل يحرمه فإن تقل ما بهجو عنده ألم ... فالصفع والله أيضًا ليس يؤلمه

سنة تسع وست مائة

سنة تسع وست مائة فيها كانت الملحمه العظمى بالأندلس بن الناصر محمد بن يعقوب، وبين الفرنج، فنصر الله الإسلام، والحمد لله استشهد بها عدد كثير وتعرف بوقعة العقاب. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أحمد بن هارون البغوي الشاطبي سمع أباه العلامة ابن هذيل، ولما حج سمع من السلفي، وكان عجبًا في سرد المتون، ومعرفة الرجال الأدب، وكان زاهدًا سلفيًا متفننًا عدم في وقعة العقاب. وفيها توفي الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل بن أبي بكر بن أيوب وكان ظلوماً سفاكًا لدماء الأمراء. وفيها توفي أبو نزار ربيعة بن الحسن الحضرمي اليمني الصنعاني الشافعي المحدث، تفقه بظفار، ورحل إلى العراق وأصفهان، وسمع من طائفة منهم أبو المطهر الصيدلاني، وكان مجموع الفضائل، كثير التعبد والعزلة. سنة عشر وست مائة فيها توفي تاج الأمناء أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي المعدل ابن عساكر والد العز النسابة. وفيها توفي أبو الفضل التركستاني أحمد بن مسعود شيخ الحنفية في العراق، وعالمهم ومدرس مسند الإمام أبي حنيفة. وفيها توفي السلطان شمس الدين، صاحب همدان، وأصفهان، والري وصاحب المغرب الملقب بأمير المؤمنين، محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي، وكان حسن القامة، أشقر، أشهل، طويل الصمت، كبير الأطراف بعيد الغور، ذا شجاعة وحلم، وفي سنة تسع وتسعين سار ونزل على مدينة فارس فأخذها، ثم سار وحاصر المهدية أربعة أشهر، ثم تسلمها، وقيل: إنه أنفق في هن! السفرة مائة وعشرين حمل ذهب. وفيها توفي أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي، كان إمامًا في علم النحو كثير الإطلاع على دقائقه وغريبه وشاذه، وصنف فيه المقدمة التي سماها القانون أتى فيها

بالعجائب، وهي مع الإيجاز مشتملة على كثير من النحو قيل، ولم يسبق إلى مثلها واعتنى بها جماعة من الفضلاء شرحوها، ومنهم من وضع لها أمثلة، ومع هذا فلا يفهم حقيقتها، وأكثر النحاة يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، وقد قال بعض أئمة العربية: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كونه ما أعرفها إن لا أعرف النحو، ويقال: إنه كان يدري شيئًا من المنطق، وعلى جملة، وفي مقدمته المذكورة كلام غامض، وعقود لطيفة، وأشار إلى أصول صناعة النحو وغريبه. وذكر بعضهم أنه كان إذا سئل عنها، هذه من صنعتك؟. قال: لا لأنه كان متورعًا وكان قد جرى بين الطلبة بحث حصلت منه فوائد، فعلقها الجزولي فيها، وفوائد أخرى من كلام شيخه، فسلم يسعه لذلك أن يقول هي من صنعتي، وإن كانت منسوبة إليه، لأنه الذي انفرد بترتيبها. وكان قد دخل إلى الديار المصرية، وأقام بهامدة حجج، ثم رجع إلى بلاد المغرب، وأقام بمدينة بجاية مدة والناس يشتغلون عليه وانتفع به خلق كثير والجزولي بضم الجيم والزاي وسكون الواو نسبة إلى جزولة، وهي بطن من البربر. وفي السنة المذكورة توفيت عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج الثقفية الأصفهانية. وفيها توفي أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم المطرزي الفقيه النحوي الأديب الحنفي الخوارزمي، كانت له معرفة تامة بالنحو واللغة والشعر وأنواع الأدب، قرأ على جماعة، وسمع الحديث من طائفة، وكان رأسا في الاعتزال، داعيًا إليه منتحلاً مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفروع، فصيحًا فاضلاً في الفقه، له عدة تصانيف نافعة منها شرح المقامات للحريري، وهو على وجازته مفيد محصل للمقصود، وله كتاب المغرب تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب، وهي للحنفية بمنزلة كتاب الأزهري للشافعية. وما قصر فيه، فإنه أتى جامعا للمقاصد، وله غير ذلك، وانتفع الناس به وبكتبه ودخل بغداد حاجًا، وجرى له هناك مباحث مع جماعة من الفقهاء وأخذ أهل الأدب عنه، وكان شهير الذكر بعيد الصيت، وله شعر من ذلك قوله: وإني لاستحيي من المجد أن أرى ... حليف عوان أو أليف غواني وقوله: تعامى زماني عن حقوقي وإنه ... قبيح على الزرقاء تبدي تعاميا فإن تنكروا فضلي فإن دعاءه ... كفى لذوي الأسماع منكم مناديا

سنة احدى عشرة وست مائة

ويقال: إنه كان بخوارزم خليفة الزمخشري: والمطرزي نسبة إلى من يطرز الثيابة ويرقمها إما هو أو أحد من آبائه. وفيها وقيل: وفي سنة تسع توفي أبو الحسن علي بن محمد الحضرمي المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي، كان فاضلاً في علم العربية، وله فيها مصنفات شهدت بفضله وسعة علمه، شرح كتاب سيبويه شرحًا جيدًا وشرح الجمل لأبي القاسم الزجاجي، هذا غير ابن خروف الشاعر والحضرمي نسبة إلى حضرموت. سنة احدى عشرة وست مائة فيها توفي الحافظ المتقن مسند العراق عبد العزيز بن محمود المعروف بابن الأخضر البغدادي وفيها توفي الإمام الحافظ المفتي علي بن مفضل اللخمي المقدسي الإسكندراني الفقيه المالكي كان فقيهًا فاضلاً في مذهب الإمام مالك، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه، صحب الحافظ أبا طاهر السلفي الأصبهاني. وفيها توفي الشيخ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، ولازم صحبته، وبه انتفع، وعليه تخزج، وعليه أنشد أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه: تجاوزت ستين من مولدي ... فأسعد أيامنا المشترك يسائلني زائري حالتي ... وما حال من حل في المعترك وأنشد أيضاً لنفسه أيا نفس بالمأثور من خير مرسل ... وبأصحابه والتابعين تمسكي عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب نشر له أن تمسكي خافي غدًا يوم الحساب جهنمًا ... إذا لفحت نيرانها أن تمسكي وأنشد أيضا ًلنفسه

سنة اثنتي عشر وست ومائة

لما تحيي من تحيي بريقها ... كأن مزاج الراح بالمسك في فيها وما ذقت فيها غير أني رويته ... عن الثقة المسواك، وهو موافيها هذا المعنى قد سار في كثير من أشعار المتقدمين والمتأخرين، فمن ذلك قول بشار من جملة أبيات: يا أطيب الناس ريقًا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك وقول آخر: وأخبرني أترابها أن ريقها ... على ما حكى عودًا لأراك لذيذ وكان مدرسًا ونائبًا في الحكم. وفيها توفي الشيخ أبو الحسن بن أبي بكر الهروي، طاف البلاد وأكثر الزيارات حتى كاد يطبق الأرض بالدورات برًا وبحرًا وسهلاً ووعرًا، وكان له فضيلة ومعرفة بعلم السيمياء وبه تقدم عند الملك الطاهر عند السلطان صلاح الدين صاحب حلب، وكان كثير الرعاية له، وبنى مدرسة بظاهر حلب. قال ابن خلكان: رأيت فيها بيتين مكتوبين بخط حسن كتابة رجل فاضل نزل هناك قاصدًا للديار المصرية. وهما. رحم الله من دعا لأناس ... نزلوا ههنا يريدون مصر نزلوا والخدود بيض، فلما ... أزف البين عدن بالدمع حمرا وللهروي المذكور مصنفات منها كتاب الإشارات في معرفة الزيارات وكتاب الخطب الهروية وغير ذلك. سنة اثنتي عشر وست ومائة فيها سار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل من الديار المصرية عندما بلغه موت صاحب البحرين سيف الإسلام، فاستولى على إقليم اليمن بغير حرب. وفيها استولى خوارزم شاه على غزنة، وهرب ملكها إلى نهاوند، ثم جمع وحشد، والتقى صاحب غزنة.

وفها انهزم الذي غلب على همدان والري وأصبهان، ثم قتل. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن سلمان الأندلسي، وكان موصوفًا بالاتقان حافظًا لأسماء الرجال، صنف كتابًا في تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، ولم يكمله، وكان إمامًا في العربية والترسل والشعر، ولي قضاء إشبيلية وقرطبة، وأدب أولاد المنصور صاحب المغرب. وفيها توفي الحافظ عبد القادر الرهاوي، كان مملوكًا لبعض أهل الموصل فأعتقه وحبب إليه فن الحديث، فسمع الكثير، وصنف وجمع، وله الأربعون المتباينة الإسناد والبلاد، وهو شيء ما سبقه إليه أحد ولا يرجوه بعده محدث لخراب البلاد، سمع، وهمدان، وهراة، ومرو، ونيسابور وسجستان، وبغداد ودمشق، ومصر. وقال ابن خلكان: كان حافظًا ثبتًا، كثير التصاينف، ختم به الحديث وقال أبو أسامة: كان صالحًا مهيبًا زاهدًا خشن، العيش، ورعاء ناسكًا. وفيها توفي الوجيه المعروف بابن الدهان المبارك بن المبارك النحوي الضرير الواسطي قرأ القراءات، واشتغل بالعلم، وسمع الحديث من أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليًا، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي لما شعر المجلس تدريس النحو بالنظامية، وشرط الواقف أن لا يفوض إلا إلى الشافعي المذهب، وفي ذلك يقول أبو البركات المؤيدين يزيد التكريتي: من مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل تمذهب للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل وما اخترت رأي الشافعي تدينا ... ولكنما يهوي الذي منه حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى ملك فأفطن لما أنت قائل وللوجيه المذكور تصنيف في النحو، وله شعر ومنه قوله:

ولست أستفتح اقتضاك بالوعد ... وإن كنت سيد الكرماء فإله السماء قد ضمن الرزق ... عليه ويقتضي بالدعاء وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الحسن علي بن حميد الصعيدي المعروف بابن الصباغ صاحب أحوال سنية ومقامات علية وأنفاس صادقة، وكرامات خارقة، وفضائل جليلة، ومواهب جزيلة صحب الشيخ الكبير عبد الرحيم القناوي، وتخرج به، وكان والده صباغًا، وكان يريد أن يكون ولده صباغًا مثله، ولا يرى بما هو عليه من الاشتغال بسلوك طريق الصوفية، حتى كان بعض الأيام، فاشتد غضبه عليه وخاصمه كما اقتضى الوقت، وهو مشتغل عن الصباغ والثياب على حالها لم يصبغها، وعنده أزيار متعددة فيها أصباغ مختلفة الألوان يصبغ كل ثوب في زير منها على حسب ما يطلب صاحبه من ألوان الصبغ، فأخذوا أبو الحسن مجموع الثياب، وطرحها في زيرواحد فصاح والده، وإنغاظ عليه غيظًا شديدًا، وقال: أتلفت ثياب الناس، فأدخل أبو الحسن يده في الزير، وأخرجها جميعها، وكل واحد منها مصبوغ باللون الذي أراد صاحبه، فعند ذلك اندهش عقل والده وهاله ما رأى من تلك الكرامة التي ظهرت عليه، وسلم له حاله، واعتقد ما هو مائل إليه من السلوك لطريق الصوفية، وخلاه من تلك الصنعة بالكلية، ولما انتهى حاله وصار من أجلاء المرادين التمس منه الصحبة خلايق من المريدين، وكان لا يصحب إلا من يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه، فجاءه إنسان يطلب منه الصحبة وخدمة الفقراء في بعض الوظائف، فأطرق الشيخ ساعة ثم رفع رأسه، وقال: ما بقي عندنا وظيفة، فقال: يا سيدي لا بد أن تفكر لي في خدمة، فقال: ما عندنا خدمة إلا إن كنت تذهب وتأتي كل يوم بحزمة من الحلفاء، قال: نعم يا سيدي فصار كل يوم يأخذ المحش ويأتي بحزمة منها، فلما كان بعد مدة أوجعته يده فرمى بالمحش وترك الفقراء وذهب، فبينا هو في بعض الطريق رأى في منامه كأن القيامة قامت والناس يجوزون على الصراط فمنهم الناجي، ومنهم الواقع في النار نسأل الله السلامة، فلم يقدر يجوز، وبقي في خطر عظيم يكاد يقع فيها، فطلب شيئًا يستمسك، فلم يجد وبقي متحيرًا مشرفًا على الهلاك، وإذا حزمة من حزم الحلفاء تحته في النار مارة عليها، فرمى بنفسه فوقها، حتى أخرجته منها ناجيًا بلطف الله تعالى، فاستيقظ مرعوبًا من هول ما رأى، فرجع إلى الشيخ، فلما وقع بصر الشيخ

سنة ثلاث عشرة وست مائة

عليه، قال له: ما قلنا لك ما عندنا خدمة تصلح لك سوى قطع الحلفاء، فاستغفر الله، وعاد، ما كان عليه، وكان ابن الصباغ المذكور جليلاً، وناهيك لجلالته أن الشيخ الكبير الجليل القدر الشهير أبا عبد الله القرشي لما مات شيخه أصابته وحشة، فذهب إليه، وتأنس به رضي تعالى عنه مع الجميع منهم ونقضا بهم. سنة ثلاث عشرة وست مائة فيها قيل: وقع بالبصرة برد أصفر كالتارنجة الكبيرة، وأكبره ما يستحيي الإنسان أن يذكره وفيها: توفي العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي المعروف البغدادي المولد والمنشأ والدمشقي الدار: والوفاة النحوي اللغوي المقري أكمل القراءات العشرة وله عشرة أعوام. قال بعضهم: وهذا ما لا أعلمه تهيأ لأحد سواه أتقن القراءات والعربية على جماعة، وقال الشعر الجيد، ونال الجاه الوافر، فإن الملك المعظم كان قديم الاشتغال عليه، وكان ينزل من القلعة إليه، وكان أوحد عصره في فنون الأدب وعلو السماع، لقي جلة المشائخ، وأخذ عنهم، منهم الشريف أبو السعادات بن الشجري وأبو محمد بن الخشاب، وأبو منصور بن الجواليقي استوطن بدمشق بعد أسفار سافرها، وقصده الناس، وأخذوا عنه، وله كتاب نسخه على حروف المعجم قال ابن خلكان: أخبرني أحد أصحابه أنه قال: كنت قاعدًا على باب ابن الخشاب النحوي ببغداد، وقد خرج من عنده الزمخشري الإمام المشهور، وهو يمشي في خشب لأن احدى رجليه كانت سقطت من الثلج، والناس يقولون: هذا الزمخشري ونقل من خطه قال: كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وبه ختم الله فضلاؤهم وكان محققاً بالاعتزال ورأيته عند شيخنا ابن الجواليقي مرتين قارئًا بعض كتب، اللغة من فواتحها، مستجيزا لها لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولاراوية ولأبي اليمن شعر من جملته قوله، حين طعن في السن: أرى المرء يهوى أن تطول حياته ... وفي طولها إرهاق ذل وإزهاق تمنيت في عصر الشبيبة أنني ... أعمر والأعمال لا شك أرزاق فلما أتاني ما تمنيت ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق

سنة أربع عشرة وست مائة

تخيل لي فكري إذا كنت خاليًا ... ركوبي على الأعناق والسير أعناق ويذكرني مر النسيم وروحه ... ضمائر يعلوها من الترب أطباق وها أنا في إحدى وتسعين حجة ... لها في إرعاد مخوف وإبراق يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلا رحمة الله ترايق ولما توفي نزل الناس بموته درجة في القراءات، وفي الحديث لأنه أخر من سمع ممن هو أعلى أهل عصره سندًا. وفيها توفي الملك الظاهر صاحب حلب أبو الفتح غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان ملكًا عظيمًا مهييًا حازمًا متيقظًا، كثير الاطلاع على أخبار الملوك، وأحوال رعيته، عالي الهمة، حسن التدبير والسياسة، باسط العدل، ملقبًا بغياث الدين، محباً للعلماء مجيزًا للشعراء، ويحكي من سرعة ادراكه أشياء حسنة، منها أنه جلس يومًا فعرض العسكر، وكلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه، حتى حضر واحد، فسألوه، فقبل الأرض، فلم يفطن أحد منهم لما أراد فأعادوا سؤاله، فقال الملك الطاهر: اسمه غازي، وكان كذلك وإنما لم يذكر اسمه أدباً لكونه موافقًا الاسم السلطان المذكور. وفيها توفي الفقيه الإمام معين الدين محمد بن إبراهيم السهيلي الشافعي مؤلف الكافية في الفقه في مجلد، كان إمامًا فاضلاً متفننًا مبرزًا، وله كتاب ايضاح الوجيز في مجلدين أحسن فيه، وله طريقة مشهورة في الخلاف والقواعد المشهورة المنسوبة إليه، واشتغل عليه الناس، وانتفعوا به وبكتبه من بعده خصوصًا القواعد، فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها، توفي بكرة يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي، سمع وكتب الكثير وارتحل، وكان حافظًا فقيهًا ذا فنون ومروءة تامة، وديانة متينة، موصوفًا بحسن القراءات وجودة الفهم. سنة أربع عشرة وست مائة فيها سار خوارزم شاه في أربع مائة ألف راكب إلى أن وصل همدان قاصدًا بغداد ليتملكها، ويحكم على الناصر لدين الله، فاستعد الناصر، وفرق الأموال والسلاح وراسله، فلم يلتفت إليه، قال الرسول: أدخلت إليه في خيمة عظيمة لم أر مثل دهيلزها،

سنة خمس عشرة وست مائة

والأطناب حرير، وفي الخدمة ملوك العجم، وما وراء النهر، وهو شاب عليه شعرات قاعد على تخت، وعليه قباء يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه قلنسوة جلد يساوي درهمًا، فسلمت فما رد ولا أمرني بالجلوس، فخطبت وذكرت فضل بني العباس، وأطنبت في فضل الخليفة والترجمان يخبره، فقال: قل له هذا الذي تصفه ما هو في بغداد، بل أنا أجيء وأقيم خليفة هكذا، ثم ردنا بلا جواب واتفق أن نزل بهمدان ثلج عظيم أهلك خيلهم، وركب هو يوماً فعثر به فرسه، فتعطب، وقلت الأقوات على جيوشه ولطف الله فردوا. وفيها تخربت الفرنج على الملك العادل، ونزلوا على عين جالوت، وقطعوا الشريعة، وسبوا اليزك بالمثناة من تحت والزاي يعني الجرس وعانوا في البلاد، وتهيأ أهل دمشق للحصار، واستحث العادل ملوك النواحي على النجدة، فرجعت الفرنج بالغنائم والسبي إلى نحو عكا، هكذا أذكره الذهبي عكا بالألف وكانوا خمسة عشر ألفًا. وفيها توفي العماد المقدسي إبراهيم بن عبد الواحد أخو الحافظ عبد الغني قيل: وكان صواماً قوامًا، صاحب أحوال وكرامات، سمحًا متفضلاً ورعًا متواضعًا. وفيها توفي قاضي القضاة عبد الصمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي، سمع من الكبار، ودرس وأفتى وبرع في المذهب وانتهى إليه علو الإسناد، وكان صالحًا عبادًا من قضاة العدل. سنة خمس عشرة وست مائة فيها الملك الأشرف موسى كسر ملك الروم كيكاوس، ثم أخذ عسكره وعسكر حلب، خل بلاد الفرنج ليشغلهم عن دمياط، فأقبل صاحب الروم لأعمال حلب، وأخذ بعض نواحيها، فقصده الملك الأشرف، وقدم بين يديه العرب، فكسروا والروم، وهزموهم. وفيها التقى الملك المعظم الروم، فكسرهم، وقتل خلقًا وأسر مائة فارس، ولكنه تمقت إلى الناس بإدارة المكوس والجبايات بدمشق، واعتذر لما عنفوه بقلة المال، وخرب بايناس، وبعض البلاد مما يلي تلك الجهة، وكانت قفلاً للشام، وزعم أنه فعل ذلك خوفاً من استيلاء الفرنج، وكذلك خرب قلعة منيعة كان قد أنشأها على الطور، وعجز عن حفظها لإحتياجها إلى المال والرجال.

وفيها توفي صاحب مصر والشام السلطان الملك العادل سيف الدين محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب، كان أخوه صلاح الدين يستشيره ويعتمد على رأيه لعقله ودهائه، ثم تقلبت به الأحوال بقدرة القدير ذي الجلال، واستولى على المالك وتسلطن ابنه الملك الكامل على الديار المصرية وابنه المعظم على الشام، وابنه الأشرف على الجزيرة، وابنه على خلاط، وابن ابنه المسعود على اليمن، وكان ملكًا جليلاً طويل العمر، عميق الفكر، بعيد الغور، جماعًا للمال، ذا حلم وسؤدد وله نصيب من صوم وصلاة، وكان يضرب به المثل في كثرة أكله، ولم يكن محببًا إلى الرعية لمجيئه بعد الدولتين النورية والصلاحية. قال الملك العادل: لما عزمنا على المسير إلى مصر احتجت إلى حرمدان يعني الذي يسميه الناس اليوم حمدان، فطلبته من والدي، فأعطاني وقال: يا أبا بكر إذا ملكتم مصر، فاعطني ملؤه ذهبًا، فلما جاء إلى مصر، قال: يا أبا بكر أين الحرمدان فرحت وملأته من الدراهم السود، وجعلت على أعلاه شيئا من الذهب وأحضرته إليه، فلما آره اعتقده ذهباً، فقلبه وظهرت الفضة السوداء، فقال: يا أبا بكر تعلمت من دغل المصريين. ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب عنه في حال غيبته في الشام، واستدعي منه الأموال للانفاق في الجند وغيرهم، فتقدم السلطان إلى العماد الأصفهاني إلى أن يكتب إلى أخيه الملك العادل يستحثه على انفاذها. حتى قال: يسير الحمل من مالنا أو من ماله ولما وصل إليه الكتاب شق عليه، فشكا إلى القاضي الفاضل، وكتب الفاضل جوابه ومن جملته وإمامًا ذكره المولى من قوله يسير الحمل من مالنا أو من ماله، فتلك لفظة لم يكن المقصود بها النجمة، وإنما المقصود بها من الكاتب السجعة، وكم من لفظة فضة، وكلمة فيها غلظة، حيرت الأقلام، وسدت خلل الكلام وخلف تسعة عشر ابنًا تسلطن منهم خمسة. الكامل، والمعظم، والأشرف، والصالح وشهاب الدين غازي. وفيها توفي صاحب الموصل السلطان الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود بن السلطان نور الدين ارسلان شاه ابن المسعود الأتابكي وصاحب الروم السلطان الملك الغالب عز الدين بن كيكاوس. وفيها توفي محدث بغداد الحافظ أبو العباس أحمد بن أحمد البندنيجي. وفيها توفي الفقه أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي السمرقندي،

سنة ست عشرة وست مائة

كان إماماً في فن الخلاف، وهو أول من آفرده بالتضيف، ومن تقدمه، كان يمزجه بخلاف المتقدمين، ومن تصانيفه أيضًا كتاب النفائس اختصره شمس الدين أحمد بن الجليل الفقيه الشافعي الجوني قاضي دمشق وسماه عرائس النفائس، وكان كريم الأخلاق، كثير التواضع، طيب المعاشرة. وفيها توفي الفقيه العلامة عماد الدين أبو القاسم الدامغاني قاضي القضاة عبد الله بن حسين، ولي القضاء بالعراق نحو ثمان سنين، ثم عزل، وأبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد القرشي التيمي البكري الصوفي. وفيها توفيت أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني الأصل، النيسابوري الدار، الصوفي المذهب المعروف بالشعري بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، وكسر الراء، كانت عالمة أدركت جماعة من العلماء، وأخذت عنهم رواية واجازة منهم الإمام أبو المظفر بن عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري والحافظ أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي وأبو البركات ابن الإمام محمد بن الفضل الفزاري والعلامة أبو القاسم الزمخشري صاحب الكشاف وغيرهم. سنة ست عشرة وست مائة في أولها خرب الملك المعظم سور بيت المقدس خوفًا وعجزأ من الفرنج أن يملكه، فشتت أهله وتضرروا، وكان هو مع أخيه الكامل في كشف الفرنج عن دمياط، وتمت لهم للمسلمين حروب وقتال كثير، وجدت الفرنج في محاصرة دمياط، وعملوا عليهم خندقًا كبيرًا، وثبت أهل البلد ثباتًا لم يسمع بمثله، وكثر فيهم القتل والجراح، وعدمت الأقوات، ثم سلموها بالأمان وتسارعت الفرنج من كل فج عميق، وشرعوا في تحصينها، وأصبحت دار هجرتهم وترجوا أخذ ديار مصر، وأشرف الإسلام على الإنكسار والدمار، وأقبل أعداء الله من المشرق والمغرب، وأقبل المصريون على الجلاء فيهم الكامل إلى أن سار أخوه الأشرف كما سيأتي في سنة ثمان عشر وست مائة. وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الضريري النحوي صاحب التصانيف، أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وغيره من مشائخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي المعروف بابن البطي، ومن أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي وغيرهما، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه على ما قيل:

وكان الغالب عليه علم النحو وتصانيفه مفيده منها شرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي وديوان المتنبي واعراب القرآن الكريم في جزأين وكتاب اعراب الحديث وكتاب شرح اللمع لابن جني وكتاب اللباب في علل النحو وكتاب اعراب شعر الحماسة وشرح المفصل للزمخشري شرحًا مفصلاً وشرح الخطيب النباتية والمقامات الحريرية، وصنف في النحو والحساب، واشتغل عليه خلق كثير، وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد في حياته وبعد صيته، وحكى في شرح المقامات عند ذكر العنقاء أن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له: دمح صاعد في السماء قد رميل، وكانت به طيور كثيرة، وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق طويلة العنق لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير، وكانت تأتي في السنة مرة هذا الجبل، فتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير، فانقضت على صبي، فذهبت به، فسميت عنقاء مغرب والمغرب الني يجيء بالغرائب لإبعادها بما تذهب به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكى أهل الرسل إلى نبيهم حنظلة بن صفوان، فدعا عليها فأصابتها صاعقة، فاحترقت، والله أعلم انتهى. قال بعض أهل العلم: هذا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس كان في زمن الفترة بين عيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهما. وذكر بعض المؤرخين، وهو الفرغاني نزيل مصر أن العزيز نزار بن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ما لم يوجد عند غيره، فمن ذلك العنقاء، وهي طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلسون، وأعظم جسما منه له غبب ولحية، وعلى رأسه وقاية، وفيه عدة ألوان، ومشابهة من طيور كثيرة. وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الطير، عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الله تعالى خلق في زمن موسى طائرة اسمها العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان وأعطاها من كل شيء قسطًا، وخلق لها ذكر أمثلها، وأوحي إليه إني خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس وأنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل، فتناسلا، وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت، فوقعت بنجدوا الحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش، وتخطف الصبيان إلى أن شكوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا الله تعالى، فقطع نسلهما وانقرضت، والله أعلم. قلت: وأما ما يقال في المثل في عدم وجود بعض الأشياء كالعنقاء يسمع بها ولا يرى

على هذا يكون المراد بعدم رؤيتها بعد الانقراض المذكور. وقال بعضهم: شيئان يسمع بهما ولا يريان العنقاء والغول، هكذا قيل قلت: ولكن قد حكي في رواية الغول حكايات كثيرة وإنها تتلون وإلى ذلك أشار كعب بن زهير في قوله: ولا تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول وهي من سعالى الشياطين تعوذ بالله منهم، وقد قيل: إنها تجيء بعض الناس في صورة امرأة حسناء، ثم تسحره حتى يصير في صورة حمار، فتركب عليه وتركضه إلى حيث شاء، ثم تتركه أو ترده، ثم تروح وتخليه، وعلى لسان حال من وقع له هذا قلت أبياتًا في وصف الدنيا مشبهًا لها بالغول على طريق الخناس منها قولي. كغول ذي غول ذي خداع ... وجابي الأرض ركضًا، ثم جابي سعى لي مع سعالى ثم دلى ... يد الماجري بي في جرابي ولي أهوى بما أهوى، فلما ... ترقي في حرابي في حرابي رمى نحري لنحري ثم جهدي ... أنادي بالحرابي وأحرابي ومعنى قولي في البيت الأول وجابي الأرض من الوحي الذي هو الدق أي ركض بي، وقولي في آخره: ثم جابي من المجيء أي ردني، وفي البيت الثاني سعالى من سعى يسعى مع سعالى جمع سعلان لما جرى بي من الجري، وفي جرابي الجراب المعروف، ولي أهوى أي أخرج من الجراب شيئًا أهوى به إلي بما أهوى أي بما أحب، والمعني أنه طمنني حتى أسكت خداعًا منه، فلما ترقي في حرابي حرًا هو الجبل المبارك المعروف الذي ترقي فيه، وفي حراب الثاني جمع حربة رمي نحري أي بتلك الحراب لنحري أي لقتلي كما ينحر الناقة، معنى أنادي بالحرابي أي بالجهد والطاقة مني التي لا أقدر على غيرها، وأحرابي من الحرب أي جهدي أقول واحرباه. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله المعروف بابن شاس الجذامي المصري شيخ المالكية. صاحب كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وضعه على ترتيب وجيز الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى. قال ابن خلكان: والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه، وكثرة فوائده، وكان مدرساً بمصر بالمدرسة المجاورة للجامع، وتوجه لمجاهدة العدو لما أخذ دمياط، فتوفي هناك رحمه الله، كان من أكبار أئمة العالمين، حج في أواخر عمره، ورجع وامتنع من الفتيا

إلى أن مات مجاهدًا في سبيل الله. وفيها توفي الحافظ علي بن القاسم ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر وصاحب سنجار الملك المنصور قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي، وست الشام الخاتون بنت أيوب أخت الملك العادل، توفيت في دمشق، ودفنت في مدرستها الشامية. وفيها توفي أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذب، كان فيها أديبًا فاضلاً شاعرًا، لطيف الشعر، مليح السبك، حسن المقاصد، غلب عليه الشعر واشتهر به، وله ديوان صغير وكله جيد، وهو من أهل الموصل. لما ضاقت به الحال عزم على قصد الوزير بمصر الملقب الملك الصالح، وعن استصحاب زوجته، فكتب إلى نقيب العلويين بالموصل أبي طاهر زيد بن محط الحسيني هذه الأبيات. وذات شجو أسأل البين غيرتها ... باتت تؤمل بالتقييد امساكي لجت فلما رأتني لا أصيخ لها ... بكت فأقرح قلبي خفتها الباكي قالت وقد رأت الأجمال محدجة ... والبين قد جمع المشكو والشاكي مالي إذا غبت في ذا المحل قلت لها: ... الله وابن عبيد الله مولاك لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد ... سألت نواء الثريا جوف معناك فكفل بالشريف بن عبيد الله المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها فتوجه إلى مصر، ومدح الصالح بقصيدته الكافية أولها. أما كفاك تلافي في تلافيكا ... ولست تنقم إلا فرط حبيكا ومنها: أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم ... والشعر مازل عند لترك متروكا لانلت وصلك إن كان الذي زعموا ... ولا شفا ظمأى جود ابن رزيكا

سنة سبع عشرة وست مائة

ابن رزيك بضم الراء وكسر الزاي المشددة، وهو الممدوح، وقال العماد الكاتب أنشدني: تردي الكتائب كتبه فإذا انبرى ... لم يمر أنفذا أسطرا أم عسكرا وفي معنى تشبيه القلم بالعسكر قول بعضهم: قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدوا بها ما المنيات نالوا بها في أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحد المشرفيات سنة سبع عشرة وست مائة في رجب منها حصلت وقعة البرنس بين الكامل والفرنج، وكان فتحًا نصر الله فيه المسلمين، وقتل من الملاعين عشرة آلاف، وانهزموا إلى دمياط. وفيها حج بالعراقيين مملوك الخليفة الناصر اشتراه بخمسة آلاف دينار، وكان معه تقليد بمكة لحسن بن قتادة، وكان أبوه قد مات في وسط العام، فجاءه بعرفات، فقال: أنا أكبر أولاد قتادة، فولى، فتوهم حسن أنه معزول، فأغلق أبواب مكة، فركب المملوك ليسكن الفتنة، وقال: ما قصدي قتال، فثار به العبيد والأشرار وحملوه، فانهزم أصحابه، فتقدم عبد فعرفت فرسه، فذبحوه، وعلقوا رأسه، وأرادوا نهب العراقيين، فقام في ذلك أمير الشاميين المعتمد والي دمشق ورد معه ركب العراق. وفيها أخذت التتار بالتاء المثناة من فوق مكررة قبل الألف، وبعدها راء كثيرًا من البلدان منها بخارى، وسمرقند، ثم عبر نهر جيحون، واستولى على خراسان قتلاً وسبيًا وتخريباً إلى حدود العراق بعد أن هزموا جيوش خوارزم، ومزقوهم، ثم عطفوا على قزوين فاستباحوها، وكذلك استباحوا أذربيجان، وحاصروا تبريز، وبها أن البهلوان، فبذل لهم أموالاً وتحفًا، فرحلوا عنه، وحاربوا الكرخ، وهزموهم، ثم ساروا إلى مراغة وأخذوها بالسيف ثم كروا نحو إربل، فاجتمع لحربهم عسكر العراق والموصل مع صاحب إربل، فهابوهم، وعرجوا على همدان، فحاربهم أهلها أشد محاربة في العام المقبل، وأخذوها بالسيف وأحرقوها، ثم نزلوا على بيلقان وأخذوها بالسيف وقتلوا ثم حاربوا الكرخ أيضًا،

وقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، ثم سلكوا طرقأ وعرة في الجبال إلى أن وصلوا بلاد اللان وفيها طوائف من الترك، وقليل من المسليمن، فالتقوا وكانت الدائرة على اللان، فقتلوا وسبوا ومروا إلى أن وصلوا مدينة سوادق ولم يزالوا يطوون الأرض ويضربون إلى أن كلت أسلحتهم وتكلكلت أيديهم مما قتلوا من النساء والأطفال، فضلاً عن الرجال، وكان خوارزم شاه بطلاً مقدامًا، وعسكره أوباشًا ليس لهم أقطاع، ولا ديوان بل يعيشون من النهب والغارات، وهم ما بين تركي كافر، أو مسلم جاهل لا يعرفون تعبية العسكر في المصاف، ولا أدمنوا إلا على المهاجمة وما لهم زرديات ولا عدة جيدة للحرب ثم أنه كان يقتل بعض القبيلة، ويستخدم باقيها، ولم يكن فيه شيء من المداراة لا لجنده ولا لعدوه، ويحرش بالتتار، وهم يغضبون على من يرضيهم، فكيف من يبغضهم ويوذيهم؟! فخرجوا عليه وهم بنواب وأولو كلمة مجتمعة وقلب واحد ورئيس مطاع، فلم يمكن خوارزم شاه أن يقف بين أيديهم ولكل أجل كتاب. وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة زكي الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي، كان ذهيبة، وسطوة، وحشمة، وكان الملك المعظم يكرهه فاتفق أنه طالب جابي العزيزية بالحساب، فأساء الأدب عليه فأمر بضربه بين يديه، فوجد المعظم سبيلاً إلى أذيته، وبعث إليه بخلعة أمير قباء وكلوته، وألزمه يلبسها في مجلس حكمه، ففعل، ثم قام، فدخل ولزم بيته ومات كمدًا يقال: إنه رمي قطعًا من كبده، ومات كهلاً، فندم المعظم. وفيها توفي الشيخ المقدم أسد الشام عبد الله بن عثمان اليويثيني، كان شيخًا مهيبًا طوالاً حاد الحال، تام الشجاعة أمارًا بالمعروف نهاء على المنكر، كثير الجهاد، دائم الذكر، عظيم الشأن، منقطع القرين، صاحب مجاهدات، وكان الأمجد صاحب بعلبك يزوره، وكان يهينه ويقول: يا مجيد أنت تظلم. وتفعل وتفعل، وهو يعتذر إليه وقيل: كان قوسه ثمان عشرة رطلاً، وكان لا يبالي بالرجال، قلوا أم كثروا، وكان ينشد هذه الأبيات ويبكي. شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ... وكل كريم للشفيع قبول وعذري إليكم أنني في هواكم ... أسير وما سور الغرام ذليل

سنة ثمان عشرة وست مائة

فإن تقبلوا عذري فأهلاً ومرحبًا ... وإن لم تجيبوا فالمحب حمول سأصبر لا عنكم ولكن عليكم ... عسى لي إلى ذاك الجناب وصول توفي في شهر ذي الحجة، وهو صائم، وقد نيف على الثمانين. قلت: ما أطنب الذهبي في كتابه العبر في مدح أحد من الشيوخ أرباب الأحوال العارفين بالله الرجال سوى في مدح الشيخ المذكور. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الحسن محمد ابن شيخ الشيوخ عمر بن علي الجويني، برع في مذهب الشافعي، ودرس وأفتى وسمع من يحيى الثقفي وأجاز له أبو الوقت وجماعة، وكان كبير القدر، ثم ولي بمصر تدريس الشافعي ومشهد الحسين، وبعثه الكامل رسولاً يستنجد بالخليفة وجيشه على الفرنج، فأدركه الموت بالموصل. وفيها توفي مسند خراسان المؤيد بن محمد رضي الدين أبو الحسن الطوسي المقري انتهى إليه علو الإسناد بنيسابور، ورحل إليه من الأقطار، وخوارزم شاه محمد ابن السلطان الكبير علاء الدين، كان ملكًا جليلاً أصيلاً، عالي الهمة، واسع الممالك، كثير الحروب، ذا ظلم وجبروت وعز ودهاء. سنة ثمان عشرة وست مائة فيها سار الملك الأشرف ينجد أخاه الكامل، وسار معه عسكر الشام، وخرجت الفرنج من دمياط بالفارس والراجل أيام زيادة النيل، فنزلوا على ترعة، فتوثق المسلمون عليها النيل، فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء الأسطول، فأخذوا مراكب الفرنج، وكانوا مائة كند بالنون والدال المهملة المركب، وثمان مائة فارس فيهم صاحب عكا، وخلق من الرجالة، فلما رأوا الغلبة بعثوا يطلبون الصلح، ويسلمون دمياط إلى الكامل، فأجابهم، ثم جاء أخواه بالعساكر في رجب، وعمل سماطًا عظيمًا، وأحضر ملوك الفرنج، فأنعم عليهم، ووقف في خدمته الملك المعظم والأشرف، وكان يومًا مشهوراً، وقام راجح الحلي، فأنشده قصيدة منها: ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعأ ينصران محمدا

اشارة إلى الإخوة الثلاثة قلت: وما ألطف هذه الإشارة، وأظرف هذه العبارة: وحسن سهولة هذا النظم وعذوبته، وأشار بعيسى إلى الملك المعظم، وبموسى إلى الملك الأشرف، وبمحمد إلى الملك الكامل وحسن مطابقة الحال أن عيسى وموسى المذكورين كانا في خدمة محمد، ومتابعة طاعته، وتبجيله، واحترامه كذلك موسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهما لم يزالا في تبجيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحترامه، فلو كانا حيين ما وسعهما إلا متابعته كما ورد في الحديث وجاءت في هذه المطابقة أعظم تبكيت للفرنج الحاضرين بل لليهود والنصارى أجمعين، فلما أحسن هذا الاتفاق العجيب والمعنى الغريب. وفيها توفى الشيخ الكبير السيد الشهير ذو المعارف والأسرار واللطائف والأنوار والمقامات العليات، والأحوال السنيات، والأنفاس الصادقات والكرامات الخارقات والقدر الجليل، والعطاء الجزيل، المحقق، المحدث قدوة المحدثين، وإمام السالكين ناصر السنه نجم الدين البكري، رحل إلى الأقطار وتنقل في الأمصار، ورأى المشائخ الجلة الكرام، وحج بيت الله الحرام راكبًا وماشيًا، وفضله لا يزال يسمو في الأيام فاشيًا. سمع الحديث والأخبار والتفاسير والاثار عمن لا يحصى كثرة، ولبس خرقة الأصل من يد الشيخ العارف أبي الحسن إسماعيل القصري، عن محمد بن مانكيل، عن داؤد بن محمد المعروف بخادم الفقراء، عن العباس بن إبن إدريس، عن أبي القاسم بن رمضان، عن أبي يعقوب الطبري، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي يعقوب النهرجورفي، عن أبي يعقوب السوسي، عن عبد الواحد بن زيد، عن كميل بن زياد، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولبس خرقة البترك من الشيخ أبي ياسر عمار بن ياسر التدليسي، عن الشيخ أبي النجيب عبد القاهر بن عبد الله السهروردي، عن أبيه، عن عمه عمر بن محمد، عن أبيه محمد بن عمويه، عن أحمد بن سبا، عن ممشاد الدينوري، عن أبي القاسم الجنيد، عن خاله السري السقطي، عن معروف الكرخي، عن داؤد الطائي، عن الحبيب العجمي، عن الحسن البصري، عن علي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واختلف في تسمية الشيخ نجم الدين الكبري فقال بعضهم: هو الكبرى مقصور وقال آخرون هو ممدود مفتوح الموحدة أي هو نجم الكبرى جمع تكسير الكبير قالوا والصحيح هو الأول ووجه صحته على ما ذكروا أنه كان أيام صباه شديد الذكاء فطنًا لم يلق مؤدبه إلى أقرانه في المكتب شيئًا من المشكلات إلا سبقهم بثاقب ذهنه، فلقبوه الطامة الكبرى، ثم غلب عليه ذلك اللقب، فحذفوا الطامة ولقبوه بالكبرى وهو وجه صحيح

نقله جماعة من أصحابه ممن يوثق بهم، واستشهد رضي الله تعالى عنه بظاهر خوارزم في الوقعة العامة، والفتنة التتارية في السنة المذكورة، قال الراوي الشيخ الجليل كمال الدين العارف بالله السالك الحفيل المعروف بالسفناقي بالسين المهملة والفاء والنون، وقبل ياء النسبة قاف من أصحاب الشيخ نجم الدين المذكور قال: لما وصل التتار إلى خوارزم سنة سبع عشرة وست مائة، وحصروها جمع الشيخ أصحابه وهم أكثر من ستين، وقد هرب السلطان محمد وهم يظنون أنه بها، ودخلوا البلد، وكان في أصحاب الشيخ المذكور الشيخ سعد الدين الحموي، والشيخ علي لالا، وابن أخيه علي بن محمد مع جماعة من العارفين، فطلبهم الشيخ، وقال لهم: قوموا وارتحلوا وارجعوا إلى بلادكم، فإنه خرجت نار من المشرق وتحرق إلى قريب المغرب، وهي فتنة عظيمة ما وقع في هذه الأمة مثلها فقال بعضهم: لو دعوت الله أن يرفع هذه الفتنة عن بلاد المسلمين، فقال: هذا قضاء من الله تعالى حكم لا يرده ولا ينفع فيه الدعاء، فقالوا: يا مولانا معنا دواب تركب معنا وتخرج الساعة، فقال أني: أقتل هاهنا ولم يأذن الله لي أن أخرج منها فاستعدوا لخروجكم إلى خراسان، فخرجوا، ولما دخل الكفار إلى البلد نادى الشيخ في أصحابه الذين لم يأمرهم بالخروج للصلاة جامعة، ثم قال: قوموا على اسم الله تقاتل في سبيل الله، ودخل البيت، ولبس خرقة شيخه، وشد وسطه وكانت فرجية وجعل الحجارة في جانبيها، وأخذ العنزة، وخرج، ولما واجههم أخذ يرميهم بالحجارة حتى فرغ جميع ما معه، ورموه بالنبل، فجرحوه، وأخذ يدور ويرقص، فجاءه سهم في صدره، فنزعه ورمى به نحو السماء، وفاز الدم من صدره، فأخذ ينشد شعرًا بالعجمي من جملة معناه إن أردت فاقتلني بالوصال، أو بالفراق فأنا فارغ عنهما محبتك تكفيني، وما أنا حل إن قلت أغثني، ثم توفي ودفن في رباطة رحمة الله تعالى، ومما رثاه المؤيد بن يوسف الصلاحي، فقال في أثناء مرثيته: زال جهد في مرضاة خالقه ... وما أعد له الرحمن ما كسبا من ذا رأى بحر علم في بحار دم ... يجري إذا ما طفت أنواره سببا يهوى النجوم الدراري من يكون لها ... يومًا نسيبًا تداتيه إذا انتسبا يا يوم وقعة خوارزم التي اتصفت ... فجعتنا وفقدنا الدين والحسبا أبح يا أله الخلق نيل رضى ... لا يدرك الكنه منه حاسب حسبا وفيها توفي أبو نصر موسى بن شيخ محمود قطب الوجود مغدن الفضائل والمفاخر محيي الدين عبد القادر، روى عن أبيه وسعيد بن البناء، وابن ناصر، وأبي الوقت، وسكن دمشق رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو الدر ياقوت بن عبد الله الموصلي الكاتب أخذ النحو عن الدهان، وقرأ

سنة تسع عشرة وست مائة

عليه جملة من تصانيفه، وديوان المتنبي والمقامات الحريرية، وكان علامة، وكتب الكثير، وكان كاتباً مشهورًا منتشرًا خطه في البلاد في نهابة من الحسن، ولم يكن في أواخر زمانه من يقاربه في حسن الخط، ولا يودي طريقة ابن البواب في النسخ مثله مع فضل غزير ونباهة تامة، وكان مغرمًا بنقل الصحاح للجوهري، وكتب منها نسخًا كثيرة كل نسخة في مجلد واحد يباع بمائة دينار، وكتب عليه خلق كثير، وكانت له سمعة سائرة، وقصده الناس من الأقطار، وسير إليه من بغداد النجيب أبو عبد الله الواسطي قصيدة مدحه بها أولها: ابن غزلان عالج والمصلى ... من ظبا سكن نهر المعلى قلت هذا البيت وإن كان في النظم مليحًا فأراه في الأدب قبيحا لإستحقار غزلان المصلى: سنة تسع عشرة وست مائة وفيها توفي الأمير أبو المحاسن العباس بن أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي ابن أحمد بن أبي الهيجاء المعروف بابن المشطوب لشطب كان بوجهه، وهو ملقب نعمة، كان أميرًا وافر الحشمة والحرمة بين الملوك، معدودًا بينهم كواحد منهم، وكان عالي الهمة، عزيز الوجود، واسع الكرم، شجاعًا أبي النفس، تهابه الملوك، وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم، وهو من أمراء الدولة الصالحية، وجرت لهم أمور وتنقلات آخرها أن الملك الأشرف ابن الملك العادل قبض عليه في السنة المذكورة فاعتقله في قلعة حران وضيق عليه تضييقًا شديدًا من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه، ولم يزل في تلك الحال إلى أن توفي في شهر ربيع الآخر منها، ولما سجنه كتب إليه بعض الأدباء: يا أحمد ما زلت عمادًا للدين ... يا أشجع من ملك سيفًا بيمين لاتيئس إن حصلت في سجنهم ... يوسف قد أقام في السجن سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات: أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسًا على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك قال ابن خلكان: ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين

المعروف بابن المشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة امرأة عمه عماد الدين، وإن عنده امرأة أخرى ذكر أنها حامل، فكتب القاضي الفاضل جوابه وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين، الحامل على التوفيق، والسايل كتب الله سلامته في الطريق فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها، وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها قالت: رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب، أمير الأكراد وكبيرهم سبحان الحي الذي لا يموت ويهدم به بنيان قوم والدهر قاض ما عليه لوم. قال ابن خلكان: هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما قال: وهذا البيت من جملة مرثية، رثي بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه واله وسلم في وفد تميم في سنة تسع من الهجرة، وأسلم، وقال صلى الله عليه واله وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر لما وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسؤدد، وهو أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح، وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام، وقد قدمت ذكر ذلك، ومن جملة المرثية المذكورة: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن سخط بلادك سلما فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما قلت: وقوله: عليك سلام الله إن صح سماعه أو اسماعه ممن يقتدي به، فهو شاهد، بجواز قول كثير من الناس في مكاتباتهم سلام الله ورحمته وبركاته على فلان ابن فلان، إلا ففي جواز ذلك نظر، والله أعلم أعني كونه قال: سلام الله عليك، فجعل السلام عليه من الله تعالى، ولم يقل: مني وليس لجواز هذا شاهد يعتمد عليه. وقد اختلف العلماء في: هل يقال لغير الأنبياء عليه السلام؟ فجوزه بعضهم، ومنع، الأكثرون فما علمت، وقالوا: حكمه حكم الصلاة والذي أراه أنه يفرق بينه وبين الصلاة بين الترضي والصلاة مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة، والترضي خصوص بالصحابة والأولياء والعلماء أعني في الأدب، والترحم لمن دونهم، والعفو

للمذنبين، والسلام مرتبة بين مرتبة الصلاة والترضي، فيحسن أن يكون منزلته بين منزلتين لكونه مرتبة بين مرتبتين، أعني يقال لمن اختلف في نبوتهم كالخضر، ولقمان، وفي القرنين دون من دونهم. وفيها توفي الشيخ الجليل العارف ذو الأسرار والمعارف السيد الكبير البعيد الصيت الشهير علي بن إدريس اليعقوبي صاحب الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنهما. وفيها توفي أبو العباس نصر بن خضر بن نصر الإربلي الشيخ الفقيه الشافعي، كان فاضلاً ورعًا زاهدًا صالحًا عابدًا متقللاً من الدنيا ومباركًا ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق وأثنى عليه، وكان قد قدم دمشق، وأقام بها مدة، وكان عارفًا بالمذهب والفرائض والخلاف، اشتغل ببغداد على الكيا وابن الشاشي، ولقي جماعة من مشائخها، ثم رجع إلى اربل، وبنى له صاحب اربل، مدرسة القلعة، فدرس بها زمانًا، وهو أول من درس باربل. وله عدة تصانيف حسان كثيرة في التفسير والفقه وغير ذلك، وله كتاب ذكر فيه ستًا وعشرين خطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها مسندة، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا. ومن جملة من تخرج عليه الشيخ الفقيه الإمام أبو عمرو عثمان بن عيسى الهذباني الماراني شارح المهذب، المتقدم ذكره في سنة اثنتين وست مائة، وكانت وفاته ليلة الجمعة، ولما توفي تولى موضعه ابن أخيه نصر بن عقيل، وكان فاضلاً قد تخرج على عمه المذكور، فسخط عليه الملك المعظم صاحب إربل، وأخرجه منها فانتقل إلى الموصل، فكتب إليه أبو الدر الرومي من بغداد، وكان صاحبه. أيا ابن عقيل لا تخف سطوة العدى ... وإن أظهرت ما أضمرت من عنادها وأفضتك يومًا عن بلادك فتنة ... رأت فيك فضلاً لم يكن في بلادها كذا عادة الغربان تكره أن ترى ... بياض البراد الشهب دون سوادها أشار بذلك إلى الجماعة الذين سعوا به حتى غيروا خاطر الملك عليه. وفيها توفي الشيخ الشهير بالأحوال الباهرة والكرامات الظاهرة يونس بن يوسف الشيباني، قال الذهبي في ترجمته، وهذا شيخ الطائفة اليونسية أولى الشطح، وقلة العقل، وكثرة الجهل أبعد الله شرهم. قال: وكان رحمه الله تعالى صاحب حال وكشف يحكى عنه

سنة عشرين وست مائة

كرامات قلت: قد ذكرت في غير موضع من هذا الكتاب غيظ الذهبي عن الصوفيه وتعريضه بالقدح فيهم وما على البدر إن قالوا به كلف، وهذا مع اعترافه بأن الشيخ المذكور كان من ذوي الكشف والأحوال والكرامات المخصوص بها أولى القرب والنوال نفعنا الله تعالى بعباده الصالحين، وأعاد علينا من بركاتهم أجمعين. سنة عشرين وست مائة وفيها توفي شيخ الشافعية بالشام في عصره أبو منصور عبد الرحمن بن محمد المعروف بفخر الدين ابن عساكر ابن أخي الإمام الحافظ أبي القاسم علي ابن عساكر. صاحب تاريخ دمشق لما، وخرج من بينهم جماعة من العلماء والرؤساء كان إمام وقته في علمه ودينه تفقه ودرس بالقدس زمانًا وبدمشق، واشتغل عليه خلق كثير، وتخرجوا عليه، وصاروا أئمة فضلاء: وكان مسددًا في الفتاوى، وكان لا يمل الناظر من رويته بحسن سمته واقتصاده في لباسه ولطفه، ونور وجهه، وكثرة ذكره الله عز وجل. عرض المعظم عليه القضاء فامتنع، وله مصنفات في الفقه لم تنشر. توفي في رجب، وله سبعون سنة قال ابن خلكان: وزرت قبره مرارًا بمقابر الصوفية ظاهر دمشق. وفيها توفي صاحب المغرب السلطان المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي. ولي الأمر عشر سنين بعد أبيه، ومات شابأ ولم يعقب. وفيها توفي الشيخ موفق الدين المقدسي أحد الأئمة الأعلام عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة الحنبلي صاحب التصانيف حفظ القرآن، وتفقه، ثم ارتحل إلى بغداد فأدرك الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وسمع منه ومن جماعة، وانتهت إليه معرفة المذهب وأصوله كان تقيًا ورعًا زاهدًا مستغرق الأوقات في العلم والعمل، وقال بعض الأئمة: رأيت الإمام أحمد في النوم، فقال: ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي قال الرائي: المنام المذكور، وسمعت الشيخ أبا عمر وابن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق. سنة احدى وعشرين وست مائة فيهااستولى السلطان جلال الدين الخوارزمي على بلاد أذربيجان وراسله الملك

سنة اثنتين وعشرين وست مائة

المعظم، واتفق معه أنه يعينه على أخيه الملك الأشرف لفساد حدث بهما، وفيها استولى لؤلؤ على الموصل، وخنق محمودين القاهر، وزعم أنه مات. وفيها عادت التتار إلى أن وصلوا إلى الري، وكان ممن سلم من أهلها وتراجعوا إليها وما شعروا إلا بالتتار، وقد أحاطوا بهم، فقتلوا وسبوا، ثم ساروا إلى ساوة، ففعلوا بأهلها كذلك، ثم كذلك قاشان، ثم عطفوا إلى همدان فأبادوا من بقي بها، ثم ساروا إلى تبريز، فوقع بينهم وبين الخوارزمية مصاف. وفيها توفي القاضي الأسعد أبو البركات عبد القوي ابن القاضي عبد العزيز التميمي السعدي المصري المالكي وعبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن سلطان المغرب ولي الأمر في العام الماضي، فلم يدار أمراء الموحدين، فخلعوا وحنقوا، وكانت لايته تسعة أشهر، وفي أيامه استولى على مملكة الأندلس ابن أخيه عبد الله بن يعقوب الملقب بالعادل، والتقى الفرنج، فهزموا جيشه، فقصدوا مراكش بأسوء حال، فقبضوا عليه وتملك الأندلس أخوه ادريس مدة، وخرج عليه محمد بن يوسف بن هود الجذامي، ودعا إلى بني العباس، فمال الناس إليه، فهرب إدريس بعسكره إلى مراكش، فالتقاه صاحبها يومئذ يحيى بن يعقوب بن يوسف، فهزم يحيى. وفيها توفي الشيخ العارف صاحب الأسرار والمعارف والأحوال والأنوار أبو الحسن علي المعروف بالفريثي بالفاء والراء والمثناة من تحت، ثم المثلثة. قال الذهبي: كان صاحب حال، وكشف، وعبادة، وصدق، وأصحاب بسفح قاسيون قلت: وهو الذي حكي عنه في مناقب الشيخ عبد القادر أنه قال: رأيت أربعة من المشائخ يتصرفون في قبوركم كتصرف الأحياء، الشيخ عبد القادر، والشيخ معروفًا الكرخي، والشيخ عقيلاً المنبجي، والشيخ حياة بن قيس الحراني رضي الله تعالى عن الجميع ونفعنا بهم. وفيها توفي شيخ المالكية أبو الحسن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري الإشبيلي، كان من كبار المتعصبين للمذهب، فأوذي من جهة بني عبد المؤمن لما أبطلوا القياس، وألزموا الناس الأخذ بالأثر والظاهر، وقد صنف كتاب المعلى والرد على المحلى لابن حزم. سنة اثنتين وعشرين وست مائة فيها جاء جلال الدين بن خوارزم شاه، فوضع السيف في دقوقاوأحرقها، وعزم

على هجم بغداد، فانزعج الخليفة الناصر، وحصن بغداد، وأقام المجانيق، وأنفق ألف ألف دينار، فأعلم ابن خوارزم شاه أن الكرج قد خرجوا على بلاده، فساق إليهم والتقاهم، وظفر بهم، وقتل منهم سبعين ألفًا، ثم أخذ تفليس بالسيف، وقتل بها ثلاثين ألفًا، وكان قد أخذ تبريز بالأمان، وتزوج بابنة السلطان ابن سلجوق. وفيها توفي أيضًا أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين الشاعر المشهور، اشتغل بالعلم، وأكثر من الأدب، وأجاد النظم، ولما تميز ومهر سمى نفسه الرحمن، قرأ القرآن وشيئًا من الأدب، وكتب خطًا حسنًا، وقال الشعر وأكثر النظم منه في المحبة والرقاق. ومنه قوله: خليلي لا والله ما جن عاشق ... وأظلم إلا حره وحر عاشق إذا غاض دمعك والأحباب قد ماتوا ... فكل ما تدعي زور وبهتان وكيف تأنس أو تنسى خيالهم ... وقد خلى منهم ربع وأوطان لا أوحش الله من قوم نأوا فنأى ... عن النواظر أقمار وأغصان ومنه قوله: إلا من مبلغ وجدي بها وغرامي ... ومهد إلى دار السلام سلامي وله ديوان شعر كبير. وذكر في بعض التواريخ أنه وجد ميتًا بمنزله ببغداد. وفي السنة المذكورة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، كان فيه شهامة واقدام وعقل ودهاء، وتولى الخلافة في سنة خمس وسبعين وخمس مائة، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهو أطول بني العباس خلافة. كما أن الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس أطول بني أمية دولة، وكما أن المستنصر بالله العبيدي أطول بني عبيد دولة، وكما أن السلطان سنجر ابن ملك شاه أطول بني سلجوق دولة، وكان الخليفة الناصر لدين الله مستقلاً بالأمور بالعراق متمكنًا من الخلافة يتولى الأمور بنفسه، حتى كان

يشق الدروب والأسواق أكثر الليل والناس يتهيأون لقاءه، وما زال في عز وجلالة واستظهار وسعادة عاجلة، نسأل الله الكريم السعادة الآجلة. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير الفاضل الشهير أبو الفضل أحمد ابن الإمام العلامة كمال الدين أبي الفتح موسى ابن الفقيه المفتي رضي الدين يونس الموصلي الشافعي. قال ابن خلكان: كان كثير المحفوظات، عزيز المادة، حسن السمت، جميل المنظر شرح كتاب التنبيه في الفقه، واختصر إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مختصرين: كبيراً وصغيرًا. قال: وكان يلقي في جميع دروسه من كتاب الإحياء دروسًا حفظًا، ونسج على منوال والده في اليقين في العلوم، تخرج عنه جماعة كثيرة. قال: وتولى التدريس بمدرسة الملك المعظم صاحب إربل بعد والده، وكان وصوله إلى هنالك من الموصل في أوائل شوال سنة عشر وست مائة، وكانت وفاة الوالد ليلة الاثنتين الثاني والعشرين من شعبان السنة المذكورة، قال: وقد كنت أحضر درسه وأنا صغير، وما سمعت أحداً يلقي الدرس مثله، ولم يزل على ذلك إلى أن حج، ثم عاد وأقام قليلاً، ثم انتقل إلى الموصل في سنة سبع عشرة وست مائة، وفوضت إليه المدرسة القاهرية، فأقام بها ملازم الاشتغال والإفادة، وقد كان من محاسن الوجود، وما أذكره إلا وتصغر الدنيا في عيني، وكان مبدأ شروعه في شرح التببيه بإربل،. وإستعار منا نسخة التنبيه عليها حواش مفيدة بخط بعض الأفاضل، ورأيته بعد ذلك، وقد نقل الحواشي كلها في شرحه. وكان اشتغاله على أبيه بالموصل، ولم يتغرب لأجل الاشتغال بالعلم، وكان الفقهاء يتعجب منه كيف اشتغل في وطنه، وبين أهله، وفي عزه واشتغاله بالدنيا، وخرج منه ما خرج، قال: وهو من بيت العلم، وأطنب المدح في أبيه وعمه وجده، قال: ولو شرعت في وصف محاسنه لأطلت، وفي هذا القدر كفاية، وقال غيره: عاش أبوه بعده سبع عشرة سنة قلت: أما إطنابه في محاسنه، فالمحاسن لها وجوه متعددة، فأثنى عليه بما شاهده منه فيه، وأما مدحه لكتابة شرح التنبيه، فغير جدير بمدحه المذكور، فهو خال من التفضيل والتفريع والفوائد الموجودة في غيره كشرح الفقيه الإمام ابن الرفعة الذي هو جدير بالمدح الكامل لما تضمنه من الفوائد العقائل، وأما مدحه لإلقاء الدرس، وأنه ما سمع مثله ذ الإلقاء المذكور، فهو محتمل، ويكون ذلك. بحسن سياقه وتصوفه في المباحث وظرافته ومزجه بالاستعارات المستحسنة، والنوادر المستطرفة، وغير ذلك مما يطرب السامع والمدح

بذلك من مثل ابن خلكان ثناء عظيم لصاحبه رافع. وفيها توفي الملك الأفضل نور الدين علي ابن سلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سمع من جماعة، وله شعر وترسل، وجودة كتابة. تسلطن بدمشق، وتملك أخوه الملك العزيز الديار المصرية، ولقي الملك الطاهر أخوهما بحلب، ثم جرت للملك الأفضل مع أخيه الغريز وقائع يطول شرحها، وآخر الأمر أن العزيز والعادل عمه حاصرا دمشق، وأخذاها من الأفضل، وأعطياه صرخد، ثم بعد قليل مات العزيز، وتولى ولده المنصور، ثم إن الملك العادل أخذ الديار المصرية، ودفع للملك الأفضل عدة بلاد: الشرق، ولم يحصل له منها إلا سميساط، فأقام بها إلى أن مات. وكان الأفضل فيه فضيلة ونباهة، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمتهم. ومن الشعر المنسوب إليه ما كتب إلى الإمام الناصر يشكو عمه العادل، وأخاه العزيز لما أخذوا منه دمشق هذه الأبيات: مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غضبا بالسيف حق علي وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما، فاستقام الأمر حين ولي فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي فانظر إلى خط هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول فأجابه الإمام الناصر بجواب أوله: وافى كتابك بابن يوسف معلناً ... بالود يخبر أن أصلك طاهر غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر فابشر فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر ثم حارب أخاه العزيز صاحب مصر على الملك، ثم زال سلطانه، وتملك سميساط، وأقام بها مدة، وكان فيه عدل وحلم وكرم. وفيها توفي الفخر الفارسي السيد الجليل مطلع الأنوار، ومنبع الأسرار، ومعدن المحاسن والفخار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفيروز أبادي الشافعي الصوفي صاحب العلوم الربانية الغامضة المستغربة في التصوف، والوصل والمحبة. وأما ما ذكره الذهبي أن في تصانيفه أشياء منكرة، فكلام من ليس له بعلوم القوم

سنة ثلاث وعشرين وست مائة

مخبرة، ولا قوة اعتقاد قويم تحمله على حسن الظن والتسليم، ولعمري من خلاص هذين المذكورين، فهو بمعزل عن نهجهم، واعتقاد فضلهم المشكورين واقع لا محللة في ذمهم، وسوء الظن بهم المذمومين، توفي الفخر رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة وقد نيف السبعين، وقبره في قرافة مصر مزور شهير، وهو ممن روى عن الإمام السلفي الكبير. سنة ثلاث وعشرين وست مائة فيها سار الملك الأشرف إلى أخيه المعظم وأطاعه وسأله أن يكاتب جلال الدين خوارزم شاه ليحمل جنده عليه ليترحل عن خلاط، فكتب إليه، فترحل عنها، وكان المعظم يلبس خلعة جلال الدين ويركب فرسه، وإذا خاطب الأشرف حلف وحياة رأس السلطان جلال الدين، فيتألم بذلك. وفيها حارب جلال الدين المذكور التركمان، ومزقهم، ثم التقى الكرج فهزمهم وأخذ التفليس بالسيف، وكانت إذ ذاك دار ملكهم بها في أيديهم أكثر من مائة سنة. وفيها توفي أبو العز مظفر بن إبراهيم العيلاني بالعين المهملة الشاعر المشهور المصري، كان أدبيًا عروضيًا، شاعرًا مجيدًا، صنف في العروض تصنيفًا مختصرًا جيدًا دل على حذقه، وله ديوان شعر رائق، وكان ضريرًا، وفي ذلك قال: قالوا: عشقت وأنت أعمى ... ظبيًا كحيل الطرف ألمًا وحلاه ما عاينتها ... فيقول قد شغفتك وهمًا فأجبت إني موسوي ... العشق أنسًا وفهمًا أهوى بجارحة السماع ... ولا أرى ذاك المسمى ولما عاد الوزير صفي الدين بن شكر من الشام إلى مصر خرج أصحابه للقائه الخشبي المنزلة الرفيعة المعروفة، فكتب مظفر المذكور يعتذر إليه عن تأخره عن التقائه بهذه الأبيات: قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل ... نلقى الوزير جميعًا من ذوي الرتب ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم: ... لم أخش من تعب ألقى ولا نصب

وإنما النار في قلبي لوحشته ... فخفت أجمع بين النار والخشب وهذا المعنى مطروف لكنه أبرزه في جملة إستعمال تروق قال ابن خلكان: وأخبرني بعض أصحابه أنج شخصًا قال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ماصورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن: تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي لكي تحدث عهدًا بك يا زين الأخلاء فما مثلك من غير عهد أو عقل، وسأله: من أي بحر هو؟ وهل هو بيت واحد أم أكثر؟ فإن كان أكثر، فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي؟ قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن. قال ابن خلكان: فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر حتى أنظر فيه، ولا تقل ماقاله، ثم قال فكرت. فيه فوجدته، يخرج من بحر الرجز، وهو المجزومة وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات على روي اللام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له بهذا الفن معرفة، فإنه ينكرها لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من بيانها ليظهر صورة ذلك، وهي هذه: أكرمك الله وأتقاك ... لقد كان من آل واجب أن تأتينا ... فاليوم إلى منازلنا خالي لكي حدث عهدًا ... بك يا زين الأخل لاء فما مثلك من ... غير عهدًا أو عقل فقال: وهذا إنما يذكره أهل هذا للشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص، فقال: هكذا قال مظفر الأعمى. قال: وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة منهم،. فخلع على الجميع ولم يخلع عليه، فكتب إليه: العبد مملوك مولانا وخادمه ... مظفر الشاعر الأعمى خليفتنا يقبل الأرض إجلالاً لمالكه ... رقًا، وينهي إليه بعد كل هنا أن القميص جميع الناس قد بصروا ... به وما منهم يعقوب غير أنا

وله يوم زينة الشواني ... يا أيها الملك المسرور آمله ... هذي شوانيك ترمى يوم سراء كأنما هي عقبان بها ظمأ ... طارت من البر وانقضت على الما وله في يوم لعبها ... مولاي هذي الشواني في ملاعبها ... مثل الشواهين في سهل وفي جبل يسعى محاذيفها ماء وينقضه ... بعض العقاب جناحيها من البلل قلت يعني بالمخاذيف مقاذيف التي يقذف بها الماء لتمشي المركب، وقد أبدع في حسن هذا التشبيه في الجميع وأطنب، وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر. أرى علمًا للناس في الصوم ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمي زنجي سنان مذهب وفيها توفي الطاهر بالله محمد بن الناصر لدين الله ابن المستضيء بأمر الله، وكانت خلافته تسعة أشهر ونصفًا، وكان دينًا خيرًا عادلاً حتى بالغ ابن الأثير فيه، وقال أظهر من العدل والاحسان ما أعاد به سنة العمرين، وقال أبو أسامة قيل لنا: ألا ينفسخ، فقال قد يبس الزرع فقيل: تبارك الله في عمرك، فقال: من فتح بعد العصر ايش يكسب، ثم أنه أحسن إلى الناس وفرق الأموال وأبطل المكوس، وأزال المظالم، وقال غيره: ولي بعده ابنه المستنصر بالله. وفيها توفي الإمام الكبير العلامة البارع الشهير الجامع بين العلوم والأعمال الصالحات، والزهد، والعبادات، والتصانيف المفيدات النفيسات أبو القاسم عبد الكريم محمد بن عبد الكريم القزويني الشافعي صاحب الشرح الكبير المشتمل على معرفة المذهب ودقائقه الغامضات الجامع الفائق التصانيف السابقات واللاحقات. ومن كراماته أنه أضاءت له شجرة في بيته لما انطفىء السراج الذي كان يستضيء به عند كتبه بعض مصنفاته.

سنة أربع وعشرين وست مائة

سنة أربع وعشرين وست مائة فيها جاء الخبر إلى السلطان جلال الدين، وهو بتوريز أن التتار قد قصدوا أصفهان وبها أهله، فسار إليها وتأهب للملتقى، فلما التقى الجمعان وحد له أخوه غياث الدين وولي، فكسرت ميمنته ميسرة التتار، ثم حملت ميسرته على ميمنة التتار، فطحنتها أيضاً وتباشر الناس بالنصر، ثم كرت التتار مع كمينها، وحملوا حملة واحدة كالسيل، وقد أقبل الليل، فزلت الأقدام، وقتلت الأمراء، واشتد القتال، وتزعزع بنيان جيش جلال الدين، وثبت هو في طائفة يسيرة، وأحيط به، فانهزم وطعن طعنه لولا الأجل لتلف وتمزق جيشه إلى أن ميمنته سارت على ميسرة التتار حتى، ولوا فتبعت أقفيتهم، وما رجعت إلا بعد يومين، فلم يسمع بمثل ذلك في الملاحم من انهزام كلا الفريقين، وذلك في رمضان. وقيل ذلك بأيام مات طاغية التتار وسلطانهم الأعظم الذي خرب البلاد وأفنى البرايا، وأباد، وهو الذي جيش الجيوش، وخرج بهم من بادية الصين، ودانت له المغل، وعقدوا له عليهم، وأطاعوه، ولا طاعة الأبرار للملك الجبار، واسمه قيل الملك تمرجين بالمثناة من فوق والراء والجيم والمثناة من تحت والنون، ومات على الكفر، وكان من دهاة العالم، وأفراد الدهر، وعقلاء الترك وهو أحد ابني العم بركة وهولاكو. وفيها توفي قاضي القضاة ابن السكري عماد الدين عبد الرحمن بن علي المصري الشافعي، تفقه على شهاب الطوسي، وبرع في المذهب، ودرس وأفتى ولي قضاء القاهرة وخطابتها. وفيها توفي الملك المعظم سلطان الشام شرف الدين عيسى ابن الملك العادل الفقيه الأديب، ولد بالقاهرة، وحفظ القرآن، وبرع في الفقه وشرح الجامع الكبير في عدة مجلدات باعانة غيره، ولازم الاشتغال زمانًا، وسمع المسند كله من مسند أحمد بن حنبل مراراً، ثم تلاحق مماليكه بعد، وكان حنفي المذهب، قال ابن خلكان: كان متعصبًا لمذهبه وله فيه مشاركة حسنة، ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه، وتبعه أولاده، وكان قد حج، ومدحه جماعة من الشعراء المجيدين، فأحسنوا في مدحه، وكانت له رغبة في فن الأدب، وقيل: إنه قد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار، وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة. قال: ورأيت بعضهم بدمشق، والناس يقولون إن سبب حفظهم له كان هذا قال: ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره، وكانت مملكته متسعة يعني في بلاد الشام توفي يوم

سنة خمس وعشرين وست مائة

الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن في قلعتها، ثم نقل إلى جبل الصالحية، ودفن في مدرسة هناك تعرف بالمعظمة فيها قبور جماعة من اخوانه وأهل بيته، وكان من النجباء الأذكياء، ذكرت عنه أمور تدل على حسن ادراكه واصابة المقصد منها أنه كان ابن عنين قد مرض، فكتب إليه: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... مولى الندى وتلاف قبل تلاف فأنا الذي أحتاج ما تحتاجه ... فاغنم ثوابي وثناء الوافي فجاء إليه بنفسه يعوده، ومعه صرة فيها ثلاث مائة دينار، فقال: هذ الصلة وأنا العائد وأشياء كثيرة يطول شرحها. سنة خمس وعشرين وست مائة فيها توفي العلامة الحسن بن إسحاق المعروف بابن الجواليقي المحدث الرحال أحمد بن تميم بن هشام الأندلسي. وفيها توفي أبو المعالي أحمد بن الخضر الصوفي المعروف بابن طاووس رحمه الله. سنة ست وعشرين وست مائة فيها أخذ الكامل بيت المقدس، وسلمه إلى ملك الفرنج أعوذ بالله من سخط الله، ومن انتهاك شعائر الله، وموالاة أعداء الله، فكم بين من طهره من نجاسات الشرك، وبين من ساق إليه نجاسات الشرك، ومن أعز دين الله ونصره، وبين من أذله وحقره، ثم اتبع فعله ذلك بحصار دمشق وايذاء الرعية، وجرت بين عسكره وعسكر الناصر وقعات حربية، وقتل جماعة في غير سبيل الله، ووقع النهب في الغوطة والحواضر، وأحرقت الجبانات والخوانق ودام الحصار أشهرًا، لم وقع الصلح في شعبان، ورضي الناصر بالكرك ونابلس فقط، ثم دخل الكامل، وبعث جيشه يحاصرون حماة، ثم تسلم دمشق بعد شهر إلى

أخيه الأشرف، فأعطاه الأشرف حران والرقة والرهاء وغير ذلك، فتوجه إلى الشرق ليتسلم ذلك، ثم حاصر الأشرف بعلبك، فأخذها من الأمجد. وفيها توفي مسند الشام أبو القاسم شمس الدين الحسين بن هبة الله بن محفوظ الثعلبي الدمشقي. وفيها توفيت أمة الله بنت أحمد بن عبد الله الآبنوسي، روت الكثير عن أبيها، وتفردت عنه، وتوفيت في الحرم، وتلقبت شرف النساء كانت صالحة خيرة. وفيها توفي ياقوت الرومي الحموي، ثم البغدادي التاجر شهاب الدين الأديب الإخباري صاحب التصانيف الأدبية في التاريخ والأنساب والبلدان وغير ذلك، أسر من بلاده صغيرًا فابتاعه ببغداد رجل تاجر، ولما كبر ياقوت المذكور، قرأ شيئًا من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجرة، ثم جرت بينه وبين مولاه قضية أوجبت عتقه، فأبعده عنه فاشتغل بالنسخ، وحصلت له بالمطالعة فوائد. وصنف كتابًا سماه إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء في أربع مجلدات، وكتابًا في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، وكتبًا أخرى عديدة، وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف. وذكر القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني وزير صاحب حلب ياقوت المذكور، كتب إليه رسالة من الموصل عند وصوله إليها يصف فيها حاله وما جرى له، فأحجم عن عرضها على مولاه الشريف إعظاما وتهيبًا، وفرارًا من قصورها عن طوله وتجنبًا، إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي صناعة النظم والنثر فوجدهم مسارعين، إلى كتبها، متهافتين على نقلها وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها، وفي أعلى درج الإحسان أحلتها، فشجعه ذلك على عرضها على مولاه، وللآراء علوها في تصفحها، والصفح عن زللها، فليس كل من لمس درهمًا صيرفيًا. ولا كل من اقتنى دراً جوهريًا. قلت: وهذه الألفاظ اليسيرة من أولها رأيت كتابتها ليتعجب من بلاغتها من وقف عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبنيه، ما سوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعف مجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى باجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطال بقاءه، ورفع إلى أعلى عليين علاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عدها ولا عديدها، ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يقل حديدها ولا جديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها، وأدام

الله ولته، للدنيا والدين إلى يوم يبعثه ويهزم كرثه يعني كربه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثره آثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ ظله للعلوم وأهلها، والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، ويشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجده تيجانها ويروض ببالغ علائه زمانها، ويعظم لعلو همته الشريفة من البرية شأنها، ويمكن في أعلى درج الاستحقاق امكانها ومكانها، ورفع بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية: ليسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضد بحسن الانابة معاضدها، وينهج بجميل المقاصد مقاصدها، حتى يعود بحسن تدبيره غر في جبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان. يكون لها أجرها مادار الملوان، وكر الجديدان، ما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة الحضر الزاهرة نفس. وبعد، فإن المملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السؤل، واضحة الغرر بادية الحجول، ما هو مكيف بالأريجية المولوية عن تبيانها، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن افضاء قلمه لايضاحه وبيانه قد أحسنه ما وصفه به عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين، وهو شر ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من البعيد للحضرة الشريفة الغراء. قد كفته تلك الألمعية عن اظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك في دين ولاية الآفاق، واضحة، وطبعه بسكة اخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق، حتى أصبح بها نبي المكارم مبين وتلاوة لأحاديث المجد بالمشاهدة متين، ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله

الذي تلقاه باليمن معروف، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالوحي لنظم شارده وقسم متبدده بعرق الجبين مألوف، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجتها على من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذي القدرة دون المعتر وابن السبيل، فإن لكل منهم حظًا يستمده، ونصيبًا يستفيد به ويستعده فللعظماء الشرف الضخم من معينه، وللعلماء اقتناء الفضل من فطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه، وفرضوا من مناسكه للنهجة الشريعة السلام والتبجيل، وللكف البسيطة الإستلام والتقبيل. ثم قال بعد كلام مشتمل على ألفاظ فضيلة ومعان جميلة: وقد كان المملوك فارق ذلك الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللباب، والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدبار صلف الزمن الغشوم والجامح، اعتذار أبان في الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الاقتراب ذلك واستقام وحبس البيت، في المحافل سكيت: فودعت من أهلي وفي القلب ما به ... وسرت عن الأوطان في طلب اليسر سأكسب مالا أو أموت ببلدة ... يقل بها فيض الدموع على قبري فامتطأ غارب الأمل إلى الغربة، وركب ركب التطواف مع كل صحبه، قاطع الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد، أو كاد، فلم يرفق به زمان حزون ولا مكان حرون، فلكأنه في جفن الدهر قذى، وفي حلقه شجى، تدافعه آمال الأمنية حتى أسلمته إلى ربقة المنية. لا يستقر بأرض أو يسير إلى أخرى ... لشخص قريب عزمه نأى يومًا يخروى ويومًا بالعقيق ... ويومًا بالعذيب ويومًا بالخليصاء وتارة يتنحى نخلاً، وأدية ... شعب الحزون حيناً قصر تيماء

والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزخيها، ويعلل المعيشة ويرجيها متلفعاً بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راضي بذلك الشمل، ولكن مادة أقول لايطل قد ألزم نفسه أن يستعمل طرفًا طماحًا، وأن يركب طرفًا جماحًا، وأن يلحف بيض طمع جناحًا، وأن يستقدح زهدًا وارياً وشاحًا. وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما عشت يومًا ... أسار الجندام ركب الأمير ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل عنا الباكي عد في الرفات. تنكر لي مذ شبت دهري وأصبحت ... معارفه عندي من النكرات إذا ذكرتها النفس حنت صبابة ... وجاد شؤون العين بالعبرات إلى أن أتى دهر يحسن ما مضى ... ويوسعني تذكاره حسرات قلت: وهذا البيت الأخير يشفي من منهل القائل الذي بهذا المعنى يشير. رب دهر بكيت منه ... فلما صرت في غيره بكيت عليه وهذا ما اقتصرت عليه من رسالته الطويلة الجليلة الفائقة الجميلة المؤذنة له بتمام البلاغة والفضيلة، وهو نحو من ربعها، وهو لعمري فيما يستحقه من النعوت. من نفيس الجواهر كاسمه ياقوت، توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان بظاهر مدينة حلب، وكان قد وقف كتبه، ولما تميز سمى نفسه يعقوب. وفيها توفي الملك المسعود ابن الملك الكامل بمكة المشرفة، وكان قد سيره جده الملك العادل إلى اليمن، فملكها وبلاد الحجاز مضافة إليها، ولما حضرته الوفاة وصى أنه إذا مات لا يجهز بشيء من ماله، يسلم إلى الشيخ الصديق يجهزه عنده بما يرى، وكان من كبار الصالحين من أكراد بلد إربل مجاورًا بمكة، ولما مات الملك المسعود تولى تجهيزه وكفنه في إزار، كان قد أحرم فيه بالحج والعمرة سنين عديدة، وجهزه تجهيز الفقراء

سنة سبع وعشرين وست مائة

كان قد أوصى أن لا يبنى على قبره. بل يدفن بين القبور، ويكتب على قبره: هذا قبر الفقير إلى رحمة الله تعالى يوسف بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، ففعل ذلك، ثم إن عتيقه الصارم المسعودي الذي تولى القاهرة بنى عليه قبة، ولما بلغ الملك الكامل فعل الشيخ صديق، كتب إليه بشكره ويسأله أن يذكر له حوائجه ليقضيها، فلم يرد عليه جوابًا، وقال: ما أستحق شكراً إنما جهزت فقيراً. سنة سبع وعشرين وست مائة فيها حاصر جلال الدين والخوارزمية خلاط، وكان قد حاصرها من قبل أربع مرات هذه خامسها، ففتح له بعض الأمراء بشدة القحط على أهلها، وحلف لهم جلال الدين وغدر، وعمل أصحابه بها كما يعمل التتار من القتل، ثم رفعوا السيف، وشرعوا في المصادرة والتعذيب، وخاف أهل الشام وغيره من الخوارزمية، وعرفوا أنهم إن ملكوا أهلكوا أو لكل قبح فتكوا، فاصطلح الأشرف وصاحب الروم علاء الدين، واتفقوا على حرب جلال الدين، وساروا والتقوه في رمضان، فكسروه والحمد لله، واستباحوا عسكره، وهرب جلال الدين بأسوأ حال، فوصل إلى خلاط في سبعة أنفس، وقد تمزق جيشه، وقتلت أبطاله، فأخذ حرمه، وما خف حمله وهرب إلى أذربيجان، ثم أرسل إلى الملك الأشرف في الصلح وذل وأمنت خلاط وشرعوا في إصلاحها. وفي السنة المذكورة توفي زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر، وكان صالحًا خيرًا، حسن السمت. روي عن أبي العشائر وطائفه، وتفقه على جمال الأئمة علي بن الناسح، وولي نظر الخزانة والأوقاف، ثم تزهد. وفيها توفي عبد السلام بن عبد الرحمن الصوفي البغدادي، سمع أبا الوقت وجماعة كثيرة وفيها توفي أبو محمد عبد السلام بن عبد الرحمن ابن الشيخ العارف بالله معدن الحكم والمعارف أبي الحكم بن برجان اللخمي المغربي، ثم الإشبيلي حامل لواء اللغة بالأندلس. سنةثمان وعشرين وست مائة . لما علمت التتار بضعف جلال الدين خوازرم شاه، بادروا لقتاله، فلم يقدم على لقائهم، فملكوا مراغه، وعاثوا ويدعوا وفرهوا إلى آمد، وتفرق جنده، فبيته التتار ليلة، فنجا بنفسه، وطمع الأكراد والفلاحون وكل واحد في جنده وتخطفوهم، وانتقم الله منهم

وسارت التتار إلى ديار بكر في طلب جلال الدين، ووصلوا إلى ماردين يسبون ويقتلون. وفيها توفي الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر بهرام شاه صاحب بعلبك، تملكها بعد والده خمسين سنة، وكان جوادًا كريمًا شاعرًا محسنًا قتله، مملوك له بدمشق. وفيها توفي المهذب شيخ الطب عبد الرحيم بن علي بن حامد الدمشقي واقف المدرسة التي بالصاغة العتيقة على الأطباء، أخذ عن الموفق بن المطران والرضي الرحبي، وأخذ الأدب عن الكندي، وأنتهت إليه معرفة الطب، وصنف فيه التصانيف، وحظي عند الملوك، وفي آخر عمره عرض عليه طرف خرس حتى لا يكاد يفهم كلامه، واجتهد في علاج نفسه، فما أفاد بل ولد له أمراضًا، وما زال يسعل إلى أن مات. وفيها توفي الإمام النحوي أبو الحسين يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي الفقيه الحنفي صاحب الألفية، أقرأ العربية مدة بدمشق ثم بمصر. وروى عن القاسم ابن عساكر، وتوفي بمصر، وكان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، واشتغل عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وصنف تصانيف مفيدة، وكان انتقاله من دمشق إلى مصر. بسبب أن الملك الكامل رغبه في ذلك، وقرر له على التصدر بجامع العتيق لإقراء الأدب رزقًا، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بها، فدفن على شفير الخندق، قرب تربة الإمام الشافعي، وقبره هنالك ظاهر. والزواوي نسبة إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال أفريقية ذات بطون وأفخاذ وفيها توفي الشيخ الجليل العارف الواعظ المنطق بالحكم، ومحاسن المواعظ أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي أحد شيوخ الرسالة المشهورة، وأرباب المحاسن المشكورة، مدحه الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال: نسيج. وحده في وقته له لسان في الرجا خصوصًا، وكلام في المعرفة، خرج إلى بلخ وأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابورا ومات بها. ومن كلامه كيف يكون زاهدًا من لا ورع له؟ تورع عما ليس لك، ثم أزهد فيما لك،

سنة تسع وعشرين وست مائة

وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة، والوحدة جليس الصديقين، والفوت أشد من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق. والزهد ثلاثة أشياء القلة، والخلوة والجوع، وذكره الخطيب في تاريخ بغداد فقال: قدم بغداد واجتمع إليه بها مشائخ الصوفية والنساك، ونصبوا منصبه، وأقعدوه عليها، وقعدوا بين يديه يتحاورون، وكان له اشارات وعبارات حسنة. ومن كلامه أحسن الأشياء الكلام الحسن حسن، وأحسن من الكلام معناه، وأحسن من معناه استعماله، وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له. ودخل على علوي ببلخ زائراً له ومسلمًا عليه، فقال له العلوي: أيده الله الأستاذ ماتقول فينا أهل البيت؟ قال: ما أقول في طين عجن بماء الوحي، وغرس بماء الرسالة، فهل يفوح منهما إلا مسك الهدى وعنبر التقى؟ فحشا العلوي فاه بالدر. ومن كلامه ما بعد طريق إلى صديق، ولا استوحش من سلك فيه إلى حبيب في طريق وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء، وقال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه، فلا تضره، وإن لم تمدحه، فلا تذمه، وإن لم تسره، فلا تغمه، وقال: عمل كالسراب؟ وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمال والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات! أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك، ولو بادرت أجلك، وله في هذا الباب كلام مليح النظام. سنة تسع وعشرين وست مائة فيها توفي السلطان جلال الدين خوارزم شاه ابن السلطان علاء الدين، كان يضرب به المثل في الشجاعة والإقدام، كثير الجولان في البلاد ما بين الهند إلى ما وراء النهر، إلى العراق، إلى فارس، إلى كرمان، إلى أرمينية، وأذربيجان وغير ذلك، وافتتح المدن، وسفك الدماء، وظلم وعسف وغدر، قالوا: ومع ذلك كان صحيح الإسلام، وكان ربما قرأ في المصحف، وبكى وآل أمره إلى أن تفرق عنه جيشه، حتى يقال: إنه سار في نفر يسير فبيته كردي في منزله، وطعنه بحربة وقتله بها. وفيها توفي الحافظ أبو موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله. وفيها توفي العلامة المتقن الموفق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي الشافعي النحوي اللغوي الطبيب الفيلسوف، وصاحب التصانيف الكثيرة، كان أحد الأذكياء البارعين في اللغة

سنة ثلاثين وست مائة

والأدب والطب. وفيها توفي الشيخ الجليل ذو العطاء الجزيل، والأحوال السنيات، والجدو المجاهدات عمر بن عبد الملك الدينوري نزيل قاسيون. وفيها توفي الحافظ الرحال محمد بن عبد الغني، المعروف بابن نقطة الحنبلي كان من أهل الحديث المكثرين من سماعه وكتابته، والراحلين في تحصيله. لقي المشايخ وأخذ عنهم، واستفاد منهم، وكتب الكثير، وعلق التعاليق النافعة، وذيل على الإكمال كتاب الأمير ابن مأكولا ما أقصر فيه، وجاء في مجلدين. وله كتاب آخر لطيف في الأنساب وكتاب التقييد المعروفة رواة السنن والمسانيد، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخه، فأثنى عليه، وقال: أنشد لأبي علي محمد بن الحسين بن أبي الشبل أحد شعراء العراق المجيدين. لا تظهرن لعادل ولغادر حاليك في الضراء والسراء فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء سنة ثلاثين وست مائة وفيها حاصر الملك الكامل آمد وأخذ من صاحبها المسعود بن المودود ابن الملك الصالح الأتابكي، وكان ممدود فاسقًا يأخذ الحرام غصبًا، وسلم الملك الكامل آمد إلى والده الصالح نجم الدين أيوب. وفيها جاء صاحب الروم، وحاصر حران والرقة، واستولى على الجزيرة، وفعل الروم مع إسلامهم ما يفعلون مع كفرهم. وفيها توفي القاضي بهاء الدين إبراهيم بن شاكر التنوخي الشافعي الكاتب البليغ، والدتقي الدين إسماعيل روى بالإجازة عن شهدة، وولي قضاء المعرة في صباه خمس سنين فقال: وليت الحكم خمسًاهن خمس ... لعمري، والصبا في عنفوان فلم تضع الأعادي قدر شأني ... ولا قالوا فلان قد رشاني قلت: وقد أحسن في صنعة هذين البيتين، وقوله: هن خمس هو بضم الخاء أي

خمس عشر مشير إلى أن عمره في ذلك الوقت خمس وعشرون سنة، وقوله: قد رشاني في الأول منهما أضاف قدر إلى شأني، وهو منصوب بتضع، والثاني مركب من قد مع رشاني من الرشوة، والكل مفهوم وإنما أوضحته لمن لا يفهم وعنفوان الشيء أوله. وفيها توفي إدريس ابن السلطان يعقوب بن يوسف، بايعوه بالأندلس، ثم جاء إلى مراكش وملكها، وعظم سلطانه، وكان بطلاً شجاعاً ذا هيبة شديدة، وسفك للدماء، قطع ذكر ابن تومرت بالخطبة. وفيها توفي الملك العزيز عثمان ابن العادل أخو المعظم لأبويه، اتفق موته بالناعمة، وهو بستان له في عاشر شهر رمضان. وفيها توفي الإمام الحافظ ابن الأثير أبو الحسن علي بن محمد الجزري صاحب التاريخ، ومعرفة الصحابة، وغير ذلك، كان صدرًا معظمًا، كثير الفضائل، كان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل، وحافظًا للتواريخ، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم، صنف في التاريخ كتابًا كبيرًا، واختصر كتاب الأنساب لابن السمعاني، واستدرك عليه في مواضع ونبه على أغلاط، وزاد شيئًا أهملها، وهو مفيد جيدًا في ثلاث مجلدات، والأصل في ثمان. قال ابن خلكان: والموجود اليوم في أيدي الناس هو هذا المختصر وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات كبار، وكان قد تنقل في بلدان كثيرة سمع بها من الشيوخ منها الموصل، وبغداد، والشام، والقدس، والجزري نسبة إلى جزبرة ابن عمر رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، وهو عبد العزيز بن عمر. وفيها توفي الحافظ الرحال ابن الحاجب عمر بن محمد الدمشقي رحمه الله، خرج لنفسه معجمًا في بضع وستين جزءًا. وفيها توفي مظفر الدين صاحب إربل أبو سعيد تركما ني. وفيها توفي أبو المحاسن محمد بن نصر الشاعر الملقب بشرف الدين المعروف بابن عنين، قال ابن خلكان: كان خاتمة الشعراء: لم يأت بعده مثله، ولا كان في أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصوراً على أسلوب، بل تفنن فيه، وكان غزير المادة من الأدب مطلعًا على معظم أشعار العرب، قال: وبلغني أنه كان يستحضر كتاب الجمهرة في اللغة لابن دريد، وكان مولعًا بالهجاء، وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا من رؤساء دمشق، سماها مقراض الإعراض. وكان السلطان صلاح الدين، قد نفاه من دمشق بسبب وقوعه في الناس، فلما خرج منها قال:

فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يحترم ذنبًا ولا سرقا؟ أنفوا المؤذن من بلادكم ... إن كان ينفى كل من صدقا وطاف بلاد من الشام والعراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان وغزنة وخوارزم وما وراء النهر، ثم دخل الهند واليمن وملكها يومئذ سيف الإسلام أخو صلاح الدين، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى طريق الحجاز والديار المصرية، وعاد إلى دمشق، وكان يتردد منها إلى البلاد، ويعود إليها، قال: ولقد رأيته بمدينة إربل، وقد وصل إليها رسولاً عن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك صاحب دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم سافر وكتب من بلاد الهند إلى أخيه بدمشق هذين البيتين، والثاني منهما لأبي العلاء المعري، استعمله مضمنًا، وكان أحق به وهما: سامحت كتبك في العطيفة عالمًا ... إن الصحيفة لم تجد من حامل وعذرت طيفك في الخفاء لأنه ... يسري ويصبح دوننا بمراحل قال ابن خلكان: لله دره، فما أحسن من وقع له هذا التضمين، ولما مات السلطان صلاح الدين وملك الملك العادل دمشق كان غائبًا منفيًا عنها، فسار متوجها إليها، وكتب إلى الملك قصيدة يصفه فيها ويستأذنه في الدخول، ويذكر ما قاساه في الغربة، وأحسن في كل الاحسان في المعاني اللطائف، واستعطفه أبلغ الاستعطاف أولها. ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني بالكرى ولما فرغ من وصفها قال مشيراً إلى نفيه منها: فارقتها لاعن رضًا وهجرتها ... ل اعن قلىً، ورحلت لا متحيرًا أسعى لرزق في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا وأصون وجه مدائحي متقنعًا ... واكف ذيل مطامعي مقترا

ومنها يشكو الغربة، وما قاساه فيها: أشكو إليك نوىً تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا إلا عيشتي يصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحه الكري أضحي عن الأخرى المرتع ممحلاً ... وأبيت عن ورد النمير منفرا ومن العجائب أن يقبل ظلكم ... كل الورى، ونبذت وحدي بالعرا قوله: النمير قال في ديوان الأدب: هو الماء الجاري الزاكي في الماشية عذبا كان أو غير عذب، وهو بفتح النون وكسر الميم وسكون المثناة من تحت في آخره راء. قال ابن خلكان: هذه القصيدة من أحسن الشعر. قال: فهي عندي خير من قصيدة ابن عمار الأندلسي، وهي على وزنها التي أولها أدب الزجاجة، فالنسيم قد انبرى، فلما وقف عليها الملك الأعدل أذن في الدخول إلى دمشق، فلما دخلها، قال: هجوت الأكابر في جلق ... ورعت الوضيع بسب الرفيع أخرجت منها، ولكنني ... رجعت على رغم أنف الجميع ويعني بجلق بكسر الجيم واللام وتشديدها وبعدها قاف اسم مكان في الشام، وربما قيل: إنه لقب لدمشق، والله أعلم، قال: وكان له في عمل الألغاز وحلها اليد الطولى، ولم يكن له غرض في جمع شعره وتدوينه، وقد جمع له بعض أهل دمشق ديوانًا صغيراً لا يبلغ عشر نظمه، وفيه أشياء ليست له، وكان من أطرف الناس، وله بيت عجيب من قصيدة يذكر بها أسفاره وتوجهه إلى جهة الشرق وهو: أشقق قلب الشرق حتى كأنني ... أفتش عن سودائه عن سنا الفجر قال: وقد رأيته في المنام ينشد أبياتا. وأعجبني منها بيت، فرددته في النوم واستيقظت، وقد علق بخاطري وهو: البيت لا يحسن إنشاده ... إلا إذا أحسن من شاده وهذا البيت غير موجود في شعره، وكان وافر الحرمة عند الملوك، وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة الملك المعظم، وانفصل منها لما تملكها الملك الأشرف وأقام في بيته، ولم يباشر بعدها خدمة. . وكانت ولادته بدمشق يوم الاثنين، ووفاته فيها يوم الاثنين، وعاش نحواً من ثمانين

سنة إحدى وثلاثين وست مائة

سنة إحدى وثلاثين وست مائة فيها سار الملك الكامل. بجيوش عظيمة ليأخذ الروم وقدم بين يديه جيشًا فهزمهم صاحب الروم، وأسر صاحب حماة، ومقدم الجيش صواب الخادم فرد الكامل. وفيها تسلطن بدر الدين لؤلؤ بالموصل. وفيها تكامل بناء المستنصرية ببغداد على المذاهب الأربعة. قال بعضهم ولا نظير لها في الدنيا فيما أعلم قلت لو تمت بعد نيف وسبع مائة وستين مدرسة السلطان حسن ابن السلطان ملك الناصر محمد بن قلاوان في الديار المصرية ما كان مثلها من الدنيا لا المستنصرية، ولا غيرها، فيما شاع عن الجم الغفير، والعلم عند الله العليم الخبير. وفيها توفي الإمام العلامة الفقيه الأصولي أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الملقب سيف الدين الأسدي الثعلبي الحنبلي، ثم الشافعي صاحب التصانيف البديعة النازلة في المنزلة الرفيعة المفيدة النافعة الصادرة عن القريحة البارعة، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، وصحب الشيخ أبا القاسم بن فضلان، واشتغل عليه في الخلاف وتميز فيه، وحفظ طريقة الخلاف الشريف، وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام، واشتغل بفنون المعقول، وحفظ منه الكثير ومهر فيه، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم العقلية، ثم انتقل إلى الديار المصرية، وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي في القرافة الصغرى، وتصدر الجامع الظافري بالقاهرة مدة، واشتهر بها فضله، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به. قال ابن خلكان: ثم حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه في العقيدة إلى الفساد، وانحلال الطوية، والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء، أولى الكفر والتضليل، وكتبوا محضرًا يتضمن ذلك، ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم، قال: وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة أنه لما رأى التحامل عليه وإفراط التعصب كتب في المحضر، وقد حمل إليه ليكتب فيه مثل ما كتبوا، فكتب: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله ... فالقوم أعداء له وخصوم والله أعلم، وكتبه فلان ابن فلان، ولما رأى سيف الدين تعليهم عليه، وما اعتقدوه في حقه ترك البلاد وخرج منها مستخفيًا، وتوصل إلى الشام، واستوطن مدينة حماة.

سنة اثنتين وثلاثين وست مائة

وصنف في أصول الفقه، والدين والمنطق، والحكمة، والخلاف، فكل تصانيفه مفيدة، فمن ذلك كتاب أبكار الأفكار في علم الكلام، واختصره في كتاب مناهج القرائح ورموز الكنوز، وله دقائق الحقائق، وكتاب الألباب، ومنتهى السؤل في علم الأصول، وله طريقة في الخلاف، ومختصر في الخلاف أيضًا، وشرح جدل الشريف، وغير ذلك وجملة تصانيفه مقدار عشرين تصنيفًا، وانتقل إلى دمشق، ودرس بالمدينة العزيزية، وأقام بها زمانًا، ثم عزل عنها بسبب، وأقام بطالاً في بيته، وتوفي على تلك الحال، ودفن بسفح جبل قاسيون، وعمره ثمانون سنة، والآمدي بالهمزة الممدودة والميم المكسورة وبعدها دال مهملة، نسبة إلى آمد وهي مدينة كبيرة في بلاد بكر مجاورة لبلاد الروم. وفيها توفي الإمام أبو عبد الله القرطبي محمد بن عمر المقري المالكي، كان متفننًا في عدة علوم كالفقه والقراءات والعربية والتفسير زاهداً صالحًا، سمع من عبد المنعم بن الفراوي، وطائفة، وقرأ القراءات على الإمام الشاطبي وتوفي بالمدينة. وفيها توفي الشيخ القدوة عبد الله بن يونس الأرموني صاحب الزاوية بجبل قاسيون، صالحًا متواضعًا مطرحًا للتكليف يمشي وحده، ويشتري الحاجة، وله أحوال مجاهدات، وقدم في الفقر. وفيها توفي قاضي القضاة ابن فضلان أبو عبد الله محمد بن يحيى البغدادي الشافعي، ودرس المستنصرية تفقه على والده العلامة أبي القاسم، وبرع في المذهب والأصول والخلاف والنظر، ولاه الناصر، وعزله الظاهر بعد شهرين من خلافته. سنة اثنتين وثلاثين وست مائة فيها ضربت ببغداد دراهم، وفرقت في البلد، وتعاملوا بها وإنما كانوا يتعاملون بقراضة الذهب والقيراط والحبة، ونحو ذلك. وفيها توفي الملك الزاهد داود بن صلاح الدين وصواب الخادم شمس الدين العادلي مقدم جيش الكامل، وكان يضرب به المثل في الشجاعة، وكان له من جملة المماليك مائة خادم فيهم جماعة أمراء. وفيها توفي الشيخ العارف عمر بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد، والدار والوفاة، شرف الدين المعروف بابن الفارض صاحب الديوان المشتمل على اللطائف،

والسلوك، والمحبة، والمعارف، والشوق، والوصل، وغير ذلك من الاصلاحات في العلوم الحقيقة المعروفة في كتب المشائخ الصوفية، بلغني أنه دخل في أيام بدايته مدرسة في ديار مصر، فوجد فيها شيخاً بقالاً يتوضأ من بركة فيها بغير ترتيب، فقال له: يا شيخ أنت في هذا السن وفي هذا البلد، وما تعرف تتوضأ؟ فقال له: يا عمر أنت ما يفتح عليك بمصر، فجاء إليه وجلس بين يديه وقال له: يا سيدي، ففي أقي مكان يفتح علي. فقال: في مكة، فقال يا سيدي، وابن مكة مني، فقال: هذه مكة، وأشار بيده نحوها، وكشف له عنها، فأمره الشيخ الذهاب إليها في ذلك الوقت، فوصل إليها في الحال، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ففتح عليه، ونظم فيها ديوانه المشهور، ثم بعد المدة المذكورة سمع الشيخ المذكور ويقول له: يا عمر تعال أحضر موتي، فجاء إليه، فقال له الشيخ: خذ هذا الدينار، فجهز لي به ثم احملني، فضعني في هذا المكان، وانتظر ما يكون من أمري، وأشار إلى مكان في القرافة تحت الفارض، وهو الموضع الذي دفن فيه ابن الفارض، قال: فكشف لي عن ذلك المكان، فحملته ووضعت فيه، فنزل رجل من الهوى، فصلينا عليه، ثم وقفنا ننتظر ما يكون من أمره، فإذا الجو قد امتلأ بطيور خضر، فجاء طائر كبير، فابتلعه، ثم طار، قال: فتعجبت من ذلك، فقال لي ذلك الرجل: لا تعجب من هذا فإن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر ترعى في الجنة، كما جاء في الحديث أولئك شهداء السيوف، وأما شهداء المحبة، فأجسادهم أرواح رضي الله عن الجميع. قلت: وإلى هذا المعنى أشرت في هذه الأبيات من قصيدتي الموسومة بلباب اللب في مدح شهيد الحب حيث قلت: قتيل الهوى في مذهب الحب والفقر ... بلا عوض حاشاه من طلب الأجر سوى روية المحبوب في حالة اللقا ... إذا ما قيتل السيف عوض في الحشر فشتان ما بين المقامين في العلى ... وبين شهيد الحب والسيف في القدر فما طالب المولى له طال شوقه ... وفي حبه قد مات خال عن الصبر كطالب مطعوم الجنان وشربها ... وملبوسها والخيل والحور والقصر إذا كنت حظي والأيام حظوظهم ... أياديك ما نالوا نعيمي، ولا فخر كفى شرفًا موت المحب صبابة ... لمولى وفضلاً جل قدراً عن الحصر ويكفيك خمس من فضائله بها ... بلوغ المنى عيشًا ومجدًا على الدهر قتيل جمال قد ودوه بروية ... ووصل وقرب والتنادم والسرر تميز عن غير بهذي وغيرها ... وشاركه فيما له نال من أجر لئن كان روح من شهيد سيوفهم ... بجنات خلد جوف طير بها خضر

فروح شهيد الحب أيضًا وجسمه ... باجوافها قد نعما ليس في القبر كذاك روينا عن رجال له رأوا ... بأبصارهم جوف القرافة من مصر وممن رأى ذاك الإمام الذي جلا ... لنا من مليحات المعارف من بكر ونحو أخمارًا كاشفًا عن محاسن ... بها هام كم صب وكم حام من فكر بحور معانيها جلا در نظمه ... سقى مشربًا بالشعر لم يسق في شعر غريم الهوى حلف الغرام ابن فارض ... لدي عارض قد شاهد السابق الذكر ومن المشهور أنه وقع للشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله عنه قبض في بعض حجابة، فخطر بقلبه. ترى هل ذكرت في هذا الموسم؟ فسمع قائلاً يقول له من فوره في سوق الغزل، فأتى إليه الشيخ ابن الفارض المذكور، فأنشده قبل أن الشيخ شهاب الدين استنشده من قريضه، فأنشده قصيدة مفتتحها: ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا ذنب ولا حرج ثم استمر في إنشادها إلى أن قال: أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج فقام الشيخ شهاب الدين، فتواجدوا من عنده من شيوخ الوقت الحاضرين، وكان المجلس عامراً بشيوخ أجلاء، وسادة أولياء، فخلع عليه هو والحاضرون قيل: أربع مائة خلعة، ومن نظمه الفائق المعري كل عاشق: فإن شئت أن تحيي سعيدًا فمت به ... شهيدًا وإلا، فالغرام له أهل فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النخل ما جنت النخل وما أحسن قوله: نصحتك علمًا بالهوى والذي أرى ... مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو بعد قوله: هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل وأما قول ابن خلكان في ترجمته: وله ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه ظريف ينحو منحى طريقة الفقراء، فلم يوفه بعض ما يليق بمشربه وذوقه وارتياحه وشوقه لكنه قد أحسن

في مخالفته للطاعنين فيه، لم ينزله بالمنزلة اللائقة به فى قوله وسمعت أنه كان رجلاً صالحاً كثير الخير، على قدم التجرد حسن الصجة، محمود العشيرة، وأنه ترنم يوماً في خلوته بقول الحريري صاحب المقامات: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط فسمع قائلا يقول لا يرى شخصه: محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط وكان يقول: علمت في النوم بيتين، وهما: وحياة أشواقي إليك ... وحرمة الصبر الجميل لا أبصرت عيني وسواك ... ولا صبوت إلى خليل قلت: ولقد أحسن في وصفه راح المحبة في ديوانه المذكور، ومن ذلك وصفه لها في هذا البيت المشهور: هنيئًا لأهل الدهر كم سكروا بها ... وما شربوا منها، ولكنهم هموا على نفسه، فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى، ودفن في العارض بسفح جبل المعظم والفارض بالفاء والراء وبين الألف والضاد المعجمة راء، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال. وفيها توفي الشيخ الجليل، السيد الحفيل، أستاذ زمانة، وفريد أوانه، مطلع الأنوار، ومنبع الأسرار، دليل الطريقة، وترجمان الحقيقة، أستاذ الشيوخ الأكابر، الجامع بين علمي الباطن والظاهر، قدوة العارفين، وعمدة السالكين، العالم الرباني شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد التيمي البكري الصوفي السهروردي مصنف كتاب العوارف، المشتمل على مكنونات المعارف، ومصؤنات المحاسن، واللطائف، وغير ذلك من التصانيف الحسنة الجامعة، من بلاغة الملاحة، وبراعة الفصاحة، وحلاوة العبارة، المشتملة على درر المعارف، ويواقيت الحكم، وطلاوة الإشارة، المحتوية على حياة القلوب وشفائها مر السقم وعقيدته معروفة مشهورة، موصوفة مشكورة، رويتها عن غير واحد من شيوخنا بسندهم العالي الذي بينهم وبين مصنفه، وأخذ صنفها مكة المشرفة، وكان إذا أشكل عليه شيء منها يرجع فيه إلى الله سبحانه وتعالى، ويستخيره حول بيته، وبتضرع إليه في التوفيق

لإصابة الحق والتحقيق، وقد ذكرت بعض عقيدته في كتاب المحاسن، والمرهم، وكان فقيهاً شافعي المذهب، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وتخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة، ولم يكن في آخر عمره مثله، صحب عمه الشيخ الإمام أبا النجيب، وعنه أخذ التصوف والوعظ. وذكر بعضهم أنه صحب أيضاً قطب الأولياء، وقدوة الأصفياء الشيخ عبد القادر الجبيلي رضي الله عنهما، ثم انحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد بن عبد، ورأى غيره من الشيوخ، وحصل طرفًا صالحًا الفقه والخلاف، وقرأ الأدب، وعقد مجلس الوعظ سنين، وكان شيخ الشيوخ ببغداد، وكان له مجلس وعظ، عليه قبول كثير وله نفس مبارك. وذكر بعضهم أنه أنشد يومًا على الكرسي. لا تسقني وحدي فما عودتني ... أني أشح بها على جلاسي أنت الكريم وهل يليق تكرمًا ... أن تمنع الندماء دون الكاس فتواجد الناس لذلك، وقطعت شعور كثيرة، وتاب جمع كثير. قال ابن خلكان: ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته، وكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها من الأحوال الخارقة، قال: وكان قد وصل إلى إربل رسولاً من جهة الديوان العزيز، وعقد بها مجلس الوعظ، ولم يتفق لي رؤيته لصغر السن. وكان كثير الحج، وكان أرباب الطريق من مشائخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم. سمعت أن بعضهم كتب إليه يا سيدي إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة، وإن عملت داخلني العجب، فأيتهما أولى؟ فكتب جوابه: اعمل واستغفر الله من العجب. وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق في وقته صاحب مجاهدة وإيثار وطريقة حميدة، ومروة تامة، وأوراد على كبر سنه. وقال ابن النجار: كان شيخ وقته في علم الحقيقة، وانتهت إليه الرياسة في تربية المريدين، ودعا الخلق إلى الله تعالى، قرأ الفقه والخلاف والعربية، وسمع الحديث، ثم انقطع ولازم بيته، ودوام الصوم والذكر والعبادة إلى أن ظهر وعلا شأنه، وتكلم على الناس، وعقد مجلس الوعظ في مدرسة عمه على دجلة، فحضر عنده خلق عظيم، وظهر له قبول

من الخاص والعام، واشتهر اسمه، وقصد من الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه في توبة العصاة، ورأى من الجاه والحرمة عند الملوك ما لم يره أحد. وقال غيره: نشأ في حجر عمه أبي النجيب عبد القاهر، وأخذ عنه التصوف، والوعظ وعلم الحديث، والفقه، وصحب أيضًا الشيخ عبد القادر، والشيخ أبا محمد بن عبد البصري كما تقدم، وسمع الحديث أيضًا من أبي زرعة وآخرين، وسماهم، وروى عنه جماعة ذكر منهم الحافظ ابن النجار وغيره، وبعث رسولاً إلى عدة جهات، يعني نفده الخليفة في عصره، ولم يخلف بعده مثله على ما نقل غير واحد. قلت: ويؤيد ذلك ما ذكرت في مناقب الشيخ عبد القادر أنه قال له: أنت آخر المشهورين بالعراق، ففتح عليه بعلوم المعارف والأنوار الزاهرة، ووردت عليه الأحوال وحصلت له المواهب الوافرة، وفاق الأقران بعلو شأنه، وصار شيخ زمانه بلا منازع. قلت: وإليه يرجع بعض شيوخنا في لبس الخرقة، وبعضهم يرجع إلى الشيخ عبد القادر، وبيني وبينه اثنتان في كتابه العوارف كما تقدمت الاشارة في سند شيوخنا، وكذا في لبس الخرقة، ورأيته في المنام كأنه أعطاني سجادة في ليلة كنت فيها قريبًا من قبر سيدنا عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أسفل جبل أحد المبارك المعظم، وله كلام نفيس فاخر مسطور عنه في الدفاتر ذكرت شيئًا منه في الشاش المعلم، قدس الله روحه. وفيها توفي الشيخ الجليل غانم بن علي المقدسي النابلسي أحد عباد الله الأصفياء والسادة الأولياء. وفيها توفي قاضي القضاة ابن شداد أبو العز يوسف بن رافع الأسدي، الحلبي الشافعي، قرأ القراءات والعربية، وسمع الحديث، وبرع في الفقه والعلوم ساد أهل زمانه، ونال رياسة الدين والدنيا، وصنف التصانيف منها كتاب سماه ملجأ الحكام عن التباس الأحكام، ومنها دلائل الأحكام، وكتاب الموجز الباهر في الفروع، وكتاب سيرة صلاح الدين، ودخل دمشق بعد رجوعه من الحج، فاستدعى به السلطان صلاح الدين وقابله بالإكرام التام، وسأله عن مشائخ العلم والعمل، وقر أعليه جزءاً من الإذكار، كان قد جمعه، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف، وعرض عليه الملك الظاهر الحكم بحلب، فامتنع، ثم قبل بعد ذلك. قال ابن خلكان: كان بين والدي، رحمة الله عليه، وبين القاضي أبي المحاسن

سنة ثلاث وثلاثين وست مائة

المذكور ومؤانسة كثيرة، وصحبة صحيح المودة، فجئت إليه أنا وأخي، وكتب إلى سلطان بلدنا الملك المعظم كتابًا بليغًا في حقنا. يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، فإنهما ولدا أخي، وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن، وتلقانا بالقبول والإكرام، وعمل ما يليق لمثله، وأنزلنا في منزلة، ورتب لنا على الوظائف وألحقنا بالكبار مع صغر السن، والابتداء في الاشتغال، وكان أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، ليس لأحد معه كلام في الدولة، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة. ومما حكي عنه أنه قال: كان في المدرسة النظامية ببغداد أربعة أو خمسة من الفقهاء المشتغلين، فاتفقوا على استعمال حب البلاذر لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه، وكيف يستعمله، ثم اشتروا المقدار الذي قال لهم الطبيب الجاهل، فشربوه في موضع خارج المدينة، فحصل لهم الجنون، فتفرقوا وتشتتوا، ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة، وأحد منهم، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه عمامة كبيرة لها عذبة طويلة قد ألقاها وراءه، فوصلت إلى كعبه، وكان طويلاً، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم بشيء، ولا يعبث بشيء، فقام إليه بعض الفقهاء، وسأله عن الحال، فأخبره باستعمال حب البلاذر، وقال: فأما أصحابي، فإنهم جنوا، وما سلم منهم إلا أنا وحدي، فصار يظهر العقل العظيم والسكون، والحاضرون يضحكون منه، وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحال لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم. وفيها توفي أبو سليمان داود الملقب بالملك الزاهر ابن الملك العادل صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان صاحب قلعة البيرة التي على شاطىء الفرات، وكان يحب العلماء وأهل الفضل، ويقصدونه من البلاد، وكان الثاني عشر من أولاد صلاح الدين، وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة، فلما توفي توجه ابن أخيه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى القلعة المذكورة وملكها والبيرة بكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء، وفي آخرها هاء، وهي قلعة من ثغور الروم على الفرات بقرب سميساط. سنة ثلاث وثلاثين وست مائة فيها أخذت الفرنج قرطبة واستباحوها، وجاءت فرقة من التتار، فكسرهم عسكر

إربل، فما بالوا وساقوا إلى بلاد الموصل، فقتلوا أو سبوا، فاهتم المستنصر بالله وأنفق الأموال، فرجعوا. وفيها غزا الكامل الفرات، واستعاد حران، وخرب قلعة الرها، وهرب منه نواب صاحب الروم، ثم كر إلى الشام خوفًا من التتار، فإنهم وصلوا إلى سنجار، ثم حسده صاحب الروم، ونازل حران، وتعب أهلها بين الملكين. وفيها توفي الحافظ العلامة اللغوي أبو الخطاب عمر بن الحسن الكلبي الداني الأندلسي المعروف بابن دحية، سمع الحديث، وجال في مدن الأندلس، وحج ودخل العراق، وسمع مسند أحمد، وبأصبهان معجم الطبراني، وبنيسابور صحيح مسلم بعلو بعد أن كان قد حدث به في المغرب بالإسناد الأندلسي النازل، وكان يقول: إنه حفظه كله، وضعفه جماعة، وله تصانيف غرائب. قلت: وتنقصه الذهبي، فقال: وقد أنفق على الملك الكامل، وجعله شيخ دار الحديث بالقاهرة، وقاضي القضاة بالقاهرة. ومدحه ابن خلكان فقال: كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء متقنًا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفًا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، فانظر ما بين هذين الوصفين من المضادة ممن يذم السامع عقيدته، وممن يحمد اعتقاده مع كمال فضيلة المادح في العلوم، وتصويب العارف بانتقاده. وفيها توفي نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجبلي، سمع من شهدة وطبقتها، ودرس وأفتى وناظر، وولي القضاء سنة ثلاث وعشرين، ثم عزل بعد أشهر، وكان لطيفاً ظريفًا، متين الديانة، كثير التواضع، متجربًا في القضاء، قوي النفس في الحق مع عدم التكلف والمحابات. وفيها توفيت الشيخة الصالحة الصوفية زهرة بنت محمد بن أحمد بن حاضر، روت عن يحيى بن ثابت وغيره.

سنة أربع وثلاثين وست مائة

سنة أربع وثلاثين وست مائة وفيها نزلت التتار على إربل وحاصروها، وأخذوها بالسيف حتى حافت المدينة بالقتلى، وغصب القلعة بعد أن لم يبق بعد أخذها شيء من الموانع، وترحلت الملاعين. وفيها توفي الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سمع الحديث، وكتب الكثير، وكان متواضعًا متزهدًا كثير الإفضال على المحدثين، قال الذهبي وفيه تشييع قليل. وفيها توفي الحافظ أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى البلبيسي صاحب التصانيف، وبقية أعلام الأثر، توفي بالأندلس قال الأبار: وكان قد فاق أهل زمانه، وتقدم على أقرانه، عارفاً بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، لا نظير له في الاتقان والضبط مع الأدب والبلاغة، وكان فرداًفي إنشاء الرسائل، مجيداًفي النظم، خطيباًمفوهاً مدركًا حسن السرد والمساق مع الإشارة اللائقة، متكلمًا عن الملوك في مجالسهم مبينًا لما يريدونه على المنابر والمحافل، ولي الخطابة، وله تصانيف في عدة فنون استشهد مقبلاً غير مدبر في ذي الحجة. وفيها توفي الناصح بن نجم بن عبد الوهاب الشيرازي الأنصاري الواعظ المفتي، انتهت إليه رياسة المذهب بعد الشيخ الموفق، وله خطب ومقامات وتاريخ الوعاظ. وفيها توفي صاحب الروم السلطان علاء الدين السلجوقي، كان ملكًا جليلاً شهمًا شجاعًا، وافر العقل، متسع الممالك، تزوج بابنة الملك الكامل وامتدت أيامه. وفيها توفي الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين صاحب حلب، وسبط الملك العادل، ولوه السلطنة بعد أبيه وعمره أربع سنين لأجل والدته، وهي كانت من الأتابك، فنسوس الأمور. وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي المحدث المؤرخ سمع من ابن الزاغوني وطائفة، وأخذ الوعظ من ابن الجوزي، وهو أول شيخ ولد مشيخة المستنصرية، وآخر من حدث بالبخاري سماعًا من أبي الوقت وضعفه ابن النجار. سنة خمس وثلاثين وست مائة وفيها غرمت طائفة كثيرة من الخوارزمية، وكانوا قد خدموا مع الصالح أيوب ابن

الملك الكامل على القبض عليه، فهرب إلى سنجار، فنهبوا خزائنه، فسار إليه لؤلؤ صاحب الموصل وحاصره، فحلق الصالح لحية وزيره، وقاضي بلده بدر الدين السنجاري طوعًا ودلاه من السور ليلاً، فذهب واجتمع بالخوارزمية، وشرط بهم كلما أرادوا، فساقوا من حران، وبيتوا لؤلؤاً، فنجا بنفسه على فرس النوبة، وانتهبوا عسكره واستغنوا. وفيها توفي الملك الأشرف صاحب دمشق موسى ابن الملك العادل،، وتسلطن بعده أخوه الصالح إسماعيل فسار الملك، وقدم دمشق فأخذها بعد محاصرة وشدة، وذهب الصالح إسماعيل إلى بعلبك. ولما دخل الملك الكامل دمشق، ونزل في قلعتها المعروفة بقن القلندرية والحيدرية وتمرض ومات بعد شهرين، فتملك بعده بدمشق ابن أخيه الملك الجواد وبمصر ابنه العادل وملك ملك الأشرف نصيبين وسنجار، ومعظم بلاد الجزيرة وغيرها، وأول شيء تملك من البلاد مدينة الرحا، ثم حران. ولما توفي أخوه الملك الأوحد صاحب خلاط ونواحيها، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافًا إلى مملكته، فاتسع ملكه، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليه احساناً لم يعهدوه ممن قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين، وأخذ سنجار، ومعظم بلاد الجزيرة. ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة عشر وست مائة، وتوجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية لاتحاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فانتصر المسلمون على الفرنج، وانتزعوا دمياط من أيديهم عقب وصوله إليها، وكانوا يرون ذلك بسبب يمن عزته. ولما مات الملك المعظم، وتولى ولده الملك الناصر، قصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق، فاستنجد عمه الملك، فحصل الاتفاق على تسليم دمشق إلى الملك الأشرف، ويكون للملك الكامل الناصر الكرك والشويك ونابلس ونيسان، وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران، والرحا، وسروج والرقة، ورأس عين، وتسلمها إلى الملك الكامل، فأقام الملك الأشرف بدمشق. ثم جرت أمور يطول ذكرها، ووقعت وحشة بين الكامل والأشرف، ووافقت الملوك بأسرها الملك الأشرف، وتعاهد هو، وصاحب الروم، وصاحب حلب، وصاحب حماة.

وصاحب حمص وأصحاب المشرق على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما اتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، وكان سلطاناً كريماً حليماً، واسع الصدر، كريم الأخلاق كثير العطاء لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته، ولا يزال عليه الديون للتجار وغيرهم، وطرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملاهي، تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاه إياها، فتوجه لقبضها من النائب، فعوضه عنها النائب جملة كثيرة من المال، وله غرائب كثيرة، وكن يميل إلى أهل الخير والصلاح، ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، وفوض تدريسها إلى الشيخ أبي عمرو بن صلاح، وله مآثر حسنة كثيرة وقد مدحه أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم، وكان محبوباً إلى الناس، مسعوداً مؤيداً في الحروب، لقي أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير، وتواقعاً، فكسره الملك الأشرف، واتسعت مملكته حين توفي أخوه الملك الأوحد، فأخذ مملكته، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليهم إحساناً لم يعهده ممن كان قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل وقائع مشهورة. وفيها توفي أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل المعروف بالشفا، كان أديباً فاضلاً متفنناً بعلم العروض والقوافي شاعراً، يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات. قال ابن خلكان: وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون جميل التأني. وأنشدته يوماً في أثناء مناشدته لي قول شرف الدين أبي المحاسن المعروب بابن عنين: مال ابن سارة دونه لعفاته ... خرط القتادة أو مثال الفرقد كان لزوم الجمع يمنع صرفه ... في راحة مثل المنادى المفرد

فقال: هذا ليس يجيد، فقلت: ولم؟ قال: ليس من شرط المنادي المفرد أن يكون مضموماً، فقد يكون المنادي مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة معين كما تقول: يا رجلاً، ولكن أنا أعمل شيئاً في هذا. قال: ثم اجتمعنا بعد ذلك في الجامع، فقال: قد عملت في ذلك المعنى بيتاً فاسمعه، ثم أنشأ يقول: لنا خليل له خلال ... تعرب عن أصله الأخس أضحت له مثل حيث كف ... وددت لو أنها كأمس قلت: يعني أن كفه مضمومة مثل حيث مضمومة بالبناء لأجل بخله فليتها مكسورة العظم كأمس المكسور بالبناء، والنظم الأول قد بالغ في وصفه بالبخل لتشبيهه وصول العفاة إلى ماله بخرط القتاد في الصعوبة، وكمثال الفرقد في البعد، والعفاة الطلاب جمع عاف، وشبه ماله في البيت الثاني في عدم صرفه إلى غيره بصيغة منتهى الجموع في عدم صرفه في لأعراب كمساجد ودراهم، وشبه راحته في كونها مضمومة لا يبسطها للبذل بالمنادى المفرد المبني على الضم مصل يا زيد ويا رجل لرجل بعينه. واعترض عليه صاحب النظم الثاني بكون المفرد قد لا يكون مضموماً مثل قول لأعمى: يا رجلاً خذ بيدي لرجل لا بعينه، ثم اعترض ابن خلكان على المعترض بما سيأتي ذكره. قال ابن خلكان: فقلت له وهذا أيضاً فيه كلام، فقال: وما هو؟ فقلت: حيث فيها لغات آخر، فمن العرب من بناها على الضم، ومنهم من بناها على الفتح، ومنهم من بناها على الكسر، وفيها لغات أخر غير هذه وأما أمس فمنهم من بناها على الكسر، ومنهم من يقول: إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف، وأنشدوا على هذه اللغة. لقد رأيت عجبًا مذ أمسا ... عجائزاًمثل السعالى خمسا قلت: هذا إذا كانت أمس نكرة، فإن كانت معرفة أعربت قولاً واحدًا قال فسكت. وفيها توفي الملك الكامل أبو المعالي محمد ابن الملك العادل، كان سلطاناًمعظمًا، جليل القدر، محترماً، جميل الذكر، مكرمًا للعلماء، متمسكاًبالسنة، حسن

الاعتقاد، معاشر الأرباب الفضائل، حازماً في أموره لا يضع الشيء إلآ في محله من غير إسراف ولا اقتتار، وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء ويشاركهم في مباحثات، ويسألهم عن المواضع المشكلات من كل فن، وهو معهم كواحد منهم وبنى بالقاهرة دار حديث، ورتب لها وقفًا جيدًا، وكان قد بنى على ضريح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قبة عظيمة، ودفن أمه عنده، وأجرى إليها من ماء النيل، ومدده بعيد، وغرم على ذلك جملة عظيمة. ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى الملقب بشرف الدين صاحب الشام وأقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه، وجاء أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى، فاجتمعا على أخذ دمشق وقد تقدم ذكر ذلك وأنه دفعها إلى أخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلد المشرق عدة بلدان تقدم ذكرها وتقدم أيضاً أنه لما مات الملك الأشرف جعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل فقصده الملك الكامل، وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما. ولما ملك الملك الكامل البلاد الشرقية، واستخلف بها ولده الملك الصالح أبا المظفر أيوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل بالديار المصرية، وكان قد سير الملك العادل الملك المسعود إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل، وقد تقدم ذلك وأنه ملك الحجاز مضافة إلى اليمن. ولما وصل الخطيب إلى ذكر الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العا متين، وخادم الحرمين الشريفين، أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين. قال ابن خلكان: ولد رأيته بدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وست مائة عند رجوعه من بلاد الشرق، وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكاًمنهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزل في علوشأنه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذ دمشق، ولم يزل مريضًا إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن في القلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب السنة المذكورة. قال: وكانوا قد أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلما دنت الصلاة قام بعض الدعاة على العرش الذي بين يدي المنبر، فترحم علىالملك الكامل، ودعا لولده الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، فضج الناس ضجة واحدة، وكانوا قد أحسوا

سنة ست وثلاثين وست مائة

وترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس في ثياب السلطنة بدمشق عن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك، ثم بنى له تربة مجاورة للجامع، ولها شباك إلى الجامع، ونقل إليها، وكان عمره نحواًمن أربعين سنة وأقام ولده الملك العادل في المملكة إلى سنة سبع وثلاثين، ثم قبض عليه أمراء دولته، وطلبوا أخاه الملك الصالح أيوب، فجاءهم ومعه الملك الناصر صاحب الكرك، ودخلا القاهرة، وأدخل الملك العادل في محفة، وحوله جماعة كثيرة من الأجناد يحفظونه، وحمله إلى القلعة، واعتقله بها وسط العدل في الرعية، وأحسن إلى الناس، وأخرج الصدقات، وأصلح ما تهدم من المساجد، وأقام في المملكة إلى أن توفي في سنة سبع وأربعين وست مائة، وكان قد أخذ دمشق من عمه الملك الصالح، وأبقى عليه بعلبك، فلما توفي أخفي موته مقدار ثلاثة أشهر، والخطبة باسمه إلى أن وصل ولده الملك المعظم من بلاد الشام، فعند ذلك أظهروا موته، وخطب لولده المذكور، وبنى له تربة بالقاهرة إلى جنب مدرسته، ونقل إليها سنة ثمان وأربعين وأمه جارية مولدة سمراء اسمها ورد الندى، وتوفي العادل في الاعتقال سنة خمس وأربعين وست مائة، وكان له ولد يقال له: الملك المغيث نقله الملك المعظم إلى الشويك، ثم بعد الملك المعظم استولى على الكرك والشويك وتلك النواحي، ولم يزل مالكها إلى زمن الملك الظاهر، فراسله وبذل له عن تسليم البلد أعواضًاكثيرة، وحلف له حتى إذا نزل إليه. إلى منزله في الغور قبض عليه، وجهزه إلى قلعة الجبل بمصر، واعتقله بها، وكان آخر العهد به، وكان للمغيث ولد يلقب بالقرين صغير السن، فنصبه الملك الظاهر أميرًا، ولم يزل في خدمته إلى أن فتح انطاكية، ثم قبض عليه، واعتقله في القلعة المذكورة، وكان الملك الظاهر يبالغ في تحصيل قلعة الكرك، ويملؤها بالذخائر والأموال، ولما جرى على ولده السعيد ما جرى، وتوجه إلى الكرك نفعته تلك الذخائر، وكانت عوناً له على زمانه، ولما. توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر ملكها بعده أخوه الملك المسعود باتفاق من كان بها من مماليك أبيه ومن أمرائه، وقال ابن خلكان: وهو الآن متملكها ومقيم بها. سنة ست وثلاثين وست مائة وفيها ضعفت سلطنة الملك الجواد بدمشق بعد أن محق الخزائن، وكاتب الملك الصالح أيوب بن الكامل، وقابضه فأعطاه دمشق بسنجار، وأعانه، وكانت صفقة خاسرة، فبادر الصالح، وتسلم دمشق من الجواد لأن المصريين. ألحوا على الجواد في أن ينزل عن

سنة سبع وثلائين وست مائة

دمشق ويعطي الاسكندرية، ثم ركب الملك الصالح في المدرسة، وحمل الجواد الغاشية بين يديه، ثم أكل يديه ندما وسافر وتوجه الصالح نحو الغور، وطلب عمه إسماعيل من بعلبك ليتفقا، فدبر إسماعيل أمره، واستعان بالمجاهد صاحب حمص، وهجم دمشق فأخذها، فسمعت الأمراء، فتوجهت إليه، وبقي الصالح في طائفة، فأخذه عسكر الناصر صاحب الكرك، واعتقله عنده. وفيها توفي الشيخ العارف الصالح أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني الفقيه المالكي الملقب بزاهد مصر، تلميذ الشيخ الكبير العارف بالله الشيهر أبي عبد الله القرشي، سمع الحديث، وتفقه ودرس بمصر، وأفتى وصحب الشيخ المذكور، وكان القاري في مواعيده، وتزوج بعد موته زوجته السيدة الجليلة الصالحة أم ولده الشيخ قطب الدين الإمام المحدث، ثم جاور أبو العباس المذكور بمكة وتوفي بها وقبره معروف يزار في الشعب الأيسر. قلت: وبلغني أنهم احتاجوا في المدينة الشريفة إلى الاستسقاء، وهو بها مجاور، فاتفق رأيهم أن يستسقي أهل المدينة يومًا المجاورون يوماً، وبدأ أهل المدينة بالاستسقاء، فلم يسقوا، فعمل هو طعاماً كثيرًا للضعفاء والمساكين، واستسقى مع المجاورين، فسقوا، وله مؤلف جمع فيه كلام شيخه أبي عبد الله القرشي، وكلام بعض شيوخه، وبعض كراماته. وفيها توفي الحافظ الجوال محدث الشام ومفيده أبو عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي، الملقب بالزكي، سمع بالحجاز ومصر والشام والعراق وأصبهان وخراسان والجزيرة، فأكثر وتوفي في رمضان بحماة رحمه الله. سنة سبع وثلائين وست مائة قد تقدم أن إسماعيل هجم دمشق فملكها، وتسلم القلعة من الغد، واعتقل الصالح أيوب بالكرك أشهرًا وطلبه أخوه العادل من الناصر داؤد، وبذل فيه مائة ألف دينار، وكذا طلبه الصالح إسماعيل، فامتنع الناصر، ثم اتفق معه وحلفه، وسار به إلى الديار المصرية، فمالت إليه الكاملية، وقبضوا على العادل، وتملك الصالح أيوب ورجع الناصر. وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي الواسطي الشافعي، سمع الحديث، وقرأ القراءات، وكان إمامًا متفننًا واسع العلم، غريز الحفظ وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي سعيد الفقيه

الشافعي المؤرخ الواسطي، المعروف بابن الدبيثي بضم الدال المهملة، وفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت، وبعدها مثلثة نسبة إلىدبيثا قرية من نواحي واسط، سمع الحديث كثيراً، وعلق تعاليق مفيدة، وكانت له محفوظات حسنة، يوردها ويستعملها في محاوراته وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين والنبلاء المذكورين وصنف كتابًاجعله ذيلاً على كتاب تاريخ الحافظ أبي سعيد ابن السمعاني المذيل علىتاريخ بغدادللخطيب، وذكر فيه ما أغفله السمعاني في ثلاث مجلدات وما أقصر فيه، وصنف تاريخاًللواسط، وغير ذلك وأنشد لنفسه: خبرت بني الأيام طراً، فلم أجد ... صديقًا صدوقًا مسعداً في النوائب وأصفيتهم مني الوداد، فقابلوا ... صفاء وداثي بالفداوالشوائب وما اخترت منهم صاحبًاوارتضيته ... فأحمدته في فعله والعواقب قلت: وهن الأبيات أخذت من أبيات الإمام الشافعي المذكورة في ترجمته وفيها توفي أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك، الملقب بابن المستوفي اللخمي الإربلي، كان رئيسًا جليل القمر كثير التواضع واسع الكرم، لم يصل إلى إربل أحدمن الفضلاءإلا وبادر إلى زيارته وحمل إليه ما يليق بحاله، وتقرب إلى قلبه بكل طريق وخصوصًاأرباب الأدب، فقد كانت سوقهم لديه نافقة وكان جم الفضائل عارفا بعدة فنون منها الحديث وعلومه وأسماء رجاله، وجميع ما يتعلق به، وكان إمامًا فيه، وكان ماهراًفي فنون الأدب من النحو واللغة والعروض والقوافي وعلم المعاني وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها، وكان بارعاًفي علم الديوان وضبطه وحسابه، وضبط قوانينه علىالأوضاع المعتبرة عندهم، وجمع لإربل تاريخاًفي أربع مجلدات، وله كتاب النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام في عشر مجلدات، وكتاب إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل في مجلدين تكلم فيه على الأبيات التي استشهد بها الزمخشري في المفصل وكتاب سر الصنعة وكتاب سماه أبا حماش جمع فيه أدباً كثيرًا ونوادر وغيرها. وديوان شعر أجاد فيه، ومن شعره بيتان فضل فيهما البياض على السمرة، وهما: لا تخدعنك سمرة غزاره ... ما الحسن إلا للبياض وجنسه فالرمح يقتل بعضه من غيره ... والسيف يقتل كله من نفسه قلت: ولي أبيات في تفصيل لون البياض على غيره منها قولي:

إذا الغانيات البيض يومًاتفاخرت ... بألوانها، فاحكم فأنت خبير فأبيضهاسلطانها، ثم أصفر ... لسلطانها يتلو علاه وزير وإن رام تقليد الإمارة أهلها ... فأسمرها الميمون ذاك أمير وأحمرها جندلها قل وسايس ... لها أسود دون الجميع حقير فإن قيل: لم فضلت للبيض رافعًا ... ولم قلت ماللبيض قط نظير؟ فقل ذا لأن الحور بيض لها كسا ... بأحسن ألوان الجمال قدير وأيضًافلون البيض باهج حسنة ... يحاكيه بدر في السماء منير رجعنا إلى ذكر ابن المستوفي، وأرسل إلى شاعر وصل إلى إربل دنياراً مثلوماً مع إنسان يقال له: الكمال، فتوهم الشاعر أن الملك قد فرض قطعة من الدينار، فقصد استعلام الحال من أبي البركات المذكور، فكتب إليه: ياأيها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقًا يضرب الأمثال أرسلت بدر التم عند كماله ... حسنًا فوافى العبد، وهو هلال ما غاله النقصان إلا أنه ... بلغ الكمال، كذلك الآجال فأعجبه هذا المعنى وحسن الاتفاق، فأجاز الشاعر، وأحسن إليه. وكان مستوفي الديوان، وهي منزلة عليه في تلك البلاد تتلو الوزارة، ثم تولى الوزارة بعد ذلك، وشكرت سيرته فيها، ولم يزل عليها إلى أن مات السلطان مظفر الدين، فقعد في بيته في تلك البلاد والناس يلازمون خدمته، وكان عنده من الكتب النفيسة شيء كثير، ثم توفي بالموصل. قال ابن خلكان: وهو من بيت كبير، وأبوه تولى الاستيفاء بإربل، وعمه أبو الحسن، كان فاضلاً، وهو الذي نقل نصيحة الملوك تصنيف الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، فإن الغزالي لم يضعها إلا بالفارسية، وذلك مشهور بين الناس، ولما توفي رثاه يوسف بن القيس الإربلي بقوله: أبو البركات لو درت المنايا ... بأنك فرد عصرك لم تصبكا كفى الإسلام رزأ فقد شخص ... عليه بأعين الثقلين يبكى وفيها توفي أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم، الملقب ضياء الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، العلامة الكاتب البليغ صاحب المثل السائر، انتهت إليه رياسة الإنشاء أتترسل، وكان مولده بجزيرة ابن عمر، ونشأ بها، وانتقل

مع والده إلى الموصل، وبها اشتغل، وحصل العلوم، وحفظ كتاب الله الكريم، وكثيراً من الأحاديث النبوية، وطرفًا صالحًا من النحو واللغة وعلم البيان، وشيئًا كثيرًا من الأشعار وكان من جملة محفوظاته شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي، قال: حفظت هذه الدواوين الثلاثة، وكنت أكرر عليها بالدرس مدة سنين، حتى تمكنت من صوغ المعاني، وصار الإدمان لي خلقًا وطبعاً وقد كنت حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا أحصي، ثم اقتصرت عليه على أشعار الثلاثة المذكورين. قال ابن خلكان: ولما كملت له الأدوات قصد جناب الملك الناصر صلاح الدين وكان يومئذ شاباً، فاستوزره ولده الملك الأفضل، وحسنت حاله عنده. ولما توفي السلطان صلاح الدين، واستقل ولده المذكور بمملكة دمشق، اشتغل ابن الأثير بالوزارة وردت إليه أمور الناس، وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه، ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل، وكان ابن الأثير قد أساء العشيرة مع أهلها، فهموا بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن مستخفيًا في صندوق مقفل عليه، ثم صار إليه، وصحبه إلى مصر لما استدعي لنيابة أخيه الملك المنصور. ولما أخذ الملك العادل الديار المصرية، خرج ابن الأثير منها مستترًا وله في كيفية خروجه رسالة طويلة، شرح فيها حاله، ولما استقر الملك الأفضل غاب عن مخدومه الملك الأفضل، ثم بعد ذلك اتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب، فلم يطل مقامه عنده، وخرج مغاضبًا، وعاد إلى الموصل، فلم يستقم حاله، فورد إربل، فلم يستقم حاله فسافر إلى سنجار، ثم عاد إلى الموصل، واتخذها دار إقامته إلى أن توفي، وله من التصانيف الدالة على غزارة فضله، كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، وهو في مجلدين، جمع فيه فأوعب، ولم يترك شيئًا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره، وكتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم، وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة وكتاب المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء، وهو أيضاً نهاية في بابه، وله مجموع أخبار فيه شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي في مجلد واحد كبير، وحفظه مفيد. قال ابن المستوفي: نقلت من خطه، في آخر هذا الكتاب ما مثاله:. تمتع به علقًا نفيسًا فإنه ... اختيار بصير بالأمور حكيم أطاعته أنواع البلاغة فاعتدى ... إلى الشعر من نهج إليه قويم وله ديوان شعر ترسل في عدة مجلدات، والمختار منه في مجلد واحد.

سنة ثمان وثلاثين وست مائة

قال: وذكر ابن خلكان له رسالة كتبها إلى محذومة بليغة البلاغة إلا أن في بعض ألفاظها ما بالغ فيه بما لا ينبغي أن يقال: وكم من قول أدى إلى تكفير صاحب المقال، ومن جلة ألفاظه، ما يملأ الوادي بمائة، ومايملأالنادي بنعمائه، فإنه وإن أراد المطر الذي نزل، فقد احتقر فيض الله عز وجل، وقد نظمت أبياتًا ردوا تبكيتا لقائل من قال هذا القول الآتي أو ما يجري مجراه نعوذ بالله من الخروج إلى ما لا يرضاه، وهو هذا: فنوال كفك بدرة در ... ونوال الغمام قطرة ماء وكذا قول بديع الزمان: وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والدهرلو لم يخن، والشمس لونطقت ... والليث لو لم يصدو البحر لو عذبا قال ابن خلكان: ولابن الأثير المذكور، كل معنى مليح في الترسل، وكان يعارض القاضي الفاضل في رسائله، فإذا أنشأ رسالة أنشأ مثلها، وكانت بينهما مكاتبات، ومجاوبات، ولم يكن له في النظم شيء حسن، ومن رسائله قوله في صفة نيل مصر وعذب رضائه يضاهي حتى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قتل المحل، وهو معنى بديع غريب نهاية في الحسن، لم أقف لغيره على أسلوبه ثم إني وجدت هذا المعنى لبعض العرب، وقد أخذه ضياء الدين منه، وهو قوله: لله قلب ما يزول يروعه ... برق الغمامة منجدًا ومغورا ما احمر في الليل البهيم صفيحة ... متجردًا إلا وقد قتل الكرى وقتل بالقاف، والمثناة من فوق قال: وكأن هو، وأخوه مجد الدين أبو السعادات المبارك، وأبو الحسن علي الملقب عز الدين، كلهم نجباء رؤساء لكل واحد منهم تصانيف نافعة. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي المرسي، كان متفننًا عارفًا بالنحو، والعلوم، والكلام، والمنطق سكن حماة قال الذهبي: وله تفسير عجيب. سنة ثمان وثلاثين وست مائة فيها سلم الملك الصالح إسماعيل قلعة السقيف للفرنج، لغرض في نفسه، فمقته

سنة تسع وثلاثين وست مائة

المسلمون، وأنكر عليه الإمام عز الدين بن عبد السلام، وأبو عمر ابن الحاجب، فسجنهما وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق، وفيها ولي القضاء الرفيع الجيلي. وفيها توفي محيي الدين ابن العربي أبو بكر محمد بن علي الطائي الحاتمي المرسي الصوفي نزيل دمشق صاحب التصانيف قلت: هذه ترجمة الذهبي، ثم زاد قال: قدوة القائلين بوحدة الوجود ولد سنة ستين وخمس مائة، روىعن ابن بشكوال وطائفة، وتنقل إلى البلاد، وسكن الروم مدة ثم قال: وقد اتهم بأمر عظيم. قلت: فترجمته هذه وكلامه فيها إشارة إلى ما يعتقد فيه كثير من الفقهاء من الطعن العظيم والقدح وبضد ذلك مدح طائفة من الصوفية له، وقليل من الفقهاء، فحموه تفخيماً عظيماً، ومدحوا كلامه مدحاً كريمًا، ووصفوه بعلو المقامات، وأخبروا عنه ما يطول ذكره من الكرامات، وله أشعار لطيفة غريبة، وأخبار ونوادر طريفة عجيبة، وأعظم ما يطعن الطاعنون فيه بسبب كتابه الموسوم بفصوص الحكم وبلغني أن الإمام العلامة ابن الزملكاني شرح كتابه المذكور، ووجهه توجيهًا نفى عنه ما يظن من المحظور، ويخشى من الوقوع في المحذور. وأخبرني بعض العلماء الصالحين ممن له ذوق، وفهم حميدان كلام ابن العربي المذكور له تأويل بيعد، وقد قيل: إنه اجتمع هو والإمام شهاب الدين السهروردي، ونظر كل واحد إلى صاحبه، وافترقا من غير كلام، فسئل عن الشيخ شهاب الدين، فقال: مملوسنة من قرنه إلى قدمه، وسئل عنه شهاب الدين فقال: بحر الحقائق قلت: وقد ذكرت له في بعض كتبي أن كل من اختلف في تكفيره، فمذهبي فيه التوقف، ووكول أمره إلى الله تعالى. سنة تسع وثلاثين وست مائة وفيها توفي الإمام النحوي أحمد بن الحسين المعروف بابن الخباز الإربلي، ثم الموصلي الضرير صاحب التصانيف الأدبية. وفيها توفي القاضي العلامة الملقب عماد الدين المكنى أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي الشافعي وفيها توفي الإمام العلامة أبو الفتح الملقب بالكمال موسى بن

يونس الموصلي الشافعي أحد الأعلام ولد سنة احدى وخمسين بالموصل، وتفقه على والده، وببغداد على معيد النظامية السديد السلماسي وبرع عليه في علم الأصول والخلاف، وقرأ النحو على ابن سعدون القرطبي، والكمال الأنباري، وأكب على الاشتغال بالعقليات، حتى بلغ فيها الغايات، وكان يتوقد ذكاء، ويموج بالحلوم حتى قيل: إنه كان يتفنن في العلوم فنونًا كثيرة اشتهر ذكره، وطار خبره ودخلت الطلبة إليه من الأقطار، وتفرد باتقان علم الرياضي، قيل: ولم يكن له في وقته نظير هذا ما ذكره الذهبي. وقال غيره: كان الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح يبالغ في الثناء عليه، ويعظمه، فقيل له يومًا: من شيخه؟ فقال: هذا الرجل خلفه الله عالماً لا يقال على من اشتغل، وهو أكبر من هذا، وله عدة تصانيف. وقال ابن خلكان: وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فنًا دراية متقنة، فمن ذلك علم المذهب، وكان فيه أوحد زمانه، وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه في مذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هو عليه من الأشكال المشهور وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري، وأصول الفقه وأصول الدين. ولما وصلت كتب الإمام فخر الدين الرازي إلى الموصل، وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه، وكان يدري فن الحكمة والمنطق، والطبيعي، والإلهي وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة، والمخروطات والمتوسطات، والمجسطي، وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بالمثناة من فوق قبل الألف، ومن تحت قبل القاف، وطريق الخطاءين، والموسيقى بكسر القاف والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها أحد إلا في ظواهرها دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرفا لم يهتد إليها أحد، وكان يبحث في العربية، والتصريف بحثاً تاماً حتى إنه كان يقرئ مستوفي كتاب سيبويه، والإيضاح وتكملته للفارسي، ومفصل الزمخشري، وكان له في التفسير، والحديث، وأسماء الرجال وما يتعلق به يد جيدة، وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات شيئًا كثيرًا. وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح هذين الكتابين لهم شرحًا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحها لهم مثله. قلت: هكذا ذكر عنه ومثل هذا معلوم أنه حرام وباطل، وذلك لوجوه أحدها إقراء كتب منسوخة ومبدلة باطل حكمها لا تصح، العمل بها والثاني مؤانسة لأعداء الله، ومجانسة

سنة أربعين وست مائة

لهم مع وجوب مقاطعتهم، والبغض لهم، والثالث إغراؤه لهم على الاشتغال، والعمل بما فيها، وقد نص أئمتنا على أنها تتلف قال: وكان في كل فن من الفنون المذكورات كأنه لم يعرف سواه لقوته فيه. قال: وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من العلوم لم يسمع من أحد ممن تقدمه أنه كان قد جمعه حتى حكي عن أثير الدين ابن الأبهري صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة أنه قال: ما دخل إلى بغداد مثله. قال ابن خلكان: وكان قد اشتغل عليه حينئذ بشيء من الخلاف، فقلت له: يا سيدي كيف تقول كذا؟ قال: يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي، وما بينه وبينه نسبة وأقسم على ذلك. قال: وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب، ويجلس بين يديه، ويقرأ عليه والناس إذ ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير، قال: ولقد شاهدت هذا بعيني انتهى. قلت: هيهات أن يلحق بحجة الإسلام، وعلم العلماء الأعلام، والذي باهى به نبينا موسى وعيسى عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام، والذي إقحام الفرق عنده أيسر من شرب الماء من الموحدين والملحدين والحكماء. إمام الهدى المنبني على الفضل منشدا ... سبوقًا على المهر الأغر المحجل غزلت لهم غزلاً دقيقًا، فلم أجد ... لغزلي نساجًا، فكسرت مغزلي سنة أربعين وست مائة فيها توفي صاحب المغرب الرشيد أبو محمد ابن المأمون صاحب مراكش والمستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد العباسي، كان محمود السيرة، فلما توفي بويع ولده المعتصم بالله. وفيها توفيت جمال النساء بنت أحمد بن أبي سعيد الغراف بالغين المعجمة والراء والفاء البغدادية، سمعت من غير واحد من الشيوخ. سنة إحدى وأربعين وست مائة فيها حكمت التتار على بلد الروم، وألزم صاحبها ابن أخيه علاء الدين بأن يحمل لهم كل يوم ألف دينار، ومملوكاً وجاريةً وفرساً، وكلب صيد. وفيها توفي السلطان ابن محمود البعلبكي صاحب الأحوال والكرامات، أحد أصحاب الشيخ عبد الله اليونينى بالمثناة من تحت مكررة قبل الواو، وبين النونين وياء للنسبة. وفيها توفيت أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب القرشية الزبيرية مسندة الشام، روت

سنة اثنتين وأربعين وست مائة

كثيراً عن جماعة، وأجاز لها خلق كثير منهم أبو الوقت السجزي وغيره. وفيها توفيت أمة الحكيم عائشة بنت محمد الواعظة البغدادية، كانت صالحة تعظ النساء. وفيها توفي الجواد الذي تسلطن بدمشق بعد الملك الكامل، وكان جوادًا من أمرائه. سنة اثنتين وأربعين وست مائة فيها طلب الملك الصالح أيوب الخوارزمية، وطلبهم من الجزيرة فعدوا الفرات، وندبهم لمحاصرة عمه إسماعيل بدمشق، واستنجد إسماعيل بالفرنج، وبصاحب حمص، فساقت الخوارزمية، واجتمعت بعسكر مصرفي غرة، وجاءتهم الخلع والنفقات والثياب، وبعث الناصر داؤد عسكره من الكرك نجدة لإسماعيل، ثم وقع المصاف بقرب عسقلان، فانتصر المصريون والخورزمية على الشاميين والفرنج، واستحر القتل في الفرنج، وأسرت ملوكهم، وخاف إسماعيل، وحصن دمشق واستعد. وفيها توفي أبو البركات محمد بن الحسن الأنصاري الحموي، المعروف بالنفيس، سمع بمكة من عبد المنعم الغوراني. وفيها توفي شيخ الشيوخ عبد الله، ويقال له: أيضًا عبد السلام الجويني الصوفي، المعروف بتاج الدين ابن حمويه، سمع من شهدة رضي الله عنها، والحافظ أبي القاسم ابن عساكر. وفيها توفي حاطب بن عبد الكريم الحارثي، عاش خمسًا وتسعين سنة وروى عن الحافظ ابن عساكر المذكور. سنة ثلاث وأربعين وست مائة فيها وقيل: قبلها حاصرت الخوارزمية دمشق، وعليهم الصاحب معين الدين، واشتد الخطب، وأحرقت الحواصل، ورمى بالمجانيق من الفريقين، وبعث الدمشقيون بالصالح إسماعيل في ولايته، وضاقوا من القحط والخوف والوباء ما لا يعبر عنه، وأدام الحصار خمسة أشهر إلى أن أضعف إسماعيل وفارق دمشق، وتسفهما الصاحب معين الدين، فغضب الخوارزمية من الصالح ونهبوا داريا، وترحلوا أو أرسلوا الصالح إلى بعلبك، وصاروا معه، وردوا، فحاصروا دمشق، وتلك الأيام كان الغلاء المفرط، حتى بلغت

الغرارة بدمشق بألف وست مائة درهم، وأكلت الجيف، وتفاقم الأمر مع الخمور، والفواحش. وفيها توفي أبو البقاء موفق الدين بن يعيش بن علي الموصلي الأصل الحلبي المولد والمنشأ النحوي قرأ النحو على أبي السخاء الحلبي، وأبي العباس المغربي التبريزي وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلي بن السويد التكريتي، ويحلب على أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي، والقاضي أبي الحسين الطوسي وغيرهم، وكان فاضلاً ماهرًا في النحو والتصريف، واجتمع في دمشق بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور، وسأله عن مواضع مشكلة في العربية وعن إعراب ما ذكره الحريري في المقامات العاشرة المعروفة بالرحبية، وهو قوله في آخرها: وحتى إذ لألأ الأفق ذنب السرحان وآن ابتلاج الفجر وحان فأستبهم جواب هذا المكان على الكندي: هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب، أو على العكس؟ وقال له: قد علمت قصدك، وأنك أردت إعلامي بمكانك من هذا العلم، وكتب له بخطه بمدحه والثناء عليه، ووصف تقدمه في الفن الأ د بي. قال ابن خلكان: وهف! المسألة يجوز الأمور الأربعة فيها، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان، قلت: يعني ابن خلكان أن الأفق مفعول، وفعله لألأ، وفاعله ذنب وأما السرحان مخفوض بالإضافة إليه، والمراد بذنب السرحان الفجر الأول الكاذب، فإنه مشبه به في طوله في السماء بخلاف الفجر الصادق، فإنه مشبه بجناحي الطائر لانتشاره يميناً وشمالاً، وهو الذي أشار إليه من الإعراب من كونه المختار، هو الذي ظهر لي وبادر إليه فهمي أول وقوفي على هذه المسألة قبل الوقوف على السؤال، وما يحتمله من الأقوال. قال ابن خلكان: ولما دخلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، كان الشيخ موفق الدين شيخ الجماعة، وذلك في سنة ست وعشرين وست مائة، وهي مشحونة بالعلماء والمشتغلين، ولم يكن فيهم مثل الشيخ موفق الدين المذكور، فشرعت عليه في قراءة اللمع لابن جني مع سماعي اقراءه الجماعة كانوا قد تنبهوا وتميزوا، وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدىء والمنتهي، وكان خفيف الروح لطيف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار. ولقد سأله يوما وأنا حاضر بعض الفقهاء عن قول ذي الرمة:

أيا ظبية الوعساء بين خلاخل ... وبين النقاء أنت أم أم سالم وكان السائل يقرأ عليه في باب النداء، فقال: أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ بعد أن كان قد شرح الشيخ موفق الدين ذلك، وأوضح وجه التشبيه مع شدة محبة الشاعر وولهه لأم سالم المذكورة، وعظم وجده بها على عادة الشعراء في تشبيههم بالظباء، والمهاء المستحسنات من النساء، وأوضح ذلك ايضاحاً يفهمه البليد، فلما لم يستحسن السائل المذكور الجواب، ولم يتلقه بالقبول، ولم يضعه في مركز الصواب بل قال: أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبي؟ قال له الشيخ على وجه الإنبساط: لشبهها في ذنبها أو قرونها، فضحك الحاضرون، فحجل السائل ولم يعد إلى مجلسه قلت: وقد شرح مجنون ليلى وجه الشبه في قوله. فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق مخاطبًا للظبية لها ولها كثير من الشواهد وفي ذلك قلت في بعض القصائد: لها جيد ريم شبه إبريق فضة ... وعين المهاترمي بها داني الردى إذا مارست لم تخط قط مقاتلاً ... ولاقودًا يعطي ولا قتلها يدا وفيها توفي الحافظ القدوة أبو العباس أحمد بن عيسى بن الموفق المقدسي الصالحي. وفيها توفي العلامة المفتي أبو العباس أحمد بن محمد ابن الحافظ عبد الغني المقدسي. وفيها توفي القاضي الأشرف أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ثم المصري. وفيها توفيت الصاحبة ربيعة خاتون أخت صلاح الدين والعادل، ودفنت بمدرستها بالجبل. وفيها توفي المنتجب ابن أبي العز ابن رشيد الهمداني نزيل دمشق، قرأ القراءات على غير واحد من الشيوخ، وصنف شرحًا كبيرًا للشاطبية وشرحًا لمفصل الزمخشري وتصدر للإقراء. وفيها توفي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي

الشهرزوري المعروف بابن الصلاح كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث، ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة. قال ابن خلكان: وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم. قال: كانت فتاواه مسددة قال: بلغني أنه درس جميع كتاب المهذب قبل أن يطلع شاربه، قرأ على والده الصلاح، وكان من جلة مشائخ الأكراد المشار إليهم، ثم نقل والده إلى الموصل واشتغل بها مدة، وتولى فيها الإعادة عند الشيخ العلامة عماد الدين أبي حامد بن يونس، وأقام قليلاً، ثم سافر إلى خراسان وأقام بها زمانًا وحصل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى بالتدريس المدرسة الناصرية المنسوبة إلى صلاح الدين بالقدس، وأقام بها مدة، واشتغل الناس عليه وانتفعوا به، ثم انتقل إلى دمشق وتولى تدريس الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله ابن عبد الواحد بن رواحة الحموي، ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه. اشتغل الناس عليه بالحديث فيها ثلاث عشر سنة، وتولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون ابنة أيوب، وهي شقيقة شمس الدولة، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق، وبها قبرها وقبر أخيها المذكور، وزوجها ناصر الدين صاحب حمص، وكان ابن الصلاح يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري لا بد منه، وكان من العلم والدين على قدم حسن. قال ابن خلكان: وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة وصنف في علوم الحديث كتاباً نافعًا مبسوطاً، وكذلك في مناسك الحج جمع فيه أشياء حسنة يحتاج إليها وله اشكالات على كتاب الوسيط في الفقه، وله طبقات الشافعية اختصره الشيخ محيي الدين النواوي، واستدرك عليه جماعة، ومن مشاهير شيوخه الفخر ابن عساكر، وزير الأمناء، ومؤيد الطوسي، وابن سكينة وطبرزد وزينب الشعرية وغيرهم، وممن تفقه عليه وروى عنه الشيخ شهاب الدين أبو أسامة، والإمام تقي الدين ابن رزين قاضي الديار المصرية، والعلامة شمس الدين ابن خلكان قاضي البلاد الشامية، والكمال ارسلان والكمال إسحاق الشيرازي شيخ النواوي، وآخرون إلى أن توفي، فشهد جنازته جم غفير وعدد كثير في الجامع، وحمل على الرؤوس انتهى، وجمع بعض أصحابه فتاواه في مجلد فلم يزل أمره جاريًا على سداد وصلاح حال واجتهاد في الاشتغال بما ذكرنا وبالنحو إلى أن توفي بدمشق في ربيع الآخر من السنة المذكور، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب االنصر ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة. وذكر غيره أنه بعد اقامته بالموصل دخل بغداد وطاف البلاد، وسمع من خلق كثير

وجم غفير ببغداد، وهمدان، ونيسابور، ومرو، وحران، وغير ذلك، ودخل الشام مرتين، قال: وكان إمامأ بارعاً حجة متبحرًا في العلوم الدينية بصيرًا بالمذهب وأصوله وفروعه، له يد طولى في العربية والحديث، والتفسير مع عبادة، وتهجد، وورع، ونسك، وتعبد، وملازمة للخير على طريقة السلف في الاعتقاد، وله آراء رشيدة، وفتاوى سديدة، ماعدا فتياه الثانية في استحباب صلاة الرغائب، وله اشكالات على الوسيط ومؤاخذات حسنة، وفوائد جمة، وتعاليق حسنة، وعلوم الحديث الذي اقتنصه من علوم الحديث للحاكم وزاد عليه. وفيها توفي الإمام العلامة علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي الهمداني المقرىء، أتقن علم القراءات على الإمام المقرىء المحقق أبي محمد القاسم الشاطبي المشهور بمصر، ثم انتقل إلى دمشق، وتقدم بها على علماء فنونه، وكان للناس فيه اعتقاد عظيم، وشرح المفصل للزمخشري في أربع مجلدات، وشرح الشاطبية للإمام المذكور، وكان قد قرأها عليه، وله خطب وأشعار، وكان متعينًا في وقته. قال ابن خلكان: ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة، ولا يصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان، ورأيته مرارًا ما يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحين، وحوله اثنان أو ثلاثة، وكل واحد يقرأ وظيفته في موضع غير موضع الآخر، والكل في دفعة واحدة، وهو يرد على الجميع. ولم يزل مواظبًا على وظيفته إلى أن توفي بدمشق في السنة المذكورة، وقد نيف على التسعين ولما حضرته الوفاة أنشد لنفسه: قالوا: غدًا يأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعًا لهم ... أصبح مسروراً بلقياهم قلت: فلي ذنبي فماحيلتي ... بأي وجه أتلقاهم قالوا: أليس العفو من شأنهم ... لا سيما ممن يرجاهم وفيها توفي الحافظ الكبير محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن البغدادي المعروف بابن النجار صاحب تاريخ بغداد ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، ورحل إلى أصفهان، وخرسان، والشام، ومصر، وسمع من جماعة، وكتب شيئًا كثيرًا، وكان ثقة متقناً واسع الحفظ تام المعرفة. وفيها توفي المنتجب بن أبي العز بن رشيد أهمداني المقرئ نزيل دمشق، قرأ

سنة أربع وأربعين وست مائة

القراءات، وصنف شرحاً كبيرًا للشاطبية، وشرحًا لمفصل الزمخشري. سنة أربع وأربعين وست مائة لما اتفق الصالح إسماعيل مع الخوارزمية استمال الصالح أيوب صاحب حمص وأفسده على إسماعيل، ثم كتب إلى عسكر حلب يحثهم على حرب الخوارزمية، وأنهم قد خربوا الشام، فبادر نائب حلب شمس الدين لؤلؤ، واجتمع معه صاحب حمص بالغرب والتركمان بعسكر دمشق، وأقبل الملك الصالح إسماعيل معه الخوارزمية وعسكر الكرك وصاحب صرخد، فالتقى الجمعان على بحيرة حمص، فتقل مقدم الخوارزمية، وانهزم الصالح ثم تسارت الخوارزمية إلى التلقي، واتفق معهم الناصر داؤد، فجهز الصالح صاحب مصر جيشاً، فكسروا الخوارزمية، وساقوا فنازلوا الكرك، وتسلموا بعلبك، وبصري وأخذوا أولاد إسماعيل إلى القاهرة، والتجأ إلى حلب، وانقضت دولته، وصفت الشام لنجم الدين أيوب، فقدمها ودخل دمشق ثم مر إلى بعلبك، ومر إلى صرخد وأخذها وأخذ الصينية الملك السعيد بن العزيز، وهو ابن عمه، ثم مر ببصرى وبالقدس فأمر بعمارة سورها وبصرف مغلها في سورها. وفيها توفي الملك المنصور ابن المجاهد أسد الدين صاحب حمص وأن صاحبها واحد الموصوفين بالشجاعة والاقدام، مرض ببستان الملك الأشرف بدمشق ومات، فنقل إلى حمص، ودفن عند أبيه، وكان عازمًا على أخذ دمشق، ففجأه الموت، وقام بعده بحمص ابنه الملك الأشرف موسى. وفيها توفي إسماعيل بن علي الكوراني، وكان زاهدًا عابدًا قانتًا صادقاً أمارًا بالمعوف نهاءًا عن المنكر ذا غلظة على الملوك ونصيحة لهم. سنة خمس وأربعين وست مائة فيها أخذ المسلمون عسقلان، وأخذوا طبرية قبلها بأيام، وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين الصينية من الملك السعيد، وعوضه أموالاً، وجهز مائة فارس بمصر، وفيها نازل عسكر حلب مدينة حمص، وأخذوها بعد أشهر.

وفيها توفي الكاشغري إبراهيم بن عثمان الزركشي ببغداد، سمع من جماعة ورحل إليه الطلبة من الآفاق والجهات، وكان اخرمن بقي بينه وبين الإمام مالك خمسة أنفس ثقات، وتولى مشيخة المستنصرية. وفيها توفي الشيخ أبو محمد بن أبي الحسن بن منصور الدمشقي الصوفي ولد بقرية تستر من حوران، ونشأ بدمشق، وتعلم بها نسج العتابي، ثم تصرف وعظم أمره، وكثر أتباعه، وأقبل على سماعات الصوفية، وبالغ فيما يتعاطونه من ذلك، فمن يحسن به الظن يقول: هو صادق صاحب حال. أو تمكين ووصال ومن يسيء به الظن يرميه بالزندقة الضلال. قلت: هذا معنى ما أشار إليه الذهبي، وميله فيه إلى ما ذكرت من الوصف الأخير كما هو مذهب أكثر الفقهاء الطعن في كثير من المشائخ، فإنه قال: ومن خيرأمره نسبه إلى الفضل والكمال، ومن قبح أمره رماه بالكفر والضلال، ثم قال: وهو أحد من لا يقطع عليه بجنة ولا نار، فإنا لا نعلم بما ختم له. لكنه توفي في يوم شريف يوم الجمعة قبل العصر السادس والعشرين من شهر رمضان، وقد نيف على التسعين. مات فجأة انتهى كلامه، وفيه من التشكك ما فيه من تغليب التكفير، وأما عدم القطع المذكور، فليس يخرج منه أحد سوى الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ومن شهد له بذلك، ولم يزل الفقراء يذكرون عن الشيخ المذكور عجائب من الكرامات والتجريبات. وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد الأزدي الأندلسي الاشبيلي النحوي أحد من انتهت إليه معرفة العربية في زمانه، وكان بحراً لا يجارى وحبرًا لا يبارى تصدر لإقراء النحو نحواً من ستين عاماً، وصنف التصانيف سمع من جماعة من الشيوخ وأجاز له السلفي، وأخذ النحو عن غير واحد من النحاة. قال ابن خلكان: ولقد رأيت جماعة من أصحابه كلهم فضلاء، وكلهم يقول: ما تقاصر الشيخ أبو علي المذكور عن الشيخ أبي علي الفارسي، قالوا: وفيه مع هذه الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة، حتى قالوا: إنه كان يومًا على جانب نهر وبيده كراريس، فوقعت منه كراسة في الماء وبعدت عنه، فلم يصل يده إليها فأخذ كراسةأخرى وجذبها فتلفت أخرىبالماء، وكان له مثل هذه الأشياء.

سنة ست وأربعين وست مائة

وشرح المقدمة الجزولية كبيرًا وصغيرًا. وله كتاب في النحو سماه التوطئة بالجملة على ما يقال: كان خاتمة أئمة النحو. وفيها توفي الملك المظفر غازي ابن الملك العادل صاحب فارقين وخلاط وغير ذلك، وكان فارساً شجاعًا شهمًا مهيبًا، وملكًا جوادًا تملك بعده ابنه الشهيد الملك الكامل ناصر الدين. سنة ست وأربعين وست مائة فيها توفي الإمام العلامة الفقيه المالكي الأصولي النحوي المقرىء المعروف بابن الحاجب أبو عمرو عثمان بن عمرو الكردي الأسناوي بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وقبل الألف نون، ثم المصري صاحب التصانيف المجادة المشتملة على التحقيق والإفادة. كان والده حاجباً للأمير عز الدين الصلاحي، واشتغل هو في صغره بالقران الكريم، ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك، ثم بالعربية والقراءات وبرع في علومه، وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق، ودرس بجامعها في زاوية المالكية، واكب الخلق على الاشتغال عليه وتبحر في العلوم. قيل: وكان الغالب عليه علم العربية، وصنف مختصرًا في مذهبه، ومقدمة وجيزة في النحو، وأخرى مثلها في التصريف وشرح المقدمتين، وصنف في أصول الفقه. قال ابن خلكان: وكل تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة، وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم اشكالات والزامات يبعد الاجابة عنها، قال: وكان من أحسن خلق الله ذهنًا، ثم عاد إلى القاهرة، وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، قال: وجاءني مرارًا بسبب أداء شهادات، وسألته عن مواضع في العربية مشكلة، فأجاب عنها أبلغ اجابة بسكون كثير وتثبت تام، ومن جملة ما سألته عنه مسألة اعتراض الشرط على الشرط في قولهم: إن أكلت إن شربت لم يتعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لم تطلق؟ وسألته عن بيت المتنبي عن قوله: لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم، ولات ليست من أدوات الجر. فأطال الكلام فيهما، وأحسن الجواب عنهما، قال: ولولا التطويل لذكرت ما قاله، ثم انتقل إلى الاسكندرية للإقامة، فلم تطل مدته هناك، وتوفي بها ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ

سنة سبع وأربعين وست مائة

الصالح ابن أبي شامة، وكان مولده في سنة تسعين وخمس مائة بأسنا رحمه الله انتهى كلام ابن خلكان. قلت: وبلغني أنه كان محباً للإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ومصاحبًا له، وأنه لما حبسه السلطان كما تقدم بسبب إنكاره عليه. دخل ابن الحاجب المذكور معه الحبس لموافقته ومراعاة صحبته، ولعل انتقاله إلى مصر كان بسبب انتقال الإمام عز الدين المذكور، والله أعلم، ولكن قد تقدم أن الملك الصالح حبس هذين الإمامين المذكورين معاً لإنكارهما عليه. وفيها توفي أن البيطار الطبيب البارع عبد الله بن أحمد المالقي صاحب كتاب الأدوية المفردة انتهت إليه المعرفة بتحيق النبات وصفاته ومنافعه وأماكنه، وله خدمة عند الكامل، ثم ابنه الصالح توفي بدمشق. وفيها توفي ابن صاحب المغرب المعتضد، ويقال أيضًا: السعيد أبو الحسن علي بن المأمون ادريس ولي الأمر بعد أخيه عبد الواحد، وقتل على ظهر جواده، وهو محاصر حصنًا بتلمسان، وولي بعده المرتضى، فامتدت دولته عشرين عامًا. وفيها توفي الوزير أبو الحسين علي بن يوسف الشيباني وزير حلب، وصاحب التصانيف والتواريخ جمع من الكتب على اختلاف أنواعها ما لا يوصف، وكانت تساوي نحوًا من أربعين ألف دينار. سنة سبع وأربعين وست مائة فيها عمل الأمجد حصناً على أبيه، وراح إلى مصر، وسلم الكرخ أبي الصالح، ونازلت الفرنج دمياط برًا وبحراً، وكان بها فخر الدين ابن الشيخ وعسكره، فهربوا وملكها الفرنج بلا ضربة ولا طعنة، وكان السلطان على المنصورة، فغضب على أهلها كيف سيبوها، حتى أنه شنق ستين نفسا من أعيان أهلها، وقامت قيامته على العسكر بحيث أنهم خافوا منه، وهموا به، فقال فخر الدين: أمهلوه. فهو على شفا، فمات ليلة نصف من شعبان بالمنصورة، وكتم موته أياماً ثم أن مملوكه قطايا بالقاف والطاء المهملة وبين الألفين مثناة من تحت ساق على البريد إلى أن عبر الفرات، وساق إلى أن بلغ إلى الملك المعظم. ولد الصالح، فجاء معه حتى قدم به دمشق، فدخلها في دست السلطنة وجرت للمصريين

سنة ثمان وأربعين وست مائة

مع الفرنج فصول وحروب إلى أن اتفقت وقعة المنصورة وذلك أن الفرنج حملوا ووصلوا إلى دهليز السلطان، فركب مقدم الجيش فخر الدين ابن الشيخ، وقاتلها إلى أن قتل، وانهزم المسلمون، ثم كروا على الفرنج، ونزل النصر ولله الحمد، فقتل من الفرنج مقتلة عظيمة، ثم قدم الملك المعظم بعد أيام. وفيها توفي الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل، كما تقدم، وكان وافر الحرمة، عظيم الهيبة، طاهر الذيل، حليفاً للملك ظاهر الجبروت. وفيها توفي الأمير نائب السلطنة. وفيها توفي فخر الدين كما تقدم. وفيها توفي أبو الفضل يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجويني، ولد بدمشق، وسمع من غير واحد طعن يوم المنصورة، ووقع ضربتان في وجهه، فسقط، وكان رئيساً محتشماً سيداً معظمًا ذا عقل ورأي ودهاء وشجاعة وكرم سجنه السلطان سنة أربعين، وقاسى شديدًا، وبقي في الحبس ثلاث سنين ثم أخرجه، وأنعم عليه، وقدمه على الجيش. سنة ثمان وأربعين وست مائة استهلت والفرنج على المنصورة والمسلمون بإزائهم مستظهرين لانقطاع الميرة عن الفرنج، ووقوع المرض في خيلهم، وعزم ملكهم على السير في الليل إلى دمياط، ففهم المسلمون ذلك، وكان الفرنج قد عملوا جسرًا من صنوبر على النيل، ونسوا قطعه، فعبر عليها المسلمون وأحدقوا بهم، فتحصنوا بقربة يمينة أبي عبد الله، وأخذ أسطول المسلمين أسطولهم أجمع، وقتل منهم خلق، وطلب ملكهم الطواسي رشيد سيف الدين الضمري فأتوا وكلمهم في الأمان على نفسه وعلى من معه، فعقدا له الأمان، وانهزم جل الفرنج، فحمل عليهم المسلمون، ووضعوا فيهم السيف، وغنم الناس مالاً لا ينحصر، وركب ملك الفرن! في حراقة والمراكب الإسلامية محدقة به تخفق بالكووسات والطبول، وفي البر الشرقي الجيش سائر تحت ألوية النصر، وفي البر الغربي العربان والعوام، وكانت ساعة عجيبة. واعتقل ملك الفرنج بالمنصورة، وكانت الأسرى نيفا وعشرين ألفا فيهم ملوك وكبار الدولة وكانت القتلى سبعة آلاف، واستشهد من المسلمين نحو مائة أنفس، وخلع الملك المعظم على الكبار من الفرنج خمسين خلعة، فامتنع الكلب ملكهم من لبسها، وقال: أنا مملكتي بقدر مملكة صاحب مصر كيف ألبس خلعته؟ ثم بدت من الملك المعظم خفة وطيش

سنة تسع وأربعين وست مائة

أمور خرج عليه بسببها مماليك أبيه، فقتلوه وقدموا على عسكر عز الدين التركماني الصالحي، وساقوا إلى القاهرة بعد أن استردوا دمياط، وذلك أن حسام الدين بن أبي علي أطلق ملك الفرنج على أن يسلم دمياط وعلى بذل خمس مائة ألف دينار للمسلمين، فركب بغلة، وساق معه الجيش إلى دمياط، فما وصلوا إلا وأوابل المسلمين قد ركبوا أسوارها، فاصفر لون ملك الفرنج، فقال حسام الدين: هذه دمياط قد ملكناها، والرأي أن لا يطلق هذا لأنه قد اطلع على عوزتنا، فقال عز الدين التركماني: لا أرى الغدر فأطلقه. وأما دمشق، فقصدها الملك الناصر صاحب حلب، واستولى عليها ثم بعد أشهر قصد الديار المصرية ليتملكها، فالتقى هو والمصريون بالعباسية، فانهزم المصريون، ودخل أوائل الشاميين القاهرة، وخطب بها الناصر فالتف على عز الدين والفارس قطايا نحو ثلاث مائة من الصالحية، وهربوا نحو الشام، فصادفوا فرقة من الشاميين، فحملوه عليهم وهزموهم وأسروا نائب الملك الناصر، وهو شمس الدين لؤلؤ، فذبحوه وحملوا على طبل الناصر، وكسروه ونهبوا خزائنه، وساقوا إلى غرة، ودخلت الناصرية الصالحية بأعلام الناصر منكسة، وبالأسارى، وهم ولد السلطان الكبير صلاح الدين ولذلك الأشرف موسى ابن صاحب حمص، والملك الصالح إسماعيل ابن العادل وطائفة، وقتل عدة أمراء. وفيها توفي الملك الصالح عماد الدين أبوالحسن إسماعيل ابن العادل، كان من جملة أسارى الصالحية المذكورين، فأخذوه في الليل وأعدموه. وفيها توفي الملك المعظم غياث الدين ابن الصالح، وتوفي أبوه، فحلف له الأمراء وتعدوا وراءه، وجرى من كسر الفرنج ما جرى، ثم صدرت منه أمور ضربه بسببها مملوك بسيف فتلقاه بيده، ثم هرب إلى برج خشب، فرموه بالسفط، فرمى بنفسه وهرب إلى النيل فأتلفوه، وبقي ملقى على الأرض ثلاثة أيام حتى انتفخ، ثم واروه، وخطب بعده على منابر الإسلام ليتخبر الدرام خليل خطبة والده وزوجته وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها. سنة تسع وأربعين وست مائة أقامت عساكر الشام على غرة نحوًا من سنتين خوفًا من المصريين، وترددت الرسل بين الناصر والمعز. وفيها تملك المغيث ابن الملك العادل ابن الكامل الكرك والشويك سلمها إليه متوليها الطواشي صواب. وفيها توفي العلامة أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي المصري الشافعي المقرىء

الخطيب، المعروف بابن الحميري سمع بدمشق من الحافظ ابن عساكر، وببغداد من شهدة وجماعة، وقرأ القراءات على أبي الحسن البطايحي، وقرأ كتاب المهذب على القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، والقاضي أبو سعد علي القاضي أبي علي الفارقي عن مؤلفه الشيخ الإمام أبي إسحاق، وسمع بالاسكندرية من السلفي، وتفرد من زمانه، ورحل إليه الطلبة، ودرس وأفتى، وانتهت إليه مشيخة العلم بالديار المصرية والأمير الصاحب جمال الدين ابن مطروح أبو الحسن يحيى بن عيسى المقرىء اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب، فلما اتسع ملكه ولاه نائبًا عنه، ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك دمشق، فرتب لها نوابًا، وصار ابن مطروح في صورة وزيرها، ثم سيره مع عسكر وجهه إلى حمص لاستنقادها من ثواب الملك الناصر الملك العزيز، ثم بلغه أن الفرنج اجتمعوا بجزيرة قبرص على عزم الديار المصرية، فسير إلى العسكر المذكور يعودون لحفظ الديار المصرية، فعادوا وابن مطروح في خدمة الملك الصالح، والملك الصالح متغير عليه الأمور نقمها عليه، فواظب على الخدمة مع الإعراض عنه، ولما مات الملك الصالح وصل ابن مطروح إلى مصر، وأقام بها في داره، ولم يزل ابن مطروح مطروحًا من الولايات إلى أن مات، هذه نبذة مختصرة من أحواله على الإجمال وكانت أوقاته جميلة، وحالاته حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وله ديوان شعر من جملته قوله في بعض قصائده: يا صاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادي سلبته مني يوم باتوا مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد وله بيتان ضمنهما بيت المتنبي، وأحسن فيهما، وهما: إذا ما سقاني ريقه، وهو باسم ... تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرني من قده ومدامعي ... مجرى عوالينا ومجرى السوابق وهذا البيت للمتنبي في قصيدة له بديعة، وهو: تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجرى عوالينا ومجرى السوابق قال ابن خلكان: وبلغني أنه كتب رقعة يتضمن شفاعته في قضاء شغل بعض أصحابه إلى بعض الرؤساء، وكتب فيهم لولا المشقة فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغله وفهم قصده، وهو قول المتنبي:

سنة خمسين وست مائة

لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال هذا من لطيف الإشارات. سنة خمسين وست مائة فيها توفي الكمال إسحاق بن أحمد المعري الشافعي المفتي تلميذ ابن الصلاح، كان إماماً بارعًا زاهدًا عابدًا توفي بالروحانية. وفيها توفي العلامة أبو الفضائل رضي الدين الحسن بن محمد الصغاني العدوي العمري الهندي اللغوي نزيل بغداد، كان إليه المنتهى في معرفة اللغة، له مصنفات كبار في ذلك، وله تبصرة في الفقه والحديث مع الدين والأمانة. وفيها توفي سعد الدين بن حمويه محمد بن المؤيد الجويني الصوفي، كان صاحب أحوال ورياضات، وله أصحاب ومريدون وكلام، سكن سفح قاسيون مدة، ثم رجع إلى خراسان، فتوفي هناك. سنة إحدى وخمسين وست مائة وفيها توفي شيخ الشيوخ السيد الجليل العارف بالله أبو الغيث ابن جميل اليمني ذو المقامات العلية والأحوال السنية، والأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والفتح العظيم، والفضل الجسيم منبع الأسرار، ومطلع الأنوار شيخ الزمان والمشار إليه من بين الأقران صاحب المظهر الباهر العظيم الشأن الذي أشرت إليه فيما تضمنه هذان البيتان. أيا سيدكم ساد بالفضل سيدًا ... بكل زمان ثم كل مكان إذا أهل أرض، فاخروا بشيوخهم ... أبو الغيث فينا فخر كل يمان كان قدس الله روحه عبدا يقطع الطريق فبيناه وكامن للقافلة، فسمع هاتفًا يقول: ياصاحب العين عليك أعين، فوقع منه ذلك موقعا أزعجه عما كان عليه، وأقبل به إلى الإقبال على الله والإنابة إليه، وصحب في بدايته الشيخ الكبير الولي الشهير المعروف بابن أفلح اليمني حتى زكت نفسه، وتنور قلبه، وظهر عليه صدق الإدارة وسيماء السعادة، وبدت منه بعض الكرامات في الأوقات. من ذلك أنه خرج يحتطب في وقت، ومعه حمار يحمل عليه حطب، فبينا هو يجمع الحطب في بعض البراري وثب الأسد على حماره، فافترسه، فلما جاء بالحطب ليحمله وجده قد مات، وقال للأسد: تقتل حماري على أي شيء أحمل

حطبي، وعزة المعبود ما أحمله إلا على ظهرك، فجمع الحطب، وحمله عليه وهو هين لين مطيع، وساقه إلى أن وصل به إلى طرف البلد، ثم حط عنه الحطب، وقال له: اذهب ومن ذلك أيضا أن زوجة شيخه المذكور طلبت شري عطر من السوق، فذهب ليشتري لها، فكلم بعض العطارين في ذلك، فقال العطار: ما عندي شيء فقال له أبو الغيث: ما عندك شيء؟ فانعدم في الحال جميع ما في دكان العطار، فجاء إلى الشيخ يشكو إليه ما جرى على حوائجه من أبي الغيث، فاستدعى به الشيخ وخاصمه بسبب اظهار ما ظهر له من الكرامة، وقال له: سيفان لا يصلحان في غمد واحد، اذهب عني، فدار له أبو الغيث وتضرع والتزم به فأبى أن يصحبه، فذهب يلتمس من يصحب من الشيوخ لينتفع به، فكل من التمس منه يقول: اكتفيت ما تحتاج إلى شيخ حتى جاء إلى الشيخ الكبير العارف بالله الخبير السيد المبجل المعروف بعلي الأهدل، فالتمس منه الصحبة، فأنعم له بذلك. قال أبو الغيث فلما صحبته كأني قطرة وقعت في بحر، وقال أيضاً: كنت عند ابن أفلح لؤلؤة بهما، فثقبها الأهدل، وعلقها في عنقي قلت: كأنه يشير إلى أن محاسن أحواله المشكورة كانت عند ابن أفلح مستورة، فلما صحب الأهدل أظهر محاسنه التي يجليها عليه لكل من يجتليها. ومن كراماته أيضا أن الفقراء قالوا له: نشتهي اللحم، فقال: في اليوم الفلاني إن شاء الله تعالى تكلون اللحم، وكان يوم سوق يجتمع فيه القوافل، فلما جاء ذلك اليوم جاء الخبر أن قطاع الطريق الحرامية نهبوا القافلة، فلما كان بعد ساعة جاء واحد من القطاع يثور إلى الشيخ، فقال الشيخ للفقراء: اذبحوه واطبخوه وخلوا رأسه على حاله، ثم جاء آخر أيضاً منهم يحمل حب، فقال لهم الشيخ: اطحنوه واخبزوه، ففعلوا جميع ذلك، ثم فتوا العيش وأدموه، فقال الشيخ للفقراء: كلوا، فدعا الفقراء الفقهاء إلى الأكل معهم، فامتنعوا، فقال الشيخ للفقراء: كلوا الفقهاء ما يكلون الحرام، فأكلوا حتى فرغوا، وإذا بإنسان قد جاء إلى الشيخ وقال: يا سيدي نذرت للفقراء بثور، فأخذه الحرامية، فقال له الشيخ: تعرف رأس ثورك إذا رأيته. قال: نعم أعرفه، فأمر الشيخ بإحضار ذلك الرأس، فأحضروه فلما رآه ذلك الإنسان قال: هذا رأس ثوري بعينه، ثم جاء إنسان آخر، وقال: يا سيدي نذرت للفقراء حمل حب، فنهب مني، فقال له الشيخ: قد وصل إلى الفقراء متاعهم، فلما رأى الفقهاء ذلك ندموا على ترك موافقة الفقراء، وبقوا يضربون يدا على يد وله أيضا رضي الله تعالى عنه ما يطول ذكره بل لا يستطاع حصره من الكرامات الظاهرات والآيات الباهرات. وله كلام عظيم في الحقيقة والتربية في سلوك الطريقة جمع بعضه في كتاب مستقل، من ذلك قوله: يجب على من نزلت به أخلاط أول ما يبدأ استخراج القيء بريشه خوف

الفوت، ويغتسل بعد ذلك من ماء عين الندامة بقصد العزلة في كهف جبل الانقطاع أيسًا من الأنس بما دون الله تعالى، ويشرب من ماء شحوم حنظل الصبر، ويستنشق بدهن أشجار الحزن، ويطعم من صحيح غذاء التوكل، ثم يكتحل بقشر عود الغرام، ولا ينام بعد ذلك حتى ينظر أنوار أثمار أشجار التوفيق، ثم يجلس على بساط قدم الصدق والتصديق منتظرا لما يرد من عجائب إبريز التحقيق، وصحيح حلول الفقر والعجز والافتقار الذي أنعم به تعالى به النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ونعم الرقيق، فحينئذ يبرأ العليل، ويرجع إلى ما كان عليه خلقه أول مرة، فيكون حياته لله، وموته لله لا لنفسه بذلك جرى قلم الحكيم القديم المتفضل بالتأبيد في محل الحضرة على المنهج العبدي، والقانون الفقري الذي وجب أن لا يكون الفقر أزلاً وأبداً لنفسه، وجرى الآن لسان الفقر لوجوب ترك التدبير لصحة الإرادة، وتلقي ما يرد لصحة الرضاء، والتزام ما لا يلزم حبا لله وشوقا إليه كما قد وجب على من يعيده فإذا التزم ما لا يلزم صفات الحق للحق وأوصله إلى علم أنه يصل به، فيكون الحق أوصله لا هو وصل، وبعد وجود ما يجب أيضًا على المريد اتيانه علمًا ورسمًا يظهر علوم أزلية يتعلق بصفة القديم المتفضل القدوس لا يعرف العالم بها إن الله تعالى يعصى أو يتعدى أحد مراده، والله بكل شيء عليم. قلت وآخر كلامه هذا يشبه قوله أيضأ: كل خيال نقاب لوجه الأمر العزيزي، والأمر العزيزي نقاب لجلال الله، وجمال سبحات وجه الله الكريم فرضًا لأن لايبرز من ذلك الجلال ذرة، فلا يبقى أحد من الثقلين، ولا من سواهما يعرف لله تعالى طاعة ول اعصيانًا قلت: وقد أشرت إلى ما يظهر من معناه، والله أعلم في ترجمة الشيخ عبد القادر في سنة اثنتين وستين وخمس مائة. وقال أيضاً: أن الحس والمحسوس حجاب عن الله تعالى فإذا ظهر سلطان حب الله تعالى بنور حياة القلب بالله أحرق حراريق الهوى بنار سلطانه الذي لا يقدر أحد أن ينفيه. وقال أيضًا: إذا طلعت شمس من أفق قبلة الغيب إلى الأفق الأعلى أخذ كل من في الأفق الأدنى نصيبه من شعاعها، وليس كل مدرك بالحسن هو هي، فأما إذا طلعت من كل مكان، وانتفت روية التعاقب عنا يقينًا لم يبق ليل ولا نهار، ولم يبق كفر، ولم يبق اسلام، ووجب حينئذ ظهور الشيء الذي حالت بيننا وبين الأحوال، وكثرت المقالات، والأفعال كما يحول السحاب يقيناً، فإذا لم يبق حائل ظهر الشيء الذي لا يشبه شيئًا وغبناعنا، وصرنا كالنجوم عند طلوع الشمس لا غياب بشرط الفناء ولا حضور شرط البقاء، فإن كنت هاهنا رأيت ما رأينا وإن لم تر شيئا فكن حجراً صماً يدق بك النوى. وقال أيضاً: إذا اختلط ماء الأمطار بماء البحر، كان منه الدر واللؤلؤ والياقوت الأحمر

قطعًا قلت: ويحتمل أنه يعني إذا اختلط ماء أمطار غيث الفضل المنهمل من سحاب الجود عند مشاهدة الجمال، وشرب كؤوس الوصل بماء بحر توحيد القلوب المنورة الطيبة الزكية المطهرة، يكون من ذلك المطرد والمعارف ولؤلؤ العلوم، وياقوت الحكم الأحمر، ويحتمل إذا اختلط ماء أمطار العلوم الباطنة بماء بحر العلوم الظاهرة في ظروف القلوب الطاهرة. وقال: إن عبيد الهوى حلالا ًوحرامًا عبيد لمن تملك الهوى يقينًا في صحيح الفقر قطعاً قلت: ومما يناسب قوله لجماعة من الفقهاء، أتوا إلى زيارته: مرحبا ًبعبيد عبدي، فرجعوا عنه منكرين ذلك أشد الإنكار، فصادفوا شيخ الطريقين وإمام الفريقين إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور، فذكروا له ذلك، فضحك وقال: صدق أنتم عبيد الهوى والهوى عبده وقال أيضًا: أفي وقت لا يحكم الهوى على المريد وصل إلى الله تعالى بالله تعالى وأي وقت يحكم الهوى على المريد يقينًا فصل عن الله تعالى بعلة، والعياذ بالله العظيم، ولا شك أن الله تعالى خلق كل دابة ماء مهين معلول بعلة وأما ما خلق الله تعالى مما ليس منا أحد يعرفه أول مرة، فهو من نور جلال جمال وجه الله الكثير الحمد لله رب العالمين. اعلة. وقال: إن لهيب نار قلوب المخلصين بالحق تحرق الشياطين وأتباعهم يقيناً كمثل ما تحرق النار الحطب قولاً واحدًا. وقال: أما بعد، فإنا نظرنا فيما يفسد عقول المريدين، فإذا هو من روية ثواب العمل، وفساد القلوب من حب الدنيا البتة والحرص والطمع واتباع الهوى وفساد الأرواح، من حب البقاء وطول الأمل، فلهذا يجب على المريد الزهد في نفسه لأنها هي محل العلل، ومنزل الغفلة عن الله تعالى، فإذا أراد المريد صلاح قلبه، وصفاء لبه قتل نفسه بسيف الصدق، وطرحها في قبر الانقطاع، ودفنها بترك التدبير، وتلقى ما يرد عليه من القضاء بالرضاء والتسليم والأنس بخيرة الله، والسكون إلى حكمة الله وبالله التوفيق. وقال أيضًا لما كاتبه الملك المنصور سلطان اليمن في وصفه الكيمياء متهمًا له بمعرفتها ومطالبًا له بتعليمها إذا طرح الإيمان والتوحيد واليقين والتوكل والرضاء في بوطة حب الله تعالى، وسخن بنار الشوق والتوحيد صار منه أكسير يستحيل الكون بطبعه ربوبية صرفاً الحمد لله رب العالمين. اعبودية والسلام.

وقال أيضاً في جواب كتاب أتاه من الشريف الإمام أحمد بن الحسين أيام خرج، وقد دعاه إلى البيعة له: ورد كتاب السيد ففهمنا مضمونه، ولعمري إن هذا سلكه الأولون، وأقبل عليه الأكثرون غير أنا نفر مذ سمعنا قوله تعالى له دعوة الحق لم يبق لإجابة الخلق فينا متسع، وليس لأحد منا أن يشهر سيفه على غير نفسه، ولا أن يفرط في يومه بعد أمسه، فليعلم السيد فراغنا لمارام فيعذر المولى والسلام قلت: وله من الكلام في الحقائق الغامضات الدقائق ما لا يفهمه إلا الخواص من الخلائق من العطايا، ومن المواهب الجسيم ما لا ينال إلا من فيض فضل الله العظيم، وكنت قد رأيته في المنام هو والسيد المشكور إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور في ليلة واحدة، وقال لي أحدهما وأظنه الشيخ أبا الغيث: إنا ما فتح علي إلا بعد الخمسين فقلت له: يا سيدي هذه بداية الفتح أم نهايته؟ فقال لي: يا ولدي إذا جاء فضل الله جاء دفعة واحدة، ففهمت أنه يعني بذلك الجذبة من جذبات الحق يفنى العبد عن نفسه وعن الخلق، وإليه وإلى شيخه المذكورين أشرت في غزل هذين البيتين من قصيدة في مدح شيوخ اليمن: يبيت عطاء عيطبول خريدة ... غياثية في سابقات المحامل سقت تلك نهلا ًحورة أفلحية ... وعل احرود من ملاح إلا هادل خليلي في حب الملاح تغزلاً ... بسلمى، ومن في ربعها من حلائل وزور أملاح الحي من كل حورة ... يمانية يمنًا وحسنا كوامل وعوجًا على أحبانا بعواجه ... وبلا ربها بالدموع الهواطل وقلت: فيها بالتصريح بعد كناية الغزل والتلويح: ملوك البرايا ليس يشقى جليسهم ... لهم بيض رايات العلى في المحافل كساداتنا منهم شموس عواجة ... إلى الحكمي السامي انتساب الأفاضل ومثل أبي الغيث المقدم في العلى ... كبحر بعيد الغور نأي السواحل وشيخه ذي المجد النجيب ابن أفلح ... وأهد لهم صدر الكبار الأماثل قلت: وقد أنخت رواحل الأخبار عنه بساحة الاختصار في منازل هذا المقدار. وفي السنة المذكورة توفي الملك الصالح صلاح الدين ابن الملك الطاهر غازي ابن. الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب. وفيها توفي الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد ابن خطيب زملكان عبد الكريم بن

سنة اثنتين وخمسين وست مائة

خلف الأنصاري السماكي الشافعي، المعروف بابن الزملكاني صاحب علم المعاني والبيان، كان ذكيًا سريًا ذا فنون، ولي قضاء صرخد، ودرس ببعلبك، وتوفي بدمشق وله نظم رائق. وفيها توفي الشيخ محمد ابن الشيخ الكبير عبد الله الجويني. وفيها توفي صاحب الشيخ عبد الله المذكور الشيخ عثمان البعلبكي صاحب أحوال وكرامات ورياضات ومجاهدات. سنة اثنتين وخمسين وست مائة فيها تسلطن الملك المعز عز الدين. وفيها توفي الأمير فارس الدين الزكي الصالحي أقطاي، كان موصوفًا بالشجاعة والكرم اشتراه الصالح بألف دينار، فلما اتصلت السلطنة إلى الملك المعز بالغ أقطايا في الإدلال والتبختر، وبقي يركب ركبة ملك، وتزوج بابنة صاحب الحماة، وقال للمعز: أريد أن أعمل العرس في قلعة الجبل، فادخلها إلي، وكان يدخل الخزائن ويتصرف في الأموال، وأنفق المعز وزوجته شجر الدر عليه ورتبا من قتله، وغلقت أبواب القلعة، فركب مماليكه، وكانوا سبع مائة، وأحاطوا بالقلعة فألقى إليهم رأسه، فهربوا وتفرقوا. وفيها توفي مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني الحنبلي. وفيها توفي الكمال محمد بن طلحة النصيبي المفتي الشافعي، وكان رئيساً محتشماً بارعاً في الفقه والخلاف، ولي الوزارة، ثم زهد وجمع نفسه، توفي بحلب في شهر رجب، وقد جاوز السبعين، وله دائرة الحروف، قلت: وابن طلحة المذكور لعله الذي روى السيد الجليل المقدار الشيخ المذكور، عبد الغفار صاحب الزاوية في مدينة قوص قال أخبرني الرضي ابن الأصمع، قال: طلعت جبل لبنان فوجدت فقيراً، فقال لي: رأيت البارحة في المنام قائلاً يقول. لله درك يا بن طلحة ما جدا ... ترك الوزارة عامداً فتسلطنا لا تعجبوا من زاهد في زهده ... في درهم لما أصاب المعدنا قال: فلما أصبحت ذهبت إلى الشيخ ابن طلحة، فوجدت السلطان الملك الأشرف على بابه، وهو يطلب الأذن عليه، فقعدت حتى خرج السلطان، فدخلت عليه، فعرفته بما قال الفقير، فقال: إن صدقت رؤياه فأنا أموت إلى أحد عشر يومًا وكان كذلك. قلت: وقد

سنة ثلاث وخمسين وست مائة

يتعجب من تعبيره ذلك لموته، وتأجيله بالأيام المذكورة والظاهر، والله أعلم. أنه أخذ ذلك من حروف بعض كلمات النظم المذكور، وأظنها، والله أعلم، قوله: أصاب المعدن فإنها أحد عشر حرفاً، وذلك مناسب من جهة المعنى، فإن المعدن الذي هو الغني المطلق والملك المحقق ما تلقونه من السعادة الكبرى، والنعمة العظمى بعد الموت. وفي السنة المذكورة توفي السديد المكي الدمشقي العدل آخر أصحاب الحافظ أبي القاسم بن عساكر. سنة ثلاث وخمسين وست مائة وفيها توفي الشهاب القوصي أبو المحامد إسماعيل بن حامد الأنصاري الشافعي. روى عن جماعة، وخرج لنفسه معجمًا في أربع مجلدات كبار. قال الذهبي: وفيه غلط كثير، وكان أديبًا إخباريًا فصيحًا مفوها ًبصيرًا بالفقه. وفيها توفي الإمام المفتي المعمر ضياء الذين الكلبي الشافعي وفيها توفي، النظام البلخي محمد بن محمد الحنفي نزيل حلب، كان فقيهًا مفسراً بصيرًا بالمذهب. وفيها توفي أبو الحجاج يوسف بن محمد الأنصاري أحد فضلاء الأندلس وحفاظها المتقنين، كان أديباً عارفاً فاضلاً، مطلعاً على أقسام كلام العالم من النظم والنثر، وراوياً لوقائعها وحروبها وأيامها. قال ابن خلكان: بلغني أنه كان يحفظ كتاب الحماسة تأليف أبي تمام الطائي، والأشعار الستة وديوان أبي تمام المذكور، وديوان المتنبي وديوان أبي العلاء المعري، وسقط الزند إلى غير ذلك من أشعار الجاهلية والإسلام، وجمع للأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب افريقية، كتابا سماه كتاب الأعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام، وابتدأ فيه بمقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وختمه بخروج الوليد بن طريف على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة الفراتية، وقد تقدم ذكر تلك الواقعة، ومقتل الوليد فيها. قال ابن خلكان: ورأيت هذا الكتاب المجموع، فطالعته، وهو في مجلدين، أجاد في تصنيفه وكلامه فيه كلام عارف بهذا الفن، قال: ورأيت له أيضاً كتاب الحماسة في مجلدين، وقد قرأت النسخة عليه وعليها خطه، وذكر فيه ولوعه الأدب، ومحبته لكلام العرب، وحملها له على جمع استحسنه من أشعارهم جاهليها ومخضرميها وإسلاميها

وقول المجنون:

ومولدها فلم أجد أقرب تبويب، ولا أحسن ترتيب، مما بويه، ورتبه أبو تمام حبيب بن أوس في كتابه المعروف بكتاب الحماسة، وحسن الإقتداء به والتوخي لمذهبه، لتقدمه في هذه الصناعة، وانفراده منها في أوفر حظ، وأنفس بضاعة، فاتبعت في ذلك مذهبه، ونزعت منزعه، وقرنت الشعر بما يجانسه، ووصلته بما يناسبه، ونقحت ذلك، واخترته على قدر استطاعتي، وبلوغ جهدي وطاقتي. ومما نقل في كتابه المذكور قول العباس بن الأحنف المشهور: تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلومًا فقل: أنا ظالم فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم وقول الوافرالدمشقي هكذا. وقال ابن خلكان: وظني أنها لأبي فراس ابن حمدان: بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه وعرضا لي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه فإن تبسم قولاً في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه، وقولا: ليس نعرفه وقول المجنون: تعلقت ليلى وهي عني صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها عجم صغيرين ندعى البهم بالبيت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم البهم الصغار من أولاد الضأن، الواحد بهمة، بفتح الموحدة وسكون الهاء. وما تقدم في ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومما ينسب إليه أنه قال حين كف بصره: إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكي وذهني غير في دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مطرور سنة أربع وخمسين وست مائة فيها كان ظهور النار بظاهر المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكانت

من آيات الله العظام قيل: ولم يكن لها حر على عظمها وشدة ضوئها وهي التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، فظهرت بظهورها معجزة والآية العظمى التي أخبر بها صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله في الحديث الصحيح: " لا تقوم الساعة حتى يظهر نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " وكان نساء المدينة يغزلن على ضوءها بالليل على سطح البيوت، وبقيت أيامًا، وظن أهل المدينة أنها القيامة، وضجوا إلى الله، وتواتر أمر هذه الآية، وكان ظهورها في جمادى الآخرة من واد يقال له: وادي أحيليين بالحاء المهملة والياء المثناة من تحت المكررة ثلاث مرات، وضم الهمزة في أوله في الحرة الشرقية تدب دبيب النمل إلى جهة الشمال، وتأكل ما أتت عليه من أحجار أو جبال، ولا تأكل الشجر حتى أن بعض غلمان الشريف منيف بن سبحة صاحب المدينة الشريفة يومئذ أرسله الشريف المذكور مع آخر ليختبرا هل يقدر أحد على القرب منها لكون الناس هابوها لعظمها؟ فذهبا إليها وقربا منها، فلم يجد لها حراً فأدخل الغلام المذكور سهماً له فيها، فأكلت النصل دون العود، ثم قلبه فيها وأدخله من جهة الريش، فأكلت الريش حسب. وذكر بعض الناس أن علة عدم أكلها للشجري كونه صلى الله عليه وآله وسلم حرم شجر المدينة، وهذا الذي ذكره إنما يصح لو كان السهم المذكور متخذاً من شجر حرم المدينة الشريفة، ولكن ما عهد أن السهام تتخذ من الحرم المذكور. قلت: والذي ظهر، والله أعلم، أن هذه النار لما كانت آية في آيات الله العظام جاءت خارقة للعادة، مخالفة في تأثيرها للنار المعتادة، فإن النارالمعهود منها أكل الخشب دون الحجر، فجاءت هذه العكس من تلك تأكل الحجر دون الخشب، وهذا أبلغ في الغزو أقوى في الأثر، والله أعلم، فكانت تثير كل ما مرت عليه حتى يصير سداً لا مسلك فيه لإنسان، ولا عابة حتى أنها سدت وادي الشطاه مسد عظيم بالحجر المبسوك بالنار، حتى قال بعض المؤرخين في معرض التعظيم له: ولا كسد ذي؟؟؟ القرنين طولاً وعرضاً وارتفاعاً. قلت: وهذا تساهل منه في مبالغة لا ينبغي أن يتساهل بمثلها، فإن الله تعالى قد أخبر أن ياجوج. وماجوج مع كثرتهم. وقوتهم ما استطاعوا له صعوداً ولا نقبا، وانقطع بسبب ذلك سيل وادي الشطاه، وانحبس عون السد المذكور، وكان يجتمع الماء خلفه حتى يصير بحرًاله مد البصر عرضاًوطولاً، كأنه نيل مصر عند زيادته، ثم انخرق هذا السد من تحته في سنة تسعين وست مائة لتكاثر الماء خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنة كاملة يملأ ما بين جنبي الوادي، وهذا الخرق المذكور ينقص ما ذكروا من تشبيهه بسدذي القرنين، ثم انخرق

مرة أخرى في العشر الأول بعد السبع مائة، فجرى سنة كاملة، وأزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبع مائة، وكان ذلك بعد توتر أمطار عظيمة في الحجاز في تلك السنة، وكثر الماء وعلا من جانبي السد، ومن دونه مما يلي الجبل وغيره، فجاء سيل طام لا يوصف ومجراه ملاصق لقبة حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، وقيل: جبل عنيين بفتح العين المهملة وكسر النون بين المثناة من تحت الساكنين، وفي آخره نون. قلت: ولعله الجبل الن! ي أمر صلى الله عليه واله وسلم الرماة أن يقفوا عليه، وحفر السيل المذكور الدور، وأخر قتلى الجبل المذكور، وبقيت القبة والجبل المذكور أن في وسط السيل وتمادت مدة جريه قريباًمن سنة. قلت: وهذاالسيل المذكور قد شاهدته، وأقمت عنده أيامًا وليالي، وكشف عن عين قديمة قبل الوادي، فجددهاالأمرودي صاحب المدينة الشريفة. وفي السنة المذكورة أول ليلة من رمضان ليلة الجمعة احترق المسجد الشريف النبوي بعد صلاة التراويح على يد فراش في الحرم الشريف عرف بأبي بكر المراغي لسقوط ذبالةيده في المساق عن غير اختيار منه، حتى احترق هو أيضاً، واحترق جميع سقف المسجد الشريف، حتى لم يبق إلاالسواري قائمة، وحيطان المسجدالشريف، والحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول حائط الحجرة الشريفة المجعول على خمسةأركان لئلا يصل إلى الضريح الطاهر الشريف، ووقع ما ذكرنامن الحريق بعدأن عجزعن إطفائه كل فريق. ثم سقف المستعصم في سنة خمس من ذلك الحجرة الشريفة، وما حولها إلى الحائط القبلي، وإلى الحائط الشرقي إلى بات جبرائيل عليه السلام المعروف قديمًا بباب عثمان، ومن جهة المغرب إلى المنبر الشريف، ثم قتل الخليفة المستعصم في أول السنة السادسة، فوصلت الآلات من مصر من صاحبها يومئذ الملك المنصورعلى ابن الملك المعز الصالحي، ووصل أيضًامن صاحب اليمن يومئذ الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول الآت وأخشاب، فعملوا إلى باب السلام المعروف قديمًابباب مروان، ثم عزل صاحب مصر، وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطر سنة ثمان وخمسين، فكان العمل في تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديماًبباب عاتكة ابنة عبد الله بن زيد بن حارثة، كانت لها دار مقابل الباب، فنسب إليها ومن باب جبرائيل إلى باب النساء المعروف قديمًا بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وتولى مصر اخرتلك السنة

الملك الظاهر ركن الدين الصالحي، فعمل في أيامه باقي المسجدالشريف، ولما احترق المنبر المذكور أرسل الملك المظفر صاحب اليمن في سنةست وخمسين بمنبر عمله، فوضع موضع منبر النبي صلى الله عليهوآله وسلم، ولم يزل إلى سنة ست وستين وست مائة يخطب عليه وزبنتاه من الصندل فأرسل الملك الظاهر هذا المنبر الموجود اليوم، فقلع منبر صاحب اليمن، وحمل إلى حامل الحرم، وهو باق إلى اليوم، ونصب هذا مكانه وطوله أربعة أذرع، ومن رأسه إلى عينيه سبعة أذرع يزيدقليلاً، وعدد درجاته سبع بالمقعد، وبين المنبر ومصلى رسول الله صلى الله عليهوآله وسلم أربع عشرة فراعاًوشبر، وبين القبر الشريف المحفوف بالنور، وبين المنبرالمشرف المذكورثلاثة وخمسون فراعًا، وبين المصلىالمبارك المذكور، وبين آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القديم المشكور على ما ذكره الحافظ أبو الحسن رزين بن معاويةبن عمران العبدري الأندلسي في كتابه في ذكردارالهجرة، فإنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد في مسجده زيادتين، الزيادة الأخيرة بلغت فيها مساحته منها مائة ذراع، وجعل عرضه كطوله في الإتساع قلت: هذا ما اقتصرت عليه تنبيهًا على ما يحتاج إليه. وفي سنة أربع وخمسين التي وقع في الحريق المذكور، وظهور النار المذكورة، وكان غرق بغداد بزيادة دجلة زيادة ما سمع بمثلها، وغرق خلق كثير، ووقع شيء كثير من الدور على أهلها، وأشرف الناس على الهلاك، وغرقت المراكب في أزقة بغداد، وركب الخليفة في مركب، وابتهل الخلق إلى الله تعالى بالدعاء. وفيها ملكت التتار سائر الروم بالسيف. وفيهاتوفي شيخ الطريق العارف بالله ذوالتحقيق عبد الله بن محمد الرازي الصوفي، سمع الكثير من جماعة، وصحب الشيخ نجم الدين الكبري، وهومن شيوخ الدمياطي. وفيها توفي الشيخ الكبير الشأن أوالجد والاجتهاد والأحوال عيسى بن أحمد الجويني صاحب الشيخ عبد الله بن أحمد، المتقدم ذكره، كان صوامًا قوامًا متبتلاً قانتًا، منقطع القرين، حسن العيش في مطعمه وملبسه يقال له: سلاب الأحوال بجدة فيه مع ذلك. وفيها توفي الكمال أبو البركات المبارك بن حمدان الموصلي مؤلف عقود الجمان في شعراء الزمان. وفيها توفي العلامة الواعظ المؤرخ شمس الدين أبو المظفر يوسف التركي ثم البغدادي المعروف بابن الجوزي سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، أسمعه جده منه

سنةخمس وخمسين وست مائة

ومن جماعه وقدم دمشق سنةبضع وست مائة، فوعظ بهاوحصل له القبول العظيم للطف شمائله وعذوبةوعظه، وله تفسيرفي تسعةوعشرين مجلدًا، وشرح الجامع الكبير، وجمع مجلداًفي مناقب أبي حنيفةرضي الله عنه، ودرس وأفتى، وكان في شبيبته حنبليًا، ولم يزل وافر الحرمة عند الملوك، سنةخمس وخمسين وست مائة وفيها قتل صاحب مصر الملك المعزالتركماني، وكان ذاعقل ودين، ثم أقاموابعده ابنه الملك المنصورسلطانًا، وكان قتل الملك المعزفي الحمام. قتله أم خليل الآتي ذكرهاغيرة لماخطب ابنة صاحب الموصل فقتلوها. وفيهاتوفيت أم خليل المذكورة شجرةالدر كانت بارعة الحسن ذات عقل ودهاء، وأحبها الملك، الصالح، ولما توفي أخفت موته، وكانت تعلم بخطها علامته، ونالت من سعادة الدنيا أعلى الرتب بحيث أنه خطب لهاعلىالمنابر، وملكوهاعليهم أياماً، فلم يتم ذلك، وتملك المعزالمذكور، فتزوج بها، وكانت ربما تحكم، وكانت تركية ذات شهامةوإقدام وجرأة، وآل أمرهاإلىأن قتلت تحت قلعةمصرمصلوبة، ثم دفنت بتربتها. وفيهاتوفي العلامة القدوة نجم الدين أبوعبد الله محمدبن عبد الله بن، محمدبن أبي الشافعي الفرضي سمع من جماعةوبرع في المذهب ودرس بالنظامية، ثم ترسل عن الخلافة غيرمرة، وبنىبدمشق مدرسة كبيرةوولىفي آخرعمره قضاء العراق خمسة عشر يوماً، ثم مات، وكان متواضعًادمث الأخلاق سريًامحتشمًا. وفيهاتوفي الإمام العلامةشرف الدين أبوعبد الله محمدبن أبي الفضل السلمي الأندلسي المحدث المفسر النحوي، رحل إلى أقصى خراسان،. وسمع الكثير، ورأى الكبار، وكان جماعةلفنون العلم ذكياًثاقب الذهن صاحب تصانيف كثيرةمع زهد وورع وفقر وتعفف سنةست وخمسين وست مائة فيها دخلت التتار بغداد، ووضعواالسيف، واستمرالقتل والسبي نيفًاوثلاثين يومًا فقل من نجا، فيقال: إن في القتلىبلغواألف ألف وثمان مائةوكسراً، وسبب دخولهم أن الملك المؤيد ابن العلقمي كاتبهم وحرضهم على قصدبغدادلأجل ما جرى علىاخوانه الرافضةمن النهب والخزي، وظن النفيس أن الأمروأنه يبقى خليفةعلويًا، وكان

يكاتبهم سرآ، ولا يسهل لهم الأمر، ولا يدع المكاتبات تصل إلى الخليفة ممن يرفع إليه الأعلام، فخاف فأشار الوزير ابن العلقمي على المعتصم بالله أني أخرج إليهم في تقرير الصلح، فخرج الخبيث، وتوثق لنفسه بالأمان، ورجع، فقال للخليفة: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، وأن يكون الطاعة له كما كان أجدادك مع الملوك السلجوقية، ثم ترحل، فخرج إليه المعتصم في أعيان الدولة، ثم استدعى الوزير العلماء والرؤساء ليحضروا العقد بزعمه وكيده، فخرجوا، فضربت رقاب الجميع، وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة، فتضرب أعناقهم حتى بقيت الرعية بلا راع، وقتل من أهل الدولة وغيرهم ما قتل من العدد المذكور. وفيها توفي أبو الفضل زهير بن محمدالمهلبي الكاتب، كان من فضلاء عصره، وأحسنهم نظمًا ونثراًوخطًا، ومن أكثرهم مروءة، وكان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح ابن أيوب ابن الملك الكامل في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى ملك الملوك الصالح دمشق، فانتقل إليها في خدمته. قال ابن خلكان: وكنت أسمع به، حتى اجتمعت به قرابته فوق ما سمعت عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا، وكان الاجتماع في القاهرة لما رجع الملك الصالح إلى الديار المصرية، وكان لا يتوسط عنده إلاًبخير، فنفع خلقًاكثيرًابحسن وساطته، وجميل سفارته. وله شعر. قال ابن خلكان: وكل شعره لطيف، وذكر شيئًامنه في تاريخه، ولكن للاختصار والتخفيف لم أكتب شيئًامنه، ولا أعجبني ولا قوي عزمي الضعيف. وفيها توفي أبو العباس القرطبي أحمد بن عمر الأنصاري المالكي المحدث نزيل اسكندرية، كان من كبار الأئمة، سمع بالعرب من جماعة، واختصر للصحيحين وصنف كتاب المفهم في شرح مختصرصحيح مسلم. وفيها توفي الحافظ أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد ببغداد هذا الاسم الشريف خمس مرات ابن عمروك التيمي البكري النيسابوري، ثم الدمشقي الصوفي، سمع بمكة، ودمشق، وخراسان، وأصفهان، وكتب الكثير، وجمع، وصنف، وشرع في مسودة ذيل على تاريخ ابن عساكر، وولي مشيخة الشيوخ، وحسبة دمشق، وعظم شأنه في دولة المعظم، ثم تضعضع شأنه وابتلى بالفالج في آخر عمره، ثم تحول إلى مصر، فتوفي بها. وفيها توفي الشرف الإربل العلامة الحسين بن إبراهيم الهمداني الشافعي اللغوي سمع

من طائفة، وحفظ خطب ابن نباتة، وديوان المتنبي ومقامات الحريري. وفيها توفي الملك الناصر داود ابن المعظم ابن العادل صاحب الكرك صلاح الدين، أجاز له المؤيد الطوسي، وسمع ببغداد، وكان حنفيًا فاضلاً مناظرًا ذكيًا بصيرًا بالأدب بديع النظم ملك دمشق بعد أبيه، ثم أخذها منه عمه الأشرف فتحول إلى مدينة الكرك، فملكهااحدى وعشرين سنة، ثم عمل عليه ابنه وسلمها إلى صاحب مصر الملك الصالح، وزالت مملكته، وكان جوادًا ممدحًا. وفيها توفي المعتصم بالله عبد الملك بن المستنصر بالله العباسي أخو الخلفاء، العراقيين، وكانت دولتهم خمس مائة سنة، وأربعًاوعشرين سنة، وكان حليمًاكريمًاسليم الباطن، قليل الرأي، حسن الديانة، مبغضًاللبدعة، سمع وأجيز له، ثم رزق الشهادة في دخول التتار بغداد على ما تقدم. لما ظفر به ملكهم أمر به وبولده أبي بكر، فرفساحتىماتا، وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين. وفيها توفي الحافظ الكبير زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشامي ثم المصري الشافعي صاحب التصانيف، وله معجم كبير مروي، ولي مشيخة الكامليةمدة، وانقطع بها مدة نحوًامن عشرين سنة مكبًاعلى العلم والإفادة، وكان ثبتًاحجة، متبرعاًمتبحرًا في فنون الحديث، عارفًابالفقه والنحو مع الزهد والورع والصفات الحميدة. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير الفقيه الإمام، علم العلماء بالله الأعلام معدن الأسرار وبحر العلوم الجمةالمودع درر المعارف. وجواهر الحكمة الممنوع رفيع المقامات والأحوال السنية، المشهور بعظيم الكرامات والمناقب العلية. المعترف له بكثر العلوم. المشهود له بالقطبية جامع الفضائل والمفاخر والمحاسن، وعلوم الشريعة والحقيقة الظواهر والبواطن، الني نافت علومه على مائة علم وعشرة، ولم يدخل في الطريقة حتىكان بعد للمناظرة الناشر على الكون جلة كمال محاسن الطريقة، والناثر على الوجود يواقيت معارف أسرار الحقيقة المشرقات شموس معارفه غياهب الظلم الناطق لسان حاله بالعبر ولسان مقاله بالحكم. صاحب الفتح الجليل، والمنهج الجزيل والمنصب العالي، أستاذالعارفين، ودليل السالكين أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشريف الحسيب النسيب الحسني قئس الله تعالى روحه، وسقي بماء الرحمة ضريحه، وما نسبة القطرة من ماء البحر الزاخر، عند تعدادماجرىمن الفضائل والمفاخر.

وقال الشيخ الامام العارف بالله تاج الدين بن عطاء الله: قيل للشيخ أبي الحسن من هو شيخك يا سيدي؟ في. فقال: كنت أنتسب إلىالشيخ عبد السلام بن مشيش. بالشين المعجمة المكررة وبينهمامثناةمن تحت، وفتح الميم في أوله، ثم قال: وأناالآن لاأنتسب لأحد بل أعوم في عشرة أبحر. خمسة من الأدميين النبي صلىالله عليه وآله وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخمسة من الروحانيين جبرائيل وميكايل، وعزرائيل، وإسرافيل، والروح وقال تلميذه الشيخ الكبيرإمام العارفين، ودليل السالكين مظهر الأنوار ومقرالأسرار السامي إلىالجناب القدوسي عالي المقامات، وعالي الكرامات أبو العباس المرسي رضي الله تعالى عنه: جلت في ملكوت الله، فرأيت أبا مدين متعلقًا بساق العرش، وهورجل أشقر أزرق العينين، فقلت له: ما علومك ومامقامك؟ فقال: أماعلومي، فأحد وسبعون علمًا، وأما مقامي، فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال قلت: فماتقول في شيخي أبي الحسن الشاذلي. فقال: زاد علي بأربعين علمًا، وهو الذي لايحاط به. ؤقال الشيخ أبو الحسن المذكور: رأيت رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم، وهو يقول: " يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمددالله في كل نفس " قلت: يارسول الله، وما ثيابي؟ فقال: اعلم أن الله تعالىقدخلع عليك خمس خلع، خلعة المحبة، وخلعة المعرفة وخلعة التوحيد، وخلغة الإيمان، وخلعة الإسلام، ومن أحب الله هان، عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر في عينه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئاً، ومن آمن بالله آمن من كل شيء، ومن أسلم لله لم يعصه، وإن عصاه اعتذرإليه، وإن اعتذرإليه قبل عذره، ففهمت عند ذلك معنى. قوله عز وجل: وثيابك فطهر. انتهىكل هذا مما رواه الشيخ تاج الدين بن عطاءالله المذكورفي مناقبه. وذكره الشيخ المشكورالعارف الشهورصفي الدين بن أبي منصورفي رسالته، وأثنى عليه الثناء العظيم، وذكره الشيخ الإمام السيد الجليل شيخ الحديث في زمانه قطب الدين ابن الشيخ الإمام العارف بالله أبي العباس. القشطلاني في مشيخته. وذكره الشيخ الإمام الكبير الشأن أبوعبد الله النعمان، وشهد له بالقطبية. وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله المذكور: أخبرني الشيخ العارف مكين الدين الأسمر، قال: حضرت. المنصورة في خيمةفيهاالشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ مجدد الدين علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ. محيي الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهم أجمعين، ورسالة القشيري تقرأ عليهم، وهم يتكلمون، والشيخ أبوالحسن صامت إلى، أن

فرغ كلامهم، فقالوا: يا سيدي نريدأن نسمع منك، فقال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم، فقالوا: لا بد أن نسمع منك. قال: فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة، فقال الشيخ عز الدين وقد خرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله تعالى. انتهى. قلت: اسمع أنت أيها الواقف على هذا الكتاب كلام هذا الإمام الهمام علم العلماء الأعلام، العارف بالله رفيع المقام عز الدين بن عبد السلام وكلام السادة المذكورين الأولياء المشكورين، والعلماء المشهورين في تعظيمهم الشيخ أبا الحسن، ومدحهم له، وثنائهم عليه، واشاراتهم إليه، وكلام الحشوية في إنكارهم عليه وطعنهم فيه. وقول بعض أهل الشام في تاريخه: الشيخ أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي الزاهد، شيخ الطائفة الشاذلية، سكن الاسكندرية، وصحبه بها جماعة، وله عبارات في التصوف مشكلة يوهم ويتكلف له في الاعتذار عنها فهل ترجمته هذه مدح له؟ كلا، بل هي في الحقيقة قدح فيه، وغض من جميل صفاته، وخفض لعلومنزلته، ورفيع درجاته، وانتقاص لعظم شرف جلالة قدره، وانزال ما على الثريا من علا معالي فخره في تخوم ثرى أرض سماء عليا فضله. كم هي عادته في وضع أوصاف الأكابر مثله في الشيوخ الصوفية العارفين بالله أولى النور الزاهر؟ واجلال العلماء الأعلام من الأئمة الأشعرية المحققين أهل الحق الظاهر، ورفع أوصاف الأئمة الحشوية الحامدين على الظواهر، ولا يصح الاعتذار عنه يكون كتابه الذي ذكر في ترجمة الشيخ المذكور مختصر الوجهين. أحدهما أنه قد أطنب فيه بمدح كثيرين، ورفع أوصافهم ممن ذكرت والثاني أنه يمكن مع اختصار الكلام التفخيم في الوصف بذكر بعض المناقب العظام ألا ترى إلى وصفه الشيخ المذكور بقوله: الزاهد وكذلك يفعل في غيره من أكابر الصديقين والمقربين والأئمة الهداة العارفين ينابيع الأسرار ومطالع الأنوار كسيدي أحمد بن الرفاعي وغيره من أئمة العارفين السادة يقتصر في مدح الواحد منهم على الزهد الذي هو مبادىء سلوك أهل الإرادة فهلا أبدل لفظ الزاهد بالعارف، أو الإمام، أو المرشد، أو المربي، أو الرباني أو المقرب، أو الصفوة وما أشبه ذلك، وما المانع من زيادة ألفاظ يسيرة؟ مثل الشيخ العارف بحر المعارف، أو إمام الطريقة ولسان الحقيقة وأستاذالأكابر الجامع بين علمي الباطن والظاهر، أو نحو ذلك من الألفاظ اليسيرة المتضمنة لقطرة من بحر فضائلهم الشهيرة. وكذلك قوله في عباراته: إنها توهم وإنه يتكلف له في الاعتذار عنها أين قوله هذا من قول الإمام المتفق على الإجلال له، والاعظام وجلالة مناقبه العظام عز الدين بن عبد السلام المتقدم ذكره لما تكلم الشيخ أبو الحسن، وكشف الخمار عن محاسن المعارف والأسرار؟

وكذلك أين قوله المذكور، وترجمته المذكورة عنه من قول الشيخ العارف الفقيه الإمام المشكور المشهور صاحب السر المودع، والفتح والمعارف والنوراني سليمان داود الاسكندراني تلميذ الشيخ الكبيرالإمام الشهير العارف بالله الخبير تاج الدين بن عطاء الله المتقدم ذكره في ترجمته عنه؟ حيث قال في ذكر بعض أوصافه: هو السيد الأجل، الكبير القطب، العارف الوارث، المحقق الرباني، صاحب الاشارات العلية، والعبارات السنية، والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية والأسرار الربانيه، والهمم العرشية، والمنازلات الحقيقية. الحامل في زمانه لواء العارفين، والمقيم فيه دولة علوم المحققين كهف قلوب السالكين، وقبلة همم المريدين، وزمزم أسرار الواصلين، وجلاء قلوب الغافلين، منشىء معالم الطريقة بعد خفاء اثارها، ومبدىء علوم الحقيقة بعد خبوء أنوارها، ومظهرعوارف المعارف بعد خفائها واستتارها الدال على الله تعالى، وعلى سبيل جنته والداعي علىعلم وبصيرة إلى جنابه وحضرته. أوحد أهل زمانه علماً وحالاً ومعرفةً ومقالاً، الشريف الحبيب النسيب المحمدي العلوي الحسني الفاطمي الصحيح النسبين، والكريم الطرفين، فحل الفحول، إمام السالكين علي الشاذلي الذي يغنيك سمعته عن مديح ممتدح، أو قول منتحل جاء في طريق الله بالأسلوب العجيب، والمنهج الغريب، والمسلك العزيز القريب. قلت: هذا بعض وصفه الذي ذكرت فيه شيئًامن أوصافه اقتصرت عليه رغبة في الاختصار، وفي بعضه كفايةذوي الاستبصار. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه قوله: إذا جالست العلماءفجالسهم بالعلوم المنقولات، والروايات الصحيحة. إماأن تفيدهم، أو تستفيد منهم، وذلك غاية الريح معهم، وإذا جالست العباد والزهاد، فاجلس معهم على بساط الزهد والعبادة، وحل لهم ما استمرروه، وسهل عليهم ما استوعروه، وذوقهم من المعرفة ما لم يذوقوه. وإذا جالست الصديقين، ففارق ما تعلم ولا تنتسب بما تعلم تظفر بالعلم المكنون، وبصائر أجرهاغيرممنون. وقوله: والمحبة أخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة إلى طاعته، والعقل متحصناًبمعرفته، والروح مأخوذًا في حضرته،. والسرمعمورًافي مشاهدته والعبد يستزيد فيزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون. وقال: له قائل: قد علمت الحب، فما شراب الحب؟ وما كأس الحب؟ ومن الساقي؟ وما الذوق؟ وما الشرب؟ وما الري وما السكر وما الصحو؟ قال رضي الله تعالى عنه:

الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب، والكأس هو اللطف الموصل ذلك إلى أفواه القلوب، والساقي هو المتولي الخصوص الأكبر والصالحين من عباده، وهو الله العالم بالمقادير ومصالح أحبائه، فمن كشف له عن ذلك الجمال وحظي بشيء منه نفسًاأونفسين. ثم أرخى عليه الحجاب، فهو الذائق المشتاق ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين، فهو الشارب حقًا، ومن توالى عليه الأمر ودام له الشرب حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة، فذلك هو الري، وربماغاب عن المحسوس والمعقول، فلايدري ما يقال ولا ما يقول فذلك هو السكر، وقد يدور عليهم الكاسات، وتختلف لديهم الحالات، ويرعون إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات، مع تزاحم المقدورات، فذلك وقت صحوهم، واتساع نظرهم ومزيد علمهم، فهو نجوم العلم، وقمر التوحيد يهتدون في ليلهم، وبشموس المعارف يستضيئون في نهارهم،) أولئك حزب الله ألاإن حزب الله هم المفلحون (وله من الكرامات من المكاشفات وغيرها ما لا يحتمل ذكره هذا الكتاب من ذلك ما ذكره تلميذ الشيخ أبو العباس المرسي المتقدم ذكره، قال: خرجت من المدينة الشريفة لزيارة قبر عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة رضي الله عنه، فلما كنت في أثناء الطريق تبعني إنسان، فلما وصلنا لقينا باب القبة مغلقًا، ثم انفتح لنا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلنا فلقينا عنده رجل يدعو، فقلت لرفيقي، هذا من الإبدال، والدعاء في هذه الساعة مستجاب، فدعا إلى الله تعالى أن يرزقه ديناراً وسألت الله أن يعافيني من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة، فلما رجعنا وقربنا بالمدينة لقينا إنسانًا، فأعطى رفيقي ديناراً، فلما دخلنا المدينة. وقع نظر الشيخ أبي الحسن علينا، فقال لرفيقي: يا خسيس الهمة صادفت ساعة اجابة، ثم صرفتها إلى دينار هلا كنت مثل أبي العباس سأل الله تعالى أن يعافيه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة وقد فعل له ذلك؟ قلت: هذا معنى ما روي عنه، وإن لم تكن جميع ألفاظها بعينها. ومن ذلك ما اشتهر أنه لما دفن بحميراًعذب ماؤها بعد أن كان ملحًا، وهي صحراء عيذاب، وتوفي فيها متوجهاًإلى بيت الله الحرام، وقبره هناك مشهور مزور على ممر الأيام، والشيخ أبو الحسن الشاذلي المذكور مبدأ ظهوره بشاذلة على القرب من تونس. قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: لم يدخل في طريق القوم، حتى كان يعد للمناظرة، وكان متضلعاً بالعلوم الظاهرة، جامعاً لفنونها عن تفسير وحديث ونحو وأصول وآداب، وكانت له السياحات الكثيرة، ثم جامحه بعد ذلك العطاء الكثير والفضل الغريز، واعترف بعلو منزلته من عاصره من أكابر العلماء والأولياء العارفين بالله تعالى، وهذا ما

سنة سبع وخمسين وست مائة

اقتصرت عليه من ترجمته. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الجليل صاحب الأحوال والكرامات الشيخ علي المعروف بالخباز أحد مشايخ العراق قتل شهيداً. وفيها توفي المقرىء العلامةمحمدبن أحمد الموصلي الحنبلي الذي اختصر الشاطبية، كان شابًا فاضلاً صالحًا محققًا، توفي بالموصل وعمره ثلاث وثلاثون سنة. وفيها توفي الإمام أبوعبد الله محمدبن الحسن المغربي المقرىء صنف شرح شاطبية قرأ على رجلين قرأ على الشاطبي، وكان فقيهًابارعاً عارفًا متفننًا متين الديانة جليل القدر تصدرللإقراء بحلب مدة. وفيها توفي الوزيرالرافضي ابن العلقمي المتقدم ذكره محمد بن محمدالملقب مؤيد الدين، ولي وزارة العراق أربع عشرة سنة، وكان ذا حقد وغل على أهل السنة، قرر مع التتاز أمورًا كانت سبب دخولهم بغداد، ثم انعكس حاله وأكل يده ندمًا، وبقي بعد تلك الرتبة الرفيعة في حالة وضيعة، وصاحت امرأة به وهو ماريا ابن العلقمي أهكذا كنت في أيام أمير المؤمنين. وولي مع غيره وزارة التتار على بغداد بطريق الشركة، ئم مرض بعد قليل، ومات غمأ وتعبًا. وفيها توفي الشيخ الصالح القدوة أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري، الأصل البغدادي الضرير، وكان إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر، وديوانه مشهورومدائحه سائرة قيل، إنه قتل بعض التتار بعكازة، ثم استشهد. وفيها توفي سفير الخلافة محيىالدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج عبد الرحمن المعروف بابن الجوزي، كان أستاذ دار المعتصم، كثير المحافظة، قوي المشاركة في العلوم، وافر الحشمة ضربت عنقه هو وأولاوده. سنة سبع وخمسين وست مائة فيها قبض غلمان المعز على ابن أستاذه الملك المنصور، وتسلطن ولقب بالملك المظفر لحاجة الوقت إلى ملك كاف. وفيها توفي المحدث المعمر أبو العتاس أحمد بن محمد الفارسي نزيل القاهرة، وكان صالحاً عالمًاخيرًا، روى بالإجازة العامة عن أبي الوقت.

سنة ثمان وخمسين وست مائة

وفيهاتوفي صاحب الموصل الملك الرحيم بدرالدين لؤلؤالأرمني مملوك نورالدين أرسلان شاه، كان مدير دولة أستاذه، ثم آل أمره إلى أن استقلىبالسلطنة، وكان حازما شجاعًا مدبرًا خبيرًا. سنة ثمان وخمسين وست مائة في ثاني صفرمنهانزل ملك التتارعلى حلب، فلم يصبح عليهم الصباح إلاوحفرواعليهم خندقاً عمق قامة، وعرض أربعة أذرع، وبنوا حائطًا ارتفاعه خمسة أذرع، ونصبواعشرين منجنيقاً، وألحوابالرمي، وشرعوافي نقب السور، وفي تاسع صفر ركبوا الأسوار، ووضعوا السيف يومهم، ومن الغد، فقتل أمم وأسرخلق، وبقي القتل والسسبي خمسة أيام، ثم نودي برفع السيف، وأذن مؤذن يوم الجمعةبالجامع، وأقيمت الجمعةبأناس، ثم حاطوا بالقلعة فحاصروها، ووصل الخبر يوم السبت إلى دمشق، فهرب أناس، ثم حملت مفاتيح الحماة إلى الطاغية المذكورة، واسمه هولا، وحاصرت التتار دمشق ورموا برج الطارمه بعشرين منجنيقًا، فتشقق، وطلب أهلها الأمان فلبوهم، وسكنهااليل كنيعًا، وتسلموابعلبك وقلعتها، وأخذوانابلس ونواحيهابالسيف، ثم ظفروا بالملك فأخذوه بالأمان، وصاروابه إلى ملكهم فرعى له محبته وبقي في خدمته أشهراً، ثم قطع العزلة راجعاً، وترك بالشام فرقة من التتار، وتأهب المصريون وشرعوا في المسير، ثارت النصارىبدمشق، ورفعت رؤوسها، ورفعوا الصليب ومروابه، وألزموا الناس القيام له حوانيتهم ووصل جيش الإسلام للملك المظفر، فالتقىالجمعان علىعين جالوت غربي بيسان، ونصرالله دينه الظاهر على سائرالأديان، والحمدلله للطيف المنان، وقتل المصاف مقدم التتار كنيعًا، وطائفة من أمراء المغل، ووقع بدمشق النهب والقتل النصارى، وأحرقت كنيسةمريم، وذلك في أواخر رمضان، وعيدالمسلمون علىعظيم، فلمارجع الملك المظفر بعد شهر إلى مصر أضمر شرًا لبعض أهل الدولة وآل الأمرإلى أن رماه بهادرالمغربي بسهم قضى عليه بقرب قطبة، وتسلطن ركن الدين الملك الظاهر، وكان قد ساق وراءالتتار إلى حلب، وطمع في أخذ حلب، وقال: وقدوعده بهاملك المظفرفلمارجع أضمرله الشر، وخلف الأمراءبدمشق لنائبهاعلم الدين الحلبي

سنةتسع وخمسين وست مائة

ولقب الملك المجاهد، وخطب له بدمشق مع الملك الظاهر، وفي آخر السنة كرت التتار على حلب فأخذوها. وفيها توفي قاضي القضاة صدرالدين أحمد بن يحيى بن هبة الله الدمشقي الثافعي، والملك المعظم ابن السلطان الكبير صلاح الدين، والملك السعيد حسن بن عبد العزيز، وعثمان ابن العادل صاحب صينيةوبانياس تملك بعد أخيه الملك الظاهر، فأخذ الصينية منه الملك الصالح، وأعطاه أمرة مصر، فلما قتل المعظم بن الصالح ساق إلى غزة، وأخذ ما فيها وأتى الصينية فتملكها، وكان بطلاً شجاعًا قاتل يوم عين جالوت، فلما انهزمت التتار جاء إليه الملك المظفر، فضرب عنقه، والملك المظفر سيف الدين قطر. بالقاف والطاء المهملة والزاي فالمربى، كان بطلاً شجاعًا دينًا مجا هدًا انكسرت التتارعلى يده، واستعاد منهم الشام، وكان أتابك الملك المنصور على ولد أستاذه، فلمارآه لا يغني شيئًاعزله، وقام في السلطنة. وفيها توفي الشيخ الفقيه الإمام الحافظ محمد بن أحمد الجويني، لبس الخرقة من الشيخ عبد الله البطائحي، عن الشيخ عبد القادر، ورثاه الشيخ عبد الله الجويني، وكان عالمًا زاهدًا خاشعاً قانتًا، عظيم الهيبة، مليح الصورة، حسن السمت والوقار. وفيها توفي الحافظ العلامة أبوعبد الله محمد بن عبد الله القضاعي الكاتب الأديب، أحد أئمة الحديث، قرأ القراءات، واطلع على الأثر، وبرع في البلاغة والنظم والنثر، وكان ذا جلالة ورياسة. قتله صاحب تونس ظلمًا. وفيها توفي الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر غازي ابن الملك العادل، كان عالماً فاضلاً شجاعًا عادلاً محسنًا إلى الرعية ذا عبادة وورع، لم يكن في بيته من يضاهيه حاصرته التتار عشرين شهرًاحتى فني أهل البلد بالوباء والقحط، ثم دخلواوأسروه، فضرب ملكهم عنقه، وطيف برأسه، ثم علق على باب الفراديس بعد أخذ حلب، ثم دفنه المسلمون بمسجد الرأس داخل الباب. وفيها توفي ابن قوام الشيخ الكبير أبو بكر ابن قوام البالسي، كان زاهداًعابداً قدوة صاحب حال، وكشف وكرامات، وله رواية. سنةتسع وخمسين وست مائة في أولها اجتمع خلق من التتار، فأغاروا على حلب، ثم ساقوا إلى حمص لما بلغهم

مصرع الملك المظفر، فصادفوا على حمص الأشرف صاحب حمص والمنصورصاحب حماة، وحسام الدين في ألف وأربع مائة والتتار في ستة آلاف، فالتقوهم، وحمل المسلمون حملة صادقة، وكان النصر والحمد لله، ووضعوا السيف في الكفار قتلاًحتىأبادوا أكثرهم وهرب مقدمهم بأسوأ حال، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد، ودخل علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد قلعة دمشق، فنازله عسكر مصر، فبرز إليهم وقاتلهم، ثم رد فلما كان في الليل هرب، وقصد قلعة بعلبك، فقضى بها فقبض عليه علاء الدين الوزيري، وقيده، ثم حبسه الملك الظاهر مدة طويلة. وفي رجب منها بويع بمصر المستنصر بالله أحمد بن الظاهرمحمد بن الناصرلدين العباسي الأسود، وفوض الأمور إلى الملك الظاهر، ثم قدما دمشق، فعزل عن القضاءنجم الدين بن سني الدولة، وولي مكانه الإمام العلامة أبو العباس ابن خلكان، ثم سار المستنصر ليأخذ بغداد ويقيم بها، فوقعت بينه وبين التتار الذين في العراق مصاف، فعدم المستنصر في الوقعة. وفيها توفي الإمام القدوة الحافظ العارف سيف الدين أبو المعالي سعيد بن المظفرالباخرزي صاحب الشيخ نجم الدين الكبري، وكان إمامًافي السنةرأسًافي التصوف. وفيها توفي الملك الظاهر غازي شقيق السلطان الملك الناصر، يوسف وأمهما تركية كان شجاعاًجوادًا، قتل مع أخيه بين يدي الطاغية الكافر ملك التتار. وفيها توفي ابن سيدالناس الخطيب الحافظ محمدبن أحمد الإشبيلي، وعني بالحديث، فأكثر وحصل الأصول النفيسة، وختم به معرفة الحديث بالمغرب. توفي بتونس في رجب. وفيهاتوفي الملك الناصرصلاح الدين يوسف بن العزيز بن الظاهرابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب سلطنوه بعد أبيه، وهو ابن سبع سنين، ودبر المملكةشمس الدين لؤلؤ، والأمر كله راجع إلى جدته الصاحبة صفية ابنة العادل أخت الملك الكامل لأجل هذا سكت عنها، فلما ماتت استقل واشتغل عنه بعمه الملك الصالح، وعمره إذ ذاك نحو أربع عشرة سنة، ثم أخذ عسكره له حمص، ثم سارهو، وتملك دمشق، ودخل بابنةالسلطان علاء الدين صاحب الروم، وكان حكيمًا جوادًا موطأ الأكناف، حسن الأخلاق فيه بعض عدل مع ملابسة الفواحش على ما قيل، وكان للشعراء دولة في أيامه لأنه كان يقول

سنة ستين وست مائة

بالشعر، ويجيزعليه، ثم عمل عليه حتى وقع في قبضة التتار، وذهبوابه إلى ملكهم هولا فأكره، فلمابلغه كسرجيشه علىعين جالوت غضب، وتنمروأمربقتله فتذلل له، فأمسك عن قتله، فلما بلغه كسر جيشه مرة أخرى استشاط عدو الله، وأمر بقتله، وقتل أخيه الظاهر، وكان شابًا حسن الشكل، مليح الخلق. سنة ستين وست مائة فيها أخذت التتار الموصل بخديعة بعد حصار أشهر، وضعوا السيف في المسلمين تسعة أيام، وأسرواصاحبها الملك الصالح إسماعيل، ثم قتلو، بعد أيام، وقتلوا ولده علاء الملك. وفيها عدم المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله العباسي الأسودقدم مصر، وعقدوا له مجلس فائد يؤانسه، ثم بدأ الملك الظاهر بمبايعته، ثم الأعيان على مراتبهم، فلقب بلقب أخيه صاحب بغداد، ثم صلىبالناس يوم الجمعة، وخطب، ثم ألبسه السلطان خلعةبيده وطوقه، وأمر له بكتابة تقليد الأمر، وركب السلطان بتلك الخلعة، وزينت القاهرة، وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، وكان جسيمًاشجاعًاعالي الهمة، ورتب له السلطان أتابك أستاذ داروحاجب، وكاتب انشاء، وجعل له خزانةومائه فرس، وثلاثين بغلاً، وستين جملاً، وعدة مماليك فلما قدم دمشق وسار إلى العراق استماله الحاكم بأمر الله العباسي، أنزله معه في دهليزه، ثم دخل المستنصرهيت، ثم التقى المسلمون التتار، فانهزم التركمان والعرب، وأحاطت التتار بعسكر المستنصر، فحرقواوساقوا، فنجا طائفةمنهم الحاكم، وقتل المستنصر، وقيل: عدم ولم يعلم ما جرى له، وقيل: قتل ثلاثة من التتار، ثم تكاثروا عليه، واستشهدوا رحمه الله تعالى. وفيهاتوفي الشيخ الفقيه العلامةالإمام المفتي المدرس القاضي الخطيب سلطان العلماء، وفحل النجباء المقدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والاتقان والعرفان والإيقان. المشهود له بمصاحبة العلم والصلاح الجلالة والوجاهة والاحترام الذي أرسل النبي صلىالله عليه وآله وسلم إليه مع الولي الشاذلي بالسلام، مفتي الأنام وشيخ الإسلام، عز الدين عبد العزيزبن عبد السلام أبي القاسم السلمي الدمشقي الشافعي قال أهل الطبقات: سمع من عبد اللطيف بن أبي سعد، والقاسم ابن عساكر وجماعة، وتفقه على الإمام العلامة فخر الدين ابن عساكر، وبرع في،

الفقه والأصول والعربية، ودرس وأفتىوصنف المصنفات المفيدة، وأفتىالفتاوى السديدة، وجمع من فنون العلم العجب العجاب من التفسير والحديث، والفقه، والعربية، والأصول، واختلاف المذاهب والعلماء، وأقوال الناس ومأخذهم، حتى قيل: بلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وعنه أخذ الشيخ الإمام شرف الدين الدمياطي، والقاضي الإمام المفيد تقي الدين بن دقيق العيد وخلق كثير، وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه معرفةالمذهب مع الزهدوالورع، وقمعة للضلالات والبدع، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما عنه اشتهر، قالوا: وكان مع صلابته في الدين، وشدته فيه حسن المحاضرة بالنوادر والأشعار يحضر السماع ويرقص. قلت: وهذا مما شاع عنه، وكثرشهوده، وبلغ في الاستفاضة والشهرة مبلغاً لايمكن جحوده، وذلك من أقوى الحجج على من ينكر ذلك من الفقهاء على أهل السماع من الفقراء والمشائخ أهل المقامات الرفاع أعني صدور وذلك عن مثل الإمام الكبير الذي سبق أئمة زمانه بدمشق. بل سبق كثيرًامن السابقين المتقدمين على أوانه وأرى نسبة فعله هذامع انكار الفقهاء غالبًا في سائر البلاد كنسبة ذهاب الإمام الكبير المحدث الحافظ أبي القاسم ابن العساكرإلى مذهب الأشعرية في الاعتقاد مع مخالفة طائفة من المحدثين اعتقدوا علىالظواهر، وحادواعن منهج الحق الباهج الظاهر، فكل واحد منهما مع غزير علمه وجلالته وتقدمه على. أقرانه في فنه وإمامته حجة على المشارإليهم من أهل ذلك الفن المخالفين من خلائق منهم لا يحصون على ذلك موافقين من الأئمة الكبار السابقين واللاحقين، كالفقيه الإمام الجليل المحدث أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، والفقيه الإمام الجليل المحدث محيي الدين النواوي، والفقيه الإمام الجليل المحدث أبي العباس أحمد بن أبي الخير اليمني وغيرهم من المحدثين أولى المناقب الحميدة الموافقين في العقيدة، وكالفقيه الإمام الكبير المتفنن الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، والفقيه الإمام السعيد السيد الشهيرالعارف بالله: الخبير الأستاذ أبي القاسم الجنيد، والفقيه الإمام المشكور العارف بالله المشهورمحمدبن حسين البجلي اليمني وغيرهم من الفقهاء أولى النفع والانتفاع الواجدين الداخلين في السماع، ولكن ذلك بشروط عند علماءالباطن ذكرتها في كتاب الموسوم بنشر المحاسن مع موافقتهم أيضاًفي العقيدة المذكورة الصحيحة المشهورة. قلت: وكان عز الدين المذكوررضي الله تعالى عنه، يصدع بالحق، ويعمل به متشدداً في الدين لاتأخذه في الله لومة لائم، ولايخاف سطوة ملك ولا سلطان، بل يعمل بماأمرالله ورسوله، وما يقتضيه الشرع المطهر، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كأنه رضي الله تعالىعنه جبل إيمان. يصادم السلطان، كائنًاماكان، بمشافهة الإنكار، تحت عظام

الأخطار، فقيل له: في ذلك في وقت فقال: استحضرت عظمة الله، وكان السلطان في عيني أصغرأوقال: أحقرمن كذاوكذاوأنكر رضي الله تعالى عنه صلاة الرغائب، والنصف من شعبان. قلت: وقع بينه وبين شيخ دارالحديث الإمام أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله في ذلك منازعات ومحاربات شديدات، وصنف كل واحد منهما في الرد على الآخر، واستصوب المتشرعون المحققون مذهب الإمام ابن عبد السلام في ذلك، وشهدوا له بالبروز بالحق الصواب في تلك الحروب والضراب، وكأن ظهور ثوابه في ذلك جديرًابماأنشده في عقيدته في الاستشهاد على ظهور الحق: لقدظهرت فلاتخفىعلى أحد ... إلاعلىأكمه لايعرف القمر إذ لم يرو في ذلك عن جهة السنة ما يقتضي فعل ذلك، وإن كان قد ظهر لهما شعار في الأمصار، وصلاهماالعلماء الأحبار والأولياء الأخيار، وأدركت ذلك في الحرمين الشريفين حتى تكرر الإنكار في ذلك، واشتهر بين الناس مقال الإمام المؤيد الموفق للذب عن السنة، وتحرير الصواب، الحبر المحدث الخاشع الأواب محيي الدين النواوي رحمة الله عليه في صلاة الرغائب قاتل الله واضعهمامع أنهما إلى هذا الزمن يصليهما أهل اليمن، لعمري إنهما لو فعلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاستفاض ذلك، اشتهر كما اشتهر ما هو أخفى من ذلك في الخبر، وإذ لم يرد فعل ذلك، وما تضمنه من شعار كان ذلك بدعة ينبغي فيها الإنكار، وليس الحسن الظن مدخل في احداث شعار لم يكن في الإسلام مع قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " من حدث في أمرنا هنا ما ليس منه، فهورد " وقوله: " كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة نعم لو صلاهما إنسان وحده مع اعتقاه أنهما ليستا بسنة لم أربذلك بأساً " والله أعلم. وأما ما احتج به بعض الناس من قوله تعالى: " أرأيت الني ينهى عبدًا إذا صلى " سورة العلق:، فهو احتجاج باطل فإن الآية الكريمة نزلت في قضية أبي جهل، ونهيه للنبي عليه السلام، عن الصلاة ومنعه له بزعمه منها، فمنعه الله عن ذلك المرام بما أراه مايهول من الآيات العظام. ولما سلم الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صفدقلعة في بلاد الشام. ساء ذلك المسلمين، ونال منه الشيخ الإمام عزالدين على المنبر، ولم يدع له في الخطبة

وكان خطيبًا بدمشق، فغضب الملك المذكور، وعزله وسجنه، ثم أطلقه، فتوجه إلى الديار المصرية هو والإمام ذوالفهم الثاقب المعروف بابن الحاجب، بعد أن كان معه في الحبس، فتلقاه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وأكرمه وأجله واحترمه، وفوض إليه قضاء مصر، وخطابة الجامع، فقام بذلك أتم قيام، وتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى اتفق أن بعض الأمراء بنىمكانًا على سطح مسجد، فأنكر ذلك، وقيل: هدمه، ثم علم أن ذلك شق على الوزير، فحكم بفسق الوزير وعزل نفسه عن القضاء، فلما بلغ ذلك حاشية الملك شق عليهم، وأشاروا على الملك أن يعزله من الخطابة لئلا يتعرض لسب الملك على المنبر، فعزله، فلزم بيته يشغل الناس ويدرس. وذكروا أنه لما مرض مرض الموت بعث إليه الملك الظاهر يقول من أولادك يصلح لوظائفك؟ فأرسل إليه، ليس فيهم من يصلح لشيء منها، فأعجب ذلك السلطان منه، ولما مات حضر جنازته بنفسه، والعالم من الخاص والعام. ومن مصنفاته الجليلة كتاب التفسير الكبير، وكتاب القواعد الكبرى ومختصر النهاية، وكتاب العقيدة، وكتاب شجرة الأخلاق الرضية والأفعال المرضية، ومختصر الرعاية، وكتاب الإمام في أدلة الأحكام وغير ذلك، وكانت له مشاركة يقوم به أحسن قيام، وكانت له يد طولى في تعبير الرؤيا وغير ذلك. دخل بغداد في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، واتفق يوم دخوله موت الإمام أبي الفرج ابن الجوزي، فأقام بها أشهراً، ثم عاد إلى دمشق، وولاه الملك الصالح ابن الملك العادل خطابة الجامع الأموي بعد ولايته التدريس بزاوية الغزالي، وهو من الذين قيل فيهم علمهم كثر من تصانيفهم لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول، وأما في علوم المعارف، والعلم بالله وحضور هيبته، واستيلاء جلالته وعظمته على قلوب أهل ولايته، ومعرفته وغير ذلك مما هو معروف عند أهله. وقد قسم الناس في المعرفة أقسامًاوعد نفسه رضي الله تعالى عنه من القسم الثالث بعد أن ذكر أن القسم الأول هم الذين تحضرهم المعارف من غير استحضار وتفكر واعتبار ولا تغيب عنهم في سائر الأحوال، والقسم الثاني هم الذين تحضرهم بغير استحضار أيضاً لكن تغيب عنهم في بعض الأحيان. والقسم الثالث هم الذين تحضرهم باستحضار من غيردوام واستمرار، ثم قال: كأمثالنا. هذا معنى كلامه في الأقسام المذكور وإن اختلفت العبارات في بعض الألفاظ. وقد ذكرت في غير هفا الكتاب قضية وقعت له مما يؤيد عظيم فضله وعلومحله وهو ما أخبرني به بعض أهل العلم أن الإمام عز الدين المذكور احتلم في ليلة بارعة فأتى إلى

سنة احدى وستين وست مائة

الماء، مؤجده جامداً، فكسره واغتسل، فغشي عليه فسمع يقال له: لأعوضنك بها عزالدنيا والآخرة، وكان مع هذه الجلالة التي حازها، والعلوم التي حواها ينظم الأشعار. السهلة. قال الشيخ تاج الدين ابن المحب: أنشدني صديقنا سديد الدين أبو محمد الحسن بن الوليد الطبي الفقيه الشافعي قال: أنشدني قاضي القضاة عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام لنفسه في قصيدةقوله: أوجه وجهي نحوهم مستشفعًا ... إليهم بهم منهم إذاالخطب أعياني فهم كاشفو ضري وكربي وشدتي ... وهم فارجوهمي وغمي وأحزاني وهم واهبو الأبصار والسمع والنهي ... وهم عالمو سري وجهري وإعلاني وإن مذنب يومًاأتىمتنضلاً ... ومعتذرًا حنواً عليه بغفران وإن سائل يومًاأتاهم بفاقة ... ومسكنةجادوا، عليه باحسان بروح رجائي فيك يبقى حشاشتي ... وخوف معادي منك قد هدأركاني فأصبحت ما إن لي إليك وسيلة ... سوى فاقتي والذل مني وإذعاني توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ستين وست مائة، وشيعه، الملك الظاهر، وكان قد ولي قضاءالقضاة، وعزل نفسه رضي الله تعالى عنه، وعمره اثنتان وثمانون سنة. وفيهاتوفي ابن العديم الصاحب العلامةالمعروف بكمال الدين عمربن أحمدالعقيلي الحلبي من بيت القضاء والحشمة. سمع بدمشق وبغدادوالقدس والنواحي، وأجاز له المؤيدوخلق، وكان قليل المثل عديم النظر فضلاً ونبلاً ورأيًا وحزمًا وذكاءً وبهاءً وكتابةً وبلاغةً، ودرس وأفتى، وصنف وجمع تاريخاًلحلب نحوثلاثين مجلدًا، وولي خمسةمن آبائه علىنسق القضاء، وقد ناب في سلطنة دمشق، وعمل من الناصروتوفي بمصر. سنة احدى وستين وست مائة عقد في أولها مجلس عظيم للبيعة. وجلس الحاكم بأمرالله أبوالعباس أحمدابن الأميرابن أبي علي حفيد المسترشد بالله العباسي، فأقبل عليه الملك الظاهرومديده إليه وبايعه بالخلافة، ثم بايعه الأعيان، وقلد حينئذ السلطنة للملك الظاهر. فلما كان من الغدخطب للناس خطبة حسنةأولها: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنًاوظهيرًا، ثم كتب بدعوته وإمامته إلى الأقطار، وبقي فى الخلاقةأربعين سنةوأشهرًا. وفيها خرج الظاهرإلىالشام، وتحيل على صاحب الكرك الملك المغيث حتىنزل إليه، وكان آخر العهدبه، وأعطى ولده بمصر مائة فارس، ثم قبض على ثلاثة أنكروا عليه

سنة اثنتين وستين وست مائة

علامة المغيث، وكانوا له نظراء في الجلالةوالرتبة، وهم الرشيدي وأقوس التركي والدمياطي وفيها وصل مقدم التتار في طائفة كثيرةقدأسلموا، وأنعم عليهم الملك الظاهر. وفيها توفي الفقيه الإمام الجليل سليمان بن خليل العسقلاني الشافعي خطيب الحرم سبط عمر بن عبد العزيز الميانشي قلت: وهو الذي جمع المنسك الكبير المفيد المعروف بين فقهاء مكة بمناسك الفقيه سليمان. وفيها توفي المقرىء النحوي المتكلم شيخ القراء بالشام أبومحمدالقاسم بن أحمدالمرسي شيخ القراء صاحب الشاطبي، وتزوج ابنته أبو الحسن بن علي بن شجاع الهاشمي العباسي المصري الشافعي. سنة اثنتين وستين وست مائة فيها توفي شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصاري الدمشقي، ثم الحموي الشافعي، الأديب، كان أبوه قاضي حماة، ويعرف بابن الرفا له محفوظات كثيرة وفضائل شهيرة، وحرمة وجلالة. وفيهاتوفي الملك المغيث عمر بن عبد العزيز بن الكامل ابن العادل، حبس بعد موت عمه الصالح بالكرك، فلماقتلواابن عمه المعظم أخرجه معتمد الكرك الطواشي، وسلطنه بالكرك كان كريمًامبذراً للأموال، فقل ما عنده حتى سلم الكرك إلى صاحب مصر، ونزل إليه، فخنقه ولذلك خنق عمه وأباه العادل. وفيها توفي ابن سراقة الإمام محيي الدين أبو بكر محمد الأنصاري الشاطبي شيخ الحديث الكاملية بالقاهرة، سمع من جماعة، وله مؤلفات. وفيها توفي الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن المنصور ابن المجاهد صاحب حمص، والرحبة. وفيها توفي القارىء أبو القاسم بن المنصور الاسكندراني، كان صالحًا قانتًا مخلصاً

سنة ثلاث وستين وست مائة

مع الزهد والورع البالغ، كان له بستان يعمله ويتبلغ منه، وله ترجمة منفردة جمعها ناصر الدين بن المنير. وفيها أو في التي بعدها توفي ناظم الوترية، الفقيه الشافعي، الواعظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الرشيد البغدادي، كان فقيهاً واعظاً عارفاً بالفقه والخلاف. أعاد لأمية بغداد، وقدم مصر والإسكندرية، ووعظ بها، وسمع منه جماعة منهم الإمام العلامة شرف الذين أبو العباس أحمد بن عثمان السخاوي الشافعي إمام الأزهر، والإمام العلامة قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، سمع منه قصائده الوتريات، ورافقه في الحج، ودخل الأفريقية، وجال في بلاد المغرب، وكان ظاهر التدين والصلاح. سنة ثلاث وستين وست مائة فيها كانت ملحمة عظيمة بالأندلس التقى فيها ملك الفرنج، وأبو عبد الله بن الأحمر سلطان المسلمين، ثم انهزم الملاعين، وأسر ملكهم، ثم أفلت، وحشد وجيش ونازل غرناطة، فخرج إليهم ابن الأحمر، وكسرهم أيضاً، وأسر منهم عشرة آلاف، وقتل مسلمون منهم فوق الأربعين ألفاً، وجمعوا كوماً هائلاً من رؤوس الفرنج، وأذن عليه مسلمون، واستعادوا عدة مداين من الفرنج. وفيها قدم السلطان، فحاصر قيسارية، وافتتحها عنوة، وغصب القلعة أياماً ثم أخذت مع غيرها بالسيف، ثم رجع فسلطن ولده الملك السعيد المغفور. وفيها جدد بديار مصر أربعة حكام من المذاهب لأجل توقف تاج الدين ابن بنت الأغر عن تنفيذ كثير من القضايا فتعطلت الأمور، فأشار بهذا جمال الدين أيد غدي العزيزي، فأعجب السلطان، وفعله في آخر السنة، ثم فعل ذلك بدمشق. وفيها ابتدئ لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففرغ في أربع سنسن. وفيها حجب الخليفة الحاكم بقلعة الجبل. وفيها توفي المعين المقرئ القرشي المحدث المتقن أبو إسحاق إبراهيم بن عمر، كتب فأكثر، وتوفي فجاءة. وفيها توفي الحافظ ابن السيد محمد بن يوسف الأزدي الغرناطي سمع من جماعة كثيرة وجمع وصنف.

سنة أربع وستين وست مائة

وفيها توفي بمكة بدر الدين السنجاري الشافعي قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن الحسن الزرادي، كان صدراً معظما جواداً ممدحاً، ولي قضاء بعلبك وغيرها، ثم ولاه الملك الصالح عجم الدين أيوب مصر، والوجه القبلي، ثم ولي قضاء القضاة بعد شرف الدين ابن عين الدولة، وباشر الوزارة، وكان له من الخيل والمماليك ما ليس لوزير مثله، ولم يزل في الارتفاع إلى أوائل الدولة الظاهرية، فعزل ولزم بيته. ؟ سنة أربع وستين وست مائة فيها توفي عز الدين الملك الظاهر، ورتب جيوشه بالسواحل، فأغاروا على بلاد عكا، وصور، وطرابلس، وحصن الأكراد، ثم نزلوا على صفد، فأخذت في أربعين يوماً خديعة، ثم ضربت رقاب مائتين عن فرسانهم، وقد استشهد عليها خلق كثير، وفيها استباح المسلمون داره، وسبي منها ألف نفس، وجعلت كنيستها جامعاً. وفيها توفي الإمام جمال الدين أحمد بن عبد الله بن شعيب اليمني الصقلي ثم الدمشقي المقرئ الأديب وأيد غدي العزيزي الأمير الكبير جمال الدين. كان جليل القدر شجاعاً مقداماً عاقلاً محتشماً كثير الصدقات، حسن الديانة من جلة الأمراء ومتميزيهم حبسه المعز مدة، ثم أخرجه يوم عين جالوت، وكان الملك الظاهر يحترمه، ويتأدب معه. جهزه في هذه السنة، فأغار على بلادسيس، ثم خرج على صفد، فمرض وتوفي ليلة عرفة بدمشق. وفيها توفي الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي نزيل دمشق، كان فقيراً زاهداً مترحلاً محققاً للعربية. وفيها توفي ابن صصري بهاء الدين الحسن بن سالم الثعلبي الدمشقي وأخوه شرف الدين عبد الرحمن بن سالم. أولى مناصبهم الكبار، ونظر الديوان وهولاو ابن قاان المغل مقدم التتار، وقائد الكفار إلى عذاب النار الذي أباد البلاد والعباد. بعثه ابن عمه القاان الكبير على جيش المغل، فطوى الممالك، وأخذ حصون الإسماعيلية وأذربيجان والروم والعراق والجزيرة، والشام، وكان ذا سطوة ومهابة، وعقل وغور وحزم ودهاء وخبرة بالحروب، وشجاعة ظاهرة، وكرم مفرط، ومحبة لعلوم الأوائل من غير فهمه لها، وكان يصرع في اليوم مرة ومرتين منذ قتل الشهيد الملك الكامل محمد بن غازي، ومات على كفره في السنة المذكورة، وقيل: في التي قبلها، وخلف تسعة عشر ابناً تملك عليهم ابنه أبغا، وكان القاان قد استناب بهولاو على خراسان ما يفتتحه

سنة خمس وستين وست مائة

؟ سنة خمس وستين وست مائة في أولها كبا الفرس بالملك الظاهر، فانكسرت فخذه، وحدث له منها عرج. وفيها توفي خطيب القدس كمال الدين أحمد بن نعمة النابلسي؛ كان صالحاً متعبداً متزهداً. وفيها توفي الشيخ القدوة الكبير إسماعيل الكوراني صاحب صدق وتحقيق وورع دقيق. ملتفت إليه بالإشارة، والقصد بالزيارة. وفيها توفي الفاضل العلامة المعروف بأبي شامة لشامة كبيرة فوق حاجبه. عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الإسكندرية، ثم الدمشقي الشافعي المقرئ النحوي المؤرخ، قرأ القراءات، وأتقنها على السخاوي، وسمع الحديث من جماعة، وأتقن الفقه وبرع فيه وفي النحو، وصنف كتباً جمة، فمن ذلك كتاب " البسملة " في مجلد كبير نصر فيه المذهب وكتاب " الروضتين في الدولتين النووية والصلاحية " واختصر تاريخ دمشق ابن عساكر في خمسة عشر مجلداً ضخاماً، ثم اختصره في خمس مجلدات، وكتاب " شرح الشاطبية "، وهو في غاية الجودة، ونظم مفصل الزمخشري، وكتب عديدة أخرى، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، وكان متواضعاً خيراً رحمه الله تعالى. وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المصرفي الشافعي. صدر الديار المصرية ورئيسها، كان ذا ذهن ثاقب، وحدس صائب، ونزاهة متثبت في الأحكام، روى عن جعفر الهمداني، وتوفي في السابع والعشرين من رجب. وفيها توفي ابن القسطلاني الشيخ تاج الدين علي ابن الشيخ الزاهد القدوة أبي العباس أحمد بن علي القيسي المصرفي المالكي المفتي، سمع بمكة من طائفة كثيرة، ودرس بمصر، وولي مشيخة الكاملية إلى أن توفي في سابع شوال، وله سبع وسبعون سنة قلت: هذا الملقب بتاج الدين كما ترى، وليس هو قطب الدين بن القسطلاني، وقد يشتبه ذلك على من ليس عنده علم، فإنهما مشتركان في أوصاف متعددة، وكلاهما ابن القسطلاني، وكلا أبويهما اسمه أحمد وأبو العباس كنيته، وكلاهما زاهد وعالم ومصري ومالكي، وكلا الوالدين عالم ومدرس ومفتي وشيخ الحديث في الكاملية، ولكن قطب الدين متأخر يأتي في سنة ست وثمانين، فهو أجل الرجلين قدراً وأشهرهما ذكراً.

سنة ست وستين وست مائة

وفيها توفي أبو الحسن الدهان علي بن موسى السعدي المصري المقرئ الزاهد، قرأ القراءات، وتصدر بالفاضلية، وكان ذا علم وعمل. وفيها توفي صاحب المغرب المرتضى أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم القيسي المومني، ولي الملك بعد ابن عمه المعتضد، وامتدت أيامه، وكان مستضعفاً دخل ابن عمه أبو دبوس الملقب بالوراث بالله إدريس مراكش، فهرب المرتضى، فظفر به عامل الواثق، وقتله بأمره، وأقام بالواثق ثلاثة أعوام، ثم قامت دولة بني مريق وزالت دولة آل عبد المؤمن. سنة ست وستين وست مائة فيها افتتح السلطان بلداناً كثيرة في بلاد الشام، منها حصن الأكراد وأعمال طرابلس وأنطاكية، وأخذها في أربعة أيام وحصر أعني أنطاكية، وحصر من قتل بها، وكانوا أكثر من أربعين ألفاً. وفيها كانت الصعقة العظمى على غوطة يوم ثالث نيسان إثر حفظة السلطان عليها، ثم صالح أهلها على ست مائة ألف درهم فأضر بالناس، وباعوا بساتينهم بالهوان. وفيها توفي خطيب الجبل إبراهيم ابن الخطيب شرف الدين عبد الله المقدسي، كان فقيهاً إماماً بصيراً بالمذهب صالحاً عابداً مخلصاً منيباً صاحب أحوال وكرامات، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقول بالحق، سمع من جماعة، وقد جمع ابن الخباز سيرتة في مجلد. وفيها توفي الحنش النصراني الكاتب، ثم الراهب أقام بمفازة الإسكندرية بجبل حلوان بقرب القاهرة، فقيل: إنه وقع بكنز للحاكم صاحب مصر، فواسى منه الفقراء والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره، وشاع ذكره، وأنفق في ثلاث سنين أموالاً عظيمة، فأحضره السلطان، وتلطف به، فأبى عليه أن يعرفه حقيقة أمره، وأخذ يراوغه ويغالطه، فلما أعياه سلط عليه العذاب، فمات وقيل: إن مبلغ ما وصل إلى بيت المال من جهته في المصادرة في مدة سنتين ست مائة ألف دينار ضبط ذلك بقلم الصيارفة الدين كان يصبغ عندهم الذهب، وقد أفتى غير واحد بقتله خوفاً على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم. وفيها توفي صاحب الروم السلطان ركن الدين ابن السلطان غياث الدين السلجوقي، كان هو وأبوه مقهورين مع التتار له الاسم، ولهم التصرف، فقتلوه بسبب أنه وشى به، ونم عليه بأنه يكاتب الملك الظاهر، فقتلوه خنقاً، وأظهروا أنه رماه فرسه، ثم أجلسوا في الملك

سنة سبع وستين وست مائة

غياث الدين، وعمره عشر سنين. وفيها توفي الضياء الطوسي الإمام العلامة شارح الحاوي الصغير، والمختصر في الأصول الشيخ ضياء الدين عبد العزيز بن محمد الطوسي، وكان فاضلاً درس في دمشق في التجيبية، ثم توفي بها رحمه الله تعالى. ؟ سنة سبع وستين وست مائة فيها نزل السلطان على حربة اللصوص، ثم ركب وساق في البريد سراً إلى مصر، فأشرف على ولده السعيد، وكان قد استنابه بمصر، ثم رد إلى الحربة، وكانت الغيبة أحد عشر يوماً أوهم فيها أنه متمرض في المخيم. وفيها توفي الإمام العلامة مجد الذين طي بن وهب القشيري المالكي شيخ أهل الصعيد ونزيل قوص والد الإمام المشهور المشكور، تقي الدين ابن دقيق العيد، وكان جامعاً لفنون من العلم، موصوفاً بالصلاح والتأله معظماً في النفوس روى عن غير واحد. سنة ثمان وستين وست مائة فيها تسلم الملك الظاهر حصون الإسماعيلية، وقرر على زعيمهم حسن بن الشعراني أن يحمل كل سنة مائة ألف وعشرين ألفاً، وولاه على الإسماعيلية وفيها بطلت الخمور بدمشق، وقام في تبطيلها الشيخ خضر شيخ السلطان قياماً كلياً، وكبس دور النصارى واليهود، حتى كتبوا على أنفسهم بعد القسامة أنه لم يبق عندهم منها شيء. وفيها توفي وقيل: في سنة خمس وستين الفقيه الإمام العلامة البارع المجيد الذي ألين له الفقه كما ألين لداود الحديد الشيخ نجم الدين عبد الغفار القزويني الشافعي أحد الأئمة الأعلام، وفقهاء الإسلام، مصنف الحاوي المشتمل على الأسلوب الغريب، والنظم العجيب المطرب في صنعته كل لبيب الذي قلت فيه القصيدة الموسومة بالحلاب الحالي في مدح الحاوي، وهي: لله ماذا حوى الحاوي مع الصغر ... من الملاح العوالي الخرد الغرر ألفاظه ومعانيه جلت وعلت ... أحلى وأغلى من الحلاب والدرر كم من صغير كبير القدر مشتهر ... وكم كبير صغير غير مشتهر هو الصغير الكبير القدر كم كتب ... قد فاق من كل مبسوط ومختصر ما طاعن فيه يقوي أن يعارضه ... لو عاش ما عاش نوح فيه من عمر ما ينقم الخصم إلا أنه عسر ... وكل عالي المعاني شاع بالعسر

هل يستطيع الذي يخفي فضيلته ... يخفي ظهور ضياء الشمس والقمر حوى نفائس علم الشرع مشتملاً ... لمذهب الشافعي النير الزهر صدر المذاهب مقداماً وأعدلها ... حكماً وأشهرها في البدو والحضم تاج الهدى معلماً بالنور مبتسماً ... در الأحاديث والإجماع والسور بدر الدجى منهج الحق المضيء ضياً ... شمس الضحى مدهبي فخري ومفتخري وقد نهضت لحاوي الدر منتصراً ... في ذم من ذمه من سائر البشر قدرت ضرب مثال رائق رشق ... للأخذ بالثأر كاف جاعلي قدر يقال فرد أتى كرماً به ثمر ... فلم ينل أخذ عنقود من الثمر فذمه قال: من يبغيك ياتفها ... يا حامض الطعم يا أدنى جنى الشجر قد قيل لا ينفع البادي قراءته ... والمنتهى لا بما فيه لمفتقر حتى غلا القائل المذكور مدعياً ... أن لا يباع لذي بدر، ولا حضر هذا غبي، ولو قد شم رائحة ... للفقه أو ذاق طعم الفقه بالنظر لما أتى مثل هذا القول مجترياً ... ولا تخطى بهذا المسلك الوعر فذاك حبي ومحفوظي ومعتمدي ... ومنه أفتى به سمعي به بصري وفيه عرسي وتدريسي ومورده ... إليه وردي وعنه صادر صدري كأنه السحر في تحسين صنعته ... والبحر فيما حوى من فاخر الدرر نعم لعمري يسير من مسائله ... مخالف للصحيح الراجح الشهر لكنه لا بذا التكدير منفرد ... كل التصانيف لا يصفو عن الكدر كذا صفات الورى تبدو لعمري في ... أسنا الكمال، ويبدو النقص في أخر سبحان من بالكمال اختص منفرداً ... منزهاً عن جميع النقص والغبر حتى إلهي إماماً ذاك صنفه ... للعلم والدين لا للهو والنظر ذاك النجيب الذي شاعت براعته ... عبد لغفار ذنب الخفائف الحذر حبر له الفقه في التصنيف لان كما ... لان الحديد لداؤد بلا عكر وبعد ذا فالأئمة كلهم ... تبع للشافعي هم نجوم، وهو كالقمر ولي فيه قصيدة أخرى دالية عددها كعدد هذه ثلاثون بيتاً، وقد سلك في صنعته رحمه الله تعالى مسلكاً لم يلحق شاؤه فيه أحد من الفضلاء، ولا قاربه وقد ذكر بضعهم أنه صنف كتاب الحاوي المذكور لولده جلال الدين، وله إجازة من عفيفة الأصبهانية، وكان والده فقيهاً إماماً أيضاً رحمهما الله. وفيها توفى قاضي القضاة أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة أبي المعالي محمد ابن

سنه تسع وستين وست مائة

قاضي القضاة أبي الحسن أبي قاضي القضاة منتجب الدين القرشي الدمشقي الشافعي، تفقه على الفخر ابن عساكر، وولي قضاء دمشق مرتين، وكان صدراً معظماً معروفاً بالفضائل. وقال الذهبي: له في ابن العربي عقيدة تجاوز حد الوصف، قال: وكان يفصل علياً على عثمان، ثم نسبه إلى التشيع، وجعل التفضيل المذكور كالعلة لتشيعه. قلت: وهذا من الذهبي العجب العجاب أما علم أن جماعة من أكابر أئمتنا المحققين ذهبوا إلى تفضيل علي على عثمان. منهم الأئمة الجلة سفيان الثوري، ومحمد بن إسحاق، والحسين بن الفضل، بل هو منسوب إلى أهل الكوفة قاطبة، ولهذا قال الإمام سفيان الثوري لما سئل عن اعتقاده في ذلك: أنا رجل كوفي: وقد أوضحت رجحان الدليل على هذا في كتاب المرهم في الأصول، وأن علياً رضي الله عنه اجتمع فيه من الفضائل في آخر عمره ما لم يكن في أوله، وقد قدمت قصيدة ذكرت فيها التفضيل المذكور، والإشارة إلى فضائل الكل منهم رضي الله تعالى عنهم في ترجمة علي كرم الله وجهه، ولكن لو نسب إلى التشيع بسبب ما ذكر عنه في تاريخه من أنه هو القائل البيتين اللذين ذكرهما في كتابه ونسبهما إليه، كان أنسب إذ في ذلك التصريح أن علياً رضي الله تعالى عنه هو الوصي حيث قال: أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه، وإن كانت أمية محتدي ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت ... وساء بني حرب هنالك مشهدي وأما ما ذكر من اعتقاده ابن العربي، فليس هو مختصاً بذلك دون غيره، فقد قدمت أن الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب. بعضهم اعتقده وغلا في تفضيله، وبعضهم كفره وغلا في تكفيره، وبعضهم توقف فيه، ومن جملة الفقهاء الذين اعتقدوه الإمام الكبير الفاضل الشهير ابن الزملكاني، وشرح كتابه " الفصوص " الذي هو أشد كتبه إشكالاً، وقد تقدم أيضاً في ترجمة ابن العربي أنه شرحه، ثم ذكر بعد ذلك أن أبا الفضل المذكور سار إلى خدمة هولاو فكرمه وولاه قضاء الشام، وخلع عليه خلعة سوداء مذهبة، فلما تولى الملك الظاهر أبعده إلى مصر، وألزمه بالمقام بها وبها توفي. سنه تسع وستين وست مائة فيها افتتح السلطان حصن الأكراد السيف، ثم نازل حصن عكا، وأخفه بالأمان، فبذل له صاحب طرابلس، وبذله ما أراد، وعانه عشر سنين. وفيها جاء سيل عرم، فغلقت أبواب دمشق، وطفى الماء، وارتفع وأخذ البيوت

والجمال والأموال، وارتفع عند باب الفرح ثمانية أفرع، حتى طلع الماء فوق أسطحة عديدة، وضب الخلق وابتهلوا إلى الله، وأشرف الخلق على التلف ولو ارتفع ذراعاً آخر لغرق نصف دمشق. وفيها توفي الإمام قاضي حماة شمس الدين إبراهيم بن المسلم بن هبة الله الحموي الشافعي، كان ذا علم ودين، تفقه بالفخر ابن عساكر، وأعاد له، ودرس بالرواحية، لم تحول إلى حماة، ودرس بها وأفتى وصنف. وفيها توفي إبراهيم بن يوسف الحموي المعروف بابن قرقول بضم القافين وسكون الراء بينهما، وبعد الواو لام صاحب كتاب مطالع الأنوار وصنفه على منوال كتاب " مشارق الأنوار " للقاضي عياض. كان من الأفاضل، صحب جماعة من علماء الأندلس، توفي يوم الجمعة أول وقت العصر، وكان قد صلى الجمعة في الجامع، فلما حضرته الوفاة تلا سورة الإخلاص، وجعل يكررها بسرعة، ثم تشهد ثلاث مرات، وسقط على وجهه ساجداً فوقع ميتاً، رحمه الله تعالى. وفيها توفي الشيخ صلاح المقرئ حسن بن عبد الله الأزدي الصقلي، قرأ القراءات على السخاوي، وسمع الكثير، وأجاز له المؤيد الطوسي، وكان ورعاً مخلصاً متقللاً من الدنيا. وفيها توفي ابن سبعين الشيخ الملقب بقطب الدين عبد الحق بن إبراهيم المرسي المتصوف. قال الذهبي: كان من زهاد الفلاسفة، ومن القائلين بوحدة الوجود له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة، توفي بمكة كهلاً. انتهى كلامه. قلت: وكذلك سمعت كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى الفلسفة، وعلم السيمياء، ويحكون عن حكايات في ذلك، وأصحابه يعظمونه تعظيماً عظيماً، وكان له جاه كبير عند صاحب عكة، وبسبب ذلك وعداوته وخوف شره ونكايته. خرج الشيخ الإمام قطب الدين القسطلاني من مكة، وأقام بمصر.

سنة سبعين وست مائة

سنة سبعين وست مائة فيها توفي أبو الفضائل الكمال سلار بن الحسن الإربلي الشافعي المفتي صاحب ابن صلاح. وفيها توفي ابن يونس الإمام العلامة تاج الدين عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام رضي الدين محمد ابن الإمام العلامة الكبير عماد الدين محمد بن يونس الموصلي الشافعي مصنف التعجيز في اختصار الوجيز، كان من بيت الفقه والعلم بالموصل، وتولى القضاء للجانب الغربي ببغداد. وفيها توفي ابن صصري القاضي الرئيس، عماد الدين محمد بن سالم ابن الحافظ أبي المواصب الثعلبي الدمشقي، سمع من جماعة، قال الذهبي: كان كامل السؤدد متين الليانة وافر الحرمة. سنة إحدى وسبعين وست مائة فيها توفي الحافظ أبو المظفر يوسف بن الحسن المعروف بالشرف ابن النابلسي، سمع وكتب الحديث الكثير، وكان فهماً يقظاً، حسن الحفظ مليح النظم، ولي مشيخة دار الحديث النورية. وفيها توفي ابن العامل المحدث العامل محمد بن عبد المنعم أحد من له اعتناء بالحديث. وفيها توفي عبد الهادي بن عبد الكريم القيسي المصري المقرئ الشافعي، قرأ القراءات السبعة، وسمع من جماعة؛ كان صالحاً كثير التلاوة. ؟ سنة اثنتين وسبعين وست مائة فيها توفي المؤيد ابن القلانسي أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد التميمي، حدث بمصر ودمشق. وفيها توفي الأتابك الأمير الكبير فارس الدين أقطايا الصالحي أمره أستاذ الملك الصالح، ولي نيابة السلطنة للمظفر قطر، فلما قتل قطر قام بع الملك الظاهر وسلطنه في الوقت، وكان من رجال العالم حزماً وعقلاً ورأياً ومهابةً، وناب مدة للملك الظاهر.

سنة ثلاث وسبعين وست مائة

وفيها توفي ابن مالك إمام العربية العلامة. ترجمان الأدب، وحجة لسان العرب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الطائي الجياني الشافعي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، وواحد الزمان في علم اللسان، روى عن السخاوي وغيره، وأخذ النحو عن غير واحد، وتقدم وساد في علم النحو والقراءات، وربا على كثير ممن تقدمه في هذا الشأن مع الدين والصدق، وحسن السمت، وكثرة النوافل، وكمال العقل والوقار، والتودد وانتفع به الطلبة، وله من التصانيف تسهيل الفوايد والكافية الشافية وشرحها والألفية وأشياء كثيرة، وممن روى عنه ولده الإمام الملقب ببدر الدين محمد، والشيخ علاء الدين ابن العطار وجماعة، وتوفي بدمشق في عشر الثمانين. وفيها توفي النجيب عبد اللطيف بن عبد المنعم أبو الفرج الحراني مسند الديار المصرية. سنة ثلاث وسبعين وست مائة فيها توفي الحافظ المحدث وجيه الدين منصور بن سليم الهمداني الاسكندراني، سمع الكثير، وخرج تاريخاً للإسكندرية، وأربعين حديثاً بلدية، ودرس وولي حسبة بلده: وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد الأوزاعي الحنفي المشار إليه في مذهبه مع الدين والتواضع والصيانة والتعفف. سنة أربع وسبعين وست مائة فيها توفي شيخ الأدب محمود بن عايذ التميمي الشاعر المجيد، كان قانعاً زاهداً معمراً وفيها توفي شيخ الشيوخ سعد الدين الخضر ابن شيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله ابن شيخ الشيوخ أبي الفتح عمر بن علي ابن القدوة الزاهد محمد بن حموية الحموي، ثم الدمشقي. وفيها توفي ظهير الدين أبو البنا محمود بن عبد الله الريحاني الشافعي المفتي أحد مشايخ الصوفية، صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي، وروى عنه، وعن غيره، وتوفي في رمضان، وله سبع وسبعون سنة. سنة خمس وسبعين وست مائة فيها كاتب أمراء الروم الملك الظاهر وقووا عزمه على أخذ الروم، فسار وقطع البلاد،

سنة ست وسبعين وست مائة

ثم وقع صاحب مقدمته سنقر الأشقر على ثلاثة آلاف من التتار، فهزمهم وأسر منهم، وأشرف الجيش من الجبال، فإذا بالتتار قد بعثوا أحد عشر طلباً والطلب ألف فارس، فلما التقى الجمعان حملت ميسرتهم، فصادموا صناجق السلطان يعني راياته، وعطفوا على ميمنة السلطان، فرد فيها بنفسه، وحمل بها حملة صادقة، فترحلت التتار، وقاتلوا أشد قتال، فأخذتهم السيوف، وأحاطت بهم العساكر المحمدية، حتى قتل أكثرهم، وقتل من أمراء المسلمين جماعة، ثم سار الملك الظاهر يحرق مملكة الروم، ونزل إليه ولاة القلاع، وقدم سنقر الأشقر لتطمئن الرعية، ثم وصل قيصرية الروم، فتلقاه أعيانها وترحلوا، ودخلها وجلس على سرير ملكها، وصلى الجمعة بجامعها، ثم بلغه أن أعداء الله عازمون على طلبه، فرحل عنها، فجرى بعده بالروم خبطة ومحنة عظيمة، فقصدهم أبغا فقال: أنتم باغون علينا، ووضع السيف فيهم، ولم يقبل لهم عذراً، فيقال: إنه قتل من الروم ما يزيد على مائتي ألف فهم مسلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون. وفيها توفي الشيخ أبو المعالي أحمد بن عبد السلام المعروف بابن أبي عصرون التميمي الشافعي صاحب تونس محمد بن يحيى بن عبد الواحد، وكان ملكاً صاحب سياسة، وعلو همة، شديد البأس، جواداً ممدوحاً تزف إليه كل ليلة جارية. تملك تونس بعد أبيه، ثم قتل عميه وجماعة من الخوارج عليه فتمهد له الملك. سنة ست وسبعين وست مائة في أولها قدم السلطان الملك الظاهر، فنزل نحو سفة الأبلق، ثم مرض يوم نصف المحرم، وتوفي بعد ثلاثة عشر يوماً، فأخفي موته، وسار ابنه وهو يوهم أن السلطان مريض إلى أن دخل مصر بالجيش، فأظهر موته، وعمل العزاء، وحلفت الأمراء للملك السعيد، والملك الظاهر هو ركن الدين أبو الفتوح شوس التركي الصالحي النجمي صاحب مصر والشام اشتراه الأمير علاء الدين الصالحي، فقبض الملك الصالح على علاء الدين المذكور، وأخذه، وكان من جملة مماليكه، ثم طلع شجاعاً فارساً إلى أن بهر أمره وبعد صيته، وشهد وقعة المنصورة بدمياط، ثم صار أميراً في الدولة المعزية، وتقلبت به الأحوال إلى أن ولي السلطنة في سابع عشر في القعدة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً سرياً غازياً مجاهداً مؤيداً عظيم الهيبة خليقاً للملك، يضرب بشجاعته المثل له أيام بيض في الإسلام، وفتوحات مشهورة، ومواقف مشهورة، ولولا ظلمه وجبروته في بعض الأحيان لعد من الملوك العادلين، والسلاطين الممدوحين بحسن السيرة المشكورين. انتقل إلى عفو

الله ورحمته في الثامن والعشرين من المحرم بقصره بدمشق، وخلف من الأولاد الملك السعيد محمد، والخضر وسلامس، وسبع بنات، ودفن بتربة أنشأها ابنه. وفي سنة ست وسبعين المذكورة توفي إمام اليمن، وبركة الزمن قدوة الفريقين، وشيخ الطريقين الفقيه الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الباهرة، والبركات الظاهرة، والأنفاس الصالحة، والمواهب المانحة، والهداية والصفا، والعناية والاصطفا أبو الذبيح إسماعيل ابن السيد الجليل الولي الحفيل الحافظ المحدث إمام عصزه وبركة دهره محمد بن إسماعيل المشهور بالحضري، كان من أعلى الفقهاء مرتبة في العلم والصلاح والزهد والكرامات. اشتغل بعلم الفقه على والده المذكور، وتبخر فيه وبرع في معرفة المذهب، وشرح كتاب المهذب، وله كلام في الفقه والتصوف، وفتاوى مجموعة، وبعض تواليف أخرى، منها مختصر صحيح مسلم، وكتاب نفائس العرائس، وسمع الحديث والتفسير وما يدل على ذلك إجازته بخطه الذي وقفت عليه وهو ما صورته. " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على النبي وآله وأصحابه وسلم، ثم قال: في أثناء كلامه حصل على المولى الفقيه والولد المحبوب في الله تعالى إبراهيم بن محمد بن سعيد جميع كتاب التنبيه في الفقه بقراءته، وقراءة غيره، وقد أجزت له روايته بروايتي عن والدي رحمه الله بروايته عن الإمام العالم العابد محمد بن كبانة. بضم الكاف وفتح الموحدة قبل الألف، والنون بعدها بروايته عن الإمام العالم يحيى بن عطية بروايته عن الإمام محمد بن عبدويه، عن المصنف، وقد أجزت له روايته عني، وأن يروى عني جميع ما يجوز لي روايته من كتب الحديث والتفسير والفقه، وجميع ما جمعته ولأولاده وإخوته، ولجميع قراباته نفع الله الجميع بذلك، وغفر للجميع، وتاب على الجميع، وكتب إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحضرمي، وكان ذلك في شهر شوال سنة سبع وستين وست مائة، وصلى الله تعالى على النبي وآله وسلم " انتهى. وتفقه به جماعة كبار منهم الفقيه القدوة النجيب الولي العارف بالله وافر الحظ والنصيب ذو المحاسن والكرامات العديدة، والفضائل والسيرة الحميدة عبد الله بن أبي بكر الخطيب اليمني المدفون في موزع بفتح الميم والزاي قدس الله روحه، وهو أول من اشتغل عليه، وأخص أصحابه، ومنهم العلامة المفيد الكبير المحصول الماهر في الفقه

البارع أحمد المعروف بابن الزنبول. اشتغل عليه مدة طويلة في الفقه، ثم حصل بينهما بعض شيء نفر منه، قلت: ابن الزنبول فانقطع عنه، وكان في خلقه بقور فجاءه الفقيه إسماعيل مع جلالته، وفضله المشهور واسترضاه، فقال له ابن الزنبول: أتحسب أني لا أجد مثلك؟ فبكى إسماعيل، ولبس حلة المحاسن والإنصاف والتواضع والاعتراف والتنزل إلى منزلة الإنصاف، وقال له: بلى يا أحمد تجد مثلي، ولا أجد مثلك، ومنهم الإمام العلامة القاضي جمال الدين أحمد بن علي العامري شارح التنبيه وقاضي المهجم ومنهم الفقيه علي بن أحمد بن سليمان العبسي الجحفي وغيرهم. قلت: وبلغني أن رجلاً سأله عن مسألة في أفتيا جاء بها إليه بعد أن جاء بها السائل إلى الفقيه الإمام الحفيل الولي الشهير الجليل أحمد بن موسى بن عجيل رضي الله تعالى عنه وعن الجميع، فأجابه الفقيه إسماعيل بجواب مخالف لجواب الفقيه أحمد، فبقي الرجل متحيراً بأي الجوابين يأخذ، فقال إسماعيل، خذ بجوابنا، فدباغنا في الفقه أقوى من دباغهم. قلت: لقد أحسن في هذا المقال باستعارته الدباغ للاشتغال، وبلغني أيضاً أن الفقيهين المذكورين المشهورين كان أحدهما أفقه من الآخر، والآخر أكثر نقلاً منه، وقد جمع عنهما كلام في الفقه في جزء لطيف، وكلاهما كان يحضر مجلس شيخ الشيوخ الأكابر بحر الحقائق المواج الزاخر. صاحب السيف الماضي الصيقل شيخ زمانه أبي الغيث بن جميل قدس الله روحه، ولكن الفقيه إسماعيل أكثر حضوراً وملازمة للشيخ المذكور، وإليه كان ينسب في التصوف حتى بلغني عنه أنه قيل له كلام معناه ما نقول عنك إذا سألنا أفقيه أنت أم صوفي فقال: بل صوفي وشيخي في التصوف الشيخ أبو الغيث بن جميل. وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات العظام ما يطول في ذكرها الكلام، وقد ذكرت بعضها في غير هذا الكتاب. منها وقوف الشمس له حتى بلغ مقصده لما أشار إليها يالوقوف في آخر النهار، وهذه الكرامة مما شاع في بلاد اليمن، وكثر فيها الانتشار. ومنها أنه شوهدت الكعبة في الليل تطوف بسريره في حال يقظة المشاهد. ومنها أنه نادته سدرة والتمست منه أن يكل هو وأصحابه من ثمرها، ومنها شفاعته في قوم سمعهم يعذبون في المقابر، ومنها أن الملك المظفر صاحب اليمن كان يقول لحجابه: لا تخلوه يدخل علي حتى تستأذنوني خوفاً من أن يراه ملابساً بما ينكر عليه، فما يشعر إلا وقد دخل

عليه من حيت لا يراه البواب، ولا يشعر الحجاب، وكاد الجله من العلماء وعيرهم يقبلون قدمه لإشارة اشتهرت عنه في ذلك. وقد أخبرني الفقيه الإمام القاضي نجم الدين الطبري رحمه الله أنه زاره هو وجده الإمام العلامة محب الدين الطبري، وأنهما قبلا قدمه. وأخبرني القاضي نجم الدين رحمه الله المذكور أنه نعى بمكة، والسيد المشهور ابن عجيل المذكور يومئذ فيها، فقال: أرجو من الله أن يفديه بمائة فقيه، ثم جاء الخبر أنه حي لم يمت، وكان قد ولاه الملك المظفر قاضياً على قضاة اليمن، ولكن كان هو السلطان ما أمر به السلطان كان، وكان كتب إليه في شقف من خزف: يا يوسف فما تبه إلى سلطان في ذلك، وقال: هب أنك موسى، ولست بموسى وهب أني فرعون، ولست بفرعون، وفي رواية أخرى أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمر الله تعالى باللطف به، واللين إليه فقال تعالى: " قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " " سورة طه: 44 " إما تكتب إلي في ورقة بفلس، وكان إذا كشف له أن الحق في جانب من ترجحت حجة خصمه في ظاهر الشرع يصرفها إلى حاكم آخر. قلت: وهذا حسن جداً، فإنه لا يمكنه أن يحكم بالحكم الباطن، وقد أمر الشوع أن يحكم بالظاهر بخلاف ما يظهر، له بالعلم الباطن، فترك الحكم بهما جميعاً احتياطاً وأدباً مع الشرع، وأرى هذا أحسن وأسلم مما كان يفعله غيره من القضاة من أكابر الأولياء من الحكم مما يكشف له من علم الباطن. ومنهم السيد الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الرحمن النويري رضي الله تعالى عنه، فإنه كان يقول: ما يمكنني إذا قالت لي البقرة: أنا لفلان أحكم بها لخصمه، وكان سبب ولاية إسماعيل المذكور قضاء القضاة أن الملك المظفر استدعى به، وبابن العجيل، وبابن الهرمل، فسار إليه هو وابن الهرمل، ومرا على ابن العجيل، فقال لهما: لو قد عزمتما كان رأيي أن لا تذهبا إليه، ولكن إذ قد عزمتما فلي إليكما حاجة، وهي أن لا تذكر أني عنده، فإن ذكرني، فقولا له: هو في عش في البادية: فإن تركته وإلا سافر إلى بلاد الحبشة، وخلي لك البلاد، فقال له إسماعيل: يا فقيه أحمد إن الله قد استرعانا عليه، كما استرعاه على الرعية، فنحن نأمره وننهاه، فإن قبل منا فهو المطلوب، وإلا كنا قد خرجنا عن العهدة، ثم سافر إليه إلى تعز فلما اجتمعا به استقضى الفقيه إسماعيل، فأقام قاضياً للقضاة مدة، ثم عزل نفسه، وكان مع كبر شأنه وزهده في الدنيا كثير التزوج جداً، حتى قال لبعض ذريته: لا تتزوجوا من نساء زبيد، فإني أخشى أن تقعوا في بعض المحارم لكم.

وروي عنه أنه قال: كل شيء قدرت على الزهد فيه إلا المرأة الحسناء، والدابة النفيسة. وقال: رضي الله تعالى عنه: حصل لي اجتماع بجماعة من المشائخ المتقدمين في حال اليقظة، وكل واحد منهم أفادني فائدة، ومجموع ذلك من لم يفارق تعب ومن نظر إلى نفسه بعين المراءاة عطب، إن وجدت في الحنيا ما يبقى لك وتبقى له، فاعكف عليه من وقف مع العوائق لحظة أو ثقته ما تبقى من السم قاتل وإلا فممرض إنك ميت وإنهم ميتون، فلا يتعلق بهم من لم يكفه لفظه لم ينتفع بالقناطير المقنطرة. والجماعة المذكورون أصحاب سبع الوصايا هم هؤلاء السبعة أبو يزيد، وذو النون، وبشر الحافي، والجنيد، والسري، والشبلي، وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهم، ونفع بهم كل واحد منهم جاء بكلمة من الكلمات المذكورات. ومما وجد بخطه رضي الله تعالى عنه من الخطاب الذي سمعه، فارق الناس أحسن ما كانوا عليه، وتتبع خلوات الفلاح في زاوية الجوع والعطش تجني عند ذلك، وأبغض خراب الاهتمام، وسمعني أطيط رحال المفارقة في بيداء الثقة بي، والتوكل علي وحنين الشوق، وأنين الخوف أفلت أكوانك كلها، ونحن عندك بالفضا وقوف، وانقطع الكلام. ومما وقع له أيضاً من الخطابات المشهورة عنه: يا إسماعيل إنا مشتاقون إليك فهل أنت مشتاق إلينا؟ أو فما هذا التخلف؟ فقاد: يا رب عوقتني الذنوب، فقال: قد غفرنا لك ولأهل تهامة من أجلك. وكان رضي الله تعالى عنه في بدايته معتزلاً عن الناس، مختليا بنفسه، قيل: وكان يقتات من النبق أوقات البداية، وكان ابن عجيل مع جلالة قدره يتأدب معه، ويقول: نحن محبون، وهو محبوب، وتلقاه في وقت وسار معه ماشياً وهو راكب، وحجا معاً في سنة واحدة، ومعهما ركب اليمن، فلما قربوا من مكة تلقاهم الشريف أبو تمي، وكان ابن عجيل معروفاً يعرفه الشريف وغيره لكثرة تردده إلى مكة والمدينة، وكان أبو تمي عليه ثياب حرير، فانقض عليه الفقيه إسماعيل كانقضاض البازي على الفريسة، وأخذ بطوقه، وقال: أتلبس هذا الذي لا يلبسه إلا من لا خلاق له في الآخرة؟ أو قال: عند الله فبقي الشريف المذكور مبهوتاً ينظر إلى ابن عجيل، وكان إذ ذاك مستقلاً بولاية مكة، وسلطنتها، فقال له: يا

شريف أتدري من هذا؟ هذا الفقيه إسماعيل الأرعن على ربه لو تغير علينا هلكنا جميعاً كلنا. قلت: وله من الفضائل والمحاسن والمفاخر ما يطول ذكره بل يتعذر حصره، ولا تحتمل بعضه العقول القواصر، وإليه ينتسب بعض شيوخنا رضي الله تعالى عنهم، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض قصائدي. وذا قول إسماعيل شمس الهدى الولي: مقر الهدى المشهور شيخ شيوخنا ... إمام الفريقين الحبيب المدلل هو الحضري المشهور من وقفت له ... يقول: قفي شمس لأبلغ منزلي إليه الإشارة أيضاً بقولي في أخرى في أثناء التغزل بشيوخ اليمن. وجود الضحى شمس الضحى حضرمية ... مدللة تزهو بعالي المنازل وقولي: وجود الضحى هو بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة اسم القرية الساكن فيها، وقولي: أيضاً في الغزل: بأخرى في الشيخ أبي الغيث وفيه وفي ابن عجيل: يبيت ذو عطاء عيطبول ... حرود بحبه جود الزمان وجود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني كجود للمغاربة اغتراها ... حصان في حيا حسن رزان وإليه أشرت أيضاً في أخرى بقولي: هو الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد له كم خطت كم ذللت، ثم عللت ... عنايات فضل ليس تدرك باليد مدل ومحبوب، وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات بجاه وسؤدد ومن جاهه أومي إلى الشمس أن قفي ... فلم تمش حتى أنزلوه بمقصد توفي رحمه الله تعالى في قريته المعروفة بالضحى من أعمال تهامة المهجم. وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الإمام شيخ الإسلام مفتي الأنام المحدث المتقن المحقق المدقق النجيب الحبر المفيد القرب البعيد محرر المذهب، ومهذبه وضابطه، ومرتبه أحد العباد الورعين الزهاد العالم العامل المحقق الفاضل الولي الكبير السيد الشهير المحاسن العديدة، والسيرة الحميدة، والتصانيف المفيدة الذي فاق جميع الأقران، وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في

على المقامات ناصر السنة، ومعتمد الفتاوى الشيخ محيي الدين النواوي يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي مؤلف الروضة والمنهاج والمناسك، وتهذيب الأسماء واللغات، وشرح صحيح مسلم، وشرح المهذب، وكتاب التبيان، وكتاب الإرشاد، وكتاب اليسير والتقريب، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار كتاب الأربعين، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية، اختصره من كتاب ابن صلاح، وزاد عليه أسماء نبه عليها، وغير ذلك مما اشتهر في سائر الجهات، وظهر به النفع والبركات. قال بعض المؤرخين وأهل الطبقات: ولد سنة إحدى وثلاثين وست مائة، في العشر الأوسط من المحرم، وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين، وقرأ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع المهذب في بقية السنة، ومكث قريباً من سنتين لا يضع جنبه على الأرض، وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درساً على المشائخ شرحاً وتصحيحاً في المهذب، والوسيط والجمع بين الصحيحين، وصحيح مسلم وأسماء الرجال، " واللمع " لأبي إسحاق في أصول الفقه، " واللمع " لابن جني في النحو وإصلاح المنطق لابن السكيت في التصريف، والمنتخب في أصول الفقه وكتاب آخر في الأصول لم يسموه، وكان له في الوسيط درسان. حكوا عنه أنه قال: عزمت مرة على الاشتغال بالطب، فاشتريت القانون، فأظلم على قلبي، وبقيت أياماً لا أشتغل بشيء فتفكرت، فإذا هو من القانون، فبعته في الحال. قالوا: وكان لا يدخل الحمام، ولا يكل من فواكه دمشق، ولا يأكل في اليوم والليلة سوى أكلة بعد العشاء، ولا يشرب شربة إلا في وقت السحر، وكان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصيف. صابراً على خشونة العيش والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله، وكان نزوله في المدرسة الرواحية. قلت: وسمعت من غير وأحد أنه إنما اختار النزول بها على غيرها لحلها إذا هي من بناء بعض التجار. قالوا: وحفظ التنبيه في سنة خمسين وست مائة، وحج مع أبيه سنة إحدى وخمسين، وذكر والده أنه حم من حين خروجه من بلده إلى يوم عرفة، فما تأوه ولا تفجر، ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً حتى فاق الأقران، وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل، ثم أخذ في التصنيف من حدود الستين وست مائة إلى أن مات. وسمع الكثير من القاضي الرضي بن برهان الدين ابن خالك، وشيخ الشيوخ عبد العزيز الحموي، وجماعة منهم شيخه الكمال، وإسحاق بن أحمد المغربي، وسمع صحيحي

البخاري ومسلم، وسنن أبي داؤد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارقطني، وشرح السنة ومسند الإمام الشافعي، والإمام أحمد وأشياء كثيرة، وأخذ علم الحديث عن عز الدين بن خالد، وروى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ. منهم الإمام علاء الدين بن العطار، والشيخ أبو الحجاج المزرعي والقاضي محي الدين المزرعي، والإمام شمس الدين ابن النقيب، وهو آخر من بقي من أعيان أصحابه وخلق كثير. قلت: ومنهم الشيخ المبارك الناسك جبرائيل الكردي، وعليه سمعت الأربعين قالوا: وكان الشيخ محيي الدين النواوي متبحراً في العلوم متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة، وغير ذلك مما قد سارت به الركبان رأساً في الزهد، قدوة في الورع عديم النظير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يواجه الأمراء والملوك بذلك، ويصدع بالحق، ولقد أنكر على الملك الظاهر حتى أغضبه وهم به البطش، فوقاه الله شره، ثم قبل منه وعظمه حتى كان يقول: أنا أفزع منه قالوا: وكان لا يؤبه له بين الناس. قانعاً باليسير، راضياً عن الله، والله عنه راضٍ مقتصد إلى الغاية في ملبسه ومطعمه وأثاثه، ولي مشيخة دار الحديث، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً بل يقتنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه. قلت: ورأيت لابن العطار جزءاً في مناقبه. ذكر فيه أشياء عزيزة من فضائله ومحاسنه وكراماته، واشتغاله بالعلم، واستعماله، وجميل سيرته، وشدة ورعه وزهادته، وغير ذلك مما لم يعرف لأحد من العلماء بعده. قلت لعمري إنه عديم النظير في زهده وورعه وآدابه، وجميل سيرته، وسائر محاسنه فيمن بعده من العلماء. اللهم إلا أن يكون السيد الجليل ذو المجد الأثيل، والوصف الجميل الفقيه الإمام ذو الآيات العظام زين اليمن، وبركة الزمن من أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل الآتي ذكره في سنة تسعين، وقل وعز أن يعرف لهما قبلهما أيضاً نظير في ما اتصفا به من سائر المحاسن مع صغر سنهما، ولا شك أن الإمام محيي الدين النواوي مبارك له في عمره، ولقد بلغني أنه حصلت له نظرة جمالية من نظرات الحق سبحانه بعد موته، فظهرت بركتها على كتبه، فحظيت بقبول العباد والنفع في سائر البلاد، وقد اختلف الناس فيما اختلف فيه هو والإمام الرافعي والفقهاء في بعض الجهات. يرجحون قول الرافعي. وفي بعضها يرجحون قوله، والذي أراه أن كلما اعتضد فيه بحديث يصح الاحتجاج به، فقوله: مقدم لا سيما، وقد صح عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا صح الحديث، فهو مذهبي، وكذلك إن لم يعتضد بحديث لكن تكافأت الأدلة لكونه موافقاً مؤيداً مباركاً مسدداً. وإن ترجحه الأدلة في أحد الطرفين، فالراجح من الحكم ما رجحه دليله، والله أعلم. وذكروا أن ترك كله لفواكه دمشق إنما هو ورع لما في بساتينها من الشبه في ضمانها،

والحيلة فيه صرح هو رضي الله عنه بذلك، ومن المشهور أنه كان يقتدي ببعض المشائخ من الصوفية، وهو الشيخ الشهير العارف بالله الخبير الولي الكبير ياسين المزين، ويتأدب معه، ويجالسه ويقبل إشارته. وأخبرني بعض العلماء الشاميين أنه أشار عليه قبل موته بقليل يرد ما عنده من الكتب المستعارة، وزيارة أهله في بلده، ففعل ذلك، ثم توفي عندهم في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، وفي لحيته شعرات بيض. قلت: واعتقاد هذا السيد الكبير المتضلع من علوم المشائخ الصوفية، وصحبتهم ومحبتهم على العموم من أقوى الحجج الظاهرة على المنكرين عليهم من الخصوم، ومن كل طاعن فيهم محروم، وقد صرح في كتابه الأذكار المشتمل على الفضائل الجمة يكون الصوفية من صفوة هذه الأمة، وقد رأيت له مناماً يدل على عظم شأنه، ودوام ذكره لله، وحضوره وعمارة أوقاته، وشدة هيبته، وتعظيم وعلى تعالى ووعيده، وحياته بعد موته، وكلمني ودعا لي، وغير ذلك مما لا تضبطه العبارة مما تميز به عن العلماء والعبادة. وقد أشرت إلى شيء من ذلك في كتاب الإرشاد قدس الله روحه، ونور ضريحه ودعاءه الذي دعا لي هو هذا، وفقك الله وزادك فضلاً أو قال: من فضله وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وممن دعا لي أيضاً من الأولياء بعد وفاته شيخ شيخنا السيد الجليل المقدار الذي جمع من المحاسن ما لا يدخل تحت الإنحصار أبو الخطاب عمر بن علي المعروف بابن الصفار رحمه الله تعالى، وهذا دعاؤه: أصلحك الله صلاحاً لا فساد له، أو لا فساد معه في منام رأيته. أسأل الله الكريم أن يتقبل ذلك منهما، وأن يرزقنا بركتهما آمين آمين. رجعنا إلى ذكر الشيخ محيي الدين، ولقد بلغني أنه كان تجري دموعه على خده في الليل ثم ينشد. لئن كان هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى، فهو لا شك ضائع ورثاه غير واحد من الشعراء بمراثي حسنة رحمه الله تعالى، ونفعنا ببركته. وفي السنة المذكورة توفي السلطان الملك الظاهر كما تقدم. وفيها توفي الجريدلة الظاهري نائب سلطنة مولاه، وكان نبيلاً عالي الهمة، وافر العقل محبباً إلى الناس منطوياً على دين ومروءة ومحبة للعلماء والصلحاء، ونظر في العلم والتواريخ رقاه أستاذه إلى أعلى المراتب، واعتمد عليه في مهماته. قيل إن شمس الدين الفارقاني الذي ولي نيابة السلطنة، سقاه السم باتفاق مع أم

سنة سبع وسبعين وست مائة

الملك السعيد، فأخذه قولنج عظيم بقي به أياماً، ثم توفي بمصر. وفيها توفي الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي شيخ الملك الظاهر؛ كان له حال وكشف قيل: مع سفه فيه، ومردكه ومزاح. تغير عليه للسلطان بعد شدة خضوعه له، وانقياده لإرادته، وعقد له مجلساً، وأحضر من خافقه، ونسب إليه أموراً فظيعة، وأشاروا فيها بقتله، والله أعلم. بصحة ذلك، فقال للسلطان: إن بيني وبينك في الموت شيئاً يسيراً، فوجم لها السلطان، وحبسه في سنة إحدى وسبعين إلى أن توفي في سادس محرم السنة المذكورة، وتوفي السلطان المذكور في الثامن والعشرين عن المحرم كما تقدم. وفيها توفي الزكي بن الحسن المعروف بالبيلقاني أبو أحمد الشافعي الفقيه البارع المناظر؛ كان متقدماً في الأصولين، وغيرهما من المعقولات. أخذ عن الإمام فخر الذين الرازي، وسمع من المؤيد الطوسي، وكان صاحب ثروة وتجارة، وعمر دهراً، وسكن اليمن، وتوفي بعدن قلت: وقد رأيت بعض فريته بها ناظراً للسلطان، له عند أهل الدنيا صورة وكبرشان كذا قال بعض المؤرخين. وقال بعض أهل الطبقات البيلقاني أبو المعالي الفقيه الشافعي الأصولي العلامة الشهير الأوحد شمس الدين. تفقه بجماعة منهم الإمام فخر الأنام محمد بن أبي بكر التوقاني. قرأ عليه كتاب الوجيز بقراءته على شيخه الإمام نور الدين محمد بن محمد التوقاني بقراءته على شيخه الإمام العلامة الشهيد أبي سعيد محمد بن يحيى النيسابوري بقراءته له على شيخه، ومصنفه الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وتفنن في العلوم بالعلامة قطب الدين إبراهيم بن علي الأندلسي المعروف بالمصري، وعاش خمساً وتسعين سنة، وتفقه به جماعة، وانتفعوا به ورووا عنه. قلت: وبلغني فيما أظن أن بركه الزمن، وزين اليمن الإمام العلامة عالي المقامات، وعظيم الكرامات أبا الفدا إسماعيل ابن الشيخ الإمام علي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي قرأ على البيلقاني المذكور، والله أعلم. سنة سبع وسبعين وست مائة فيها قدم الملك السعيد، وعمرت القباب، ودخل القلعة، فأسقط ما وضعه أبوه على الأمراء، فسر الناس ودعوا له.

سنة ثمان وسبعين وست مائة

وفيها توفي الفارقاني شمس الدين أقسنقر الظاهري أستاذ دار الملك الظاهر. جعله الملك السعيد نائبه، فلم ترض خاصة السعيد بذلك، ووثبوا على الفارقاني واعتقلوه، ولم يقدر السعيد على مخالفتهم، فقيل: إنهم خنقوه، وكان وسيماً جسيماً شجاعاً نبيلاً ذا خبرة ورأي، ومهابة ووقار، وفيه ديانة وايثار. وفيها توفي الأديب البارع نجم الدين محمد بن نوار الشيباني الدمشقي الفقير صاحب الحريري، المعروف بابن إسرائيل، كان روح المشاهد، وريحانة المجامع فقيراً ظريفاً نظيفاً لطيفاً مليح النظم، رائق المعاني، وبعض الفقهاء ينكر عليه، ويقول: في بعض نظمه التصريح، وفي بعضه التلويح بالإلحاد. وفيها توفي شيخ الحنفية قاضي القضاة أبو الفضل سليمان بن أبي العز الأذرعي أحد من انتهت إليه رياسة المذهب في زمانه. وفيها توفي ابن حباء الوزير الأوحد الشهير علي بن محمد المصري الكاتب الملقب بهاء الدين أحد رجال الدهر حزماً ورأياً وجلالة ونبلاً وقياماً بأعباء الأمور مع الدين والفقه، والسيرة الحميدة، والمحاسن العديدة، والثروة الكثيرة، والفتوة الشهيرة ابتلى بفقد ولديه الصدر بن فخر الدين، ومحي الدين، فصبر وتجلد، وله من المناقب والمفاخر حظ وافر كثير. سنة ثمان وسبعين وست مائة فيها اختلف خواص الملك السعيد عليه، وخرج بعضهم عن الطاعة، وتابعه نحو أربع مائة من الظاهرية، فعسكر بالقطيفة ينتظر الجيش الذين ساروا للإغارة على بلاد " سيس " مع الأمير سيف الدين قلاوون، فقدموا ونزل الكل في بعض المنازل، وراسلوا الملك السعيد، ثم اجتمع مقدم الخارجين عن الطاعة سيف الدين قلاوون، وغيره من كبار الجيش، وأفسد نياتهم، واستمروا كلهم إلى مصر، فسار وراءهم، وبعث خزاينه إلى الكرك، ثم دخل قلعة القاهرة بعد مناوشة وحروب، قتل جماعة، ثم حاصروه بالقلعة حتى ذل لهم، وخلع نفسه من السلطنة، وقنع بالكرك، ورتبوا في السلطنة أخاه سلامش بالسين المهملة في أوله والمعجمة في آخره، وعمره سبع سنين، وجعلوا أتابك سيف الدين قلاوون، وجعل نيابة دمشق لسنقر الأشقر، ثم ترتب في السلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي في الحادي والعشرين من رجب من غير نزاع ولا قتال، ولا اختلف عليه اثنان، وحلف له

أمراء الشام، وسئل من الوسط سلامش، وفي أواخر ذي الحجة. ركب سنقر بعد العصر من الدار المسماة عندهم دار السعادة، وهجم القلعة، فملكها، وحلفوا له وأعلنوا بالبشائر والأفراح في الحال، ولقبوه بالسلطان الملك الكامل شمس الدين سنقر الصالحي، وقبض على نائب القلعة حسام الدين لاجين وغيره ممن لم يحلف له من الأمراء. وفيها توفي شيخ الشيوخ شرف الدين عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين

سنة تسع وسبعين وست مائة

عبد الله بن عمر الجويني. وفيها توفي الشيخ نجم الدين ابن الحكيم عبد الله بن محمد الحموي الصوفي، كان زاوية بحماة، وفيه أخلاق حميمة، وتواضع وخدمة للفقراء. صحب الشيخ إسماعيل الكوراني، وتوفي بدمشق اتفاقاً، فدفن بمقابر الصوفية. وفيها توفي الشيخ عبد السلام بن أحمد ابن الشيخ القدوة غانم بن علي المرسي الواعظ أحد المبرزين في الوعظ، والنظم والنثر. وفيها توفي السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن الملك الظاهر، وكان كريماً حسن الطباع فيه عدل ولين وإحسان ومحبة للخير خلوه من الأمر كما تقدم مات بقلعة كرك، ثم نقل بعد سنة ونصف إلى تربة والده، وتملك بعد الكرك أخو خضر. سنة تسع وسبعين وست مائة فيها تحارب المصريون والشاميون، وقاتل سنقر الأشقر بنفسه قتالاً ظهرت في شجاعته. لكن خامر عليه كثر عسكره وخذلوه، وبقي في طائفة قليلة، فانصرف ولم يتبعه أحد، ونزل المصريون في خيام الشاميين، وحكم مقدم مهنا بدمشق، وسار سنقر إلى الرحبة، وجاء تقليد دمشق لحسام الدين لاجين المنصوري وجعل للسفح من السلطان عمن قام مع سنقر، ثم توجه هو إلى سواحل الشام، فاستولى على بلدان كثيرة، ثم بعد أيام وصلت التتار إلى حلب، فماتوا ووضعوا السيف، ورموا النار في المدارس، وأحرقوا منبر الجامع، وأقاموا يومين، ثم ساقوا المواشي والغنائم. وفي آخر السنة سار السلطان إلى الشام غازياً فنزل قريباً من عكا، فخضع له أهلها، وراسلوه في الهدنة، وجاء إلى خدمته عيسى بن مهنا، وصفح عنه وكرمه.

سنة ثمانين وست مائة

وفيها توفي محمد بن داود البعلبكي الحنبلي وفيها توفي الفقيه المعمر أبو بكر بن هلال الحنفي رحمهما الله تعالى. وفيها توفي أبو القاسم بن الحسين الحلبي الرافضي، الفقيه المتكلم شيخ الشيعة، وعالمهم. سكن حلب مدة، وصفع بها لكونه سب الصحابة. سنة ثمانين وست مائة فيها قبض السلطان على جماعة من الأمراء، فهرب السعدي والهاروني إلى عند سنقر، ودخل السلطان دمشق، وبعث عسكراً حاصروا شيراز، وأخذوها فرضي سنقر، وصالح السلطان، فأطلق له عدة بلدان منها أنطاكية وغيرها. وفي رجب كانت وقعة حمص. أقبل سلطان التتار يطوي البلاد بجيوشه من ناحية حلب، وسار السلطان بجيوشه، فالتقوا شمالي تربة خالد بن وليد، وكان ملك التتار في مائة ألف، والمسلمون في خمسين ألفاً أو دونها، فحملت التتار، واستظهروا واضطربت ميمنة المسلمين، ثم انكسرت الميسرة مع طرف القلب، وثبت السلطان بحلقته، واستمرت الحرب من أول النهار إلى اصفرار الشمس، وحملت الأبطال بين يدي السلطان عدة حملات، وتبين يومئذٍ فوارس الإسلام الذين لم يخلفهم الوقت مثل سنقر، والوزيري السعدي، وأزدمر حسام الدين لاجين، وعلم الدويداري وغيرهم قال: واستغاث الخلق والأطفال، وتضرعوا إلى الله تعالى، فنزل المدد من الله تعالى والنصر وفتح الله، فانكسر أعداء الله، وأصيب ملكهم بطعنة يقال أنها من يد الشهيد أزدمر، وطلع من جهة الشرق عيسى بن مهنا، فاستحكمت هزيمتهم، وركب المسلمون أقفيتهم والحمد لله. وفيها توفي الشيخ المفسر العلامة المقرئ المحقق الزاهد القدوة موفق الدين أبو العباس يوسف بن حنين الشيباني الموصلي الكواشي. ولد بكواشة قلعة من نواحي الموصل، واشتغل حتى برع في القراءات والتفسير والعربية، وكان منقطع القرين ورعاً وزهداً وصلاحاً وتبتلاً، وله كشف وكرامات. وفيها توفي الزاهد القدرة الشافي أبو الحسين علي بن أحمد الجوزي. صاحب حال وكشف وعبادة وتبتل. وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب العلائي الشافعي المصري، ولي قضاء الديار المصريه نحو سنه، ثم عزل وتوفي يوم عاشوراء. وفيها توفي ابن سني الدولة قاضي القضاة أحمد ابن قاضي القضاة يحيى الدمشقي الشافعي، ولي القضاء، ثم عزل بعد سنة بابن خلكان، ثم سكن مصر وصودر، ثم وقضاء حلب، وكان يعد من كبار الفقهاء العارفين بالمذهب مع الهيبة والتحري. وفيها توفي شيخ الإسلام قاضي القضاة المعروف بابن رزين تقي الدين أبو عبد محمد بن الحسين العامري الحموي الشافعي، ولد سنة ثلاث وست مائة، واشتغل من الصغر، وحفظ التنبيه والوسيط والمفصل والمستصفى للغزالي وغير ذلك، وبرع في الفقه والعربية والأصول، وشارك في المنطق والكلام والحديث وفنون من العلوم وأفتى، وله ثمان عشر سنة، أخذ الفقه عن ابن الصلاح، والقراءات عن السخاوي، وكان يفتي بدمشق في أيام ابن الصلاح، ويؤم بدار الحديث، ثم ولي الوكالة في أيام الناصر مع تدريس الشامية، ثم تحول إلى مصر، واشتغل ودرس بالظاهرية، ثم ولي قضاء القضاة، فلم يأخذ عليه رزقاً وتديناً وورعاًً، وتفقه به عدة أئمة، وانتفعوا بعلمه وهديه وشيمه وورعه، وتوفي في ثالث رجب. وفيها توفي الحافظ أبو حامد المعروف بابن الصابوني محمد بن علي شيخ دار الحديث النورية حصل الأصول، وجمع وصنف. وفيها توفي الشاعر المشهور يوسف بن لؤلؤ من كبار شعراء الدولة الناصرية. سنة إحدى وثمانين وست مائة وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد الإربلي الشافعي المعروف بابن خلكان صاحب التاريخ، ولد سنة ثمان وست مائة، وسمع البخاري من مكرم، وأجاز له المؤيد الطوسي وجماعة، وتفقه بالموصل على الكمال بن يونس، وبالشام على ابن شداد، ولقي كبار العلماء، وبرع في الفضائل والآداب، وسكن مصر مدة، وناب في القضاء، ثم ولي قضاء الشام عشر سنين معزولاً به عز الدين ابن الصائغ، وعزل بعز الدين المذكور، فأقام سبع سنين معزولاً بمصر، ثم رد إلى قضاء الشام، وعزل به ابن الصباغ وتلقاه يوم دخوله نائب السلطنة، وأعيان البلد، وكان يوماً مشهوداً قل أن رأى قاضٍ مثله. وكان عالماً بارعاً عارفاً بالمذهب وفنونه. شديد الفتاوى جيد القريحة. وقوراً رئيساً، حسن المذاكرة، حلو المحاضرة، بصيراً بالشعر، جميل الأخلاق سرياً ذكياً إخبارياً عارفاً بأيام

الناس. له كتاب وفيات الأعيان، وهو من أحسن ما صنف في هذا الفن. قلت: ومن طالع تاريخه المذكور، طلع على كثرة فضائل مصنفه، وما رأيته يتتبع في تاريخه إلا الفضلاء، ويطنب في تعديد فضائلهم من العلماء خصوصاً علماء الأدب والشعراء، وأعيان أولى الولايات، وكبراء الدولة من الملوك والوزراء والأمراء، ومن له شهرة وصيت في الورى. لكنه لم يذكر فيه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا من التابعين رحمة الله عليهم، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثيرة من الناس إلى معرفة أحوالهم. كذا قال في خطبته قال: وكذلك الخلفاء لم أذكر أحداً منهم اكتفاء بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب. قلت: كأنه يعني بالخلفاء المذكورين الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم، وما كان حاجة إلى ذكرهم، فإنه قد ذكر أنه لم يذكر أحداً من الصحابة، وكان حقهم أن يذكرهم قبل التابعين. بل قبل الصحابة، وكلامه هذا يوهم أنه لم يذكر أحداً من الخلفاء الذين هم الملوك من بني العباس وغيرهم، ولي كذلك بل قد ذكرهم، فليفهم ذلك فإنه موهم. رجعنا إلى تمام كلامه قال: لكن ذكرت جماعة من الأفاضل الذين شاهدتهم، ونقلت عنهم، أو كانوا في زمني، ولم أرهم ليطلع على حالهم من يأتي من بعدي. قلت: وكلامه هذا أيضاً ليس بصائب، فانه يوهم أنه لم ينقل إلا عن الذين عاصرهم، وليس بصحيح، فإنه لم يقتصر على ذلك بل هو كما ذكر في خطبته قبل هذا قال: ولم أقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة مثل العلماء والملوك والأمراء والوزراء والشعراء، بل كل من كان له شهرة بين الناس، ويقع السؤال عنه قال: وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمه، أو نادرة شعر أو رسالة ليتفقه متأمله، ولا يراه مقصوراً على أسلوب واحد، فيمله والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إن كان دً. وذكر أنه كان ترتيبه لتاريخه المذكور في شهور سنة أربع وخمسين وست مائة بالقاهرة المحروسة. ثم قال في آخره: نجز الكتاب بحمد الله وعونه في يوم الاثنين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وست مائة بالقاهرة المحروسة، ثم قال: يقول الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان مؤلف هذا الكتاب: إنني كنت قد شرعت في هذا الكتاب في التاريخ المذكور في أوله على الصورة التي شرحتها هناك مع استغراق الأوقات في فصل القضايا الشرعية والأحكام الدينية بالقاهرة المحروسة، فلما انتهيت فيه إلى آخر ترجمة يحيى بن خالد حصلت لي حركة إلى الشام المحروس في خدمة

الركاب الشريف العالي المولوي السلطان المؤيدي المنصوري الغياثي المالكي الظاهري بيبرس قسيم أمير المؤمنين حمد الله تعالى سلطانه، وشيد بدوام دولته قواعد الملك، وثبت أركانه، فدخلنا دمشق سابع ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وست مائة، وقلدني الأحكام بالبلاد الشامية يوم الخميس ثامن ذي الحجة من السنة المذكورة، فتراكمت الأشغال، وكثرت الموانع الصارفة عن إتمام هذا الكتاب، فاقتصرت على ما كان قد أثبته من ذلك، وختمت الكتاب، واعتذرت في آخره بهذه الشواغل عن إكماله، وقلت: إن قدر الله تعالى مهلة في الأجل، وتسهيلاً في العمل استأنفت كتاباً يكون جامعاً لجميع ما تدعو الحاجة إليه، ثم حصل الانفصال عن الشام والرجوع إلى الديار المصرية، وكانت مدة المقام بدمشق المحروسة عشر سنين لا تزيد ولا تنقص، فلما وصلت إلى القاهرة صادفت بها كتباً كنت أوثر الوقوف عليها، وما كنت أتفرغ لها، فلما صرت أفرغ من حجام ساباط بعد أن كنت أشغل من ذات النحيين كما يقال في هذين المثلين. طالعت تلك الكتب وأخذت منها حاجتي، ثم تصديت لإتمام هذا الكتاب حتى كمل على هذه الصورة، وأنا على عزم الشروع في الكتاب الذي وعدت به إن قدر الله عز وجل ذلك، والله تعالى يعين عليه، ويسهل الطريق المؤدية إليه. فمن وقف على هذا الكتاب من أهل العلم، ورأى فيه شيئاً من الخلل، فلا يعجل بالمؤاخذة، فإني توخيت فيه الصحة حسب ما ظهر لي مع أنه كما يقال: أبى الله أن يصح إلا كتابه. لكن هذا جهد المقل، وبذل الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الإنسان ما لا تصل قدرته إليه، وفوق كل في علم عليم، فالله يستر عيوبنا بكرمه الضافي، ولا يكدر علينا ما منحنا به من مشرع إعطائه النمير الصافي. إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه مع حذفي لألفاظ يسيرة منه كقوله السلطان الماجدي المرابطي الشاعري المنعمي المحسني مما يطنب فيه من مدح أهل الدنيا من الملوك وغيرهم، وألفاظ أخرى لا تدعو الحاجة إلى استيعابها ذكراً، وغفرانك اللهم غفراً، ثم عزل القاضي شمس الدين المذكور بابن الصباغ ثانياً واستمر معزولاً وبيده المدرسة الأمينية والنجيبية إلى أن توفي في شهر رجب في السنة المذكورة، وشيعه خلق كثير. وقد روى عنه قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري وبه تخرج الشيخ أبو الحجاج المزي، ومؤرخ الشام الحافظ علم الدين البرزالي وخلق، ومن شعر القاضي شمس الدين ابن خلكان: أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم رحاله

سنة اثنتين وثمانين وست مائة

يزجر العيس طاوياً يقطع المهمه ... عسفاً سهوله ورماله يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله هذه سنة المحبين يبكون ... على كل منزل لا محاله مع أبيات أخرى منها. يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله فصلونا إن شئتم، أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله وفي السنة المذكورة توفي الشيخ عبد الله بن أبي بكر الخريبي، بقية شيوخ العراق. كان صاحب أحوال وكرامات، وله أصحاب وأتباع، تفقه وسمع الحديث قال الذهبي: كان شيخنا شمس الدين الدباهي يحكى عنه عجائب كرامات. وفيها توفي الشيخ الإمام زين الدين عبد السلام بن علي المالكي القاضي المقري شيخ المقرئين، برع في الفقه وعلوم القران والزهد والإخلاص، وقرأ القراءات على السخاوي، وولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح اثنتين وعشرين سنة، وقرأ عليه خلق كثير، وولي القضاء تسعة أعوام، ثم عزل نفسه يوم موت رفيقه شمس الدين بن عطار، واستمر على التدريس والإقراء، وتوفي في رجب رحمه الله تعالى. وفيها هلك طاغية التتار والمغل، كان نصرانياً خرج يوم المصاف على حمص، وحصل له ألم وغم بالكسرة، واعتراه فيما قبل صرع متدارك كما اعترى أباه هولاكو، وهلك في أوائل المحرم إلى لعنة الله تعالى. سنة اثنتين وثمانين وست مائة فيها توفي الشهاب ابن تيمية أبو حامد عبد الحليم بن عبد السلام الحزاني الحنبلي، تفقه على والده، ثم انتقل ورحل في صغره، فسمع بحلب من جماعة، وصار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بحد موت والده، ثم انتقل بآله وأصحابه إلى بلاد الشام. وفيها توفي الشيخ الإمام شمس الدين عبد الرحمن ابن القدوة الزاهد محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي تفقه على عمه الموفق، وبحث عليه المقنع وعرضه،

سنة ثلاث وثمانين وست مائة

وصنف له شرحاً في عشر مجلدات، قيل: وكان منقطع القرين عديم النظير علماً وفضلاً وجلالة، وقد جمع المحدث نجم اللين إسماعيل بن الخباز له سيرة في مائة وخمسين جزءاً لكن ثلاثة أرباعها لا تعلق له بترجمته الأعلى سبيل الاستطراد. وفيها توفي العماد الموصلي أبو الحسن بن يعقوب المقرئ الشافعي، انتهت إليه رياسة الإقراء، وكان فصيحاً مفوهاً فقيهاً مناظراً. كرر على الوجيز للغزالي. وفيها توفي الرشيد الصدر الأوحد المحيي ابن القلانسي أبو الفضل يحيى بن علي التميمي الدمشقي المقدسي. وفيها توفي المفتي شمس الدين أحمد الشافعي، مدرس الشامية، ولي نيابة القضاء عن ابن الصائغ، وكان بارعاً في المذهب. متين الديانة خيراً ورعاً رحمه الله. سنة ثلاث وثمانين وست مائة في شعبان كانت الزيادة الهائلة بدمشق بالليل هكذا هو الزيادة في الأصل الذي وقفت عليه من الذهبي، وما يظهر لي معنى صحيح، ولعله الزلزلة، والله أعلم، فخربت البيوت وانطمت الأنهار. وفيها توفي ابن المنير الإمام العلامة ناصر الدين أحمد بن محمد الجذامي الاسكندراني المالكي قاضي الإسكندرية وفاضلها في الفقه والأصول والعربية والبلاغة، وصنف التصانيف. وفيها توفي ابن البارزي قاضى القضاة، وابن قاضيها، وأبو قاضيها نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله الجهني، الشافعي، كان بصيراً في الفقه والأصول والكلام والأدب، وله شعر بديع، وديانة متينة، وصدق وتواضع، توفي بتبوك في ذي القعدة، فحمل إلى المدينة الشريفة. وفيها توفي عيسى بن مهنا ملك العرب بالشام، ورئيس أهل الفضل؛ كانت له المنزلة العالية عند السلطان، وصيت شائع في البلدان قلت: ومن صيته الشهير والتفخيم له والتعظيم ما وقع له من بعض قومه في بعض الأيام، وفلك أتي كنت يوماً ماراً إلى القرافة، فلما بلغت تحت قلعة السلطان، رأيت جماعة كثيرين مجتمعين على شيء،

فاستشرفت نفسي إلا الإطلاع على ذلك الشيء، فإذا هو رباب يسمعها عرب مهنا من واحد منهم، فلما دنوت منهم أنكرت، فقلت له: اسكت فما سكت به صاحب الرباب، وعرفت أنه لا يلتفت إلى قولي لكوني فقيراً حقيراً لا أعرف في ذلك المكان، وهم وفد عزيز كريم على السلطان، فهولت عليه بالصياح في قولي له اسكت مع تكرير هذه الكلمة حتى أوهمته أن لي شوكة فرفع رأسه إلي وسكت، فقلت له: أما علمت أن هذا الفعل حرام، فقال: من حرمه، فقلت: الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إلا على آل عيسى، فعجبت من قوله، وشدة جهله، وعرفت أن ما لعلته طباً شافياً، ولا طبيباً مداوياً، فذهبت وخليتهم، توفي عيسى المذكور في الربيع الأول، وقام بعده ولده الأمير حسام الدين مهنا صاحب تدمر. وفيها توفي ابن الصائغ قاضي القضاة أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري الدمشقي الشافعي، كان عارفاً بالمذهب بارعاً في الأصول والمناظرة، درس بالشامية مشاركة مع شمس الدين المقدسي، ثم ولي وكالة بيت المال، ثم ولي قضاء الشام، وعزل به ابن خلكان، وظهر منه نهضة وشهامة وقيام في الحق بكل ممكن مع زعارة وفظاظة وإهمال بجانب أكابر من أهل زمانه، فقاموا عليه ناهضين لخفض شأنه، متعرضين له مقابلين بالبغضاء ساعين فيه حتى عزل عن القضاء بالذي عزل به ابن خلكان، وأنشد لسان حال الزمان: أيها الإنسان كما تدين تدان، وذلك في سنة سبع وسبعين، ثم أعيد إلى منصبه في سنة ثمانين، ثم أنهم قاموا له أيضاً وعرضوه بجمر الغضا. نعوذ بالله من سوء القضا فامتحن في سنة اثنتين وثمانين، وأركبوه متن الأخطار، وأخرجوا عليه محضراً بنحو مائة ألف دينار، ولم يزل يلقى منهم شدة وبلاء إلى أن خلصه الله تعالى، وولوا مكانه القاضي بهاء الدين ابن الزكي، وانقطع هو بمنزله بعد ما تمت فصول على ما حكي في ربيع الآخر، وابن خلكان في سنة إحدى كما تقدم بتقدير في الحكمة البالغة، والحكم المحكم. وفيها توفي الملك المنصور صاحب حماة ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، تملك بعد أبيه سنة اثنتين وأربعين، وعمره عشر سنين رعاية لأمه الصاحبة بنت الكامل، وكان مذموماً في ديانته على ما قيل الله تعالى يسامحه. وفيها توفي السيد الإمام الكبير الشأن، القدوة المشكور الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان التلمساني قدم شاباً فسمع بها من محمد بن عمار

سنة أربع وثمانين وست مائة

والصفراوي، كان عارفاً بمذهب مالك راسخ القدم في العبادة والنسك سالكاً في محاسن المسالك، قال الذهبي: كان أشعرياً منحرفاً على الحنابلة، هذه عبارة فيها من الغض له ما فيها كما عرف من عادته من التنقيص من أئمة منهج الحق وسادته، وكانت وفاته في رمضان، ودفن بالقرافة، وشيعه أمم قدس الله روحه، قلت: وله مناقب مشهور ومشكورة. سنة أربع وثمانين وست مائة فيها توفي النسفي الإمام العلامة برهان الدين محمد بن محمد بن محمد الحنفي المتكلم صاحب التصانيف في الخلاف يتخرج به خلق، وطالت حياته. كان مولده في ست ست مائة. وفيها توفيت ست الغرب أم الخير بنت يحيى الدمشقية الكندية، سمعت من مولاهم التاج الكندي، وحضرت سماع الغيلانيات على ابن طبرزد. وفيها توفي الصائن مقرئ بلاد الروم المجود الضرير أبو عبد الله محمد البصري، قرأ القراءة، وكان بصيراً بمذهب الشافعي خيراً صالحاً. وفيها توفي شبل الدولة الطواشي الأمير أبو المسك كافور الصوابي الصالحي خزندار قلعة دمشق، روى عن جماعة، وكان محباً للحديث عاقلاً ديناً. وفيها توفي ابن شداد الرئيس المنشئ البليغ محمد بن إبراهيم الأنصاري، الحلبي الذي جمع السيرة للملك الظاهر، وجمع تاريخاً لحلب. وفيها توفي الحراني الأمير ناصر الدين محمد ابن الافتخار، والي دمشق ومشيد الأوقاف، كان من عقلاء الرجال والبهائم مع الفضيلة والديانة والمروءة، الكاملة النافذة في الدولة استعفى من الولاية، فأعفي، ثم أكره على نيابة حمص، فلم تطل مدته بها، وتوفي فنقل إلى دمشق. وفيها توفي الشيخ الجليل شرف الدين محمد بن الحسن الإخميمي، نزيل سفح قاسيون، كان صاحب توجه وتعبد وزهد، وللناس فيه عقيدة عظيمة.

سنة خمس وثمانين وست مائة

سنة خمس وثمانين وست مائة فيها أخذت الكرك من الملك مسعود خضر ابن الملك الظاهر، ونزل منها وسار إلى مصر. وفيها توفي الشريشي العلامة جمال الدين محمد بن أحمد البكري الموامكي الأندلسي الفقيه المالكي الأصولي المفسر كان بارعاً في ذلك مهذباً محققاً للعربية، عارفاً بالكلام والنظر، جيد المشاركة في العلوم، ذا زهد وتعبد وجلالة. وفيها توفي ابن الزكي قاضي القضاة محيي الدين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة زكي الدين علي ابن قاضي القضاة منتجب الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي الشافعي. سنة ست وثمانين وست مائة فيها توفي ابن عساكر ذو المجد والمفاخر الإمام الزاهد المحدث الماهر أمين الدين أبو اليمن. عبد الصمد بن عبد الوهاب بن زين الأمناء الدمشقي. المجاور بمكة روى عن جده، وعن الشيخ الموفق وطائفة، وكان صالحاً خيراً قوي المشاركة في العلم بديع النظم، طيف الشمائل، صاحب توجه وصدق جاونى أربعين سنة، وتوفي وقد نيف على السبعين، قلت: ومن نظمه وقد دعاه الوزير ذو المحاسن والغرائب الحسناء الموصوف المعروف بابن حنا إلى التدريس لما بلغه من فضله وجميل وصفه الأسنى قصيدة من جملتها هذه الأبيات: يا من دعاني إلى أبوابه كرماً ... إني إلى باب بيت الله أدعوكا ومن حداني إلى تدريس مدرسة ... إني إلى السعي والتطواف أحدوكا أبيت لله جاراً لا ألوذ بما ... شيء سواه، وهذا القدر يكفيكا وأنثني طائفاً من حول كعبته ... أرى ملوك الدنا عندي مماليكا وفيها توفي قطب الدين ابن القسطلاني الكبير المحدث الشهير محمد بن أحمد بن علي المكي ثم المصري، ولد سنة أربع عشرة وست مائة، وسمع من شيخ عصره عارف بالله

سنة سبع وثمانين وست مائة

إمام الطريقة، ولسان الحقيقة شهاب الدين السهروردي، ومن الإمام المحدث أبي الحسن علي بن البنا وجماعه، وتفقه وأفتى، ثم رحل سنة تسع، وسمع ببغداد ومصر والشام والجزيرة حتى بلغني أن له ألف شيخ، وكان ممن جمع بين العلم والعمل والورع وخوف الله عز وجل، وولي مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد قدومه إلى الديار المصرية بعد أن طلب من مكة المشرفة على ما ذكر بعض من له بالتواريخ معرفة، وأبوه الشيخ أبو العباس القسطلاني المتقدم ذكره، المعروف بزاهد مصر، تلميذ الشيخ الكبير الولي الشهير أبي عبد الله القرشي، وأمه المرأة الولية الصالحة زوجة الشيخ القرشي المذكور. تزوجها أبوه بعد وفاة الشيخ بإشارة من الشيخ بعد موته، فولدت له ولداً مباركاً، كان مكاشفاً من صغره، ثم توفي فلما حضرته الوفاة حزنوا عليه، فقال لهم: لا تحزنوا، فسوف يأتي بعدي لكم ولد عالم صالح يكون من صفته كذا وكذا، فولدت أمه بعده الشيخ الإمام قطب الدين المذكور ذا المحاسن، والفضل المشهور. وفيها توفي البدر بن مالك أبو عبد الله حمد ابن العلامة جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي المجياني، ثم الدمشقي، شيخ العربية وإمام أهل اللسان، وقدوة أرباب المعاني والبيان. قال الذهبي: كان ولده الملقب بدر الدين المذكور ذكياً عارفاً بالمنطق والأصول والنظر، لكنه كان لعاباً معاشراً توفي بالقولنج في ثامن المحرم، ولم يتكهل. قلت: هكذا ذكر الذهبي، وهو خلاف ما رأيت من ترجمته في شرح الألفية، فإنه مكتوب فيه شرح الخلاصة في النحو للشيخ الإمام العالم العامل الورع الزاهد حجة العرب لسان الأدب قدوة البلغاء والفصحاء بدر الدين محمد ابن الإمام العالم حجة العرب أبي عبد الله بن مالك الطائي، هكذا رأيت في الشرح المذكور، والله أعلم به بجمع الأمور، وعلى الجملة فقط أخطأ أحد المترجمين إذ لا يمكن الجمع بين وصفين متناقضين، فإن كان كما ذكره القادح، فكان حق المادح أن يمدحه بما فيه من العلم دون ما ذكر من كونه عاملاً ورعاً زاهداً، وإن كان كما ذكره المادح، فالذام الواصف له بالوصف المذكور مرتكب إثماً عظيماً، فإن مدحه فيه يبقى على تعاقب الدهور، لكن الذهبي معروف بمعرفة علم التاريخ، وأحوال أوصاف الناس الظاهرة، ولكن كان ينبغي على تقدير صحة قوله أن يعرض بذمه، ووصفه القبيح، ولا يصرح به هذا التصريح. سنة سبع وثمانين وست مائة فيها توفي الإمام المحدث الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز الرعيني الأندلسي المالكي، سمع من جماعة، وسكن دمشق، وقرأ الفقه، وتقدم في الحديث مع الزهد،

والعبادة والإيثار، والصفات الحميدة، والحرمة والجلالة ناب في القضاء، ثم ولي مشيخة دار الحديث الظاهرية. وفيها توفي الشيخ إبراهيم بن معصار أبو إسحاق الجعبري الزاهد الواعظ المذكور، روى عن السخاوي، وسكن القاهرة، وكان لكلامه وقع في القلوب لصدقه وإخلاصه، وصدعه بالحق. قلت: هذه ترجمه الذهبي بحروفها، وهي ناقصة في حقه قاصرة، بلى غاضة من قدره ومناقبه الفاخرة، فإنه الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله. الخبير ذو المقامات العلية، والأحوال السنية، والأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والآيات الباهرة، والمناقب الزاهرة، واللسان البارع، والمقال الصادع، والنور الساطع، والسيف القاطع سيرته مشكورة، وكراماته مشهورة، وله بدايات هائلة ونهايات طائلة. ومن كراماته أنه جاء قبل موته إلى موضع قبره، ثم قال: يا قبير قد جاءك زبير، ومكث هنالك ليس به علة ولا مرض، ثم توفي عن قريب، ووصل إلى المنى بلقاء الله تعالى عز وجل والفرض. وحضر يوماً ميعاده الشيخ العارف ذو المعارف واللطائف أبو محمد المرجاني مستخفياً. فقال في أثناء كلامه: جاءكم المرجاني، وكان بعض الأمراء قد ترك ولازم مجالسته مده من الزمان، فقطعوا خيره من الديوان، فقال له الأمير المذكور: إيش ترى في هذا اسكت عنهم في هذا الأمر أم أتكلم. فقال له الشيخ: لا ما تسكت، ثم استدعى الشيخ بورقة، وكتب فيها، أيتها الكلاب الزويرية اتركن من اللحم على العظم بقية تأكلها الكلاب البلدية، ثم أرسل بها إلى أهل الدولة، وكان السلطان هو الملك الظاهر، فوقف عليها كبراء الدولة، ثم أوقفوا عليها السلطان المذكور، فغضب وهم للسطوة، فقيل له: إن هذا الشيخ من صفته كيت وكيت، فسكت وأعادوا لذلك الأمير خيره هذا معنى القضية، وإن اختلف بعض الألفاظ، وكان مذهبه المحو الكلي، وإظهار الإفلاس والعدم، وهو القائل في معارضة قول الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه: أنا بلبل الأفراح املأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب وهذا البيت من جملة أبيات كثيرة قدمتها في ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله عنه فقال الشيخ المذكور في معارضة البيت المذكور: أنا صرد المرحاض أملأ بيره ... نتناً وفي البيداء كلب أجرب

ودخل عليه يوماً بعض أصحابه، فقال له: يا سيدي سمعت بيتين من منشد فأعجباني. فقال له: ما هما فقال: وقائلة أنفقت عمرك مسرفاً ... على مسرف في تيهه ودلاله فقلت لها: كفي عن اللوم أنني ... شغلت به عن هجره ووصاله فقال له الشيخ: ما هذا مقامك ولا مقام شيخك فأطرق التلميذ، ثم رفع رأسه، وقال له يا سيدي وقع لي بيتان غيرهما فقال: قلهما. فقال: وقائلة طال انتسابك دائماً ... إليه فهل يوم خطرت بباله فقلت لها: ما كنت أهلاً لهجره ... فما تعتريني شبهة في وصاله ومما روينا له ما أنشدنا عنه ولده السيد الجليل الشيخ ناصر الدين: أحن إلى لمع السراب بأرضكم ... فكيف إلى ربع به مجمع السرب فوا أسفي دون السراب وإنني ... أخاف بأن يقضي على ظمأي نحبي ومذبان ذاك الركب عني لم أزل ... أعفر من الخد في أثر الترب قلت: فهذا ما اقتصرت عليه في ترجمته، وهو قدر حقير في وصف جلالته مخل، فذكر محاسنه يحتاج إلى تصنيف مستقل. وفيها توفي السيد الجليل الولي المشكور المشهور بالأسرار والكرامات والإكرام الشيخ ياسين المغربي الحجام، كان من أولى أنفاس الصادقة والأحوال والكشوفات الخارقة، متستراً بالحجامة عن ظهور الولاية والكرامة، وكان جراحاً على باب الجابية، وكان السيد الجليل الشيخ الإمام محيي الدين النواوي رحمة الله تعالى يزوره، ويتبرك به ويتلمذ له، ويقبل إشاراته، ويمثل ما أمره به. ومن جملة إشاراته المباركة أنه أمر الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى أن يرد الكتب المستعارة إلى أهلها، وأن يعود إلى بلاده ويزور أهله، ففعل ذلك، ثم توفي عند أهله رحمه الله تعالى قلت: ومثل هذا السيد الذي كان الشيخ الإمام العالي المقام الممدوح بين الأنام محيي الدين النواوي يتبرك به ويتلمذ له ويتأدب معه ينبغي أن يفخم ويعظم ويبجل ويكرم، وأما قول الذهبي: والحاج ياسين المغربي الحجام الأسود، كان جراحاً، وكان النواوي يزور ويتلمذ له بغير لائق بقدرهما.

سنة ثمان وثمانين وست مائة

وكانت وفاة الشيخ ياسين المذكور في شهر ربيع الأول، وقد قارب الثمانين نفعنا الله به، وبجميع الصالحين آمين. وفيها توفي ابن النفيس العلامة علاء الدين علي بن أبي الحزام القرشي الدمشقي شيخ الطب بالديار المصرية، وصاحب التصانيف، وأحد من انتهت إليه معرفة الطب مع الذكاء المفرط، والذهن الخارق، والمشاركة في الفقه والأصول والحديث والعربية والمنطق. سنة ثمان وثمانين وست مائة في ربيع الأول منها نزل السلطان الملك المنصور مدينة طرابلس، ودام الحصار والقتال، ورمى بالمجانيق والكبار، وحفر النقوب ليلاً ونهاراً إلى أن افتتحها بالسيف في رابع ربيع الآخر، وغنم المسلمون أموالاً لا تحد ولا توصف، وكان سورها منيعاً قليل المثل، وهي من أحسن المدائن وأطيبها، فأخربها وتركها خاوية على عروشها، ثم أنشأوا مدينة على ميل من شرقيها، وجاءت ردية الهوا والمزاج على ما ذكر بعضهم. وفيها يوم عرفة توفي الشيخ العماد أحمد بن العماد إبراهيم المقدسي الصالحي، سمع من جماعة، واشتغل وتفقه، ثم تفقر وتجرد وصار له أتباع ومريدون طعن فيهم الذهبي، والله أعلم. وفيها توفي العلم ابن الصاحب أبو العباس أحمد بن يوسف المصري اشتغل ودرس وتميز، ثم تفقر وتجرد وغض منه الذهبي أيضاً، ثم قال: ونوادره مشهورة، وروائده حلوة، وله أولاد رؤساء. وفيها توفيت زينب بنت مكي الحراني ابن علي ابن الكامل، الشيخة المعمرة العابدة أم أحمد، سمعت من حنبل، وابن طبرزد، وست الكتبة وطائفة، وازدحم عليها الطلبة، وعاشت أربعاً وستين سنة. وفيها توفي الفخر البعلبكي المفتي عبد الرحمن بن يوسف، سمع من القزويني وابن الزبيدي، وجماعة، وتفقه بدمشق على النقي بن العز وغيره، وعرض كتاب علوم الحديث على مؤلفه الشيخ الإمام ابن الصلاح، وأخذ الأصول عن السيف الآمدي، وتخرج به

سنة تسع وثمانين وست مائة

جماعة، وكان من العلماء الصالحين العاملين. وفيها توفي شمس الدين الأصفهاني الأصولي المتكلم العلامة أبو عبد الله محمد بن محمود نزيل مصر. صاحب التصانيف، له كتاب القواعد في العلوم الأربعة الأصلين والخلاف والمنطق وكتاب غاية المطلب في المنطق، وله يد طولى، في العربية. درس في مشهد الشافعي، ومشهد الحسين، وتخرج والمصريون، وتوفي في رجب منيفاً على السبعين. سنة تسع وثمانين وست مائة فيها توفي السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالي، وفيها توفي أبو الفتوح قلاوون التركي الصالحي النجمي، كان من أكابر الأمراء زمن الظاهر، وتملك في رجب سنة ثمان وسبعين، وكسر التتار على الحمص، وغزا الفرنج غير مرة، وتوفي في سادس ذي القعدة بالمخيم بظاهر القاهرة، وقد عزم على الغزاة، ثم دفن بتربته بين القصرين. وفيها توفي خطيب دمشق عبد الكافي بن عبد الملك الدمشقي الشافعي المفتي، سمع من ابن صباح، وابن الزبيدي وجماعة، وناب في القضاء مدة، وكان ديناً حسن السمت للناس فيه عقيدة كبيرة. وفيها توفي الرشيد الفارقي أبو حفص عمر بن إسماعيل بن مسعود الشافعي الأديب. سمع من الفخر، وابن الزبيدي وغيرهما، وكان أديباً بارعاً منشئاً بليغاً شاعراً مفلقاً لغوياً محققاً. درس بالناصرية مدة، ثم بالظاهرية، وتصدر للإفادة، وخنق في بيته بالظاهرية، وأخذ ماله ودرس بعده علاء الدين ابن بنت الأغر. سنة تسعين وست مائة دخلت والسلطان هو الملك الأشرف ابن المنصور، وقد فوض الوزارة إلى شمس الدين بن سعلوس، ونيابة الملك إلى بدر الدين بيدراً، فسار بالجيوش إلى الشام، ونزل إلى عكا في رابع ربيع الآخر، وجد المسلمون في حصارها، واجتمع عليها أمم لا يحصون، فلما استحكمت النقوب، وتهيأت أسباب الفتح أخذ أهلها في الهزيمة في البحر، فافتتحت بالسيف بكرة الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وصير المسلمون سماءها أرضاً، وطولها عرضاً، وأخذ المسلمون بعد يومين مدينة صور بلا قتال لكون أهلها هربوا في البحر لما علموا بأخذ عكا، وسلمها الرعية بالأمان، وأخربت أيضاً، ثم افتتح الشجاعي صيدا في

رجب وأخربت، ثم افتتح بيروت بعد أيام وهدمها، فلما رأى أهل حصن عثليث بالمثلثة بعد العين المهملة مكررة في آخره خلو الساحل من عباد الصليب. أحرقوا حواصلهم، فهربوا في البحر، فهدمه المسلمون، وكذلك فعل بأهل طرسوس، فتسلمها الطباخي، ولم يبق للنصارى بأرض الشام معقل ولا متحصن. وفيها توفي عن اثنتين وثمانين سنة الإمام الجليل السيد الجليل ذو المجد الأثيل بركة الزمن، وفقيه اليمن المعروف، بابن عجيل الولي الكبير العارف بالله الشهير ذو السيرة الحميدة، والمناقب العديدة، والبركات الظاهرة، والكرامات الباهرة أبو العباس أحمد بن موسى بن علي بن عمر الذوالي بالذال المعجمة؛ كان أبوه عالماً بأصول الفقه وفروعه، وانتهت إليه رياسة الفقه والفتوى، حتى كان يقول شيخه الكرماني في إجازته علامة اليمن، وأعجوبة الزمن، وكان عمه محمد فقيها في الفرائض والحساب، وكان عمه وشيخه إبراهيم عالماً بالحديث والعربية والفقه وأصوله، وكان أبوه موسى المذكور يصحب الشيخ والفقيه، وكان إذا زارهما يقولان له أو أحدهما: أرحب يا أبا أحمد، ويبشرانه أنه يولد له ولد يكون له شأن عظيم. قلت: وبلغني أن الشيخ الحكمي قال له: يكون أحمد شمس زمانه لا كشموسنا، وبلغني أيضاً أنهما أتيا يوم السابع عن ولادة الفقيه أحمد المذكور، وأسرا إليه كلاماً في أذنه لم يدر الحاضرون ما هو، حتى سئل الفقيه أحمد عنه بعدما كبر. ما هو؟ فقال: أوصياني بذريتهما، وكان رضي الله تعالى عنه قد نشأ نشوءاً عجيباً، وظهرت فيه النجابة، ولاح عليه الفلاح، واستفاض في الناس أنه ما لعب ولا صبا، ولم يعرف له سوى الورع والزهد والعبادة، والاشتغال بالعلم، والاستفادة والإفادة. اشتغل على عمه إبراهيم ولازمه اثنتي عشرة سنة يقرأ فيها الفنون التي قد أتقنها مع خلو البال، والاعتزال لا يبطل الاشتغال في يوم جمعة ولا غيره، فبرع في العلوم خصوصاً الفقه، وله شيوخ غير عمه أخذ عنهم في مكة وهم جماعة. منهم الإمام محمد بن يوسف بن مسدي بفتح الميم وسكون السين وكسر الدال المهملتين المهلبي، والإمام سليمان بن خليل العسقلاني، والإمام إسحاق بن أبي بكر طبري وفي اليمن الفقيه الإمام محمد بن إبراهيم الفشلي، كل هؤلاء المذكورين خطوطهم في كتبه مسطورة. وأخذ عنه خلائق منهم الفقيه العلامة السيد الكبير الولي الشهير ذو المناقب الجليلة، المواهب الجزيلة، والكرامات الباهرة، والمحاسن الزاهرة أبو الحسن علي بن إبراهيم البجلي اليمني الساكن في شجينة بضم الشين المعجمة، وفتح الجيم، والنون وبينهما مثناة

من تحت ساكنه قرية من تهامة اليمن، كان يحج بقوافل اليمن بعد شيخه ابن عجيل المذكور أدركته وحججت معه، ولعلي المذكور كرامات يطول ذكرها، وفضائل يجل قدرها. قيل خرج من تحت يده نيف وثمانون مدرساً، وكان فقه كتاب المهذب على ذهنه، وله ولد اسمه إبراهيم أعني التلميذ المذكور، كان في العلم والصلاح والكرامات بمكان رفيع وفضل وسيع. ومن كراماته ما بلغني أنه زار مع أبيه مساجد الفتح غربي المدينة الشريفة، فنبحهم كلب هناك، فالتفت إليه إبراهيم المذكور، فتفل في وجهه، فمات الكلب، فغضب عليه أبوه لإظهاره مثل هذه الكرامة العظيمة من غير ضرورة دعت إلى ذلك. ومن كرامات والده الفقيه علي المذكور الداعية إليها الضرورة أن بعض الناس أودع امرأة وديعة، فماتت الامرأة، ولم يعلم بها أحد أين تركت الوديعة، فجاء صاحب الوديعة، فطلبها، فلم يجد من يعلمه بها، فجاؤوا إلى الفقيه علي المذكور، وذكروا له الحال، فقال: أروني قبرها، فذهبوا به إلى القبر، فوقف عليه ساعة واحدة، ثم سأل هل في بيتها شجرة حناء. قيل: نعم قال: احفروا تحت الشجرة، فالوديعة هناك. وكان رضي الله عنه يحج ويزور في شبابه على رجليه سنيناً كثيرة، وقدم في بعضها المدينة الشريفة وابن عجيل فيها، فخرج للقائه بأمر النبي عليه السلام له بذلك، فوجده عند المصلى سابع سبعة وقربته علي ظهره في قصة طويلة هذا مختصرها، وكانت له أيام زاهرة، وبركات ظاهرة، وإليه أشرت بقولي في ذكر شجينة قريته: وكم شجن قد حل بي من شجينة ... بحسن مليحات حوتها فواضل وممن أخذ عن ابن عجيل أيضاً الفقيه الإمام العالم العلامة أبو الحسن علي بن أحمد، المعروف بابن الصريدح، كان فقيهاً فاضلاً صالحاً مفيداً منتفعاً به. مررت عليه عند زيارتي لقبر ابن عجيل المذكور، وكان قويباً منه، فوجدته يدرس جماعة من الطلبة، فألقيت عليهم ثلاث مسائل، فوقفوا عن جوابها، ثم استمررت في سفري إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم بعد سنين كثيرة قدم حاجاً بعض طلبته، وهو الفقيه الفاضل الصالح العالم العامل أبو بكر، المعروف بدعسين بفتح الدال والسين، وسكون العين بينهما مهملات، وسكون المثناة من تحت قيل: النون، وهو لا يعرفني ولا أعرفه، فقال: قدم علينا شاب، وسألنا عن ثلاث مسائل، فلم نعرف جوابها، وفتشنا الكتب، فوجدنا جواب واحدة منها، وواحدة وجدنا فيها وجهين، وواحدة لم نجد لها جواباً، فضحكت عند ذلك، فعرف حيئذٍ أني كنت ذلك السائل، وابن الصريدح المذكور من بني الصريدح.

ومنهم الفقيه عبد الله بن أحمد الصريدح. تفقه على جد ابن عجيل المذكور علي بن عمر بن عجيل رحمهم تعالى. وممن أخذ عن ابن عجيل أيضاً الفقيه الإمام العلامة ذو الفهم الثاقب، والعلو والمناقب الفاضل البارع النجيب، قاضي القضاة رضي الدين الأديب اليمني اللخمي. ومنهم الفقيه الأجل العالم البارع المتفنن أبو الحسن علي بن عبد الله الجبرتي المشهور بالفرضي البارع في علم الفرائض، كثير من الناس يسمونه الزيلعي ومنهم ولد ابن عجيل المذكور الفقيه القدوة الصالح إبراهيم بن أحمد، وقد أدركته، وزرته، ووجدته يقرئ بنية له صغيرة. وممن روى عن ابن عجيل المذكور شيخنا الرواية إمام الحديث في زمانه رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري إمام المقام الشريف بمكة يروي عنه كتاب " المصابيح " في الحديث وهو يرويه عن عمه بسنده المثبت في الطباق، وكان يشير إلى شيخنا المذكور إذا طلب منه الدعاء بعض أهل مكة، ويقول: عندكم إبراهيم، وكان كثير التردد إلى الحج والزيارة. وله كرامات عديدة، وسيرة حميدة، وزهد وورع دقيق، واتقان للعلوم، وتحقيق وقدر كبير، وصيت شهير صارت بفضله الركبان إلى شاسع البلدان، ولعله كان يزيد على الشيخ الإمام رفيع المقام محيي الدين النواوي في ورعه وأدبه، وزهده، وتقشفه، فمعيشته كانت من الذرة الحمراء، والقطيب والمخيض من اللبن على تعاقب الدهور، وطول الزمن. وقد قال بعضهم في مثل أحمد بن موسى: في الأولياء كيحيى بن زكرياء في الأنبياء. كأنه أشار إلى ما ورد ما منا إلا من عصي أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكرياء، وكان رضي الله تعالى عنه فيه من المحاسن والآداب ما يحتاج ذكره إلى تصنيف كتاب. ونقتصر من ذكر كراماته الكثيرة على واحدة منها شهيرة، وهي أنه جاءه بعض الناس يلتمس بركته، وفي يده سلعة، فقال له: يا سيدي هذه السلعة درت بها على الصالحين ليدعوا لي في ذهابها، فلم تذهب، وأنت إن لم تدع لي وتذهب بدعائك وإلا ما بقيت أحسن ظني بأحد من الصالحين، فقال له: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قرأ عليها، وقال: اربط عليها بخرقة، ولا تفتحها حتى تصل إلى بلادك، ففعل ما أمر به، ثم سافر إلى أن بلغ بعض الطريق، وحضر وقت الغداء، ومعه رفقة، فقالوا: تعالوا نتغذى في هذه القرية، فاشتروا خبزاً ولبناً، وفتوه وعادة أهل اليمن يكلون الخبز واللبن إذا كان مفتوتاً بالكف، ففتح الخرقة

وأكل بكفه ناسياً لما أوصاه به من ترك فتحها إلى بلاده، فلما فرغ من الأكل ذكر ما أوصاه به، ونظر إلى يده، فإذا السلعة التي كانت فيها قد ذهبت، ولم يزل رضي الله تعالى عنه مع ما هو متصف به من مشاهدات الأنوار والإطلاع على الأسرار يشغل الطلبة بالعلوم بالليل والنهار، حتى بمقامات الحريري على ما بلغني، وأصله من عرب يقال لهم: المعازبة بالعين المهملة قبل الألف، وبعدها زاي وموحدة قبل الهاء يسكنون قريباً من زبيد، وإلى انتسابه إليهم، وحسن سيرته وأدبه أشرت بقولي في بعض قصائدي عند الغزل لشيوخ اليمن وعادتي أجمعه مع الفقيه الإمام الولي الكبير الرفيع المقام إسماعيل بن محمد الحضرمي المتقدم ذكره في سنة ست وسبعين، حيث قلت مشيرا أيضاً إلى مسكن الحضرمي ودلاله وحلاله: وجود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني كجود للمعازبة اعتراها ... حصان في حيا حسن رزان وكم من جوهر صادفته في ... حقير من جناد صدف صان وفي أخرى تشتمل على ذكر مائة شيخ من أكابر الأولياء المشهورين الأفراد في اليمن وغيره من أقطاب البلاد. تنيف على ثلاث مائة بيت في التعداد. قلت: أيضاً مشيراً إليهما: أنا راسماً مجد المعالم والعلى ... وصار أهدى للحائر المتردد وليان كل كم له من كرامة ... عليان كل في مقام مشيد خليلان كل صادق في وداده ... جليلان كل في ردا المجد مرتد ذوا مجد أكرام الولاية معلماً ... بنور الهدى يزهو به كل مسعد هما الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد له خطب كم ذللت ثم عللت ... عنايات فضل ليس تدرك باليد مدل ومجوب وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات وجاه وسؤدد ومن جاهه أومى إلى الشمس أن قفي ... فلم تمشي حتى أنزلوه بمقصد ونجل عجيل كم مواهب عجلت ... له وسعادات ومجد مجدد نحلي حلا يزهو الوجود بحسنها ... ويرفل في ثوب الجمال المنجد كان حلاه حلة الشمس معلم ... بهاها على كم الزمان بعسجد مشى سيرة محمودة لا يسيرها ... سوى كل صديق بحفظ مؤيد عظيم كرامات عزيز وجودها ... بها شهرة كانت لذكر معدد هو القمر الثاني البهي ليت نظرة ... إلى بحر حسن في الدجى متهجد وفي أخرى أيضاً موسومة بباهية المحيا في مدح الشيوخ الأصفياء، والرد على بعض

المنكرين الأغبياء بمعرفة الأصول والعربية، وطريق السالكين الأولياء أشرت إليهما في غزلها بقولي: وجود الضحى شمس الضحى حضرمية ... مدللة تزهو بعالي المنازل وذات إليها الحسنا عجيليه زهت ... بها سارت الركبان من كل راحل وأشرت إليهما أيضاً، وإلى الشيخ الكبير اليمني الأصل والبلاد أبي العباس أحمد المعروف بالصياد فيها عند ذكر أسمائهم بالتصريح بعد الكناية بالغزل والتلويح فقلت: وأكرم بإسماعيل شيخ شيوخنا ... هو الحضري المشهور زين المحافل ورين الزمان ابن العجيل شهيرهم ... وصيادهم سامي العلا والفضائل ومن محاسن أدب السيد المذكور ابن عجيل المشهور المذكور احترازه في جوابه المشكور وقد سئل عن سماع الصوفية أن أبحه، فلست من أهله، وإن أنكره، فقد سمعه من هو خير مني، وقد نقلت هذا الجواب في بعض كتبي، فلما قرئ ذلك الكتاب على ابن ابنه الفقيه العالم في الفضائل والمكارم أبي العباس أحمد بن أبي بكر في الحرم الشريف، ووقف على جواب جده المذكور. قال: هكذا هو عندنا مسطور، فزادني ذلك طمأنينة في العلم والتحقيق، وقد اقتصرت في ترجمته على هذه النبذة اليسيرة، وبالله التوفيق. وفيها توفي السويدي الحكيم العلامة شيخ الأطباء أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري الدمشقي، سمع من طائفة، وأخذ الأدب عن ابن معطي، والطب عن المهذب، وبرع فيه، وصنف وفاق على الأقران، وكتب الكثير بخطه المليح، ونظر في التعليقات، وألف كتاب الباهر في الجواهر والتذكرة في الطب وعاش تسعين سنة. وفيها توفي سلامش بالمهملة في أوله والمعجمة في آخره الملك العادل ابن الملك الظاهر بيبرس الصالحي الذي سلطنوه عند خلع الملك السعيد، ثم نزعوه بعد ثلاثة أشهر، فبقي خاملاً بمصر، فلما تسلطن الأشرف أخذه وأخاه الملك خضراً وأهلهم وجهزهم إلى بلاد الأسكري، فمات بها. وفيها توفي التلمساني سليمان بن علي الأديب الشاعر الملقب بعفيف الدين.

قال الذهبي: أحد زنادقة الصوفية، وقد قيل له مرة: أنت نصيري قال: النصيري بعض مني. قال: وأما شعره، ففي الذروة العليا من حيث البلاغة والبيان لا من حيث الإلحاد. قلت: وهذا أيضاً مع ما تقدم يدل على سوء عقيدة الذهبي في الصوفية، أما كان يكفيه إن كان كما ذكر زنديقاً أن يقول: أحد الزنادقة، ولا يضيف إلى الصوفية الصفوة أهل الصدق والتصديق، والحق والتحقيق كل فاجر زنديق. وهل كل من كان متصفاً بالوصف المذكور أو غيره من وصف غير مشكور ينسب إلى الصوفية أهل الصفا والنور؟ وكأنه ما يصدق متى يصادف رخصة يتخذها فرصة في الطعن في الساعة الأحباب العارفين أولى الألباب، وليت هذا إذ حزم التوفيق في حسن الظن، ومشابهة الولي الإمام محي الدين النواوي الجليل المقدار، حيث ذكر في كتابه الحفيل الموسوم بالإذكار، إن الصوفية من صفوة هذه الأمة نعوذ بالله من حرمان التوفيق والعصمة، فلم يكن لهم معتقداً أمسك عنهم، ولم يكن فيهم منتقداً لكنه سارع إلى القدح فيهم ترا، والطعن فيهم مرة بعد أخرى، كأنه قد شرب من ما جيرانه المعروف بالوخم الطاعنين في الصوفية أولى الأحوال السنية، ومحاسن الأوصاف والشيم، والجد والاجتهاد وعوالي العزائم والهمم، ورفض ما سوى الله، والإقبال على الله في الفضل والجود والكرم، وما أحسن التوفيق للسكوت فيما لا يدريه الإنسان، كما تقدم من جواب السيد الجليل الكبير الشأن، ابن العجيل لما سئل عن السماع حيث تورع فبم الجواب، ولم ينسبه إلى الزيغ والابتداع، وكيف وضع نفسه عن مشابهة من سمعه مع رخصه الله به ورفعه، فقال: إن أبحه، فلست من أهله، وإن أنكره، فقد سمعه من هوي مني. قلت: وقد نص الشيوخ العارفون بالله من الصوفية أولى المقامات العلية إن الفرق الخارجة عن سنن الهدى ليسوا من الصوفية، وإن ادعوا ذلك، ولبسوا في الرسوم والزخارف، وممن نص على ذلك شيخ عصره الإمام شهاب الدين في العوارف. وفيها توفي الإمام فقيه الشام، وشيخ الإسلام المشهور بالفضل والخير والاتباع أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري الشافعي المعروف ابن صباغ تاج الدين الملقب بالفركاح لحنف في رجليه العلامة شيخ المذهب على الإطلاق في زمانه والد الشيخ الإمام

سنة إحدى وتسعين وست مائة

العلامة برهان الدين، سمع من طائفة منهم ابن الزبيدي، وتفقه على الإمامينابن عبد السلام، وابن الصلاح، واشتغل وأفتى، وكان مع فرط ذكائه، وتوقد ذهنه ملازماً للاشتغال، مقدماً في المناظرة، متبحراً في الفقه وأصوله، وانتهت إليه رياسة المذهب - رحمه الله تعالى - له عبارات حسنة جزلة فصيحة، وخطابة بليغة، له الفوائد الجمة والفنون المهمة، والمصنفات البديعة، محبباً إلى الناس لعفته، ودينه، وفضله، وعقله، وعلمه، ورياسته، وتواضعه، وكرمه، ونصحه للمسلمين، ومن مصنفاته كتاب الإقليد في درر التقليد علقه على أبواب التنبيه من نظر فيه علم محل الرجل من العلم، وكان - رحمه الله تعالى - لطيف الطبع يميل إلى استماع السماع، ويحضره ويرخص فيه، وله اختيارات في المذهب مشى على أكثرها ولده، وله فضائل كثيرة، ومحاسن عديدة، وشعر جيد، وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة على مائة شيخ في عشرة أجزاء، فسمعها عليه جماعة من الأعيان، منهم الشيخ العلامة ابنه برهان الدين، والشيخ الإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية، والحافظ أبو الحجاج المزي، وقاضي القضاة نجم الدين ابن صصري، والشيخ علاء الدين ابن العطار وغيرهم. وتخرج به جماعة كثيرون، وخلائق لا يحصون، وكانت فنونه في العلوم الشرعية، وتأسف الناس على فراقه. قلت: وبلغني أن ولده الشيخ برهان الدين كان يرخص في السماع أيضاً بشروط كوالده، وإن والده ما حضره إلا بعد أن رأى كرامة من بعض المشائخ الصوفية. وفيها توفي ابن الزملكاني الإمام المفتي علاء الدين أبو الحسن ابن العلامة البارع كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري الدمشقي الشافعي. سنة إحدى وتسعين وست مائة في جمادى الأولى منها قدم السلطان الملك الأشرف في دمشق، وقد فرغ الشجاعي من بناء الطارمية، والرواق، وقاعة الذهب، والقبة الزرقاء بقلعة دمشق، فرغ جميع ذلك في سبعة أشهر، قيل: وجاء في غاية الحسن، ثم سار السلطان ونازل قلعة الروم في جمادى الأخرى، فنصب عليها المجانيق، وجد في حصارها، وفتحت بعد خمسة وعشرين يوماً، وأهلها نصارى من تحت طاعة التتار، فلما رأوا أن التتار لا ينجدونهم ذلوا، وما أحسن ما قال الشهاب محمود في كتاب الفتح: فسطا جيش الإسلام يوم السبت على أهل الأحد، فبارك الله للأمة في سبتها وخميسها.

سنة اثنتين وتسعين وست مائة

وفيها توفي أبو حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي الأصولي المتكلم، خطيب دمشق، وولي بعده الخطابة الشيخ عز الدين الفاروثي. سنة اثنتين وتسعين وست مائة فيها أسلم صاحب شيس قلعة بهنسا للسلطان صفوا لم يلق ضرباً ولا طعناً فضربت البشائر في رجب. وفيها توفي الإمام أعلم العلماء الأعلام ذو التصانيف المفيدة المحققة، والمباحث الحميدة المدققة قاضي القضاة ناصر الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام قاضي القضاة إمام الدين عمر ابن العلامة قاضي القضاة فخر الدين محمد ابن الإمام صدر الدين علي القدوة الشافعي البيضاوي، تفقه بأبيه، وتفقه والده بالعلامة مجير الدين محمود بن أبي المبارك البغدادي الشافعي، وتفقه مجير الدين بالإمام معين الدين أبي سعيد منصور بن عمر البغدادي وتفقه هو بالإمام زين الدين حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمهم الله تعالى. قلت: ونسبة الغزالي في الفقه إلى الشافعي معروفة، وكذلك نسبته ونسبة أخيه الشيخ الإمام الغزالي في التصوف معروفتان، وقد ذكرت شيوخ الخرقة في كتاب نشر الريحان في فضل المتحابين في الله الاخوان، وللقاضي ناصر الدين المذكور مصنفات عديدة، ومؤلفات مفيدة، منها الغاية القصوى في الفقه على مذهب الشافعي، وله شرح المصابيح وتفسير القرآن والمنهاج في أصول الفقه، والطوالع في أصول الدين، وكذلك المصباح، وله المطالع في المنطق وغير ذلك مما شاع في البلدان، وسارت به الركبان، وتخرج به أئمة كبار - رحمه الله تعالى رحمة الأبرار -. وفيها توفي القاضي جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن داود بن ظافر العسقلاني ثم الدمشقي المقرئ صاحب السخاوي، ولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح مدة، وسمع من ابن الزبيدي جماعة، وكتب الكثير. وفيها توفي الشيخ الجليل القدوة إبراهيم ابن الشيخ القدوة عبد الله الأرموي روى عن الشيخ الموفق وغيره. توفي في المحرم، وحضره ملك الأمراء والقضاة، وحمل على الرؤوس، وكان صالحا قانتاً لله، منيباً عليه سيماء السعادة، متصفاً بالزهد والعبادة، معدوداً من الأولياء السادة.

سنة ثلاث وتسعين وست مائة

وفيها توفي ابن الواسطي العلامة الزاهد القدوة مسند الوقت أبو اسحاق إبراهيم بن علي الصالحي، سمع وتفقه وأتقن، ودرس بالمدرسة الصالحية، وكان فقيهاً زاهداً، عابداً، مخلصاً. صاحب جد وصدق، وقول بالحق، وهيبة في النفوس. وفيها توفي الشيخ الكبير السيد الشهير صاحب القلب المستنير، العارف بالله الخبير الذي شاع فضله واشتهر، المعروف بالمكين الأسمر عبد الله بن منصور الإسكندراني شيخ القراء بالإسكندرية. قلت: وممن أثنى عليه بالنور والاطلاع شيخ زمانه أبو الحسن الشيخ الشاذلي الذي اشتهر فضله وشاع، وكذلك الشيخ الإمام علي المقام تاج الدين ابن عطاء الله الشاذلي، وقال: كنت أنا وهو معتكفين في العشر الأواخر من رمضان، فلما كانت ليلة ست وعشرين قال: أرى الملائكة في تهيئة وتعبية كما تهيأ أهل العرس قبله بليلة، فلما كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة جمعة قال: رأيت الملائكة تنزل من السماء، ومعها أطباق من نور، فلما كانت ليلة ثماني وعشرين قال: رأيت هذه الليلة كالمتغيظة، وهي تقول: هب إن لليلية القمر حقا أمالي حق يرعى. أو كما قال انتهى كلامه. قلت: لعل تغيظها على الناس من أجل تركهم إحياءها، واهتمامهم بليلة القدر دونها كونها جارة لها، وحق الجار أن يكرم بشيء مما أكرم به جاره. وأما أطباق النور المذكور، فلعلها هدية إلى من أحيى ليلة القدر. المذكورة، ومن أناله الله تعالى شيئاً من بركتها والخيرات المقسومة فيها، والله أعلم. سنة ثلاث وتسعين وست مائة في سابع المحرم منها قتل السلطان ببروجه في الصيد، ثم قتل نائبه بيدراً وخلفوا للسلطان الملك الناصر محمد بن المنصور، وهو ابن تسع سنين، وجعل نائبه كتبغا، وبسط العذاب على الوزير ابن سلغوس حتى مات وأخذت أمواله ثم قتل الشجاعي. وفيها توفي الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون ولي السلطنة بعد والده في ذي القعدة سنة تسع وثمانين، وقتله في المحرم بيدراً

سنة أربع وتسعين وست مائة

ولاجين وجماعة، وتسلطن بيدراً، ولقب بالملك القاهر فأقبل كتبغا والجاشكير، وحملوا على بيدراً فقتلوه. وفيها توفي قاضي القضاة شهاب الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين أحمد الخليل بن سعادة بن جعفر الشافعي روى عن ابن المقير وطائفة، وكان من أعلم أهل زمانه وأكثرهم تفنناً، وأحسنهم تصنيفاً، وأحلاهم مجالسة، ولي القضاء بحلب مدة، ثم ولي قضاء الشام هكذا قال بعضهم، ولم يقل قضاء دمشق، وتوفي في العشر الأخير من شهر رمضان. وفيها توفي الملك الحافظ غياث الدين محمد ابن شاهنشاه، وصاحب بعلبك الملك الأمجد، روى صحيح مسلم، ونسخ الكثير بخطه. وفيها توفي الدمياطي شمس الدين محمد بن عبد العزيز المقرئ أخذ القراءة من الصخاوي، وتصدر واحتيج إلى علو روايته، وقرأ عليه جماعة. وفيها توفي الوزير سلغوس المدعو بالوزير الكامل، مدبر الممالك شمس الدين محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي التاجر الكاتب ولي حسبة دمشق، فاستصغره الناس عليها، فلم ينشب أن ولي الوزارة، ودخل دمشق في موكب عظيم لم يعهد مثله. مات بعد أن أنتن جسده من شدة الضرب، وقطع منه اللحم الميت نسأل الله الكريم العافية. سنة أربع وتسعين وست مائة في المحرم تسلطن الملك العادل كتبغا المنصوري، وزينت مصر والشام، وله نحو من خمسين سنة يومئذ سبي يوم وقعت حمص من التتار. وفيها توفي الفاروثي الإمام العالم الواعظ المقرئ المفسر الخطيب عز الدين أبى العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي الصوفي شيخ العراق، كان إماماً متفنناً متضلعاً من العلوم والآداب، حسن التربية للمريدين، لبر الخرقة من الشيخ العارف أستاذ زمانه شهاب الدين السهروري، وسمع منه ومن جماعة، وأسمع الكثير في الحرمين والعراق ودمشق، وجاور مدة، وعليه قرأ كتاب الحاوي الصغير شيخنا الفقيه الإمام العلامة

نجم الدين قاضي الحرم الشريف وشيخه ومدرسه محمد بن محمد الطبري، والفاروثي يرويه عن مصنفه الشيخ عبد الغفار القزويني، ثم قدم بعد المجاورة إلى الشام في سنة إحدى وتسعين، فولي بها مشيخة دار الحديث الظاهرية، وإعادة الناصرية، وتدريس النجيبية، ثم ولي خطابة البلد بعد زين الدين بن المرجل، وكان خطيباً بليغاً، فإذا نزل وصلى ربما خرج بالخلعة السوداء وشيع الجنائز، وزار بعض أصحابه من الأكابر، وهو لابسها، وكان إماماً بارعاً فاضلاً فقيهاً مقرياً، حسن الاعتقاد، جيد الديانة، ظريفاً حلو المجالسة، لطيف الشكل، صغير العمامة يرتدي برداء، وكان كثير الاشتغال والعبادات، وعنده كتب كثيرة جداً نحو من ألفي مجلد أو أكثر، ذا كرم وسعة صدر ووجاهة عند الكبراء والأمراء، واتفق أنه عزل بعد سنة بالخطيب الموفق، فسافر مع الحجاج، ودخل العراق، وتوفي بواسط وقد نيف على الثمانين - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي المحب الطبري شيخ الحرم الإمام العلامة الحافظ الرواية ذو التصانيف الكثيرة، والفضائل الشهيرة أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر المكي الشافعي، ولد سنة خمس عشرة وست مائة، وسمع من ابن المقري، وابن الحميري وجماعة، وصنف كتباً عديدة في الحديث، وله في الفقه مبسوطات ومختصرات، ومن المبسوطات كتاب في الأحكام في عدة مجلدات أجاد فيه وأفاد وأكثر وأطنب، وجمع الصحيح والحسن، ولكن ربما أورد فيه الأحاديث الضعيفة، ولم يبين ضعفها، وكان فقيهاً بارعاً محدثاً حافظاً درس وأفتى وأسمع، وروى، وكان محدث الحجاز في زمانه، وشيخ الشافعية هنالك. وتوفي قبله بأيام ولده النجيب الفاضل جمال الدين محمد قاضي مكة مؤلف كتاب التشويق إلى البيت العتيق، ومن تصانيف محب الدين شرح كبير مبسوط للتنبيه جيد إلا أنه ربما يختار الوجوه الضعيفة، وله مختصرات للتنبيه وغير ذلك، وكتاب " القرى " بكسر القاف، ومختصر السيرة وغير ذلك لكنها لم تشتهر ولم تنتشر في البلدان إلا كتاب " الأحكام " المذكور فإنه في البلدان مشهور، وكان له جاه عظيم؟ وحظ كريم عند الملك المظفر صاحب اليمن، وكان مشغولاً بالعلم مستفيداً ومفيداً، وعنه أخذ خلائق من الفضلاء من أكابر المحدثين والفقهاء، وكان له صحبة من الشيخ الكبير العارف بالله الخبير ذي المناقب والكرامات السنية، والأحوال والمقامات العلية أبي العباس أحمد المورقي الغربي المدفون في الطائف قدس الله روحه، وله معه حكايات عجيبة، منها أنه لما قدم الملك

المظفر صاحب اليمن طلب منه قرابته وأصحابه أن يشفع لهم عنده وطمعوا أن يحصل لهم منه نفع، وكان عادة السلطان المذكور أن يطلب محب الدين في كل وقت، فلما قدم مكة لم يطلبه، ولم يجتمع به سوى عند قدومه فحصل لمحب الدين من ذلك قبض، ولم يزل كذلك إلى أن فرغ من أعمال الحج، ثم لقيه الشيخ أبو العباس المذكور، فسأله عن حاله، فأخبره إنما هو غير منشرح بسبب عدم ما كان يرتجي من النفع على يديه، واشتغال السلطان عنه، فقال له الشيخ أبو العباس عند ذلك: أنا الذي شغلته عنك خشية أن يشغلك عن أعمال الحج، ولكن الآن أطلقه حتى يلتفت إليك، ويطلبك كما كان. فعند ذلك أرسل السلطان يطلبه، وقضى له ما أراد من حوائجه وحوائج من تعلق به من الناس. وفيها توفي ابن المقدسي خطيب دمشق ومفتيها، وشيخ الشافعية بها الإمام العلامة شرف الدين أبو العباس أحمد بن نعمة الشافعي، سمع من السخاوي وابن الصلاح، وتفقه على ابن عبد السلام، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وناب في الحكم مدة، ودرس بالشامية والغزالية، وكتب الخط المنسوب الفائق، وألف كتاباً في الأصول، وكان كيساً متواضعاً متنسكاً، ثاقب الذهن، مفرط الذكاء، طويل النفس في المناظرة. توفي في رمضان - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي صاحب اليمن الملك المظفر ابن الملك المنصور عمر. توفي في رجب، وبقي في السلطنة نيفاً وأربعين سنة، وملك أبوه قبله نيفاً وعشرين سنة، وكان الملك المظفر المذكور له بعض مشاركة في بعض العلوم، وكان كيساً ظريفاً يحب مجالسة العلماء، ويعتقد الصالحين، وجاء إلى شيخ اليمن، وبركة الزمن، والبحر الزاخر الذي يغرق فيه كل ماهر السيد الجليل أبي الغيث بن جميل - قدس الله روحه - ونعله في حلقه، فقال الشيخ: ما تطلب؟ الملك قال: وليتك. وكان أبوه قد قتل خادم الشيخ أبي الغيث، فلما بلغه قتل خادمه قال: مالي ولمحراسه أنا أنزل عن أمشباب، وأترك أمزرع، فقتل عند ذلك الملك المنصور، واستعار في ذلك استعارة حسنة، وهي أنه جعل الخلق كالزرع، وهو كالحارس له، والمشباب بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وتكرير الموحدة قبل الألف وبعدها. خشبات تنصب في وسط الزرع، ويجعل عليها عريش يقعد الحارس عليه، فإذا نزل عنه ضاع الزرع يترك الحراسة، فنزل به التلف من سارق، أو آكل بهائم، أو صيد، أو وحش مبذلاً لام التعريف بالميم كما هي لغة بعض اليمانيين، وكما هو مشهور في كتب النحويين بل في كتب المحدثين أعني قولهم: يرمي ورائي بأمسهم وأمسلمة. وما روي من قوله عليه السلام: " ليس من أمير مصيام في أمسفر، مجيبا لقول السائل

سنة خمس وتسعين وست مائة

أمن أمير أمصيام في أمسفر "، سمع الملك المظفر المذكور على الشيخ محب الدين الطبري المذكور، وكان لمحب الدين تردد إلى اليمن، واجتماع كثير معه في اليمن، وفي مكة لما حج أعني الملك المظفر، وكان في صحبته إلى الحج خمس مائة فارس، أخبرني بذلك من حج معه من أهل الخير والصلاح، وكان محبباً إلى الناس. وله حكايات ظريفة منها: أنه كتب إليه بعض الناس كتاباً على وجه المزح والكياسة. قال فيه: قال الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " " الحجرات: 10 "، وأخوك بالباب يطلب نصيبه من بيت المال، فرد عليه الجواب، وأرسل إليه بدرهم، فقال في جوابه: إخواني المؤمنون كثير في الدنيا، ولو قسمت عليهم بيت المال ما حصل لكل واحد منهم درهم. ومنها أنه أرسل إليه إنسان، وهو يقول: أنا كاتب أحسن الخط الظريف، والكشط اللطيف، أو كما قال، فقال في جوابه: ما ذكرته من حسن كشطك يدلى على كثرة غلطك. ومنها أن جماعة من الديوان، وأهل الدولة أرادوا أن يجتمعوا في عدن على اللعب والشراب، وملأوا أزياراً كثيرة خمراً، فأراقها الشيخ الكبير الولي الشهير الوافر الفضل، والنصيب عبد الله بن أبي بكر الخطيب المدفون في موزع، شيخ شيوخنا. - قدس الله روحه - فغضب أمير عدن وغيره من أهل الدولة، ولم يقدروا على الانتقام من الشيخ المذكور، فكتبوا إلى الملك المظفر بذلك، فرد عليهم الجواب، وهو يقول فيه: هذا لا يفعله إلا أحد رجلين، إما صالح، وإما مجنون، وكلاهما ما لنا معه كلام. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو البركات الشهيرة، والكرامات الكثيرة، والهمة العالية، والمحاسن الباهية أبو الرجال بن مري. توفي يوم عاشوراء منيفاً على الثمانين، كان صاحب كشف وأحوال له موقع في النفوس وإجلال. وفيها توفي الإمام مظفر الدين أحمد بن علي، المعروف بابن الساعاتي شيخ الحنفية. كان ممن يضرب به المثل في الذكاء، والفصاحة، وحسن الخط، وله مصنفات في الفقه وأصوله، وفي الأدب مجادة مفيدة، وكان مدرساً لطائفة الحنفية بالمستنصرية في بغداد. سنة خمس وتسعين وست مائة استهلت وأهل الديار المصرية في قحط شديد، ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، وأما الموت، فيقال: أنه أخرج في يوم واحد ألف وخمس مائة جنازة، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، ويدفنون فيها الجماعة الكثيرة، وبلغ الخبز كل رطل، وثلث بالمصرية بدرهم، وبلغ

سنة ست وتسعين وست مائة

في دمشق كل عشرة أواق بدرهم في جمادى الآخرة، وارتفع فيه الوباء والقحط عن مصر ونزل الأردن إلى خمسة وثلاثين. وفيها قدم الشام شيخ الشيوخ صدر الدين إبراهيم ابن الشيخ سعد الدين بن حمم الجويني، فسمع الحديث، روى عن أصحاب المؤيد الطوسي، وأخبر أن ملك التتار غازان ابن أرغون أسلم على يده بواسطة نائبه بوروز بالراء بين الواوين، والزاي في آخره، كان يوماً مشهوراً. وفيها توفيت بنت علي الواسطي أم محمد الزاهدة العابدة الصالحة، روت عن الشيخ الموفق، وقد قاربت التسعين. وفيها توفي ابن رزين الإمام صدر الدين قاضي القضاة. وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي الديار المصرية تقي الدين عبد الرحيم ابن قاض القضاة تاج الدين عبد الوهاب الشافعي، وولي بعده الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. سنة ست وتسعين وست مائة فيها توجه الملك العادل إلى مصر، فلما بلغ بعض الطريق، وثب حسام الدين لاجين على اثنين من أمرائه كانا جناحيه، فقتلهما، فخاف العادل، وركب سراً، وهرب في أربعة مماليك، وساق إلى دمشق، فلم ينفعه ذلك، وزال ملكه، وخضع المصريون لحسام الدين ولم يختلف عليه اثنان، ولقب بالملك المنصور، وأخذ العادل، فأسكن بقلعة صرخد، وقنع بها غير مختار. وفيها توفي محي الدين يحيى بن محمد بن عبد الصمد الزيداني مدرس مدرسة جدة. سنة سبع وتسعين وست مائة فيها توفي مسند العراق عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي المقرئ شيخ المستنصرية. وفيها توفيت عائشة بنت المجد عيسى ابن الشيخ موفق الدين المقدسي، كانت مباركة صالحة عابدة، روت عن جدها، وابن راجح. وفيها توفي الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر الفارسي الشافعي الأصولي المتكلم، توفي في رمضان في مرة، وهو من أبناء السبعين، درس مدة بالغزالية، ثم تركها.

سنة ثمان وتسعين وست مائة

سنة ثمان وتسعين وست مائة فيها قتل الملك المنصور صاحب مصر والشام حسام الدين لاجين المنصوري السيفي هجم عليه سبعة أنفس، وهو يلعب بعد العشاء بالشطرنج ما عنده إلا قاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والأمير عبد الله ويزيد البدوي، وإمامة ابن العسال، قال القاضي حسام الدين الحنفي: رفعت رأسي، فإذا سبعة أسياف تنزل عليه، ثم قبضوا على نائبه، فذبحوه من الغد، ونودي للملك الناصر، وأحضروه من الكرك، فاستناب في المملكة سلار، ثم ركب بخلعة الخليفة وتقليده، وكانت سلطنة لاجين بسنتين، وكان فيه دين وعدل. وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك الممنصور آخر ملوك حماة. وفيها توفي الملك الأوحد يوسف بن الناصر صاحب الكرك ابن المعظم توفي بالقدس، - وسمع وروى عنه الديماطي في معجمه. وفيها توفي ابن النحاس العلامة حجة العرب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الحلبي، شيخ العربية بالديار المصرية. سنة تسع وتسعين وست مائة في أوائلها قصد التتار للشام، فوصل السلطان الملك الناصر إلى دمشق، وانحفل الناس من كل وجه، وهجموا على وجوههم، وسار الجيش، وتضرع الخلق إلى الله تعالى، والتقى الجمعان بين حمص وسلمية، فاستظهر المسلمون، وقتل من التتار نحو عشرة آلاف وثبت ملكهم غازان، ثم حصل تخاذل، وولت الميمنة بعد العصر، وقاتلت الحاصكية أشد قتال إلى الغروب، وكان السلطان آخر من انصرف بحاشيته نحو بعلبك، وتفرق الجيش، وقد ذهبت أمتعتهم ونهبت أموالهم، ولكن قل من قتل منهم، وجاء الخبر إلى دمشق من غد، فحار الناس وأبلسوا وأخذوا يتسلون بإسلام التتار، ويرجون اللطف، فتجمع أكابر البلد، وساروا إلى خدمة غازان، فرأى لهم ذلك، وفرح بهم، وقال: نحن قد بعثنا - بالأمان قبل أن تأتون. ثم انتشرت جيوش التتار بالشام طولاً وعرضاً، وذهب للناس من الأهل والمال والمواشي ما لا يحصى، وحمى الله دمشق من النهب والسبي والقتل، ولكن صودروا

مصادرة عظيمة، ونهب ما حول القلعة لأجل حصارها، وثبت متوليها علم الدين ثباتاً كلياً لا مزيد عليه، حتى هابه التتار، ودام الحصار أياما عديدة، وأخذت الدواب جميعها، واشتد العذاب، في المصادرة مع الغلاء والجوع وأنواع الهم والفزع، لكنهم بالنسبة إلى ما جرى بجبل الصالحية من السبي والقتل أحسن حالاً، فقيل: إن الذي وصل إلى ديوان غازان من البلد ثلاثة آلاف ألف وست مائة سوى ما أخذ في الرسيم والبرطيل ولبس المسوح، وكان إذا ألزم التاجر بألف درهم ألزمه عليها فوق المائين ترسيماً يأخذه التتار، ثم أعان الله، فرحل غازان في ثاني عشر جمادى الأولى، وكان قدومه ومحاربته في أواخر ربيع الأول، ثم ترحل بقية التتار بعد ترحله بعشرة أيام، ودخلت جيوش المسلمين القاهرة في غاية الضعف، ففتحت بيوت المال، وأنفق عليهم نفقة لم يسمع بمثلها، ومدة انقطاع خطبة الناصر من خوف التتار مائة يوم. وفيها توفي من شيوخ الحديث بدمشق والجبل أكثر من مائة نفس، وقتل بالجبل، ومات برداً وجوعاً نحو أربع مائة نفس، وأسر نحو أربعة آلاف منهم سبعون من قرية الشيخ أبي عمرو. وفيها توفي الإمام المحدث الحافظ أحمد بن فرج الإشبيلي، تفقه على الإمام عز الدين بن عبد السلام، وحدث عن ابن عبد الدائم وطبقته، وكان ذا ورع وعبادة وصدق له حلقة اشتغال لجامع دمشق. وفيها توفي العلامة نجم الدين أحمد بن مكي، كان أحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه، والأصول، والطب، والفلسفة، والعربية، والمناظرة. وفيها توفيت خديجة بنت يوسف، وخديجة بنت المفتي محمد بن محمود أم محمد، روت عن ابن الزبيدي، وتكنى أمة العز روت عن طائفة، وقرأت غير مقدمة في النحو، وجودت الخط على جماعة، وحجت وتوفيت في رجب، وكانت عالمة فاضلة - رحمها الله تعالى -. وفيها توفيت صفية بنت عبد الرحمن بن عمرو الفرا المنادي، روت في الخامسة عن الشيخ الموفق، وعدمت بالجبل. وفيها توفي ابن الزكي قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة محيي

الدين بن محمد القرشي درس في العزيزية، وقد ولي نظر الجامع وغير ذلك، ومات كهلاً. وفيها توفي إمام الدين قاضي القضاة أبو القاسم عمر بن عبد الرحمن القزويني الشافعي كان مجموع الفضائل، تام الشكل توفي بالقاهرة. وفيها توفي ابن غانم الإمام شمس الدين محمد بن سليمان المقدسي الشافعي المواقع، سبط الشيخ غانم، وفيها حمل الأمير سيف الدين نائب السلطنة بطرابلس مرات، وقتل جماعة، ثم قتل، وكان ذا دين وخبرة وشجاعة. وفيها توفيت هدية بنت عبد الحميد المقدسية الصالحية، روت الصحيح عن ابن الزبيدي، وتوفيت بالجبل. وفيها توفي أبو محمد المرجاني الشيخ الكبير، الولي الشهير، القدوة العارف معدن الأسرار؛ والمعارف والمواهب واللطائف، علم الوعاظ، المعلم المنطق بالمعارف والحكم عبد الله بن محمد المرجاني المغربي أحد المشائخ الإسلام، وأكابر الصوفية السادات الكرام. توفي بتونس كان مفتوحاً عليه في العلوم الربانية والأسرار الإلهية. ومما بلغني عنه أنه قيل له: قال فلان: رأيت عمود نور ممتداً من السماء إلى فم الشيخ أبي محمد المرجاني في حال كلامه، فلما سكت ارتفع ذلك العمود، فتبسم الشيخ، وقال: ما عرف يعثر بل لما ارتفع العمود سكت. قلت يعني رضي الله تعالى عنه أنه كان يتكلم بالأسرار عن مدد من الأنوار، فلما انقطع المدد بالنور الممدود انقع النطق بالكلام المحمود. ومما بلغني من كراماته أنه حضر مجلسه بعض المنكرين بنية الاعتراض عليه في كلامه، وكان ذلك الشخص المنكر أعور، فقال الشيخ أبو محمد المذكور في أثناء كلامه: قبل أن يضيء النهار الله أكبر، حتى العوران جاؤوا للاعتراض والإنكار، أو كما قال من الكلام الصادر عن النور في وقت الظلام، وكان من عادته أنه لا يقوم من مجلسه حتى يرتفع النهار، فبقي ذلك الأعور في حياء وخجل وحزن ووجل خوفاً من أن يقوم ويخرج، فيعلم الحاضرون أنه المراد، ويقعد فيعرف إذا طلع النهار أنه المنكر السيئ الاعتقاد، فبينا هو متحير بين هاتين الفضيحتين إذ أطفأ الشيخ القنديل، وانقض المجلس، ولم يعلم الأعور من صاحب العينين الصحيحتين، وكان قصر المجلس في ذلك الوقت على خلاف العادة ستراً

سنة سبع مائة

منه، وفتوة على جاري عادة الصفوة السادة، وإليه الإشارة في البيت العاشر من هذه الأبيات من قصيدتي المشتملة على ذكر مائة من كبار الشيوخ السادات، وعلى نيف وثلاث مائة من الأبيات، وأول العشرة المذكورات قولي في أثنائها: وكم قد حبا حالي حباها جنيدهم ... فسرى السري جند الجنيد المسود وكم رفعت لابن الرفاعي من علا ... له في نواحي الأرض كم من ممجد وأعلت مقام الدين للعارف الفتى ... أبي مدين بدربه القوم يقتدي وكم شم منها الشاذلي ذكي شذى ... ففي متهم الأتباع فاح ومنجد فارسي لدى المرسى مراكب سيرها ... فلم تمش في التصريف غير مقلدي بها الأصبهاني صار نجم سمائها ... وبدر هداها سيفها غوث مجحد وحلى الفتى ياقوت ياقوت نحرها ... بعقد على جيد السلوك منضد ولابن عطا أعطت لواء ولاية ... وترياق داء للضلالة مبعد فداوى به داود حتى الفتى شفي ... فصار شفاء المعضل المتمرد ومرجانياً من حلى مرجان بحرها ... حلت برد أحسن اللطائف مرتد جنيدية موروثة عن معارف ... زها حسنها في الدهر يجلو لمفرد وما نال إلا واحد بعد واحد ... حلا حسنها الغالي فطوبى لمسعد وله رضي الله تعالى عنه من المواهب، والمناقب، والمحاسن الغراب، ما يحتاج في ذكره إلى تصنيف كتاب. وأما قول الذهبي في ترجمته: وأبو محمد عبد الله المرجاني الواعظ المذكور أحد مشائخ الإسلام علماً وعملاً مقتصراً على هذه الألفاظ من غير زيادة، فغض من قدره كما هو عادته في مشائخ الصوفية السادة الصفوة أولى الأسرار والأنوار الذين في حقهم التفخيم والتنويه بعظم الجلالة والمقدار. سنة سبع مائة فيها حصلت أراجيف بالتتار، وجاء غازان بجيشه للفرات،. وقصد حلب، فتشوشت الخواطر، وهج الخلق على وجوههم في الوحل والأمطار، وأكريت المحارة إلى مصر بخمس مائة درهم، وبيع اللحم بتسعة دراهم، وبقي الخوف أياماً، ثم رجع غازان لما ناله من المشاق بكثرة الثلوج والأمطار كل هذا في أوائل السنة. وفي شعبان لبست اليهود والنصارى بمصر والشام العمائم الصفر والزرق والحمر، ومنعوا من ركوب الخيل بالسروج، وسائر الشروط العمرية.

سنة إحدى وسبع مائة

وفيها توفي أبو العلاء محمود بن أبي بكر البخاري الصوفي الحافظ، كان إماماً في الفرائض، مصنفاً فيها له حلقة اشتغال، وسمع الكثير بخراسان والعراق والشام ومصر، وكتب الكثير، ووقف أجزاءه، وراح مع التتار قيل: من خوف الغلا، فأقام بماردين أشهراً، وأدركه أجله بها. وفيها توفي الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الصالحي شيخ البكرية، له أصحاب وفيه خير، وله سيرة محمودة. وفيها توفيت أم الخير زينب بنت قاضي القضاة محيي الدين يحيى بن محمد الزكي القرشي الدمشقي، روت عن ابن المقير وجماعة. سنة إحدى وسبع مائة وفيها توفي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي، ودفن عند السيدة نفيسة رضي الله عنها، وكانت خلافته أربعين سنة وأشهراً، وعهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله أمير المؤمنين، وقوي بتقليده بعد عزاء والده، وخطب له على المنابر. وفيها توفي المحدث الإمام أبو الحسين علي بن محمد التونسي ببعلبك شهيداً من جروح في دماغه من مجنون وثب عليه بسكين. وفيها خنق شيخ الحنفية العلامة ركن الدين عبد الله بن محمد السمرقندي مدرس الظاهرية، وألقي في بركتها، وأخذ ماله، ثم ظهر أن قاتله هو قيم الظاهرية، فشنق على ظاهرها. وفيها وقعت جراد لم يسمع بمثله إلى دمشق تركت غالب الغوطة غصناً مجردة، وأيبست أشجاراً خارجة عن الانحصار. سنة اثنتين وسبع مائة فيها طرق قازان الشام، فالتقى تركه، وترك الإسلام بعرض، ونصر الله المسلمين، وقتل في التتار خلق كثير، وأسر مقدمان، وكان العدو نحو أربعة آلاف، والمسلمون في ألف وخمس مائة فارس، وتأخر جند الأطراف إلى حمص، ثم جهز قازان جيوشه مع نائبه خطلوشاه، فساروا إلى مرج دمشق، وتأخر المسلمون، وبات أهل دمشق في بكاء، واستغاثة

بالله، وخطب شديد، وقدم السلطان، وانضمت إليه جيوشه والحفال، وكان المصاف علم سفحت، فهزم العدو الميمنة، واستشهد رأس الميمنة الحسام أستاذ دار في جماعة أمراء وثبت السلطان كعوائده، ونزل النصر، وشرع التتار في الهزيمة، فتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً، ومزقوا كل ممزق، وتخطفهم الناس إلى الفرات، وسلم شطرهم في ضعف شديد وجوع، وحفاء، ووقوف جبل، ثم دخل السلطان والخليفة راكبين، والحمد لله، ومن الشهداء الفقيه إبراهيم بن عبدان، والأمير صلاح الدين ابن الكامل، والأمير علاء الدير الحاكي، والأمير حسام الدين قرمان وغيرهم. وفي ذي القعدة تزلزلت مصر، وتساقطت الدور، ومات بالإسكندرية تحت الردم نحو المائتين، وكانت آية. وافتتحت جزيرة أرواد، وأسر من الفرنج نحو خمس مائة. وفيها توفي عبد الحميد بن أحمد بن حولان البنا. ومات في القاهرة شيخها وقاضيها شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد القشيري الشافعي، صاحب كتاب " الإلمام "، وكتاب " الإمام ". " شرح العمدة " عن سبع وسبعين سنة. يروي عن ابن الحميري وغيره، وكان رأساً في العلم والعمل عديم النظير أجل علماء وقته، وأكبرهم قدراً، وأكثرهم ديناً وعلماً وورعاً واجتهاداً في تحصيل العلم ونشره، والمداومة عليه في ليله ونهاره مع كبر سنه، وشغله بالحكم. ولد بمدينة ينبع من أرض الحجاز في شعبان سنة خمس وعشرين وست مائة، ونشأ بديار مصر، واشتغل أولاً بمذهب مالك، ودرس فيه بمدينة قوص، ثم اختار مذهب الإمام الشافعي، ومال إليه، فاشتغل به وتبحر فيه حتى بلغ فيه الغاية دارية ورواية، وحفظاً، واستدلالاً، وتقليداً، واستقلالاً حتى قيل إنه آخر المجتهدين، وبرع في علوم كثيرة لا سيما في علم الحديث. فاق فيه على أقرانه، وبرز على أهل زمانه، ورحل إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على علمه وزهده وورعه الاتفاق - رحمه الله تعالى -، وكان له اعتقاد حسن في المشائخ، وأهل الصلاح حتى بلغني أنه كان يزور بعض المشائخ، فإذا بلغ إلى بابه نزل عن البغلة، ونزع الطيلسان والعمامة، ودخل عليه بطاقية على رأسه، وإنه شكا إلى بعض الفقراء من أرباب القلوب، وسوسة يجدها في الصلاة، فقال له: أفٍ لقلب يكون فيه غير الله فقال ابن دقيق: العيد، وقد ذكر هذا الفقير المذكور هو عندي خير من ألف فقيه. ومن المشهور أنه ركبته ديون كثيرة، ولم يجد لها وفاء، فرحل إلى الشيخ الكبير ذي

الكرامات والمجد والمفاخر، العارف بالله الشهير ابن عبد الظاهر - قدس الله روحه - فلما وصل إليه سلم عليه، فقدم له الشيخ مأكولاً، ومن جملته سميط. وكان من عادته لا يأكل السميط لأنه شوي وفيه أثر الدم، فلما وضع بين يديه قال له تلميذ له: يا سيدي هذا سميط، فقال له: ليس هذا موضع ذاك، يعني الموضع الذي ننكره ونترك أكله فيه. يريد أن هذا موضع موافقة الشيخ في كل ما يفعله واحترامه وإجلاله، فأكل من ذلك، فلما فرغ من الأكل إذا بالفقراء قد قدموا آلة السماع، وكان من عادته لا يحضر السماع، فقال له تلميذه: يا سيدي أراهم قد قدموا آلة السماع، فقال له: اسكت ما هذا موضع ذاك بل هذا موضع ما قدمنا ذكره من الاحترام والتسليم، فسمعالفقراء وهو حاضر ساكت، فلما انقضى سماعهم. قال الشيخ منشداً البيت المشهور للمتنبي: وفي النفس حاجات، وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب فقال له الشيخ رضي الله تعالى عنه: انقضت الحاجة، فخرج من عنده، ورجع إلى القاهرة، فوجد ديونه قد قضيت، وردت الدفاتر التي كتب فيها الدين، وذلك أن الوزير الكبير الشهير ذو المكارم الشهير المعروف بابن حناء سأل عنه، فقالوا: فصد الشيخ ابن عبد الظاهر لدين عليه، فاستدعى بأرباب الديون، فأعطاهم ديونهم، وأخذ منهم الأوراق المكتوبة بذلك. قلت: وقد جعله بعضهم مجدد الدين الأمة على رأس المائة السابعة، وقد قدمت ذكر الأئمة المجدد بهم دين الأمة على رأس المائين الست قبله، فيما تقدم من هذا التاريخ، وفي كتاب المرهم، والشاش المعلم وغير ذلك من كتبي. وفي السنة المذكورة أخذ من دمشق قاضيها ابن جماعة، وتولى مكانه ابن صصري. وفيها توفي المسند بدر الدين الحسن بن علي بن الجلال الدمشقي. حدث عن جماعة منهم مكرم، وابن الشيرازي، وابن المقير، وكريمة وغيرهم، وتفرد بالرواية رحمه الله تعالى. وفيها توفي كمال الدين ابن عطار، وفيها توفي متولي حماة الملك العادل كتبغا. تسلطن بمصر عامين وخلع. وفيها توفي المقرئ شمس الدين محمد بن قيماز، قرأ على السخاوي بالسبع، وسمع من ابن صباغ، وابن الزبيدي وكان خيراً متواضعاً.

سنة ثلاث وسبع مائة

وفيها توفي مسند العرب الإمام الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي القرطبي عن مائة عام، سمع الموطأ وكامل المبرد في سنة عشرين، وعمر دهراً. ؟ سنة ثلاث وسبع مائة فيها توفي القدوة الزاهد العلامة بركة الوقت الشيخ إبراهيم بن أحمد الرقي الحنبلي، كان من أولياء الله تعالى، ومن كبار المذكورين، وله تصانيف محركة إلى الله حدث عن عبد الصمد بن أبي الحسن، وله نظم كثير، وخبرة بالطب، ومشاركات في العلوم. وفيها توفيت المعمرة أم أحمد ست أهل بيت علوان البعلبكية بدمشق مكثرة عن البهاء عبد الرحمن صالحة خيرة. وفيها توفي مفيد الطلبة نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن الخباز. وفيها توفي المفتي شيخ دار الحديث، وخطيب البلد زين الدين عبد الله بن مروان الفارقي روى عن السخاوي، وكريمة وابن رواحة، وابن خليل. سنة أربع وسبع مائة فيها تكلم ابن النقيب وغيره في فتاوى لابن العطار فيها تخبيط، وسموا إلى القضاة فحار ابن العطار، وأرعب وبادر إلى الحاكم ابن الحريري، فأسلم بدعوى صورت، فحقن دمه، ثم ندم ولامه أصحابه، وبلغ النائب، فغضب من الفتن، واعتقل ابن النقيب أربع ليالٍ فأنكروا. وفيها توفي المحدث المشهور ومفيد دمشق أبو الحسن علي بن مسعود بن نفيس الموصلي، ثم الحلبي بدمشق. وفيها مات بالمدينة الشريفة النبوية صاحبها حمار بن سبخة الحسيني. وفيها توفي الضياء عيسى بن أبي محمد شيخ المغارة.

سنة خمس وسبع مائة

وفيها توفي المعمر ركن الدين أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائم الطاووسي، كبير الصوفية بدمشق. وفيها توفي شيخ البطائحة تاج الدين ابن الرفاعي بقرية أم عبيدة عن سن كبيرة، وشهرة كثيرة. وفيها توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف الإربلي، ثم الدمشقي كبير الراهبين. وفيها توفي بالإسكندرية شيخها الإمام المحدث تاج الدين علي بن أحمد الحسيني العراقي. وفيه توفي بمصر عالمها المعلم العراقي عبد الكريم بن علي الأنصاري المصري الشافعي المفسر. سنة خمس وسبع مائة فيها وقعت فتنة شيخ الحنابلة ابن تيمية، وسؤالهم عن عقيدته، وعقدوا له ثلاث مجالس، وقرنت عقيدته الملقبة بالواسطية وضايقوه، وثارت غوغاء الفقهاء له وعليه، ثم إنه طلب على البريد إلى مصر، وأقيمت عليه دعوى عند قاضي المالكية، فاستخصمه ابن تيمية المذكور، وقاموا، فسجن هو وأخوه بضعة عشر يوماً، ثم أخرج، ثم حبس بحبس الحاكم، ثم أبعد إلى الإسكندرية، فلما تمكن السلطان سنة تسع طلبه، فاحترمه وصالح بينه وبين الحاكم، وكان الذي ادعى به عليه بمصر أنه يقول: إن الرحمن على العرش استوى حقيقة، يتكلم بحرف وصوت، ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه. وفيها جاء تقليد بالخطابة للشيخ برهان الدين بعد عمه، وباشر وخطب، ثم ترك واختار بقاءه بالنادرية بعد أن صلى خمسة أيام. وفيها مات بحلب قاضيها وخطيبها العلامة شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الدمشقي الشافعي، وهو الذي عزل بزين الدين ابن قاضي الخليل من الحكم، وكان مشهورا بدري المذهب. وفيها مات بمصر المعمر أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن شهاب. وفيها مات بالإسكندرية الإمام المعمر شرف الدين يحيى بن أحمد بن عبد العزيز الصواف الجذامي المالكي، عن ست وتسعين سنة، سمع منه قاضي القضاة السبكي وجماعة

سنه ست وسبع مائة

يروي عن ابن العماد والصفراوي، وتلا عليه بالسبع. وفيها توفي بدمشق خطيبها الإمام الكبير شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سماع الفزاري الشافعي، شهده ملك الأمراء والأعيان تلا بالسبع، وأحكم العربية، وقرأ الحديث، وكان فصيحاً، عديم اللحن، طيب الصوت، روى عن السخاوي والعز النسابة، والتاج القرطبي، وأقرأ زماناً مع الكيس والتواضع والتصوف. وفيها مات حافظ الوقت العلامة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي الشافعي سمع من ابن المقير، وابن رواحة، وإبراهيم بن الخير، وابن مختار وغيرهم ممن في طبقتهم، وصنف التصانيف المهذبة قيل: ولم يخلف في معناه مثله - رحمه الله تعالى -. وفيها توفيت المعمرة زينب بنت سليمان بن رحمة الأشعري بمصر، عن بضع وثمانين سنة، سمعت ابن الزبيدى، والشيخين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وعلي بن حجاج وجماعة، وتفردت بأشياء. وفيها توفي صاحب بلاد المغرب أبو يعقوب يوسف ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني. سنه ست وسبع مائة فيها قدم عن الشرق براق العجمي في جمع نحو المائة، وفي رؤوسهم قرون لتأييده، ولحاهم دون الشوارب محلقة، وعليهم أجراس، فدخلوا في هيئة محزون بشهامة، فنزلوا بالمتسع، ثم زاروا القدس، وشيخهم من أبناء الأربعين فيه إقدام، وقوة نفس، وصولة، فما مكنوا من المضي إلى مصر، وكان يدق له نوبة، ونفذ إليهم الكبار غنماً ودراهم. وفيها توفى الإمام العلامة ضياء الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطوسي شارح الحاوي الصغير، والمختصر في الأصول، وكان عالماً فاضلاً. درس وأعاد في عدة

سنة سبع وسبع مائة

مدارس في دمشق، ومات بها - رحمه الله تعالى -. وفيها مات ببغداد الإمام العلامة المتفنن نصير الدين عبد الله بن عمر الفاروقي الشيرازي الشافعي مدرس المستنصرية. قدم دمشق، وظهرت فضائله في العقليات. سنة سبع وسبع مائة قال الذهبي فيها عقد مجلس بالقصر، فاستتيب النجم ابن خلكان من العبارات القبيحة، ودعا ومبيحة الدم، وادعاء نبوة، فاختلف فيه الأمراء، ومال إلى الرفق به الشيخ برهان الدين فتاب. وفيها مات بمكة في آخر العام الشيخ الكبير محمد بن أحمد بن أبي بكر الحراني القزاز، وكان كثير التلاوة، شهير الزهادة، وروى عن عبد الله ابن التجار وجماعة، وتفرد بالرواية، قال الذهبي: وكتبنا عنه. وفيها مات بمصر رئيسها الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير بهاء الدين علي بن محمد بن حنا، حدث عن سبط السلفي، وكان محتشماً وسيماً شاعراً متمولاً من رجال الكمال. وفيها مات بمكة شيخها الإمام القدوة الكبير العارف بالله، الشهير ذو المقامات العلية، والكرامات السنية، والأحوال الخارقة، والأنوار البارقة، والأنفاش الصادقة أبو عبد الله محمد بن حجاج بن إبراهيم الحضري الإشبيلي، المعروف بابن المطرف الأندلسي في رمضان عن نيف وتسعين سنة، وكان يطوف في اليوم والليلة خمسين أسبوعاً، وحمل نعشه صاحب مكة حميضة. قلت: ومن كراماته العظيمة ما أخبرني به بعض أصحاب الشيخ الكبير أبي محمد اليشكري المغربي الذي لما مات قال الشيخ الكبير نجم الدين الأصبهاني: مات الفقير من الحجاز أنه لما عزم الشيخ أبو محمد المذكور على السفر من مكة لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى الشيخ أبي عبد الله ابن مطرف المذكور مودعاً فقيل له: عزمت، قال: نعم قال: بلغني أن لفقير ما فيه ماء، وستلقون شدة، ثم تغاثون، قال الراوي فسافرت مع رابع أربعة، فلما بلغنا الفقير وجدناه كما ذكر يعني فقيراً من الماء. وذكر أنهم قدموا إلى طرف البرامين، واشتد عليهم الحر، ولم يكن معهم من الماء إلا شيء يسير، فذهب أحدهم ليشرب، فقال له الشيخ أبو محمد: إن شربته مت، ولكن بل حلقك. قال: ثم قاسينا شدة من شدة الحر، وشدة العطش، ولم نجد ظلاً نستظل له، فقال

سنة ثمان وسبع مائة

له الشيخ أبو محمد: ما قال لكم الشيخ أبو عبد الله ابن مطرف، قلنا: قال: ستلقون شدة فقال: وهل شدة أشد مما نحن فيه؟ ثم قال، وما كان آخر كلامه. قلنا: قال: ثم تغاثون فقال: أبشروا بالغوث وإذا بسحابة بدت لنا من بعض الآفاق، ولم تزل ترتفع حتى استوت فوق رؤوسنا، ثم صبت علينا حتى سال ما حولنا، فشربنا، ثم توضأنا، واغتسلنا، واستقينا، ثم مشينا خطوات فلم نجد للمطر شيئاً من الأثر قلت: وهذه الآية من أعظم العبر هذا معنى ما ذكر، وإن لم يكن لفظه بعينه هذا المتسطر. وفي السنة المذكورة مات ببغداد مسندها الإمام رشيد الدين محمد بن أبي القاسم المقرئ، شيخ المستنصرية، روى عن جماعة، وتفرد وشارك في الفضائل واشتهر. وفيها مات بتبريز عالمها شمس الدين عبد الكافي العبيدي، شيخ الشافعية، وقد أحسن، وخلف كتباً تساوي ستين ألفاً. وفيها توفي بدمشق مسندها شهاب الدين محمد بن عبد العزيز بن مشرف بن بيان الأنصاري شيخ الزاوية، بالدار الأشرفية عن ثمان وثمانين سنة، حدث عن ابن الزبيدي والناصح، وابن صباغ وغيرهم، وتفرد واشتهر. سنة ثمان وسبع مائة فيها أطلقت حماة لنائبها فيحق، فسار السلطان إلى الكرك ليحج، فدخلها، وبعث نائبها جمال الدين إلى مصر، وزهد في ملكه لحجر عليها فيها، ولوح بعزل نفسه بيبرس الجاشنكير، وتسلطن، ولقب بالمظفر، وأقر على نيابته الملك سلار، وحلف له أمر النواحي، وجاء كتاب الناصر من الكرك. أنه لم يول أحداً، وقد اختار الانقطاع، أو العزلة بالكرك، وإن له عليهم بيعة بالطاعة، وقد أمرهم بالطاعة لمن يتولى، وبشرط الاتفاق وما فيه تصريح بعزل نفسه. وفيها توفي الشيخ الكبير القدوة عثمان الحانوني، وكانمن الصعيد، وطلع النائب والقضاة إلى جنازته، وكان ذا كشف وتوجه وجذ برك الخبز سنين. وفيها توفي رئيس الطب بمصر العلم ابن أبي خليفة، قيل: تركته ثلاث مائة ألف دينار. وفيها ماتت المعمرة أم عبد الله فاطمة بنت سليمان بن عبد الكريم الأنصاري عن قريب التسعين بدمشق، لها إجازة من جماعة، وسمعت المسلم المازني، وكريمة، وابن

سنة تسع وسبع مائة

رواحة، وكانت صالحة روت الكثير، ولم تتزوج. ومات في رجب الملك المسعود نجم الدين خضر بن الطاهر في أول الكهولة وفي فجاءة. وفيها مات بمكة شيخ الحرم ظهير الدين محمد بن عبد الله بن منعة البغدادي عن بضع وسبعين سنة. جاور أربعين سنة، وحدث عن الشرف المرسي توفي بناحية اليمن " بالمهجم ". وفيها توفي الحافظ مفيد مصر شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن شامة الطائي. وفيها توفي بدمشق مسند الشام أبو جعفر محمد بن علي السلمي العباسي الدمشقي، كان متزهداً، حج مراراً وجاور، تفرد عن أبي القاسم بن صصري، والبهاء عبد الرحمن، ورحل إليه، توفي عن أربع وتسعين سنة. وفيها ماتت بحماة الجليلة أم عمر خديجة بنت عمر بن أحمد في عشر التسعين. روت عن الركن إبراهيم الحنفي. وفيها مات بغرناطة عالمها الحافظ المقرئ النحوي، ذو العلوم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي. سنة تسع وسبع مائة فيها بعث بابن تيمية مع مقدم الإسكندرية، فاعتقل ببرج، ومن أراد دخل عليه، وأبطلت الخمور والفواحش من السواحل. وفي وسط السنة سار أمراء، وهموا بقتل السلطان المظفر بيبرس فتجوز، فساقوا على حمينة إلى العريش، ثم دخلوا الكرك وحركوا همة السلطان، وكان رأسهم ثقبة المنصوري، وهم فوق المائة، فسار السلطان قاصداً دمشق، وأرسل الأفرام، فتوقف، وقال: كيف هذا وقد حلفنا للمظفر؟ ثم خذل وفر إلى السقيفة، ثم دخل السلطان إلى قصر الميدان، فأتاه مسرعاً نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة فيحق، ونائب الساحل استعدو، والتقت إليه جميع عسكر الشام، ثم سار بهم بعد أيام في أهبه عظيمة نحو مصر، فبرز المظفر في جيوشه،

فحام عليه جماعة من الأمراء، فخارت قوته، فانهزم نحو المغرب، ودخل السلطان إلى مقر ملكه يوم الفطر بلا ضربة ولا طعنة، ثم أمسك عدة أمراء عتاة، وخذل المظفر، فجاء إلى خدمة السلطان، فوبخه، ثم خنقه، وأباد جماعة من رؤوس الشر، وتمكن وهرب نائبه سلار نحو تبوك، ثم خدع، فجاء برجله إلى أجله، فأميت جوعاً، وأخذ من أمواله ما يضيق عنه الوصف من الجواهر، والعين، والملابس، والزركش، والخيل المسومة ما قيمته أزيد من ثلاثة آلاف ألف دينار قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنتزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء. بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، وأظهر خربنده بمملكته الرفض، وغير الخطبة، وشمخت الشيعة، وجرت فتن كبار. وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام الفريقين، وموضح الطريقين، ودليل الطريقة، ولسان الحقيقة ركن الشريعة المظفرة الرفيعة تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي الإسكندري، صاحب أبي العباس المرسي. كان فقيهاً عالماً ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية إلى إتباع طريقتهم الرضية، فصحب شيخ الشيوخ أبا العباس المرسي، وانتفع به وفتح له على يديه بعد أن كان من المنكرين عليه، وسيرته معه، وما جرى له هجراً ووصلاً وقولاً وفعلاً مذكورة في كتابه الموسوم بالطائف المنن في مناقب أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن الشاذلي. وله عدة تصانيف مشتملة على أسرار ومعارف وحكم ولطائف نثراً ونظماً كلها في غاية من الجودة، ومن نظمه: وكنت قديماً أطلب الوصل منهم ... فلما أتاني الحلم وارتفع الجهل تبينت أن العبد لا طلب له ... فإن قربوا فضل وإن بعدوا عدل وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم ... وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو وله في شيخة أبي العباس عدة قصائد، وما أحسن قوله في بعضها: فكم قلوب قد أميتت بالهوى ... أحيى بها من بعدما أحياها وكان شيخه المذكور يكثر من استنشاده هذا البيت مرة بعد أخرى، ومن أراد الاطلاع على فضائله وفضائل شيخه، وشيخ شيخه، وما لهم من المناقب، فليطالع كتبه، واشتملت عليه من المواهب. وقد اقتصرت من ترجمته على هذه الألفاظ تاركاً عن بحره الذاخر الذي لا يخاض، ولم أقتصر على قول الذهبي في ترجمته الخافض من رفيع مرتبته. أعني قوله: وفيها مات بمصر الشيخ العارف المذكور تاج الدين أحمد بن محمد بن عطاء الله الإسكندرني صاحب

سنة عشر وسبع مائة

أبي العباس المرسي. انتهى كلامه. وقد قدمت في ترجمة أبي الحسن الشاذلي ما فيه كفاية من التنويه بمرتبته العلية، والرد على من غض من جلالة قدره من الطائفة الحشوية لسوء اعتقادهم بمشائخ الصوفية. وفي السنة المذكورة. مات بمكة مسندها المعمر الصالح أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحمامي البغدادي الزاسكي، المجاور عن بضع وثمانين سنة. وفيها ماتت بحلب المعمرة شهدة بنت الصاحب كمال الدين عمر بن العديم العقيلي، ولدت يوم عاشوراء لها حضور وإجازة من جماعة من الشيوخ، وكانت تكتب وتحفظ أشياء، وتتزهد وتتعبد، وذكر الذهبي أنه ممن سمع منها. وفيها مات بدمشق المقرئ المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن بن صدقة المخرمي. سنة عشر وسبع مائة دخلت وسلطان الوقت الملك الناصر محمد، ونائبه يكتمر أمير جندار والوزير فخر الدين عمر الخليلي، وناب بدمشق قراسنقر. وفيها عزل ابن جماعة من القضاء نيابة جمال الدين الزرعي، لكونه امتنع يوم عقد المجلس لسلطنة المظفر قراها له السلطان، ثم بعد عام أعيد ابن جماعة إلى المنصب، ثم جاء كتاب بعزل ابن الوكيل. وولي بدمشق الشهاب الكاشغري الشريف، وفي نيسان نزل مطر أحمر، وماتت ببغداد ست الملوك فاطمة بنت علي بن علي. وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم السروجي الحنفي وعزل وطلب من دمشق ابن الحريري، فولي مكانه، وتوفي السروجي بعده بأيام في ربيع الآخر، وله ثلاث وسبعون سنة. صنف التصانيف، واشتهر وهلك جوعاً كما استفاض نائب الممالك سيف الدين سلار المغلي، وقد بلغ من الجاه والعز والمال ما لا مزيد عليه تمكن أحد عشر سنة، وكان من

اقطاعه نحواً من أربعين طبلخاناة، وكان عاقلاً ذا هيبة، قليل الظلم. وفيها مات بحماه الأمير الكبير سيف الدين قجق المنصوري أحد الشجعان الأبطال، وكان تركياً، ثام الشكل، محبباً إلى الرعية، ويقال: سقي السم. ومات في رمضان المسند العالم كمال الدين إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم الأسدي الحلبي ابن النحاس الحنفي، عن بضع وسبعين سنة أو ثمان، سمع ابن يعيش، وابن قميرة، وابن رواحة. وفيها مات بتبريز عالم العجم العلامة قطب الدين محمد بن مسعود بن مصلح الشيرازي، عن ست وسبعين سنة، وله تصانيف، وتلامذة، وذكاء باهر، ومزاح ظاهر. وفيها توفي الإمام العلامة حامل لواء الشافعية في عصره نجم الدين أحمد بن محمد، المعروف بابن الرفعة، أحد الأئمة الجلة علماً وفقهاً ورياسة شرح التنبيه شرحاً حفيلاً لم يسبق على التنبيه نظيره جاء فيه بالغرائب المفيدة لكل طالب بل لكل عالم في فهم ثاقب، وكذلك شرح الوسيط، وأودعه علوماً جمة، ونقلاً كثيراً، ومناقشات حسنة بديعة، وهو شرح بسيط جداً، ولم يكمل. سمع الحديث من غير واحد، وحدث بشيء يسير من تصنيفه في أمر الكنائس وتخريبها، وولي حسبة الديار المصرية، ودرس بالمغربية بها، وكان مولده في سنة خمس وأربعين وست مائة، وكان في عرف بعض الفقهاء قد وقع الاصطلاح على تلقيبه بالفقيه حتى صار علماً عليه إذا أشير إليه قلت: وكذلك صار هذا اللفظ في بعض بلاد اليمن علماً على شمس الدين، والفقيه الكبير الولي الشهير أحمد بن موسى، المعروف بابن عجيل. وفيها توفي العالم المتفنن الشيخ علي بن أسمح اليعقوبي، كان له عدة محفوظات منها مصابيح البغوي، والمفصل، والمقامات، وركب البغلة، ثم تزهد وهاجر إلى دمشق، وائتذر بدلق وميزر صغير أسود، وتردد إلى المدارس، وأقرأ العربية. وفيها توفي الإمام العلامة القاضي بدر الدين، المعروف بابن رزين عبد اللطيف بن

سنة إحدى عشرة وسبع مائة

محمد الحموي، ثم المصري الشافعي ابن شيخ الشافعية. قاضي القضاة تقي الدين كان إماماً متقناً، عارفاً بالمذهب درس وأفتى وأعاد لأبيه، وولي قضاء العسكر، ودرس بالظاهرية وغيرها، وخطب بجامع الأزهر، وحدث عن جماعة. سنة إحدى عشرة وسبع مائة فيها عزل عن دمشق نائبها قراسنقر المنصوري، وأعيد إلى القضاء ابن جماعة، وجعل الزرعي قاضي العسكر. وفيها مات في الثغر الإمام الناظم الزاهد العابد أبو حفص عمر بن عبد البصير السهمي القرشي عن ست وتسعين سنة، حدث بدمشق عن ابن المقير، وابن الحميري، وحج مرات. وفيها مات بدمشق المسند الفاضل فخر الدين بن إسماعيل بن نصر الله بن تاج الأمنا أحمد ابن عساكر، وحدث عن جماعة، وتبعه الكبراء وشيوخه نحو التسعين، وكان مكثراً، وفيه خفة مع تدين، وتذاكر بأشياء. وفيها ماتت الصالحة المسندة أم محمد فاطمة بنت الشيخ إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي، روت الصحيح عن ابن الزبيدي مرات، وسمعت صحيح مسلم من غيره، وكانت صالحة متعبدة. وفيها توفي الإمام القدوة الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الدماهي الصوفي الحنبلي، وكان ذا تأله، وصدق وعلم. وفيها توفي الإمام العارف القدوة عماد الدين أحمد ابن شيخ الحرامية إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، صاحب التواليف في التصوف عن أربع وخمسين سنة، وكان من سادات السالكين، وله مشاركة في العلوم، وعبارة عذبة، ونظم جيد. وفيها توفي الشيخ القدوة العارف بالبركة شعبان بن أبي بكر الإربلي، شيخ مقصورة الحلبيين عن سبع وثمانين سنة، وكانت جنازته مشهودة، وكان خيراً متواضعاً، وافر الحرمة.

سنة اثنتي عشرة وسبع مائة

وفيها توفي القاضي المنشئ جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الرويفعي يروي عن مرتضى، وابن المقير، ويوسف بن المحبلي، وابن الطفيل. وحدث بدمشق واختصر تاريخ ابن عساكر، وله نظم ونثر قيل: وفيه شائبة تشيع. وفيها توفي العلامة شيخ الأدباء رشيد الدين رشيد بني كامل الرقي، الشافعي، درس وأفتى، وبرع في الأدب، وحدث عن ابن مسلمة، وابن علان. وفيها توفي قاضي الحنابلة بمصر سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثي حدث وكتب وصنف ودرس، وكان ديناً هيناً، وافر الجلالة، فصيحاً ذكياً. حكم سنين، وكان من أئمة الحديث ومفتياً. وفيها خر من فوق المنبر يوم الجمعة في هذه الحدود خطيب غرناطة، العلامة محمد عبد الله بن أبي حمزة المرسي، ومات فجاءة عن نيف وثمانين سنة - رحمه تعالى -. سنة اثنتي عشرة وسبع مائة فيها قطع خير الأمير مهنا لكونه ساق إليه جماعة من النواب والأمراء، فأجارهم ومسك خلائق من الأمراء وحبسوا، وحدث أحداث كثيرة من عزل وتولية. وفيها حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، قلت: ورأيته يطوف بالكعبة، وعليه ثياب أحرام من صوف، وهو يعرج في مشيته، وحوله جماعة من الأمراء، وبأيدي كثير منهم الطير من أمامه، ومن خلفه وجوانبه، فلما فرغ من طوافه ركع خلف المقام، ثم دخل الحجر، فصلى فيه، ثم جاءه قاضي مكة نجم الدين الطبري، ثم جاءه شيخنا إمام الصلاة والحديث فيها رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري، الشافعي، ولا أدري هل أتيا إليه باستدعاء منه أم بغير استدعاء، وكان دخوله مكة بعد دخول الركب المصري. ساق في أيام يسيرة، وحج وانصرف راجعاً قبل الركب. وفي تلك السنة كان أول حجي عقب بلوغي، ثم رجعت إلى اليمن وعدت إلى مكة سنة ثمان عشرة، ثم أقمت بها، وسمعت الحديث، وازددت من الاشتغال بأنواع من العلوم على جماعة من العلماء، وتأهلت فأولدت من بنات أكابر الحرمين وأئمتهم وقضاتهم.

سنة ثلاث عشرة وسبع مائة

وفي السنة المذكورة مات شيخ بعلبك الإمام الفقيه الزاهد القدوة بركة الوقت أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الحنبلي كفا ذكره الذهبي، ومدحه قال: وكان قليل المثل خيراً منوراً أماراً بالمعروف نهاء عن الفكر، وذكر أنه حدث عن جماعة سماهم. وفيها توفي صاحب ماردين المنصور نجم الدين غازي ابن المظفر. وفيها توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الناصر داود بن المعظم ابن العادل حدث عن الصبر البكري، وخطيب برداً، وكان عاقلاً ديناً. وفيها توفيت ست الأجناس بنت عبد الوهاب بن عتيق المصرية عن اثنتين وثمانين سنة، روت عن جماعة، وتفردت بأشياء. سنة ثلاث عشرة وسبع مائة وفيها وصل السلطان إلى دمشق من الحج حادي عشر المحرم لابساً عباءة وعمامة مدورة، وصلى جمعتين بالمقصورة. وفي ربيع الآخر منها مات بمكة المحدث الحافظ فخر الدين أبو عمرو عثمان بن محمد بن محمد بن عثمان التوزري المجاور، سمع السبط، وابن الحميري وعدة، وقرأ ما لا يوصف كثرة، وكان قد تلا بالسبع، قلت: ورأيته في السنة التي قبلها يحدث في المسجد الحرام، وحضرت في بعض مجالسه، وسمعت شيئاً من الأحاديث المقروءة عليه. سنة أربع عشرة وسبع مائة فيها توفي بمصر العلامة المعمر شيخ الحنفية رشيد الدين إسماعيل بن عثمان بن المعلم القرشي الدمشقي، عن إحدى وسبعين سنة، وسمع من ابن الزبيدي والسخاوي وجماعة، وتفرد وتلا بالسبع على السخاوي، وأفتى ودرس، ثم انجفل إلى القاهرة سنة سبع مائة، ومات قبله ابنه المفتي تقي الدين قبل موته بسنة أو أكثر. قال الذهبي: ومات بدمشق الشيخ سليمان التركماني المولد، وكان يجلس بسقاية باب البريد، وعليه عباءة نجسة ووسخ ونتن، وهو ساكت قليل الحديث، له كشف وحال من

سنة خمس عشرة وسبع مائة

نوع أخبار الكهنة، هكذا قال الذهبي على عادته في اعتقاده في الفقراء المجربين، قال: وللناس فيه اعتقاد زائد، وكان شيخنا إبراهيم مع جلالته يخضع له، ويجلس عنده قلت: يكفي في مدحه ما ذكره عن شيخه المذكور، وذكر أنه كان يأكل في رمضان ولا يصلي. قلت: ومثل هذا قد شوهد من كثير من المجربين، ومن الجائز أنهم يصلون في أوقات لا يشاهدون فيها، وأنه لا يدخل إلى بطونهم، ولا إلى حلوقهم ما يرى الناس، إنهم يأكلونه بل يمضغون ذلك تجريباً وتستراً، أو غير ذلك من الأحوال المحتملة لفعل الصلاة في وقتها وترك الأكل في رمضان، فللقوم أحوال يحتجبون بها. وقد ذكرت في كتاب روض الرياحين وغيره ما يؤيد هذا عن قضيب البان، والشيخ ريحان، وغيرهما من المجربين أولى الاصطفاء والعرفان. وفيها ماتت العاملة الفقيهة الزاهدة القانتة سيدة نساء زمانها، الواعظة أم زينب فاطمة بنت عياش البغدادية الشيخة في ذي الحجة بمصر. عن نيف وثمانين سنة، وشيعها خلائق انتفع بها خلق من النساء، وكانت وافرة العلم، فائقة قانعة باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زائد، ووقع في النفوس. قال الذهبي: زرتها مرة. وفيها مات بالثغر جمال الدين العدل بن عطية اللخمي المتفرد بكرامات الأولياء عن مظفر الفوي بضم الفاء وتشديد الواو من أبناء الثمانين، قلت: يعني أنه تفرد برواية المذكورة عن الشيخ المذكور. سنة خمس عشرة وسبع مائة في أولها سار نائب دمشق بجيوش الشام إلى ملطية، فافتتحها، وسبيت ذراري النساء، وعمد من المسلمات، وعم النهب، وأحرقوا في نواحيها، وفارقوها بعد ثلاث وقتل بملطية عدة من النصارى، ودرس بالأتابكية قاضي القضاة، ابن صصري، وبالظاهرية ابن الزملكاني، وقتل أحمد الرويس الأقناعي، لاستحلاله المحارم، وتعرضه للنبوة، وقوله: أتاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحدثني. وفيها مات سلطان الهند علاء الدين محمود، أو في السنة الماضية، وتسلطن بعده نائبه غياث الدين. وفيها مات بالموصل السيد ركن الدين الحسن بن محمد العلوي الحسيني، وكان صاحب التصانيف، وكان لا يحفظ القرآن، ولا بعضه، ومع هذا كانت

سنة ست عشرة وسبع مائة

جامكيته، في الشهر ألفاً وست مائة درهم. ؟ سنة ست عشرة وسبع مائة فيها ولي قضاء الحنابلة بدمشق شمس الدين ابن سلم بفتح السين واللام وتشديدها. وفيها مات العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي الحنبلي النسفي الشاعر، صاحب شرح الروضة، كان على بدعته، كثير العلم، عاقلاً، متديناً، مات، ببلد الخليل كهلاً. وفيها ماتت مسندة الوقت، ست الوزراء، بنت عمر بن أسعد التنوخية، في شعبان، فجاءة عن اثنتين وتسعين سنة. روت عن أبيها القاضي شمس الدين وابن الزبيدي، وحدثت بالصحيح، ومسند الشافعي بدمشق، ومصر مرات، وكانت على خير. وفيها مات سلطان التتار غياث الدين خربنده، ابن أرغون، هلك بمراغة في آخر رمضان، ولم يتكهل، وكانت دولته ثلاث عشرة سنة، وتملك ابنه بعده أبو سعيد. وفيها توفي المعمر المقرئ السيد صدر الدين أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي الدمشقي، سمع جماعة منهم مكرم، وابن الشيرازي، والسخاوي، وقرأ عليه بثلاث روايات، وكان فقيهاً مقرياً وتفرد بأجزاء. وفيها ماتت بحماة أم أحمد فاطمة بنت النفيس محمد بن الحسين بن رواحة. روت أجزاءاً عن عمها بطرابلس، ومصر. قال الذهبي: سمعنا منها. وفيها توفي الشيخ العلامة ذو الفنون صدر الدين محمد ابن الوكيل خطيب دمشق. وفيها توفي زين الدين عمر بن مكي بن المرحل الشافعي بمصر، عن إحدى وخمسين سنة، وأشهر، ولد بدمياط، ونشأ بدمشق، وسمع من ابن غيلان والقاسم الإربلي، وأفتى عن اثنتين وعشرين، وحفظ المقامات في خمسين يوماً، وتخرج به الأصحاب، وكان أحد الأذكياء النجاب، وله نظم رائق ومزاح عفا الله عنه.

سنة سبع عشرة وسبع مائة

وفيها مات بسبتة عالمها النحوي ذو العلوم أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الغافقي، الإشبيلي، سمع التفسير، وبحث كتاب سيبويه، وتلا بالسبع، له تصانيف وجلالة وتلامذة. وفيها توفي الإمام العلامة المدرس المفتي الشافعي. أحمد بن أحمد بن مهدي المدلجي الكناني المعروف بعز الدين النسائي، كان من أورع أهل زمانه درس وأفتى بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة، واشتغل للطلبة، وانتفعوا به، وتوفي بمكة - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة، ودفن بالمعلى. سنة سبع عشرة وسبع مائة فيها حدثت الزياة العظمى ببعلبك، فغرق في البلد مائة وبضع وأربعون نسمة، وجرف السيل سورها الحجارة مساحة أربعين ذراعاً، ثم تزلزل بعد مكانه مسيرة خمس مائة ذراع، وكان ذلك آية بينة، وتهدم من البيوت والحوانيت نحو ست مائة موضع. وفيها قدم السلطان إلى غزة، وإلى الكرك، ثم رجع. وفيها ظهر جبلي، وادعى أنه المهدي بجبلة، وثار معه خلق من النصيرية والجهلة، وبلغوا ثلاثة آلاف، فقال: أنا محمد المصطفى، ومرة قال: أنا علي وتارة قال: أنا محمد بن الحسن المنتظر، فزعم أن الناس كفرة، وأن دين النصيرية هو الحق. وأن الناصر صاحب مصر قد مات، وعاثوا في السواحل، واستباحوا جبلة، ورفعوا أصواتهم يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان. ولعنوا الشيخين، وخربوا المساجد، وكانوا يحضرون المسلم إلى طاغيتهم، ويقولون: اسجد لإلهك، فسار إليهم عسكر طرابلس، وقتل الطاغية وجماعة ومزقوا. وفيها مات المحدث الإمام الشيخ علي بن محمد الحسيني الصوفي في المحرم عن سبع وأربعين سنة، روى عن الفخر علي، وتاج الدين الفزاري. كان تقياً ديناً مؤثراً، كثير المحاسن. وفيها مات بدمشق قاضي المالكية المعمر جمال الدين محمد بن سليمان

سنة ثمان عشرة وسبع مائة

الزواوي وبقي قاضيها ثلاثين سنة. سنة ثمان عشرة وسبع مائة فيها كان القحط المفرط بالجزيرة، وديار بكر كلت الميتة، وبيعت الأولاد، ومات بعض الناس من الجوع، وجرى ما لا يعبر عنه، وكان أهل بغداد في قحط أيضاً دون ذلك. وجاءت بأرض طرابلس زوبعة أهلكت جماعة، وحملت الجمال في الجو، وأمسك السلطان جماعة أمراء. وفيها مات بزاويته الإمام القدوة، بركة الوقت، الشيخ محمد بن عمر ابن الشيخ الكبير أبي بكر بن قوام النابلسي عن سبع وستين سنة، روى عن إسحاق ابن طبرزد، وكان محمود الطريقة، متين الديانة. وفيها مات بدمشق الإمام الكبير أبو الوليد محمد بن أبي القاسم القرطبي إمام محراب المالكية. وفيها مات مسند الوقت الصالح أبو بكر بن المنذر بن زين الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي. وفيها مات العلامة المفتي كمال الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد الشريشي. وفيها مات شيخ القراء والنحاة مجد الدين أبو بكر محمد بن قاسم المرسي التونسي الشافعي، تخرج به الفضلاء، وكان ديناً صيناً ذكياً، قال الذهبي: حدثنا عن الفخر علي. وفيها ماتت بالصالحية زينب بنت عبد الله بن الرضي، عن نيف وثمانين سنة. روت عن الحافظ الضياء، وتفردت بأجزاء. وفيها مات العلامة قاضي المالكية بدمشق فخر الدين أحمد بن سلامة القضاعي. وكان حميد السيرة بصيراً بالعلم محتشماً. سنة تسع عشرة وسبع مائة فيها حج السلطان الملك الناصر من مصر، وفيها كانت الملحمة العظمى بالأندلس

سنة عشرين وسبع مائة

بظاهر غرناطة، فقتل فيها من الفرنج أزيد من ستين ألفاً، ولم يقتل من عرف من عسكر المسلمين سوى ثلاثة عشر نفساً، والحمد لله على نصر دين الإسلام، وعلى سائر أفضاله والأنعام. وفيها مات مسند الوقت الشرف عيسى بن عبد الرحمن الصالحي المعظم. وفيها مات بمالقة شيخها العلامة أبو عبد الله محمد بن يحيى القرطبي، عن ثلاث وتسعين سنة، تفرد بالسماع عن الكبار. سنة عشرين وسبع مائة فيها حج مع السلطان الأمير عماد الدين الأتوني سلطنة السلطان بحماة، ولقب بالملك المؤيد، وقتل بمصر إسماعيل المقرئ على الزندقة، وسب الأنبياء، وقتل بدمشق عبد الله الرومي الأزرق مملوك الناجي ادعى النبوة وأصر وعمل عقد السلطان على أخت إزبك التي قدمت في البحر، وخلع على الكريم وابن جماعة، وكاتب السر وغيرهم، وغضب السلطان على آل فضل، وأحيط على أقطاعهم بعد أن أعطاهم قناطير من الذهب بحيث أنه أعطاهم في عام أول ألف ألف، وخمس مائة ألف درهم، وغزا الجيش بلاد سيس لكن غرق في نهر خان منهم خلق كثير، وحبس بقلعة دمشق ابن تيمية لإفتائه في الطلاق مخالفاً لجماهير أهل السنة، وأمسك نائب غزة الحاوي، وجاء بالسلطانية برد كبار، ووزنت منه واحدة ثمانية عشر درهماً، فاستغاث الخلق وبكوا فأبطلت الفاحشة والخمور أجمع بمهمة عليشاه الوزير، وزوج من العواهر خمسة آلاف في نهار واحد، وشقق ألوف من الظروف، وابتنى الجامع الكبير الكريمي بالضبات، وسيق إليه مال كثير، وحج الرحبيون منهم القاضي فخر الدين المصري، وجماعة من العلماء، ووجوه الناس. وفيها مات المعمر المقرئ الرحلة أبو علي الحسن بن عمر بن عيسى الكردي. وفيها قتل صاحب مكة حميضة بن أبي نمي الحسني وكان قد نزع عن طاعة السلطان الملك الناصر، وتولى أخوه عطيفة، فقتله جندي التقى به بالبرية غيلة، وهو نائم، ثم قتله السلطان لغدره. قلت: ويقال: إن ذلك من تحت مكيدة السلطان جاء إليه الجندي في صورة هارب من السلطان.

سنة إحدى وعشرين وسبع مائة

ورأيت قبيل قتله في المنام. كان القمر في السماء قد احترق بالنار، وأظن أني رأيته سقط إلى الأرض، وكان قبل ذلك بأيام قد جاء بجيش يريد أخذ مكة وقتل جماعة فيها من الفقهاء، والمجاورين على ما قيل، وقد كان مخرجاً منها. ومن جملة المذكورين، القاضي الجليل الإمام الحفيل نجم الدين الطبري، جاءني، وهو خائف يقول: أين أذهب، وعندي بنات. يعني لا أستطيع الذهاب عنهن، فرأيت في المنام، في ضحى ثاني ذلك اليوم الذي قال فيه: ذلك المقال كأني شاهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبلت قدمه الشريفة، وقلت: يا رسول الله نجم الدين، فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لي: " ما يصيبه شر " فقلت له: أهل مكة، فانقبض عليه السلام، ولم يجبني بجواب، فأعدت عليه ذلك، فلم يجبني، ثم أعدت عليه ثالثاً فقال: " ما عليهم إلا خير " يقول ذلك بغير بشاشة منه، ثم أقبل بالجيش عقب هذا المنام إلى أن بلغ بطن مر، فخرج إليه أخوته عطيفة، وعطاف، وآخر من أخوته مع عسكر ضعيف، فنصرهم الله عليه، وكسروه، فانهزم ولم يكن قبل ذلك يكسر، بل كانت العربان تهابه هيبة عظيمة، وكانت له سطوة، وإقبال، وسعادة عاجلة، وكان يقول: كان لأبي نمي خمس فضائل، الشجاعة، والكرم، والحلم والشعر، والسعادة، قال: فورثت هذه الخمس، خمسة من أولاده، فالشجاعة لعطيفة، والكرم لأبي الغيث، والحلم لرميثة، والشعر لسليمة، والسعادة لي حتى لو قصدت جبلاً لدهكته، ثم قتل بعد كسرته المذكورة، بعد أيام يسيرة. سنة إحدى وعشرين وسبع مائة فيها أطلق ابن تيمية بعد الحبس بخمسة أشهر، وأقبلت الحرامية في جمع كثير، فنهبوا في بغداد علانية سوق الثلاثاء، فانتدب لهم عسكر، فقتلوا فيهم مقتلة نحو المائة، وأسروا جماعة. ووقع الحريق الكثير بالقاهرة، ودام أياماً، وذهبت الأموال، ثم ظهر فاعلوه، وهم جماعة من النصارى، يعملون قوارير ينقدح ما فيها، ويحرق، فقتل جماعة وكان أمراً مزعجاً قيل: فعلوه، لإخراب كنيسة لهم، وأخرب ببغداد مواضع الفاحشة، وارتفعت الخمور، وأخربت كنيسة اليهود وحج تائب دمشق، وفي صحبته خطيب البلد القاضي جلال الدين القزويني، وجماعة من العلماء والأكابر. وفيها مات شيخ الشيعة، وفاضلهم الشمس محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم

الهمداني، ثم الدمشقي. وفيها مات بالفيوم خطيبها الرئيس، الأكمل، المحتشم، مجد الدين أحمد بن المعين الهمداني النويري المالكي، صهر الوزير ابن حنا، وكان يضرب به المثل في المكارم، والسؤدد. وفيها توفي بمكة الشيخ الكبير العالم بالله الشهير، بدر المعارف، ومعدن الكرامات، واللطائف، ذو المواهب السنية، والمقامات العلية، وأنفاس الصادقة، والأحوال الخارقة شيخ عصره، وعلم دهره، نجم الدين عبد الله بن محمد بن محمد الأصبهاني الشافعي، تلميذ الشيخ الكبير أبي العباس المرسي الشاذلي عن ثمان وسبعين سنة. جاور بمكة سنين كثيرة، ومناقبه كثيرة باهرة، وآياته شهيرة ظاهرة، وأيامه منيرة زاهرة، ولو ذهبت أعدد ما اشتهر عنه من الفضائل المشتملة، على العجب العجاب، لخرجت بذلك عن الاختصار المقصود بهذا الكتاب، ولكني أذكر شيئاً لطيفاً تلويحاً بفضله، وتعريفاً، فمن ذلك أنه رأى في صغره كأنه خلع عليه إحدى عشر علماً فعرض ذلك على عمه وكان من الأكابر، أولى البصائر، فقال: يتبعك أحد عشر ولياً. وقال له: الفقيه الإمام العارف بالله رفيع المقام علي بن إبراهيم اليمني البجلي، في بعض حجاته، تركت ولدي مريضاً لعلك تراه في بعض أحوالك، فتخبرني كيف هو فرمق الشيخ نجم الدين في الحال قال: ها هو قد تعافى، وهو الآن لستاك على سرير، وكتبه حوله، ومن صفته وخلقته كذا وكذا، وما كان رآه قبل ذلك، وطلع يوماً في جنازة بعض الأولياء، فلما جلس الملقن عند قبره يلقنه. ضحك الشيخ نجم الدين، فسأله تلميذ له عن ضحكه إذ لم يكن الضحك له عادة فزجره، ثم أخبره بعد ذلك أنه سمع صاحب القبر يقول ألا تعجبون من ميت يلقن حياً؟ وكان الملقن من كبار الفقهاء أكره أن أسميه. ومن كراماته أيضاً أني رأيته في منامي يكلم شيخاً من المجاورين الصالحين سراً مقبلاً عليه في وقت كنت مضروراً فيه لحاجة، فلما انتبهت من منامي أردت أن أبشر ذلك الشيخ بإقباله عليه، وإذا به قد جاءني، وقضى لي تلك الحاجة التي تعسرت علي، ففهمت أنه ما كان يكلمه إلا من شأني، وكنت قد أدركته في حجتي الأولى، وهو صحيح الجسم يعتمر في الجمعة مرتين، ويطوف بالبيت أسابيع كثيرة أظنها سبعة بعد الصبح، وأسبوعا بعد المغرب

وأسبوعاً بعد العشاء. سمعته يقرأ فيه: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " " الإسراء: ا " سورة بني إسرائيل، وأسبوعاً قبل الفجر، وسمعت شيئاً من كلامه خلف المقام، وأحرمت بالعمرة معه في وقت، وأدركته في الحجة الثانية، وهو متخلف في بيت لوجع في رجله، وكان ذا صورة جميلة، ولحية طويلة، وهيبة عظيمة، وكان قد اشتغل بعلوم كثيرة، وحصل منها محصولاً طائلاً، وكان كتابه في الفقه الوجيز، وقيل له: هل تزوجت امرأة قط؟ فقال: ولا كلت طعاما طبخته امرأة. وقال له شيخ في بلاد العجم: ستلقى القطب في الديار المصرية، فخرج في طلبه، فمر في طريقه بحرامية، فأمسكوه وكتفوه، وظنوه جاسوساً وقال بعضهم: نقتله قال: فبت مكتوفاً، فنظمت أبياتاً ضمنتها قول امرء القيس من ذلك: وقد أوطيت نعلي كل أرض ... وقد أتعبت نفسي باغتراب وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب قال: فما استتمت الإنشاد حتى انقض علي شيخ كانقضاض البازي على الفريسة، وحل أكتافي، وقال: قم يا عبد الله، فأنا مطلوبك، فذهبت حتى وصلت إلى الديار المصرية، فما عرفت من مطلوبي، ولا أين هو، فلما كان ذات يوم قيل: قدم الشيخ أبو العباس المرسي، فقال الفقراء: اذهبوا بنا نسلم عليه، فلما رأيته تحققت أنه الشيخ الذي حل كتافي، ثم قال: في أثناء كلام له: الحقني يا عبد الله، فما جئت إلا بسببك، ثم خرج من المجلس، والحاضرون لا يدرون من يعني، فتبعته وصحبته إلى أن توفي. ووقع له عجائب يطول ذكرها، ثم توجه بعد وفاته للحج فمر في طريقه على قبر شيخ شيخه شيخ زمانه أبي الحسن الشاذلي، فكلمه من قبره وقال له: اذهب إلى مكة، وانحبس بها. قلت: وأخبرني بعض الشيوخ الكبار، وهو ذو الكرامات الشهيرة الخارجة عن الانحصار الذي بإرشاده الضال يهتدي الشيخ محمد المرشدي أن الشيخ نجم الدين لما سافر للحج لم يطعم شيئاً حتى بلغ قبر شيخ شيخه أبي الحسن المذكور الذي هو فيه مقبور، ولما بلغ طرف الحرم الشريف سمع هاتفاً يقول له: قدمت إلى خير بلد، وشر أهل، أو نحو ذلك من الكلام، ثم لم يزل بمكة ذا جد واجتهاد مواصلة بين الأوراد. مكثراً من الطواف والاعتماد. مشاراً إليه بالأنوار والأسرار، ويجتمع به من ورد من الشيوخ الكبار إلى أن توفى، فدفن قريباً من قبر السيد الجليل الذي بجواره بلوغ الأغراض أبي علي الفضيل بن

عياض - قدس الله روحهما - ولم ير في الظاهر خارجاً من مكة إلى مكان أبعد من عرفة، وأما في الباطن، فالعلم بذلك راجع إلى علماء الباطن. قد أخبرني بعض الأولياء، وهو الشيخ محمد البغدادي الذي كان ساكناً في بلاد مراغة، قال: لما رجعت من زيارة النبي عليه السلام متوجهاً إلى مكة. أفكرت في الشيخ نجم الدين المذكور، وعتبت عليه في قلبي في كونه لا يقصد المدينة الشريفة ويزور، قال: ثم رفعت رأسي، فإذا به في الهوى ماراً إلى جهة المدينة، وناداني: يا محمد كذا وكذا، وذكر كلاماً نسيته. وبلغني أنه قال له بعض أصحابه: يا سيدي الناس ينكرون عليك ترك زيارة النبي عليه السلام، فقال: لا ينكر ذلك إلا أحد رجلين، إما مشرع، وإما محقق. فأما المشرع. فقل له: هل يجوز للعبد أن يسافر بغير إذن سيده؟ وأما المحقق فقل له: من هو معك في كل حين حاضر هل لطلبه تسافر. وقال الشيخ عبد الملك ابن الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو محمد المرجاني المغربي - قدس روحه - استأذنت الشيخ نجم الدين في زيارة قبر النبي عليه السلام فقال: مالك طريق إلى ذلك في هذا الوقت، قال: فخالفته وسافرت مع جماعة، فلما صرنا بين الروضة والهمة مشينا ليلتنا فغوينا، فأصبحنا حيث أوينا، ثم مشينا فغوينا كذلك ثلاثة أيام، فعرفت أن سبب غوايتنا مخالفتي للشيخ نجم الدين، فقلت للجماعة: سافروا فما السبب المعوق لكم إلا أنا، ثم رجعت إلى مكة، وسافروا فلما كان بعد مدة استأذنت الشيخ نجم الدين في السفر، فقال لي: سافر، فتسهلت لي الطريق، وارتفع التعويق. هذا يعني كلامه وإن اختلفت العبارة، فلما وصل المدينة الشريفة وجد بعض المجاورين قد توفي، وأوصى له بثياب، فلبسها. قلت: وقد اقتصرت في ترجمة الشيخ نجم الدين الأصبهاني على هذه النبذة من فضائله، وهذه القطرة من بحر لا يوصل إلى ساحله. وأما ترجمة الذهبي فغاضة من قدره بل طامسة لنور بدره، حيث يقول في ترجمته: بهذه الألفاظ بعينها، ومات بمكة في جمادى الآخرة العارف الكبير نجم الدين عبد الله بن محمد الأصبهاني الشافعي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي عن ثمان وسبعين سنة. جاور بمكة مدة، وما زار النبي عليه السلام فيها، وانتقد عليه الشيخ علي الزاهد رحمهما الله تعالى. هذه جميع ترجمته المقصرة في وصفه المنسوب إليه، المنكرة في ترك الزيارة عليه، وقد قدمت التنبيه على أعظم من هذا التمويه في إنكاره على شيخ شيخه أبي الحسن الشاذلي

في ترجمته، وإنزاله إلى الحضيض النازل من رفيع مرتبته، فطالع ما تقدم في ترجمته المذكورة ترى العجب العجاب، فتوفق إن شاء الله تعالى في الاعتقاد للصواب. وفي السنة المذكورة توفي صاحب اليمن شيخ القراءات، ومعدن البركات مقرئ حرم الله تعالى، ومحقق قراءة كتاب الله عز وجل. الشيخ الكبير السيد الشهير أبو محمد عبد الله لمعروف بالدلاوي - رضي الله تعالى عنه - ونفع به. كان من ذوي الكرامات العديدات، والمناقب الحميدات. يقال: إنه ممن سمع رد السلام من سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ورأيته يطوف في ضحى كل يوم أسبوعاً بعد فراغ الطلبة من القراءة عليه، وكان قد انحنى انحناء كثيراً، فإذا جاء إلى الحجر الأسود زال ذلك الإنحناء وقبله، وكان يعد ذلك من كراماته. ومنها أنه كان عنده طفل غابت أمه عنه، فبكى فدر ثديه باللبن، فأرضع ذلك الطفل حتى سكت، وله كرامات أخرى كثيرة شهيرة. وفي السنة المذكورة توفي صاحب اليمن الملك المؤيد عزيز الدين داود ابن الملك المظفر يوسف بن عمر، وكانت دولته بضعاً وعشرين سنة. قال بعض المؤرخين: وكان عالماً فاضلاً سائساً شجاعاً، وعنده كتب عظيمة نحو مائة ألف مجلد، وكان يحفظ التنبيه وغير ذلك. انتهى. قلت: وأبوه الملك المظفر، وابنه الملك المجاهد كلاهما في العلوم أكثر من مشاركة فرعاً وأصلاً، وأذكى قريحة، وأشهر فضلاً، وأحسن ملحاً، وأظرف وأحلى من ذلك أنه كتب بعض الناس إلى الملك المظفر، قال الله عز وجل: " إنما المؤمنون أخوة " " الحجرات: 10 " وأنا أخوك فلان أطلب منك نصيبي من بيت مال المسلمين، فأرسل إليه الملك المظفر بدرهم، وقال للرسول قل له: " إذا فرقنا بيت مال المسلمين عليهم لم يحصل لك أكثر من هذا أو قال: لعله لا يحصل لك هذا. وله أربعون حديثاً خرجها منتقاة عوالي رويناها عن شيخنا رضي الدين الطبري يحق روايته لها عن الإمام محب الدين الطبري بروايته لها عن الملك المظفر المذكور. وأما الملك المجاهد، فله أشياء بديعة نظماً ونثراً، وديوان شعره، ومعرفة بعلم الفلك، والنجوم، والرمل، وبعض العلوم الشرعية من الفقه وغيره. وفيها مات بمصر المحدث الرحال تقي الدين محمد بن عبد المجيد الهمداني

سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة

المصري، الصوفي، عن نيفٍ وسبعين سنة، سمع من جماعة منهم المري، وابن الخير. كذا ذكره الذهبي. وفيها مات حافظ المغرب الإمام العلامة أبو عبد الله بن رشيد الفهري بفاس. سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة وفيها توفي شيخنا المحدث الإمام العلامة الراوية صاحب الأسانيد العالية، بركة الوقت، فريد العصر بقية المحدثين الصالحين رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري المالكي إمام المقام في الحرم الشريف، ذو الأوصاف الرضية، والمنصب المنيف، سمع رضي الله تعالى عنه ما يطول عقه من الكتب والأجزاء في الحديث والتفسير، والفقه، والسير، واللغة، والتصوف وغير ذلك من خلائق من الأئمة الكبار، وأجاز له أيضاً خلائق من جلة يطول عدهم، ويعلو مجدهم، وكل ذلك مثبت بخطه في بيت محفوظ في كتبه، وتفرد في آخر عمره خصوصاً برواية صحيح البخاري، واعترف له الجلة بالجلالة، حتى قال له محدث القدس المتفرد في وقته صلاح الدين العلاني رحمه الله: لي من الشيوخ قريب من ألف ما فيهم مثل شيخك، يعني رضي الدين المذكور. وبلغني أن إمام اليمن، وبركة الزمن، الفقيه الكبير الولي الشهير، السيد الجليل ذا المناقب الزاهرة، والكرامات الباهرة أحمد بن موسى بن عجيل سأله بعض أهل مكة الدعاء، فقال: عندكم إبراهيم. وله نظم جيد، وتواليف منها كتاب " الجنة في مختصر شرح السنة " للإمام البغوي، وغير ذلك، وكان رضي الله تعالى عنه مع اتساعه في رواية الحديث له معرفة بالفقه والعربية وغيرهما. وكانت قراءتي عليه في أول سنة إحدى وعشرين إلى أن اشتد مرض موته في شهر صفر من سنة اثنتين وعشرين وقال لي: يا ولدي لقد حصلت علي في هذه السنة ما لم أحصله في سنين كثيرة ومن مقروءاتي عليه صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داؤد والترمذي، والنسائي، والدرامي، وابن حبان، ومسند الإمام الشافعي، والشمائل للترمذي وعوارف المعارف للسهروردي، والسيرة لابن هشام، وعلوم الحديث لابن الصلاح، ومنسكه، وخلاصة السيرة، وصفة القراء، والمجالس الملكية، والعوالي من مسموعات الفراوي، والأربعين من سباعياته، والأنباء المنبئة عن فضل المدينة، والأربعون المختارة في

صفات الحج والزيارة لابن مسدي، والسداسيات للحافظ السلفي، وخماسيات ابن النقور، وجزء من حديث ابن عرفة، ومقاصد الصوم لابن عبد السلام، والأربعون من أربعين كتاباً للهروي، وفضائل شهر شعبان لابن أبي الصيف، وسداسيات الميانسي، وكتاب أعلام الهدى، وعقيدة أرباب التقى للشيخ شهاب الدين السهروردي، ومسلسلات الديباجي، وتساعيات شيخنا رضي الدين المذكور، وكتاب محاسبة النفس لابن أبي الدنيا، وإجارة المجهول والمعموم للحافظ الخطيب، وثمانون للآجري، وأربعون للملك المظفر صاحب اليمن، والأربعون للنواوي، والأربعون الثقفيات، وغير ذلك. وقد أفردت لمعظم ذلك، أشياء كثيرة مثبتاً في أوراق عديدة، وأضفت ذلك مجازاتي منه ومقروءاتي على غيره، مالي من تصنيف وتأليف نظماً ونثراً في جزء كتبته وقرأه علي ناس كثيرون، وكان آخر ما قرأته على شيخنا المذكور الملخص للمغافري توفي وقراءتي في أثنائه رحمه الله تعالى ورحم سائر مشائخنا، وقد ذكرت كثرهم في الجزء المذكور. وجل اعتمادي منهم على ثلاثة شيوخ مشهورين بالعلم والصلاح بل بالولايات، والكرامات، وعوالي المناقب، والمكانات. أحدهم الشيخ رضي الدين المذكور، والثاني شيخنا وبركتنا الإمام الفريد ذو الوصف الحميد زين عدن وبركة اليمن مفيد الطلاب، وحليف المحراب، الخاشع الأواب، العالم العامل، الزاهد العابد المفضال جمال الدين محمد بن أحمد المعروف بالنضال الذهبي اليمني الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ورفع في الجنان قدره وأعلاه، وهو أول من انتفعت به. والثالث شيخنا، وبركتنا، وسيدنا، وقدرتنا الشيخ الكبير العارف بالله الشهير الخبير، ذو المقامات العلية، والكرامات السنية، والمواهب الجزيلة، والأوصاف الجميلة مطلع الأنوار، وخزانة الأسرار أبو الحسن علي بن عبد الله اليمني الشافعي الصوفي مذهباً المعروف بالطواشي نسباً - قدس الله روحه - ونور ضريحه، وقد ذكرت إلى من نسب في لبس الخرقة من الشيوخ في كتاب نشر الريحان في فضل المتحابين في الله من الأخوان، وذكرت هنالك شيئاً من كراماته العظيمة، وفضائله الكريمة، وكلا هذين الشيخين اليمنيين المذكورين توفيا في سنة ثمان وأربعين وسبع مائة، وصلينا عليهما في يوم واحد في المدينة الشريفة، وليس هذا موضع ذكر مناقبهما - رحمة الله تعالى عليهما - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى في السنة المذكورة. وفيها ماتت بالقدس المعمرة الراحلة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن أبي بكر بن سكر المقدسي في ذي الحجة عن أربع وتسعين سنة، وسمعت من غير واحد، وتفردت بالأجزاء الثقفيات.

سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة

سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة فيها توفي الفقيه الإمام المدرس المفيد الشافعي، كان من أعيان الأئمة الشافعية، وخيار الفقهاء وكبارهم، درس وأعاد في مدارس، وانتفع به خلق كثير، وصنف في الفقه روايد التعجيز على التنبيه، وثاب في الحكم عن قاضي القضاة الزرعي، ثم عن قاضي القضاة بدر الدين، وتولى وكالة بيت المال، ولم يزل على ذلك إلى أن ليلة الجمعة رابع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى. وفيها أمسك الكريم السلماني وكيل السلطان الملك الناصر، وزالت سعادته التي كانت يضرب به المثل. وفيها مات بدمشق في ربيع الأول قاضي دمشق، ذو الفضائل ورئيسها الكامل نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد المعروف بابن صصري، الثعلبي، الشافعي، سمع من جماعة، وأفتى ودرس، وله النظم والترسل والخط المنسوب، والمروس الطويلة، والفصاحة وحسن العبارة، والمكارم مع دين، وحسن سريرة ولي القضاء إحدى وعشرين سنة. وفيها مات مسند الشام بهاء الدين القاسم ابن المظفر ابن تاج الأمناء ابن عساكر. وفيها مات بالمزة ليلة عرفة، مسند الوقت شمس الدين أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله ابن الشيرازي، الدمشقي، سمع من جماعه، وله مشيخة وعوال، وكان ساكناً وقوراً منقبضاً عن الناس. سنة أربع وعشرين وسبع مائة فيها كان الغلاء بالشام، وبلغت الغرارة أزيد من مائتي درهم أياماً، ثم جلب القمح من مصر بإلزام السلطان لأمرائه، فنزل إلى مائة وعشرين درهماً، ثم بقي أشهراً، ونزل السعر بعد شدة، وأسقط مكس الأقوات بالشام بكتاب سلطاني، وكان على الغرارة ثلاثة ونصف.

قلت هذا الغلاء المذكور في الشام هو عندنا في الحجاز رخص، ولقد بلغ ثمن الغرارة الشامية في مكة وقت كتابتي لذكر هذا الغلاء المذكور في هذا التاريخ فوق ألف وثلاث مائة درهم. وفيها قدم حاجاً ملك التكرور موسى بن أبي بكر بن أبي الأسود في ألوف من عسكره للحج، فنزل سعر الذهب درهمين، ودخل إلى السلطان، فسلم ولم يجلس، ثم أركب حصاناً. وأهدى هو إلى السلطان أربعين ألف مثقال وإلى نائبه عشرة آلاف، وهو شاب عاقل، حسن الشكل، راغب في العلم، مالكي المذهب. قلت: ومن عقله أني رأيته في منزله في الشباك المشرف على الكعبة بحي رباط الحوري، وهو يسكن أصحابه التالدة عند هيجان فتنة ثارت بينهم وبين الترك، وقد شهروا فيها السيوف في المسجد الحرام، وهو مشرف عليهم، فيشير عليهم بالرجوع عن القتال. شديد الغضب عليهم في تلك الفتنة من رجحان عقله إذ لا ملجأ له، ولا ناصر في غير وطنه وأهله، وإن ضاق الفضاء بخيله ورجله. وفيها مات بمصر المفتي الإمام الجليل القدر بين الأنام، الزاهد نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي كهلاً، وهو الذي أذى ابن تيميه، وأقدم على الإنكار الغليظ الباهر على السلطان الملك الناصر، وتسلم من بطشه وفتكه القاهر، ولم يزد على الأمر بإبعاده، وإخرإجه من بلاده وقيل: إنه أمر بقطع لسانه، فتلجلج وظهر الخوف في جنانه، فقال السلطان لو ثبت لكان عندي عظيم الشأن. وفيها مات مخنوقاً، الصاحب الكبير، كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله القبطي السلماني بأسوان، وكان قد نفي إلى الشويك، ثم إلى القدس، ثم إلى الأسوان، ثم سبق سراً، وكان هو الكل وإليه الحل والعقد بلغ. من الرتبة ما لا مزيد عليه، وجمع أموالاً عظيمة، فأعاد أكثرها إلى السلطان. وكان عاقلاً ذا هيبة وسماحة، فمرض مرة، فزينت مصر لعافيته، وكان يعظم الدينين، ولم يرو ايثاره. وفيها مات في ذي الحجة بدمشق، المفتي الزاهد، علاء الدين علي بن إبراهيم بن

سنة خمس وعشرين وسبع مائة

العطار الشافعي، يلفت بمختصر النووي، سمع من غير واحد، وأصابه فالج أزيد من عشرين سنة، وله فضائل وتأله واتباع، وكان شيخ النورية. قلت: هكذا ذكر الذهبي، ولم يذكر ما قد عرف واشتهر وشاع، وتقرر عنه أنه من أصحاب الشيخ معتمد الفتاوى محمد محيي الدين النووي، وروى عنه بعض كتبه جامع جزء من مناقبه. وفيها توفي الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم، الفقيه الإمام العلاء الأصولي الشافعي نزيل دمشق، درس بالظاهرية، وتفقه بجده لأمه، وأخذ عن سراج الدين الأرموي العقليات، وسمع من الفخر علي، وصنف وأفتى ودرس، وكان فيه دين وتعبد ودرس في الجامع، وتخرج به أئمة وفضلاء. سنة خمس وعشرين وسبع مائة في جمادى الأولى كاد غرق بغداد المهول حتى بقيت كالسفينة، وساوى الماء الأسود، وغرق الأمم من الفلاحين، وعظمت الاستغاثة بالله، ودام خمس ليال، وعملت سكور فوق الأسوار، ولولا ذلك لغرق جميع البلد، وليس الخبر كالعيان، وقيل: تهد بالجانب الغربي نحو خمس آلاف بيت. ومن الآيات أن مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الذي فيه ضريحه، فإن الماء دخل في الدهليز علو ذراع، ووقف بإذن الله، وبقيت البواري عليها غبار حول القبر، صح هذا، وجر السيل أخشاباً كباراً وحيات غريبة الشكل صعد بعضها في النخل، وله نضب الماء نبت على الأرض شكل بطيخ كعظيم القثاء. وفيها سار من مصر نحو ألفي فارس نجدة للمجاهد صاحب اليمن على من كان قد استولى على الملك من قرابته، وممن خالف عليه ابن عمه الملك الظاهر، وهو محصور في حسن تعز برمي بالمنجنيق، فيصيب ما حوله من الجدران، ورجع العسكر المذكور، وقد موتت خيلهم، ولم يقضوا حاجة لعسر جبال اليمن، وتحصن أهلها في الحصون العالية، ولكن لما أراد الله تأييد الملك المجاهد خرج من الحصن في نفر يسير، وانتصر، وسار إلى

عدن، وأخذها بمساعدة يافع إذ كانوا هم الذين رتبوا في حصونها وجبالها يحرسونها، ولم يزل ذا نجدة وشجاعة يقاتل قدام الجيش، وملكه يزيد ويعلوا إلى أن لزموا أمر مصر في حجته، وساعدهم الشريف عجلان صاحب مكة، وانخذل عسكره، ولم يزل مخذولاً بعد ذلك، وملكه يضعف وينزل إلى أن لم يبق له من ملك اليمن شيء يعتد به، وكان قد عاهد الله بعدما لزم أنه يعدل، فلما تخلص من المحن، ورجع إلى اليمن لم يف بذلك، وانعطف بل زاد ظلمه، ولم يزل الظلم يقوى، والملك يضعف إلى أن تلاشى، وذهب بالكلية، ونسأل الله العفو والعافية من كل بلية. وفيها ضرب بمصر الشهاب بن مري اليمني، وسجن لنهيه عن الاستغاثة والتوصل بأحد غير الله، ومقت لذلك، ثم فر إلى أرض الجزيرة، فأقام هناك سنين، ورجع ملك التكرور موسى، فخلع عليه السلطان خلعة الملك، وعمامة مدورة، وجبة سوداء، وسيفاً مذهباً. وفيها مات بمصر الإمام شيخ القراء تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري الشافعي الخطيب ابن الصائغ عن ثمان وثمانين سنة، تلا بالسبع على الكمالين الضريري، وابن فارس، واشتهر وأخذ عنه خلق، ورحل إليه، وكان ذا دين وخير وفضيلة، ومشاركات قوية. وفيها مات شيخ الحديث بالمنصررية نور الدين علي بن جابر الهاشمي اليمني الشافعي، حدث عن الزكي البيلقاني، وعرض عليه الوجيز للغزالي، وله مشاركات وشهرة. وفيها مات بالكرك قاضيها العلامة الورع عز الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن الأميوطي الشافعي، حكم بالكرك نحواً من ثلاثين سنة، وتفقه به الطلبة، وحدث عن قطب الدين القسطلاني وغيره، وهو والد شرف الدين قاضي بلبيس، ثم قاضي مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وخطيبها وإمامها. وفيها مات بدمشق الإمام شيخ الإسلام، بقية الفقهاء الزهاد، خطيب العقبية صدر الدين سليمان بن هلال الهاشمي الجعفري الحوراني الشافعي، عن ثلاث وثمانين سنة، تفقه بالشيخين محي الدين، وتاج الدين، وناب عن ابن صصري، وبينه وبين جعفر الطيار ثلاثة عشر أباً، وكان متزهداً في ثوبه، وعمامته الصغيرة، ومأكله. وفيه تواضع، وترك

سنة ست وعشرين وسبع مائة

للرياسة والتصنع، وفراغ عن الرعونات، وسماحة ومروءة، ورفق وسعة الخلق، وحمل على الرؤوس، وكان لا يدخل حماماً، حدث عن أبي اليسر، والمقداد، وكان عارفاً بالفقه، وله حكايات في مشيه إلى شاهد يؤدي عنده، وإلى خصم فقير، وربما نزل في طريق داريا عن حمار له فحمل عليه حزمة حطب لمسكينة رحمه الله تعالى. وفيها مات الإمام العلامة ذو الفهم الثاقب، والنظر الصائب، قاضي القضاة، الفقي الشافعي، اليمني أبو بكر بن أحمد بن عمر المعروف بابن الأديب، كان نجيباً بارعاً رأيته في عدن قاضياً فيها، ثم سكن تعز، وجعله السلطان قاضياً للقضاة، وكان عارفاً بالفقه والأصلين. تفقه على إمام الزمن، وبركة اليمن، الفقيه الكبير، الولي الشهير أحمد بن موسى بن عجيل، وعلى الفقيه الإمام العلامة البارع أبي العباس أحمد بن رنبول، بفتح الراء وسكون النون وضم الموحدة اليمنيين وغيرهما، وصار تلميذه الفقيه العلامة نائبه، وقاضي القضاة بعده سلالة البركة، والنور حسن بن أبي السرور اليمني. وكان يقرأ عليه في بعض الفنون، وفي بعضها على القاضي الإمام العلامة شيخنا شرف الدين قاضي عدن، ومفتيها، ومدرسها، ومقريها، وأنا حينئذٍ أكتب القرآن في اللوح نتسابق في الوقت لأجل القراءة على شيخنا المذكور. سنة ست وعشرين وسبع مائة فيها توفي سراج الدين عمر بن أحمد بن خضر الأنصاري الخزرجي، الشافعي المفتي، خطيب المدينة الشريفة وقاضيها، ولد سنة ست وثلاثين، ونشأ بالقاهرة، وتفقه بها على الشيخ سديد الدين، وعلى نصير الدين ابن الطباخ، وعلى الشيخ فخر الدين بن طلحة، وسمع الرشيد العطار، وحضر دروس. الإمام عز الدين بن عبد السلام، ودروس قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وله إجازة من المنفري والمرسي والقسطلاني قدم المدينة الشريفة سنة إحدى وثمانين وست مائة، وأقام بها أربعين عاماً قاضياً وخطيباً، ثم تعلل، وسار إلى مصر ليتداوى، فأدركه الموت بالسويس. وفيها مات ببعلبك شيخها الصدر الكبير قطب الدين موسى ابن الفقيه الشيخ محمد البوسي، صاحب تاريخ سمع وأخبر عن جماعة. وفيها ماتت المعمرة أمة الرحمن ست الفقهاء بنت الشيخ تقي الدين إبراهيم الواسطي بالصالحية عن ثلاث وتسعين سنة، سمعت وأخبرت عن جمع كثير، وكانت مباركة صالحة، وهي والدة فاطمة بنت الدباسي.

سنة سبع وعشرين وسبع مائة

وفيها مات بالحلة ابن المطهر الشيعي حسن، صاحب التصانيف عن ثمانين سنة وأزيد. وفيها مات الشيخ الكبير حماد القطاني بالعقيبة، وكان يقرأ القرآن، ويحكي عجائب عن الفقراء، ويحضر السماع ويصيح، وله وقع في القلوب. عاش ستاً وتسعين سنة. وفيها مات بالمدينة الشريفة الإمام الزاهد التقي قاضي الحنابلة شمس الدين محمد بن مسلم الصالحي، وكان من القضاة العدل، بصيراً بمذهبه، عارفاً بالعربية، كبير القدر، ولي القضاء إحدى عشر سنة، وحج ثلاثاً، وفي الرابعة أدركه أجله. سنة سبع وعشرين وسبع مائة فيها حاصر ودي بن حمار المدينة جمعة، وأحرق بابها ودخلها، وقتلوا القاضي هاشم بن علي، وعبدة الله بن الفايد علي بن يحيى، ودخل قوصون نائبه السلطان الملك الناصر. وفيها كاتبه الإسكندرية، ووخم أهلها أميرها، وإحراقهم الباب، وإخراجهم المسجونين، وبعث السلطان إليهم أربعة أمراء، وأمر بإخرابها وأهانوا أهلها، وصادروهم حتى افتقر خلق كثير، ووسطوا ثلاثين نفساً. وفيها طلب قاضي حلب ابن الزملكاني إلى مصر ليتولى قضاء دمشق بعد أن عرض قضاء دمشق على أبي اليسر ابن الصائغ، فجاءه الشريف، فصمم وامتنع وبكى، فأعفى تكرماً. وفيها توفي القدوة الزاهد عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، أخو الإمام الكبير تقي الدين بن تيمية. وفيها مات الملك الكامل محمد ابن السعيد عبد الملك بن الصالح إسماعيل ابن العادل. وفيها مات في بلبيس قاضي حلب الملقب بفخر المجتهدين كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، الدمشقي، الشافعي، كان سيال الذهن أفتى وصنف وتخرج به الأصحاب، وطلب ليشافهه السلطان لقضاء دمشق، فأدركه الأجل.

سنة ثمان وعشرين وسبع مائة

سنة ثمان وعشرين وسبع مائة فيها قدم صاحب الروم ابن حوبان بعسكر إلى السلطان الملك الناصر، ووصل الماء إلى القدس بعد عمل الضياع، ستة أشهر. وفيها مات ببغداد مفتيها وشيخها جمال الدين عبد الله بن محمد العاقولي الواسطي. وفيها توفي الإمام الواعظ مسند العراق شيخ المستنصرية عفيف الدين عبد الله بن محمد بن الحسن البغدادي. وفيها مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية معتقلاً، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة الورق، ومولده في عاشر ربيع الأول يوم الاثنين سنة إحدى وستين وست مائة بحران، سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاء، ومصنفاته قيل: أكثر من مائتي مجلد، وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها، وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة. ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وطعنه في مشائخ الصوفية العارفين، كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري، والشيخ ابن العريف، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار الصفوة الأخيار وكذلك ما قد عرف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة، وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك مما هو معروف في مذهبه ولقد رأيت مناماً طويلاً في وقت مبارك يتعلق بعضه بعقيدته، ويدل على خطابه فيها، وقد قدمت ذكره في سنة ثمان وخمسين مائة في ترجمة صاحب البيان، فمن أراد أن يطلع على ذلك، فليطالع هناك، فهو من المنامات التي تنشرح بها الصدور، ويطمئن به قلب من رآه، وينفتح لقبول الهدى والنور. وفيها قتل نائب المشرق حوبان بهراة، ونقل تابوته، فدفن بالبقيع من المدينة الشريفة، ولم يدفن في مدرسته منعهم السلطان من دفنه فيها. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الواحد المعروف بابن نبهان الخزرجي الشافعي. وفيها توفي الإمام العلامة الأوحد مفتي الشام شيخ الشافعية قاضي القضاة كمال الدين أبو المعالي، سمع من أبي الغنائم وجماعة من الكبار، وكان فصيحاً مفوهاً مسرعاً. له خبرة

سنة تسع وعشرين وسبع مائة

بالمتون، ومعرفة بالمذهب وأصوله والعربية ذكياً فطناً مدركاً فقيه النفس له اليد البيضاء في النظم والنثر، تفقه بتاج الدين، وأفتى وهو ابن نيف وعشرين سنة، فكان يضرب بذكائه ومناظرته المثل. سنة تسع وعشرين وسبع مائة فيها توفي مدرس البادرائية، ومفتي المسلمين. شيخ الإسلام برهان الدين إبراهيم ابن الإمام شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن ابن إمام الرواحية إبراهيم بن سباع بن فركاح الفزاري المصري الأصل وشيعه الخلق يوم الجمعة عند قبر أبيه بالباب الصغير، وله سبعون سنة، حضر على الزين خالد، وسمع من ابن عبد الكريم، وابن أبي اليسر وعدة، وله مشيخة يحدث بالصحيحين، وأعاد لوالده، وخلفه في تدريس البادرانية، وفي حلقته بالجامع، وتخرج له أئمة، وعلق على التنبيه شرحاً كبيراً، وكان رأساً في المذهب عارفاً بالأصول والنحو والمنطق مع الورع والتقوى والتعفف والكرم، وامتنع من القضاء، وباشر خطابة البلد أياماً، ثم ترك، وكان له وقع في القلوب وود. قلت واجتمعت به عند مسجد الخيف، ورأيت له في المنام رؤيا حسنة فيها بشرى، وكان - رحمه الله تعالى - في حلقة جده، ولقد سأله بعض الناس وأنا عنده حاضر فيمن قال: أحرمت لله بحجة وعمرة مفردة ما حكمه؟ وكان السائل عامياً قد صدر عنه ذلك، فقال: ما قال من العلماء بهذا اللفظ أحد، فقلت له: فإذا كان قد وقع هذا اللفظ من صاحبه. كيف يكون الحكم؟ وما الجواب في ذلك؟ فانزعج انزعاجاً شديداً، ولم يجب في ذلك بشيء، والذي أراه أنا إذا سئلنا عن مثل ذلك أن نقول: يحتمل أن يكون محرماً بالحج والعمرة معاً، فيكون قوله مفردة لفظاً باطلاً ليس له معنى لحصول قصد الحج والعمرة معاً منه، وتعقيبه ذلك بلفظ يناقضه لا يعتبر لأنهما إذا وقعا لا يرتفعان. ويحتمل أنه قصد الإحرام بحجة مفردة، فسبق لفظه إلى قوله: وعمرة مدخلاً لفظ العمرة بسبق لسانه من غير قصد بين الحجة، ووصفها بالإفراد، فيكون محرماً بالحج فقط، وإذا احتمل حكمنا بالأحوط، وهو صحة الإحرام بالمتيقن فقط. أعني الداخل في التقديرين معاً، وهو الحج، فينبغي له أن يحرم بالعمرة بعد الفراغ من أعمال الحج، ولا يجوز أن يحرم بها قبل ذلك لأنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج هذا الذي ظهر لي في ذلك في حال الإملاء، والله أعلم.

سنة ثلاثين وسبع مائة

وفيها مات بدمشق قاضي القضاة شيخ الشيوخ علاء الدين علي بن إسماعيل بن يوسف التبريزي المعروف بالقونوي الفقيه الشافعي الأصولي الإمام العلامة، سمع من جماعة كثيرة، واشتغل بالعلوم في بلده على جماعة، وحفظ وفهم، ثم قدم دمشق في سنة ثلاث وتسعين وست مائة، وأخذ في الاشتغال والتحصيل أيضاً على الشيخ نجم الدين مكي والشيخ شمس الدين الآبجي، وتصدر للاشتغال بجامعها، وولي تدريس الإقبالية، ثم قدم القاهرة، وولي بها المدرسة الشريفية، ومشيخة الشيوخ بالخلفاء المعروف بسعيد السعداء، ومشيخة الميعاد بجامع ابن طولون، وتصدر للفتوى والاشتغال ونفع الطلبة، واشتهر صيته وعلا ذكره، وارتفع محله لفضيلته وعلومه وديانته ورياسته وكثرة تلامذته، وانتفع به خلق كثير، وتخرج به أئمة. ثم إن الملك الناصر اختاره لقضاء القضاة بالديار الشامية فطلبه عنده وعرض عليه الولاية، فامتنع من ذلك فكرر عليه القول، والآن معه الحديث، وتلطف به حتى قبل الولاية وأضاف إليه مع قضاء القضاة مشيخة الشيوخ أيضاً، فتوجه إلى دمشق متولياً ذلك مع تدريس المدرسة العادلية والغزالية، فنظر في ذلك، وأحسن النظر، وتصدى للاشتغال بالعلوم من القيام بوظائفه، وكان للطلبة به نفع، وأقام بدمشق سنين مضبوط الأمر، محفوظ الباب، نزهاً عفيفاً، إلى أن أدركه الأجل بها عن بضع وسبعين سنة لأن مولده سنة ثمان وستين وست مائة، وله من المصنفات شرح الحاوي الصغير في الفقه في أربع مجلدات، ومختصر منهاج الحليمي، وكتاب شرح التعرف لمذهب التصوف وله شيء في الأصول، وحواشي، ونكت، وتعاليق رحمه الله تعالى. قلت: ولم أر في شروح الحاوي أحسن من شرحه جامعاً بين الاقتصاد والتحقيق، وحسن المباحث والقواعد، مشعراً بالتحلي بحليتي العلم والتدقيق. سنة ثلاثين وسبع مائة فيها قدم على قضاء دمشق علم الدين الأخنائي، فاستناب مدرس الشامية ابن المرحل، وفيها نقل من طرابلس إلى قضاء حلب الشيخ شمس الدين ابن النقيب رحمه الله. وفيها مات مسند الدنيا المعمر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن نعمة الصالحي الحجازي المعروف بابن شحنة، وحدث يوم موته، وله مائة وبضع سنين، سمع ابن الزبيدي، وابن اللتي، وأجاز له ابن روزبه والقطيعي وعدة، ونزل الناس بموته درجة.

وفيها مات بمكة قاضيها ومفتيها، ومدرسها وشيخ حرمها الصدر الكبير الفقيه العالم الشهير الإمام نجم الدين محمد ابن الإمام العالم القاضي جمال الدين ابن الشيخ الإمام الفقيه، المحدث العلامة محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري. سمع من جماعة، وتفقه على جده الإمام محب الدين المذكور، وكان فقيهاً نجيباً بارعاً أديباً حليماً كريماً حسن الاعتقاد في الفقراء والعباد بحسن الأخلاق متصفاً متواضعاً، وفي البحث منصفاً. ولقد كان مع جلالة قدره، وعلو محله، وجمعه المناصب الكثير، والمناقب الكبيرة، والمحاسن الشهيرة يقول في أثناء قراءتي عليه " كتاب الحاوي " الصغير الحرم الكثير العلم: لقد استفدت معك أكثر مما استفدت معي، ويقول لي: لقد قرأت هذا الكتاب مراراً ما فهمته مثل هذه المرة. ولما فرغت من قراءته قال في جماعة حاضرين: اشهدوا علي إنه شيخي فيه، وجاءني إلى مكاني في ابتداء قراءته لأقرأه عليه كل ذلك من التواضع، وحسن الاعتقاد، والمحبة في الله والود، وكان قد قرأ الكتاب المذكور، وشرحه على الشيخ الإمام الكبير عز الدين الفاروقي بحق روايته له عن مصنفه الشيخ الإمام عبد الغفار القزويني، وكان القاضي نجم الدين المذكور محفوظه كتاب المحرر للإمام أبي القاسم الرافعي، ولكنه كان معجباً بالحاوي، ويقول: لو جاءنا الحاوي قبل أن أحفظ المحر لم أشتغل بالمحرر. وله نظم حسن، وقد قدمت في ترجمته الشريف حميضة في سنة عشرين وسبع مائة أني سألت النبي عليه السلام في المنام السلامة له، فتبسم عليه السلام، وقال: " ما يصيبه شر "، وكان له رحمه الله عليه نصيب وافر من الصالحين، وبلغني أنه قال لبعض الكبار منهم: أريد أن أصحبك مع التخليط، فقال: اصحبني على أي حال كنت، وكانت والدته من الصالحات، وكان قد تمرض في شبابه، فافتجعت عليه فجعاً شديداً، فمر بها شيخ لا تعرفه، فقال لها: لا تخافي عليه ما يموت حتى يكون سنه سني سبعين سنة، فلما مرض مرض موته كان يرجو العافية، فدخل عليه صهره إمام المقام أحمد ابن شيخنا رضي الدين، فقال له: ما عليك شر إن شاء الله تعالى قد بشرت والدتك إنك تعيش سبعين سنة، وكان مرضه ذلك بعد كمال السبعين، ولكنه كان غافلاً من ذكر ما جرى لوالدته مع الشيخ المذكور، وكان الإمام أحمد جاهلاً بكونه قد بلغ السبعين، فلما قال له ذلك صاح القاضي نجم الدين، وأيقن بالموت، فمات في ذلك المرض. وفيها توفي المعمر زين الدين أيوب بن نعمة النابلسي، ثم الدمشقي الكحال: حدث عن جماعة وتفرد بمصر ودمشق، ونيف على التسعين.

سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة

سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة فيها وصل إلى بلاد حلب نهر الساجور وبعد غرامة كثيرة، وحفر زمن طويل في جريانه. وفيها مات ببلاد المغرب السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق المديني، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وتملك بعده ابنه السلطان الفقيه الإمام أبو الحسن. وفيها مات الأمير الكبير نائب السلطان أرغون. وفيها توفي أقضى القضاة جمال الدين أحمد بن محمد بن القلانسي التميمي الشافعي قاضي العسكر، ووكيل بيت المال، ومدرس الأمينية والظاهرية، وكان عالماً محتشماً، مليح الشكل، لين الكلمة. حدث عن ابن البخاري. سنة اثنتين وثلاثين وسبع مائة فيها جاء بحمص سيل، فغرق خلق منهم في حمام النائب بظاهرها نحو المائتين من نساء وأولاد. وفي ربيع الآخر تسلطن الملك الأفضل علي بن المؤيد إسماعيل الحموي، وركب بالقاهرة بالغاشية والعصائب، ثم كان عرس محمد ابن السلطان علي بنت الأمير الكبير بكتم. قيل: جهزت بألف ألف دينار، ؤاختلفوا للعرس بما لا يوصف، وأقيمت بالشامية جمعة. وفيها مات صاحب حماة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي الأيوبي الحموي، صاحب التاريخ، وناظم الحاوي، وله كتاب تقويم البلدان وفضائل وفلسفة. وفيها مات الولي الكبير الشيخ العارف بالله الشهير ياقوت الحبشي الشاذلي صاحب الأوصاف الحميدة، والكرامات العديدة، والأحوال السنية، والمقامات العلية، والأنفاس الصادقة، والأنوار البارقة تلميذ شيخ الشيوخ صاحب النور القدسي أبي العباس المرسي. وفيها مات الشيخ قطب الدين السنباطي محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر الأنصاري المصري، الفقيه الإمام الشافعي، وكان من أعيان الشافعية، وخيار الفقهاء وكبارهم. حسن الهيئة، بهي المنظر، قليل التكلف، كثير التواضع، حسن الأخلاق، محباً للطلبة. درس

بالفاضلية، وأعاد بالصالحية والناصرية، وتصدر للاشتغال، وانتفع به خلق كثير، وصنف في الفقه زوائد التعجيز على التنبيه، وناب في الحكم عن قاضي القضاة جمال الدين الذرعي مدة، ثم عن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وتولى وكالة بيت المال مستمراً على ذلك إلى موته. وفيها مات صدر الأكابر والرياسة والمفاخر، فخر الدين محمد بن فضل الله كاتب المماليك، ناظر الجيش المصري، وله جلالة وشهرة وأوقاف وثروة، وأحيط على حواصله. قلت: ولقد رأيته في المسجد الحرام يمشي معه القاضي الرئيس الكبير قاضي مكة نجم الدين الطبري، وهو يدور على أهل الخير والصلاح من المجاورين، ويفرق عليهم الدنانير، فلما رآني نجم الدين المذكور مال به إلى عندي. وبلغني أنه حج مع السلطان الملك الناصر في بعض حجاته، وكان قريباً منه، فلما مر بوادي بني سالم السلطان بدا له جبل ورقان، فقال: يا فخر من في رأس هذا الجبل؟ قال: غلمان مولانا. قال: ليس النازلون في هذا الجبل لي بغلمان. يعني أن من كان ساكناً في هذا الجبل المنيع العالي، فليس لي في طاعة، ولا بي مبال، وفي هذا المعنى خطر لي هذان البيتان: إذا ما كنت في حصن ... علا في رأس ورقان فإني لا أبالي ... بوالٍ أو بسلطان وهذا الجبل المذكور يؤتى منه بالعسل الفائق المشكور، وأخبرني من له به خبرة أن فيه أشجاراً ونباتاً وأزهاراً كثيرة يطول في ذكر أسمائها التعداد، ولا يوجد في غيره من البلاد. وفيها توفي الشيخ الجليل الإمام العلامة المقرئ شيخ القراء برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي، صاحب الفضائل الحميدة، والمباحث المفيدة، والتصانيف العديدة، وجملتها نيف على مائة تصنيف، ومن نظمه: وإن فسح الله الكريم بمدتي ... وأدركت عمراً ليس في أصله ضعف سأنشر للطلاب علماً كعادتي ... عزيز المعاني فيه من حسنه لطف

سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة

وإن صادفتني يا صاحبي منيتيفصبر جميل فالصبور له الوصف إلهي فحقق لي رجائي تكرماً ... فشأنك فينا الصفح والعفو واللطف وله أيضاً في عدة مؤلفاته وتاريخ مولده، وطلب المغفرة من ربه عز وجل: أيا سائلي عن عدما قد جمعته ... من الكتب في أثناء عمري من العلم أصخ لي فقد عرفت ذاك بنيف ... على مائة ما بين نثر إلى نظم ومن عجب زادت على العمر تسعة ... وعشر وما أدري متى منتهى يومي فخذ منه ما يختار واسمح بنشره ... على طالبيه داعياً لي على رقمي وخذ مولدي في أربعين مقرباً ... وست مئات أو مئين على الرسم وكان وجودي في الوجود جميعه ... كطيف خيال زار في نوم ذي حلم إلهي فاختم لي بخير وكفر من ... ذنوبي عسى ألقاك رب بلا إثم بحق القرآن والنبي محمد ... تقبل دعائي رب شفعه في جرمي فأنت غني عن عذابي وإنني ... فقير إلى رحماك يا واسع الحلم وتوفي رحمه الله تعالى وله اثنتان وتسعون سنة. أجاز له ابن خليل، وعرض التعجير على مؤلفه وتلا على الوجوهي وغيره، ورحل القراء إليه رحمه الله تعالى. وفيها توفي القاضي شمس الدين المعروف بابن القماح الحسن بن محمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي، الفقيه العلامة النحوي، اللغوي البارع، الفاضل المتفنن ابن الإمام جمال الدين ابن الإمام تقي الدين، تولى القضاء، وكان فاضلاً عالماً ذكياً فقيهاً نبيلاً حافظاً لمقامات الحريري، وديوان المتنبي، وغير ذلك، وكان فيه مكارم، وحسن أخلاق. ومما روي عنه أنه قال: أنشدني شيخنا زين الدين ابن الرعاد النحوي لما توفي القاضي كمال الدين النسائي، وولي بعده القاضي كمال الدين بن عيسى القليوبي بالعربية هذين البيتين، وكتب بهما إلى عيسى المذكور: نقل الناس، وهو نقل غريب ... إن بعد الكمال يحدث نقص وأتانا بعد الكمال كمال ... وأتانا بعد الأعم الأخص وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الثامن من شهر شوال. سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة فيها توفي شيخ الإسلام الإمام بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني الحموي

الشافعي قاضي القضاة، المفتي العلامة، ذو الفنون والمناقب والرياسة والمناصب، عن أربع وتسعين سنة وشهر. ولد بحماة سنة تسع وثلاثين وست مائة، وسمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ الأنصاري، وبمصر من الرضي بن البرهان، وللرشيد العطار وعدة، وبدمشق من أبي اليسر وطائفة، وأجاز له خلائق، وحدث وتفرد في وقته، وكان قوي المشاركة في فنون الحديث، عارفاً بالتفسير والفقه وأصوله، ذكياً يقظاً مناظراً متفنناً مفسراً خطيباً مفوهاً ورعاً صيتاً، تام الشكل، وافر العقل، حسن الهدى، متين الديانة، ذا تعبد وأوراد، وحج اعتمار، وحسن اعتقاد في الأصول، والصالحين من العباد. وله تصانيف سائرة، وأربعون تساعية درس وأفتى واشتغل، ثم نقل إلى خطابة القدس، ثم طلبه الوزير ابن سلغوس، فولاه قضاء مصر، وارتفع شأنه، ثم بعث على قضاء الشام، ثم ولي خطابة دمشق، وروى الكثير، ثم طلب لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد، وامتدت أيامه، وحمدت أحكامه، وكثرت أمواله، وحسنت أعماله، وترك الأخذ على القضاء عفة، وكان يخطب من إنشائه، ويتثبت في قضائه. ولي مناصب كباراً، وكان قد صرفه السلطان بالماضي جمال الدين الزرعي نحو السنة، ثم أعاده السلطان إلى منصبه، ثم شاخ، ونقل سمعه، ثم أضر وعزل، وأقبل على شأنه، وعلى أستاذه، وتفرد وصنف في علوم الحديث والأحكام وغير ذلك، وله وقع في القلوب، وجلالة في الصدور، وكان والده من كبار الصالحين. قلت: هكذا ترجم عنه بعض المتأخرين بهذه الترجمة، وهو جدير بها ما خلا ألفاظاً يسيرة أدخلتها فيها، وكان حسن الاعتقاد في الصوفية، وبلغني أنه سئل عن ذلك، فقال كلاماً معناه أن سبب ذلك أنه كان إذا مر في صغره على فقير في بلاد الشام يقول: مرحباً بقاضي الديار المصرية، وكان من أمره ما كان من السيرة الرضية. رحمه الله تعالى. وفيها توفي مفتي المسلمين الإمام الأجل شهاب الدين أحمد بن يحيى بن جميل الشافعي، مدرس البادرائية، سمع من الفخر علي، وابن الزين، والفاروثي. وتفقه على شرف الدين ابن المقدسي، وابن الوكيل، وابن النقيب، ولي تدريس الصلاحية في القدس مدة، واشتغل وأفتى، وبرع في الفقه، وولي مشيخة الظاهرية، ثم نقل إلى تدريس البادرائية، وله محاسن وفضائل ومكارم، وفيه خير وتعبد، وحج غير مرة.

قلت: وحصل بيني وبينه اجتماع في حجة في المدرسة الشهابية من المدينة الشريفة لأنه نزل فيها، وكنت قبله نازلاً بها، ثم سألته عن مسألة خطرت لي، وهي أني قلت له: في الذكر الوارد في كفارة المجلس. لا يخلون إما أن يكون الشخص صادقاً في قوله، وأتوب إليك، أو كاذباً، فإن كان صادقاً، فالمغفرة تحصل بمجرد التوبة، ولا تفتقر إلى الذكر المذكور من قوله: سبحانك اللهم، وبحمدك إلى آخره، وإن كان كاذباً فكيف تحصل له مغفرة مع إخباره بتوبة هو كاذب فيها مصرفي نفسه على معاصيها؟ فأجابني بجواب في الحال ليس بشاف في هذا السؤال ليس هو الآن لي على بال. وفيها مات في بدر الولي الكبير المشغول بالله الشهير، الشيخ علي بن الحسن الواسطي الشافعي محرماً متوجهاً إلى الحج، وكان ذا همة عالية حج مراراً كثيرة واعتمر على ما روى بعضهم أكثر من ألف عمرة، وتلا أزيد من أربعة آلاف ختمة، فطاف مرات في كل ليلة سبعين أسبوعاً ورأيته يسرع في طوافة مثل ما يرمل المحرم أو أسرع، وبلغني أن بعض الناس كان ينكر عليه في إسراعه ذلك، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر له ذلك المنكر عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قل له " إن قدر يزيد على ذلك الإسراع، فليفعل " والذي فهمت منه أنه كان في عدوه ذلك واجد، أو يدل عليه أني رأيته يطوف في شدة الحر، فسألته عن ذلك، فقال: ما أجد حراً، ولعمري إن كل صادق واجد لا ينبغي أن يعترض عليه فيما يفعله، ولهذا رأيت غيره من بعض الصالحين يطوف في حال وجده، وهو يعدو، فنهاه بعض الفقهاء، فلم يلتفت إليه، فأمر بإمساكه، فسلط الله على ذلك الفقيه من أمسكه من ظلمة السلطنة، وضربه على القرب من فعله ذلك، وكان الشيخ علي الواسطي المذكور، شديد المجاهدة، يغتسل لكل فريضة في البرد الشديد وغيره. وكان قد بلغني أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة، فسألته عن ذلك، فأقر به، وكان أول اجتماعي به في الليل في شهر رمضان في المسجد الحرام، فقال: " أجدني أحبك " وأطعمني كسرة من بقية عشائه، والناس يصلون التراويح، فقال لي: " ما تصلي بنا " فقلت له: تقدم بنا تصلي مع الجماعة، فذكر لي كلاماً معناه أنه ما يجد الجماع قلبه في مخالطة الناس، وكان في ذلك الوقت ثلاثة رجال واسطيون كلهم ملاح، مع تفاوت طريقتهم في أوصاف الصلاح. أحدهم الشيخ علي المذكور، وكانت طريقته الانفراد والبعد من الناس كلاهم كأنه أسد، وكان مهنا ملك العرب يحبه ويعظمه، ويقسم برأسه على ما سمعت.

سنة أربع وثلاثين وسبع مائة

والثاني الشيخ عز الدين الواسطي، وكانت طريقته القرب من كل أحد مطلقاً، حتى لو جاءه صغير فصب به حيث شاء، وكان سليم الصدر لا يدري ما عليه الناس، حتى أنه دخل العسكر المدينة مع الشريف روى، فلما رآهم قال: ما هؤلاء. وكانوا قد حاصروا المدينة أياماً كثيرة، وما عنده شعور بذلك، وهو في ذلك الوقت إمام الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا عرف الإنسان في يومه أنكره من الغد، وكان أكثر مجاورته في المدينة الشريفة، وكان الصلاح ظاهراً عليه، وهو آخر من ألبسني الخرقة بينه وبين الشيخ شهاب الدين السهروردي، وإلباسها واحد، كان يعظم الكعبة المشرفة إذا ذكرها، ويقول قال لله تعالى: " وطهر بيتي " الحج: 26. والثالث من الواسطيين المذكورين ابن الشيخ أحمد الواسطي، كان مجاوراً بمكة، كانت طريقته متوسطة بين طريقتي المذكورين، يتقرب من الفقراء، ويتباعد من أهل الدنيا، وكان صاحب جد واجتهاد، وكان أيضاً كثير المودة لي حتى أخبرني الشيخ إبراهيم المقرئ - رحمة الله على الجميع عنه أنه قال: ما لي في الحرم صديق إلا فلان فلي والحمد لله من الثلاثة كلهم نصيب. بل من غيرهم من الصالحين أيضاً فقد قال لي الولي الكبير، الوافر النصيب، ذو الأحوال السنية، والهمة العلية الشيخ خالد بن شبيب: رأيت الأولياء كلهم يحبونك داعين مستبشرين. وكان رضي الله تعالى عنه يجتمع برجال الغيب في البراري كثيراً، وله معهم حكايات عجيبة ليس هذا موضع ذكرها، وكان يبلغني السلام عنهم والإشارة بما أفعله، وما يكون في بعض الأحيان، والحمد لله الجواد المنان. وفيها ماتت بدمشق المعمرة المسندة أم محمد أسماء بنت محمد بن سالم، سمعت من مكي بن غيلان، وتفردت وحجت مراراً، وتصدقت. سنة أربع وثلاثين وسبع مائة قال الذهبي: جاء بطيبة سيل عظيم أخذ الجمال، وعشرين فرساً، خرب أماكن. هكذا قال في تاريخه، وقد رأيت سيلاً عظيماً يجري في وادي قناة، واستمر ذلك ستة أشهراً وأكثر، وكان قد طلع في قبة حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه أذرعاً، ودار بجبل الرماة من جهة القبة المذكورة المكرمة، ومن جهة المدينة الشريفة المعظمة، وأقمت أياماً وليالي كثيرة أتوضأ منه مع الولي المجرد الشيخ المودود ذي الأحوال الباهرة، والكرامات الظاهرة عبد الرحمن الحبشي. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العلامة المتفنن فتح الدين أبو الفتح محمد بن

سنة خمس وثلاثين وسبع مائة

محمد ابن سيد الناس روى عن جماعة، ورحل وحدث وجمع وصنف، وله النظم والنثر، ومعرفة الرجال، وبراعة الحفظ والخط. وفيها توفي قاضي القضاة الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي، عن تسع وتسعين سنة وأشهر، روى عن جماعة. سنة خمس وثلاثين وسبع مائة فيها توفي ملك العرب حسام الدين مهنا ابن الملك عيسى بن مهنا الطائي، وأقاموا عليه المأتم، ولبسوا السواد كان فيه خير وتعبد. وفيها ماتت المعمرة زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمية، عن سبع وثمانين سنة، روت عن جماعة وحدثت بالكثير وتفردت. وفيها مات الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي تلا بالسبع عن إسماعيل المليحي، وسمع من جماعة وصنف وخرج وأفاد مع الصيانة، والديانة، والأمانة، والتواضع، والعلم، ولزوم الاشتغال والتأليف حج مرات، وعمل تاريخاً كبيراً لمصر بيض بعضه، وشرح السيرة لعبد الغني في مجلدين، وعمل أربعين تساعيات، وأربعين متباينات، وأربعين بلديات، وعمل معظم شرح البخاري في عدة مجلدات. سنة ست وثلاثين وسبع مائة فيها توفي بدمشق الرحالة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن ممدود البغدادي الصوفي، عن اثنتين وتسعين سنة، سمع وأجازه جماعة وتفرد. وفيها ماتت عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية عن تسعين سنة، روت حضوراً وسماعاً عن جماعة وتفردت. وفيها توفي السلطان الذي ملك بعد أبي سعيد ضربت عنقه صبراً يوم الفطر، وكانت دولته نصف سنة.

سنة سبع ثلاثين وسبع مائة

وفيها مات الوزير المعظم غياث الدين محمد بن فضل الله الهمداني، وكان وزيراً عادلاً عالماً محباً في العلم والخير وأهلهما. متصفاً بالإنصاف، له مآثر وصدقات ومعروف. وفيها توفي الصاحب الأمجد عماد الدين إسماعيل بن محمد ابن الصاحب فتح الدين ابن القيسراني، وكان منشياً بليغاً رئيساً ديناً صيتاً نزهاً، روى عن غير واحد. سنة سبع ثلاثين وسبع مائة فيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير، ذو العجائب العظيمة، والكرامات الكريمة، والهمم العالية، والشمائل الرضية، والمكاشفات الجلية، والآيات الباهرة، والأنوار الزاهرة أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن المجد المرشدي في رمضان بقرية مرشد كهلان. كان له عجائب تحير العقول، وغرائب ذكرها يطول. كان لو اجتمع عنده أكثر عسكر في الورى لعجل إليه في الحال ما أحب من القرى يخرج ذلك من خزانة له صغيرة ليس فيها شيء يرى شاهد منه تلك الكرامات الباهرات خلائق لا يحصون. قلت: حكي لي ذلك من الثقات، وسمعت ذلك عنه من خلائق أدركتهم أخياراً وفضلاء أعياناً، بل رأيت ذلك منه مشاهدة عياناً، وذلك أني لما وردت عليه زائراً، ولم أكن رأيته قبل ذلك دخلت زاويته، فلم أجده فيها، ثم بعد ساعة يسيرة جاءني، فتسالمنا وقال لي: ما أراها إلا غزالية، ثم أخذ بيدي، وأدخلني خلوة له، فكان يحدثني فيها ساعة، ثم يخرج ويتلقى من يزوره ساعة، وكنت صائماً، فلم يقرب لي طعاماً إلى أن كان بعد صلاة المغرب، وإذا به قد مد عندي سماطاً يكفي جماعة كثيرة من الأضياف، من الأطعمة ما يكثر عده من الأنواع والأصناف، وكان في نفسي شهوة طعام مخصوص ما كنت ذقته في جميع عمري أحضره في ذلك السماط، ثم أذن لي في تناول الطعام، فأكلت منه ما اشتهيت، وإذا به قد جاءني، واستأذنني في إدخال جماعة مخصوصين علي ليطعموا معي كأنهم التمسوا ذلك، وهم الفقيه الإمام شرف الدين ابن الصاحب، وأولاده من نسل الوزير الشهير المعروف بابن حنا، وإذا بهم قد أظهروا لي من حسن الاعتقاد، ما يقل مثله في المعتقدين من العباد حتى أخذوا الماء الذي غسلت به يلي فشربوه، ثم لما أصبحت عزمت على السفر هاربا من لقاء من يأتيه من سائر البلدان لما قد اعتادوا عنده ليلة النصف من شعبان، فمنعني

عن السمر، وقال: تخرج معنا إلى كوم قرح مكان يجتمع فيه عنده خلائق لا يحصون! غ الليلة المذكورة، ويطعمهم جميعا من الأطعمة الطيبة المشكورة، فكرهت الإقامة الاجتماع بالخلق، واعتذرت إليه في ذلك، فقال: إذا كان لا بد من السفر، فأقم عندنا إلى العشاء فوافقته في ذلك، ثم حدثتني نفسي حينئذٍ، وقالت لي: إذا أقمت تصوم أو تفطر، فنازعتني في الإفطار، فقال لي: في الحال تصالحها، ثم قال لخادم عنده: هات الطعام، فتباطأ قليلاً فشد الشيخ وسطه وجاءني بمائدة عليها الطعام، فأكلت، ثم قال لي: هل لك في مجلس علم؟ اذهب إلى الموضع الفلاني، فذهبت إلى ذلك الموضع، فمكثت فيه يسيراً، وإذ بفتوى قد جاءت من بعض القرى، وحضر عندي حينئذٍ جماعة من الفقهاء، منهم ابن الصاحب المذكور وغيره فقالوا لي: اكتب عليها، فقلت لهم: أنا تركت ذلك في موضع إقامتي، فكيف أكتب ذلك في بلاد الغربة. فقالوا: لا بد من ذلك، فقلت: إن كان ولا بد. فليحضر صاحبها، فأذكر له ما عندي في ذلك من الجواب، ولا حاجة إلى رقم ذلك في كتاب، فجاء صاحبها، فذكرت له ما ظهر لي من الجواب، ثم وقالوا لي: تقيم عندنا مدة حتى نشتغل عليك في كتاب الحاوي، فاعتذرت من ذلك، وعجبت من إشارة الشيخ فيما وقع من البحث في العلم هنالك، وشاهدت منه هذه الكرامات المذكورات. أعني الطعام الذي اشتهيته، ومصالحة النفس في الفطر، والبحث في العلم. وأما قوله: ما أراها إلا غزالية، فاسأل الله الكريم أن يمن علي بما كان عليه الإمام أبو حامد الغزالي من السيرة الحميدة في العلوم، والأعمال الصالحات والانعزال عن الخلق، والأنس في الخلوات. وأخبرني أنه صحب سبعين من الشيوخ. ذكر منهم الشيخ الكبير العارف بالله أبو العباس المرسي، والولي الكبير الفقيه الإمام أحمد بن موسى بن عجيل، وكان قد حفظ القرآن عليه، وقرأ كتاب التنبيه، ثم انقطع في زاوية، ومع هذا، فالناس مختلفون فيه فأكثر الناس يعتقدونه لكثرة ما سمعوا ورأوا من كراماته في مد السماطات العظيمة من غير وجود لأسبابها في الظاهر، والمكاشفات الكثيرة، والتكلم على الباطن، ولا خادم يخدمه، ولا معاون حتى قيل: إنه أطعم في ثلاث ليال متوالية ما قيمته ألف دينار، ولم يزل يتوارد عليه الأمراء والوزراء، وأبناء الدنيا، وأهل المناصب الكبار. ومع ذلك يقريهم في الحال بما يدهش عقولهم من الأطعمة التي ليس للسلطان على إحضارها في الحال اقتدار، بعض الناس لا يعتقدونه، ويحمل ما يسمعه منه على تأويلات باطلة كما نقل عن ابن تيمية أنه قال: هو مخدوم لما اشتهر عنده، واستفاض كثرة خوارقه للموائد لم يمكنه جحدها، فحملها على هذا الظن الكاذب، والتأويل الفاسد فيه، فإن الجان

ليس له اطلاع على بواطن العباد، وما يخطر في بواطنهم، نعوذ بالله من سوء الاعتقاد ومنهم من تشكك فيه. وبلغني عن الشيخ الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الهادي المغربي أنه لما ذكر عنده قال: لا أشك أنه حصل له نصيب من أحوال الفقراء إلا أن الفقراء لا يرضون بشهرة هذه الكرامات التي تظهر منه. وكذلك بلغني عن سيد الكبير الولي الشهير الشيخ حسين الحاكي أنه قال: لو كنت يظهر على يدي مثل هذا الذي يظهر على يديه لدخلت في سرب تحت الأرض. وكذلك بلغني عن السيد الجليل الإمام الحفيل، الشيخ خليفة الشاذلي الإسكندراني أنه لما ذكر عنده قال كلاماً معناه ترى متى يتفرغ هذا الرجل لذكر الله لشغل أوقاته بمن يأتيه من الأمراء والوزراء وغيرهم من أهل الدنيا. قال الراوي: فلما سمعنا منه هذا الكلام أتينا الشيخ محمداً نزوره، فقال لنا: قولوا للفقيه خليفة، والله ما شغلوني عن الله طرفة عين، أو قال: والله لو شغلوني عن الله طرفة عين ما سلمت عليهم، أو قال: ما قرأتهم السلام، أو كما قال من الكلام. قلت: والذي أراه أنه لا ينبغي أن ينكر عليه شيء مما ينسب، فإنه إن كان يتعاطى ذلك بإذن فليس علي من إقامة الحق في مقام. وصرفه فيه تصريف الحكام لأحد معه كلام، ولا اعتراض ولا ملام، ولا يصح أن يكون صدور ذلك منه بغير إذن، فإن الأولياء لا يتعاطون الأشياء بهوى نفوسهم إذ لو فعلوا ذلك ما كانوا أولياء الله، وما كانت تواتيهم الأشياء، ولو أتاهم شيء في وقت بغير ولاية بل بكهانة، أو سحراً وغواية، لظهر ذلك عليهم، وافتضحوا في العواقب، والمرشدي المذكور لم يزل مستوراً مشكوراً، فظهر، والله أعلم. أن ذلك من تخصيص المواهب. وفيها توفي الملك المعمر أسد الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن السلطان الملك المعظم، روى السيرة، وأجزاء عن خطيب بردى، وتفرد وكان ممتعاً بحواسه، مليح الشكل، ما تزوج ولا يسرى. وفيها قتل صاحب تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى، وكان سني السيرة. قتل أباه، وكان قتله له رحمة للمسلمين لما انطوى عليه من خبث السريرة، وكان بطلاً شجاعاً تملك نيفاً وعشرين سنة. حاصره سلطان المغرب أبو الحسن المريني

سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة

مدة، ثم برز عبد الرحمن ليكبس المريني، فلم يتم له ذلك، فطال عليه الحصار حتى دخلت البلد عليه عنوة، فقاتل على حصانه، حتى قتل في رمضان كهلاً. سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة فيها توفي الصالح المسند أبو بكر بن محمد بن الرضي الصالحي القطان، عن تسع وثمانين سنة، سمع حضوراً من خطيب برداً، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وسمع عبد الله بن الخشوعي، وابن خليل ابن البرهان، وتفرد، وأكثروا عنه كان له إجازة السبط وجماعة. وفيها مات في حماة قاضيها صاحب السيرة السديدة، والمحاسن الحميدة، والفضائل العديدة، والتصانيف المفيدة شرف الدين هبة الله ابن القاضي نجم الدين عبد الرحيم القاضي شمس الدين إبراهيم ابن البارزي الجهني الشافعي عن ثلاث وتسعين سنة، روى عن جده وغيره، وله إجازة من جماعة منهم الكمال الضرير، وكان إماماً قدوة مصنفاً، صاحب فنون، وإكباب على العلم والصلاح، وتواضع حسن، وصحة ذهن تخرج الأصحاب، وانتفع به وأفاد. قال الذهبي: وبلغ رتبة الاجتهاد. قلت: وكتب إلي في آخر عمره يستشيرني في المجاورة في الحرم الشريف إلى الموت، ثم أدركته المنية على القرب. ومن تصانيفه شرح الحاوي في مجلدين، وكتاب آخر في حل الحاوي، وكتاب المغني جمع فيه مسائل التنبيه، وزيادات وغير ذلك، وله مسألة تفرد بها أعني ما أفتى به من جواز السفر للحائض قبل طواف الإفاضة مع نحر بدنة كمذهب الحنفية. قلت: ولقد عجبت من ذهابه إلى الفتوى مع جلالة قدره، ورسوخه في العلم، وقد صح عن سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال في زوجته صفية رضي الله تعالى عنها: أحابستنا هي يعني عن السفر حتى تطهر لما قيل له أنها حاضت، فإذا كانت حبيب الرحمن المنسوخ بدينه الأديان ينجس عن السفر بسبب حيض امرأته قبل طوف الإفاضة، كيف يطلق غيره من آحاد الناس هذا خارجاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهذا أقول لا طعناً في جلالة شرف الدين، وعلمه المعتبر، بل تحذيراً من فعل ذلك، فالجواد قد يعثر، وكان رضي الله تعالى عنه حسن الاعتقاد في الصوفية والزهاد العباد من سائر العباد ذا أصل أصيل ومجد أثيل، ووصف جميل يقر له بالفضل كل فضيل.

وقد بلغني أن الشيخ الإمام محيي الدين النووي رحمه الله تعالى مدحه، وقال: ما في البلاد أفقه من هذا الشاب، أو نحو ذلك لما رآه، وبلغني أيضاً أن الشيخ محيي الدين المذكور كان يعرض عليه ما يكتبه في كتاب الروضة، حال اختصاره كتاب الإمام أبي القاسم الرافعي، أعني " العزيز " في شرح " الوجيز " للإمام أبي حامد الغزالي قدس الله تعالى أرواح الجميع. وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة جمال الدين بن حملة بن يوسف بن إبراهيم الأنصاري، تميز وباحث وأخذ الفقه عن عز الدين الفاروثي، وابن النقيب، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، وقرأ النحو، وصار من أعيان الفقهاء، وولي قضاء دمشق وحكم فحمد، وكان ماضي الحكم، ذا هيبة وصولة وشدة وطأة، علي المرتبة، وجرت له أمور، وأوذي، وعزل فالله تعالى يوجره، ثم أعطي تدريس الشامية، وكان شديد البأس على ابن تيمية والمبتدعين، وكان متين الديانة، حسن المعتقد. وفيها توفي العلامة زين الدين بن المرحل محمد بن عبد الله ابن خطيب دمشق عمر بن مكي القرشي العثماني العبدي الأموي الشافعي تفقه بمصر والشام على عمه الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، وعلى الشيخ كمال الدين بن السريشي، وكمال الدين ابن الزملكاني، وتولى هو والشيخ العلامة شمس الدين بن اللبان التدريس في يوم واحد يوم توفي الشيخ صدر الدين المذكور في أواخر سنة ست عشرة وسبع مائة. درس في المجدية فأخذها شمس الدين المذكور، وانتقل هو إلى مشهد الحسين، فدرس فيه سبع سنين، ثم انتقل إلى الشام، ودرس في الشامية الكبرى والعذراوية، ومكث فيها مدرساً ثلاث عشرة سنة، وناب في الحكم عن ابن الأخناي بدمشق، وكان رحمه الله تعالى إماماً عالماً عاملاً بارعاً نظاراً ذكياً وفياً ورعاً زاهداً، لم ير بالشام مثله، ولا مثل عبارته مع طلاقة الوجه، وحسن المحيا رحمه الله تعالى وله مصنفات جليلة، منها كتاب الفوائد في الفرق بين المسائل، ومنها كتاب النظائر، ومنها مختصر الروضة، ومنها في أصول الفقه كتاب التلخيص، وكتاب المخلص، وكتاب الخلاصة، ولم يصنف مثلها فاقت على أصول ابن الحاجب وغيره كذا ذكر بعض أهل الطبقات من الشاميين. وفيها وقيل: في التي بعدها مات بمصر شيخ الشافعية زين الدين عمر بن أبي الحزم الدمشقي ابن الكنتاني أبو حفص العلامة كبير الشافعية أوحد الأصوليين. تفقه وناظر، ونشأ بدمشق، ثم تحول إلى القاهرة، وكان تام الشكل، حسن الهيئة، جيد الذهن، كثير العلم،

سنة تسع وثلاثين وسبع مائة

إماماً في المذهب، مائلاً إلى الحجة. خطب ودرس واشتهر اسمه، وسمع جزء الأنصاري، وامتنع من الرواية، وكان يوهن بعض المسائل لضعف دليلها، ويلقي دروساً مفيدة متقنة يدهش من يسمعها ويزجر من يعارضه، وكان متصوفاً متديناًً، مليح البزة، حسن الشكل، لا يخضع لقاضٍ ولا أمير، ولا تأهل قط. درس بالمنصورية وغيرها. تفقه على البرهان المراغي، فقرأ عليه التحصيل في الأصول وحفظه، وسمع من جماعة، وعين للقضاء لكن في خلقه زعارة وعنده قوة نفس، وقلة إنصاف، وله أخبار في نفوره وزعارته. قلت: هكذا نقلوا عنه، وأخبرني بعض الفقهاء المصريين أنه كان يقرر المسألة حتى لا يخلي لأحد معه كلاماً، فإن جاء أحد يتكلم. فال: إيش تريد تفسر، ومن زعارته ما حكى لي بعض الفقهاء الفضلاء المصريين بعد أن جرى لي معه قضية، وهي أنه جاءني يطلب مني إعارة نسخة كتاب الحاوي، وكانت عندي عارية للقاضي نجم الدين الطبري، وذكر أنه أذن له في أخذها مني، فامتنعت من دفعها إليه، فخرج من عندي مغتاظاً، فلقي بعض الفقهاء المكيين، فشكا عليه ذلك، وقال: جئته، فلم يقم لي وامتنع من دفع الكتاب إلي فهون عليه ذلك، وكنت قد قلت له: لو جاء صاحبه ما أعطيته إياه، وقال له: إنه يدل على القاضي يعني له عند القاضي منزلة ومودة، فلما كان بعد ذلك بأيام جاءني وأنا في المسجد الحرام، وعندي جماعة يشرحون على الكتاب المذكور، فقال لي: أحب منك أن تعيرني الكتاب أنت، فأنا أعتقد أنك ما تحتاج إليه، فقلت له عند ذلك بعدما أنعمت له به: ما أنت إلا صبرت على جفائي بجلافة خلقي، فتبسم عند ذلك، وقال ما معناه المدح لي، وبقي ما ذكرت من الخلق المذكور، ثم بعد ذلك شرع يحكي حكاية جرت له مع الشيخ زين الدين المذكور، وقال: جئت مع والحي إليه، فلما قربنا من الباب قال لي والدي: لا تدخل معي بل قف قليلاً، ثم ادخل قال: فلما دخل والدي، فسلم سمعته يقول له البعيد: حمار قال: ثم وقفت قليلاً، ودخلت فقال لي: إيش أنت، فقلت: يا سيدي جحش ولد ذلك الحمار، فضحك هو، ومن عنده قلت: وبلغني أنه كان يستحضر. سنة تسع وثلاثين وسبع مائة هلك في شهر رجب منها ستون نفساً بالزلزلة في طرابلس الشام. وفي الشهر المذكور قدم الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي متولياً قضاء القضاة في البلاد الشامية، وفرح العالم به لدينه وعفته وعلومه الباهرة، وأوصافه الجميلة. وفيها توفي الإمام العلامة بدمشق، قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن

القزويني الشافعي عن ثلاث وسبعين سنة، ذو الفنون، جامع المعقول والمنقول ابن قاضي القضاة سعد الدين ابن قاضي القضاة إمام الدين. أخذ المعقول عن الشيخ شمس الدين الألجي وغيره، وسمع من الفاروثي وطائفة، ثم ولي خطابة البلد مدة، ثم طلبه السلطان الملك الناصر، وشافهه بقضاء دمشق، ووصله بذهب كثير، فحكم مع الخطابة، ثم طلب سنة سبع وعشرين، فولاه قضاء الممالك، وعظم شأنه، وبلغ من الرتبة والعز ما لم يصل إليه غيره، وكان فصيحاً حلو العبارة يعرف العربي والعجمي والتركي، مليح الصورة، موطأ الأكناف، سمحاً جواداً حليماً. جم الفضائل، كثير التحمل. ثم نقل في سنة ثمان وثلاثين إلى قضاء الشام، فتعلل وحصل له طرف من الفالج، ثم حضره الأجل، وله من التصانيف المفيدة الكتابان المشهوران في علم المعاني والبيان. وفيها توفي الإمام العلامة، الصالح الخاشع، جامع المحاسن العديدة، والسيرة الحميمة الورع المتواضع الخاضع أبو البشر محمد بن محمد الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، ولد سنة ست وسبعين وست مائة، وسمع كثيراً من أبيه، وابن شيبان، والفخر علي وعدة وحدث بصحيح البخاري، وحفظ التنبيه، ولازم حلقة الشيخ برهان الدين، وولوه قضاء القضاة فاستعفى، وصمم على الامتناع، فاحترمه الناس وأحبوه لتواضعه ودينه وتعبده. حج غير مرة، وأعطي خطابة بيت المقدس مدة مديدة، ثم تركها. وكان مقتصداً في لباسه وأموره، كبير القدر حصل في صغره، ودرس وهو أمرد، وزار بيت المقدس عند قرب أجله فتعلل، ثم انتقل إلى دمشق، وفيها انتقل إلى الله تعالى، وكان حسن الاعتقاد، بمن سمع به من أهل الخير، كثير الوداد، ولقد بلغني أنه لما وقف على بعض كتبي، وأظنه كتاب الإرشاد، وضعه على عينه حسن ظن منه. نفعه الله ونفع به، وكذا عادة أهل الخير في حسن الظن ومن ذلك أني لما حكيت للسيد الجليل الزاهد الواعظ المقرئ الشيخ أبي عبد الله المغربي، المعروف بالقصري حكاية الشيخ المشهور، المقرئ المشكور محمد بن زاكي التميمي مع بعض المبتدعين لما قرأ عليه، واجتمع له التحقيق، وحسن الصوت قال له أصحابه: ما أحسن هذا لو كان شيخك منا، فقال: وما على من ذلك أخذت العسيلة، وتركت الظرف، فلما بلغ ابن زاكي ذلك، قال للطلبة: نحب أن ترجع إلينا

عسيلتنا، فأنسى ذلك الشخص جميع ما كان يحفظ، وكان قد قرأ السبع، فعرف من أين أتى، واستغفر الله تعالى، وتاب ودخل في مذهب الشيخ ابن الزاكي، وكان شافعياً، وصار يتعلم كما يتعلم المبتدئ إلى أن بلغ خمس روايات، ثم توفي. وهذه الحكاية مستفيضة في بلاد اليمن، فلما حكيتها للشيخ أبي عبد الله القصري المذكور قال لي: إن كنت قرأت على هذا الشيخ قرأت عليك نقول ذلك من باب حسن الظن كما ذكرت، ولمناسبة أهل الخير والصلاح في حسن الظن ذكرت هذه الحكاية هنا مع كونها دخيلة، وكان - رحمه الله تعالى - يسألني عن مذهب الإمام الشافعي، ويقول: أنا ما أتقيد بمذهب مالك بل آخذ بما رجح فيه الدليل، وكان يسمع بقراءتي سنن أبي داود على شيخنا الإمام رضي الدين الطبري، فلما فرغت قراءة الكتاب، قال: اكتب لي الإجازة، فكتبت وذكرت فيها بعض أوصافه على سبيل المدح، فأخذ القلم، وضرب على ذلك سوى المقرئ الواعظ، فإنه لم يضرب على لفظهما، وقال: صحيح وذلك من شدة ورعه وزهده أعني ضربه على ما نسبت إليه رحمه الله تعالى. وفيها توفي شيخ بلاد الجزيرة الإمام القدوة شمس الدين محمد المنتسب إلى شيخ الشيوخ، في المجد والمفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر، الشيخ أبي محمد محيي الدين عبد القادر الجيلي، جده الرابع، أعاد الله من بركاته علينا، وعلى المسلمين، وكان شمس الدين المذكور عالماً صالحاً وقوراً وافر الجلالة، روى عن الفخر علي بدمشق، وحج مرتين. وفيها توفي صاحب التاريخ الكبير محمد بن إبراهيم ابن الجرزي الدمشقي عن إحدى وثمانين سنة. وفيها مات بخليص محرماً في ذي الحجة الإمام الحافظ محدث الشام علم الدين القاسم بن محمد بن البرزالي الشافعي، صاحب التاريخ، والمعجم الكبير عن أربع وسبعين سنة وأشهر.

سنة أربعين وسبع مائة

قلت: وعليه أمنت الشاميون في الصلاة عليه في خليص بإشارة بعضهم، وكان روى عن خلق كثير، وقرأ وكتب، وتعب وأفاد مع الصدق والتواضع والإتقان، وكثرة المحاسن، ووقف جميع كتبه، وأوصى بثلثه، وحج خمس مرات رحمه الله. سنة أربعين وسبع مائة في صفر منها هبت بجبل طرابلس ريح فيها سموم وعواصف على جبل عكا وسقط نجم اتصل نوره بالأرض برعد عظيم، وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت أشجاراً، ويبست أثماراً، وأحرقت منازل، وكان ذلك آية عظيمة ونزلت من السماء نار بقرية الفيحة على قبة خشب أحرقتها وأحرقت ثلاثة بيوت. كل هذا صح واشتهر. وفيها توفي بمصر الإمام العلامة الصالح المشهور، الخاشع المشكور أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز مجد الدين السنكلومي من سنكلوم بالسين المهملة، والنون والكاف، واللام والواو، ثم الميم بلدة من أعمال الشرقية، وبعضهم يقول: السنكلوني بالنون قبل باء النسبة، الفقيه الشافعي، المفيد الورع. قدم القاهرة قريب بلوغه، أو بعد البلوغ، فأخذ الفقه عن الشيخ محيي الدين عبد الرحيم النشائي الفقيه، وكان أكثر اشتغاله واستفادته عليه، ثم اشتغل أيضاً على الإمام العلامة عز الدين بن عمر بن أحمد بن المدلجي وغيرهما، وكثر عن عز الدين المذكور، فأخذ عنه الفقه والنحو، وشيئاً من الأصول، وقرأ عليه الكافية لابن مالك في النحو، وقرأ الفصول لابن معطي على أبي البقاء خطيب القدس، وأخذ أصول الفقه، وشيئاً من علم البيان عن الشيخ علم الدين العراقي، وصنف عدة كتب في الفقه منها انتخابه لكافية النبيه، وشرح التنبيه للإمام نجم الدين بن الرفعة ست مجلدات، وسماه " تحفة النبيه في شرح التنبيه " في أربع مجلدات. قلت وهذا الكتاب المذكور منتفع به مشكور متداول بين أهل العلم مشهور. ومنها اللمح العارضة فيما وقع بين الرافعي والنووي من المعارضة في مجلد واحد. ومنها شرح منهاج النووي في الفقه، ومنها شرح مختصر التبريزي في الفقه أيضاً، وابتدأ في شرح التعجيز مختصر الوجيز لابن يونس، وسماه الواضح الوجيز في شرح مختصر الوجيز، وبلغ نحواً من النصف، وسمع الحديث عن جماعة منهم الحافظ الدمياطي،

سنة إحدى وأربعين وسبع مائة

وحدث بالقاهرة، وولي مشيخة الرباط الركني، ثم الخانقاه، ثم التدريس بالقبة من الخانقاه، والإعادة في الفاضلية والقطبية والظاهرية وغيرها من المدارس، وكان كريم النفس، حسن الأخلاق، كثير التواضع، طارحاً للتكلف يحمل عيش عياله بنفسه إلى الفرن، كثير الاشتغال للطلبة، متصدياً لاشتغالهم وإفادتهم في أكثر أوقاته قلت: وبلغني أن له بعض كرامات، وذكر أن عمره ينيف على الستين رحمه الله تعالى. وفيها توفيت مسندة الشام أم محمد زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم المقدسية المرأة الصالحة العذراء، عن أربع وتسعين سنة، روت عن جماعة سماعاً وإجازة، وتكاثروا عليها، وتفردت وروت كتباً كباراً. قلت: وإلى هاهنا انتهى تاريخ الذهبي، وكذلك انتهى في نيف وستين وست مائة تاريخ ابن خلكان، ومنهما انتقيت تاريخي هذا وها أنا أذكر بعض من توفي من الأعيان في عشر سنين أخرى التقطتهم مما ذكره بعض المتأخرين. سنة إحدى وأربعين وسبع مائة وفيها توفي الإمام العلامة الأوحد شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد القرشي البكري السهروردي الشافعي الكاتب، سمع الحديث، وأخذ الإجازة من جماعة، وشارك في طرف من العلوم، وبرع في اللغة والأدب، وفاق في صناعة الخط، وحسن الكتابة، وتقدم في صناعة الموسيقى، وصار شيخ الكتاب، ورئيس أهل الآداب، حسن الأخلاق، جميل الأعراق، كثير الحياء والإطراق، سديد المقال، مليح الفعال، كريم الطباع، كثير الإطلاع، معمور الأوقات في الاشتغال والأشغال، صاحب رأي وفصاحة، وشرف نفس وبلاغة. سنة اثنتين وأربعين وسبع مائة فيها توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن منصور الدمياطي المعروف بابن الحباس الصوفي الأديب الشاعر، ومن شعره: زاد وجدي فلست أملك صبراً ... أعظم الله لي في الصبر أجرا راسل الوجد مهجتي فدموعي ... أرسلت رسلها على الخد تترى صنت سر الهوى، فنم بي الدمع ... فلولا الدموع لم أبد سرا

سنة ثلاث وأربعين وسبع مائة

يا عذولي دع الملام فإني ... أرى موتي على الصبابة أحرى لا تلمني على الغر أم، ولكن ... خذ من الوجد والصبابة حذراً مع أبيات أخرى منها قوله: يا عزيز الجمال رفقاً بقلب ... إن فيه ليوسف الحسن مصرا سنة ثلاث وأربعين وسبع مائة فيها توفي الإمام العلامة قاضي القضاة عبد الله بن محمد العبيدلي الفرغاني الحنفي البارع العلامة المناظر. يضرب بذكائه ومناظراته المثل. كان إماماً بارعاً متفنناً خرج به الأصحاب بعرف المذهبين الحنفي والشافعي أقرأهما، وصنف فيهما. وأما الأصول والمعقول، فتفرد فيهما بالإمامة، وله تصانيف منها شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي، وشرح الطوالع وشرح المصباح، وشرح المنهاج للبيضاوي وغير ذلك من التصانيف، والأمالي، والتعاليق، وولي تبيز وأعمالها إلى أن توفي، وكان الأستاذين في وقته. سنة أربع وأربعين وسبع مائة فيها توفي الإمام العلامة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف الأنصاري الشافعي السبكي المصري. نزيل دمشق برع في الفقه والأصلين، وصار علامة زمانه، ورئيس أقرانه مع حسن أخلاق، وكثرة تواضع، وديانة حسنة، وسمع بمصر والشام كثيراً، وله شعر رائق، ونثر فائق، وكتابة جيدة، وذهن ثاقب، وقريحة حسنة، وحسن قراءة الحديث، ودرس وأفتى وصنف. سنة خمس وأربعين وسبع مائة فيها توفي الإمام العلامة المفتي الشافعي القاضي شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن النقيب، بقية الشافعية بالديار الشامية، ولي القضاء بمدينة حلب وغيرها،

سنة ست وأربعين وسبع مائة

ودرس بالشامية البرانية، وانتفع به المسلمون وأسند وعمر. ؟ سنة ست وأربعين وسبع مائة فيها توفي العلامة الهمام أحد أئمة الأعلام، المقتدي بهم شيوخ الإسلام، المفيدين للطلبة، المفتين للأنام، البارعين في المعقول والمنقول، الجامعين لفنون العلم، الكثيم المحصول فخر الدين أبو المكارم أحمد بن حسن نزيل تبريز الفقيه الشافعي، صاحب المصنفات البديعة، والمؤلفات المفيدة. منها الحواشي على الكشاف في عشر مجلدات، وشرح المنهاج للبيضاوي في أصول فقه الشافعية، وشرح البزدوي وشرح الهداية للحنفية، وشرح التصريف لابن الحاجب. سنة سبع وأربعين وسبع مائة فيها توفي الفقيه القدوة المدرس المفتي، شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن الصاحب، الفقيه الزاهد زين الدين أحمد ابن الصاحب، الفقيه فخر الدين بن الصاحب الكبير الشهير الوزير في المحاسن المشكورة، والمكارم المشهورة، بهاء الدين علي ابن محمد المعروف بابن حنا. توفي شرف الدين المذكور ليلة الجمعة ثامن شهر رمضان من السنة المذكورة، وكان مع فضله في العلم صاحب محاسن. متواضعاً حسن الاعتقاد في أهل الخير، حريصاً على لقاء الصالحين ومجالستهم، وقد قدمت في ترجمة الشيخ محمد المرشدي سنة سبع وثلاثين اجتماعه هو وأولاده بي في زاويته، وما صدر منه من حسن الاعتقاد والتواضع والوداد، وكتابتهم عني قصيدتي الموسومة " بالحلاب الحالي في مدح الحاوي " والتماسهم مني الإقامة عندهم، وإقراء الكتاب المذكور لهم، وأن أكتب خطي في بعض الفتاوى، فأجبت لفظاً، واعتذرت عن الخط والإقامة، وما عاينت من الشيخ محمد في ذلك من الكرامة. سنة ثمان وأربعين وسبع مائة فيها توفي السيدان الجليلان الإمامان الحفيلان، بركتا الزمن، وزينا اليمن أحدهما شيخنا وسيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه الإمام مفتي المسلمين، رفيع المقام، العالم العامل، الورع الزاهد، العابد ذو المحاسن والمحامد والمواهب الجزيلة، والمنزلة الجليلة، والأوصاف الجميلة، والدرجة الرفيعة العلية، والشمائل الحسنة الرضية. المدرس المفيد ذو

الفضل العديد، والكرامات الكثيرة، والمناقب الشهيرة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة والموحدة بين المثناتين من تحت مجموع المحاسن المفضال المشهور بالبصال. صحب الشيخ الكبير الولي الشهير، صاحب السيرة الحميدة، والكرامات العديدة. مطلع الأنوار، منبع الأسرار الشيخ عمر المعروف بابن الصفار في مدينة عدن. وانتفع به، وحصل له نصيب وافر، وسكن في قلبه مذ صحبه، وأقرأ، وهذا الشيخ عمر المذكور رأيته في حياته، ودعا لي بعد وفاته في المنام بعد أن سألته، وقلت له: يا سيدي أما مت أنت؟ فقال: العجب أن يقال أني مت. قلت: وهذا يؤيد ما ذكره بعض مشائخ الصوفية في قوله: الصوفي لا يموت، ثم دعا إلي الشيخ عمر المذكور المشكور في المنام المذكور بعد أن مسح على صدري، وقال: أصلحك الله صلاحاً لا فساد له نسأل الله الكريم أن يحقق ذلك. وقد قدمت في ترجمة الشيخ محيي الدين النواوي أنه دعا لي في المنام أيضاً، فقال: وفقك الله، وزادك فضلاً، وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. اللهم اقبل ذلك لي، ولسائر أحبائي، والمحبين آمين. وجالس ذا الأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والمواهب السنية، والمقامات العلية شيخنا المشكور الولي المشهور مسعود الجاوي أحد كبار أصحاب الشيخ الفقيه، في المناقب الشهيرة، والكرامات الكبيرة، صاحب موزع المتقدم ذكره في ترجمة الفقيه الإمام في الكرامات العظام العلي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي. وانتفع الشيخ مسعود المذكور وهو والشيخ عمر بن الصفار بابن الخطيب المذكور انتفاعاً عظيماً، ونالا منه منالاً كريماً، والشيخ مسعود هو أول من ألبسني الخرقة. جاءني وأنا منعزل في مكان، وقال لي: وقع الليلة إشارة أني ألبسك الخرقة وألبسنيها، وكان يجتمع هو وشيخنا جمال اللين المذكور، ونحن وجماعة من أصحابهما معهما في أوقات مباركات في عدن، وفي ساحل البحر في بعض الساعات أعني ساحل ضراس بضم الضاد المعجمة، وفي آخره سين مهملة، وقبل الألف راء الذي خلف ساحل حقات، وحقات بضم الحاء المهملة وتشد يد القاف، وفي آخره مثناة من فوق. وتفقه شيخنا جمال الدين المذكور بالفقيه الفاضل، في المحاسن، والفضائل، والتصوف، والصلاح، والأوصاف الجميلات الملاح، شيخنا في الفرائض في الذوق والوجدان، عبد الرحمن، المعروف بابن سفيان، من ذرية الشيخ الكبير، العارف بالله الشهير، ذي المقامات العالة، والكرامات الغالية، والمناقب الجميلة، والمواهب الجزيلة،

الفقيه سفيان الحضرمي اليمني قرأ شيخنا جمال الدين المذكور على ابن سفيان المذكور كتاب التنبيه، وحقق وبحث ودقق، ثم جمع شيخنا جمال الدين المذكور كتاباً ينتفع به الفقيه بعضه. يتعلق بشرح النبيه، ذا فوائد عديدة، ونكت مفيدة، رأيته يطالعه وقت ما كنت إليه أتردد ولا يظهره في ذلك الوقت لأحد، وفاق في معرفته شيخه وغيره من الفقهاء النجباء، والفضلاء الأدباء، ودرس وكل من طلبته به انتفع، وعرض عليه قضاء عدن، فامتنع، وكان له صوت في قراءة القرآن يهيج من الخليين الأشجان، وألفاظ تعجب من وعاها، وتطرب من رآها، وعبارة تلين القلب القاسي، وخلوات ترغب في مجالسته الناسي، وزهد يسلي من الدنيا كل حريص، ويغلي به في الآخرة كل رخيص، قرأت عليه القرآن الكريم، وصليت به في رمضان إماماً خمس سنين، وقرأت عليه كتاب التنبيه فأولم عند ذلك وليمة كبيرة، وذبح كبشين، وأطعم جماعة كثيرة، وهو أول من انتفعت به، ورأيت بركته من الشيوخ الذين صحبتهم قدس الله أرواحهم، ونور ضريحهم، ورضي عنهم. والثاني من للشيخين المذكورين شيخنا، وقدوتنا، وسيدنا، وبركتنا الشيخ الكبير، العارف بالله الخبير، خزانة الأسرار، ومطلع الأنوار، الفقيه الناسك، المجذوب السالك، ذو السيرة الجميلة، والمناقب الجليلة، والمحاسن الغالية والمقامات العالية، والأحوال الباهرة، والمكاشفات الظاهرة، والكرامات الخارقة، والأنفاس الصادقة، والمعارف والعلوم الملدتيات، والآداب والأخلاق الرضيات، والتربية في سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، ذو التخصيص والتمكين، أبو الحسن نور الدين، علي بن عبد الله اليمني الطواشي، نسباً، الشافعي الصوفي مذهباً، قدس الله روحه ونور ضريحه اشتغل رضي الله تعالى عنه بفنون من العلوم حتى في علم الطب، وأكثر اشتغاله بالفقه، وكان الغالب عليه التنسك، وحب الخلوات والانعزال عن المخالطات، وكان يسافر مع أبيه وأخوته، فإذا دخلوا السوق للتجارات، دخل المسجد للعبادات، ملازماً للتلاوة والإذكار وزيارة الأولياء الأخيار، حتى حصل له من بعضهم تعليم الاسم الأعظم، الذي من عرفه يقرب ويكرم، وحصل له مع السلوك جذبة من جذبات الحق، وهيبة جلالية حتى هابته الملوك ذو أحوال عظيمة، وظهور كرامات كريمة، وأفاض عليه الحق من فيض فضله، وملأ قلبه من أنوار. قدسه، وهذبه، وزكاه، وطهره من صفات نفسه، وملأ قلبه وقالبه من أنوار قدسه، وهذبه وزكاه وقربه وأدناه، وبالحياة الطيبة أحياه، وكشف له حجاب الجمال والجلال، وأطلعه على مكنون المعارف والأسرار، وغير ذلك مما لا يعرفه الأعارف بالله مجذوب سالك هو بمكان من المقام العالي، والحال الخطير، والناس يبصرونه ضعيف الجسم متواضعاً في زي فقير، ويحسبونه من جملة الفقراء المشاركين، ولا يدرون ما عنده من جليل الولاية، وعلو المنزلة والتمكين، وفي هذا قلت:

يرون جسماً براه الحب بالتلف ... وليس يدرون دراً داخل الصدف حاكى شيوخاً أجلا سادة سلفوا ... أكرم بمن في المعالي لاحق السلف كنت أعهده رضي الله تعالى عنه منذ سنين عديدة يأتي للحج والزيارة متحلياً بحلية حميدة، وكثيراً ما يأتي لذلك، ويسافر وفلاح الصلاح عليه قد لاح وهو ظاهر، وربما أتاني في بعض الأوقات تفضلاً منه في مكة شرفها الله تعالى يقال: عندما يأتي للحج، وهو حينئذ من الصالحين، ثم جاءه بعد ذلك نصيب وافر مما أشار إليه الحق سبحانه بقوله تعالى " أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وبقوله عز وجل: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وبقوله تعالى " يجتبي إليه من يشاء " وغير ذلك، ثم لزم منزله، وصار لا يحدث شيئاً من الحركات ألا بأمر وإشارات كل هذا، وما عندي علم حتى سافرت إلى اليمن السفرة الأولى، فتلقاني إلى الساحل في جمع كثير من فقرائه وجيرانه، وإذا الرجل غير الرجل، والوصف غير الوصف ظاهره قد كسي بملابس الأنوار، وباطنه خزانة المعرف والأسرار، يفوح فيه طيب الوصف بالغدو والآصال. ويصدق فيه قول الذي قال: إلا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافوراً وأعواده رندا وما ذاك إلا أن هنداً عشية ... تمشت وجرت في وجوانبه بردا وفي انتقاله من حالة البعد والعنا إلى حالة القرب والهنا قلت: عهدتكم قدماً على غير حالة ... بها اليوم أنتم ساده وملوك أتاكم من الرحمن جذب عناية ... فهان عليكم للوصول سلوك وفي مشيه إلى عندي قلت مستعير البيت الثاني: لقد حق لي يا هند أنشد في الهوى ... ولاق بحالي حين جاء سيدي عندي خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد ثم سافرت السفرة الأخيرة، فرأيت ما أدهش عقلي، وحير فكري من الأحوال والمعارف والأسرار والمكاشفات، والأنوار والكرامات، وغير ذلك مما شاهدته منه في حال خلوته في أوقات كثيرة عند ورود أحوال عظيمة تجري على لسانه فيها من عجائب الغيوب ما يحيي القلوب، وفي ذلك قلت على جهة النيابة على لسان حاله: وما قلت قولاً غير أني أعرتها ... لساني فأومت للهوى يتكلم فأسرارها منها علمت، وعندما ... سكرت جليسي سرها منه يعلم

أعني يعلم الجليس السر المودع في القول الجاري على لسان الغائب بواسطة الهوى المشار إليه بالكلام، فالضمير في منه يعود إلى الهوى، والمعنى أن الله تعالى يجري على لسانه كلاماً في حال غيبته بما يريده الله تعالى يسمعه الجليس ليس باختيار من الشخص المذكور. ومن ذلك قول أبي القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه لما سئل أن يملي كلامه: لو كنت أجريه كنت أمليه، وأما في حال الصحو، فهو في نهاية المحو ينكر ذلك، ولا يظهر منه شيئاً أصلاً لا قولاً ولا فعلاً ولا علماً ولا حالاً. متحقق بقول القائل: ومستخبر عن سر ليلى رددته ... فأصبح في ليلى بغير يقين يقولون أخبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن أخبرتهم بأمين اللهم ألا مجالس تكلم معي فيها في حال الصحو، فكشف الخمار عن وجه كثير من مليحات المعارف والأسرار، ولكن نادر، وأطال البسط معي في ثلاثة مجالس. المجلس الأول مجلس إيناس وتأليف، والمجلس الثاني مجلس تأديب وتخويف، والمجلس الثالث مجلس تبشير وتعريف على ما سبق به القضاء من التقدير والتصريف، وهذا المجلس الثالث هو الذي أشرت إليه في القصيدة بقولي: ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي ولعل أكثر الناس أو كثيراً منهم له معه مجالسة كثيرة، ولا يظهر لهم منه صغيرة ولا كبيرة، ويعرض عليه أشياء كثيرة قبل أوقاتها. من ذلك قولي في قصيدة مدحته بها: وطفت ببيت الرب قلب مطهر ... من الجس من كل الصفات الدنية ومفتتح القصيدة المذكورة قولي: تخلفت يوم البين عنه بجثتي ... وراحوا بقلبي يوم بانوا أحبتي وناديت والركب اليماني راحل ... وعندي مقيم في الحشا حر لوعتي خليلي سيرا بلغا لي تحيتي ... إلى عند سكان الربوع البهية إذا جئتما حلي ابن يعقوب بمنا ... قليلاً إلى حيث العادات حلت وبثا غرامي في الربوع وقبلا ... رباه وصبا دمعة بعد دمعة ومنها عند ذكر شيخنا المذكور: له أسفرت بيض الغلى عن محاسن ... وقالت له: بشراك بشرى برويتي فمديت طرفي كي أراها فأسبلت ... خمار الهادوني، فمت بحسرتي

فإن أسعدت يوماً برفع خمارها ... على الوجه أحيتني بأول نظرة سقى الله أياماً خلوت بسيد ... بها هل تراها سامحات بعودة فكنا بها في طيب جمع بها الهنا ... وعيش صفا من قبل تكدير فرقة ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي فشاهدت من أحواله وعلومه وأنواره ... ما تحته كل تحفة وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخراً لأمر بيقظة مولى من الموالي أجل ولاية ... يسل عليها سيف سطوة عزة به كل جبار من الخلق خاضع ... إلى عزة يأتي مطيعاً بذلة له في معالي المجد منزل سؤدد ... به طربت بيض المعالي وغنت مع أبيات أخرى في بعضها استعارات، يطرق إليها إنكار من بعض من لا يفهم معاني الاستعارات والمجاز والإشارات، والعجب أن المنكرين هم من أهل السنة مع استحسان إمام الزيدية العلامة الفاضل يحيى بن حمزة للقصيدة المذكورة، فيما أخبرني به بعض حملة كتاب الله من المخبرين المباركين. قال: رأيته في حراز من بلاد اليمن، وقد أتي غازياً الإسماعيلية في جيش كثير قال: فلما - علم أني قاصد الحج: قال: لعلك تأتيني، أو قال: عسى أن تأتيني بشيء من كلام فلان، فقد وقفت له على قصيدتين أعجبتاني إحداهما في مدح شيخه قلت: والعجب كل العجب ممن ينكر ما تضمنته من ذكر الاستعارات، وعلو المقامات مما يستحسنه المخالفون المنكرون للمقامات، فنسأل الله الكريم الوهاب القادر أن يعافينا من عمي البصائر قد وعمني شيخنا المذكور بالجائزة للقصيدة المذكورة، وقال: هي تأتيك، ولو بعد حين، فلا تيئس منها، وإن طال الزمان، ونزل من مقامه العالي في التواضع وغيره، وأنزلني منزلة ليست لي بمكان، وفي ذلك قلت: وأهلني المولى لما لست أهله ... وأنزلني منه الندا فوق منزلي وأنزلته في مدحتي دون منزل ... له في العلى في كل ناد ومحفل قلت: ومن تواضعه المذكور أني رجعت ذات يوم من صلاة الجمعة في حلى، فوافيته خارج القرية يريد الرجوع إلى منزله، وقد أتى بمركوب يركب عليه لحدوث ضعف فيه مع ضعف مزاجه، وضعفه برياضته وعلاجه، فلما راني قال: اركب فامتنعت من ذلك، فألح علي حتى ركبت، وصار هو يمشي بعدي. ومن ذلك أيضاً أنه حصل لي تأديب في وقت هو فيه غائب لحال ورد عليه، فلما أفاق قال لي: قد يؤدب الفاضل على يد المفضول. يعني أنه حصل لموسى عليه السلام أدب على يد الخضر عليه السلام.

وله من المحاسن والسيرة الرضية، والكرامات والمناقب العلية، والتواضع والآداب. ما يضيق عن ذكره كتاب، فالله تعالى يزيده من فضله، ويجزل له الأجر والثواب، وينفعنا والمسلمين به وبالصالحين آمين. وقد ذكرت في بعض كتبي شيئاً من كراماته المشتملة على بشاراته لي بما أرجو حصوله من فضل الله الكريم، وها أنا أذكر هنا بعض ذلك. ذكر شيء من كرامات شيخنا نور الدين قدس الله روحه على وجه الاختصار. فمنها ما أخبرني بعض أصحابه وأولاده، واستفاض في جهته وبلاده أنه قال لأمراء زمانه الطاغين في مكانه: إن لم تنتهوا عن كذا وكذا من المظالم والمعاصي جاءتكم النار، فقيل له في ذلك الحال: متى تجيء النار؟ قال: ليلة الجمعة، فلما كان سحر ليلة الجمعة طلع مؤذن الجامع المنارة ليذكر، فرأى ناراً مقبلة في الجو مثل المنارة تدنو منهم قليلاً قليلاً، فصاح ألا جاءكم ما أوعدكم به الشيخ علي، فخرج الأميران في ذلك الوقت قاصدين الشيخ، وكان خارج البلد نازلاً في بيت وحده، وأظهر له التوبة، وبكيا وتضرعا ومرغا خدودهما على الرماد بين يديه، وإذا بالنار قد انقسمت نصفين، فذهب أحدهما في جهة، والنصف الآخر في جهة راجعين عن البلد، والحمد لله الرحمن الجواد. ومنها ما سمعته أيضاً غير مرة من غير واحد من تلامذته، واشتهر شهرة عظيمة في بلدته أن إنساناً يقال له: ثابت من بعض البلدان البعيدة ممن أعرفه، وأقام عندنا بمكة أشهراً عديدة، ثم سافر إلى بلاد حلي ابن يعقوب يحبسه العوام من الصالحين المنال. عندهم المطلوب، فأقام زماناً طويلاً في القرية، فلما كان يوم الجمعة من جميع ذلك الزمان جاء شيخنا المذكور إلى الجامع ليصلي الجمعة، وإذا بثابت المذكور جالس في طريقه، فلما مر عليه الشيخ أطلق ثابت لسانه فيه وسبه، وهم بعض من هو مع الشيخ بالبطش فيه، فقال الشيخ: دعوه معه ما يكفيه، فاشتغل في الحال ناراً فأخذ من حضر ماء، فجعلوا يصبونه على تلك النار لكي تنطفئ، فأحرقت ما شاء الله من جسمه ولحيته، والحمد لله على نعمه وإكرامه لأهل طاعته. ومنها ما أخبرني بعض الصالحين ممن أعرفه وأعتقده، أن بعض ذرية الفقيه الكبير الولي الشهير، السيد الجليل، أحمد بن موسى بن عجيل - قدس الله روحه - أتى بقافلة اليمن، فلما وصل بلاد الشيخ أرسل بعض الفقهاء من أصحابه إلى الشيخ يسأله عن الأصلح في سفر البر أو البحر خوفاً من العربان القطاع أولي الفساد والأطماع، فلما أتاه الرسول وجد الشيخ مقبوضاً، فلما لم ير عنده شيئاً من البسط والإيناس. قال في نفسه: ليت الفقيه فلاناً

استشار فلاناً رجلاً صالحاً في القافلة سماه. خطر له ذلك قبل أن يبلغ الرسالة، ولا ذكرها بعد ذلك، فلما خطر له هذا الخاطر قال له الشيخ في الوقت الحاضر: قل للفقيه إن شاء مسافر براً أو بحراً، فما عليهم إلا السلامة، واعلم أن المشهورين في بركة المستورين. ومنها ما أخبرني بعض شيوخ اليمن المشهورين بالصلاح، والاتصاف بالأوصاف الملاح، في شهر رمضان المبارك في الحرم الشريف، وهو متوجه للإحرام بالعمرة. أنه رأى شيخاً المذكور بعد صلاة الصبح منصرفاً من حول الكعبة إلى جهة بلاده، وأنه مر عليه، وتبسم في وجهه، وأشار مع السلام بإصبعه إليه، وذكر أنه كان يتعبد معه في بعض السواحل في أيام البداية، وأنه كان يأتي إلى شيخنا كل ليلة ثلاثة أنفس أحدهم الخضر فيتحدثون معه ما شاء الله تعالى من الليل، وأنه كان يتنحى عنهم في ذلك الاجتماع، ويقول لشيخنا: ما جاؤوا إلا إليك اللهم أنفعنا بعبادك الصالحين بحرمتهم عليك. ومنها ما أخبرني بعض الفقهاء المتقنين المباركين المتنسكين أنه أذن له شيخنا المذكور في الخلوة، فدخل فيها، وكان في بعض الأوقات يتصور له بعض الشياطين يوسوس عليه يراه بعينه ظاهراً، فشكا ذلك إلى الشيخ، فقال له: إذا رأيت شيئاً من ذلك ناد باسمي، قال: فلما كان فات ليلة تصور لي الشيطان، فقلت: يا سيدي الشيخ علي فما تم مقالتي إلا والشيخ واقف بباب الخلوة مع بعد منزله عن ذلك المكان، فسبحان الكريم المنان الذي طوى لهم المكان والزمان، وأطلعهم على ما شاء من الغيب حتى شاهدوه بالعيان. ومنها أنا لما بلغنا في سفر البحر إلى مرسى حلي قال لي أصحابي: تنزل إلى الساحل. قلت: لا، فنزلوا وبقيت في المركب وحدي، ونويت أني إذا بلغت اليمن لزيارة جماعة من الصالحين، ورجعت زرت الشيخ نور الدين المذكور في حلي، فلما كان ضحوة اليوم الثاني من نزول أصحابي حدث عندي داعٍ إلى النزول إلى الساحل، وإذا بزورق، وهو المعروف بالسنبوق في اصطلاح بعض الناس فيه بعض البحارين جاء إلى بعض المراكب المرساة لقضاء حاجة، فأشرت إليه أن يدنو مني، فأتاني، فركبت معه في الزورق إلى الساحل، فلما صرت في البر تمشيت فيه قليلاً، وإذا بالشيخ علي المذكور مقبلاً إلي في جمع كثير ركبان ورجالة من أصحابه وجيرانه، فسلم علي، وألبسني الخرقة، فعلمت أن الداعي الذي أزعجني إلى النزول في ذلك الوقت بعد أن لم يكن لي فيه نية إنما هو بخاطر الشيخ إذ كان الاجتماع الذي وقع بيننا مقدوراً له النزول سبب، والحمد لله على ذلك السبب الذي قدر لي به أني أصحب، وعلى جميع ما أنعم ووهب. ومنها أني خرجت في بعض الأيام إلى خارج البلد، واخترت موضعاً بعيداً عن الناس، فخلوت فيه تحت شجرة خفية بين أشجار البرية بحيث لا يهتدي مكاني أحد، فما شعرت إلا

والشيخ معي، فجلس معي قليلاً، فسررت بذلك سروراً كثيراً، وحسبت أنه يطيل الجلوس عندي فأتملأ به، واسأله عن كل ما أريد، فورد عليه حال، فقام بعد أن ظهر فيه مبادي السكر، فحصل في باطني عند ذلك تألم واحتراق لعدم حصول ما أملت، فقلت له: عند ذلك ما كان لي بمجيئك حاجة، فقال: ولم قلت؟ لأني فرحت بمجيئك، ثم تألمت بقيامك، فأتى إلي ووضع إصبعه على قلبي، وقال: هذا موضع الألم، فسكن ذلك الألم، وبردت تلك الحرقة كما تبرد النار إذا صبت عليها الماء، وازددت عند ذلك في اعتقاد فضله علماً، والحمد لله على المعرفة لهم والصحبة، وعلى ما خلق بيننا وبينهم من المحبة. ومن هذا الإسكار الذي يفارق به الأغيار، ولا يرضى فيه إلا بمجالسة الملك القهار أني مررت بجنبه في بعض الأحيان، وهو جالس على بعض الكثبان، فناداني إليه، فجلست معه قليلاً، وهو منشرح منبسط معي، ثم ورد عليه وارد أخرجه عن ذلك الحال إلى حال آخر ظهر عليه في مبادي السكر، فقبض نفسه فيه، وتنمر ونظر إلي نظرة النشاوي في سكرهم، وقال: من جالس الملوك لم يرض مجالسة غيرهم، فقمت عنه هارباً، ورجعت في طريقي التي كنت فيها ذاهباً، وكان هذا ضحوة النهار، ثم رجعت من وجهي الذي توجهت فيه بعد العصر، فإذا به قد تغير عن ذلك الأسلوب، ورجع إلى الأسلوب الانبساط المحبوب، وقد أتى بمركوب يركبه فأقسم علي أن أركب ذلك المركوب، فركبته، ومشى هو مع جلالته وضعفه، وتباين ما بين طرفي نهاره في هيبته ولطفه متحققاً بقول قائلهم: إذا كنا به تهنا دلالاً ... على كل الموالي والعبيد ولكنا إذا عدنا إلينا ... يعطل دلنا ذل اليهود ومنها أني حكيت له مرة أني قصدت في أيام الحج رجلاً من الصالحين في منى، فطلبته في منزله، فلم أجده، فطلعت بعض جبال منى، وانعزلت بعيداً من الناس تحت بعض الأحجار، فبينا أنا كذلك، لماذا بذلك الرجل الصالح الذي كنت أطلبه معي، فوقف عندي ما شاء الله، فلما حكيت لشيخنا المذكور هذه الحكاية تعجيباً له بذلك في ظني قال لي: عسى كان اجتماعكم في المكان الفلاني، وأشار إلى ذلك المكان بعينه مع عدم تميزه عن غيره تميزاً يهتدي به إليه، فلما سمعت منه ذلك تعجبت، وقلت له: الفرسان يمرون علينا، ولا يسلمون، فقال: يسلمون بالقلوب، ثم جمعت بينه وبين الصالح المذكور، وهو الولي الحبيب خالد بن صالح بن شبيب في المسجد الحرام ليلاً، فحصل للشيخ خالد بذلك سرور، فلما افترقا قال لي الشيخ علي: هذا من غزة، ولم يكن لهما قبل ذلك اجتماع بل بمعرفة القلوب والكشف والاطلاع رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم. ومنها أنه خطر لي في وقت خلوة من أفضل هو أو شخص آخر،

فقال لي: عند خطور هذا الخاطر، ما الفرق بين الرسول والنبي؟ فأردت أن أذكر ما بينهما من الفرق بحسب ما يخطر لي من العبارة، فسبقني وعبر في الفرق بينهما بعبارة حسنة مشتملة على ألفاظ وجيزة جامعة، ومعانٍ حسنة، حاصلها أن الرسول هو الذي يوحي إليه، ويرسل إلى الخلق، ويؤيد بالمعجزات التي تدل على الحق، والنبي غير متصف بهذه الصفات، وكذلك الأولياء منهم من يؤمر بإرشاد المريدين، ويؤيد بالكرامات والبراهين. ومنهم من له فضل في نفسه، وليس له شيء من هذه المذكورات، ففهمت من ذلك أن الفرق بينه وبين ذلك الشخص نسبته نسبة الفرق بين الرسول والنبي على حسب ما بين النبوة والولاية من التفاوت، فهو في أعلى درجات الولاية كما أن الرسول في أعلى درجات النبوة، وذلك الشخص في أسفل درجات الولاية، كما أن النبي في أسفل درجات النبوة، ومفهوم كلامه أنه أفضل من ذلك الشخص، فقلت له في ذلك الحال: هل يتصور أن يصير النبي رسولاً. ومرادي أن ذلك الشخص، هل يصير في مرتبة التربية والتأييد بالكرامة، وإرشاد السالك؟ فأشار إلي أنه قد يتصور ذلك، نسأل الله الكريم من فضله العظيم لنا ولأحبابنا والمحبين. ومنها أنه قال لي بعض الأولياء الكبار ممن له بكثرة الكرامات في بلاد اليمن اشتهار: سلم لي على الشيخ علي يعني شيخنا المذكور، وذلك عقيب صحبتي للشيخ، وكنت في ذلك الوقت زائراً عشرة من الأولياء، فلم يذكر لي أحد منهم بالسلام ولا غيره غير الشيخ علي، فقال: يأخذ كل واحد منكما عن صاحبه تأخذ عنه نوراً، ويأخذ عنك علماً، فقلت في نفسي متعجباً: كيف يأخذ عني العلم، وهو ممن يفيد العلم وغيره. وأما أخذي عنه النور، فهو أهل لذلك، وأنا مفتقر إليه، فاسأل الله تعالى أن يحقق ذلك، وكان هذا الكلام سراً بيني وبينه لم يطلع عليه أحد غير الله. فلما قدمت على سيدي الشيخ أخرج لي كتاباً من كتب الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وقال: ما تقول في هذه المسألة؟ وأشار إلى كلام فيه لأبي حامد، فقلت: سبحان الله مثلك يسأل مثلي: فقال لي: إيش قال الشيخ فلان؟ مشيراً إلى ما ذكرت من قول ذلك الشيخ، ويأخذ عنك علماً، فلما قال لي ذلك تعجبت، وعلمت أن الرجل صاحب تمكين في الاطلاع على القلوب، وما شاء الله من علم الغيوب، وقوة التصرف النافذ فيما شاء الله من الوجود، بمن الملك المنان ذي الكرم والجود. ومن قوة تصرفه أن بعض أصحابه كان قد منعه من الأسفار مع رغبته فيها، فقال صاحبه المذكور لشيخ من شيوخ اليمن الكبار: أشتهي منك، ومن فلان شيخ آخر من الكبار أيضاً أن تكفياني أمر الشيخ علي في منعه لي من السفر، وتضمنا لي ذلك، فقال له: لا والله

يا فلان لا أقدر وأنا وفلان على منع الشيخ علي مما أراد، فإن جنده سفهاء يعني أنه صاحب حال قوي، وتصرف نافذ لا يستطيع رده، ولو اجتمعنا على ذلك. كما أن الجند السفهاء يستطيع أحد مدافعتهم وردهم عما طلبوا. رجعنا إلى ما كنا فيه من ذكر المسألة، فأخذت الكتاب، ونظرت فيه فإذا هي على غير ظاهر ألفاظها، فقال لي: تقول. قلت: نعم، وإذا به قد ورد عليه وارد غيبه عن الإحساس من واردات الأحوال التي ترد عليه في كثير من الأوقات، وعلى غيره من أرباب القلوب والرجال، فخفق برأسه في حجري، وكان جالساً إلى جنبي، فمكث قليلاً، ثم أفاق منشرحاً. فقال لي: وفقك الله، فعرفت أنه قد حصل له إطلاع في تلك الغيبة على أن ما ذكرت له من الجواب هو عين الصواب، والحمد لله على ذلك، وعلى جميع الأئمة، وأسأله أن يتقبل ما ذكرت من دعائه، وأن يغفر لنا جميع الذنوب، ويبلغنا من الخيرات كل مطلوب بجاه نبيه المصطفى المكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه عشر من كراماته الكبيرة يدل بعضها على فضله عنده من له بصيرة. وأما ما له من الإشارات التي في ضمنها لي بشارات. فمنها قوله رضي الله تعالى عنه لي: إني أرجو لك في آخر العمر بعد قولي له أرى فلاناً يبشرني، وأنت ما تبشرني. ومنها قوله لي: لا تيئس من الجائزة فهي تأتيك، وإن طال الزمان يعني على القصيدة التي ذكرته فيها. ومنها قوله لي: يا ما يخرج الله من هذا الصدر من الحكم مشيراً إلى صدري. ومنها قوله لي: ما ظنك بعبد بن أشرف المولى عليهما أيردهما خائبين؟ وذلك بعد خلوتي معه في مجلس مبارك، ورد عليه فيه وارد شريف، فأضحكه بشراء بعدما أحزنه تخويفه وأبكاه. ومنها قوله لي لما قدمت عليه زائراً: رأيتك منصرفاً من عندي، وعليك ثوب أبيض. ومنها قوله لي: أشتهي لك سيفاً تضرب به، وفي قوله هذا إشارتان إحداهما أن ذلك الضرب كون فيه محقاً، والمضربون مبطلين، ولو لم يكن كذاك لما جاز أن يحب إلي السيف المذكور، والثانية أن تكون لي أعداء كثيرون، نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين حرباً لأعدائه المعتدين، وسلما لأوليائه المهتدين آمين اللهم آمين. ومنها قوله لي بعد ورود حال عليه مقامك عالٍ حقق الله تعالى ذلك بمنه وكرمه.

بسم الله الرحمن الرحيم

ومنها قوله في حال سكره لواردة تواردت عليه الأحوال. في مسجد الخيف خاليا عن الخلق، وسائر الأشغال، في ساعة أؤمل من الله الكريم أن أنال فضلها إما جاء سيل الفضل غسل الأوساخ كلها، فنسأل الله الكريم أن يحقق لما ما ذكر من الغسل بسيل الفضل، وأن يحيي بغيث رحمته ما بقلوبنا من موات المحل، وإلى قوله المذكور أشرت في بعض القصائد حيث أقول: أؤمل من ذي الفضل ما هو أهله ... وإن لم أكن أهلاً لما منه أطلب عسى سيل فضل منه يغسل كل ما ... بأوساخه كم قد تلطخ مذنب كما قال نور الدين شيخي وسيدي ... وقد مال من حال به الراح يشرب إذا جاء سيل الفضل يغسل كل ما ... يلاقي من الأوساخ في الحال يذهب إلهي بجاه المصطفى سيد الورى ... وملجأهم من كل ما منه يهرب وتاج العلي بدر الهدى معدن الندى ... طراز جمال الكون أبهج مذهب أنلني منائي منك يا غاية المنى ... لا ضحى ولي شغل بحبك مذهب وحقق أرجائي يا جواعاً ومنعماً ... كريماً تعالى للرجال تخيب ومنها ما في مكاتبته لي من دعوات صالحات، ووصف بصفات جميلات، أسأل الله الكريم المنان المالك، أن يحقق بمنه جميع ذلك، وهذه صورة ما ذكرت من مكاتبة شيخنا العارف بالله القدوة الدليل، مرشد السالكن السيد الجليل، ولفظه بحروفه، والله على ما نقول وكيل. بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، الفقير إلى عفو ربه، وإحسانه، خويدم الفقراء علي بن عبد الله سلام الله ورحمته وبركاته. وتحياته على المولى الشيخ الفقيه العالم، العامل الورع الزاهد عبد الله بن أسعد اليافعي زاده الله حكماً وعلماً ومعرفة وفهماً، ورفع في العلم لدرجته، وأظهر على الخصم حجته، ونشر أعلام ولايته، وكلأه بحسن كلايته، وجعله موفقاً للصواب، في كل سؤال وجواب، وتصنيف للكتاب، وجعله داعياً إليه، ودالاً للسالكين عليه، ثم أوصله به إليه، وبعد فقد ورد الكتاب الكريم، والخبر المبارك المحتوى على الدر النظيم، فنظر فيه المملوك، واستحسنه غاية الإستحسان، وأعجبه ما أودع فيه من الفوائد الإيضاح والبيان، وما طرزه به من الحكم والمعارف، ما يشهد له بصحته كل عارف، فزاده الله من كل فضيلة، وأحله لديه المنزلة الرفيعة الجليلة لكن لو أخلي الكتاب عن ذكر المملوك، وأطلق بعد ذكر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أرباب السلوك لكان يتنم حسنه وجماله، ويبقى عليه

رونقه وكماله، ولكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، جزى الله المولى عن المملوك. وعن الإسلام والمسلمين خيراً، ودفع به عنهم في الدين ضيراً، وختم للجميع بخير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وعنها قوله لي في مسجد الخيف في بعض ليالي التشريق: حصلت لي إشارة قصيدتك الفلانية، وقد أمرت ولدي أبا بكر أن يحفظها، وذلك أني رأيت كأني أقرأها في صلاة الصبح يوم الجمعة. قلت: في ذلك إشارة إلى ما اشتملت عليه من تحقيق التوحيد، وصحة العقائد، وغير ذلك مما تضمنته من جمل المقاصد ومدح جمال الوجود سيد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم وهذه عشر أيضاً من البشارات، المشتملات على الإشارات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، أعني إشارات شيخنا المذكور لي. وأما ما بشرني به غيره من المشائخ والإخوان مما وقع لهم في اليقظة، أو في المنام، من جهة النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن جهة الأولياء الكرام، فليس هاهنا موضع لذلك الكلام، فلنثن العنان، ولنعد إلى ما نحن بصدده من البيان، لأوصاف شيخنا الجميلات الحسان، وما من علينا بصحبته الحنان المنان. وله رضي الله عنه تصنيف في الحقيقة محاه، لغرض قبل أن نقف عليه ونراه ليله خشية إني لا يفهم الناس معناه، وله نظم رائق، ونثر فائق، فمن نظمه رضي الله تعالى عنه قوله: أسفي من هجر سكان الحمى ... تركوني من هواهم في عمي كلما قدمت يوماً قدماً ... نحوهم أخرت عنهم قدماً صرت مما فاتني من وصلهم ... أقرع السن عليهم ندماً ليتهم إذ هجروا لم يتلفوا ... بالضنا صبا معنى مغرماً فعسى الدهر يوصل منهم ... يسعف الصب ويشفى السقما قد جعلت الدمع مني شافعاً ... ورجائي وإنكساري سلما ومن نثره رحمه الله تعالى قوله: ينبغي للفقير الصادق أن يكون كثير الفضائل، الشمائل، ما في يده لا يرد عنه سائل، ولا يخيب منه آمل، أخلاقه ألطف من نسيم السحر، وأوصافه كالمسك إذا فاح وانتشر، طلق الوجه عند لقاء الأخوان، بسام الثغر عند وجود الحدثان، قلبه من الغش والحسد مكنوس، قد طهر ونقى من آفات النفوس، حرفته في الزهادة، وحانوته فيها العبادة، إذا جن عليه الليل فهو قائم، وإذا أصبح النار فهو كثير التلاوة للقرآن، بدمع منحدر كالجمان، دائم الفكرة متواصل الأحزان. ومنه أيضاً: يا هذا لو أخذت كبريت الإخلاص وطبخته بماء الصدق، ثم أطفأته

فتسق الصبر، ثم دهن لوز الزهد، ثم دهن بيض القناعة، ثم سحقته على صلابة التقوى بقهر طاعة الموالي، ثم ألقيت منه جزءاً على مائة جزء من نحاس نحو سك صار ذاهباً منفى، والله الموفق. وأما ما ذكرته في لبس الخرقة المذكورة في القصيدة من اكتساء الفخر، فهو من أجل إنه أمر بذلك في اليقظة في حال حال ورد عليه على ساحل البحر، وهو قولي في القصيدة: وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخر الأمر بيقظة وقد ألبسني إياها جماعة أيضاً من القوم بعضهم بإشارة أيضاً، ولكن ربما وقعت له في اليقظة، وربما وقعت في النوم، ولم أشاهد في أحد منهم من حسن سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، والجد والاجتهاد، وعلو الهمة، ومواصلة الأوراد، والحرص على متابعة السنة والتورع، والمبالغة في المحو والأدب والتواضع، وكثرة المعارف والمكاشفات، والمحاسن والكرامات، ما شاهدته في الشيخ المذكور، وفى ذلك أنشد وأقول: وكم عاذل في حب سلمى ومدحها ... يقولون قد أكثرت في الشعر وصفها يلومونني يا أم عمر وما دروا ... بما أبصرت عيني من الحسن والبها وأهوى سوا هارب خود خريدة ... ولكن ما شاهدت في الحسن مثلها والجماعة المذكورون في إلباسهم لي الخرقة، بعضهم أدرك الشيخ أبا الغيث، وبعضهم ينتسب إلى الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي للنسبة من بعض ذريته وبعضهم ينتسب إلى الشيخين الإمامين الحضرميين أعني الفقيه إسماعيل، والشيخ أبا عباد، وبعضهم هو الشيخ محمد بن عمر النهاري، وبعضهم قال لي: هذه يدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أصحب بها عنه، فاصحب بها أنت عني. كل هؤلاء المذكورين يمانيون، ومهم من ينتسب إلى الشيخ أبي مدين شيخ بلاد المغرب رضي الله تعالى عنه، ومنهم من ينتسب إلى الشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله تعالى عنه وعنهم. وأما شيوخي من جهة العلم، فقد تقدم ذكر بعضهم، وقد ذكرت طريق الخرقة وشروطها وإنها خرقتان خرقة بركة واحترام، وخرقة تحكم والتزام، في كتاب " نشر الريحان في فضل المتحابين في الله من الأخوان "، وذكرت أن غالب شيوخ اليمن يرجعون في لبسها إلى شيخ الشيوخ في المجد والفاخر، الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر، الشيخ محيي الدين أبي محمد عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وإلى ذلك أشرت في بعض القصيدات بقول هذه الأبيات:

وفي منهج الأشياخ إلباس خرقة ... لهم سنة أصل روى ذلك عن أصل ولبس اليمانيين يرجع غالباً ... إلى سيد سام فخاراً على الكل إمام الورى قطب الملا قائل على ... رقاب جميع الأولياء قدمي أعلى فطأطأ له كل بشرق ومغرب ... رقاباً سوى فرد فعوقب بالعزل الأبيات المقدمات في ترجمته في سنة إحدى وستين وخمس مائه. وفي شيخي المذكورين رفيعي القدر والمحل، قلت هذه الأبيات مفتتحاً لها بالمرثية والغزل: دعا ذكر هامي دمع طرف مسهد ... بتذكار أطلال لمى ومعهد وبثاغر أما من حشى مودع الشجى ... غريم الجوى من لوعة الحب موقد لفرقة أحباب لنا قطعت بهم ... مطايا المنايا فدفداً بعد فدد فأمسوا بدار لد نأت لا يزورها ... سوى راكب حدباً إلى قعر ملحد به روضة خضر البر موحد ... وموقدة جمر الطاغ وملحد ترى ساكنيه تحت أطباق مظلم ... قد استنزلوا عن كل قصر مشيد وكثرة غلمان وعز ورفعة ... إلى ذي هوان في التراب الموسد مقيمين حتى يرحل الركب كلهم ... لدار نعيم أو عذاب مؤيد وقد فارقوا للأهل والمال والهنا ... وجاه وعيش والحبيب المودد وقد لبسوا ثوب البلا بعد لبسهم ... لثوب البقا الزاهي الجمال المحدد ترى الدود في تلك الخدد ومقلة ... تسيل على الخد الأسل المورد وقد زال عنها ما زهاها وزانها ... وما طال فيها من تغزل منشد تغزل ولكن لا بإفك وباطل ... وأنشد ولا تسمع ملام مفند حمامة أيك في الحمى غردت ضحى ... مطوقه ورقاء مخضوبة اليد وريم طويل الجيد أدعج أهيف ... أغن كحيل الطرف من غير إثمد فتلك شجاني في الصبا طيب نغمها ... وحسن الحل لكن حمامة مسجد أحلت هوى لما شدت وترنمت ... فؤاد خلي البال غير معود فيا طيب عصر فيه طاب سماعها ... لدى عدن يا ليته لي بمسعد تريع لوصال بواو معوضاً ... موحدة كم قد سبت ذا بعد فأنشد حالي عندها متمثلاً ... بمصراع صب في المحبة مبتدي وما كنت أعري قبل حبك ما الهوى ... كما لم من الغير الملاحة أشهد وهذي سباني في الكهولة حسنها ... وبهجتها لكن غزالة معبد

سنه تسع وأربعين وسبع مائة منال

ترعت فيا في حي حلي وكم لها ... ترو بذاك الحي من عذاب مورد تريع غواشي الملك للغين مبدلاً ... عن الطلبهاكم من فؤاد مقيد تصيد ولا تصطاد في شرك الهوى ... فأعجب بمصطاد لها متصيد شروداً بقلب الصب في فلواتها ... بوارد حال للغزال مشرد ويا حبذا يوماً على الصب عطفه ... به بعد صد من وصال مودد ويوماً به منها افتتاح زيارة ... وصحبتها من غير تقديم موعد ويوماً على الهجران منها بشارة ... بتحصيل ما مول لقلب مبرد فهاتان مع حبي حساناً سواهما ... ملاح الحلي كم فائق الحسن أغيد هما سبياني في قديم وحادث ... بما لوراه عاذلي ومفندي لبادر في عذري وخلع عذاره ... بحبهما مثلي ولم يتردد إلى كم أوري غيره وتسترا ... ولوح الهوى كم فيه عهد مؤكد خليلي ما ريم عدت وحمامة ... شدت ما به موهت ليس بمقصد ولكن أكنى عن مليحي حماهما ... وعصرهما بدري دياج لمهتد جمال الهدى البصال شيخي وسيدي ... إمام الأنام الزاهد المتعبد مليح الحلي زاهي المحاسن ذي العلى ... وساني الورى نغماً كدر منضد ونور الهدى بحر المعارف والندى ... خزانة أسرار وسيف مهند دليل طريق السالكين إلى العلى ... على حضرة يحظى بها كل مسعد علي بن عبد الله ذي السعد والعطا ... إمامي وأستاذي وشيخي وسيدي مسقى بكأس الحب في قدس حضرة ... مداماً بها من سكرها كم معربد قلت: وقد اقتصرت في هذه الأبيات الأحد والأربعين من قصيدة لي ثلاث مائة، وبضع عشر بيتاً ذكرت فيها مائة من أجلاء الشيوخ الأكابر، العارفين بالله أولي الأبصار والبصائر، والمقامات العاليات والمفاخر، صدرتهم بشيخي المذكورين البدرين، وأودعتها ديواني الموسوم بكتاب الدرر في مدح سيد البشر، ومدح الأولياء الغرر، وفي الوعظ والعبر، وعلوم فضلها اشتهر، وسميتها بلبل الإطراب، وحلاوة الحلاب، في ذكر الفراق والمدح للأولياء الأحباب، وترجى لقائهم في دار النعيم والثواب بفضل الله الكريم الوهاب. سنه تسع وأربعين وسبع مائة منال فيها توفي الإمام العلامة، البارع المتفنن، المفيد القرشي المصري الشافعي المدرس المفتي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بابن عدلان، سمع الحديث من جماعة منهم الحافظ أبو محمد الدمياطي، وأبو الحسن ابن الصواف الشاطبي وغيرهما،

وتفقه على جماعة أيضاً، وعرض المفصل على حجة للعرب بهاء الدين ابن النحاس، وأخذ عنه النحو، وكان له منه حظ عظيم، وانتفع به انتفاعاً كلياً، وأخذ أصول الفقه عن العلامة شرف الدين الشافعي الفاسي الشهير بالكركي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العبد القشيري بالقاهرة ومصر مدة، وتولى التدريس في عدة مدارس وتولى الإعادة بالمدرسة الصالحية والناصرية، والميعاد العلاي في جامع الأزهر، ونفذ رسولاً من سلطان الديار المصرية إلى اليمن بعد السبع مائة، وهو إمام مشار إليه في الفتيا والفقه في الديار المصرية حلو العبارة، كثير التودد للطلبة، مكرم لهم وولي قضاء العساكر للمنصورة بالديار المصرية، ومات أقرانه وعمر، وبقي طرفة في البلاد، ومولده سنة إحدى وستين وست مائة رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام البارع المتفنن العلامة، الفقيه النحوي، الأصولي اللغوي، المنطقي المدرس، المصنف المفيد شمس الدين الأصبهاني، حفظ كتباً عديدة، وصنف تصانيف مفيدة، ودرس في بلاده، وفي تبريز، وفي الشام، وفي مصر واشتغل عليه العلماء المعقولات، واستفادوا خصوصاً في أصول الفقه، ومن محفوظاته بعد الكتاب العزيز كتاب السامي في الأسامي، وهو كتاب كبير الحجم في اللغة، وأدوات الميداني، والمصادر الثلاثة المجردة للزورني، والكافية في النحو، وبحثها على والده وغيره من الفضلاء، ثم حفظ الغابة القصوى في الفقه، والمنهاج في الأصول كلاهما من مصنفات العلامة القاضي ناصر الدين البيضاوي، وبحثهما على والده وغيره، وبحث الحاصل على والده أيضاً مؤلفات تاج الدين الأرموي، ثم قرأ الرسالة الشمسية في المنطق مع شرحها على أخيه الأوحد إمام الدين، وقرأ المطالع في المنطق أيضاً وحفظه، ثم قرأ الطوالع في أصول الدين من مؤلفات القاضي ناصر الدين المذكور، ثم حفظ الحاوي في الفقه، وبحثه على والده، وبحث أصول النسفي في الخلاف، وبحث كتاباً في علم الهيئة للجغمني، والتذكرة وإقليدس والكليات في الطب، ثم درس، وكان يلقي من الدروس ما بين السبعين والثمانين، يشتغل من الصبح إلى العشاء، ثم شرع في التصانيف، فمنها شرح المختصر لابن الحاجب، وعلقه عنه جماعة كثيرة من الفضلاء أولي النظر، واشتهر في البلاد وانتشر، وفرغ منه في سنة، وشرح المطالع، وصنف ناظرة العين في المنطق في يوم واحد، وشرح التجريد في أصول الدين، وعروض الساوي، وشرح الحاجبية، وسمع البخاري عن ابن الشحنة، وسمع خلائق في دمشق، ودرس في الرواحية، ثم سافر إلى الديار المصرية، ودرس في المعزية، ونزل في خانقاه سعيد السعداء، وولي مشيخة الخانقاه السيفية، وكانت اقامته بدمشق سبع سنين، وألف كتاباً في المنطق، وكتاباً مختصراً في أصول الدين مع شرحه، وشرح البيضاوي على طريق الإملاء، وبديع ابن الساعاتي الحنفي في أصول الفقه، وشرح الطوالع،

وأصول النسفي وألف كتاباً في الفقه في مذهبي الإمامين الشافعي، وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وحج مرتين. قلت: وذكر لي الشيخ جمال الدين الحويراي شيخ خانقاه، سعيد السعداء رحمه الله تعالى أن شمس الدين المذكور يحب الاجتماع بي مستدعياً بذلك إسعافاً مني بالإذن، فلم يصادف مني في ذلك الوقت انشراحاً للاجتماع، وقلت له: العلماء كثير، وأنا اليوم في طلب الاجتماع بالفقراء في الخرابات، فلما لم يجد مني إنعاماًً بذلك سكت عني، وبلغني أن شمس الدين المذكور كان أول قدومه الشام يحضر حلقة الشيخ برهان الدين، ويسمع بحثه، وهو ساكت كأنه ما يعرف شيئاً من العلوم، والجماعة ما يعرفون أنه من أهل العلم مدة من الزمان حتى نبههم بعض الناس عليه، فالتمسوا منه أن يبحث، فامتنع من الكلام حتى ألحوا عليه، فبحث حينئذ معهم، وظهرت لهم فضيلته، فاشتغلوا عليه حينئذ في العلوم، وهذا الذي فعله حسن عزيز جداً لا يكاد يصدر من الفقهاء مثله أعني سكوته موهماً عدم معرفته بالعلوم، وحسن اعتقاده في الشيخ برهان الدين رحمه الله تعالى على الجميع. وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة البارع الفقيه، المفتي الشافعي الأصولي النحوي، الخطيب المصقع الوحيد الفريد، الصوفي المتكلم، لسان الحقيقة، ودليل الطريقة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن اللبان المصري المنزل ذو الإفادة الدمشقي المنشأ والولادة، ولد سنة تسع وسبعين وست مائة، وعاش سبعين سنة. وأخذ الفقه عن جمال الدين السريشي، ونجم الدين ابن الرفعة، وكمال الدين ابن الزملكاني، وصدر الدين ابن الوكيل وأذنوا له جميعاً بالفتيا، وأخذ العربية عن شمس الدين أبي الفتح، وقرأ الشاطبية في القراءات على والده شهاب الدين، وسمع الحديث عن جماعة منهم ناصر الدين ابن الفراس، والخطيب شرف الدين الفزاري وغيرهما، وصحب الشيخ الكبير الولي الشهير أبا الدر ياقوت الشاذلي، وبورك في صحبته، وفتح عليه في كلامه، وسرعة عبارته. وله مصنفات جليلة منها كتاب إزالة الشبهات عن الآيات والأحاديث المتشابهات. ومنها ترتيب الأم للإمام الشافعي على مسائل الروضة واختصرها في أربع مجلدات، ومنها مختصر الروضة والرافعي واستدرك عليهما. ومنها ألفية في النحو ضمنها كثيراً من فوائد التسهيل والمعرب. قبل لم يصنف مثلها

سنة خمسين وسبع مائة

في العربية، ووضع لها شرحاً بين فيه مجملها، وفتح مقفلها، وله ديوان خطب جمعة وفي كل جمعة يضيف خطبه يخطب بها، وله في علم الحديث مصنف مفيد جمع فيه كتب ابن الصلاح والنووي، وتوفي وهو يصنف تفسير القرآن جاءت سورة البقرة في مجلدين منه قيل: لو كمل لم يوجد في التفاسير مثله لأنه كان رحمه الله نهاية في علوم القرآن، وفي الأصلين والجدل، وإمامته في الفقه مشهورة، وبراعته في العلوم مذكورة، وله نظم رائق، وشعر فائق. سنة خمسين وسبع مائة فيها توفي الإمام العلامة، المدرس المفتي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفهاني الشافعي نزيل الحرم الشريف مولده سنة سبع وسبعين وست مائة، وفيها توفي آخر أيام التشريق في منى، ودفن بالمعلى سمع الحديث على جماعة، وتفقه وقرأ الأصول والعربية والفرائض والجبر والمقابلة، وقرأ القراءات السبعة، وله مصنفات منها مختصر الروضة في مجلدين اشتهر كثير من البلاد، وكان رحمه الله حسن الأخلاق، سليم الباطن، مشهوراً بالصلاح، وكثرة المحاسن، حسن الاعتقاد رآني في وقت، وقال لي: كنت إذا رأيتك في المنام في بلادي، وأنا مريض تعافيت، وقال لي لما وقف على بعض كتبي هذا الكتاب ما يجيء تصنيفه إلا بعلوم كثيرة، ثم قال لي: ينبغي لك أن تصنف كتاباً في الرد على المبتدعين، فلما وضعت كتابي الموسوم بمرهم العلل المعضلة في الرد على فئة المعتزلة بالبراهين القاطعة المفصلة، وذكر عقيدة أهل السنة المفصلة والفرق الاثنتين والسبعين، والمخالفين المبتدعين ذكرت بعد ذلك أنه كان رحمه الله قد حرضني على ذلك، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة، والسلامة من المهالك. ولما وضعت كتاب نشر المحاسن في العقيدة وغيرها، ولقبته بكفاية المعتقد ونكاية المنتقد في فضل سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، ووقف عليه، وطالعه الفقيه الإمام مفتي الأنام البارع العلامة فخر الدين المصري، قال لي: لقد انتفعت بهذا الكتاب بعد أن سمع على أشياء رحمه الله تعالى من كتاب الإرشاد، نسأل الله تعالى الكريم التوفيق، وسلوك طريق الرشاد، والعفو والعافية، والفوز يوم المعاد، مع سائر الأحباب والمحبين آمين. تنبيه اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب أني إنما لم أذكر تاريخ موت أحد من أعيان متأخري شيوخ اليمن الصالحين، وعلمائه العاملين مع كثرتهم سوى ستة مضى ذكرهم إلا

لأني لم أظفر بتاريخ يكون لهم جامعاً لا واقفاً عليه ولا سامعاً. وأما المتقدمون منهم فقد سمعت بتاريخ الإمام ابن سمرة اليمني، ولم أزل حريصاً على روايته، حتى وقفت عليه، فوجدته قد تتبعهم منذ زمن الصحابة إلى زمانه، فذكر من هاجر من أعيان أهل اليمن، ومن روى منهم الحديث، ومن بعثه النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى اليمن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إما قاضياً وإما عاملاً، وقد تعرضت لذكر شيء من ذلك فيما مضى. ثم ذكر من فقهاء التابعين إلى عصره من أهل اليمن مئيناً عديدة في تاريخه المذكور الموسوم بطبقات فقهاء اليمن، وعيون من أخبار رؤساء الزمن، وذكر أنه اجتمع عند واحد منهم من الطلاب أكثر من مائتي طالب في صنعاء، وهو الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي أحد شيوخ صاحب البيان، أخذ عنه كثير ممن رحل إليه من البلدان، وكل ذلك قد قدمت ذكره في هذا التاريخ، وهؤلاء الذين ذكرهم كلهم من الفقهاء، ولم يتعرض لذكر الشيوخ من الصوفية العارفين، وقد أخلي كتابه عن كبار الشيوخ المذكورين، وعمن لم يطلع عليه من الفقهاء النائيين، وعن جميع المتأخرين، ولم أذكر أنا من الذين ذكرهم إلا أفراداً من أعيان أعيانهم مثل هؤلاء الأئمة طاوس، ووهب بن منبه، وعمرو بن دينار، والشيخ عبد الرزاق وآخرين ممن بعدهم، منهم الإمام ابن عبدويه، والإمام زيد اليفاعي، والإمام يحيى بن أبي الخير العمراني وغيرهم، وإنما لم أذكر تاريخ المتأخرين إلا لأنه لا يدل لمن تصدى لعلم من معرفة مواده، وحصول استمداده من مواد التاريخ، وتقدم فيه كتاب يعتمد، ومنه في المولد والوفاة والأنساب والأوصاف يستمد، ولعمري أنه قد كثر في اليمن من السادة الذين جل قدرهم، وشاع ذكرهم، ولم ينتدب لتاريخهم من أظله عصرهم، ولا من تأخر زمانه عنهم حتى اتبعه سالكاً في ذلك الأثر، ومقلداً له في ما ثبت عنده من الخبر، فذلك هو الذي منعني مما ذكرت، وحال بيني وبين ما أردت، بعد ما التمس مني ذلك غير واحد من أهل العلم والصلاح، وله عقيدة حسنة في الأولياء أولي الأوصاف الملاح، فاعتذرت بسبب ذلك إذ لا يكون التصنيف محموداً، إلا إذا كان جميع ما يتعلق به موجوداً، وذلك الذي منعني أيضاً من إكمال شرح قصيدتي الموسومة تباهية المحيا في مدح شيوخ اليمن الأصفيا التي مفتتحها: نسيم الصباهي يحمل الرسائل ... ونشر الأحبا في الضحى والأصائل فإني لما بلغت فيه إلى ذكر الشيوخ أولى الأوصاف المشكورة ثنيت العنان في أثناء الميدان من أجل العلة المذكورة، ولم أذكر فيه سوى أربعين شيخاً من السادة الأكابر أولى المقامات العالية، والكرامات الغالية، وشرف الفضائل والمفاخر ممن ذكر فضائلهم يطول،

ذكر جماعةمن مشاهيراليمن

وكراماتهم تحير المقول، وسيأتي ذكرهم مع غيرهم إن شاء الله تعالى، ولا مطمع في حصرهم، ولا عشر معشار العشر في ذكرهم، فإن شيوخ اليمن عصائب لا يحصيهم كاتب ولا حاصب كما بلغني عن صفوة زمانه الجميل المناقب، وبركة أوانه، ذي المحاسن والمواهب، علم الأعلام، وقدوة الأولياء الكرام، سامي المجد الأثيل أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل نفعنا الله تعالى ببركته إنه قيل له: يا سيدي أرى الأولياء في سائر البلدان يذكرون في الكتب، فيقال: فلان البلخي، وفلان البغدادي، وفلان الشامي وفلان المصري، ولا يذكر أهل اليمن، فقال: إنما لم يذكروا لكثرتهم، فإنهم عصائب، وكذلك منعني عام الاطلاع من ذكر تاريخ موت ناس كثير من أولي الفضل، والوصف الحسن ممن أدركت، وممن لم أدرك من غير أهل اليمن. ذكر جماعةمن مشاهيراليمن من كبار قدماء اليمن وأوليائهم ورؤسائهم وعلمائهم مجموعين، وإن كان قد مضى ذكرهم متفرقين. فمنهم السادة الأجلاء، والنخبة الأصفياء أبو موسى الأشعري الصحابي رضي الله تعالى عنه، وأويس القرني وأبو مسلم الخولاني، وطؤس، وعمرو بن دينار، ووهب بن منبه، والإمام الحافظ عبد الرزاق الصنعاني، والإمام الشعبي رحمهم الله تعالى أصله من اليمن، وذو الكلاع الحميري والأشعث بن قيس الكندي، وعمرو بن معد يكرب، ومن بعد هؤلاء الجلة الكبار خلائق ليس لعددهم انحصار، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض الأشعار: عصائب لا يحصى مدى الدهر عدها ... ومن ذاك يحصي للحصى والجنادل فكم في التهايم والجبال وفي القرى ... من اليمن الميمون كم في السواحل ذكر أول من أظهر مذهب الإمام الشافعي في اليمن من الفقهاء الجلة. فمنهم الإمام العلامة موسى بن عمر ابن المعافري. ومنهم الفقيه الإمام عبد الله بن علي المرادي، سمع من أبي زيد المروزي في ذمار بفتح الذال المعجمة، وفي آخره راء، ورحل إلى مكة، وسمع بها في سنة ثلاث وخمسين وثلاث مائة. ومنهم الفقيه الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي، والشيخ الإمام الجليل محمد بن عبدويه، المدفون في جزيرة كمران، وممن نشر المذهب المذكور أيضاً بنو عقامة في زبيد، وممن

نشره أيضاً الإمام العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير في جبال اليمن، وقد تقدم ذكر جميع هؤلاء في مواضع متفرقة من هذا الكتاب. ذكر آفات عظيمة ذات فتن واقعة في بلاد اليمن مما تقدم ذكره متفرقاً في مواضع ليسهل معرفته مجموعاً على السامع. فمنها فتنة القرامطة واستيلائهم على معظم بلاد اليمن، ومدنه كصنعاء وزبيد، عدن، وتعز، وأبين وغيرها ممن قهر ولاتها؟ وقتل حماتها على يد داعيهم في الزندقة والطغيان علي بن الفضيل الخبيث الشيطان. ومنها فتنة الشريف الهادي ودعوته. ومنها ظهور ابن الصالحي، وما كان عليه من ضد اسمه من الإفساد للبلاد والعباد في الظلم والاعتقاد، ودعوته إلى مذهب العبيديين الباطنية أولى الزندقة الإلحاد. ومنها ظهور بني مهدي، وما كانوا عليه من ضد الهداية في كثرة الغرابة عن عبد النبي، وأخاه قبله، وقتلهما الرجال، ونهبهما لأموال وتخريب الديار، وتحريق الأشجار، وكانت دولة بني مهدي تنيف على خمسة عشر سنة حتى زالت على يد شمس الدولة بن أيوب أخ السلطان صلاح الدين حسين، ولي بلاد اليمن، فدخلها بالبأس الشديد، فقتل عبد النبي، وصلبه في زبيد، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وتقدم أيضاً خروج الإمام أحمد بن الحسين في جبال اليمن بدعوته إلى أتباعه، وكتابه إلى الشيخ أبي الغيث بن جميل قدس الله تعالى روحه وجوابه له في ترجمته في سنة إحدى وخمسين وست مائة. ذكر بعض الأكابر والأعيان والسادات من شيوخ اليمن المجهول موت بعضهم في أي زمن أولى المحاسن والمناقب العديدات، الذين ذكرتهم في بعض القصيدات، وهي قصيدتي الموسومة ببلبل الإطراب، وحلاوة الحلاب في ذكر الفراق والمدح للأولياء الأحباب، وترجي لقائهم في دار الثواب، بفضل الله الكريم الوهاب، وهي مشتملة على مائة شيخ من أعيان الشيوخ الأكابر، منهم اليمانيون ثلاثة وستون بعضهم مذكور في القصيدة المتقدم ذكرها. أعني باهية المحيا في مدح شيوخ اليمن الأصفياء، والباقون من بلاد شتى. وقد تقدم ذكر جماعة منهم في هذا التاريخ، وها أنا أشير إلى مجموعهم في القصيدة المذكورة على حسب ترتيبهم فيها من غير ذكر فضائلهم وكراماتهم وأحوالهم، وما لهم من المناقب العديدة، والمحاسن الحميدة، وقد تقدم غزل القصيدة المذكورة في تاريخ شيخي

المذكورين في سنة ثمان وأربعين، وسبع مائة، ثم عقبت ذلك بقولي: خليلي ما ريم عدت، وحمامة ... شدت ما به موهت ليس بمقصد ولكن أكنى عن مليحي حماهما ... وعصرهما بدري دياج لمهتد جمال الهدى البصال شيخي وسيدي ... إمام الأنام الزاهد المتعبد مليح الحلي زاهي المحاسن والعلى ... وسابي الورى نغماً كدر منضد ونور الهدى بحر المعارف والندى ... خزانة أسرار، وسيف مهند دليل طريق السالكين إلى البلا ... على حضرة يحظى بها كل مسعد علي بن عبد الله ذي السعد والعطا ... إمامي وأستاذي وشيخي وسيدي مسقى بكأس الحب في قدس حضرة ... مداما بها من سكرها كم معربد وكم نصبت أحبولة لاصطيادهم ... فصاد لصياد حوى الفضل أحمد له جليت بيض المعارف والعلى ... بعالي مقام في الثريا شيد وجيء بخلعات الولاية واللوى ... ومركوب خيل في رواية مسند فأضحى الفتى مستوفياً عند كشفه ... غيوب ذوي الإنكار وقت التجرد فامسوا بعلم الولاية والعلا ... له قد أقر، وليس ذاك بمجحد وصاحبه ألفان أو هم ثلاثة ... وآياته عدت لحصر معدد وللحكمي قد حكمت في تصرف ... يولي ويعزل كل طاغ ومفسد ووله ملكاً نافذاً فيه حكمه ... صريحاً على الإطلاق لا بمقيد كذاك روينا من كبار وسادة ... وكم مكرمات كم كرامات مسعد فأمسى له ينقاد من كان منكراً ... أديباً بقلب خاضع متعبد وللبجلي إذ حكمت حكميهم ... سقاه هنا كأس عليه مردد فأمسى إماماً للفريقين دالاً ... لكل الطريقين اقتداء بمرشد له أنقذ الرحمن إذ كان منكراً ... على شيخه من قبل حتى به هدي وبحر المعارف شيخه كان أمياً ... فسبحان منان لفضل معود وأكرم ببدر رجاء من بدر داجر ... من البجلي من نسله متولد له وارث سراً فأكرم بوارث ... وارث وموروث، وفرع ومحتد علي بن إبراهيم زين زمانه ... مصاحب شيخ رب سعد مجدد له الأصفهاني الكبير ملقب ... بنور اليمن أكرم به من ممجد ومن نوره إبراهيم بدر كلاهما ... مع الجد فالمولود نور المولد فيا حسن أيام رأيتهما بها ... إليها يحن المغرم الشجي الصدي ويا شجنابي كامناً من شجينة ... ثوى بحوى بين الجوانح موقد

ويا بركات قد حوتها عواجة ... آوى تربها كم سيد بعد سيد فآهاً على رؤيا كرام ترحلوا ... وآهاً على سامي فخر مجدد ومستتر فيها الهنار معلل ... براح معلى فوق رب مسود عظيم كرامات كريم مناقب ... همام لدى نعي إمام لمبتدي ولما أغاثت من قطيعة هجرها ... أبا الغيث أمسى غرث دهر لمجهد وشمساً على مر الزمان منيرة ... بها يهتدي نهج الهدى كل مهتد له بركات باقيات ومذهب ... زها مذهب في نهج قفر بمسجد باهدلهم عالي المعالي معلل ... فأمسى كعقد جيد حسناً مقلد وفي كأس ينبوع الفلاح ابن أفلح ... جميل المساعي منهل عندما هدي فتى أسد للأسد حامل حزمة ... على ظهر ليث، وهو يحطب مبتدي له نظمت بل قدمته أكابر ... كبحر خضم ذاخر عذب مورد وكم حيرت حيرى علوم معارف ... وشرع هما بدراً دياج لمفتدي أيا راسماً مدد المعالم والعلى ... وصار أهدى للحائر المتردد وليان كل كم له من كرامة ... عليان كل في مقام مشيد جليلان كل صادق في وداوده ... خليلان كل في رد المجب مرتدي ردا مجداً كرام الولاية مثلما ... بنور الهدى وأنه كل مسعد هما الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد له كم خطت كم دللت ثم عللت ... عنايات فضل لبس تدرك ليد مدل ومحبوب وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات، وجاه وسؤدد ومن جاهه أومى إلى الشمس أن قفى ... فلم تمش حتى أنزلوه بمقصد ونجل عجيل كم مواهب عجلت ... له وسعادات ومجد مجدد تحلي حلي بزهو الوجود بحسنها ... ويرفل في ثوب الجمال المنجد كان حلاه حلة الحسن مثلما ... بهاها على كم الزمان بمسجد مشى سيرة محمودة لا يسيرها ... سوى كل صديق يحفظ مؤيد عظيم كرامات عزيز وجودها ... لها شهرة نالت لذكر معدد هو القمر الثاني البهي ليت نظرة ... إلى بدر حسن في الدجى متهجد وكم طبت لابن الخطيب وكم أتى ... به كشف طب في البلاد مشدد مسقى حميا حضرة حضرمية ... وكم قد سقاها من ولي مسدد إمام لأهل العلم بدر لسالك ... غريم غرام ناسك زين معبد عزيز نظير زاهد متورع ... له سيرة حسناً وحلية مرشد

على مقامات سني معارف ... شهير كرامات، كثير تعبد مراد ومحمول بلطف عناية ... له مشرب صافي الهنا مورد وللزيليين الشهيرين شهرة ... بفضل علي، والفتى عذب الليث أحمد فذاك إلى سعدن الجرد والندى ... وذو مكرمات فوق عد معدد وهذا مسقي الراح بدر طريقة ... شهر كرامات، ومجد وسؤدد كذاك النهاريات كم نورت، وهل ... فتى غير بالنور النهاري مهتد وكم غانم منها عذ نجل يغنم ... هدى سالك ضرغام غلب لمعتد وكم قد زكى منها ابن زاكي فأثمرت ... قرائه نفعاً لمن فيه معتدي وكم فاز بي حسن وإحسانها فتى ... يكنى أبا حسان للخير قد هدي وكم سلمت من مرهف لابن سالم ... ومن ضر به كم من عدو مقدد وقد قلدت لابن الكميت كميها ... بحربته حرب بها كم مدد وكم أصرت منصورهم بجيوشها ... وبيض وبيض والحصان الممرد وكم فاز إقبال بإقبالها وكم ... شفت بابن أحوص عين أحوص أرمد وكم أذنت لابن المؤذن بالصبا ... غريم الغرام المسجن المتوجد وكم فرجت كرباً بيمن مفرج ... كما بالدماميني المسمى المسود ومهد هدى في ربع مهدي هدية ... ليوسف حتى صار نور المهتدي ولابن كبريت تحلت وكبرت ... وكبر نعت مع كل وصف له ردي وكم صفحت بابن الصفح وأصلحت ... به من فساد في البلاد ومفسد وكم ما بجت ذبا وما حججت هدى ... عن ابن الحجاج لوش وحسد وكم قد هدى بدر الدجى ماطر الندى ... بذي مطر بن نجل عيسى الممجد وكم فاز مروزق برزق أتى له ... من الغيب من هادي العطيات مرغد وكم حفر الحفار حتى أساسها ... بدا، فسقى من فوق أصل ممهد وكم غربت لابن الغريب غرائب ... وأغرى الغرام الهائم الظامي الصدى وكم لابن علوان على الدهر من علا ... فتى برد أمجد المعارف مرتدي ولي على الأيام بعلو بمنصب ... إلى فرع علياء المفاخر مصعد وأعداؤه تهوي مناصبهم إلى ... ثرى أرضهم من متهميها ومنجد فما زال في جيش من النصر مسعد ... له تحت رايات العناية منجد إلى أن لهم أمسى ملاذاً وملجأ ... وحصناً لدى طن وهجو منشد وكم أسعدت في ذي عقيب بوصلها ... لجل سعيد حبذا وصل مسعد

إمام لعلم ظاهر، ثم باطن ... ولي كبير فضله غير مجحد فتى عارف ما ليس بدريه غير من ... سقى بكؤوس الحب من كل سيد أتى بجواب مشرح الصدر عندما ... أبى بكر قدم بأنس متحمد سماعاً الأصحاب التصوف والصفا ... رجال الوفا أهل الجوى والتوجد سقوا مشرباً ما ذاقه الغير منهل ... لهم في على نهج العلى عذب مورد وعنهم شروط في السماء ذكرتها ... بنشر المحاسن من حلي كل جيد وكم سر من أسرار عرفاً بها أبو ... سرور كيف بالمسن محدد مسن له حداحد من الذي ... يحد به أحد بذلك وأحدد وكم جوهر غال حملت جواهراً ... شهادة طير للولاية مشهد فسر أبي حمران أكرم بعارف ... لمن أسمه كالجوهر المتوقد فاعجب بأمي عتيق وسوقي ... به دون عز مسعد بن مسعد ولا عجب في حكم حكمة حاكم ... حكيم مقرب من يشاء ومبعد بحق سما فوق السماك ابن باطل ... بأصحاب منهاج المبشر مقتد كذاك علي بن قيدا رأوا تقي ... لمرتبة تعلو على فوق فرقد وبالسعد سعد فائز عن عناية ... وذلك حداد به كم عمي هدي وفي فاضل كم من فضائل أودعت ... ومراثي من مرشد بعد مرشد وريحانهم ريحانها سمحت وكم ... تنفس مع التجويف، والظاهر الردي وفي عودها الجاوي الذكي الرطب جمرت ... بجاويهم مسعود فضل معود وفي عمركم عمر قلب منور ... وتعمير وقت بالتقى والتعبد وحسن اجتماع كان في مسجد العطا ... لأخوان صدق كم بذلك مسعد بعصريه يمن السعادات مقبل ... وعيش صفا من غير نغص منكد وكم بأبي الخطاب خطب، وفي وكم ... ظهور اعوجاج بالعواجي مسدد وكم بالذهبي أذهبت من مصائب ... وعلياؤه قدمت بالذكر مبتدي وسفيان لما أن سقته سلافها ... له قلدت حيفاً سطا رق معتد حسام لذي ظلم ربيع لمجدب ... شفاء لضر بدر داج لمهتد وللعائدي كم عودت من وصالها ... وأسرارها أكرم بذا من معود وفي البركاني الليث نسل مبارك ... بدت بركات تلك لا بمولد تربي بلا شيخ مرب كبقلة ... لدى رملة تسقى بماء التفرد بهذا مجيب حين ناقشه فتى ... مربي بشيخ بعد طول تعبد

وموسى اجتلى لما سما للعلى سما ... لبيض المعالي والمعارف خرد وأمسى ببخل المرعب من كان منكراً ... من الضد وإلا عدا محباً ومفند وممن كذا كان الولي محمد ... دليل الطريق العارف السيد الهدى ثوى مرشداً في ذي السفال لسالك ... طريق الهدى أكرم هناك بمرشد وغنت لنجل جعد جعد ذوائب ... وبيض مفان كم بها من مسود وفدته في الهيجا لدى أخذناه ... يرمي به تمريق قرن ممجد ورقت أبا عيسى الفتى الليث قرنه ... لدى ضربة رجلي فتى منه مقعد فيا عجباً من رقها وعتاقها ... لضدين حقاً لاتفاق التودد رمى ذاك ذا في أسهم مرقت وذا ... لرجليه رام بالحسام المهند ولا قود في ذا ولا أرش واجب ... ولا إثم لاحق بدنيا ولا غد ومع ذاك كل منهما كان قاصداً ... إلى قرنه لا عن خطا بل تعمد ولا صائب لو قيل لا بد واحد ... مع العمد في هذاك والعلم معند فما قط في حكم الولاية قاطع ... سلاح ذوي العدوان بل سيف مهند على مثل سيف من طريق استقامة ... إلى الله بالله استقام فتى هدي فهل من جواب أيها الساعة فلا ... أفيدوا وإلا فاسألوا للتفود كذا سالم سامي العلى سلمت له ... لواء الولاء في الرباط بمسجد فأمسى به بدر أمضينا كسارى ... على النار ذانو ربه الركب يهتدي مائة علم مع مقام ولاية ... وبعد عن الدنيا وكثر تعبد ومن بعده أيضاً بدور منيرة ... هناك أقاموا سيداً بعد سيد وأدركت منهم سيداً لي مؤاخياً ... كسيف به من هيبة كم مشرد وأعني أبا الخطاب كرم بماجد ... وإلى حسيب الجانبين مسود فتى طرفاه معلمان كلاهما ... أصيل كلا الأصلين مولى ممجد أصلة دين ذي علا وولاية ... لها في ذرى العلياء منزل سؤدد وكرم بضرغامين بدري دجنة ... وبحري علوم من ركوع وسجد كرامات كلٍ منهما عظمت علي ... وأعني أبا عباد مولى ومعبد كبيرا بن مشهورين نسلي أكابر ... رؤوس الملا من كل فحلو مولده سلام على الغر الكرام أولى العلى ... غياث البرايا مرشدي كل مقتد

قلت: فهؤلاء الثلاثة والستون المذكورون في القصيدة المذكورة لهم كرامات، يطول ذكرها، بل يتعذر حصرها. وها أنا أشير إلى شيء يسير من غرائب ما اشتهر من كرامات بعضهم من غير التزام ترتيبهم المتقدم. فمنهم في عدن الشيخ الكبير جوهر، وكان عبداً عتيقاً أمياً متسبباً في السوق، يحضر عند الفقراء محبة لهم وحسن اعتقاد فيهم فحضرت وفاة الشيخ، الجليل، العارف بالله، الحفيل في النور، والبرهان المكنى أبا حمران، قالوا له: يا سيدي من يكون الشيخ بعدك؟ قال: الذي يقع على رأسه الطائر الأخضر في اليوم الثالث من موتي هو الشيخ، فلما كان اليوم الثالث اجتمع الخلق من الفقهاء والفقراء، والعوام في مسجده، وقعدوا ينتظرون ما يكون من الوعد الكريم. الواقع بتقدير العزيز العليم. وفيهم المصدق بذلك والمكذب، والمتشكك، وإذا بالطائر الموصوف قد طار ووقع في طاقة المسجد فعند ذلك تشرف للمشيخة كبار أصحاب الشيخ والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فطار ذلك الطائر، ووقع على رأس جوهر المذكور، فقام إليه الفقراء ليزفوه، ويضعوه في منصب المشيخة، فبكى وقال أين أنا من هذا وأنا لا أصلح به بل جاهل لا أعرف الطريق فقالوا له: ما أقامك الحق في هذا إلا ويعلمك، ويوليك التوكيل فقال: وإن كان لا بد فامهلوني ثلاثة أيام لتبرأ ذمتي برد الحقوق التي علي للناس، والتخلص منهم، فأمهلوه، ثم بعد الثلاث جلس في مرتبة المشيخة، فكان كاسمه جوهراً معهما موقراً، فقدم بعض المشائخ إلى بعض البلاد التي بقرب عدن، فزاره المشائخ، ولم يزره الشيخ جوهر المذكور، فكتب إليه ذلك الشيخ كتاباً يشتمه فيه ويحتقره، فلما صلى الشيخ جوهر الصبح قال لأصحابه قبل أن يأتيه الكتاب: لا يخرج منكم أحد من المسجد، فقعدوا ينتظرون ما يحدث، لماذا بالرسول قد دخل ومعه الكتاب، فدفعه إلى الشيخ جوهر، فناوله الشيخ بعض الفقراء، وقال له: اقرأه علينا فلما فتحه وجد فيه ما يستحيي أن يذكره، فسكت، فقال له الشيخ: لم لا تقرأ فكره أن يقرأه، فقال له الشيخ: اقرأ هو فيك أو في، فقرأ، وكلما ذكر طعنا قال الشيخ: صدق إنما كما يقول، وهو يبكي، فلما فرغ من القراءة قال الشيخ: كتب جوابه، فقال: يا سيدي ما كتب. قال: كتب: إذا سعدوا أحبابنا وشقينا ... صبرنا على حكم القضا ورضينا ثم ناوله الرسول، فرجع به إلى الشيخ فلما وقف على هذا الجواب المذكور استغفر الله تعالى، وتاب وتهيأ للاجتماع معه والأمور، ورحل من بلاده إلى الشيخ جوهر، فلما اجتمع به كشف رأسه، واستغفروا لي ذلك أشرت بهذا البيت: وقد طار أخضر طائر كان شاهداً ... بتقديم نصب عن إشارة كامل

ومنهم شيخه الشيخ الكبير أبو حمران المذكور، ومنهم شيخنا وبركتنا، الشيخ الكبير مسعود الجاوي، وهو أول من ألبسني الخرقة بإشارة وقعت له، وكان ممن لقي شيخ زمانه الفقيه الإمام إسماعيل بن محمد الحضرمي، وحضرنا معه عند قبر بعض الصالحين، ففهمت منه أنه كلمه من قبره. ومنهم في الحج بفتح اللام، وسكون الحاء المهملة والجيم، الشيخ الكبير الولي الشهير سفيان الحصري بفتح الحاء والصاد المهملتين، وإليه أشرت بقولي: وسفيانهم سيف القضاضنغم الوغا مشيراً إلى وقائع وقعت له في ضمنها كرامات له، وكثرت وشاعت واشتهرت. منها قتله لليهودي الذي ولاه السلطان، ويمشي في خدمته تحت ركابه المسلمون أينما كان، وعجز الأمير وعسكر عند قتله عن الوصول إلى قاتله سفيان المذكور بسوء، وعن دخولهم إلى المسجد عليه فضلاً عن ايصالهم سوءاً إليه، وقد أوضحت هذه القضية، وكفيتها في كتاب روض الرياحين وغيره، وحنفتها هنا لطولها، وكان بالعلم مشتغلاً فقيل له في حال حال ورد عليه: إذا أردتنا فاترك القولين والوجهين. وذكره الشيخ صفي الدين في رسالته، وأثنى عليه، وكان قد قتل بعضهم بالحال الشديد، وبعضهم بالضرب بالحديد، واليه أشرت بقولي في بعض القصائد: وكم قد سقت سر سلافها ... فهام وخلي للأقارب والخل وكم سطوة أولى الولاة من البلا ... يحد بحال أو حديد وكم قتل ولم تغنهم أجنادهم عند قتله ... ومن ذلك ذبح لليهودي الذي ولي ويمشي أولو الإسلام تحت ركابه ... له مجلس مع ذاك من فوقه علي فحا بعد فبح للتقرب مسجداً ... فصلي وبالنيران قربانه مصلي فأرسل إذ ذاك الأمير جماعة ... ليأتوا به سحباً على الرأس لا للرجل فلم يدر أن الملك ملك غريمه ... له لا نجي لو جاء بالخل والرجل فرامت دخول المسجد الرسل نحوه ... فلم يقدروا من بعد حرص على الدخل فما راكباً في موكب وهو جاهل ... بموكب عز ليس يجمع بالطبل وحامل رايات العلى من جماعة ... ليوث العلى لا يخلط لجد بالهزل فرام به كبلاً وقتلاً بزعمه ... فما استطاع دخل الباب فضلاً عن الكبل فكاتب سلطاناً، فقال، سلامة ... رضينا فقد من قبل ذا سامني عزلي رجال إذا ما قام لله واحد ... بحرب البرايا فهو عال على الكل

ومنهم في مسجد الرباط الشيخ العلي المقام، الحبر الإمام، ذو الفضائل والمكارم، المعروف بالفقيه سالم من أصحاب الشيخ فقيه أهل عواجة، إليه أشرت بقولي: وتاج المعالي سالم في رباطهم ... جزيل العطا مع ساعة وأفاضل أعني جماعة من السادة معه في المسجد المذكور على ساحل على البحر. وله ولد من السادات الكبار العارفين بالله، مطالع الأنوار، لما ولد رأى بعض أصحاب والده في الليل عمود نور متصلاً من بيته إلى السماء، فمنا من البيت لينظر ما سبب ذلك، ولم يكن لعلم بولادته، فسمع قائلاً يقول: يهنيكم الولد المبارك أما السر فسر أبيه، وأما السيرة فسيرة جده. ومما وقع لوالد المذكور محمد بن سالم بن غرائب الآيات، وعجائب الكرامات في ضمن الفعل الذي هو في الظاهر مستقبح، وفي الباطن مستملح، وذلك ما شاع في بلادهم عند الفقراء المباركين. وأخبرني به غير واحد من الصالحين أنه جاء إنسان من العرب إلى الشيخ الفقيه محمد بن سالم المذكور، وذكر له أنه كان له زوجة جميلة يحبها، فوقع بينه وبينها مخاصمة ومغاضبة وطلقها، وبانت منه بدون الثلاث، ثم ندم ندماً شديداً، وطلب أن ترجع إليه بنكاح جديد فامتنع أهلها، وكانوا من عرب تلك البلاد، فدخل عليهم، وألح في ذلك، فلم يقبلوا، ثم كلمه أن يرسل إليهم ويستحضرهم عنده، ويتكلم معهم، ويشفع له في أن يزوجوها منه فقال: يكون خيراً إن شاء الله تعالى، فطمع في قضاء حاجته لعلمه أنهم لا يخالفون الشيخ المذكور، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة أبصر مملوكه زوجته تمشي بين بيوت المكان الذي الشيخ نازل فيه، ففرح بذلك فرحاً شديداً ظناً منه أنها جاءت مع سيدتها وأوليائها باستحضار الشيخ لهم بسببه، فسألها ما جاء بك إلى هنا. فذكرت له أنها جاءت مع سيدتها، وأن الشيخ المذكور تزوجها، فلما سمع منها ذلك طار عقله، وازداد كرباً على كرب، ثم قصد الشيخ الكبير الولي الشهير أحمد بن الجعد قدس الله روحه - إلى القرية التي هو فيها فشكا إليه ذلك، فاستعظم الشيخ أحمد ما وقع من الشيخ محمد واستقبحه، واشتد إنكاره عليه فيه، فجمع جمعاً كثيراً من الفقراء، وقصده مطالباً له بالإنصاف، وهو تلميذ والده سالم المذكور، فلما وصل إلى موضعه أقام أياماً في المسجد هو ومن معه من الفقراء، والشيخ محمد يصلي بالناس فيه، ويخرج لا يكلم بعضهم بعضاً، ثم فاتحه الشيخ محمد بالكلام، وقال له: ارفع رأسك، وانظر في اللوح المحفوظ تبصر فيه أولادي فلاناً وفلاناً وفلانة وعددهم وأسماهم من المرأة المذكورة فرفع الشيخ أحمد رأسه، فرأى ذلك،

فقام واستغفر الله عز وجل، وقام منصفاً بعدما جاء مطالباً مستنصفاً رضي الله تعالى الجميع، ونفعنا بهم. ومنهم الشيخ الكبير المشهور أحمد بن الجعد المذكور في تلك الناحية سكن الطرية بالطاء المهملة، والراء والمثناة من تحت مشددة، قرية معروفة هنالك وهو القائل في قصيدة: كافل للأنام بالشد مني ... من رآني، ومن رأى من آني وقال في أخرى: قد كان ذلك في الزجاجة باقياً ... وأنا الوحيد شربت ذاك الباقي ومنهم في حضرموت الشيوخ الكبار المذكورون أولو الأنوار والأسرار المكنون عباد، وأبا معبد، وأبا عيسى. من عجائب الآيات، وغرائب الكرامات، ما وقع بين الشيخين العارفين، السيفين القاطعين أعني أبا عيسى، واسمه سعيد وأحمد بن أبي الجعد المذكورين، وذلك أنه الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيح سعيد في وقت جاؤوا إلى زيارة بعض القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بد للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت، ويزور في وقت آخر، فرجع وأصحابه إلى موضعهم، واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده، فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً، ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة، فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق، فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك، فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد بلى قد توجه عليك الحق، فقم وانصف، فقام الشيخ سعيد، وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومن أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي تعالى عنهما. وهذه لعمري أحوال تكمل في جنب بعضها السيوف القماطية، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر، والله أعلم. وإلى ما جرى لهما في هذه القضية مع ما لكل واحد منهما من الفضائل العديدة أشرت

بقولي في قصيدة: وعنت لنحل الجعد جعد ذوائب ... وبيض معال كم بها من مسود وفدته في الهيجا لدي أخذ ثأره ... ويرمي به تمزيق قرن ممجد ورقت أبا عيسى الفتى الليث قربه ... لدى ضربه رجلي فتى منه مقعد فيا عجباً من رقها وعتاقها ... لضدين حقاً لاتفاق التودد رمى ذاك هذا في أسهم مزقت وذا ... لرجليه رام بالحسام المهند ولا قود في ذا ولا أرش واجب ... ولا إثم لاحق بدنيا ولا غد ومع ذاك كل منهما كان قاصداً ... إلى قرنه لا عن خطابل تعمد ولا صائب لو قيل لا بد واحد ... مع العمد في هذاك والعلم معتد فما قط في حكم الولاية قاطع ... سلاح ذوي العدوان بل سيف مهند على مثل سيف من طريق استقامة ... إلى الله بالله استقام فتى هدي فهل من جواب أيها السادة الملا ... أفيدوا هالا فاسألوا للنفود والجواب في ذلك، والله أعلم أنه يحتمل وجهين. أحدهما أن يكون المولى تبارك وتعالى أذن لكل واحد منهما أن يؤدب الآخر بإشارة مفهومة عند ذوي الأحوال والمقامات العوالي ابتلاء منه بعد كما لو أمر بعض المخلوقين كل واحد من عبدين له أن يؤدب الآخر، كما جرى لبني إسرائيل في قتل بعضهم بعضاً حين أمروا بذلك. والثاني أن يكون كل واحد منهما مفوضاً في الحكم، مصرفاً في المملكة كما ذلك واقع لكثير منهم مشهور عنهم يولي كل منهما، ويعزل ويقطع ويصل غادي اجتهاد كل واحد منهما أن صاحبه مخطئ يستحق التأديب، وأنه فيما فعله فيه مصيب هذا ما ظهر لي من الجواب، والله أعلم بالصواب، وإلى ذلك أشرت في بعض القصائد بقولي: رماه وضراب ببيض حد يدها ... من الصدق والإخلاص في القول والفعل كمثل الفتى ابن الجعد بالثأر أخذ ... يرمي فتى منهم له ضارب الرجل فذا مقعد بالسيف في طول دهره ... وذاك جميع الدهر يشكو من النبل وإليهما أيضاً أشرت في قصيدتي الأخرى، وهي باهية المحيا المتقدم ذكرها. وكرم بضرغامين قدما تضارباً ... بسيفين كل منهما غيرنا كل حميد الثنا ابن الجعد أعني وماجداً ... يكنى أبا عيسى وليس بخامل

ومن غرائب كرامات ابن الجعد المذكور أيضاً، وكرامات شيخه الشيخ سالم المتقدم ذكره أنه استأذنه في زيارة الكثيب الأبيض، وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب، وكان استئذان ابن الجعد لشيخه في زيارته في غير الوقت المذكور، فلم يأذن له، وقال: أخشى أن تسيء الأدب هنالك، ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين، فخالف أبي الجعد شيخه، ومشى إلى الكثيب المذكور، فبات عليه، ورأى بعض الصالحين فيه يصلي، فلم يكلمه حتى صلى الصبح، فصلى معه مقتدياً به، فلما سلما مكث كل واحد منهما في مكانه، ثم رنق ذلك الشيخ، فانتظره ابن الجعد للسلام عليه، حتى ارتفعت الشمس، فلم يرفع رأسه، وهو لا يرى إلا دلقه، فمد يده، وحرك الدلق، فلم يجد فيه أحداً فلبسه ونزل به إلى أسفل الكثيب راجعاً إلى مكان شيخه، فوجد ديناراً، ثم صار في أول كل يوم يجد ديناراً ينفق ذلك على الفقراء أين ما كان، فبقي على ذلك سنة، ثم قال له شيخه: سافر للحج ورد الوديعة إلى صاحبها يعني بها ذلك الدلق، وقال له: ما قلت لك أني أخاف عليك أن تسيء الأدب في زيارة الكثيب، فخرج إلى الحج، فلما كان يوم الوقوف بعرفة ظهر له صاحب الدلق، وقال: هات الأمانة مع بقاء أجر ما تجده كل يوم عليك إلى أن ترجع إلى بلادك، فلم يزل يجد كل يوم ديناراً ينفقه على الفقراء إلى أن رجع إلى بلاده. ومن كرامات الحضرميين الآخرين أعني أبا عباد، وأبا معبد أن الأول منهما أعني أبا عباد رأى بعضهم نهراً يجري من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زاويته في بلاد حضرموت، وفسر ذلك بأنه مدد منه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ظاهر من حاله، فإنه ما زال من زمانه إلى الآن زاويته عامرة بتلاوة القرآن والإذكار والرزق عليهم من فضل الله تعالى مدراراً. ومن كرامات الثاني أعني أبا معبد أنه كان ينزل في البرية، فيتفجر أنهاراً، فينتقل إليها الناس، ويغرسون فيها، ويزرعون، فإذا بهجت بالبساتين، واختلط أبناء الدنيا بالمساكين، وسارت بالخضرة والزينة زاهرة. انتقل إلى برية مجدبة دامرة، فإذا سكنها صار هو وأصحابه يسبحون الله تعالى ويذكرون، فانفجرت فيها بقدرة الله تعالى عز وجل العيون، ثم كذلك إذا صارت كما تقدم يهرب منها إلى محل المحل والعدم، وكانت الدنيا تطلبه، وهو يهرب منها، ثم استقر بعد حيث شاء الله تعالى، ولم يمل عنها.

ومنهم في الحصى بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، الشيخ الكبير الولي الشهير المعروف بالرعب بكسر الراء، وسكون العين المهملة، وبموحدة وهو الذي قطع بعض الرافضة لسانه لمدحه أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام رد لسانه إلى موضعه، فانتبه وقد عاد لسانه إليه صحيحاً في قصة يطول ذكرها، وقعت للشيخ عمر المذكور وذلك في اليمن والحجاز مستفيض مشهور. ومما روى لولده موسى أنه بنى مسجداً، فلما أخذ الصناع في تسقيفه قصر بعض الخشب عن بلوغ الجدار، فلما رأى ذلك قال لهم: اقعدوا تغدوا، فلما فرغوا من الغداء رجعوا إلى التسقيف، فوجدوا تلك الخشبة قد طالت، ووصلت إلى موضعها من الجدار. ومنهم في خنفر بالخاء المعجمة والنون والفاء والراء، الشيخ المشهور الولي المشكور محمد بن مبارك البركاني. ومما بلغني من كراماته أنه سافر جماعة من أصحابه مع قافلة، فنهبت تلك القافلة، فنهب أصحابه، معهم، فرجعوا إليه، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: نهبنا قال: فما عرفوكم. قالوا: بلى، ولكن أنتم يا فقراء نتبارك بكم، فقال: أنا ابن مبارك كم من يظن أنه أخذنا، ونحن أخذناه، ثم رنت ساعة، وإذا بالحرامية قد جاؤوا، وردوا متاع الفقراء. ومنهم في موزع بفتح الميم والزاي، وسكون الواو في آخره عين مهملة، الفقيه الكبير الولي الشهير، وافر العطاء والنصيب عبد الله بن أبي بكر الخطيب المشار إليه في بعض قصائدي بقولي أحسن الله أحوالي مشيراً إلى العناية: وكم خطبت لابن الخطيب وخاطبت ... وكم كشفت خطباً وأولته من فضل؟ وولته ملكاً نافذاً فيه حكمه ... وبالحلة الحسنا الرضية قد حلي شيخ شخينا الشيخ مسعود الجاوي، وغيره من الشيوخ. ومن غرائب كرامات الشيخ عبد الله ابن الخطيب المذكور أنه كان في شبابه مجاوراً في المدينة الشريفة، وكان إذا حصلت له فاقة يذهب إلى السوق، ويقترض من إنسان يبيع الهريسة ما يسد به، فاقته، فإذا اجتمع له عليه دين يقول له ذلك المهرس: قد جاءني رسولك بالدراهم التي عليك، ولم يزل هكذا يقترض، ويقضي الله تعالى عنه على يد شخص من رجال الغيب ذكر الشيخ المذكور أن ذلك الشخص هو الخضر عليه السلام، وعلى سائر

المصطفين الكرام. ومنهم في جبال اليمن الشيخ الكبير الشأن أحمد بن علوان القائل: جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا ... حتى انتهيت مراتب الإبداع لا باسم ليلى أستعين على السرى ... كلا ولا لبني ترد شراعي ومن كراماته أن ذرية الفقهاء الذين كانوا ينكرون عليه صاروا يلوذون عند النوائب بقبره، ويستجيرون من خوف السلطان به، وإلى ذلك، وبعض مناقبه الحميدة أشرت في القصيدة: وكم لابن علوان على الدهر من علا ... فتى برداً مجد المعارف مرتدي ولي على الأيام يعلو بمنصب ... إلى فوق علياء المفاخر مصعد وأعداؤه تهوى مناصبهم إلى ... ترى أرضهم من متهميها ومنجد فما زال في جيش من النصر مسعد ... له تحت رايات العناية منجد إلى أن لهم أمسى ملاذ أو ملجأ ... وحصناً لذي طعن وللهجو منشد ومنهم في زبيد الشيح الكبير العارف، ذو الكرامات والمعارف، المشهور بالولاية، والكرامات الخارجات عن حصر التعداد أبو العباس أحمد بن أبي الخير المعروف بالصياد وإليه الإشارة بقولي: وصيادهم سامي العلا والفضائل، وأشرت إليه أيضاً في غزل القصيدة المذكورة. بقولي مشيراً إلى محاسنه وتقدم زمانه: كحسناء زهت قدماً بعالي جمالها ... سبت كم فتى صادت بنصب حبائل وكان أمياً، فحصل له من فضل الله تعالى ما اعترف به العلماء، وتأدب له به الأولياء، وهو من قدماء شيوخ اليمن. أدرك زمن ولاية الحبشة بها. ومن عجائب كراماته أنه كان في وقت في مسجد الفازة على ساحل زبيد، وعنده شخص من تلامذته، فدخل عليه بعض الناس، وقال له: هذا تلميذك يا صياد، فسكت، فقال لصاحبه: هذا شيخك. قال: نعم، فقال: إن كان لك تلميذاً يا صياد، فمره فليمش على الماء، وليأتنا بحجر من الجبل الفلاني، وهو في موضع تصل إليه السفن في نصف يوم، فغضب الصياد، وقال لتلميذه: اذهب، فامش على البحر مسرعاً وآتنا بحجر من الجبل المذكور، فذهب المريد إلى البحر، ومشى عليه مسرعاً كأنه يجري على الأرض، فلحقه المنكر جارياً على الساحل، وسأله أن يرجع، فلم يرجع، فاستغفر الله تعالى إلى الشيخ، وسأله وتضرع إليه طالباً العفو، ورجوع التلميذ فناداه الشيخ أن أرجع فرجع.

ومنهم في التريبة بضم المثناة من فوق، وفتح الراء والموحدة بينهما مثناة من تحت ساكنة، الشيخ الكبير الولي الشهير، ذو المقامات الفاضلة، والكرامات الهائلة، الشيخ عيسى المعروف بالهتار بكسر الهاء وقبل الألف مثناة من فوق وبعدها راء. ومن كراماته العظيمة انقلاب الخمر سمناً في قصة طويلة مختصرها أنه تابت على يده بعض المعروفات بالفساد، فزوجها من بعض الفقراء، وقال: اعملوا الوليمة عصيدة، ولا تشتروا لها أدماً، ففعلوا ذلك، وأحضروها، فذهب إنسان إلى أمير كان رفيقاً لتلك المرأة، فأعلمه بتوبتها وزواجها وحديث الوليمة، فما هان عليه، وما قدر يفعل شيئاً غير أنه أراد مكراً ليفضح به الفقراء، ويستهزأ بهم، وهو أنه أعطاه قارورتين مملوءتين خمراً، وقال: اذهب به إلى الشيخ، وقل له: يسرني ما بلغني عنكم، وسمعت أن الوليمة ما لها آدام، فخذوا هذا تأدموا به، فلما جاء رسوله بهما وجد الشيخ عيسى قاعداً منتظراً ما يأتي، فقال له: أبطأت يا بارد، ثم تناول أحدهما فصب ما فيها على العصيدة، ثم كذلك الأخرى، ثم قال: للرسول: اجلس وكل، فجلس وأكل، فذاق سمناً لم يذق مثله، فتحير عقله. ثم رجع إلى الأمير، فأخبره بذلك، فجاء وكل معهم، ورأى من انقلاب الخمر ما أدهش عقله، فتاب أيضاً. ومنهم في ذوال بفتح الذال المعجمة، السيد الجليل العلي المقام، الفقيه العلامة زين الزمن، وبركة اليمن، ذو المناقب والمجد الأثيل أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل، وإليه أشرت بقولي: وزينهم ابن العجيل شهيرهم، وأشرت إليه أيضاً في الغزل بقولي: وكم في ذوال من ملاح ذوائب ... إذا بت قلوباً للنفوس الذوابل كذات البها الحسنا عجيلة زهت ... بها سارت الركبان من كل راحل ومن عظيم كراماته، وحميد سيرته ما تقدم في ترجمته: ومنهم في عواجة السيدان الكبيران، الوليان الشهيران، مطلعا الأنوار، وخزانتا الأسرار، ذو الفضائل العظمات، والكرامات الكريمات، الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي، والشيخ الفقيه محمد بن الحسين البجلي. ومن غرائب الكرامات المذكورات عنهما أنه أتى بدوي إلى البجلي منهما، فقال له:

إنه سرق لي ثور، فخاطرك سعى في رجوعه إلي فقال له: أتريد أن يرجع ثورك قال: نعم قال: اذهب إلى المكان الفلاني نجد فيه شيخاً فألزمه، فعنده ثورك، فذهب إلى المكان الذي ذكر، فوجد فيه الشيخ الحكمي، فقال له: يا شيخ رد علي ثوري، فقال: من قال لك هذا محمد بن حسين؟ قال: رد علي ثوري، وخل عنك هفا الكلام، قال: وما صفة ثورك؟ قال: تسرق ثوري وما تعرف صفته: فضحك الشيخ، وقال له: اذهب إلى الشعب الفلاني في الجبل الفلاني تجد ثورك مربوطاً في شجرة، فحله وخذه، فذهب إلى الشعب المذكور، فوجد الثور مربوطاً كما ذكر فحله، وذهب به مسروراً، وجاء السارق، فلم يجده، فرجع محزوناً ومحسوراً، ورجع كل من الشيخين الدالين له مأجوراً ومبروراً. ومنهم في شجينة بضم الشين المعجمة وفتح الجيم وسكون المثناة من تحت، وفتح النون الإمام الوليان الشهيران علي بن إبراهيم، وابنه إبراهيم الساكنان في شجينة، وفي عواجة مقبوران. ومما حدثت من كرامات علي المذكور أن بعض الناس أودع عند امرأة وديعة سافر، فهلكت المرأة، ولم يعلم أين تركت الوديعة، فجاء صاحبها يطلبها، فلم يجد من يعلمه بمكانها، فذكر ذلك للفقيه علي المذكور، فقال: أرني قبرها، فلما وقف عليه خلابه ساعة، ثم استدعى بابن الهالكة، وقال له: هل في بيتكم شجرة حناء؟ قال: نعم، قال احفروا تحت أصلها، فالوديعة هنالك، فحفروا فوجدوها كما ذكر. ومن كرامات ابنه ما أخبرني بعض أهل العلم أنه زار مع أبيه مساجد الفتح غربي المدينة الشريفة، فنبحهم كلب، فبصق عليه الابن المذكور، فمات الكلب، والتفت إليه أبوه، ولامه على ذلك. ومنهم في الضحى بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة الإمام الكبير الولي الشهير إسماعيل ابن السيد الجليل، الفقيه المحدث، الولي الوجيه محمد بن إسماعيل الحضرمي، وقد تقدم ذكر شيء من كراماته في ترجمته، وإليه الإشارة بقولي في غزل أخرى: وخود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني ومنهم في بيت عطا بحر الحقائق الذي سارت بفضله الركبان في المغارب والمشارق، الشيخ الجليل أبو الغيث بن جميل، وقد تقدم ذكر شيء من كريم مناقبه، وعظيم مواهبه وإليه الإشارة بقولي: بيبت عطار عيطبول خربدة ... بجانبه في سابقات المحامل

ومنهم في حلي ابن يعقوب شيخنا وبركتنا، الشيخ الكبير، صاحب القلب المنير نور الدين علي المعروف بالطواشي، وقد تقدم ذكر شيء من فضائله وكراماته ومحاسنه وبركاته، واليه الإشارة بقولي: سقى الله أياماً خلت بعدما حلت ... ومرت فمرت بعد ذاك التواصل وأيام وصل واجتماع به الهنا ... وعيش صفا لي بالحبيب المواصل يحيى به حلي ابن يعقوب زاهراً ... لسلمى به باهي خيام منازل فهؤلاء نيف وعشرون من بين الجمع الغفير أشرت من كراماتهم إلى شيء يسير في هذا التاريخ الذي على الخمسين بعد السبع مائة انتهاؤه، والحمد لله الذي بحمده وبذكره ختم الكلام وابتداؤه، وأفضل صلواته على أشرف المرسلين المختوم به أنبياؤه، وعلى آله السادة الكرام وأصحابه الذين هم نجوم الهدى الباهج بهاؤه، وسقم عليه وعليهم أجمعين، وعلى جميع النبيين والمرسلين، وآل كل والملائكة المقربين، وسائر عباد الله المخلصين. تناهى تاريخي الذي انتقيت معظمه من تاريخ الذهبي وابن خلكان حاذفاًً التطويل الممل للإنسان وما يكره ذكره للمتدين، وهو الخلاعة والمجون المستقبحان، فجاء متوسطاً بين الاختصار والإطناب، كما أشرت إليه في خطبة الكتاب، ونسأل الله الكريم، بالآيات والذكر الحكيم، وبرسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم، أن تجمع بيننا وبين أحبابنا في جنات النعيم، إنه الجواد المنان. ذو الفضل العظيم. آمين آمين آمين يا رب العالمين. تم الكتاب الموسوم بمرآة الجنان وعبرة اليقظان في حوادث الزمان، وتقلب أحوال الإنسان، وتاريخ موت بعض المشهورين الأعيان، للإمام اليافعي - قدس الله تعالى أسراره - والحمد لله الذي بتيسيره نجاح الأمور وبنوره انشراح الصدور، وبتقديره تقلب الدهور. وسبحانك اللهم رباً مقدساً ... لك الدهر كل الكائنات تسبح بحمدك أشهد لا إله سواك قط ... تعاليت بل أنت الإله المسبح وغفرانك اللهم تب ومجالسي ... فكفر كما جاء الحديث المصحح عن الصادق المختار صل مسلماً ... على روحه ما غرد المترنح ولله ربي الحمد قبلاً وآخراً ... به يختم القول الحميد ويفتح من نظم المصنف، الشيخ العارف بالله، عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي نفع الله تعالى به آمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم يا خير داعٍ دعا في خيرة الأمم يا سيد العرب العرباء قاطبة إني بجاهك أدعو الله متثقاً بصاحبيك أبي بكر وصاحبه بحق صهريك عثمان وحيدرة أئمة الحق يالله أربعة بحق سبطيك من قد شاع فضلهما بطلحة بزبير بابن عوفهم بابن زيد بعباس بحمزتهم بجعفر ببنية بل بباقرهم بالكاظمي بالرضا بالقاطمي فلهم واستشفع الله بالهادي وعترته بآدم ثم شيث ثم نوحهم بحق عيسى بيحيى بل بوراثهم بفتية الكهف بالكهف الذي نزلوا بمريم ابنة عمران بآسية بعائش ثم أزواج النبي ومن واذكر نفيسة واستشفع برابعة ببيت لحم ببيت القدس بل بقبا بمكة بل ببطحاها بغار حرا بالحجر بالحجر الأسود ثم بمن بموقف الناس يوم الحج بل بهم بليلة القدر مع شهر الصيام وبالضحى مع تزاويح فضلهما بحق صبح وظهر ثم عصرهما بحق عرش وأملاك ثمانية بجبريل وميكال وثالثهم بحق فرقان الذكر الحكيم وبالسبع بنافع بأبي عمر وبحمزتهم

بحق فضل الكسائي بابن عامرهم بالشافعي بنعمان لمالكهم بالتابعين فلا تمهل أويس فما بحق قطب وإبدال هم أملي بالترمذي بأبي داؤد بالنسائي بالبيهقي بأصحاب الحديث معاً بابن دينار بالبصري بفرقدهم أبي يزيد بمعروف بعتبتهم وبالسرى ببشر بابن أدهمهم بحق نساجهم والخشبي وبا بحق سهل بسهل بابن خضرويه بحق ذي النون بالدقاق إن لهم بابن أسباط بل شاه وشيعته ذاك الذي اعتاض في العليا بدايته واذكر أبا الغيث والصياد أحمدهم بابن العجيل بإسماعيل بالبجلي بجوهر بهتار بابن يضمهم وبالمريدين بالأشياخ في يمن فإن في الجيلي منهم عبد قادرهم ابن الرسول الذي ناداه مرسله في ليلة قد رقى حجبا وارتفعا بذي عقيب وما فيها وفي جند بالزيلعي بفيروز بأحمدهم بابن المسن بسفيان بسالمهم بحرمة العارف ابن الرعب زاهدهم وبابنه الشيخ موسى، ثم أخوته بواد عمد بسادات بها، وبمن بني أبا حفص الأخيار، ثم بني واهتف بيوسف مهما كنت منتظراً وحضرموت بها قوم بفضلهم

بنو أبا علوي والكرام بنوا وعصبة في نواخي الشحر بل يبني وفي ظفار رجال يستغاث بهم بحق شيخي وأشياخ له. فهم بذي سفال حماها الله من بلد حوائجي أقضها وأقض الديون ولا واغفر ذنوبي، وإن جلت كبائرها وعافني وأعف للوالدين كذا وأسبل الشتر يا ربي علي إذا ومن نكير ومن قبر ومنكره يسر حسابي وإن جزت الصراط فلا إذا فتحت لأبواب الجنان خذوا واغفر لأهلي وأولادي وما ولدوا وواسع الفضل للجيران إن لهم جيران بيتي وجيراني بمقبرتي بمن ذكرت، وبالماحي وعترته وأصل الله موصول الصلاة له وأوصل الله أزكاها وأفضلها

§1/1