مذكرات شاهد للقرن

مالك بن نبي

مالك بن نبي مذكرات شاهد للقرن ندوة مالك بن نبي دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان دار الفكر، دمشق - سورية

مالك بن نبي مذكّرات شاهد للقرن القِسْمُ الأول: الطِّفْل 1905 - 1930 القِسْمُ الثاني: الطالبْ 1930 - 1939 بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان دار الفكر دمشق - سورية

تصوير 1413 هـ - 1993 م الطبعة الثانية 1404هـ - 1984م ط1: القسم الأول 1969م القسم الثاني 1970م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971، ترك أستاذنا مالك بن نبي، رحمه الله، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران 1971، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف بـ (ندوة مالك بن نبي). والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

تصدير

تصدير ـ[مذكرات شاهد للقرن]ـ كتاب أخرجه فيلسوفنا مالك بن نبي عام 1966 بالفرنسية، وطبع في الجزائر. وكان قد أودعني نسخة على الآلة الكاتبة في ذلك التاريخ، رغبة منه في إصداره مترجماً باللغة العربية. هكذا اتفقت مع الدكتور عبد المجيد النعنعي مدير فروع الجامعة اللبنانية في طرابلس- لبنان، ليعمل على ترجمته، ولأعمل معه على صياغة النص بما يتفق وروح المؤلف ومرامي أفكاره. وأنجز الدكتور النعنعي المهمة مشكوراً، يدفعه إلى ذلك حماسته للفكر العربي والإسلامي معاً، إنما سبقنا إلى تمام العمل ترجمة أخرى للأستاذ مروان قنواتي، صدرت في نهاية الستينات. وهكذا توقفنا ..... وفي بداية السبعينات صدر الجزء الثاني من (مذكرات شاهد للقرن) وهو الجزء الذي يتحدث عن مرحلة الدراسة في باريس ابتداء من عام 1930، وقد آثر الأستاذ مالك- رحمه الله- أن يترجمه بنفسه إلى العربية، حين آنس في الترجمة الأولى شيئاً من حواجز الصياغة تحول بين القارئ وإحساس المؤلف، الذي أودعه في كتابه وهو يصوغه بالفرنسية. ومرت الأيام ......

وحين بدأنا في إعادة طبع مؤلفات الأستاذ مالك بن نبي من جديد، عدت إلى ترجمة الدكتور النعنعي وقد مضى عليها قرابة الخمسة عشر عاماً، ثم تأملت في ترجمة الأستاذ مروان قنواتي، وقد حوت كثيراً من التوضيحات حول الأسماء التي ذكرها الأستاذ مالك. وما كنت لأعدل عن ترجمة الأستاذ قنواتي التي بذل فيها من علمه ومعرفته ما يشكر عليه، لولا أنني أردت أن أوائم بين القسم الأول من الكتاب، والقسم الثاني الذي كتبه الأستاذ مالك بالعربية مباشرة. فالترجمة الحاضرة للقسم الأول من الكتاب ترتكز في أساسها على النص الفرنسي وعمدتها ترجمة الدكتور النعنعي، لكننا استفدنا كثيراً من جهود الأستاذ مروان قنواتي. وقد حاولنا قدر الاستطاعة أن نسلك في ترجمتنا للقسم الأول من (مذكرات شاهد للقرن)، أسلوب الأستاذ مالك في ترجمته للقسم الثاني من هذه المذكرات، ذلك أن القسمين سيصدران في كتاب واحد في هذه الطبعة وكانا قد صدرا قبلُ في كتابين منفصلين. فعسى أن نكون قد حققنا هدفنا في التنسيق بين فصول هذه المذكرات التي يأخذ بعضها برقاب بعض. ومذكرات مالك بن نبي، مذكرات شاهد يتحدث إلينا خلف ستار، وهو يحاول أن ينقل إلينا تبصّره بالأحداث، وما هذه التفاصيل التي يقصها علينا إلا ليجسد رؤيته الفكرية عبرها. فشاهدنا شاهد بصر وبصيرة معاً. وهي بصيرة صاغتها أحاسيس جزائري امتد به عمق الحضارة الإسلامية إلى حدود الحضارة الغربية الحديثة، فكان نقطة اتصال وتحول كما يقول في بداية شهادته. فأجيال الحضارة تتناقل دائماً رسالة سرية ذات رموز، ويحقّ لكل جيل أن يقرأ هذه الرسالة قراءة تختلف عن الجيل السابق، لأن لكل جيل مصطلحاً خاصاً به يفك رموز تلك الرسالة.

هكذا يقول بن نبي في شهادته، وكأنما يريد أن يمنحنا من جديد مصطلحات رموز هذه الرسالة، بعد أن افتقدنا هذا المصطلح، وباتت رسالة حضارتنا رمزاً لا نستطيع له إدراكاً يلج في أعماق جيلنا المعاصر. مالك بن نبي يحدثنا عن حدود التلاقي بين حضارة مندفعة تحتاح ما أمامها، وحضارة أسلمت مقاليدها للتاريخ وغدت أجيالها في مهب الريح. كذلك كانت الجرائر وقد اجتاحها الاستعمار الفرنسي. لكن الجزائر عينة من عينات ذلك العالم الإسلامي الذي استقال من مهمته التاريخية، وغدت بقية التراث أشلاء مبعثرة هنا وهناك، لا تصمد أمام طوفان الحضارة الغربية وجحافلها المنتصرة. هكذا ينقل إلينا مالك بن نبي صوراً من شهادته، إذا صدقت على أجيال الجزائريين من أبناء جيله، فهي صادقة أيضاً على أجيال العالم الإسلامي، والعالم المتخلف بأجمعه منذ بداية هذا القرن. ولذا فهو شاهد أحداث هذا القرن فيها يروي. والشهادة هذه ليست شهادة لمعاناة مجتمع مغلوب على أمره، وهي ليست شهادة على مجتمع لا يدرك لدفاعه فعالية الوسائل فحسب، بل إنها أيضاً شهادة على ما أرست حضارة الغرب الحديثة من مصطلحات ومفاهيم ومنجزات، تزري بمسيرة الإنسانية وهي تنشر ثقافتها وجيوشها. فمالك بن نبي- وهو يروي أدق التفاصيل- لا يغفل عن إبراز القيم الأساسية التي ما يزال يحتفظ بها رجل الفطرة، وقد ورثها من أجيال سابقة حفظت التراث والقيم. وهو في الوقت نفسه يطرح أمامنا تهافت مثقفينا؛ الذين انغمسوا في الثقافة الغربية ومصطلحاتها وواقعها، فانقلبوا في حركتهم التقدمية إلى الوراء، واتخذوا من السياسة سبيلاً إلى قيادة تسير نحو العدم، لأنهم افتقدوا في

ذلك الصخب الذي عانته مجتمعاتنا الإسلامية منذ بداية هذا القرن، سبل الفعالية في المبادرة والاتجاه، وهكذا فاتهم قطار التاريخ. هذا الكتاب يحمل إلينا دفء الأصالة، ويهزّنا حين يروي لنا صفاء الراعي والبدوي ووفاءه للقيم، والتزامه بما استقر في ضميره من تقاليد هي أقرب إلى روح الحضارة وأرسخ في خطا التقدم. فالذي حمله المثقفون الجزائريون من الجامعات والمعاهد الفرنسية، والذي نقله الاستعمار من الهياكل الإدارية إلى أرض الجزائر، قد أفسد الرؤية وأنقص قيمة الإنسان، وأحل مكان خرافة المرابطي شيخ الطريقة خرافةَ الزعيم، وهكذا تحطمت بمنطق السهولة المبادرات البناءة التي بدأتها حركة الإصلاح بقيادة (بن باديس). هذا الكتاب يكشف لنا مكونات فكر بن نبي، وهاجسه العميق الذي رافقه طيلة حياته. إنه هاجس الحضارة ومشكلاتها. وما كان لبن نبي أن يروي لنا شهادته، لولا أنه قد رغب في تأصيل الأساس الفكري لنهضتا، وآثر الحقيقة والتزم جانب الصدق والكفاح حتى أسلم الروح، لم تفتر له عزيمة في بيان ولم يهن له عزم في كشف كل زيف، تروج بضاعته في أسواق الثقافة ومراكز التوجيه. إنه شاهد قرن ومبلغ فيه لما شهد. والتبليغ في منعطفات التاريخ رؤية فكرية وروحية معاً. في صيغته وضوح المعالم، وفي حرارته شرارة الإقلاع. طرابلس- لبنان 22 جمادى الثانية 1403هـ 5 نيسان (ابريل) 1983 عمر مسقاوي

القسم الأول: الطفل

القسم الأول الطفل (1905 - 1930 م)

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقَدّمة ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب للقارئ، كما هو مألوف، إنما أردت أن أكشف الظروف المثيرة التي ألقت إليّ بهذه المخطوطة فاتجهت لنشر قسم منها في هذا الكتاب. لكل امرئ ما تعود. ومن عادتي في بعض الأحيان أن أؤدي صلاة العصر في المسجد، حينما يخلو من الذين أدركوا الصلاة وراء الإمام في وقتها. المكان شبه خالٍ إذن، وكنت أختار هذه الساعة بالذات لأستجمع نفسي في سكينة المسجد. كان ذلك في مسجد قسنطينة المسترجع بعد ما ظل طوال قرن كاتدرائية المدينة. وكنت قد عدت إلى الجزائر منذ ثلاثة أيام أو أربعة وقد مضى على التحرر سنة كاملة. عندما خلعت حذائي متأهباً لدخول المسجد، ألقيت نظرة فاحصة إلى داخله. فالمكان يتحدث بتاريخه أكثر مما يتحدث عنه طراز بنائه. واخترت ركنا في داخل المسجد مجانب المنبر القديم نائياً بنفسي عن ضجيج الشارع، وكانت أشعة الأصيل تتسرب من خلال الزجاج بين أعمدة المسجد. وقفت في زاويتي أشرع في الصلاة. وكنت في الركعة الثانية من صلاة العصر أطيل السجود أكثر مما يفعل الناس في الجزائر؛ فهذه عادة حملها الزائرون للديار المقدسة حينما تتاح لهم فرصة المرور بالقاهرة والصلاة في مسجد الحسين بالقرب من الأزهر. وبينما أنا في سجود هذه الركعة تناهى إلى سمعي وقع

خطوات على السجادة ورائي، فما إن اقترب صاحبها مني حتى انسحب إلى الوراء. وعندما رفعت رأسي حانت مني التفاتة لا شعورية إلى جانبي الأيمن، فرأيت على مقربة من ركبتي ربطة حسنة التغليف. أكملت صلاتي حسب العادة، ثم حيّيت وسلمت ونظرت ورائي فلم أجد أحداً، ثم نظرت يمنة ويسرة فلم أجد أحداً؛ فالذي وضع الربطة قد اختفى. ولكن ماذا في هذه الربطة؟. أخذتها بين يدي فوجدتها مغلفة بعناية بورق مقوى وملتصق جيداً. وما إن لمستها حتى تبينت أنها كانت تضم أوراقاً، فنزعت عنها الغلاف الخارجي، إنها صفحات مكتوبة بخط دقيق لكنه مقروء جيداً، وعلى الصفحة الأولى رأيت العنوان (مذكرات شاهد للقرن) مكتوباً بخط أكبر ذي حروف مستديرة. قرأت صفحة ثم أتبعتها بأخري. إنه شيء مثير، فكل جزائري يحسن الكتابة من أبناء جيلي يستطيع أن يكتب مثلها. ثم قرأت بعض الصفحات فوقعت على اسم من يمكن أن يكون مؤلفها. (صديق) .... من هو الصديق؟ إنه منذ الصفحة الأولى يبدو أنه واحد من مواليد قسنطينة ومن مواليد سنة 1905 فهو إذن رجل من أبناء جيلي. هذا كل ما في الأمر. هل يجب أن أعيد إليه أوراقه، ولأي صديق أعيدها؟ ولكن أليس في نشرها إرجاع لها إليه؟ فربما كانت هذه رغبته بالذات. فليتقبل القارئ إذن هذا الكتاب على أنه أفكار جزائري أراد أن يتحدث إليه من وراء حجاب محتفظاً باسمه لنفسه. مدينة الجزائر 5 أيار (مايو) 1966م مالك بن نبي

كان مولدي في الجزائر عام 1905، أي في زمن كان يمكن فيه الاتصال بالماضي عن طريق آخر من بقي حياً من شهوده، وإلإطلال على المستقبل عبر الأوائل من رواده. هكذا إذن فقد استفدت بامتياز لا غنى عنه لشاهد، حينما ولدت في تلك الفترة. فقد عرفت في عائلتي جدة لي؛ الحاجة (بايا)، عُمِّرت حتى جاوزت المئة. وماتت حين كان لي من العمر ثلاث سنين أو أربع لم أعرفها بما فيه الكفاية، غير أنها أورثت العائلة الكثير من مشاهداتها وذكرياتها القديمة التي انتقلت إليّ بالتالي. فقد سردت على مسامعي فيما بعد جدتي لأمي الحاجة (زليخة)، كيف تركت أمها الحاجة (بايا) وعائلتها مدينة قسنطينة يوم دخلها الفرنسيون. ففي ذلك اليوم لم يعد لعائلات قسنطينة من همّ، سوى إنقاذ شرفهم، وخاصة تلك العائلات التي كانت تكثر فيها الصبايا. فقد أخلوا المدينة من ناحية وادي الرمل، حيث توجد اليوم في الجهة السفلى مطاحن كاوكي، ومن الناحية العليا الجسر المعلق. فبينما كان الفرنسيون يدخلون المدينة من كوّة في السور، كانت صبايا المدينة يسرع بهن آباؤهن إلى الجهة الأخرى منه يتدلين هرباً، وكثيراً ما كانت تنقطع بهن الحبال فتلقي بالعذارى في هوة المنحدر. فمعمَّرتنا (بايا) عاشت هذه المأساة، إذ كان والداها يدفعانها أمامهما عبر أزقة مدينة مذعورة نحو هوة السور، كما قاد إبراهيم قديماً ابنه إسماعيل إلى مذبح الرب. فكان على جدتي إذن أن تُقَدَّم قرباناً على مذبح وطن ينهار، إنقاذاً لشرف عائلة مسلمة. ولكن جدتي نجت

أخيراً من مصيرها المرعب. فالحبل الذي تدلّى بها من فوق السور قاوم هذه المرة ولم يلق بحمله فسلمت جدتي، ولجأت مع عائلتها إلى تونس، وبعد سنوات عديدة قامت بزيارة مكة المكرمة لتعود بعدها مع زوجها وأطفالها إلى الجزائر. إنها الآن ميتة ولكن قصتها المحزنة ما تزال حية. ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصة على مخيلة أحفادها الصغار وأنا منهم، حين كانت تقصها علينا في ليالي الشتاء الباردة ابنتها- جدتي الحاجة زليخة- التي عُمّرت هي أيضاً فبلغت مئة عام. وهنا أضيف أن هذه المرأة كانت بارعة في قص الحكايات، إذ كانت تشدنا إليها ونحن متحلقون حولها. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد ثلاثين سنة- من هذا التاريخ حينما كنت طالباً في باريس- قمت ذات يوم مع عدد من رفاقي في الكلية بعملية استبطان. وكان على كل منا أن يجيب على السؤال التالي: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟ لقد أحيا هذا السؤال في نفسي ذكريات قديمة. كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان وضع عائلتي قد ساء مادياً، فجدي لأبي باع كل ما تبقى بحوزته من أملاك العائلة، وهجر الجزائر المستعمَرة ليلجأ إلى طرابلس الغرب، فقد هاجر مع الموجة الأولى من الهجرة التي اجتاحت حوالي عام 1908 مدناً كثيرة كقسنطينة وتلمسان، تعبيراً عن رفض أهالي البلاد معايشة المستعمرين، والذي يعد البذرة الأولى لكثير من الأحداث السياسية التي جرت فيما بعد، وخصوصاً لذلك الشعور بضرورة مقاومة المستعمر الذي تفجر في أول تشرين الثاني (نوفبر) سنة 1954. هذه الهجرة رافقتها تحولات اجتماعية كانت تتم تدريجياً في محيط مدينة قسنطينة، التي ما تزال تحافظ على المظاهر في الإطاار الاستعماري، إلا أن نظمها التقليدية وعاداتها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم

الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الجن، وحلقات الذكر عند الحنصالة والرحمانية والتيجانية، وخاصة العيسوية، كل ذلك كانت تقيمه عائلات المدينة في أبهة وروعة كما كان يجري في الماضي، مع أن مواردها لم تعد تسمح بذلك. ولو شاءت عائلة عرفت منذ قديم الزمان بالغنى أن تزوج ابناً أو بنتاً لها، لاضطرت أن تبيع بيتها، لتقوم بالمراسم المعتادة التي تليق بها. لقد احتفظوا بالمظاهر فيما هم فقدوا الجوهر، إلا أن المظاهر بدورها لم تسلم في النهاية من التغيير. فهذه العادات الأخلاقية والاجتماعية قد اعتراها التحول. وقبل مولدي ببضع سنوات لم يعد أهل المنارل يضعون في المشكاة التي كانت بجانب الأبواب، طعاماً للفقراء يكفيهم السؤال بصوت مرتفع وهم يطرقون الأبواب. لقد شاع الخمر وشاربوه. وبدت بوادر استغلال الثقة والمخالفة لتقاليد البلاد العريقة في الظهور، فيما نكفأت تتوارى شيئاً فشيئاً تلك التقاليد. ومنذ طفولتي اختفت عادة تضامنية جميلة تقضي بأن يعير الجار عروس جاره حلي الزفاف. لقد اختفت هذه العادة لأن كثيراً من الحلي المعارة في أحد الاحتفالات لا تعود لأصحابها. أما على الصعيد الاجتماعي فقد كان تدهور الإطار التقليدي أبلغ في الوضوح. فبعض النقابات المهنية كنقابة النساجين كانت قد اختفت منذ بعيد، فيما ظلت أخرى تقاوم قبل أن يدركها الأفول. لقد ولّت واحدة تلو أخرى لتخلي مكانها لما يستورد من السلع المصنوعة. كثير من شوارع قسنطينة القديمة لا تزال محتفظة بأسمائها القديمة مثل: رحبة الصوف وسباط شبارليه (¬1)؛ مع أن تلك الجمعيات المهنية التي ازدهزت قديماً ¬

_ (¬1) الشبرلة: حذاء النساء (ترجمة الأستاذ قنواتي).

والتي أعطت الاسم للشارع اختفت منذ زمن بعيد. لقد بدأ المجتمع القسنطيني يتصعلك من فوق ويسوده الفقر من تحت، حتى ملابس الرجال شملها هذا التطور المتدهور: ففي شوارع قسنطينة بدأت تختفي العمائم والبرانس والملابس المصنوعة من الأقمشة المطرزة. والمخازن التي كانت تصنع فيها تلك السلع- كمخازن الصدارين- بدأت تقفل واحدة تلو الأخرى. وأخذت تظهر أكثر فأكثر في هذه الشوارع البضائع الأوروبية، وأحياناً الأثواب المستعملة المستوردة من مرسيليا. مظهر المدن إذن أخذ يتغير من هذه الناحية، ثم من ناحية أخرى فإن تجمع الأوربيين الذي بدأ يتكاثر شيئاً فشيئاً، وأبناء الجالية اليهودية الذين أصبحوا فرنسيين دفعة واحدة، قد أدّى ذلك كله إلى أن تكون لهؤلاء مقاهيهم ومتاجرهم ومطاعمهم ومصارفهم وكهرباؤهم ومخازهم ذات الواجهات الجميلة. هذا كله أخذ يضفي على المدينة طابعاً جديداً، فحياة السكان الأصلية أخذت تتقلص لتنعزل في الشوارع الضيقة وزقاق سيدي راشد. لقد كان لهذه التغيرات علاوة على أثرها الأخلاقي والاجتماعي، تأثير نفساني مضنٍ على أولئك المسنين الذين كان جدي أحدهم، فكل ما يجري حوله كان يدفعه لترك الجزائر، إلا أن والدي لم يرافقه في هجرته لأن أمي كانت تتمسك بالبقاء قرب أهلها، الذين استقروا في تبسة منذ حوالي نصف القرن. ولما كان جدي الذي هاجر برفقة شقيق له وابن له هو عمي، قد حمل معه كل ما تمكن من حمله، فقد بقي والدي ردحاً من الزمن في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل. لقد كانت هذه الفترة من حياة عائلتي شديدة العسر. إذ مات عمي الأكبر في قسنطينة، وكان قد تبناني منذ أمد بعيد، مما جعل زوجه تعيدني إلى أهلي في تِبِسَّة على الرغم مما خلف ذلك من أسى في نفسها وفي نفسي. لقد فعلت ذلك لأن مواردها لم تعد تسمح لها بإعالتي.

وعلى هذا فقد انضمت إلى زمرة أطفال تبِسَّة، وفي هذا الوسط الجديد في عائلة مفرطة في الفقر أخذت أتعرف إلى جدتي لأمي، وسمعت الكثير من أقاصيصها وحكاياتها التي كان محورها العمل الصالح وما يليه هن ثواب، وعمل السوء وما يتبعه من عقاب. وكانت هذه الأقاصيص الورعة تعمل على تكويني دون أن أدري. فمنها عرفت أن الإحسان في مرتبة عليا من الأخلق الإسلامي. وإحدى حكاياتها عن الإحسان جعلتني أنا ابن السادسة أو السابعة من عمري أقوم بعمل ربما كان على ما أعتقد أسمى ما قمت به في حياتي. ففي العائلة الفقيرة لابد أن يجوع الصغار متى فقد الأب عمله، غير أن أمي كانت تحول دون ذلك بممارستها للخياطة، وبالتالي فهي التي كانت تمسك بكيس النقود الذي كان دائماً فارغاً. ولا أزال أذكر كيف أنها اضطرت ذات يوم لكي تدفع لمعلم القرآن الذي يتولى تدريسي، بدل المال سريرها الخاص، وأذكر أنه كان مصنوعاً من عدة ألواح من الخشب رفعت على صقالتين. وكان هذا يسمى في الجزائر آنذاك (السدّة). وموارد العائلة كما ترى كانت هزيلة، إلا أننا كنا نحصل على قوتنا بفضل حسن تدبير أمي وانكبابها الليالي الطوال على عملها. ولكن أمي في إدارتها لشؤون العائلة كانت تعرف أن ما يحصل عليه أطفالها من غذاء غير كاف، فكانت تسد هذا النقص بعمل إضافي أيام الجمع. كان هذا العمل الإضافي يعطينا شقيقتي وأنا يوم الجمعة قطعة من (الرفيس) وهي حلوى تبسية تصنع من الطحين والسكر والتمر والزيت. وفي ظهيرة يوم الجمعة أخدت نصيبي من الرفيس وأخذت أقضمه بنهم ولذة، وفجأة سمعت بباب الدار سائلاً ينادي: ((أعطوني من مال الله))، ولم أكن عندها أكلت من فطيرتي أكثر من النصف، ومع ذلك بادرت يإعطائها له عندما تذكرت واحدة من حكايات جدتي عن الإحسان وثوابه.

بعد ربع قرن من هذا الحادث وكنت قد أصبحت رجلاً، أخذت أدرك إلى أي حد كنت مديناً لتلك الجدة العجوز. والآن من الواجب أن ألاحظ في هذه المذكرات أنه في تلك الفترة البائسة حين لم تكن البلاد تمسك بمقاليد وجودها، ولا همّ للشباب قبل الحرب العالمية الأولى سوى الاستقرار بقدر الإمكان في الإطار الاستعماري، كان جدي القديم وجدتي يتشبثان برصيدهما التاريخي الأصيل، بتلك التقاليد وهذه الروح التي لولاها ما استطاعت البلاد أن تعود لصياغة تاريخها من جديد. ومهما يكن من أمر فعندما عدت إلى عائلتي في تبِسَّة، عدت إليهم وقد ارتسمت في نفسي انطباعات واضحة خلال إقامتي في قسنطينة عند عمي وزوجه. ولعل فقداني لما اعتدت عليه في مدينة الباي، كان يزيد في تأثير بيئة تلك المدينة على ذهني. ولهذا فقد ظلت قسنطينة تستقطب تفكيري طيلة سنوات طفولتي. ولكن تبسة أصبحت هي الأخرى مجال استقطاب آخر أضاف إلى ذاتي طابعه النفسي أيضاً. ففي هذه الفترة كانت المدينة قابعة تقريباً داخل حدودها البيزنطية القديمة، أعني داخل الأسوار التي بنيت سريعاً دون تنسيق لمواجهة غزو الفندال. وأضيف إلى المدينة أيام الحكم العربي ضاحية بنيت خارج الأسوار (مشتى) يسمونها الآن الزاوية؛ ولعلها سميت كذلك نسبة إلى سيدي عبد الرحمن، أحد الأولياء الصالحين. ويؤم هذه الضاحية عادة بعض رجال القبائل المجاورة (ليموشي واليحياوي وعبديس) ولعلهم يفضلون الإقامة فيها على المدينة ليبقوا قرب مواشيهم. في هذا الإطار قضيت القسم الأهم من طفولتي.

وكان للعائلات المقيمة داخل المدينة أيضاً قطعانها من الأبقار ترسلها باكراً لترعى خارج المدينة. فكانت تتجمع في الصباح عند باب (كراكلا) ويسميه المسلمون الآن باب (سيدي سعيد)، ليدعها تعود في المساء وحدها إلى حظائرها تضج بها أزقة المدينة كما تملؤها بما تلقي خلفها من أقذارها. ثم أضاف الحكم الاستعماري إلى المدينة القديمة الطابع، ضاحية إدارية أقام فيها الوحدات المختلطة لدينتي (تبسة ومرسوت)، وأخرى سكنية لإقامة الأوربيين من الموظفين ومعلمي المدارس ورجال الجمارك ورجال الدرك مع طبيب واحد أو طبيبة. فالإطار الذي سأقضي فيه شبابي يحكي باختصار قصة ألفي عام من تاريخ الجزائر. فبيئة تبِسَّة تختلف في عدة نقاط عن محيط قسنطينة حيث قضيت السنوات الأولى من طفولتي. لقد نجت بنسبة كبيرة من تسلط الواقع الاستعماري الذي سيسمى فيما بعد (الحضور الفرنسي)، وهذا ناتج من أن طبيعة المنطقة كانت تشكل نوعاً من الدفاع الذاتي ضد الأوربيين. ذلك أن تربتها لم يكن فيها ما يستهوي المعمر الأوربي، ففيها كنت ترى الدركي وبوليس الجمرك سابحين، في محيط من لابسي البرانص، خاصة في الأيام التي تقام فيها الأسواق، فاحتكاكها بالقبائل المجاورة قد حفظ لها طابعاً شبه بدوي مع شيء عن مظاهر حياة قبلية رعوية تفوح منها رائحة الحليب والخمير التي تَأَلَّفَت الأزقة. لم تكن النظم التقليدية لهذه المنطقة تفسح المجال كثيراً- كما هي الحال في الحواضر الكبرى- للمؤثرات الأخلاقية والاجتماعية الناتجة عن الوجود الاستعماري. فالسكان هنا لم يتخلوا عن فضائلهم وتقاليدهم. فلا يزال طعامهم الشائع الكسكسي والفطائر وشرابهم الماء القراح. لقد تمكنت تبسة من المحافظة على روحها القديمة وعزتها بفضل بساطة الحياة فيها وجدب تربتها. وهكذا

فبانتقالي من قسنطينة إلى تبسة، وجدتني في إطار جديد أمام عناصر ومؤثرات تختلف عن سابق نشأتي. في تِبسَّة تختلف وسائل اللعب عنها في قسنطينة، فأطفال مدينتي الأولى قسنطينة أَكثر رفاهية وبالتالي فقد كانت لعبهم أكثر أناقة ورقة، فالصغار منهم يتلهون بلعب صغيرة صنعت محلياً من خشب ملون، فهي أشبه ما تكون بتلك الصناديق الرخيصة الثمن التي كانت تحملها عرائس قبائل تبسة ضمن جهازها، والذين هم أسنّ كانوا يلعبون بالقفز أو بلعبة أخرى هي (الكينة quinet). في تِبسَّة كانت اللعب تعتمد على مزيد من القسوة والصلابة المتأثرة بالتقاليد المحلية، وبعضها كان أحياناً يقترب من السحر والشعوذة. هناك أيضاً الألعاب الموسمية، ففي الربيع تجري المباريات الرياضية بلعبة (الكورة) بين أبناء المدينة وأبناء الزاوية، وكثيراً ما كان بعض الكبار يشتركون فيها؛ أما الكورة فكانت عبارة عن عقدة من غصن سنديان أو أنها مصنوعة من شعر الماعز. أما قاعدة اللعب فتقضي بأن يحاول كل فريق توجيه كرته إلى أرض الفريق الآخر، بواسطة عصا صنعت من غصن سنديان معكوفة عند طرفها شويت على نار خفيفة (الخوص)، ولعلها تشبه إلى حد ما العصا المستعملة اليوم في لعبة (الجُلف). وهناك لعبة أخرى ربما كانت أخطر، وهي عبارة عن حرب صغيرة تقوم بين صبية تبسة وأولاد الزاوية. وهذه معروفة أيضاً في قسنطينة حيث يتقابل بضراوة أبناء حي القنطرة مع صبية باب الجدابية. على أن أكثر ما كان يثير اهتمامنا نحن أبناء تبسة السطو. كان يحيط بالمدينة منطقة خضراء يقوم بعض المزارعين باستغلالها في إنتاج الخضار، وفي موسم الخسّ والفواكه كنا نحن الأطفال نغرو هذه الحقول ونسطو على ما يتيسر من إنتاجها. بل كثيراً ما كان الأطفال يهربون من مدارسهم جماعات جماعات ليغيروا على هذه الحقول. ولعل أطفال

المدينة قد أسهموا مع تطور الحياة في تحويل هذه الجنائن إلى أرض موات، قسمت فيما بعد إلى قطع معدة للبناء عند ضاحيتي باب زعرور وباب الزواتين. أما أنا فكانت لي أماكن مفضَّلة وكذلك أيام مفضلة، فكان يطيب لي أن أسطو على شيء من الأثمار بعد ظهر كل أربعاء. ففي هذا اليوم بالذات كان معلم المدرسة- ولم أكن بعد قد دخلت المدرسة الفرنسية- يصرفنا قبل موعد الانصراف، بعد أن يكون قد حصل من كل طفل على قطعة نقدية من فئة القرشين، وهذا ما كان يوفر لي الوقت اللازم للسطو على البساتين. في تلك الساعة من بعد الظهيرة كانت الشمس عادة تلف المدينة بأشعة ذهبية رائعة، مما كان يجعلني أجد متعة كبرى في اللعب على أرصفة شارع قسنطينة أو في ساحة (كارنو Carnot) حيث أقيم كشك للموسيقا، اعتاد الفرنسيون أن يرقصوا على أنغامه في ليالي الرابع عشر من تموز. ولا أزال أذكر تلك الأمسية من بعد ظهر أربعاء ركلني فيها أحد الأوربيين لأنني دست على قدمه بينما كنت ألعب على الرصيف. وكان اللعب قرب الأسوار بالذات يطربني إلى حد كبير، إذ كان يجعلني أشعر وكأنني أنتقل إلى عالم آخر. في زوايا أخرى من المدينة كان يخالجني شيء من الاضطراب، فحين كنت أمر بصحبة أختي الكبيرة أمام الكنيسة كنت أتطلع باستمرار إلى جرسها، إذ كانت تتملكني فكرة لم أبح بها لأحد مطلقاً. كنت أعتقد أن شقيقتي الصغيرة وردة - التي لم أعرفها لأنها توفيت وأنا ما أزال رضيعاً- سجينة داخل الكنيسة كما لو كانت كنزاً سلب من أحد وأخفي في مكان أمين لا تصل إليه يد. لم تكن الزاوية القادرية بعيدة كثيراً عن منزلنا. وكان العرف آنذاك يقضي في حفلات الزواج والختان، بأن تواكب نوبة الزاوية العريس ليلة زفافه والطفل يوم ختانه. وما إن يصل إلى مسامعي إيقاع الضربات الأولى للنوبة حتى أبادر إلى الخروج، وحين كان يحدث ذلك عند الظهر كنت أعرف أنه

بمناسبة ختان عند العائلة الفلانية، وأسارع فوراً إلى اللحاق بالموكب كما كان يفعل جميع صغار الحي. هذه الذكريات تبدو لي غريبة حتى في هذا الوقت بالذات، ومع الأيام بدأت تتحسن أوضاع عائلتي المادية؛ فوالدي حصل على وظيفة في المجمع المختلط لتبسة، وذلك بفضل ما تعلمه قديماً في المدرسة. لقد أرسلوني إلى المدرسة الفرنسية، إلا أنني في الوقت نفسه ثابرت على التردد على مدرستي القديمة لتعلم القرآن، فكنت أقصدها كل يوم في الصباح الباكر لأكون فيما بعد عند الثامنة صباحاً في المدرسة الفرنسية. وكنت أجد في ذلك صعوبة كبيرة، أضف إلى هذا أن الفارق الذي كنت أحس به بين المدرستين والمعلمين، كان يجعلني لا أطيق هذا الوضع، فبدأت أتغيب عن مدرسة القرآن القديمة وسجادة الخلفاء، مما كان يعرضني لعقاب متواصل من أبي ومن معلم القرآن، وهذا زادني كرهاً بمدرسة القرآن، واسمترار هذا الوضع جعل حالي تسوء في المدرستين. وهكذا اقتنع والدي فانقطعت عن مدرسة القرآن القديمة لأنني لم أتعلم الكثير على الرغم من السنوات الأربع التي صرفتها فيها. فحتى ذلك الوقت لم أكن قد تجاوزت في قراءتي للقرآن سورة (سَبَّح). وإن من ذكريات تلك الأيام ما لا يزال في مخيلتي، فقد كنت كباقي التلاميذ أغسل كل صباح لوحي الحجري في بركة ماء صغيرة، تقع عند زاوية المدرسة، ومتى تشبعت مياه البركة بذلك الحبر الذي كنا نكتب فيه وهو الصماغ - وكان المعلم يصنعه عادة بنفسه مستعملاً دهن الخرفان- كنا نعمد إلى نقل المياه الملوثة بدلوٍ لطرحها في مكان خاص. شربت ورفاقي مرة من هذه المياه الملوثة لاعتقادنا بأنها كانت تضم كلمة الله. لقد كان قصدنا من ذلك نبيلاً ومؤثراً، فما أردناه هو أن نشرب كلمة الله المقدسة بالذات.

في المدرسة الفرنسية الوحيدة في مدينتنا الصغيرة، أوجدوا صفاً رابعاً خصص للصغار من أبناء البلاد Petits indigènes وهو عبارة عن (مطهر) يقضي فيه الولد عدة سنوات، قبل أن يلحق بالصفوف العادية، عقب امتحان يقرر ما إذا كان على التلميذ أن يدخل الصف الثاني أو الثالث. لقد كان لي حظ الدخول في الصف الثالث. وكان هذا في الواقع حظاً أتاح لي على ما أعتقد متابعة دراستي. فقد تمثل في شخصي معلمتي (مدام بيل) التي أحفظ لها حتى اليوم ذكرى حانية. ففي هذا الصف وجدتني لأول مرة مع أطفال أوربيين قد أتوا عن طريق القسم الخامس. لقد كان لدى أهلي اهتمام بوضعي في مستوى الوسط الجديد، فزودت بأولى صدارة سوداء وأول محفظة كتب بغية الانسجام مع رفاقي الصغار. لقد وضعني أول امتحان- وكان على ما أعتقد إملاء فرنسيا وبضعة أسئلة في اللغة- في مقدمة زملائي، وأعطاني الحق في أن أكتب ذلك اليوم التمارين على الصفحة الأولى لما يسمى دفتر الصف، الذي كان المعلم أو المعلمة يضعه بيدي الطالب كل صباح وفقاً لترتيبه. ولكن الذي بقي في ذاكرتي هو الحب الصاعق الذي جذبني بقوة نحو (مدام بيل). ففي صباح أحد الأيام استيقظت وأنا أستشعر حباً جنونياً نحو معلمتي الجديدة كما لو كانت أمي بالذات، ولعل من السهل تفسير هذه الحادثة إذا ما لجأنا إلى نظريات فرويد. والغريب أن هذه السيدة قد استجابت لنزوة قلبي الصغير. وعلى كل فقد بدأت دراستي بداية طيبة وتصرفاتي في الشارع بدأت شيئاً فشيئاً تتسم بطابع الهدوء والانتظام، وربما منذ تلك الفترة بالذات بدأت أكثر من التردّد على المسجد وخاصة أيام العطل. إذ كانت تلذ لي بصورة خاصة المشاركة في صلاة الجمعة، ففي هذه المناسبة فقط يسمح لي أن أرتدي قميصي الأبيض المزركش وبرنصي الصغير. وكنت قد حصلت على هذه الملابس الجميلة هدية من

امرأة عمي بهيجة، تلك المرأة التي كفلتني في طفولتي في قسنطينة وما برحت تزورنا من آنٍ لآخر في تِبِسَّة، مما كان يبعث دوماً في نفسي الشوق والحنين للأرض التي ولدت فيها. وقد بات الآن في وسعي أن أتتبع أحاديث أفراد العائلة، وبن خلال ذلك عرفت عن طريق امرأة عمي بهيجة في إحدى زياراتها أن جدي لأبي قد عاد إلى قسنطينة من طرابلس الغرب بعد أن احتلها الإيطاليون. فقد مرَّ زمن طويل كنت خلاله ألهو وأدرس على عادتي في تبسة قبل أن تتاح لي فرصة السفر لرؤية قسنطينة، والتعرف إلى جدي الذي لم يسبق لي أن رأيت وجهه من قبل. في السهول المحيطة بالمدينة كانت العائلات القديمة لا تزال تعيش من عمل زراعي تمارسه فيؤمن الغذاء لها ولمواشيها. وكثيراً ما كان يشاهد القائد الصدّيق جالساً أمام داره بُعَيْد الظهر في شارع (بريزون Prison )، وكان يجلس معه بعض أصدقائه القدامى يشربون القهوة ويلعبون (الدامة). لم يعد يمارس عملاً، اللهم إلا أن يعير برنصه الأحمر القديم إلى الشبان ليلة زفافهم، وأن تقدم زوجه لعائلاتهم القِدر الكبير الذي يستعمل عادة لطبخ الكسكسي في المناسبات الكبيرة. فمنذ أن اجتاحت الحرائق الكبيرة في عام 1912 غابات المنطقة ودمّرتها، بدأت الأوضاع الاقتصادية لهذه العائلات تسوء تدريجياً، حتى أصبحت صعبة للغاية، وبدأ التحلل الاجتماعي الذي عمّ المنطقة ينتشر حتى عبر أسوار المدينة الرومانية القديمة. لقد بدت مدينة تبسة في ذلك الوقت تعيش حياتها المعتادة داخل أسوارها، والحدث الفريد فيها هو الانتخابات، إذ كانت المدينة تتحسس الأحداث السياسية وكانت تتنازعها زعامتان: (عباس بن حمانة) وهو مستقل، و (بن علاوة) وهو هن أنصار الإدارة.

وكما كان (بن رحال) من أوائل رجال الفكرة الوطنية غربي الجزائر، فقد كان معاصره (بن حمانة) مثله في شرقي البلاد وإن لم يكن ذا شهرة واسعة. لقد تعارف الرجلان وشكلا أول وفد جزائري سافر إلى باريس في تلك الفترة، وقدم للحكومة الفرنسية بعض مطالب أبناء البلاد وقد خلف (عبابس بن حمانة) وراءه في باريس أثراً طريفاً؛ بالطبع لم يمنحه الفرنسيون الحقوق التي جاء يطلبها لبلاده، إلا أنهم على كل حال منحوه وسام الاستحقاق الزراعي؛ وحين سأله فيما بعد أحد الأوربيين في الجزائر مازحاً: ((ماذا زرعت حتى تنال هذا الوسام؟)) فأجاب: ((لقد زرعت نفوذاً في باريس)). على أن اسم هذا الرجل قد ارتبط في تلك الفترة بقضية اغتيال سياسي هزّ كيان الإدارة الفرنسية في الجزائر وكان له وقع كبير، حتى إن أحد الكتاب الأوربيين، وضع كتاباً حول الحادث أسماه (قضية تبسة). على أن (بن حمانة) لابد أن يُذكَر على أنه أول جزائري عمل على بعث اللغة العربية في البلاد، وبفضله ارتفعت ضمن أسوار تبسة جدران أول مدرسة. هكذا انتعشت الحياة في المدينة فجأة وسادها جو من الصراع السياسي، إذ كانت الأيام التي تسبق الانتخابات البلدية حافلة بالنشاط، أما الأمسيات التي عقبت ظهور النتائج الانتخابية فكانت أكثر حرارة بسبب المهرجانات التي ينظمها الحزب الفائز في شوارع المدينة. ولم تكن المواكب لتكتفي بالتجوال في الشوارع والأزقة، بل كانت تتوقف أمام منازل من ينتمون للحزب الخاسر للطرق على أبوابها بالعصي. وفي إحدى الأمسيات توقف الموكب أمام دارنا، إذ كنا من أنصار (صالح بن حمانة) الذي أخفق في الانتخابات، فكان من الطبيعي أن يتلقى بابنا نصيبه من ضربات عصي الفائزين. وهنا أود أن أعترف بأن الخوف قد تملّكني في تلك اللحظة، إذ خشيت ألا يقفوا عند هذا الحد وأن يدخلوا دارنا

ويحطموا كل شيء فيه، ويحطموني أنا أيضاً بضربات عصيهم قطعاً صغيرة. ولما كان والدي خارج الدار في تلك اللحظة فقد اختبأت مذعوراً وراء أمي، التي كانت تتفرج على ما يجري في الخارج من فتحات النافذة. كان لتبسة وجه آخر هو الوجه الشعبي، ففي (أيام السوق) كان يلذ لي أن أذهب هناك- إذا صادف يوم عطلة في مدرستي- وأستمع إلى الحكواتي، يقص بطولات سيدنا علي في الساحة قرب باب الجديد، وكان يطربني أكثر فأكثر أن أتحلق حول الحاوي وهو يرقص ثعابينه، أو أقف حول أولاد (بن عيسى) أتفرج على ألعابهم البهلوانية التي كان يزيد في بهائها حركات المهرج الذي كان يرافقهم، والذي كانوا يطلقون عليه اسم (المُسيّح). في المساء كان الناس يتجمعون في المقاهي الجزائرية يستمعون إلى القصاصين يروون حكايات ألف ليلة وليلة أو سيرة بني هلال. أما من كانوا يفضلون البقاء في المسجد بعد صلاة العشاء فكانوا يستمعون إلى ما يلقي الإمام من دروس. وبذا كانت تبسة عبارة عن مركز ثقافي تلتقي فيه عناصر الماضي بطلائع المستقبل، وبالطبع فإن مداركي كانت تنمو متأثرة بهذين التيارين. هكذا كانت الحياة في تبسة في تلك الحقبة من التاريخ التي أسماها الفرنسيون فيها بعد (العصر الجميل). وذات صباح شاع في تبسة خبر اغتيال (عباس بن حمانة). وبعد أيام قلائل شاهدت المدينة آخر عيد للحرية 14 تموز (يوليو) يقيمه الفرنسيون قبل انتهاء الفترة الجميلة. لقد وضع الفرنسيون على كل جانب من بوابة الثكنة العسكرية مدفع ميدان مخصَّصاً لتلك المناسبة، وقد بدا لي أن لهذا علاقة بمقتل (بن حمانة)، بل أكثر من ذلك حين اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى بعد ذلك بعدة أيام خُيل إلي أن ذلك ما وقع إلا بسبب حادث الاغتيال.

حين اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى التي غيرت فيما بعد وجه العالم، لم يكن لذلك الحدث وقع كبير في نفسي، فالرابع عشر من آب (أغسطسى) عام 1914 لم يكن بالنسبة لي غير يوم كباقي أيام السنة؛ وحين سمعت جدتي تستعيد ذكريات حرب عام 1870 أو (عيطة البروس) كما كانت تسميها، خُيِّل إلي أن ما حدث في ذلك اليوم كان فقط بسبب مقتل (بن حمانة). وعلى كلٍ فإني أعتقد أن جميع الشعوب كانت في ذلك الوقت طفلة مثلي، فلم تستطع أن تقدر ماهية الحدث وأبعاده. ذلك أنها لم تكن تستطيع ذلك. من المؤكد أن مظاهر الاندفاع الوطني كانت كثيرة وشاملة. إنني لا أدري ماذا فعل سكان برلين وكذلك سكان لندن لدى سماعهم نبأ الحرب، غير أن ما أعرفه هو أن أهالي باريس قد اندفعوا يحطمون واجهات المحلات التي افترضوا أنها تخص الرعايا الألمان، كما خرّبوا منشآت كثيرة منها مستودعات ( Maggi). وساروا في تظاهرات ضخمة مخترقين شوارع باريس نحو (محطة الشرق La gare de L’Est) وهم ينشدون المرسلياز لوداع قوافل الشباب المسافرة إلى الجبهة. أما في تبسة فذلك اليوم كان عادياً كغيره: الأطفال يتلهون بتسلق الأسوار والأمهات يغزلن الصوف أو يطبخن الكسكسي، والحكواتي يسرد كعادته أخبار سيدنا علي أو يقصّ شيئاً من سيرة (أبي زيد الهلالي) في ساحة السوق؛ أما في المساء فكان الناس في الحي الأوربي من المدينة يمكنهم أن يشهدوا فيلماً تعرضه سينما متجولة تمر بالمدينة مرة في الأسبوع، فتعرض على رصيف أحد المقاهي أفلام (ماكس لينتر Max Linter)؛ أما في الجانب الغربي من المدينة فكان الناس يستمعون إلى فصل من قصص ألف ليلة وليلة، يُقرأ في أحد المقاهي الجزائرية. لكن البلاد

أخذت رويداً رويداً تدرك حقيقة ما يجري، خاصة حين بدأت أولى فرق المتطوعين تغادر المدينة، فكانت أمهاتهم ترافقهم حتى المحطة وتودعهم بالبكاء والنحيب. وبدأت المدينة تستشعر بصورة أوضح جو الحرب، حين بدأت السلطة تَحُدُّ من استهلاك بعض السلع كالسكر والبترول الخ .... وخاصة لما ظهرت في البلاد تلك القطع النقدية الورقية الصغيرة. في تلك الفترة وفي تلك الظروف بدأت تظهر أسطورة (الحاج غليوم)، وبدأ الشعراء الشعبيون يمجدونه مستعينين لذلك بالأدب الشعبي القديم يبعثونه من سباته، وأحياناً كانوا يخلقون أدباً جديداً لهذه الغاية، وقد أعاد هؤلاء إلى الأذهان في منطقة تبسة أقوال (سيدي علي بن الحفصي) القديمة حول الحرب والبطولات. وفي منطقة قسنطينة أضيف إلى التراث الشعبي عدة أسئلة جديدة تدور حول موضوع الحرب. ذات يوم كان معلم عجوز في مدرسة قرآنية في تبسة يروي لتلاميذه أن (غليوم) قال: ((أخشى أن تنتهي الحرب قبل أن أتمكن من التعبير عن كل أفكاري وتحقيق كل ما عندي من اختراعات)). هذه الأوهام عاشت لفترة ما في ضمائر الجماهير، أما بالنسبة لي شخصياً فإن حدثاً مهماً جاء يغير مجرى حياتي. في مساء أحد الأيام كنت عائداً من المدرسة إلى المنزل فوجدت أمي بانتظاري عند أعلى درج السلم متأبطة حقيبة وضعت فيها ملابسي. عانقتني بحنان ورافقتني نحو السلم وهي تقول: ((أسرع نحو عربة البريد لتجد والدك فترافقه إلى قسنطينة)). وقد اندفعت مسرعاً تحدوني رغبة ملحة

لرؤية امرأة عمي بهيجة، والتعرف إلى جدي لأبي الذي كنا نسميه (بابا الخضير)، كما كنت أرغب أيضاً التعرف إلى عمي محمود وإلى عم والدي محمد. في الواقع منذ أمد بعيدى كنت أتمنى العودة إلى قسنطينة. ومن ثم فكلما مرت العربة تحت شبابيك مدرستي، وكلما تناهى إلى سمعي وقع سوط السائق يهوي على رؤوس خيوله ذات الصفين كنت أتنهد بأسى. لقد كان عجاج غبارها المنبعث وهي تتركه وراءها، في رواحها المتاخر على طريق قسنطينة، وغدوها عندما ألتقي بها وأنا عائد من المدرسة، يسلمني إلى أحلامي، وبصورة عامة لقد ولدت وفي نفسي ذلك المزاج الذي وصفه بدقة مؤلف كتاب (رجال الأسفار). في ذلك المساء خامرتني نشوة الانتصار وأنا في ذلك المقعد الذي هو خلف سائق العربة. وعندما مرت العربة أمام مدرستي تحت نوافذ صفي، كان لدي شعور بالنصر والتحرر. كان النهار قد قارب نهايته حينما توقفت العربة في استراحتها الأولى في (يوكس)، فهناك بدلت جيادها وقد حصل هذا عدة مرات أثناء الليل في المحطات التالية. وفي الفجر وصلنا إلى عين البيضاء، وهناك كان علينا أن ننتظر قطار قسنطينة الذي سوف يسافر بعد الظهر. لقد قضينا الليل في غرفة حمام مغربي. والقليل من الأهالي كانوا يحجزون غرفة في فندق لأنهم غالباً ما كانوا يطردون. وحملنا القطار من عين البيضاء على خط ضيق في الدرجة الثالثة منه، وكم كان مثيراً في نفسي أن جاوزنا (الخروب) فتراءى لي بريق ينسلّ من الأفق الدامس من الليل؛ لقد لاحت قسنطينة بأضوائها الكهربائية. خرجنا أنا وأبي سيراً عل أقدامنا من المحطة. وحين وقعت عيني على جسر القنطرة بأنواره الكهربائية بدا لي لأول وهلة كأنه من عمل الجان والعفاريت. ولكن نظرة مني في قنطرة الجسر تاهت في أعماق (وادي الرمل) الداكنة.

لم أكن أعرف كيف أسير لكن دقائق (الشارع الوطني National) الذي مشينا فيه أثارت انتباهي، وكذلك خيول العربات القادمة من المحطة تحمل المسافرين تضرب إيقاعاً بحوافرها على البلاط الصلب للطريق، لقد أسلمتني هذه الضجة في الواقع إلى صورة تختلف عن أختها في تبسة. ففي تبسة الحوافر صامتة لأنها تغرق في الغبار الذي يغطي شوارع المدينة الصغيرة. ونظرت يميني فبدت لي السلم التي تصعد باتجاه الحي العربي، وكم تمنيت في تلك اللحظة لو أني صعدته ونزلته. ومما لفت نظري ارتفاع الأبنية في هذه المدينة، بينما تقصر عنها أبنية تبسة حتى في الشارع الرئيسي. وكذلك الإضاءة بالكهرباء لم يسبق لي أن شاهدتها. وباختصار فإنني أتصور أن فلاحاً صغيراً يأتي من الريف إلى باريس في الليل، لم يكن ليختلف انطباعه عما استولى على نفسي في تلك الساعة. وفجأة رأيت والدي يدخل مقهى عربياً يستعد صاحبه لإغلاقه. لقد كان يشعل نار الوجاق من أجل الصباح التالي. إن رقة الحاشية و (الشاش الأغباني) الذي كان يحيط بوجهه قد أشاعا في نفسي اطمئناناً واستلطافاً، لذلك الرجل العجوز الذي خف لاستقبالنا. لقد كان يدعى سي (بن يمينه)، وبينما كان يتبادل وأبي التحية كنت ألقي نظرة حول الحصر التي تغطي الأرض، وذلك الوجاق الذي صُفَّت حوله بذوق وأناقة فناجين القهوة وأباريقها ذات الأيدي الطويلة. لقد أودعني والدي ذلك الشيخ ليقودني إلى منزل امرأة عمي بهيجة ثم انصرف. وهكذا أكمل الشيخ إعداد مقهاه للصباح، وأغلق الأبواب ثم سار بي عبر مجاهل شوارع قسنطينة العربية حتى وصلنا. وقبل أن نعبر إلى تلك الدار التي أثارتني باتساع أرجائها ونظافة جدرانها المطلية بالكلس الأبيض كباقي بيوت

قسنطينة، مررنا بمدخل يدعى السقيفة. ولعل مردّ تلك النظافة إلى العادة الشائعة في المدينة التي تفرض على المستأجر واجب طلاء الجدران بالكلس مرة كل سنة. وأنا الآن أدرك نظام السكن في تلك البيوت، وغالباً ما يوجد عشرون مستأجراً تنمو العلاقة بينهم في حدود ضيقة. فكل بيت منها عبارة عن جماعة تجد فيها الأرملة والطالب والعامل والتاجر الصغير والمستخدم والموظف الصغير. لا يشكلون إذن طبقة ولكن جماعة تتشابه ظروف حياتهم. فهنا مستأجر أساسي مثل (سي بن يمينه) الذي يستأجر داراً ويختار بعد ذلك مستأجرين ثانويين، يدفعون بدورهم بدل الإيجار كل بما يشغل من مساحة. وكانت أمي بهيجة واحدة من هؤلاء المستأجرين في تلك الدار، فالمورد الذي كان يؤمن لها الحياة مع عمي الكبير، انقطع بانقطاع المرتب التقاعدي الذي كان يتقاضاه باعتباره من متقاعدي حرب عام 1870؛ وهي لذلك تعمل أمينة صندوق لحمام. إنها وظيفة ثقة تناسب هؤلاء العجائز لاعتبارالت تتعلق بأمانتهن. وناداها سي (بن يمينه): بهيجة ... بهيجة. ها قد وصل الصدّيق؛ وسمعتها تصرخ بفرح وتنرل السلم بسرعة لتحضنني بذراعيها. وصعدت معها درج السلم حافي القدمين كما كانت تقاليد تلك البيوت، ثم قادتني إلى الحجرة الصغيرة التي تشغلها في الطابق الأول وأمضيت الليلة الأولى بين ذراعيها. هكذا بدأت مرحلة جديدة من طفولتي. كان أول ما فعلت في الصباح أن تعرفت على جدي الذي أصبح صديقاً لي بسرعة. فقد أخذ يطلعني على معالم المدينة، ويقودني أحياناً إلى الزاوية العيسوية التي كان أحد أركانها، وكانت تحيي كل سبت حلقة من الذكر تعرض فيها الكرامات المدهشة والعجائب. وأحياناً

أخرى يصحبني معه إلى ذلك المقهى الصغير في حي (بن شريف) حيث يلعب (الداما) مع أقرانه، ويستعيد معهم ذكريات السنين الخوالي، وقد تتدخل أحداث الحرب الدائرة التي دخلت فيها تركيا إلى جانب ألمانيا والنمسا فتجذب إليها أطراف الحديث، فهذا الحدث وضع موضوع الحرب على الصعيد الديني لأن خليفة المسلمين في استنبول أصبح الآن طرفاً فيها. والخليفة لديه بحسب اعتقادهم سلاح رهيب. فإن سيدي (زرودي) معلم القرآن الذي يسكن معنا في الدار نفسها قال لهم: ((لو أن الخليفة لوّح براية النبي محمد التي لديه فالعالم سيلتهب)). هذا التهديد التقي لم يكن بجاجة للتنفيذ، فالعالم كان يشتعل فعلاً. لقد كان لمعركة الدردنيل في قسنطينة دوي كبير خاصة في الوسط اليهودي. فالقيادة الفرنسية كانت حذرة أن يشترك الرماة الجزائريون في المعركة، فاختارت لذلك الميدان فرقة الزوارق التي يكثر اليهود فيها. لقد لف الغلاء الحياة في المدينة فهدم طبقة قديمة تعيش على موارد الأرض والحرف التقليدية، ورفع على أنقاضها بفضل المضاربة طبقة من الأثرياء الجدد تعيش على التجارة. لقد آذن ذلك العصر بأفول نجم العائلات القديمة لقسنطينة، وأضحى الخط الاقتصادي الجديد يفرض تحولاً في العقلية وفي مظاهر الحياة. لقد تَكّيَّفَ جدي مع هذا التحول بطريقته الخاصة، أعني بطريقة شيخ يرى التحول يرزأ وسطه العائلي. لقد كان يتحدث عن ذلك مع أصدقائه الشيوخ بمرارة حينما كنت أرافقه أحياناً إلى كشك للدخان يملكه في ساحة (بريش Brèche) صباحاً، ليقرأ الصحيفة ولينزه كلبه. لقد أراد جدي على الرغم من ذلك كله أن يحافظ على مظهر سَيِّد. فكان يلبس بأناقة تلك الثياب ذات الطابع القسنطيني، ويسلم كشكه لإدارة شخص آخر فيما هو يصرف وقته في الحديث وقراءة صحيفته ولعب الداما، وكان الصيد يستأثر باهتهامه الكبير، لقد كان صياداً ماهراً وكلبه الأصيل رفيق وفي.

ولعل أكثر ما كان يغيظ جدي ظهور طبقة الأغنياء المحدثين، فقد كان يرى أن إطار المجتمع يتغير بشكل أعمق مما كان يظن، فولده عمي محمود ترك السروال ولبس البنطال الطويل وربطة العنق. ثم جاء ينشئ في قسنطينة مع عدد من أصدقائه جمعية هواة للموسيقا هدفها طابع الموسيقا التقليدي. والذي كان يدعو إلى الدهشة في جدي أنه كان يجمع في شخصه تيارين متعارضين، كان لهما فيما بعد دورهما في تكوين العقلية الجزائرية. وأريد أن أتكلم عن هذا الذي سمي فيما بعد (السلفية أو المرابطية). كان جدي من مؤيدي الشيخ (بن مهانة) أحد رواد رجال الإصلاح الجزائري في نهاية القرن الماضي، وكان اندفاعه لتأييد الإصلاح يعادل ارتباطه بالطريقة العيسوية. ولم يكن الخلاف بين هذين التيارين المتعارضين قد اتخذ ذلك الطابع العنيف الذي عرفه جيلنا خصوصاً بعد سنة 1922، مع ظهور الصحافة المعبرة عن الرأي العام كصحيفة (المنتقد) التي ظهرت في مدينة قسنطينة. في منزل جدي كانت شخصية غامضة لم أتعرف عليها جيداً، تلك هي شخصية (محمد) شقيق جدي. لم أكن أدري السبب في أنه بغير عائلة؛ إنما أعرف فقط أنه كان في طرابلس يحارب الإيطاليين، وأنه وقع أسيراً في أيديهم ثم أطلق سراحه ليذهب إلى الجزائر مع جدي وعمي. كنت أراه وحيداً مرتدياً جلبابه الصوفي. يمر بنا ليصعد إلى غرفة في أعلى المنزل تسمى (السرايا) يقيم فيها وحيداً. وأحياناً ألتقي به خلال تجوالي على الجسر الطويل لسيدي راشد، إذ أراه أحياناً يتكئ على سوره ساهماً في الأفق البعيد. وخلال هذه الفترة التي قضيتها في قسنطينة لم تتقدم دراستي كثيراً، فقد أفسدتني أمي بهيجة بعنايتها الزائدة، وحين كان عمي محمود يحاول تأديبي كان

جدي يحول دون ذلك، أما عمي محمد فلم يكن يتكلم معي. كنت أقضي وقتي متسكعاً ألهو بأجراس البيوت في (الشارع الوطني National)، وقد بهرتني السينما خاصة مع أول فيلم أميركي كنت أتابعه في كل عرض هو (عجائب نيويورك). وفي يوم لم يكن معي نقود فعمدت إلى بيع حذاء جديد، كانت قد اشترته لي أمي بهيجة في الصباح، ودخلت بثمنه إلى سينما وكان يعرض فيلم ( Nunez). وأمام تكاثر تصرفاتي السيئة اضطرت المرأة المسكينة أن تكتب لأهلي طالبة إليهم أن يعيدوني إلى تبسة. لقد تركتُ قسنطينة: أمي بهيجة وجدي وكلبه، بأسى شديد. ولكني حملت معي من تلك الإقامة فائدة واحدة فالأمور بدأت تتصنف في تفكيري وذاتي. ففي تبسة كنت أرى الأمور من زاوية الطبيعة والبساطة، أما في قسنطينة فقد أخذت أرى الأشياء من زاوية المجتمع والحضارة واضعاً في هذه الكلمات محتوى عربياً وأوربياَ في آن واحد. ... لم تتغير تبسة خلال غيابي عنها، إنما شيء واحد خيب أملي، هو أنني لم أجد معلمتي القديمة السيدة (بيل)، ولكن لحسن الحظ فإن امتحاناً مختصراً أتاح لي الانتقال للصف الثاني، حيث وجدت الآنسة (رافي Rafi) وهي مدرسة يحبها تلاهيذها بطريقة لا تخلو من العقد، فقد كانت جميلة جداً. وفي يوم من الأيام اضطرت أن تطلب من مدير المدرسة السيد (آدم) تأديب طفل يهودي في صفها لموقف غير مهذب صدر عنه. لقد كنت مثالاً للنظافة في الصف. وذات صباح حينما كانت الآنسة

(رافي) تستعرض أيادي تلاميذها في ملعب المدرسة عندما دق الجرس توقفت عندي وقالت للتلاميذ: ((هكذا تكون الأيدي نظيفة)). كنت أدرس بجد طيلة أيام الأسبوع. وبما أني كنت أحرص على كتابة وظائفي مساء السبت فقد كنت أحصل على شيء من الحرية يوم الأحد. وبالتالي كنت أقضي يومي كله تقريباً في مخزن سي (شريف برقوقة) بَقَّال الحي. وبسبب ظروف الحرب التي أدت إلى فقدان الورق التجاري المستعمل في لف المشتريات، فقد اضطر كسائر زملائه إلى استبدال الورق المطبوع به. كانت قصة الحرب آنذاك تظهر في أجزاء مطبوعة، أجد معظم أعدادها الصادرة في مخزن سي شريف، وكنت أغرق في قراءتها باهتمام مولع، خصوصاً لما تحتويه من صور كثيرة. لقد حملت من قسنطينة بفعل الاحتكاك بجدي وبالطالب سي زرودي ميولاً تركية وجدت غذاءها في تلك القراءة. فمعركة الدردنيل وجبهة سلونيك لاحت مغامراتها أمام مخيلتي. فقد تتبعت الجيش التركي على رمال سيناء حتى مشارف السويس التي كاد يجتازها لو لم يقطع لورنس عنه إمداد الماء مستعيناً بالقبائل العربية. باختصار فقد أصبحت قريباً من مسرح الحرب العالمية الأولى وألفت سمعي أسماء أمثال (شارلروا- المارن- الأردان- الفردان). وذات يوم سمعت حولي حديثاً عن حركة عصيان في عين التوتة. ورأيت بنفسي في تبسة الحاكم وأعوانه يُنزلون إلى المحطة قافلة من المجندين من أهالي البلاد، والحجارة تتساقط على باب قسنطينة كالمطر، وقبعة الحاكم تقع على التراب، بينما كانت النسوة من قبائل ليموشي يجرحن خدودهن بأظافرهن. لقد أبصرت تجارة خاصة النور: فقد رأيت رجلاً ذا ساق خشبية يبيع

الجيش الفرنسي لحم أبناء المستعمرات بالكيلو. والرجل المبيع يقبض ثمن نفسه بمقدار وزنه. وأحد هؤلاء المبيعين يدعى (ولد الجبلي) استهلك ثمنه باحتساء الخمر ثم تسكع بالقرب من الأسوار وهو يغني راثياً نفسه: ((كم بقي لك من الحياة ياجبلي؟ كم بقي لك من الحياة؟)). ((يقول الفرنسيون: إنه ليس لديهم ما يكفي من الجند)). وأصبحت هذه الأقوال أغاني للأطفال. وكثيراً ما كنا ندور داخل الأسوار نغني هذه الأقوال بصوت حاد، ونترنح ذات اليمين وذات الشمال مقلدين صاحبها. لقد سافر ولد الجبلي ولم أعد أراه فيما بعد، ولكن من وقت لآخر كان يعود بعض الجنود في إجازة تزين صدورهم أوسمة. وكان منهم ملازم يدعى (صدوق شتوكا)، كان بدوره يبهرنا زيه العسكري البراق وقامته الرشيقة. وفي يوم من الأيام دوى طبل البلدية، وكان يحمله يهودي عجوز يدعى (هافي). فاستقطر الأطفال من كل زاوية في الشارع ثم نادى: ((بيان من عمدة تبسة. في هذا اليوم دخلت أميركا الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا)). ولا أحسب هذا البيان استرعى انتباه جدتي أكثر من البيانات الأخرى للسيد العمدة. كنت أتابع دائماً قراءة نشرات الحرب عند البقال سي شريف، الذي كان أحياناً يترك لي إدارة محله. وكنت في الصف الأول حينما عم الحزن ذات يوم أبناء الأوربيين في تبسة، حتى إن مدام (دوننسان Denoncin) التي يعرفها التلاميذ جيداً، لأنها تبيع في مخزنها الأدوات المدرسية، غمرها البكاء. فقد أعلنت جريدة (الشؤون العامة لقسنطينة Dépêche de Constantine) بأن الطائرات الألمانية دمرت باريس بقنابلها. وفي صباح يوم آخر حوالي الساعة العاشرة سمعنا ونحن

في الصف جرس الكنيسة الصغير يدق بقوة، والآنسة (آدم Adam) التي كانت تنوب عن والدها في التدريس بسبب مرضه توقفت في ذلك اليوم، لقد فتحت النافذة فإذا واحد من الذين يمرون في الطريق يقول: ((لقد طلب الألمان الهدنة))، وهكذا خرج كل من في المدرسة إلى الخارج. في ذلك المساء شعرت في عائلتي بشيء من الامتعاض يصعب التعبير عنه بوضوح. ولكن في الخارج وخصوصاً في ساحة القصبة شاع الصخب وأشعلت النيران وقد رأيت (مدام Denoncin) تضحك وتطلق الأسهم النارية من عتبة دارها. كان ذلك يوم الحادي عشر من تشرين الثاني (نوفبر) عام 1918. الساعات التي تبعت ذلك التاريخ لم يكن لها المعنى نفسه في جميع أنحاء العالم؛ ففي الجزائر بدؤوا يتحدثون كثيراً عن النقاط الأربع عشرة لـ (ويلسون)، والشعوب بدأت تطالبه بحق تقرير مصيرها. وكان حظ الجزائر من ذلك توسيع المشاركة في الانتخابات البلدية، وكان التمثيل منقسماً إلى طائفتين داخل مندوبي الشؤون المالية والحق بحمل سلاح الصيد؛ لقد كان ذلك كثيراً. وهكذا عمل المعمرون الفرنسيون بطريقتهم الخاصة؛ إذ قام وفد من أبناء البلاد (رؤساء المُستعْمَرين) على رأسه (بن قِديري)، وذهب ليحتج في باريس ضد تجاوزات الحكومة الفرنسية في منحها (للسوقة من الأهالي) حقوقاً مفرطة. وقد ظهر أدب لتأييد ذلك في الجزائر، وبرز رجل يدعى (لويس بيرتران Louis Bertrant) كان على رأس حركة من أجل استمرار اللاتينية في إفريقيا الشمالية والوجود الفرنسي في الجزائر. ومن جهة أخرى كانت هناك معاهدة (فرساي) التي افتتحت عهد السلم الأوربي في العالم. أما الامبراطورية العثمانية فقد تجزأت، و (الرجل المريض) بات تحت

حراسة الأسطول الإنكليزي والفرنسي والإيطالي. وفي جنيف وضع الحجر الأول لعصبة الأمم المتحدة. أما فيصل ابن شريف مكة فقد طرد مع مطامحه من سوريا. والوطنيون كان لهم معركتهم في ميسلون. وكان نتيجة ذلك أن دخل الجنرال غورو إلى دمشق حيث ذهب إلى قبر صلاح الدين، وأمام مقام البطل الأسطوري صرخ: ((صلاحَ الدين! ... إن حفيد (جودفروي Godefroy de Bouillon) أمام قبرك .... لقد انتهت الآن الحرب الصليبية)). والإنكليز المحتلون لفلسطيق بدؤوا يحضرون لقيام دولة إسرائيل، التي رأت النور بعد حرب عالمية أخرى وفاء لوعد بلفور. و (لورنس) من أجل تعزية الشريف حسين العجوز في تبديد حلمه في إمبراطورية عربية مشحه زورقاً صغيراً راسياً في جدة. وحينما رفع ذلك الزورق الصغير مراسيه، كتبت جريدة (أم القرى) التي أسسها الشيخ العقبي في مكة تقول: ((لقد استقل الأسطول الملكي البحر)). أما أميركا فقد كانت قطب العصر في السياسة والعادات؛ والنساء الأوربيات اللواتي كن في الجرائر بدأن بقص شعورهن، والفساتين أضحت قصيرة وأحذيتهن هن طراز (ريشيلو Richelieu) حلت نهائياً محل الأحذية المزررة أو ذات الأشرطة عدا أحذية العجائز. لقد أصبح الدولار متداولاً وأنزلت (وولط ستريت Wall Street (¬1)) الاميركية منطقة (سيتي City (¬2)) الإنكليرية عن عرشها، فالعالم أخذ (يتأمرك) Le monde s'americanisait خصوصاً في الأفلام السينمائية، مُتخذاً ذلك التحول ¬

_ (¬1) سوق النقد العالمي في أميركا. (¬2) سوق النقد العالمي في إنكلترا.

الذي أوحى لـ (بول فاليري) قولته الشهيرة ((أوروبا تطمح لأن تدار بلجنة أمريكية)). ووراء جبال الكربات استطاع (لينين) أن يحطم (رانجل Wrangel) ويسد الطريق على (ويجان Weygand) ليبني عالماً جديداً. كما استطاع (رانجل Wrangel) أن يفرض الإرهاب في بودابست. وفي تِبِسَّة، استمر الناس في حياتهم البسيطة بينما كانت التفاصيل الجديدة تعمل على تبديل المنظر الاجتماعي والطبيعي. الحرائق الكبيرة للغابة التي حدثت ليلة الحرب، عادت اليوم تعطي نتائجها، فالثلوج التي كنت أتزحلق عليها عندما كنت طفلاً، والهياكل الثلجية المتدلية من طرف السقف التي كنث أبددها بالحجارة اختفت من الوجود. أما سهل تبسة المسمى (الحريق) فقد أصبح محزناً. والعائلات التبسية القديمة التي عاشت في اقتصاد على شيء من الاكتفاء الذاتي، مؤمنة خبزها ومأواها وبرانصها أضحت غير قادرة على الحياة. والأرض التي كانت تطعم أجدادهم أصبحت الآن ماحلة. والكعكة الجيدة التي يجذبنا طيب رائحتها عندما نمر بالبيوت قد أخلت مكانها لخبز الفران، والبرنص استبدل به الرداء الذي أصبح يشترى من السوق حيث تصفى مخلفات الحرب، والعسكريون العائدؤن إلى الوطن- والذين كانوا كثيرين- استمروا بكل بساطة يلبسون آخر بزاتهم العسكرية. وعندما تبلى بزة جندي من الاستعمال، كان يبدو لنا نحن الأطفال كبطل سقط من مجده، لأننا نذكر كيف كنا نراه يعود في إجازة قبل سنتين أو ثلاث سنوات؛ لقدم عم التدهور كل مكان. لقد تخربت البيوت وانقطعت عن الشوارع قوافل البقر العائدة إلى حظائرها، تشبع الجو برائحة الاصطبل وتملأ الطرق برغائها. لقد بدأت تظهر السيارات الكبيرة. وأمي بهيجة التي جاءت لزيارتنا

عادت إلى مدينتها بواحدة من تلك الاوتوبيسات ذات الخمسة عشر أو العشرين مقعداً والتي كنا نحلم بركوبها. وعندما أعلن عن ورود كميون Berliet إلى تبسة لحساب أول شركة سفر أنشأها رجل يدعى أحمد الخالدي، اعتقدنا أنه لا يستطيع دخول باب قسنطينة. حتى الأنظمة الإدارية لأبناء المستعمرات أصيبت هي أيضاً بتغير. فالإدارة الاستعمارية بدأت تعطي الأفضلية في اختيار قوادها للمحاربين القدماء. وكان من نتيجة ذلك أنه لم يعد عرسان المدينة يستعيرون البرنص الأحمر من القائد الصديق، فقد مات القائد العجوز في الحرب. والتقليد الذي بقي حياً لزمن بعده قد مات بدوره في الروح التبسية عندما تبدل البرنص القائدي. أثناء ذلك نجحت في شهادة الدروس الابتدائية. لقد ترك هذا الامتحان في نفسي ذكرى. فخلال السنة كان سهلاً أن أراقب علاماتي وعلامات الثلاثة أو الأربعة الأوائل في الصف، وكنت أرى أنني كنت بالفعل أولهم، ولكن لم أكن الأول في الصف طيلة السنة، لأن الأب (آدم) كان يسلم دفتر العلامات لطفل فرنسي. وبذلك فقد حصلت في الشهادة الابتدائية على درجة جيد بينما رفيقي الفرنسي الصغير حصل على درجة جيد جداً. ومع ذلك فقد نجحت في امتحان المنح الذي كان له أكثر من معنى عند طفل من أبناء المستعمرات لا يستطيع أهله أن يرسلوه إلى (الليسيه). فمع هذه المنحة سوف أستطيع متابعة دروسي في المرحلة التكميلية في قسنطينة في مدرسة سيدي الجلي، إذ يحضر خلال عام أو عامين المرشحون للدخول إلى المدرسة أو إلى معهد المعلمين أو ليكونوا مساعدي أطباء. العطل التي تبعت تلك المرحلة كانت بالنسبة لي قروناً من الانتظار. ولكني خلالها كنت أفاجئ عائلتي في الحديث عن مستقبلي. ***

لقد أزف يوم الرحيل إلى قسنطينة، وأمي أمضت تلك الليلة في تحضير الحقيبة التي سوف أحملها معي. فقد قرر أهلي أن يرسلوني إلى بيت عمي محمود لأن جدي (الخضير) قد مات، لذلك لم يفكروا بإرسالي إلى أمي بهيجة التي لن تستطيع مراقبة تصرفاتي ومتابعتي في الدراسة. أما أنا فقد قضيت عشية الرحيل ليلة بيضاء لا أطيق صبراً على ساعاتها من الأرق. وأخيراً حَلَّت اللحظة المنتظرة، وجاءت أمي لتوقظني الساعة الخامسة لأن الأوتوبيس يترك تبسة في السادسة. لقد جاء عمي إسماعيل ليصحبني معه. وكان أبي نائماً حينما شيعتني أمي حتى السلّم. وهناك بعيون ممتلئة بالدموع حمّلتني حقيبتي وهي توصيني بالجد والاجتهاد، ثم أسلمتني لعناية الله بعد أن صبّت على قدمي كما تقضي التقاليد ماء العودة. وتولى عمي حجز مكان لي في السيارة ثم أصعدني إليها. وعندما خرجت من باب قسنطينة كان لدي شعور بأن شيئاً قد بدأ في حياتي. الاوتوبيس في ذلك العصر لم يكن سريعاً، لذلك فقد أضاع وقتاً طويلاً من الوقوف غير المفيد، وخصوصاً في عين البيضاء. وهكذا وصل السادسة مساء إلى قسنطينة. وعمي محمود الذي كان قد أخطر برقياً على ما أعتقد، انتظرني في مكتب السفر حيث كانت تقف قديماً العربة القادمة من عين البيضاء. لقد بدا لي وجه قسنطينة ووجه عمي جميلين. وبمرورنا بالقرب من مقهى (بن يمينة) رأيت من بعيد الرجل العجوز، يقدم قهوته لزبائنه من أصحاب العربات وتجار الخيول الذين كنت أعرفهم لسنوات سابقة.

وسلكنا منحدر شارع (بيري غو Perrégaux) الذي ير تحت مدرج المدرسة، وكانت دار جدي على بعد خطوات من ذلك المكان. وامرأة عمي التي كانت قد تزوجت لفترة خلت استقبلتني استقبالاً جيداً. وامرأة جدي خالتي بهية استقبلتني أيضاً بحرارة كبيرة في أعلى السلّم. لقد وجدتها عجوزاً أكثر من ذي قبل. وقد وجدت بيدها تلك الرزمة من الورق الذي كانت تبله بريقها وتدسه قليلاً في علبة تبغ صغيرة، ومن ثم تضعه في أنفها كما عهدتها دائماً. كان المرقد الخشبي الذي كان يأوي إليه كلب جدي خالياً وقابعاً في إحدى الزوايا، ويبدو لي أن خالتي بهية التي كانت تملك البيت لم تعد مواردها بعد موت جدي تكفيها. فقد وجدت الآن مستأجرين في ذلك المنزل. وكانت تشغل منه المجلس مع أخيها خالي (علاوة) وهو عجوز صبي وديع كالمحل ولكنه غير قادر على تدبير شؤونه، لذلك فقد أسست له مخزناً لبيع الفحم في شارع قريب من الدار. في مقابل المجلس من البيت غرفة تسكنها عائلة شابة تبدو على وجنتي الزوج ندوب الأخوة التي خلفتها حضرات العيسوية الأسبوعية، وما يتخللها من أفعال الكرامات في الزاوية العيسوية، وعليه مظهر عامل (فرام) في مصنع (بن القريشي) للتبغ والذي كان في ذلك الوقت مزدهراً. في السرايا حيث كان يسكن عمي محمد، يقيم الآن رجل متزوج للمرة الثانية هو السي علي. كانت له بنت صغيرة من زواجه الثاني، وله من زوجه الأولى فتاة في العشرين من عمرها مطلقة. أما عمي فقد كان يشغل مع زوجه الغرفتين اللتين في الطابق الثاني. غرفة منهما للنوم وأخرى تستعمل لكل شيء، وقد خصص جرء منها قطع بحاجز لأعمال المطبخ.

لقد كانت غرفة النوم كبيرة جداً، وكانت لذلك تستعمل أيضاً غرفة استقبال للسيدات اللواتي يأتين لزيارة خالتي أو من أجل ضيوف عمي. وكما هو شأن القاعات الكبيرة في قسنطينة كانت توجد في تلك الغرفة زاوية بشكل مخدع للنوم، فيها آلة موسيقية أكبر قليلاً من بيانو عادي تشير إلى اهتمام بالموسيقا في ذلك المنزل، وفي زاوية أخرى مقابلة خزانة ذات طراز غير محدد فوقها ساعة ومزهريتان للزهور الطبيعية، وفي الطرف الآخر من الغرفة كان سرير من الطراز نفسه تقريباً. كان ذلك كله في مجموعه لطيفاً ونظيفاً، وبدا لي بَهيّاً حينما أضيئ بنور قنديل من البترول، فالمنزل لم تكن قد دخلته الكهرباء بعد. لقد كان استقبال عمي وزوجه لطيفاً فلم أشعر بذلك الضغط الذي كان يمارسه والدي عند كل هفوة، ولا بذلك الخجل الذي يفرض على الأطفال في العائلات المسلمة بحضور الآباء. ففي تبسة كنا نلهو أخواتي وأنا عند غياب والدي عن البيت. ولذا فعند المساء أخذت أتحدث مع عمي وزوجه أثناء العشاء. وعندما حانت ساعة النوم وأويت إلى فراش أعدته خالتي لي على الأرض واعتقدت أنني نمت، سمعتها تقول لعمي: ((ألا ترى أن ابن أخيك يتحدث جيداً بالقياس إلى من هم في سنه؟))؛ وأخذني بعد ذلك النوم وفي قلبي نفحة من الفخر والاعتزاز. ذلك كان الإطار الجديد الذي فيه جرت أحداث مرحلتي الجديدة. كان استيقاظي في الصباح أخاذاً. وخالتي أعدت لي فطوري بوصفي ضيفاً كبيراً، فقد قدمت لي المكرود (¬1) مع القهوة باللبن، وبينما كان عمي يغسل وجهه ¬

_ (¬1) المكرود: حلوى جزائرية تصنع من السميد والتمر والسمن أو الزيت، يضاف إليها العسل بعد نضجها. (ترجمة قنواتي)

ويديه في إناء صنع من النحاس المطلي بالقصدير يدعى (الليان)، استرعى انتباهي أن النافذة مزودة بمنخل قضبان من الحديد المطلي باللون الأخضر من طراز (المريسك)، وضع فيها إبريقان يرشحان من مسامهما، وأنها تطل على حي الرمل وعلى المحطة وكذلك غابات الصنوبر البعيدة. كان علي أن أرافق عمي إلى المدرسة ليقدمني إلى معلم المرحلة التكميلية مسيو (مارتان martin)، الذي كان أيضاً معلمه القديم ومعلم والدي. مررنا أولاً بكشك جدي حيث اعتاد عمي أن يأخذ جريدة الصباح، ثم اجتزنا شارع (كارامان Caraman) الذي بدا لي أجمل من قبل. كان الشبان يتخذون من المكان الذي يقوم فيه اليوم سوق الخضار مرتعاً لنزهاتهم، وذلك قبل أن تبنى السقيفة الحالية سنة 1925؛ أما المتقدمون في السن فكانوا يقصدون لنزهاتهم ساحة (بريش Brèche) التي كانت أكثر اتساعاً قبل أن تطرأ عليها التغيرات. ويعد شارع (فرانس France) المركز الرئيسي والمختلط للمدينة، إذ هو صلة الوصل بين الأحياء العربية والفرنسية واليهودية. ومن هذا الشارع بالذات كانت تنطلق في كل مرة شرارة الاصمطدامات كما حدث في الخامس من آب (أغسطس) سنة 1934 بين العرب واليهود. واتخذ عمي طريقاً ينزل بنا نحو سوق رباط الصوف. اجتزنا الساحة ومشينا في ذلك الطريق الذي يمتد منها حتى مدرسة سيدي الجلي. وخلال سيرنا عرَّج عمي على مصنع (بن القريشي) للتبغ حيث كان فيه رئيس محاسبته. وسرعان ما اندمجت بجو ذلك المصنع، فقد كان على ما أعتقد منزلاً جميلاً للسكن ذا طراز موريسكي وحيطانه مطلية (بالزليدخ)، أما الدار فقد كانت من الرخام الأبيض. رائحة التبغ تأخذ لك منذ ولوجك المصنع، وهذا لم يكن شيئاً مزعجاً في

باحة فضاء سماوية. وحول طاولات قليلة الارتفاع مغطاة بطبقة من التوتياء كان بعض جماعات من عمال التغليف يعملون. وكانت علب الدخان، بعد أن تأتيهم من المسؤول عن الأوزان، تمر بين أيديهم المرنة التي تتولى لصق إشارة المصنع المزخرفة حول كل علبة بواسطة مادة لزجة مصنوعة محلياً من الدقيق. وكان صاحب العمل المعلم يرتدي ملابس ذات طراز قسنطيني قديم يجلس وراء مكتبه ليدير العمل، وقد مر به عمّي محيياً ودخل إلى قسم المحاسبة، ولست أدري أي شيء من التعليمات أعطى زملاءه. خرجنا من المصنع وما هي غير خطوات يسيرة حتى كنا عند مدرسة سيدي الجلي. لقد عرف (مسيومارتان Martin) فوراً عمي تلميذه القديم. وعند تقدمي إليه كان يبدو سعيداً برؤيتي تلميذاً له بعد أبي وعمي، وقد عبر عن ذلك حينما دخلنا الصف. ولعل حضوري جعل ذلك المعلم الشيخ يقدر قيمة جهوده في جيلين من العدول والمعلمين ومساعدي الأطباء. وهكذا وضعت معه في ذلك الصف أول قدم في المرحلة الثانية من دراستي. ... التوجيه الذي أرادته عائلتي لي والذي تحدثت عنه فترة الصيف هو أن أكون عدلاً في الشرع الإسلامي. لقد اضطرني ذلك مع زميل لي تبسي نجح مثلي في امتحان المنحة أن أسجل نفسي في دروس الشيخ عبد المجيد، الذي كان أستاذاً في المدرسة يعدّ فيها التلاميذ الذين يختارون هذا الاتجاه. هذا الشيخ من ناحية و (مسيو مارتان Martin) من ناحية أخرى كوَّنا في عقلي خطين حدّدا فيما بعد ميولي الفكرية. والشيخ عبد المجيد كان يعطي دروسه في النحو كل صباح في الساعة السابعة في المسجد، ولذا كان علي أن أستيقظ باكراً للذهاب إلى هناك؛ كان يجلس داخل المحراب ونتحلق نحن من حوله.

وسرعان ما أدركنا عداءه لبعض التقاليد السائدة في المجتمع الإسلامي كالطرق الصوفية، وكراهيته لتجاوزات الإدارة الفرنسية في تصرفاتها. وإذا اتفق أن وجدت مناسبة في هذا المجال كان يحلو لنا أن نستدرجه لصرف الساعة في شتم العادات الاجتماعية أو في الهجاء السياسي، وكنا نفضل ذلك على البحث في الفعل الثلاثي وتصريفاته. وعندما كنا ننصرف من درسه في الثامنة إلا ربعاً، كانت هذه تماماً ساعة تناولنا لقطعة من زلابية فطيرة، أو كوب من ماء الحمص والذهاب بسرعة إلى مدرسة سيدي الجيلي حيث (مسيو مارتان Martin)، وكان هذا المعلم يثري تلاميذه بالمفردات ويطبع في نفوسهم الذوق وفن الكتابة. وكان يقرأ لنا أحياناً القطع الجيدة التي كتبها من هم أكبر منا والذين قضوا في مدرسته أكثر من سنة. لقد طبع في نفسي هذا الأستاذ تذوق القراءة، ففي مساء كل سبت كان يعير الكتب للتلاميذ. وقد أتاح لي ذلك أن أقرأ كل كتب (جول فيرن Jules Verne) وبعضاً من روايات (الرداء والسيف). ومع عمي محمود تعلمت أشياء أخرى، فقد كان رجلاً محباً للحياة تدربت معه على العزف على آلته الموسيقية، وكنت أعزف قطعة لم أعد أذكر أهي من مقام (الزيدان) أو مقام (السيكا). وحينما كنت وحدي كنت أتناغم مع ألحانها. ولكن الذي أثار تطلعي إليه هو الضرب على (النقارات). وهي عبارة عن قطعة موسيقية مؤلفة من طبلين صغيرين مركزين على قطعة خشبية يضرب عليهما بعصا صغيرة، وكانت هذه القطعة تستعمل في مجالس رجال الطريقة العيسوية في قسنطينة والقادرية في تبسة على السواء. كان عمي يحسن الضرب على تلك الآلة، وكانوا في الزاوية العيسوية حيث كنت أرافقه مساء كل سبت يعدونه اختصاصياً ممتازاً بها. وشيئاً فشيئاً ألفت

وجوه رجال تلك الطريقة، وأصبحت أذهب معهم في كل مرة تقام فيها خارج الزاوية في منزل أو عائلة، وكنت أجلس معهم في الحلقة المؤلفة من الجوقة والعازفين، ولأنني كنت في الرابعة عشرة من عمري فقد كان صوتي كصوت ديك أزغب الحواصل يثقب الآذان. كان الإخوان ينتظمون في الحضرة وبينهم (الشاوش) وهو الشخص الذي يتولى إدارة الحلقة، فيدعو كلاً بدوره ليدخل في الجذب حالة الوجد فينتصب واقفاً، ويبدأ في حركات الذكر التي تتناغم مع إيقاع الشاوش إذ يضرب على يديه فيشير إلى مراحل الذكر. أما المقدم سيدي (علي بن الفول) فكان يجلس في ركنه من المجلس محاطاً باحترام الجميع كأب روحي. وهو دائماً معهم في شؤونهم صغيرها وكبيرها، معهم في حفلات زواجهم وختان أبنائهم وكذلك المآتم. وكانت الطريقة العيسوية ذات رعاية من أهل المدينة وخاصة التجار؛ أما جماعة العمارية فكان مريدوها من الباعة المتجولين وسائقي العربات والخيول ورماة الجيش المقيمين في ثكنة المدينة. ولكن صداقات أخرى كانت لي في المدرسة، فرفيقي التبسي (صالح حليمية) يقيم في غرفة متواضعة مع شقيقه الذي أنهى السنة الرابعة، وكان يزورني غالباً في بيت عمي؛ ولكن كانت تلذ لي زيارة رفيقي (حمزة بوشوشة) الذي كان يسكن غرفة صغيرة ولكنها غرفة في فندق الصحراء، وأظن أنه الوحيد في قسنطينة الذي يقبل بين نزلائه مواطنين عرباً. كن يسمى فندق (العوراء)، وربما كان ذلك نسبة إلى صاحبته القديمة التي أورثته أبناءها، وهم ولد عجوز وابنة عانس كنت أعرفها. كنت أحب أن أدرس مع (بوشوشة) في تلك الغرفة الصغيرة فنجلس على

السرير. وكان ذلك على ما أعتقد لحرية ألمسها في جو الفندق تبعد عني وصاية العائلة. كنت أسارع إلى كل ما يعبر عن استقلالي. والذهاب إلى الفندق كان بالنسبة لي شيئاً من ذلك الاستقلال. أما عمي محمود فكان من ناحية أخرى ينظر إلى ذلك بامتعاض عندما أعود متأخراً قليلاً في المساء. وفي الآحاد غالباً ما أقضي اليوم عند أمي بهيجة التي كانت تصرف في العناية بي. وأذهب أيضاً إلى السينما بفضل الثلاثين فرنكاً التي أتقاضاها شهرياً من المنحة، أما عمي فكان يحتفظ بحصة والدي في ريع كشك (بابا الخضير). وعند خالتي بهية تعلمت صنع ذلك المغزل من الورق المطلي بالعطوس، والذي كنت أضعه مثلها في أنفي. كانت تتولى بصورة دائمة إدارة مخزن شقيقها (علاوة) المخصص لبيع الفحم، أما شقيقها الآخر صالح فقليلاً ما كنت أراه. كان يسكن في (شاتودان رومل Chateau d'un Rhumel) ويبعث في نفسي القلق حينما يأتي مرتدياً رداءً كبيراً من جلد الماعز ظاهره الشعر، كذلك الرداء الذي كان يلبسه سائقو السيارات في بداية عهدها، وعلى عيونهم نظارات كبيرة وقاية لهم من السرعة، فقد كانت السيارات في ذلك العصر تسجل أربعين كيلومتراً في الساعة. لقد كان هذا اللباس الضمحك يلبسه قديماً (حما بلا أعقاب) (¬1) Hamma sansTalons، حينما كان يقود السيارة الوحيدة في تبسة إذ كنا نتبعه مع الأطفال في طرق المدينة. أضيف الآن شيء جديد إلى قيافتي، فقد وضعت نظارات؛ ذلك لأنه خلال السنوات الأخيرة من المدرسة في تبسة كانت ساعة القراءة التي تمر مرة أومرتين في ¬

_ (¬1) أي محمد.

الأسبوع بالنسبة لي ساعة من العذاب. فمنذ السطرين الأولين أو الثلاثة يصبح نظري ضبابياً لا أستبين معه الأحرف. وكان يزعجني أن أضطر لقراءة مهجاة أمام رفاقي وأنا أفرك عيني عند كل مقطع، دون أن أصرح للمعلم بأنني لا أستطيع القراءة. أخاف أن يكون ذلك عيباً يلغي انتسابي للمدرسة ويمنعني من متابعة دروسي. أخيراً لم أجد بداً من أن أطلع أقاربي على آلامي. لقد قرروا أن أعرض على اختصاصي في قسنطينة كان صديقاً لجدي، وهكذا منذ ذلك الوقت بدأت أضع نظارات على عيني. لقد كان ذلك أول الأمر مبعث إزعاج لي من الشباب الأوربي الذين يقذفونني كلما رأوني بقولهم: ((إيه! أبو أربع عيون)) أنا الذي كنت أُعرف بالشاشية (¬1) الحمراء. كان هؤلاء الأوربيون يستقطبون تفكيري وخاصة طلاب المدارس الثانوية منهم، حين كنت أراهم أيام الآحاد يتنزهون تحت إشراف ناظر مدرستهم، مرتدين زيهم من الجوخ الأخضر الغامق، وكان الخيال ينطلق بي معهم، فهؤلاء سيصبحون محامين أو أطباء أو أساتذة، أما أنا فقد حكم علي بأن أكون عدلاً. ومرة وجدت الفرصة سانحة للدخول في المدرسة الثانوية. فقد كان علي أن أدخل امتحاناً خاصاً، ولكن سني- بسبب التحاقي في المدرسة الابتدائية متأخراً- أصبحت تمنعني من القبول. في هذه السنة 1920 تلقيت مع الشيخ عبد المجيد أول أسس الثقافة العربية. لقد تعلمت تصاريف الأفعال والتمييز بينها وحفظت شيئاً من الشعر. كان ذلك أيضاً في البلاد نقطة تَحوّل. ففي قسنطينة تأسست جريدة ناطقة بالعربية ¬

_ (¬1) الشاشية في لغة الشام: الطربوش.

تدعى (النجاح)، أنشأها قبل عام شاب قسنطيني (سامي اسماعيل) عاد من الزيتونة في تونس بشرف العلم، تدل عليه تلك العمامة فوق رأسه، لقد كان يقدم لعقول القراء زاده الأسبوعي، ولكنه زاد هزيل بدون شك، فاحتفالات الزواج والوفاة تأخذ المقام الأهم من الصحيفة، ولكنها جريدة تكتب بأحرف عربية. وذلك كان نوعاً من التحدي للإدارة الاستعمارية التي أرست سياستها على (فَرْنَسَة البلاد). لقد وجد الآن القراء القدامى للجريدة التونسية الزهراء غذاءهم الروحي. فالعدد من جريدة (النجاح) الذي يصل إلى تبسة تتناقله الأيدي هنا وهناك. وعمي يونس كان يرسلني بانتظام لكي أطلبه من صديق له قديم. كنت ألفظ ذلك بكسر النون لاعتقادي أنه أكثر انطباقاً على قواعد النطق العربي. وبفضل الشيخ عبد المجيد تعلمت على الأقل أن ألفظ (النجاح) بشكلها الصحيح أي بفتح النون، لأنني لعدم انتظامي في دروس الشيخ لم أستطع أن أحقق تقدماً أكبر في العربية. في صف مسيو (مارتان Martin) هناك أقسام ثلاثة، لكني على الرغم من ذلك كله كنت أنتسب إلى فريق المدرسة بأجمعه، ولم أكن أدرك حقيقة الشعور الذي يشكله الخط الفاصل بين التلاميذ الذين سيصبحون في المستقبل معلمين، والذين سيصبحون مساعدي أطباء، وبين أولئك الذين يعدون ليصبحوا عدولاً؛ بينما كان يدرك كل فريق من هؤلاء بوضوح ذلك الخط الفاصل. وكان فريق المدرسيين الذين يعدون أنفسهم لدراسة القضاء الشرعي - وكنت أحدهم - يشعرون بأنهم حملة رسالة قومية. لقد كان للتربية البيتية دور في تحديد هذه الفرق، فمربو المستقبل كانوا لدى مسيو (مارتان Martin) أمناء لروح العلمانية التي طبعت فيما بعد حركتهم،

عندما أسس (طهرات) صحيفة (صوت المساكين La voix des humbles) تحدثوا فيها عن فولتير وفضائل ثورة 1789 الفرنسية. لقد جعلوا عقليتهم حتى تعابيرهم تسهم في تكوين فريق من التلاميذ الأطفال من أبناء الجزائريين، الذين امتازوا عن سواهم بفضل ثرائهم أو اتصال آبائهم بالإدارة، وسهل عليهم أن يلتحقوا بالمدرسة الثانوية كعباس فرحات مثلاً. وكان في هذه الفئة ذات الامتياز حالات نموذجية أمثال الدكتور موسى الذي خاض أولى معاركه السياسية مع (مورينو Morinaud) عمدة قسنطينة المستبد، والذي ابتدع طريقة في وضع الشاشية (الطربوش)، اقتفى أثره فيها أبناء جيلي حتى عرفت هذه البدعة باسمه ( la Moussa). وكذلك الدكتور (موسلي) صاحب البنية القوية الذي وشم نفسه بوصفه محكوماً بالأشغال الشاقة، ثم راح يزوج بناته للضباط الفرنسيين ويضع في صيدليته شراباً سماه باسمه ( Le sirop Mosly). أما فريق الأطباء والمساعدين فكانوا أكثر رصانة، وتكاد لا تسمع صوتهم في الصف وهم في كل حال لا شخصية لهم. كنا نحس فيهم الشخصية الهادئة لمساعدي طبيب الإدارة الاستعمارية. على كل حال فأنا أعتقد أن فريق المدرسيين عند مسيو (مارتان Martin) يميزهم خصوصاً شعور ديني يأخذ بهم في قليل أو كثير. وأحسب لو رجعت بالذاكرة إلى الماضي فإن جدتي الحاجة زليخة قد أدخلت في روعي (الشعور المدرسي). وكلما مررت أمام دارها البيضاء ذات الطراز (الموريسكي) التي تطل على وادي الرمل، تستقطب تفكيري وتحاكي روحي، لكنها تذكرني أيضاً بقصوري مع الشيخ عبد المجيد، فيحدث ذلك في نفسي خوفاً شديداً.

على أنه كان لفكري ألف فرصة يهرب بها من ذلك العذاب. فقسنطينة قدمت لي كل شيء؛ كنت أتنزه مع رفاقي في (رامبليه Ramblais) في هذا المكان الذي أقيم فيه فيما بعد، أول مدينة من أكواخ التنك في قسنطينة، كان نوعاً من السوق الدائم تباع فيه الأشياء القديمة غير الصالحة للاستعمال من مفاتيح قديمة وملابس مستعملة وأشياء أخرى. كنا نختلط بتلك الجماعة المؤلفة من مزارعين فقدوا صنعتهم، فلم يعد لهم مكان في حقولهم بعد أن طردهم الاستعمار واستولى على أراضيهم، ثم إن المدينة لم تؤوهم بعد فيها. كان يندس في صفوفهم عدد لا بأس به من النشالين. وفي يوم كنت بين ذلك الجمع واقفاً أمام آلة لليانصيب توزع جوائز متنوعة من الأشياء المستعملة، فقدت محفظتي وفيها ثلاثون فرنكاً قيمة منحتي. أما قسنطينة المدينة فكانت تقدم صوراً أخرى: فمع عمي تابعت الاتصال بذلك الجانب الفاتن: العيسوية العلية والموسيقا، وأيضاً جانبها البطولي. ففي ذلك العصر كان الحديث كثيراً عن مآثر شاب خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرات وادي الرمل. كان يدعى (بوشلوح)، لقد كان بطلاً يملأ خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جندت له الإدارة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطولية، غير أن (بوشلوح) كان دائماً يحبط خططهم، إذ حوصر مرة في فندق فتسلل هارباً من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرمل، ومن هناك اختفى بأعجوبة. كانت هذه الأسطورة تذكي خيالي وتغذيه، كما كانت تفعل أسطورة (بن زلمة) التي يتناقلها الناس في جبال أوراس، وأعمال (بو مصران) التي صجت بها منطقة عين مليلة. وفي يوم تلقينا بأسى أن (بوشلوح) وقع جريحاً في يد الإدارة، إنما الذي كان يعزينا أن المفتش (بوناب) الذي جرحه قد دفع ثمنا لذلك حياته؛ لقد أثارت محاكمة (بوشلوح) الشعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس

المحكمة الذي نطق بحكم الإعدام ((إنكم تحكمون على المقعد الذي أجلس عليه، أما أنا فإنكم لا تستطيعون أن تحكموا علي)). وهناك شيء أكيد هو أن بوشلوح الذي كان موقوفاً- كما أوقف بعد ذلك بأربعين سنة (بن بولعيد) - قد حاول الهرب، ولكنهم للأسف لم يلبثوا أن قبضوا عليه على سطح السجن، ولعل ذلك قد عجل بإعدامه قبل موعده. في ذلك اليوم فإن كلا من العرب واليهود والفرنسيين أطلق الزفرات وكان لكلٍ أسبابه. في أثناء ذلك كانت أمي قد حضرت إلى قسنطينة لاستشارة أحد الأطباء. فقد اضطرها مرض أقضّ مضجع العائلة أن تراجع أحد الاختصاصيين. لست أدري ما الذي قاله لها، إنما أذكر تلك اللحظات الأخيرة التي قضيتها معها وأنا أرافقها إلى السيارة التي ستعود بها إلى تِبِسَّة. وقد كان في المودعين مربيتي بهيجة، وعلى بعد خطوات من المحطة تلفتت أمي إلى مربيتي وقالت لها: ((عزيزتي بهيجة إني أترك الصديق في عهدتنا)). وبشيء من الاحتجاج أجابتها مربيتي: ((آزهيرة عزيزتي وهل أنت بحاجة لمثل هذه الوصية؟)). والآن أدرك أن هاتين السيدتين الفاضلتين ملأتا نفسي حباً ووداعة. لقد أوشكت السنة الدراسية على النهاية. وأصبحنا في خضم الفصل الدراسي الثالث وعلى أبواب الامتحانات السنوية. كنت أخشى الحالات الشاذة في القواعد العربية وخصوصاً الحالات التي لا تستند إلى قاعدة، ولذلك وجدت في زملائي الذين كانوا أكثر انتظاماً مني، معيناً على الإجابة في بعض المشاكل اللغوية التي كانت تقلقني.

ذات صباح اجتزت باب المدرسة حاملاً بيدي ريشة ومحبرة؛ إنه يوم الامتحان. تعرفت هناك على (الشاوش) وهو رجل يقوم بوظيفة الحاجب والبواب وموزع المنح وكان يقيم في المدرسة مع عائلته. وتعرفت أيضاً على زملائي المتقدمين للامتحان، وكان بينهم ولدا قاضي البرج سي (مصطفاوي)، ولا أزال أذكر صورته إذ كان يرتدي البرنص والعمامة. وانتهيت أخيراً بالتعرف على المدير (دورنون Dournon) وكان يتولى توزيع الأسئلة ومراقبة الامتحانات. في المساء في باحة المدرسة المبلطة بالموزاييك والمجهزة ببركة ماء، كان المدير يقف ليعلن النتيجة بصوته، الذي لاحظت فيه لُكْنَةً خاصة في اللفظ وكنت من الفائرين الأوائل. وعندما علمنا بقبولنا في المدرسة أنا وزميلي (صالح حليمية) تشابكت أيدينا من الابتهاج، في ذلك المساء عند العتبة التي اجتزتها صباحاً، والتي أصبح لي الآن بعد نجاحي الحق بالوقوف أمامها، تحلق حولنا بعض من هم أقدم منا في المدرسة يوجهوننا ويعرفوننا بها. في هذه اللحظة كان تفكيري يتجه إلى مكان آخر ... كنت أريد العودة إلى تِبِسَّة إلى أولئك الرفاف القدامى أحمل لقبي الجديد. فلم أعد تلميذاً، لقد أصبحت طالباً في المدرسة. فالألفاظ أيضاً لها تأثير على الاتجاه. اشتريت بعض الملابس لتكون عودتي إلى تبسة بما يليق من احتفال. وأخيراً أخذت الأوتوبيس الذي قادني لتسعة أشهر خلت إلى قسنطينة، وسارت العربة متثاقلة طيلة النهار، وأخيراً عند المساء بدأت تننزل منحدرات حلوفة، ولاح لي عند أحد المنعطفات قمة قرص السكر ( Le Pain de sucre) التي تمتد حتى الأفق. وكان سكان تبسة يطلقون عليها اسم قمة (سيدي عبد الله). إنها قمة تبسة وهي

- لأبناء تبسة العائدين من عنابة أو قسنطينة أو الجزائر- بشارة الوصول إلى الحظيرة. وهي سوف تؤذن لي كثيراً فيما بعد بالوصول إلى تبسة. حوالي الساعة الخامسة أو السادسة عبرت السيارة جسر (وادي الناقوس)، واجتا زت الحي السكني الأوربي مارة أمام مدرستي القديمة، ثم عبرت بعد ذلك باب قسنطينة لتدخل المدينة. أثناء دخولنا تعرّفت إلى بعض الوجوه، وواحد من رفاق اللعب عرفني فأطلق صرخة من الفرح ثم أطلق ساقيه وراء السيارة ليلقاني ويحمل حقيبتي إلى المنزل. ولكن المنزل كان خالياً ... فأمي إثر عودتها من قسنطينة نقلت إلى تونس وأدخلت مستشفى صديقياً، وهناك أجريت لها جراحة غير ناجحة عرضت حياتها للخطر، وقد رافقتها شقيقتاي إلى تونس: الكبرى لتعالج بدورها، والصغرى لمرافقة أمها والعناية بها. أما أبي فقد صحبها ليكون بالقرب منها. وحللت في منزل عمي القريب منا غير عابئ بما يخبئه القدر لي حتى يوم عودة أمي إلى البيت يحملها على سجادة أربعة رجال. حينئذ بكيت بمرارة لاعتقادي بأن أمي صائرة إلى الموت. قضيت عطلتي ذلك الصيف تارة مع أصدقائي وطوراً بقرب أمي المريضة. لقد كانت على الرغم من مرضها الخطير تدير المنزل، وقد رتبت عودتي إلى قسنطينة، فمن سريرها تولت الاهتمام بأدق تفاصيل الرحلة، خاصة أنني سأكون هذه المرة طالباً داخلياً. وهذا يفرض على طلاب المدرسة أن يحضروا معهم أغطيتهم ووساداتهم. لقد حضّرت أمي ذلك كله وهيأته. غير أنها في صباح الرحيل لم تتمكن من إفراغ (ماء العودة) عند قدمي فتولت شقيقتي الكبرى ذلك عندما ولجت عتبة الباب. ***

عودتي إلى قسنطينة وضعتني وجهاً لوجه أمام الظرف الجديد وآفاقه؛ فعلى عتبة ذلك الباب الضخم من خشب الأرز ذي المسامير الكبيرة والمدقة البرونزية، والذي لا يفتح إلا في المناسبات الكبرى ويُكتفى في الأيام العادية بفتح باب صغير فيه، على عتبة ذلك الباب استقبلني رجل له سمت ينبئ عن اتصال وثيق بوسطي الجديد، كانت السنين قد أحنت ظهره، وكان يرتدي عادة قميصاً من الكاكي أثناء العمل، أما في ساعات الراحة فيرتدي البرنص. استقبلني ببرنصه وعليه ابتسامة ساخرة كانت أعرفها فيه أثناء دراستي في المدرسة. سمة لؤم وعينان خبيثتان وراء نظارتين بذراعين معدنيتين وشارب وخطه الشيب، كانت هذه كلها قسمات ذلك الرجل الذي يدعونه عمي، والذي سوف أناديه بهذا الاسم سنوات أربعاً. إنه الشاوش ذو الشخصية الغامضة التي لا تستقر على حال. فهو لطيف اليوم وربما كان في الغد سمجاً ثقيلاً. كان حاجب المدرسة وبواب المدير (دورنون Dournon) وأحياناً يعمل مخبراً عنده. وكما كان مع التلاميذ كان مع الأساتذة يحسن لبعضهم ويسيء للآخرين. وعند نهاية العطلة الصيفية يقف عند الباب الصغير المفتوح ينتظر زبائنه من الطلاب الجدد ليبادر كل قادم جديد بهذا السؤال: ((من أنت؟ ومن أين أتيت؟)) لقد سألني بدوري عند وصولي إليه حاملاً حقيبتي، بينما وضع حمال على عتبة الباب طرداً فيه فراشي والغطاء ملفوفين بكيس من القماش. وأجبته: ((إنني من تِبِسَّة)). ألقى نظرة على ورقة كان يمسكها بيده وقال: - حليمية، صدّيق. - أنا أدعى صدّيق.

- حسناً اتبعني إذن. تبعت ذلك الرجل بينما رفع الحمال حمله وتبعني. واجتزنا الجناح المخصص لغرف النوم. ثم تسلقنا درجاً، في أعلاه فتح الشاوش باباً لغرفة صغيرة تضم أربعة أسرة: واحد منها فقط مجهَّز بينما الأسرة الثلاثة فارغة، وبين كل سريرين متقابلين مكان لطاولة صغيرة يستعملها شاغلاً السريرين. وضعت فراشي على السرير المقابل لذلك السرير المجهَّز. كان في السقف مصباح عادي بسيط للإنارة، وفي مواجهة باب الغرفة نافذة ذات زجاج شفاف تطل على شارع (بيريغو Perrégaux). في هذا المكان سوف أقضي سنتي الأولى في المدرسة. كان في الجهة المقابلة طالب (قلماوي) ولست أدري إذا كان اليوم قاضي شرع أو قاضياً مدنياً. أما السريران الآخران فكان أحدهما لطالب من (باتنه Batna) من عائلة تنتمني لطبقة التجار، يدعى (فضلي)، والثاني يدعى (قاواو) ابن أحد رجال الدرك. كان الأول ناضجاً أما الثاني فكانت لديه عادات طفل لم ينضج بعد. على كل كنت ألاحظ فيهما خلقاً مرهفاً أو شيئاً مما يسمى البراءة. انهمكت في ترتيب سريري عندما جاء (فضلي وقاواو)؛ وبسرعة أصبحنا أصدقاء وقررنا أن نذهب للعشاء سوية، في مطعم رخيص للطلاب قريب من دار المحافظة كنا اهتدينا إليه. عند خروجنا من الغرفة ألقينا نظرة استطلاعية على المكان. فالغرف الأربع التي نشغل إحداها تقع على ممر يطل على منحدر الرمل على منظر ذي جمال موحش. أما في نهاية الممر فكانت مغسلة ذات حنفيات ثلاث وبجانبها دورة مياه.

عند خروجنا نبهنا الشاوش بقوله: ((إنني سوف أقفل الباب في الساعة العاشرة)). لقد بدت لي قسنطينة أجمل وأبها في ذلك المساء؛ وحول طاولة مصنوعة من الرخام فوق هيكل حديدي جلسنا وكان العشاء تسوده الصداقة الحميمة. كان صوت خادم المطعم يرتفع بالطلبات واحدة تلو الأخرى، وكانت صحون الطعام تخرج من كوة صغيرة في الحائط متصلة بالمطبخ. وكان ذلك الخادم يضع صدّارة زرقاء ثم يرفع أكمام قميصه، ثم يضع صحون الطعام أمام زبائنه ومعها الملاعق والسكاكين والشوكات وقطع الخبز. وأعتقد أنها كانت المرة الأولى في حياتي أستعمل فيها الشوكة والسكين. فالوضع في عائلاتنا كان مختلفاً؛ فالمجيع يأكلون من صحن واحد مشترك، والملعقة تستعمل فقط للشوربا والكسكسي، والأصابع لباقي الأطعمة. خرجنا نستكمل أحاديثنا في مقهى (بوعربيط)، فمنذ أن انتقلت المدرسة من سوق العصر- حيث كانت ملاصقة لمسجد سيدي الكتاني- إلى مكانها الحالي في أوائل القرن الحاضر، ترددت إلى ذلك المقهى أجيال عديدة من طلاب المدرسة، يتلاقون في صالتها الأمامية أو صالتها الخلفية في الصباح والظهر والمساء. ومن الجدير بالذكر أن انتقال المدرسة إلى مكانها الجديد كان في ظل حاكمية (جونارت Jonnart) للمدينة، ذلك الذي أعطى اسمه لطراز خاص من البناء في تلك الفترة. ولم يكن (بوعربيط) هذا مالكاً لمقهى المدرسة، إنما كان قائماً على شؤونه، فزبائنه جميعاً كانوا من الطلاب، ولكنه كان يقدم خدمات لزبائن له في الخارج، يعملون في الحوانيت والمعامل المجاورة أو في منشرة قريبة من المطعم.

كان مجمل ما يطلبه الزبائن في الخارج ثم يعود وهو يقرقع بأباريق القهوة، وهذه عادة قسنطينية، وكان يحسن ذلك ببراعة أثارت إعجابي إذ كنت طفلاً. لقد كان (بوعربيط) وجهاً من وجوه قسنطينة القديمة. إنه وجه شعبي يسهم في ذكريات القسنطينيين الشيوخ، التي تتحدث عن تقاليد المدينة؛ ما هو حي منها وما اعتراه الأفول. فحينما كان هؤلاء الشيوخ شباباً كانوا في أيام العيد الصغير والعيد الكبير ينظمون موكب (بوعربيط). ففي ذلك اليوم يلبس (بوعربيط) أجمل ما لديه من ملابس ويسير يتبعه موكب من الأطفال، فيعزف على الناي ألحاناً تتفق والمناسبة، بينما يصاحبه آخر في الضرب على الطبل، ثم يتجهون أمام منزل المفتي ثم منزل القاضي تحية منهم لهاتين الشخصيتين الكبيرتين في المدينة. فذلك هو مفهوم التسلسل في رجال الدين صبيحة يوم العيد، وسط جو عابق برائحة الكعك والمكرود العائد من الفرق والقماش الجديد للأطفال والحنة في أيدي الفتيات. وحينما يحين دور زواج واحد من هؤلاء الفتيان القسنطينيين، فإن (بوعربيط) يأتي هذه المرة بعد الشفق، ليقود إلا منزل الزوجية عروسه محمولة على كرسي مغطى بالديباج يدعى (الحدوة)، يرافقهما موكب من الأهل والأصدقاء يحملون مصابيح متعددة الألوان، تنشر في شوارع قسنطينة القديمة أنواراً باهتة. وعندما وصلت إلى قسنطينة سنة 1920 لم يكن للحدوة من وجود فقد حلت محلها السيارة أو العربة المستعارة؛ إلا أنه في أيام العيدين الصغير والكبير لم يكن طلاب المدرسة يجدون (بوعربيط) أمام وجاقه في مقهى المدرسة، إذ كان يذهب في ذلك الوقت إلى منزل المفتي والقاضي يحيي عادة قديمة سرعان ما اندثرت بموته.

كانت له شخصية حالمة على طريقة (ديستوفسكي)، فعندما ينتهي (بوعربيط) من خدمة زبونه داخل المقهى أو خارجه، ويضرم النار ويغسل ويرتب فناجين القهوة، فإنه كان يقف بجانب الوجاق ساهماً لا يتكلم، إنه يحلم. كان زبائنه من الطلبة فئتين: رواد الصالة الرئيسية، وزبائن الصالة الخلفية؛ فأصحاب الطبقة الأولى هم أولئك الذين عرفوا بالرزانة يهتمون بالحديث والمناقشة، قلقون منعزلون أو رومانطيقيون من قراء الشعر قديمه وحديثه، هؤلاء يمثلون الصالون الأدبي للمقهى. أما الصالة الخلفية فكان يجتمع فيها لاعبو الدومينو مثيرو الضجيج والصراخ والرياضيون. ففي تلك الفترة كان الناس في الوسط الجزائري يتحدثون عن الرياضة ويهتمون بتكوين الفرق والنوادي الرياضية. كانت هذه الجهة تمثل وجه المقهى العربي. لقد ذهبنا إلى هذا المقهى أنا وفضلي وقاواو لنتابع الحديث. ولم يكن الحديث إلا ليزيدنا معرفة بعضنا ببعض. وكانت كل كلمة تسهم في تكوين ذلك الثلاثي الذي تشكل خلال تلك السنة. كانت ساعة المقهى تذكرنا بنظام المدرسة. فإنه ينبغي الرجوع قبل العاشرة كما قال الشاوش. عند رجوعنا كان رفيقنا الرابع نائماً، وهناك تابعنا حديثنا حتى الحادية عشرة موعد إطفاء النور. وكان ذلك يعد أول صعوبة تعترض الطالب عند دخوله (المدرسة)، إذ لكي يتمكن من الدراسة أو التحدث مع رفاقه أو قراءة القصص كان عليه أن يحصل على وسيلة للإنارة خاصة به. ***

السنة الدراسية 1921 - 1922 كانت هذه سنتي الأولى في المدرسة، وكذلك بداية لمرحلة جديدة في العالم تدعى (ما بعد الحرب). وبما أن طلبة المدرسة كانوا يبنون علاقاتهم على أساس الانسجام الفكري والخلقي، فقد انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول يضم طلاب السنتين الأولى والثانية، والفريق الثاني يتألف من طلبة السنتين الثالثة والرابعة. وفي الصالون الأدبي من مقهى (بوعربيط) كان للفريقين أن يجلسا معاً ليتناقشوا في موضوع سياسي أو حول أهم حدث في ذلك اليوم. وكان طلبة السنتين الأخيرتين يتحدثون أحياناً عن مأثرة أحد قدماء الطلبة يدعى (خَطَّاب)، إذ غرس الرعب في نفوس ممثلي المعمرين في المجلس الاستشاري العام لقسنطينة. ففي يوم كان أحد المنتخبين الأوربيين يقدم تقريراً للمجلس حول سرقة بقرة تخص أحد المعمرين الفرنسيين، ويختم تقريره بقوله. ((بالطبع فإن السارق أحد سكان البلاد الأصليين ( Indigène)، فانبرى خَطَّاب الطالب في السنة الرابعة، وكان يجلس في مقاعد المستمعين في المجلس وصرخ:، ((ولم لا يكون السارق فرنسياً؟)). في ذلك اليوم امتلأت آذان الإدارة بالطنين لأن كلام خطّاب بقي بغير جواب. أما آذاننا فكان يلذّ لها أن تسستذكر هذا الجواب العفوي الذي ينطوي على مغزى بعيد. كان يُذكر أيضاً ابن رحال وأعماله الخارقة كما كنا نتحدث عن الدكتور موسى؛ إنما كان يستأثر بحديثنا على الأخص (الأمير خالد) ليس بصفته حفيد الأمير عبد القادر ولكن لأنه ينطق باسم الشعب الجزائري. فكانت الألسنة تتناقل حكايته مع زوج أحد الضباط الفرنسيين، فقد نزعت هذه الأخيرة من بين أصابعه سيكارة كان يدخنها في إحدى عربات الدرجة الأولى من القطار،

وألقت بها من النافذة، وتضيف الإشاعة أنه انتقم منها بأن ألقى بكلبها من النافذة نفسها حين أخذ ينبح داخل العربة. وكان من الأحاديث أنباء (مصطفى كمال) الذي تحدّى القوى المستعمرة. لقد أخذت صوره تنتشر انتشار صور سيدنا علي، أو كأنها تلك (الرسائل) التي كانت تأتي إلى الجزائر مع الحجاج العائدين من مكة كل عام والتي لا يعرف مؤلفوها. كانت مكتبة النجاح توزع هذه الصور فيأخذها بعض الطلاب ويضعونها فوف الأسرة داخل غرف المنامة في (المدرسة). لقد كانت أسطورة (الغازي وعصمة إينونو) في ضمائرنا مرادفة للخلاص والانعتاق، وأصبح الميل لتركيا شائعاً في البلاد كلها وخاصة طلبة المدرسة. ولذا فقد بدأ المدير (دورنون) يلاحق (الشبان الترك) بين الطلبة. في هذا الوقت بدأت على ما أعتقد أقرأ المؤلفات. لقد قرأت (بييرلود Pierre Loti) و (كلود فارير Claude Farrère) وقد قرأت ( L’Azyade) و (فاقدات السعادة Les Desenchantées) و ( L’homme qui assasina الرجل الذي اغتال). لقد بدأ الشرق القديم منه والحديث يستهويني بأمجاده ومآسيه. وكان الحديث عنه يبكيني أو يبهرني، إنما في الحالات جميعها يشدني إلى شيء خبيء في نفسي بدأت أدركه في شيء من الصعوبة. وقد استطاعت الدروس ذاتها خاصة مع أساتدتنا العرب أن تنمّي فينا هذه الروح وتغذيها. وكنا نجد شيئاً ما أكثر لدى الشيخ (مولود بن موهوب) الأستاذ في المدرسة ومفتي المدينة. لقد احتفظ الشيخ في ذهنه بذلك الأثر الذي غرسته في نفسه دراسته على يد معلمه الشيخ (عبد القادر المجاوي)، وقد تولى هو نقل هذه الغرسة إلى تلك الأجيال من المدرسيين وكانت منهم، وقد أينعت ثمارها في الحركة الإصلاحية الناشئة في الجزائر.

كان هناك اتجاه عام لرد هذه الحركة إلى أصول شرقية حديثة كالتي أبدعها جمال الدين ومحمد عبده. ولكن كان يعيبها أنها لا تأخذ باعتبارها التقاليد المحلية. في الواقع إن (الحركة الإصلاحية) في الجزائر قد اتصفت بصفة الدوام والاستمرار، وربما كان ذلك في العالم الإسلامي كله أيضاً، فقد كان الداعون للتجديد يتعاقبوق ابتداء من (ابن تيمية) في القرن الثامن الهجري؛ وكان محمد بن عبد الوهاب- مؤسس أول إمبراطورية وهابية قوّض أركانها بعد ذلك محمد علي- في الحقيقة استمراراً لابن تيمية في الجزيرة العربية. وجَدُّ الملك الحالي لليبيا (¬1) كان أيضاً استمراراً لهذا الاتجاه، وأخيراً لعل أقرب من نشير إليهما في الزمان والمكان: الشيخ (بن مهنا) وتلميذه (المجاوي) اللذان حملا في نهاية القرن الماضي في قسنطينة لواء هذه الحركة. وقد تولى الشيخ (مولود بن موهوب) جذب أفكارنا وعقولنا إلى خط تلك الحركة التقليدية القديمة، ولكنها وجدت في أرواحنا عناصر جديدة أضيفت إلى بنائها. فمن جهة عامة كان أساتذتنا الفرنسيون يصبون في نفوسنا محتوى ديكارتياً، يبدد ذلك الضباب الذي نمت فيه العقلية الميثولوجية التي تتعاطف مع الخرافات النامية في الجزائر؛ ومن جهتي أنا فقد كان الأستاذ (بوبريتي Bohreiter) قد فتح لي آفاقاً جديدة. ولم يكن ذلك بفضل دروسه المقررة علينا كتاريخ الأزمنة القديمة والأدب الفرنسي- وإن تكن هذه قد تركت أثراً لا ينكر- إنما بفضل توجيهاته فيما نقرأ من كتب. ¬

_ (¬1) يلاحظ هنا زمن وضع الكتاب عام 1966 قبل قيام النظام الجماهيري عام 1969م. (المصحح).

في الواقع فقد قرأت هذه السنة (التلميذ Le Disciple) لـ (بيار بورجي). وهذه القصة فتحت أمامي عالم النفس الذي أتاح لعقل فتيّ كعقلي أن يتخلى عن شيء من أوهامه وسذاجته. وكان لهذا الاتجاه أن يأخذ بي أبعد من ذلك، لولا دروس الشيخ (مولود بن موهوب) في التوحيد وسيرة النبي وتلك التي للشيخ (بن العابد) في الفقه؛ فقد كانت هذه مذكّراً قوياً يعود بروحي إلى الطريق الصحيح. ومن جهة أخرى كان الشيخ (عبد المجيد) يحلل في دروسه بعض نظراته في انحراف المجتمع وتجاوزات الإدارة، وقد أذكى ذلك في نفوسنا تأييداً وحماسة. وكان آخر هذه المؤثرات كتابان عثرت عليهما في مكتبة النجاح أعدهما الينابيع البعيدة والمحددة لاتجاهي الفكري. أعني بذلك كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا و (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده. وقد تولى الشيخ مصطفى عبد الرزاق ومستشرق فرنسي ترجمته للفرنسية. هذان المؤلَّفان أثّرا على ما أعتقد في أبناء جيلي من المدرسيين. أنا مدين لهما على كل حال بذلك التحول في فكري منذ تلك الفترة. لقد رسم لي كتاب أحمد رضا مزوداً بالشواهد الكثيرة بهاء المجتمع الإسلامي في ذروة حضارته، وكان ذلك معياراً صحيحاً نقيس به بؤسه الاجتماعي في العصر الحاضر. أما كتاب محمد عبده - وهنا أتحدث عن المقدمة الهامة المترجمة حول غنى الفكر الإسلامي عبر العصور- فقد أعطاني مستنَداً للحكم على فقره المحزن اليوم. كانت هذه الكتب تصحح مزاجي؛ ذلك الحنين إلى الشرق تركه في نفسي كتب (فارير ولوتي Farrère,Loti) وحتى لامارتين أو شاتوبريان، فعرفت تاريخ الشرق وواقعه وأدركت بذلك ظروفه البائسة الحاضرة. هذه القراءات شكلت بالنسبة لي قوة أخرى من التنبيه في المجال الفكري،

إذ حالت دون انجرافي في الرومانطيقية التي كانت شائعة في ذلك الجيل من المثقفين الجزائريين. لقد أصبت هكذا عدداً لابأس به من المؤثرات الموجهة والمعدلة أو المحركة، وينبغي أن ألاحظ من بين هؤلاء واحدة تبدو فريدة، أعني أثر صديقي (محمد بن الساعي). لم أكن قد عرفته بعد، فمنذ عام ترك المدرسة قبل أن ينهي دروسه، ولكنه ترك وراءه أثراً. فصديقي فضلي وهو مثله من أبناء (باتنه Batna) كان يحدثني عنه. كنت أضفي على ما أسمعه منه شيئاً من المثالية. فـ (بن الساعي) الذي كان يكبرني لم يكن مخلصاً ذكياً ومثقفاً بالعربية والفرنسية فحسب، بل هو شخص مثال وقدوة. ولعله مما يُدهِش أن نقرأ بعد ربع قرن من الزمن كتاباً ذكر فيه مؤلفه (بن الساعي) على أنه (معلمي) ولهذه الدهشة سببان: الأول أنه ليس مألوفاً في الجزائر أن نرى مثقفاً يعترف بشرف واحترام لمثقف آخر بما يعتقد أنه مدين له، والثاني لأن (معلمي) و (شيخي) الذي سقط إبان دراسته لأسباب نفسية واجتماعية، لم يقدم لمواطنيه الصورة نفسها التي كنت أراه فيها وأنا في السادسة عشرة من العمر. ومع ذلك فقد ترك في نفسي أثراً خاصاً حينما تعرفت عليه شخصياً بعد عدة أشهر. ففي نزهاتنا معه أنا وفضلي بين غابات الصنوبر، كنت أستمع إلى طريقته في توجيهه الآيات القرآنية لتتخذ تفسيراً اجتماعياً لحالة المجتمع الإسلامي الحاضرة، وكان ذلك يؤثر في نفسي كثيراً. ومن ناحية أخرى كان صالوننا الأدبي في مقهى (بوعربيط) يزودنا بفرص كثيرة من المشاركة في الحديث حول الأدب العربي. لقد اكتشفت بهاءه القديم

وإمكاناته الحاضرة. وقد استطعت بفضل الشروح حول النصوص أن أقدر وأفهم العبقرية الشعرية للجاهلية وأولئك الشعراء في بني أمية والعباس. وقد استرعى اهتمامي امرؤ القيس ولَذَّ لي استماع الشنفرى، واسترسل لي عنترة في أحلام البطولات. أما الفرزدق والأخطل وأبو نواس فقد مارس كل منهم إغراءه في نفسي. وفي جمع آخر من زملائي كنا نخوض في شعراء المدرسة الحديثة مع حافظ إبراهيم والرصافي، وقد اكتشفنا يوماً شعراء العربية في المهجر كجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي. وترجمة رائعة لامارتين (البحيرة) جعلتنا نتعرف إلى لون جديد من الأدب الفرنسي تولى ترجمته أساتذة الأدب العربي المعاصرين. كان المنفلوطي سيد هذه المدرسة في ذلك الحين. وكتاباه (النظرات) و (العبرات) أثارا فينا الكثير من التنهيدات. لقد أهملت قليلاً دروسي عدا دروس الأستاذ (بوبريتي Bobreiter)، ولكنني كنت أقرأ كثيراً حتى قصص (الرداء والسيف). وكان (ميشال زيفاكو) يستأثر باهتمامي، وقد قرأت سلسلته حول أسرة (باردييان Pardaillans). كنت أستسلم للتأملات واضعاً نفسي أمام بعض التساؤلات. ففي تلك الفترة حسبتني اكتشفت أن الأرض لا تدور وصحت:، ((أوريكا! ... أوريكا!)). أي وجدتها وجدتها. بدأ زملائي ينظرون إلي بشيء من الخوف ... فربما أخذ عقلي ينقلب رأساً على عقب فذلك ما كنت أقرؤه في عيونهم. حاولت أن أشرح لهم فكرتي قائلاً: ((لو كانت الأرض تدور فإنما بألوناً نطلقه من الأرض إلى الجو لابد أن يسقط في نقطة تبعد عن نقطة انطلاقه بعداً يتناسب مع سعة دوران الأرض)).

ربما لم أكن أعبر عما يجول في ذهني بذلك الشرح، إنما هذا ما كنت أفكر به؛ ولم يكن زملائي يرغبون في المغاعرة بذلك التفكير لذلك آثروا النظر إلي دهشين. أما أنا فقد نسيت هذا الموضوع مع الزمن ولم أعد للتفكير فيه أبداً. في تلك الفترة أيضاً بدأت أعالج مشكلة أخرى صغيرة غير أنها سببت لي بعض الارتباك. في السنة المدرسية التي قضيتها في القسم التكميلي تعلمت وضع (الشاشية) حسب الطريقة المعروفة باسم (موسى à la Moussa). ولم يكن من العسير أن أجد في شارع يؤدي إلى (رحبة الصوف) شاشية من النوع المناسب القابل للثني حسب الطريقة المذكورة. وجاء بعد ذلك وقت وضع ربطة العنق، وقد اعترض ذلك بعض الصعوبات الصغيرة، فكان علي أن أغير صدارتي ذات الطراز القديم التي تخلو من تلك الفتحة وتسمح بظهور الربطة. وكذلك فإن ياقة قمصاني لم تكن معدة إعداداً يحمل الربطة الجديدة. لم تكن فقط مشكلة مالية، فإنه من أجل شراء قميص حديث مع ياقتين كان لابد من الذهاب إلى شارع (كارامان Caraman) وإلى متجر فرنسي. ليس هذا كل شيء، بل ينبغي التحدث إلى البائع. وقد يكون يهودياً قادراً على السخرية أو فرنسياً يتصنع الأهمية أمام زبون من أبناء المستعمرات ( Indigène) لقد كان هذا بالفعل أمراً صعباً. أخيراً وجدت من يساعدني على شراء ذلك اللباس. ولكن تبع ذلك أن (فضلي) و (قاواو) أمضيا الوقت بعد ظهر جمعة أو أحد- لم أعد أذكر جيداً- واقفين على عتبة المدرسة ليعلّماني طريقة عقد الربطة. وليس ضرورياً أن أذكر صعوبة كيِّ القبة وترتيبها، بطريقة لا يبقى معها فراغ بينها وبين القميص يسمح برؤية الرقبة. وليس سهلاً أن نتصور أهمية هذه الصعوبات في وقت كانت أخواتنا يمارسن

أولى خطواتهن في تعلم طريقة استعمال المكواة. وعلى كل فقد تمكنت من حل هذه المشكلة الصغيرة. في المدينة حافظت على صِلاتي القديمة، عدا علاقتي بعمي محمود فقد اعتراها فتور لخلاف عائليّ، وعلى كل فقد توفي في تلك السنة: بعضهم قال إن سبب وفاته ما أظهره في إحدى حلقات العيسوية من همة وحماسة أدّتا به إلى ثقب أمعائه أثناء قيامه ببعض الخوارق، وآخرون ذكروا سبب موته بأنه لإهال في معالجة التهاب الزائدة الدودية أدى به إلى تلك النهاية. عرفت بخبر وفاته من (بوعربيط) إذ كان يقدم لي ذات صباح القهوة، ولم يكن يدري هل نحن أقرباء أم أن علاقتي به تقتصر على أننا نحمل كنية واحدة. وكنت من آن لآخر أتردد على خالتي بهية أرملة المرحوم جدي. كانت ورقة العطوس لا تفارق أنفها، وشقيقها (عَلاوة) يجلس إلى قربها كولد وديع. وأحياناً تطلب إليه أن يحك لها ظهرها. وكان هذا يستجيب لها بشيء من العاطفة البنوية. لم تكن أعمالها في متجر الفحم على شيء من الازدهار، وكنت أحسّ بالارتباك والعوز اللذين يسودان المنزل، وزاده أن أصبح العامل في مصنع (بن القريشي) للدخان الذي كان يستأجر الطابق الأول مستأجراً في مكان آخر، وأضحى الطابق الثاني بموت عمي خالياً. أما الرايا حيث كان يقيم فيه السي علي، فلم تعد بنته المطلقة تقيم معه، فقد يئست على ما يبدو من انتظار زوج فذهبت يوماً إلى الحمام ولم تعد إلى المنزل. كل ذلك أوقع خالتي في فاقة سيطرت على منزلها. أما خالتي بهيجة فكان عليها هي أيضاً أن تتأثر بالنتائج المتخلفة عن تغير الأوضاع الاقتصادية لعائلات قسنطينة العريقة. فالحمام الذي كانت تشتغل فيه وظيفة أمين صندوق يخص

عائلة (بن شريف) قد طرأ عليه التحول، إذ بدأت هذه العائلة دون شك تعيد النظر في إدارة ممتلكاتها. ورأى واحد منها لأول مرة في تاريخ قسنطينة أن يفتح محلاً للعطارة في (الشارع الوطني National). ورأى الناس أيضاً (بن القريشي) يتخلى عن مصنع الدخان الذي كان يمتلكه لأحد اليهود، وذلك بعد أن أشرفت أعماله على الخراب وخاصة بعد وفاة عمي. إن عائلة (الباكتاشي Les Bachtazi) لم يعد لها وجود. وأفراد عائلة (صالح باي) بدؤوا يهاجرون إلى تونس فيها انطوت عائلة (اللفغوني Lefgun) على نفسها. لم يعد الناس يرون كبير عائلة اللفغوني يترأس جمعاً من أصدقائه أمام منزل العائلة، يجلس على تلك المصطبة التي بناها أحد أجداده منذ عدة أجيال يتجاذبون الحديث بعد العصر حتى صلاة المغرب. لقد هبت ريح من الذعر على تلك العائلات العريقة التي تمكنت من إنقاذ ثرواتها من أحداث عام 1837 عام دخول الفرنسيين، لقد بدأت اليوم تذهب ضحية التطورات الاقتصادية. كانت أمي بهيجة إحدى الضحايا، إذ عمدت عائلة (بن شريف) لتسليم إدارة الحمام إلى امرأة عجوز من أقاربهم، ولذا فقد كان عليها بعد أن أصبحت دون عمل ودون مورد مالي أن تدهب إلى تِبِسَّة لتلجأ إلى منزل العائلة. وفي محيط (المدرسة) حدثت تغيرات ذات مغزى كبير أدت إلى شيء من الانحطاط المعنوي. منذ أجيال كان محيط المدرسة يشكل مجموعة لها أهميتها في المدينة (مقهى المدرسة) و (مطعم المدرسة). لقد بدأ الطلبة يترددون على مقاهي أخرى، فبوعربيط احتفظ لمقهاه بمستوى معين إذ لم يكن ليسمح في الصالة الرئيسية بوضع الحصر على الأرض،

وكانت طاولاته مستديرة الشكل ذات سطح رخامي وحولها الكراسي والمقاعد ذات السندات الخلفية. كان ذلك يعطي المقهى جواً خاصاً. والشارع الذي يقع فيه يسيطر عليه جو من الهدوء، كذلك الهدوء الذي يلقاه الباريسي في بعض زوايا مدينته على أرصفة مقهى صغير ذي طابع قروي، أو في مكان لا يزال يحتفظ بتقاليد قديمة. لقد بدأ المدرسيون يهجرون مقهى بوعربيط ليذهبوا إلى آخر يفترشون فيه الحصير، وبدأت آثار تلك الهجرة تظهر في ذلك المقهى فيسوده شىء من البؤس شبيه بذلك المسيطر في بيت خالتي بهية. وهناك هجرة أخرى بدأت تصيب محيط المدرسة. فأحد الطلاب اكتشف ذات يوم حانوتاً خشبياً قذراً، يمكن ارتياده في ساعة متأخرة من الليل بعد الخروج من حانة يملكها أحد اليهود، وهو يتجشأ النبيذ أو اليانسون، فيأكل فيه قطعة من الخبز مغموسة في قدح من الحمص المقلي، أو شيئاً من الفلفل الحار مغلياً بالزيت، أو قليلاً من البطاطا المقلية وبعض أمعاء مسلوقة بالماء. صاحب ذلك المطعم يدعى (بوكاميه)، والطالب الذي كان أول زبائنه حمل آخر إليه وذلك قاد ثالثاً. وبسرعة كبيرة أصبح جميع الطلبة يقفون أمام محله صفاً طويلاً بانتظار دورهم عندى الظهر. فمنذ الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والأربعين لم يعد أحد من الطلبة يستمع لما يقال في الصف. فكل واحد منهم يستعد ليكون في أول النسق وصعولاً إلى حانوت (بوكاميه) الذي يحوي ستة أو سبعة كراسي للجلوس. كنت أشعر بشيء من الأسى حين أمر أمام المقهى القديم، فأرى (بوعربيط) واقفاً عند مدخله، فلم يكن لديه ما يفعله في الداخل. وأحياناً كانت تتقزز نفسي عند دخولي لمطعم (بوكاميه).

كان انحطاط وسطي يزعجني ويحزنني كثيراً، ولم أكن أفهم الأسباب الاجتماعية لذلك ولا نتائجه المعنوية. وسط هذه البيئة المتغيرة بدأت تظهر بعض السمات الرئيسية في طبعي. كنت أجاهر بأفكاري مجاهرة صريحة وفظة، ولا أزال أذكر ذلك الطالب من (خنشلة) الذي كان زميلاً لي في السنة الأولى، كانت فيه بلادة واضحة تبدو في تصرفاته وأقواله لقد كان يبطئ في كل شيء. ولم أكن أتورع أحياناً كثيرة عن أن أصرخ فيه بفظاظة قائلاً: ((ما بك؟ تحرك)). لم تكن مشاعري نحوه سيئة، إنما كل ما كنت أريد له هو تغيير ما كان يؤذيني من تصرفاته البليدة. ولم يكن زميلي وهو ابن العائلة العريقة والخلق الرفيع ليبدي أية إشارة تدل على فراغ صبره، بل كان يبتسم ابتسامة يحاول أن يخفي وراءها ارتباكه. إنني أدرك الآن أن هذه الصفة تعد أساسية في نفسيتي وخصالي، وعلى أساسها يمكن تفسير الكثير من تصرفاتي في الحياة فيما بعد، وخاصة افتقاري للمرونة وهو ما كان ينتقدني من أجله أقرب الأصدقاء. كنت أحب المناقشة خاصة إذا كان الموضوع علمياً أو دينياً. وكنا لذلك نتردد أحياناً على إحدى البعثات التبشيرية الإنجيلية لنتناقش في بعض الموضوعات، وهناك تعرفت لأول مرة على الإنجيل. كان النقاش يدور حول ألوهية السيد المسيح، وكان يشاركني فيه طالب علم في الشريعة قديم حفظ القرآن كله في زاوية (بن سعيد)، ثم اعتنق فيما بعد البروتستانتية على يد امرأة إنكليزية يدعوها أهالي تِبِسَّة (السيدة Bina). وهناك أيضاً تعرفت إلى بعض تلامذة الشيخ (بن باديس) الذين جاؤوا أيضاً ليدافعوا عن الإسلام.

لقد شعرت بأنني وهؤلاء في اتجاه فكري واحد، وهذا ما لم أكن أشعر به مع من كنت أعاشرهم من طلبة المدارس الثانوية الملسمين. كان اسم الشيخ قد بدأ يتردد في المدينة. وتعرّفي على بعض تلامذته جعلني أدرك أننا ننتمي إلى عائلة فكرية واحدة ستسمى فيها بعد في الجزائر (حركة الإصلاح). في هذا الوقت وقع خلاف بين الفرنسيين واليهود أثار ضجة في قسنطينة، وقد أثارت إحدى الصحف الأسبوعية حملة ضد الإسرائيلية. وفي نطاق ذلك أعلنت تلك الجريدة عن مسابقة في الجواب على هذا السؤال: ((لماذا لا يضع عصفور اللقلق في قسنطينة عشه على سقوف منازل اليهود؟)). لقد وردت أجوبة من كل نوع من بينها رسائل من بعض طلبة المدرسة. وقد تطور الخلاف حتى بلغ درجة سار معها اليهود في تظاهرة لمعاقبة تلك الصحيفة، فهاجموها وألقوا بأدواتها في وادي الرمل. كانت أخبار عائلتي تصلني بصورة متقطعة، فإن والدي لم يكن يعرف كيف يسخر قلمه لذلك الواجب الأساسي، الذي يقضي عليه بأن يضع ولده في أحداث العائلة. لم أكن أذهب إلى تبسة في عطلتي عيد الميلاد وعيد الفصح. فكنت لذلك أنتظر عودة (حليمية) لأحصل منه على شيء من أنباء مدينتي. لقد ازداد فريق تبسة واحداً هذه السنة فقد انضم إلينا (عبد الحميد نسيب)، وانتسب إلى الصف التكميلي ليحضر نفسه لدخول المدرسة في العام القادم. وعن طريق هذين الصديقين وصلتني بعض الأخبار المفصلة عن أبي وأمي وعن الأب (آدم Adam) وعن مدرستي والزملاء الذين تركتهم هناك، والذين حصلوا على عمل في المدينة بعد أن نالوا شهادة الدراسة الابتدائية أو تفرغوا لتعلُّم إحدى الحرف. فالحياة هناك كانت تتابع سيرها واضعة كل واحد في الطريق الذي سيتحقق فيه مصيره.

شأن المدرسة كشأن جميع المعاهد، فقد كانت العودة من عطلة الفصح تعني نقطة فاصلة في السنة الدراسية يبدأ عندها الاستعداد للامتحانات القريبة. والقليل الذين بقوا أمناء على عادتهم في التردد على مقهى (بوعربيط) وأنا منهم، انقطعوا هذه الفترة عن ارتياده، ولم يعد أكثر الطلبة بقادرين على لعب الدومينو على حصر المقاهي التي استبدلوها بمقهى بوعربيط. والنسق من الطلبة الذي يقف ظهر كل يوم أمام مطعم (بوكاميه) لم يعد طويلاً كالسابق، فالطلبة لم يعد لديهم الوقت للانتظار من أجل الحصول على المقعد اللماع في المطعم لكثرة ما عليه من الشحم. وفي المساء لم يكن على الشاوش أن ينتظر المتأخرين فالجميع يأوون باكراً. وعندما تطفأ الأنوار في الساعة المعتادة دون أي رحمة كان المارة يرون عند منحدر (شارع بريغو)، أنواراً حمراء تشع عبر زجاج النوافذ في الطوابق الثلاثة لجناح المنامة، فكل طالب أشعل قنديله أو مصباحه ليتسنى له مذاكرة دروسه. فكنت ترى الأوراق الصفراء التي تضم مؤلفات قواعد اللغة العربية والفقه تعلو الأنوف، إذ من عادة هؤلاء أن يقرؤوا وهم مستلقون في الفراش كأنهم نيام. ومتى حل موعد الامتحان تجد الجميع وقد علت الصفرة وجوههم، وشابهم الهزال وطالت شعورهم وتشعثت وكثفت لحاهم وتجعدت ياقات قمصانهم واتسخت، فلم يكن أحد منهم يجد متسعاً من الوقت لغسل قميصه في مغسلة الجناح، أو ليمرّ على الحلاق يقص شعره أو يذهب إلى الحمام ليستحم، ولم يكن بالطبع بقادر على مسح حذائه أو رفو جواربه. وذات صباح وقف السيد (دورنون Dournon) في باحة المدرسة يقرأ أسماء أولئك الطلبة، الذين تحولوا إلى كتل من اللحم كريهة الرائحة لزجة الملمس، لكثرة ما تجمع عليها من عرق كان يتصبب في ليالي الدراسة الطويلة، ملفوفة

بالبرانص التي امتصت مرق (بوكاميه) أثناء العام الدراسي. لقد قسم الطلبة إلى فرق أربع، وكان كل فريق يتألف من طلبة صف واحد يسيرون سوية إلا قاعة الامتحان المعينة لهم بوداعة واستسلام، كقطيع من المواشي يساق إلى المسلخ. لقد بدأ أسبوع الرعب، فكل ما تلقاه الطالب أثناء العام الدراسي عليه أن يفرغه على الورق المرقم والموضموع على المقعد المخصص له. كل طالب كان يتجشأ ما عنده من معلومات طرأ عليها التغير، أو ربما فسدت خلال أيام الامتحان الخمسة أو الستة التي قضوها تحت مراقبة السيد (دورنون) الساهر اليقظ. ولكي يتمكن الطالب من فتح كتاب أو دفتر فإنه يجب أن يكون ولداً اختصاصياً في هذا الفن، فمن الصعوبة بمكان فتح ذلك الكتاب وهو موضوع على الركبتين على الصفحة المطلوبة والقراءة عبر القندورة التي تغطيه في شبه ظلمة. فمن كانت لديهم الموهبة ينقلون صفحات بكاملها تحت نظرات المدير اليقظة. كان الأستاذ (بوبريتي Bobreiter) يبدي منتهى القساوة مع هؤلاء (الاختصاصيين) عندما يخطئون فينقلون له صفحة عن (فنلون Fenelon) بينما يكون هو قد وضع سؤاله عن (بومارشه Beaumarchais) مثلاً. وكان (دورنوق Dournon) يبدي بعض اللين والتساهل حيال أولئك الذين عرفوا بممارستهم للصلاة والذين يضعون العمامة و ( gandoura)، فقد كان في أعماقه- وكنا نعرف ذلك جيداً- يفضل بلادة هؤلاء على طيش من يسمون (الأتراك الشبان). بعد انتهاء هذه الأيام المحمومة تمر المدرسة بمرحلة أخرى، تلك هي القلق. لم يكن أحد ليغير هيئته أو ملابسه انتظاراً لتلك الورقة الصغيرة الموقعة من

السيد (دورنون Dournon) والتي يعلقها الشاوش وراء الباب الموصل بين جناح الدراسة وجناح المنامة والذي لم يعد له الآن وجود. خلال هذا الانتطار المؤلم يصبح الشاوش كـ (عرّافة ديلفس Delphes)، وكان الطالب القلق الذي فرغ صبره وخاصة في ربع الساعة الأخيرة قبل إعلان النتائج يسأله: ((عميمي- هل نجحت؟)) وكان عميمي هذا يتصنع الغموض ويجيب باستهزاء: ((هي ... هي ... هي ... )) ما معنى هذا .. ؟ وإذا لم يكن أحد يتجرأ على تفسير كلمات العراف فمن الأفضل التسليم بالمقدور. وكان عميمي صاحب طريقة خاصة في تعليق وريقة النتائج، إذ كان ينتظر الساعة التي لا يكون فيها أحد ويعلقها خلف ذلك الباب الشبيه بالمطهر. وأخيراً فإن أول مدرسيّ يكتشف الورقة في ذلك المكان يطلق صرخة الخطر. فإذا الأربعون في الصفوف الأربعة يتزاحمون ويتدافعون؛ إنها لحظة مخيفة. فلكي يتمكن أي طالب من الاحتفاظ بمكان له في المدرسة يؤهله الوصول إلى مركز العدل في القضاء الشرعي، كان عليه أن يحافظ على منحته الدراسية. وذلك متوقف عل نتيجة الامتحان وهكذا نرى أنها بالنسبة لـ (المدرسي) مسألة حياة أو موت. وحينما يكون هناك صف أو تدافع حول شيء ما، فإن (حليمية) يعرف كيف يكون في المكان الأفضل متهماً من حوله بأنهم يدوسون على قدمه. كان يرفع رأسه لقصر قامته الذي كان يزعجه، ويقف على رؤوس أصابع قدميه أمام ورقة (دورنون) بالذات. وبقفزة واحدة يلوح رأسه بين الرؤوس المحيطة به، ويصرخ كما اعتاد أن يفعل كلما كان لديه ما يريد أن يفاجئني به وقال: ((صديق ... نجحنا)). وهكذا حافظنا هو وأنا على المنحة الدراسية.

بعد ذلك اجتاحت الجميع حمى أخرى. فقد هرع كل طالب إلى حلاقه والحمام العربي، ثم بدأ بتغيير القميص والياقة، وربطة العنق كما بدأ بتنطيف حذائه .... وأخيراً تحضير الحقائب. وبذلك تتحول المدرسة إلى ورشة يستعد فيها الطلبة للرحيل. كل واحد منا بدأ يفكر بالهدية التي سوف يحملها لعائلته ... لأنه يشعر بأنه كبر، أليس كذلك؟ أما (بن عبد الرحمن) ذو الوجه اللماع بفضل زيت القبيل الذي ربما تغذى به في ظل عائلة فقيرة، والذي تعود أن ينفجر باكياً عندما كان الشيخ (بن العابد) يذكر اسم النبي، فقد حمل معه سريراً من الحديد يعلوه الصدأ كان قدى اشتراه بعشرة أو بخمسة عشر فرنكاً من سوق البراغيث سوق الأشياء القديمة في قسنطينة ( Marché aux Puces). ... في تِبِسَّة كانت أمي على سرير المرض وحولها تلك المجموعة من المساند رتّبتها شقيقتي الصغرى، لتحول دون أي تماس بين الجرح الموجود عند أسفل العمود الفقري والفراش. كان الدكتور (فيكا ريلا Figarella) يزورها مرات ثلاثاً أو أربعاً في اليوم دون أن يقدم كشفاً للحساب. وقد زايل العائلة خشية في أن يبهظها المبلغ عند المطالبة به. وعندما قدم الدكتور كشف الحساب بعد ثلاث أو أربع سنوات من علاج أمي قبيل وفاتها، كان هذا الكشف لا يزيد عن ثلاثمائة فرنك، وقد اتفق الجميع في المنزل أن هذا الكافر ربما أمكنه دخول الجنة. كانت أمي تعتمد على علم (فيكاريلا Figarella)، ولكنها كانت أيضاً تعتقد في بركة الإمام (الشيخ سليمان). هذا الشيخ الذي جاء تِبِسَّة عندما كانت تلميذاً في مدرسة المديرية.

لقد خلف إماماً آخر كنت أحتفظ له بذكرى غامضة. إنني أذكر فقط أنه كان عازباً يعيش وحيداً في منزل صغير في شارع سمي فيما بعد شارع الرسول. لقد كانت له هواية خاصة به. فغالباً ما أجده في شارع الرسول بين الصلاتين مهتماً بتحريض ديكين على المبارزة، لقد ربّاهما ودرّبهما على هذه المهمة. وأعتقد أنه لم يكن لديه اهتمام بمسؤوليته الروحية. وما كان نصيب أرواح التبسيين من اهتمامه يعادل اهتمامه بحالة العرفين الداميين لديكيه عندما يطلقهما في معركة أمام ناظريه، تسلية لنفسه ولناظري الأطفال المشدوهين مثلي ونحن نحيط بهما. جاء الشيخ (سليمان) مدينتنا في أواخر الحرب. وسرعان ما اكتسب ثقة الناس به، فكانت الخلافات في العائلة أو بين الأفراد تجد حلها على يديه. ولم تكن أحكامه النزيهة لترضي دائماً القلوب، ولكنها كانت بكل حال مقبولة. فعمي إسماعيل الذي كان مشهوراً ببخله رضي بأن تأخذ مطلقته أحد أولاده معها، كل شيء لأن الشيخ سليمان حكم بذلك عندما قال: ((الشاهد عندنا! ينبغي أن نترك هذه المرأة المسكينة تحمل كامل جهازها)). أصبح المسجد قلب المدينة النابض. وتولى الشيخ (سليمان) تأسيس أول جمعية خيرية فيها. كان يحضر حفلات الزواج ومجالس الطلاق ومراسم الدفن وكان قراره هو الأخير في سائر المشاكل الناجمة. بعض العادات التي هي على شيء من البربرية بدأت تتغير. فقد كان يدعو في خطب الجمعة إلى نبذ الندب والعويل في الجنازات، والإقلاع عن الصخب والضجيج في احتفالات الزواج. وقد جعل ذلك عجائز تبسة يلعنّ هذا الشيخ

الواعظ. لذا فلم تعد السيدة (دوننسان Denoncin) ترى النساء تمر أمام متجرها نادبة بصوت مرتفع في المواكب. في الواقع لم تكن لدى الشيخ سليمان خطط إصلاحية لكنه كان يصلح بالفعل. ولم يكن يعي أنه يرسي بذلك أسس الإصلاح في الروح التِبِسّية. كان في تِبِسَّة تكاثر في الأفكار يغذيه ذلك الرهط من العلماء الذين بدؤوا يعودون من الشرق. يتابعون تقليداً قديماً أوجده شيخ من (نفطة Nafta) الواقعة على الحدود الجزائرية التونسية، وتشكل مركزا ثقافياً يذهب إليه الطلاب الذين يحفظون القرآن في زاوية سيدي (بن سعيد) أو سيدي (عبد الرحمن)، ولم تكن لديهم وسائل المال لإتمام دراستهم في جامع الزيتونة في تونس. كان هذا المركز يشع بالثقافة الإسلامية على منطقة الجنوب القسنطيني. وفي مطلع القرن الحالي كان يديره شيخ جليل هو الشيخ سيدي (محمد بن إبراهيم)، كان هذا الشيخ يقضي بانتظام عطلة الصيف في تِبِسَّة لدى صديقه (القائد الصديق) في زمن يمكن فيه القائد أن يكون صديقاً للأدب والعلم. إن النظام الاستعماري لم يكن حتى ذلك الحين قد أفرغ كل ما يحمله من انحطاط اجتماعي ومعنوي. فنشأ ذلك التقليد الذي تولى رعايته الشيخ (الصدوق بن خليل) والشيخ (عسول) وقد جاء بعدهما الشيخ (العربي التبسي)، فأدخل هذا التقليد في (الحركة الإصلاحية) في زمن كنت فرغت فيه من عامي الأول في المدرسة. في ذلك الوقت كان الشيخ (سليمان) يستلم دور القيادة الروحية ليس لعلومه الدينية فحسب وإنما أيضاً بسبب تقاه وبركته؛ فقد كانت تعرض عليه الأحلام ليفسرها، ويأتي البيوت ليكون بالقرب من المرضى والمحتضرين، وكان حضوره يحمل الارتياح والعزاء. كان يأتي غالباً لزيارة أمي حين لا تجد في عناية الدكتور (فيكاريلا Figarella) ما يخفف عنها مرضها المزمن.

كان هناك إذن تحول لاشعوري للعادات والتقاليد التبسية، فقصاصو ألف ليلة وليلة لم تعد أعمالهم مزدهرة، جمهورهم تحول بشكل محسوس عن المقاهي العربية حيث يقيمون حلقاتهم، إلى المسجد ليستمعوا إلى دروس الشيخ سليمان بعد صلاة العشاء، أو إلى مكان آخر يستمعون فيه إلى أحاديث الشيخ الصدوق والشيخ عسول. وتعرضت تبسة لتحول في منظرها العادي أيضاً، لقد ازداد فيها الأوربيون، خصوصاً بعد أن جاء عمال السكك الحديدية وعائلاتهم مع افتتاح الخط الحديدي لعين البيضاء وإنشاء مركز لإصلاح القطارات. كان هؤلاء الأوربيون يقيمون حفلات 14 تموز (يوليو) الراقصة في ساحة (كارنو Carnot)، يرقصون حول كشك الموسيقا الذي يعتليه الأب (كابولا Capolla) رئيس فرقة تِبِسَّة الموسيقية، يزن بقدمه إيقاع رقصة ( Polka) أو رقصة من أصل بولوني (مازوركا Mazurka) من المساء حتى الفجر. كان صدى الطبول والآلات النحاسية الموسيقية والصندوق الموسيقي ينتشر في ليل تبسة الصائف الرائع فيعم المدينة. وجدتي التي كانت لا تزال حية حين تسمع ذلك تتمتم: ((داش به سوادهم)). وتعني هذه العبارة ((ما هذه البربرية!))، ثم تأخذ إبريقها وتذهب لتغسل وجهها ويديها في الشرفة وهي تصب لعناتها على الشيطان. وكانت ابنتها خالتي (مليحة) عندما ترى موكب جنازة يتقدمها الأب (كابولا Capolla) وفرقته في طريقها إلى المقبرة الأوربية تفعل مثل ما تفعل أمها. فتلك العربة السوداء وما تتزين به هي إبليس يمر أمامها. لقد بدأ اليهود في هذه المرحلة يتقدمون، وأوضاعهم الاجتماعية تطورت نحو الأفضل، كان ذلك واضحاً في سكناهم، فمن عادة اليهود أن يسكنوا في أطراف المدينة داخل الأسوار لأسباب تقليدية وفوائد يجنونها.

فحينما تقطن العائلة اليهودية بقرب السور كان ذلك يسمح لها بالاستفادة من المجال الواقع بين الدار والسور، لقضاء بعض حوائجها بعيداً عن طريق المارة كغسل الملابس مثلاً ونشرها. بالإضافة إلى ذلك ثمة عادة قديمة تقضي بألا يقبل في قلب المدينة إلا من كان معروفاً باستقامة صحيحة. ولذلك فإن السلطة الفرنسية وضعت أول بيت للدعارة من أجل الجيش في طرف المدينة. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأ اليهود التبسيون يهجرون حرفتهم وهي الصياغة وصب المعادن، لينطلقوا في التحارة وخاصة السمسرة. لقد تركوا أيضاً بيوتهم القديمة وبدؤوا يستقرون في الحي الأوربي. وأصبحت ترى شبابهم يبادر إلى الحفلات الراقصة التبسية مثيراً هنا وهناك بعض الصدام مع الشباب الأوربي، حينما تكون مناقشة من أجل عيون (مارجريت أو جاكلين). والذي يتجرأ من الجزائريين فيغامر في هذه المجالات- وهو عامة من الشباب الخارج على مجتمعه- كان لا يجد ترحيباً. لذلك عمد الشباب إلى حل ظاهري للمشكلة بأن تراقصوا فيما بينهم، كل يراقص زميله، إنما لم يمنع ذلك من وقوع بعض الحوادث. أما أنا فكانت المشكلة الكبرى لدى وصولي تبسة ذلك الصيف ربطة العنق، فلم أجرؤ على إظهارها. ومن أجل اجتياز الساحة والمرور بطريق مكتظ بالناس كان علي انتظار الليل. كان محكوماً علي أن أمضي عطلتي متسربلاً ببرنص، وألا أسرح وأمرح إلا خارج المدينة أو في الشارع عند أطرافها. وقد بلغ عذابي قمته يوماً حينما دعاني والدي لزيارة مجاملة لرئيسه حاكم تبسة. لاشك أنه كان يباهي بولده المتعلم. لكنه كان شيئاً مخيفاً في نفسي ولست أدري كيف اجتزت تلك التجربة أو تمكنت من العيش بعدها.

أعتقد أنه في تلك الفترة تعرفت على صحيفة (الإقدام) التي كان يصدرها الأمير خالد. كما تعرفت على صحيفة (الراية L'étendard) التي كان يصدرها (دندان)، وكان أبي يتلقاها باستمرار. وكانت صحيفة تونسية تكتب بالعربية هي (العصر الجديد) قد بدأت تصل إلى تبسة لأنها تخصصت بشؤون العالم الإسلامي، فقد كان الاهتمام بها أكبر من زميلتها التونسية القديمة (الزهرة) التي كانت تولي عنايتها بالشؤون التونسية. وعندما كنت أخرج مع ابن خالي (صالح) لنقوم بتلك النزهة التي يقوم بها سائر الشبان التبسيين، في كل مساء من أمسيات الصيف انطلاقاً من بوابة قسنطينة حتى وادي الناقوس، كنت أجد محمّص القهوة العجوز الذي يتولى تحميص القهوة لسائر مقاهي البلدة يجلس في مكانه المعتاد، ثم يقرأ بصوت شبه مرتفع جريدة (الزهرة)، على نور باهت يشعه قنديل وضع على الباب الأثري (باب قسنطسينة). كان يجلس على أحد ذلك الصفين من الحجارة الموضوعة لجلوس المتنزهين، من التبسيين الذين لا يرغبون في التوغل بعيداً في نزهاتهم يتنشقون عليها الهواء. وها هو ذا قد أصبح الآن يقرأ جريدة (العصر الجديد) بدلاً من جريدة (الزهرة). ... مرة أخرى كان علي ذات صباح أن أتلقى (ماء العودة) على عتبة البيت وقد صبته أختي على قدمي. فاجأتْ عودتي لقسنطينة الجميع كما فوجئت أنا، فقد نما جسدي كثيراً خلالا العطلة، فأصبح جسد رجل على الرغم من أن الكتفين بقيتا على شيء من الضيق. والشاوش الذي وقف يرقب على عتبة المدرسة زبونه الجديد تساءل لدى رؤيته لي بسخريته المعتادة: ((هي/ هي/ هي/ صديق؟ ... كم كبرت!))

إنه أمر مغضب، فلم يعد شيء في الواقع يناسب جسدي. الحذاء الأبيض الجميل الذي أوصيت عليه قبل أشهر ثلاثة لأدهش الفتيات الأوربيات في تبسة أصبح يؤلم قدمي. والبرنص بات قصيراً، لقد أصبحت ملابسي جميعها ضيقة. السروال لم يعد يجاوز ركبتي، أما الحزام فكان يشد وسطي. وكان هذا الأمر مغضباً لصالح حليمية إذ ما فتئت قامته القصيرة مصدر تعاسته في الحياة. وأضحى نموي الجديد يذكي تعاسته. وعندما نكون معاً على رصيف بصحبة (عبد الحميد نسيب) الذي جاء ينضم إلينا في المدرسة، ويمر شخص ذو قامة معتدلة أمامنا، كان يتعمد السير بالقرب منه ثم يعود إلينا ليقنعنا بقوله: ((انظروا، إن لي قامة هذا الرجل)). كان الطلبة العائدون من العطلة متعطشين لملذات المدينة الكبيرة: السينما وحصيرة المقهى العربية. (بوكاميه) بدأ يتتابع زبائنه المدرسيون يقصدونه كلما فرغ واحدهم مما حمله من زاد، والحياة في المدرسة عادت لنظامها، والمستجدون من الطلبة بدؤوا يندمجون فيها بعد أن كانوا لأيامهم الأولى دهشين مرتبكين. قمت بزياراتي المعتادة لخالتي (بهية) فوجدتها هذه المرة أكثر شيخوخة وأفقر، وبدا لي منزلها أبلغ تهدماً من قبل. وكان خالي (علاوة) يجلس في هدوء بالقرب منها ويحك لها ظهرها من آن لآخر. في ذلك البيت المتواضع استعدت ذكريات قديمة فيها شيء من الورع. فداخل هذا المنزل القسنطيني مع محتوياته المادية التي لا قيمة لها يتحدث مع ذلك عن روح ثقافة بروح حضارة. حضارة لاشك متهدمة كمنزل خالتي بهية، إنما هذه الأشياء تحمل على الرغم من بلاها شهادة تثير الحنين إلى ماضٍ وَلَّى ووعد غامض يتجه نحو المستقبل.

كانت أحاسيسي في تبسة تختلف عنها في قسنطينة، فهناك الحياة الطبيعية والرجل البسيط الجاف، كان هؤلاء جميعاً يحاورون روحي. أما قسنطينة فالتاريخ والمجتمع ومأساته الواضحة الماثلة بشكل ظاهر، تسائلني دون أن أدري في الغالب تساؤلاتها ولكنني مع ذلك أشعر بها. ولكن هناك أيضاً في قسنطينة جانب (المدرسة) الذي كان يحدثني عن المستقبل. خاصة عندما بات الاتصال بين المدرسيين وتلاميذ الشيخ (بن باديس) أقرب في مقهى بن يمينة. لقد ورث بن يمينة والده بعد أن مات منذ فترة يسيرة فأدخل على المقهى بعض التجديد. لقد ألقى بالحصر جانباً، ورأيت لأول مرة في مقهى عربي آلة كبيرة لغلي القهوة ( Percolateur)، كان ذلك ثورة. وقد أحدثت من ناحية أخرى ضجة في وسط المعمرين الأوربيين الذين كانوا يريدون المحافظة على خصائصنا (نحن أبناء المستعمرات Indigène)؛ أي المحافظة على الحصيرة التي تستعمل في الوقت نفسه للبصاق حينما يستدير لاعب الدومينو ويرفع طرفها ليبصق تحتها، ثم يتنحنح بصوت مرتفع ليريح حنجرته ورئته. في النهاية أصبح مقهى بن يمينة الحي العام للمدرسيين. وعلى بعد خطوات منها كان مكتب الشيخ (بن باديس). كان يستقبل فيه أصدقاءه وتلاميذه ويدير مؤسسته الصغيرة، التي اتخذت شكل شركة ذات أسهم تصدر مجلة (الشهاب)، التي جاءت في أعقاب احتجاب (المنتقد)، ولم تكن قد ظهرت إلا لفترة قصيرة ثم منعت الإدارة المحلية صدورها. إذن كان حي الطلبة العام مجاوراً لذلك المكان الذي سوف يصبح مهد (حركة الإصلاح)، وكان مرور تلاميذ الشيخ بن باديس أمام مقهى بن يمينة يوثق عرا الصلات بيننا وبينهم.

في تلك الفترة- على ما أذكر- تعرفت على الشيخ (حَمّ العيد) شاعرنا الكبير فيما بعد، الذي ترك حلقة أستاذه مزوَّداً ببضاعة تقليدية مسيَّسة politisé بشعور عالمٍ وطني هو عبد الحميد بن باديس. هذا العلم ذوالنفحة السياسية جاء مع بعض الباديسيين أمثال (حَمّ العيد) و (الهادي السنوسي) مؤلف كتاب (مختارات من الشعر الجزائري) و (خباش) وآخرين، ليتصل في مقهى بن يمينة بالتيار الناشئ في المدرسة نفسها. وأعتقد أن هذا اللقاء قد شكل تمهيداً تاريخياً إن لم يكن رسمياً للذي أضحى حركة تجديد من ناحية وحركة وطنية من ناحية أخرى. كان في المدرسة مجدّون لا يهمهم غير دروسهم، هؤلاء عدول المستقبل أو أي شيء آخر، يلمحون من بعيد وظيفتهم في الإدارة. وكان كذلك الحالمون يبنون قصوراً في إسبانيا، وآخرون يهتمون بقص شعورهم على آخر طراز؛ أما صالح حليمية فكان فريقاً وحده، كان شرهاً شراهة جعلته يعاني بصورة مستمرة آلام الأمعاء وسوء الهضم. وكنت من الفريق الذي يقرأ كل شيء إلا محاضرات المدرسة، وأذكر أنه في تلك السنة كانت لي هوايتان: فمحاضرات الشيخ (بن العابد) أستاذ الشريعة الإسلامية تأتي بانتظام من الساعة الحادية عشرة حتى الظهر. وكنت أثناءها أرسم بانتظام رأس الشيخ إلى أن يأتي جرس عميمي الشاوش في باحة المدرسة، فيؤذننا بساعة الانصراف والإسراع إلى مطعم (بوكاميه) الذي بدأ يتخذ شكلاً حسناً، بفضل الدراهم التي تدخل إليه في نهاية كل شهر من المدرسة. أما هوايتي الأخرى خلال الفرصة بين الدروس فهي أن أبقى في الصف، هناك خارطة حائط كبيرة للصحراء، كنت أتسلق كرسياً وأتابع الخارطة باحثاً عن طريق للوصول إلى (تمبوكتو). كانت هذه الهواية بوحي من

كتاب (أنتينيا Antinéa) الذي ظهر في تلك الفترة فمنحني هذه الهواية. لقد سيطرت على نفسي طويلاً حتى بعد السنة الثانية من المدرسة التي كانت من وجوه عديدة فاصلة في تحديد اتجاهي. (تمي Timmi) و (تميمون Timimoun) و (عين صالح): هذه الأسماء استهوتني واستوقفتني مراراً أمام خريطة الصف؛ فالصحراء كانت تفتنني، وقد ظل سحرها يلف روحي طويلاً حين استفاقت إلى آفاق بعيدة، وسوف أدرك فيما بعد واقعها الساحر الذي مارسته في روح نشيطة كروح (ارنست بسيكاري Ernest psicare)، كما وعيت في ذلك الوقت الدسم اللذيذ الذي صبته فيّ روح ايزابيل ابرهارت ( Ysabelle Ebrhardt)، وقد تولى (فيكتور بروكان Victor Berucand) تعريف العالم بكتابها الرائع الجذاب. لقد قرأت مراراً كتاب تلك المرأة المغامرة التي أنهت حياتها في (عين صفرا) في ظروف مشؤومة مؤسفة. كنت أبكي وأنا أقرأ ذلك الكتاب المسمى ( A l’ombre chaude de l’islam في ظلال الإسلام الدافئة) والذي عرفت فيه شاعرية الإسلام وحنين الصحراء. كان رهطنا يقرأ قراءات مشتركة وكان لكل واحد منا ما يرغب فيه من قراءات خاصة به، وفي ذلك الزمن عثر مدرسيّ من (باتنه Batna) يدعى أحمد المعلم على كتاب (أم القرى)، ولست أدري كيف عثر عليه، وقد قرأناه كله في ليلة. هذا الكتاب ترك فينا بسبب خصائصه الخيالية تأثيراً عجيباً، لقد استشعرت صدمة أكملت ما تركه في نفسي كتاب (في ظلال الإسلام الدافئة). فالكتاب الأخير (في ظلال الإسلام الدافئة) وضع أمامي إسلاماً شاعرياً، ولكنه إسلام غير مبال يبحث عن النسيان في المخدرات. أما كتاب (أم القرى)

فقد عرفني بإسلام بدأ ينظم صفوفه ليدافع عن نفسه ويقوم بحركة بعث جديد. إنه كتاب خيالي لكنه مُعَبِّر يحمل شعوراً بدأ يعتمل في العالم الإسلامي على الأقل في بعض الأنفس كالكواكبي. لم أكن أشك بأنه كتاب خيال ولكن أثره في نفسي كان عميقاً. وعندما أعدت قراءة كتاب (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) كما اعتدت أن أفعل، كان تأثير تلك المطالعات البناءة يزداد في نفسي رسوخاً. كنا نلقي بما نقرؤه في أتون تلك المناقشات الحادة والمثيرة التي اعتدنا أن نجريها في مقهى بن يمينة، يغذيها من ناحية التيار الفكري الباديسي، ومن ناحية أخرى تيار المدرسة الفكري. كان ذلك العصر على ما أعتقد مسرح الحدث المفاجئ الذي قلب حياتي. كان أمام المدرسة كشك لبيع الصحف، ولست أدري إذا كان موجوداً الآن، وكان المساء لطيفاً والشمس تنشر دفئاً في الجو، وأشعتها المتأهبة للرحيل ترسم على كتل الغيوم ألواناً حمراء باهتة، وتُرسي تاجها الذهبي على قمة (سيدي المجيد) الخضراء، فيما تهرع مضايق الرمل إلى العتمة. لا أعرف بالضبط لِمَ اخترت هذه اللحظة بالذات للخروج والتوجه إلى حيث تباع الصحف، والحصول على (صحيفة الشؤون العامة لقسنطينة Dépêché de Constantine) والعودة بها لأقرأها على باب المدرسة. قرأت هذا الخبر: لقد جرح في مصر ضابط بريطاني (السردار)، وإثر ذلك أمرت الحكومة البريطانية بنفي الزعيم الوفدي زغلول باشا إلى جزر السيشل. لقد أوردت هذه الصحيفة الخبر وأرفقته بتعليقات منتظرة من صحيفة تتولى الدفاع في قسنطينة عن مصالح الاستعمار الكبرى.

في (الشارع الوطني National) بين المدرسة وثانوية البنات المقابلة كانت الحركة خفيفة والهدوء مسيطراً حولي. وقد سمح لي ذلك بقراءة صحيفتي، وبعبارة أدق المقال الذي يروي أحداث القاهرة. فما إن فرغت من القراءة حتى بقيت ساهماً دون شيء محدد في ذهني، وفجأة استعدت فكري، ولو كان في تلك اللحظه بقربي شخص يراقبني لأدرك في نظراتي وميضاً غير مألوف. كان الذي استبدّ بي شعور جديد، شعور لم يفارقني مدى الحياة قد اعتمل بحدة في وجودي: (كنت وطنياً J'était nationaliste)، ومنذ تلك اللحظة أصبحت قارئاً مثابراً لسائر الصحف التي أشتريها من كشك المرحوم جدي. ثم اخترت بين قراءاتي السياسية صحيفة شيوعية (الإنسانية L'Humanité) كانت تروي أكثر ظمئي الوطني. فمقالات (كاشان Cachin) و (فايان كوتوريه Vaillant Couturier) تثير في نفسي ثورة الغضب أو تصب في قلبي أطيب العزاء. قرأت أيضاً (الكفاح الاجماعي La lutte sociale) التي يصدرها (فيكتور سبولمان Victor Spulmun) وكانت تأتينا إلى الجزائر بصورة متقطعة. لقد اتخذت أفكاري منعطفاً جديداً، فالأشياء قد أصبح لها معنى جديد في نفسي، وحينما كنت أذهب إلى خالتي بهية كان يخالجني شعور بالضيق، وحينما كنت أتنزه مع صديقي (شوات Chaouatt) الذي كان والده مترجماً في مراكش، كان ثمة عمليات غريبة تعتمل في نفسي في تلك الشوارع الأوربية في قسنطينة، فقد كانت الدور المترفة تفضح أمام ناظري بؤس خالتي بهية. كنت أختار من تلك المنازل المترفة المنزل الذي سوف أسكنه في المستقبل، وكان صديقي يفعل ما أفعل فيختار منها لنفسه أيضاً. بالإجمال لم تكن فكرة (الممتلكات الخالية Bien vacant) فكرة جديدة، فقد راودت في ذلك الزمن روح شابين مدرسيين، وهما في طريقهما ليتناولا كوباً

من الحمص أو قطعة من كلب البحر لدى (بوكاميه). بالطبع فإن ذلك كله كانت له نتائجه في حياتنا في المدرسة، فقد أصبحتُ بسرعة في عيني (دورنون Dournon) ( الفتى التركي) الأخطر. كانت قراءاتي مراقبة، وكانت أعرف أنني حينما أذهب إلى الدرس يأتي الشاوش ودورلون ليفتشا تحت فراشي، حيث كنت أخبئ صحيفة (الإنسانية L’Humanité). وأصبحت هكذا سلفاً المسؤول عن كل ما يحدث من شر في المدرسة. وحين يكتشف المدير اختفاء شيء ما أو حدوث كسر أو عطل كان يقول فوراً: ((طبعاً- طبعاً. لابد أنه الصدّيق فعل ذلك)). وهذه الشكوك المنتظمة أورثت بعض الأعمال السيئة وقد ارتكبت الكثير منها. فذات يوم أفرغت أنا وصالح حليمية كل ما في علبة تبغ العطوس في بركة المدرسة، فمات ما فيها من أسماك حمر جميلة كان يربيها المدير. وكان تعليق المدير: ((طبعاً- طبعاً. إنه الصدّيق أيضاً)). لقد طفح الكيل وهكذا قدمت أنا وصالح حليمية استقالتنا إلى المدير بصفتنا موظفين. لقد انزعج المدير لأنه كان لدينا ما نتهمه به من أمور لها مساس بإدارته للمدرسة. ولكن هذا الرجل كان طيبا في أعماقه، فأنذر والدي بالوضع فحضر وسوّى القضية. وهكذا استمرت بي هواية رسم رأس الشيخ (بن العابد)، وفي تخيل المسالك إلى بلاد (أنتينيا Antinéa) و (تمبو كتو). ولم يكن يستأثر باهتمامي غير دروس (بوبريتي Bobreiter) التي أفادتني بما حققت مع الأستاذ كثيراً من التقدم. كان يعطيني كل أسبوع تشجيعاً لي عدده من مجلة (الأخبار الأدبية Nouvelle Littéraire)، فأسرع إلى قراءته بنهم. وقد كان يعيرني على

ما أظن مجلة (كونفيرانسيا Conferencia)، وفي أحد أعداد هذه المجلة اكتشفث في ذلك العصر (رابندرانت طاغور). لقد كان لذلك الأدب القادم من بعيد أثر في نفسي، إذ أضاف أبعاداً جديدة في عالمي الفكري. فرابليه وفيكتور هوجو وامرؤ القيس وحافظ إبراهيم هؤلاء أعطوا عالمي الفكري أبعاد اللغة الفرنسية والعربية، أما اكتشافي لطاغور فقد أضاف بعداً ثالثاً ذلك هو (الفيدا Des Védas). وهناك شيء آخر؛ ففي ذلك العصر كان أبناء جيلي يبحثون دون أن يدركوا عن الهروب أو التحرر، وقد فتح لي طاغور باب ذلك الهروب فلم تعد أفكاري تسرح نحو تمبوكتو، فقد بدأت الرياح أيضاً تسوقها إلى الهند الغامضة. كانت تشدني إليها على الرغم من أني لا أعرف عنها شيئاً غير أنها مستعمرة إنكليزية. كان انجرافي نحو شاعرها الكبير مظهراً من مظاهر التحرر في نفسي. فالعبقرية لا تولد فقط على ضفاف (السين Seine) أو ضفاف (التاميز Tamise)، إنها يمكن أن تولد أيضاً على ضفاف (الغانج)، فمع طاغور وجدت هذا الموقف المدعوم لرجل مُستعمَر. لقد حررتني هن عبودية ذاتِ وقعٍ أثقلت أو ما تزال تثقل غالباً، فكر المثقفين العرب تجاه عبقرية أوروبا وثقافتها. لم أعد أذكر على وجه الدقة ما هو أول كتاب قرأته لطاغور، إنما هذا الشاعر حررني من إفريقيتي بعض الشيء وأطلق ذهني من قيود فرضها الاستعمار. فقد كانت في روحي قوة منبّهة تقود كل ما يقع أمام بصري إلى اهتمام مركزي عميق. وكان الإسلام هو ذلك الاهتمام. فربما لم يكن لطاغور ذلك الشغف في نفسي لو لم يرتبط بذلك الألم المفترس، الألم الذي حمله جدي حين لجأ إلى طرابلس الغرب قبل الحرب العالمية الأولى، والذي حملته جدتي (الحاجة بايا) حينما تدلى بها الحبل من فوق السور هاربة من قسنطينة، يوم دخلها الجنود

الفرنسيون. فالأجيال تتناقل رسالة ذات طابع سري لكنها لا تقرأ بطريقة واحدة، لأن شبكة رموزها التي يعطيها التاريخ لكل جيل كيما يقرأ هذه الرسالة ليست هي ذاتها. في تلك الفترة اكتشف أبناء جيلي من المدرسيين (أوجين يونغ Eugène Yung)، وقد تعرفت عليه من خلال كتابه (الإسلام بين الحوت والدب L’Islam entre la baleine et L’Ours). لقد مات مؤلف هذا الكتاب بعد عشرين عاماً في غرفة صغيرة في باريس مجهولاً من الناس منسياً من الجميع، ولست أدري إن كان قد دفن في مقبرة عامة. ومع ذلك فقد رفع كتابه حرارة التيار المعادي للاستعمار في أبناء جيلي، وإني لأتساءل اليوم عما إذا كان الوطنيون والإصلاحيون يخامرهم شك في أنهم يحملون في عروقهم، آراء وأفكار ومشاعر جاءتهم من آفاق مختلفة. ومع ذلك فهذه الأفكار والمشاعر كانت تجتمع في مقهى بن يمينة لتتلأقى هناك مع تلك التي تولد على بعد خطوات من المقهى. أعني ذلك المكتب الصغير الذي يشغله (الشيخ بن باديس). لم أكن قد عرفته بعد، إنما كنت أشاهده يمر أمام المقهى. كان الحديث في مقهى (بن يمينة) بالعربية والفرنسية، أما في مكتب الشيخ فمن الطبيعي أن يكون الحديث بعربية فصيحة. أما في المدينة فلم تكن اللغة عربية ولا فرنسية، إنما لغة محلية، وهذه الحال كانت في الجزائر جميعها وخاصة في العاصمة، إذ أضاف القوم هناك إلى عاميتهم لهجة غير مستحبة. وفي علمي أن تبسة هي المدينة الوحيدة التي يتكلم أهلها لغة عربية، ربما ليست أدبية. إنما هي بكل حال على درجة من الصفاء والأصالة في مفرداتها وطريقة نطقها.

وكان لي في هذا الجو المدرسي المحموم جانب شخصي. كانت هناك أمي المريضة تشغل ذهني وكذلك الحنين للصحراء لا يفارق فكري. وكانت هناك جريدة (الإنسانية L’Humanité) تحمل إلي غضبتها ومهدئاتها. وكانت لذلك تثأر لي من ذلك الوضع الذي سوف نسميه (النظام الاستعماري)، الذي عبّأَنا ضده في تلك الفترة- من غير أن نشعر- تلك القوة التي انصبت فيها بعد في الاتجاه الإصلاحي والتيار الوطني. لقد بدأ الحوار الصحفي بين رئيس بلدية قسنطينة القوي (مورينو Morinaud) والأمير خالد، كنا ننتظر مجلتي (الإقدام) و (الجهوري Le Républicain) كل أسبوع، لنتابع حوارهما كجمع من الأنصار حول حلبة يتبارز فيها بطلان. كان لقلم بطلنا الوزن الذي يزن، وأظن أنه كان متفوقاً على خصمه، إنما الشيء الأكيد أنه أثار العواصف في أفكارنا ومشاعرنا. فـ (الإقدام) وضعت في فكري الحدود السياسية الدقيقة، فكانت تكشف عمليات استغلال الفلاح الجزائري وقد بلغت درجة لا توصف في تلك الفترة. فقد ضاقت بالمستعمرين في الشمال مزارع الكرمة والحمضيات والزيتون والتبغ فأخذت تتجه نحو الجنوب حيث أراضي الحبوب. فقد بدأ عدد من المعمرين يستقرون في (خنشلة) و (باتنه) و (عين البيضاء) حتى إن واحداً منهم استقر في (مسكيانا) قريباً من تبسَّة. فكانت مجلة (الإقدام) تفضح رجعية الإدارة المستعمرة وسوء استغلالها للسلطة. فالأرقام التي كانت تنشرها عن مساحة الأراضي الممنوحة للمعمرين، وعن عدد الأولاد الجزائريين الذين لا يذهبون إلى المدارس تثيرنا وتوجهنا. وقد أتيح لي من خلال تلك الصحيفة أن أسمع لأول مرة عن (الشركة

الجنوية Geneuoise) في سطيف وعن الشركة الجزائرية في (قالما Guelma). ثمة صوت ارتفع وانضم إلى أصداء (الإقدام)، ففي عنابة جاء المقدم (دندان Denden) ينشئ صحيفة الراية، وهكذا غدا الصراع مثيراً في الحلبة الجزائرية. في أوروبا كانت جمهورية (ويمر) تلفظ أنفاسها تحت طعنات القديسة (سانت وين Sainte Wehn)، هذه المنظمة الوطنية الإرهابية الألمانية التي كانت تسعى لتخليص ألمانيا، من الحكم الذي فرضته عليها معاهدة فرساي. وفي قرية صغيرة في هولندا كان الامبراطور (غليوم الثاني) الهارب من بلاده يمضي أيامه في نشر الخشب، بينما السلطان (عبد المجيد) آخر خلفاء بني عثمان، يقضي أيامه مستشفياً من مرض الروماتيزم في المدن الأوربية ذات الينابيع الحارة، بعد أن طرده من استانبول الغازي (مصطفى كمال). أما الإمبراطورة (زيتا Zita) فكانت تقيم على ضفاف بحيرة ليمان تفكر في مأساة آل هابسبورغ. وفي هذا الوقت كان دوقات وأرشيدقات روسيا المقدسة قد تحولوا إلى سائقين لسيارات الأجرة في باريس. كان (لينين) يثبت دعائم نظامه في موسكو، بينما كان (ويغان) يعود لفرنسا. في جنيف كانوا يحتفلون بتأسيس عصبة الأمم، وفي باريس وضعوا الحجر الأساسي لذلك المسجد الذي سيصبح فيما بعد إقطاعاً لـ (بن غبريط) الذي قام بجولة في بلدان العالم الإسلامي جامعاً الأموال الضرورية لبنائه. وكانت تصل مقهى (بن يمينه) أخبار من أماكن أبعد. فكانت صحيفة (الشؤون العامة لقسنطسينة La Dépêché de constantine) تتحدث عن أنباء الصين. لم تكن تدرك حقيقة ما يحدث غير أن أسماء جديدة أخذت تطرق آذاننا (كانتون وشنغهاي وكومنتانغ وتشانغ كاي تشيك). لم يكن الحديث يجري حول (ماوتسي تونغ)، إلا أن الخطر الأصفر كان حديث الساعة، وكان أكثر الأخبار حول أميركا. لم يكن بالطبع أخبار الحقوق

التي أراد رئيسها أن يمنحها الشعوب عقب الحرب لتقرير مصيرها، إنما هي أحاديث حول الأفلام السينمائية وموسيقا الجاز والدولار والسائح الأميركي، الذي تمكن واحد من أبناء (بيسكرا) أن يبيعه مزماراً من القصب لا يساوي قرشين بخمسة أو ستة دولارات. لم يكن فندق (سيرتا Cirta) في قسنطينة ليخلو من أولئك السواح الأميركيين، الذين كانوا يتجهون بعد ذلك إلى الواحات الجنوبية مع ما يحملون من رزمات الدولارات، وما يظهرونه من تصرفات مستغربة. وإذا كانت أوربا في تلك الفترة تتوق لأن تحكم بإدارة أميركية فإن باعة الجنوب الجزائري تمنوا أن تصبح الجزائر مستعمرة أميركية، ليأخذوا من أبنائها ستة دولارات ثمناً للمزمار المصنوع من القصب. في ذلك العصر كانت تشغلني بصورة خاصة مشكلة: إنها الأب (زويمر)، ذلك الأب الأنجليكاني الذي وضع في فكري قضية جديدة؛ إنها تنصير المسلمين. لقد عولج هذا الموضوع في كتاب لم أعد أذكر عنوانه، إلا أنه كان متداولاً بين أيدينا يثير فينا مناقشات جادة. كان الحديث شائعاً في محيطنا عن (لافيجاري Lavigerie) الكاردينال الفرنسي الذي عاش بين سنتي 1825 و 1892، وأسس أخويّة الآباء البيض، وعن الوسائل النافعة لتنصير أطفال (بيسكرا والقبائل). غير أن هذه المشكلة بدت أمامي بوجهها الحقيقي مع الأب (زويمر)، فقد اتخذت حلبة الصراع في ذهني أبعاداً جديدة. فهذه المرة ثمة أبطال وحلبة أخرى. أما الحلبة فإفريقيا وآسيا والبطلان المتصارعان هنا الإسلام والمسيحية. فلو قيل لي إن (مورينو) انتصر على الأمير خالد، لما ترك هذا المعنى في نفسي أثراً كالأثر الذي يتركه قولهم لي ((انهزم الإسلام)).

لم أكن أعلم في ذلك الحين طبيعة موقفي إن كان صحيحاً أم خاطئاً على الصعيد السياسي، ولكنه على كل حال منبثق من ضرورات تسمو على عقلي وتفكيري، فتلك غريزة متأصلة في كياني. اليوم أدرك أن الغريزة لا تخطئ. لقد اتخذ تفكيرنا في ذلك الحين ومع الأب (زويمر) اتجاهاً جديداً يهدف للبحث في مرامي مستقبل ذلك الصراع. وقد أدى بنا هذا البحث لاكتشاف (ايديان E. Dinet) وهو رسام كبير بل أكبر مصوري الصحراء، غير أن واحدة من لوحاته لا تعرض في متحف اللوفر. وقد كان لهذا الرسام قلم قوي وضعه في خدمة الإسلام بعد أن اعتنقه. وجاءنا شاهد آخر من باريس حيث (غرنييه Grenier) نائب ( Jura) يثير ضجة فيها، إذ يذهب أمام قصر البوربون ليتوضأ من نهر السين ويصلي على رصيفه. وصدى من مكان آخر تناهى إلينا، فقد سمعنا لأول مرة بالسيد أمير علي وكتاب (روح الإسلام Spirit of Islam)، هذا الكتاب الذي لم نتمكن من الحصول على نسخة واحدة منه من مكتبة النجاح إن بالعربية أو الفرنسية، باختصار كانت الجولة تجري في جو طبيعي .. فالأب (زويمر) يمكنه الانتظار ... هذا ما كنا نفكر فيه في مقهى (بن يمينه). لقد كنا ننفعل بالأحداث كما لو كنا أنفسنا فوق الحلبة، في عصر لم يكن الأدب فيه قد أوجد تلك المفردات التي تتحدث عن المالتزام والملتزمين. ولأننا أصبحنا مرة أخرى في فترة ليالي الامتحان فعلى كل طالب في المدرسة أن يحتفظ بمنحته المدرسية. وهكذا استعادت المدرسة جمهورها، وعاد هؤلاء لوضع وريقاتهم الصفراء فوق أنوفهم، كما استعادوا الأرق والنظرات المحمومة وهيئاتهم الهزيلة المهملة وقمصانهم المجعدة وياقاتهم المتسخة.

أما (بوبريتي Bobreiter,) فكان ينظر إلى هذه التحولات نظرة يصعب تحديدها، فقد كنت أعرفه ساخراً دوماً. والشيخ (عبد المجيد) يرسل التهديد والوعيد، ويفجر غضبه خاصة ضد أولئك الذين لم يحفظوا ما ورد في كتاب (قطر الندى وبل الصدى)؛ وهو كتاب (قواعد اللغة العربية) المقرر لطلاب السنة الثانية. أما الشيخ (بن العابد) فكان يُعِدّ لنا تسامحه، وكان كل منا يأخذ ذلك باعتباره. ولم يكن الشيخ (مولود) يقول شيئاً أو يتفوه بكلمة تظهر من خلالها رابطة شخصية أو عاطفية تربطه بالطالب، كان ينظر إلينا نظرة متعالية، والمدير (دورنون Dournon) يبدو أقسى، والشاوش البواب يتهكم ((هي ... هي ... هي)). تلك كانت إجابته مع ضحكته الساخرة يلقيها على أي سؤال يوجهه إليه طالب. وكانت هذه الإجابة تثير الرعب، إذ كان يظن بأن الشاوش على علم بنيات المدير وأنه يعاون في تدبير مؤامرات نهاية العام ضد الطلبة المساكين. وهكذا يصبح تعبيره الساخر ((هي ... هي ... هي)) أحجية تجعل العرق البارد يتصبب على ظهر الطالب، الذي يتلقاه ليستنتج منه جازماً أنه سيفقد منحته الدراسية. وفي هذا الامتحان نجحت أيضاً كما نجح (حليمية). وكان ذلك بمثابة المعجزة. أعتقد أنني إثر هذا الامتحان قررت أن أستبدل بالسروال البنطال الأوربي، لم أكن أجرؤ على ذلك في المدرسة. فالشيخ عبد المجيد والشيخ مولود يرفضان هذه الملابس الكافرة. وكان ارتداء البنطال الطويل في المدرسة يعني فقدان المنحة عن طريق سؤال في قواعد اللغة العربية يختار بعناية. ولم يكن أحد يتجرأ لتعريض نفسه لهذه المخاطرة. وبما أني مسافر لتِبِسَّة فقد تركت حل المشكلة لما بعد. ***

لاحت لي قمة (قرص السكر Le Pain de Sucre) في منعطف منحدر (حلوفة). وقد بدت لي المنطقة جرداء أكثر من قبل. كنت أحب الأمسية الأولى التي أقضيها في تبسة بعد عودتي من قسنطينة، ولذّ لي كثيراً أول طعام أتناوله بعد غياب طويل مع عائلتي. وكنت ذلك المساء مسروراً خاصة، فقد تبددت مخاوفي من البنطال ولبسه، بسرورِ أمي به. فحين رأتني قادماً إليها قالت بعد أن قبلت يدها: ((حسناً فعل بخلعه ذلك السروال الثقيل الذي كان يتأرجح بين رجليه، وهو الآن أرشق)). وشقيقتاي اللتان أصبحتا الآن متزوجتين وجّهتا نظرات تنم عن الرضى، أما جدتي فقد تلقت مني قبلة على جبينها، ثم خفضت رأسها ترقب حبات سُبحة كانت في يدها. أما والدي فقد كنت أعرف أنه يتبنى كما هي العادة آراء أمي. لقد تحسنت صحتها دون أن يكتب لها الشفاء التام. وكان الحديث تلك الليلة طليّاً والمائدة شيقة. وعند خروجي ذلك المساء بعد تناولنا العشاء الأول تمتعت بلقاء أصدقائي القدماء؛ ابن خالي (صالح) والخياط (شريف سنوسي) و (محمود أزميرلي) الذي كان يدير مقهى في (حمام عباس) اعتدنا أن نشرب فيه القهوة ونكسر له الفناجين لنثير حنقه. كان ذلك جمعي في تِبِسّة، وقد وجدتهم عندما خرجت؛ وكانت الآراء حول البنطال مختلفة، غير أن صديقي صاحب المقهى أبدى وحده شيئاً من التحفظ، لقد علق قائلاً: ((هل يسمحون لك في المدرسة حيث تتلقى العلم بارتداء زي

كافر؟)) إنه لم يكن يستطيع أن يفرق بين نظرته إلى العلم ونظرته إلى اللباس. فبالنسبة له كان واضحاً أن الثوب يصنع الراهب. وحينما نجتاز بوابة (سيدي سعيد) ونحن في طريقنا إلى الكاتدرائية، أو نعبر بوابة قسنطينة إذا قررنا المسير إلى (وادي الناقوس)، فإن الليل في صيف تِبِسَّة ينشر سحره الفاتن أمام أبصارنا. وكنا نحن بصورة عامة نختار الطريق الأول في نزهاتنا، فيبعدنا ذلك عن جمهور المتنزهين الذين يؤثرون الطريق الآخر؛ فهو لعله يغري الشبان بالمرور في الحي الأوربي، لرؤية الحسناوات الأوربيات بينما المتقدمون في السن تقودهم العادة إلى سلوكه. وحين يكون القمر بدراً يطل علينا قرصُه الأحمر في طريقنا، فيبدو بارزاً بين (بورمان) الذي يحد الأفق في الجنوب والدير الذي يحده من الشرق. وكنا نرى أشعته الأولى تسقط على مقام الوالي المرابطي سيدي (محمد بن شريف) الناصع البياض فيحدث انعكاسات باهتة. وهذا المقام يعلو قليلاً (عين مغوطة)، وهناك في أيام السوق كان الذين يقصدون تبسة لبيع غنمهم يتوقفون قليلاً عند هذه العين يسقون منها أو يتوضؤون بمائها. كانت الأشياء تبدو سامجة في عتمة خفيفة فتحيي صورتها ذكريات قديمة مشتركة، حينما كنا نسطو على تلك الحدائق التي بدت الآن مهملة، فشاد فيها الناس بعد ذلك بناءً وغدت اليوم حياً يعرف بحي الكاتدرائية. وفي الكاتدرائية هناك كان يستخفنا اللعب، فنسرع إلى اللهو بين حجارتها الكبيرة لنقبض على الجرذان الخضر التي تختبئ عادة فيها، فيعرضنا ذلك أحياناً لعقص الدبابير التي كانت تكثر فيها.

ومع ارتفاع القمر في الأفق كانت السماء تُبذل شيئاً فشيئاً لونها حتى يبدو كأساً من الفضة تسبح تحته الطبيعة، والأشياء في جو لبني اللون ساحر ( Opaline). وفي سيرنا أو جلوسنا على حافة ندلي فيها أرجلنا كنا نتجاذب الحديث، فآخذ منه طرفه الأكبر، لأن الحياة في تِبسَّة لم تكن قد تطورت والأحداث لم تكن قد أخذت تلك السرعة والغزارة التي جاءتها بعد ذلك لسنوات عدة. على كل حال فلقد كان الشيخ (سليمان) يتابع رسالته الإصلاحية في البلدة، بينما الشيخ (الصدوق بن خليل) والشيخ (عسول) يتنافسان على استمالة المستمعين من شباب تبسة، هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعد، وحينما عاد (الشيخ العربي التبسي) من الأزهر في القاهرة، روّاد مواعظه وتوجيهاته. أما أنا فقد كنت أقصّ على أصدقائي ما أعرفه من أخبار الشيخ (بن باديس) وأخبار (الطواطي) الذي ينتمي إلى سيدي (بن سعيد)، وكان من طلبة العلم ثم اعتنق البروتستانتية فأصبح مدير البعثة الإنجيلية في قسنطينة. كانوا يعرفونه جميعاً، وصديقي (شريف سنوسي) الخياط يبدي كما سمع خبراً مستغرباً دهشة فيها شيء من براءة الأطفال، فكلما تحدثت عن (الطواطي) كان يقول مستغرباً: ((آه ... هو الآن كافر! من كان يقول: إن ذلك الطالب الذي يحفظ ستين سورة من القرآن يصبح هكذا؟)) كنا نتحدث عن أشياء أخرى ويلذّ لي أن أتكبر على صديقي (شريف). فقد كنت أعرف أنه مولع بفتاة يهودية من تبِسَّة، ولكنه لا يتجرأ أن يقول لها كلمة واحدة. وهكذا يكتفي بالمرور مساء كل يوم تحت شرفة حبيبته موجهاً إليها نظرات خجولة حيِيَّة. ولا أظن تلك اليهودية قد بادلته النظرات، غير أنه كان يضع دائماً عواطفه ومشاعره خارج الزمان والمكان.

وحينما نمر أمام منزل صديقي صاحب المقهى. لا ينسى أن يأخذ منه الجرن والمدقة (الهاون)، فنجلس في ضوء القمر الذي كان يضفي على الكاتدرائية جواً شاعرياً رائعاً. بين تلك الحجارة التي تعود لألفي سنة مضت كنا نقضي الوقت بسحق السكر مع فستق العبيد أو (الزغولي) والصنوبر، وهي حبوب زيتية يستخرجها حطابو تبسة من ثمار شجر الصنوبر ويبيعونها في المدينة لزيادة مداخيلهم الهزيلة. تلك التسليات البريئة كانت تدخل البهجة في قلوبنا كما لو كنا أطفالاً. في تلك الفترة كان صاحب مقهى جزائري يقع في حي البلدية، قد أدخل تجديداً على مقهاه باستيراده أسطوانة مصرية. وكان هذا يحدث لأول مرة في الجزائر. والواقع أن الأسطوانة المصرية سوف تلعب فيما بعد دوراً بارزاً في تطور البلاد الفني والسياسي. وكان الفضل في إدخال ذلك العنصر على الحياة الجزائرية يعود لتبسة. ففي قسنطينة كان الناس لا يزالون مع (المالوف malouf) (¬1) ، أما في مدينة الجزائر فلم يكن هناك شيء محدد من الموسيقا ... وقد هزت أول أسطوانة مصرية أسمعها كياني بأنغام القانون الذي سمعته لأول مرة بكلمات وصوت سلامة حجازي. كانت تلك مرحلة بطولية تمكنت فيها هذه الألحان الجديدة من أن تعيد للموسيقا العربية في نفوسنا مكانتها، فتثأر لنا من موسيقا الجاز وسيطرتها. خاصة أن ظهور تلك الموسيقا في المدينة كان من آثاره أن أصبح شاب يهودي يأخذ في المدينة مكان الأب (كابولا Capolla) ، على كشك ساحة (كارنو Carnot) الموسيقي في حفلة ليلة الرابع عشر من تموز (يوليو). ¬

_ (¬1) نوع من الموشحات التقليدية الجزائرية ((ترجمة قنواتي)).

وفي الوقت الذي كان فيه الذوق الأوربي (يتأمرك) أخذ ذوقنا نحن الجزائريين (يتمصَّر)، ولعل من ميزات ذلك الزمن أن الأسطوانة المصرية لم تكن قد بدأت بعد في خلق المشاكل أمام الإدارة المستعمرة. وميزة أخرى في ذلك العصر كانت طواف السيارات في المدينة. لقد عفّى الزمن على تلك السيارة الطويلة المكشوفة ( Corpédo) من إنتاج مؤسسة ( Buriali)، التي كانت تجمع وراءها حشداً من الأولاد وكنت أحدهم، والتي كان صاحبها يتجول فيها أحياناً ولكن دون أن يضع على عينيه النظارات الكبيرة التي تغطي نصف وجهه، والرداء المصنوع من جلد الماعز الذي يعطيه شكلاً ضخماً. لقد عفّى الزمن على تلك السيارات وأضحى الاَن اسم (سيتروين) يشغل بأحرف منيرة أعلى برج إيفل في باريس، وأخذت تؤمن الاتصال بين تبسة والمناطق المحيطة شاحنات صغيرة من إنتاج (سيتروين) ومن (طراز ب 12). أما العربات التي كانت تتولى نقل البضائع من المدينة إلى أسواق الشريعة والقلعة والجرداء فلم يعد لها وجود. ذلك أن أصحابها قد انسحبوا من ميدان النقل وخلوا مكانهم لأصحاب السيارات من إنتاج (سيتروين) و (رينو) أيضاً. وقد تولى السلطة في الوحدة المختلطة ( La commune misete) حاكم إداري جديد. فقد رغبت الإدارة في تعيين رجل يهتم بشؤون الحكم. إن (ريجاس Reygasse) كان رجل علم أكثر منه رجل إدارة. وقد استدعي إلى جامعة الجزائر ليشغل فيها كرسي مادة (ما قبل التاريخ) وقد أثارت تعابيره الفنية يوماً جدلاً صحافياً لأن تعبير ( Libyco) اختلط مع ( Bicot). ذلك عصر جديد قد بدأ. وفي الفسحات الداخلية لدور تبسة، كثيراً ما كانت النساء يتوقفن عن صنع الكسكوسي أو عجين الخبز أو غسل الغسيل لينظرن إلى أعلى، يتابعن طائرة تمر فوق المنازل بينما الأطفال يأخذون في الصياح. ((الطيارة ... الطيارة ... الطيارة .. !))

كان السباق في تبسة ذا شهرة كبيرة في منطقة قسنطينة بفضل الخيول الأصيلة التي كانت في المنطقة. وفي يوم السباق بالذات يتجمع حول بوابة قسنطينة عدد كبير من الخيول ذات الدماء النقية، وجمع من مختلف القبائل على تلك الأرض التي كانت تستعمل أثناء الحرب العالمية ساحة للمناورات. فهناك كثيراً ما كنا خلال الحرب العالمية الأولى نرى أثناء ذهابنا إلى المدرسة جنود الرماة يتدربون على القتال قبل إرسالهم إلى جبهة (فردان). وهناك تعرفت لأول مرة إلى المدفع الرشاش الذي كان يقذف كالغاضب الحانق لهيباً صغيراً، واحداً تلو الآخر بقدر ما في المشط المتصل به من قذائف. كان موعد السباق يأتي عقب انتهاء الناس من الحصاد والدرس في الحقول. وقليلاً ما كان يتهيأ لي أن أشاهد هذا المهرجان لأنه بمثابة إنذار بقرب انتهاء العطلة الصيفية. ما زالت أمي مريضة ولكنها كانت تحقق بعض التحسن بفضل وصفات الدكتور (فيكاريلا Figarella) وبركات (الشيخ سليمان). وأحيانا كان خالي (أحمد الشاوش) يعتني بها سراً. إذ كانوا يحرصون على أن يخفوا عن الدكتور (فيكاريلا Figarella) أمر طبيب من أهل البلاد مجبِّر يعتني بها في الوقت نفسه. وحين كان الطبيب يقابل وهو في طريقه إلى غرفة أمي خالي أحمد المجبِّر كان يبادره قائلاً: ((ماذا أنت تفعل هنا؟)). وكانت أمي توضح له بسرعة أنه قادم لزيارتها فقط. لقد أصبحت الآن جيدة بفضل ما قدمه لها كل من الطب والبركة والتجبير. ومرة أخرى أيضاً صباح يوم من الأيام الأخيرة في شهر أيلول (سبتمبر) تولت شقيقتي الكبرى صب (ماء العودة) بين قدمي عند عتبة دارنا. ***

في قسنطينة كان (بن يمينة) الابن قد أدخل المزيد من التغييرات في مقهاه. فقد امتدت الطاولات الجديدة على الرصيف كله، بل اجتاحت الرصيف المقابل في (الشارع الوطني National) وأوجدت هكذا اتساعاً لرصيفها هناك على حافة (وادي الرمل). لقد أصبح المقهى الجزائري الأول في المدينة، فأضحى مثالاً تحتذي به باقي المقاهي التي أخذت تنزع حصرها من الأرض لتستبدل بها الكراسي والطاولات الحديثة، مجبرة زبائنها القدماء على الانكفاء نحو مقاهٍ متخلّفة، يجدون فيها بغيتهم من الدومينو والبصاق تحت الحصر. لقد كان ذلك بداية لمرحلة من التغيرات النفسية والاجتماعية التي ستسمى فيما بعد (النهضة). (بوكاميه) أدخل أيضاً على حانوته بعض التحسينات بفضل الأموال التي تدخله عن طريق طلبة (المدرسة)، فقد انخفضت كمية الشحوم التي كانت تغطي المقاعد والقدور. والمأكولات المقلية أو المسلوقة التي كان يعرضها للزبائن على طاولة موضوعة أمام باب الحانوت، دون أن يكون فوقها ما يحميها من الذباب والغبار، أصبحت الآن تحفظ داخل غطاء من الشريط المعدني الأحمر ذي القرشين للمتر، والذي كان يغطي (الدف) الأسمر الممتلئ بقطع الكبد وكلب البحر المعروضة للزبائن. (بوكاميه) نفسه اتخذ مظهراً أفضل. لقد تحضر قليلاً فلم يعد يُرى لابساً ذلك القميص الذي كان أكثر تشحّماً من (طناجره)، فهو اليوم بعد ساعات العمل أعني بعد الانتهاء من ذلك النسق من المدرسيين، نراه مرتدياً برنصه

يتجاذب الحديث مع صديقه الحميم الشاوش (بواب المدرسة) وهي صداقة وثقتها المصلحة. ويمكن ملاحظة هذه الصداقة قبل ابتداء العطل، فالشاوش عميمي يكون نوعاً ما مساعداً لـ (بوكاميه). وعشية توزيع المنح كنا نرى الرجلين يتحادثان أمام باب المدرسة أو أمام الحانوت، وربما كان الحديث حول الطلبة الذين يتأخرون عن تسديد ما عليهم لـ (بوكاميه). وطلبة المدرسة من هذه الناحية يشكلون في كل مكان طبقة من الزبائن غير مأمونين. فالذي يدفع نقداً ثمن طعامه لا يسبب معضلة. أما الطالب الذي يريد أن يدفع في نهاية الشهر فهناك مشكلة مهمة. (بوكاميه) رجل أمي ولذا فالزبون هو الذي يتولى تسجيل ما عليه في دفتره، والطالب يستطيع أن يسجل بأمانة وصدق أو أن يعمد إلى القسمة فيختزل قسماً مما عليه. وليس هذا كل شيء، فبعد عملية الاختزال يستطيع أن يفكر بما عليه من مصاريف أخرى؛ ربطة عنق أو قميص أو رداء أو حذاء. وكان (بوكاميه) تقريباً على ثقة من أن زبائنه لن يسددوا حساب الشهر الأخير من السنة الدراسية، ولذا فقد شعر بحاجة للمساعدة. وليس هناك من يساعده أكثر من الشاوش الذي يمسك بزمام المنح المدرسية ولأنه يتولى توزيعها في نهاية الشهر. من هنا كان لنا أن نتفهم أسس الصداقة التي تربط الرجلين: (بوكاميه والشاوش). في هذه السنة ظهرت صحيفة جديدة باللغة العربية. لقد عاد الشيخ (الطيب العقبي) من الشرق حيث كان يدير في مكة صحيفة (أم القرى)، التي كانت هناك العنصر الوحيد للصحافة في المملكة العربية، كما كان الزورق الذي أعطي للملك حسين في نهاية الحرب هو أسطوله كله. لقد جاء يؤسس هنا مع (السيد اللمودي) في مدينة (بيسكرا) صحيفة (صدى الصحراء).

وقد ضمت هذه الصحيفة صوتها إلى صوت جريدة (الشهاب)، ليس هذا فقط بل كانت تطبع على تلك المطبعة الصغيرة التي كان يتولى إدارتها (بوشنال) والواقعة في شارع (بن شريف). وقد كنت أرافق قديماً المرحوم جدي حين كان يذهب ليلعب الداما مع بعض أصدقائه. ذلك الشارع الذي يضم في طرفٍ مقهى بن يمينة وفي طرفٍ آخر مطبعة الشهاب، ويتوسطه مكتب الشيخ (بن باديس)، قد أضحى للمدينة شارع الفكر فيها كما كان لها شوارع أخرى للتجارة. لقد أخذ يكثر في ذلك الشارع مرور أولئك الذين يرتدون ملابس بيضاء، وعلى رؤوسهم عمامة ذات طرف مرخى إلى الوراء يشير إلى أن صاحبها من أنصار (الحركة الإصلاحية)، في محيط لم تكن فيه تلك الحركة قد أصبح لها عقيدتها المحددة وتنظيماتها. وكان يُرى قوم منهم يأتون من الداخل كما يأتي التجار إلى سوق المدينة ليحملوا إلى مراكزهم بضاعة تموينهم. فكانت هذه العمائم البيضاء تأتي إلى شارع (بن شريف) لتمون الداخل بالأفكار الجديدة. هذه الأفكار المتداولة في شارع (بن شريف) كانت كمنشار يقوم بعملية تقسيم غامض لطبقات هذا الوسط، وقد كان قبل منسجماً موحَّداً في الجزائر. كان هذا التقسيم يحدث في الأشخاص والأفكار مرة واحدة. فكثير من المعتقدات الباطلة والأوهام التي تعبر عن جهل بالعالم بدأت تُحتَضَر. فالجهل عادة يحمل احتراماً وثنياً لكل ما هو مكتوب. والجزائر بقابليتها للاستعمار وبالاستعمار كان لديها اعتقاد بخرافة الورقة المكتوبة، فقيمتها السحرية لا تمارسها فقط في النساء العجائز اللواتي يضعن لأطفالهن (حروزاً) يقينهم بها من العين الشريرة،

بل إنها تمارس قيمتها السحرية أيضاً في ذلك الوسط الذي تكوّن في الزوايا الصوفية، إذ تستعمل فيه حجة لا جواب عليها في المناقشات. ((إنه كتبي)) يقولها واحد للتأكيد إذا آنس في وجه مستمعه بعض الشك. ((إنه كتبي))، أي إنه في (كتاب)، يقولها وهكذا يسقط الشك وتنحني الرؤوس أمام الحجة الدامغة. لقد فقد الفكر النقاد الذي توقف بتلك الكلمة السحرية كل حقل. وقد ظل متوقفاً بهذه الطريقة خلال أجيال. أما الآن فقد بدأ (الكتبي) يفقد سلطانه الساحر في العقول، ويفقد شيئاً فشيئاً أنصاره. والانقسام الذي مارس عمله في الأفكار بدأ في الواقع آلياً يمارسه في عالم الأشخاص. لقد بدأت الآن عناصر جديدة تختلط مع الطلبة المدرسيين وتلاميذ الشيخ (بن باديس) في مقهى (بن يمينة)، وبذلك تتبلور الأفكار التي نسميها اليوم تقدمية. وكل ذلك يحدث يإسهام أولئك المواطنين العاديين من سائر طبقات المدينة الذين يأتون ليأخذوا حصتهم من الجدال والمناقشة. وواحد من الوجوه التي أضيفت إلى هذه الصورة كان حقاً فاتناً. الشيخ (محمد طاهر العنيزي) كان قد غادر قديماً الجزائر مع والده سيدي (حمدان) أحد الوجوه الجميلة للعالم التقليدي، ويحتمل أنه عاصر الشيخ (عبد القادر المجاوي) والشيخ (بن مهنا) في قسنطينة. وربما كان هذا الشيخ المحترم ذا يد في تلك الاضطرابات التي سادت فترة من الزمن في منطقة (سيرتا) القديمة، فقد بذر فيها هؤلاء العلماء في نهاية القرن الماضي تلك الأفكار التي- إن جاز التعبير- نسميها (الإصلاح المحلي). ولعل المسنين من رجال قسنطينة يذكرون أي الوسائل استعملتها الإدارة الفرنسية لاستعادة سلطتها ولإعادة النظام والقانون.

لقد ترك سيدي (حمدان) الجزائر وذهب إلى المدينة المنورة ورافقه في هجرته هذه الشيخ (محمد طاهر العنيزي) وقد كان فتياً آنذاك. وهناك قام والد الفتى بتدريس الحديث تحت قبة مسجد الرسول ثم مات. أما ابنه الذي لم يستطع التكيف مع عادات تلك البلاد، فقد قفل راجعاً إلى الجزائر تصحبه والدته العجوز في الفترة التي نتحدث عنها الآن. ولكنه هنا في قسنطينة لم يستطع الاندماج في العادات والتقاليد، فكان يفاجئ الناس بلباسه الغريب ومواقفه وتصرفاته. وغدت هذه الشخصية الطريفة من زبائن مقهى (بن يمينة). فكان يتحدث بلهجة البدوي القادم من الجزيرة العربية. لقد كانت ثقافته عربية ويضع على رأسه بصورة دائمة الكوفية والعقال، ولذلك كله أضحى مقبولاً في وسطنا. لقد كانت هذه الغرابة لا تأتلف مطلقاً مع تلك الخصائص التي تتوافر لتلك الشخصية الثائرة على بعض الانحرافات، والتي سميت فيما بعد (العالم الإصلاحي). لقد كان ثائراً على كل شيء، ولم أره يوماً يمدح أحداً أو شيئاً من الأشياء، كان ينتقد الناس جميعاً والأشياء كلها. وكان ذلك نوعه، ولم يكن هذا النوع يثير مشكلة في مجتمع لم يتمكن بعد من تكوين عقيدة له خاصة، لذا فقد وضع كثيراً من القضايا موضع بحث وتدقيق، إنما هو لم يوفق في بعض الأحيان للوصول بنهاية تفكيره إلى نتائج اجتماعية حاسمة. هكذا كان نسق ثورته، يضع قشاً على الجمرة المشتعلة في النفوس التي تلتقي في مقهى (بن يمينة)، وفصاحته العربية كانت تمارس تأثيرها في العقول التي تفكر أو تتكلم الفرنسية.

أما حكاياته ومغامراته- وهي في غالبها من نتاج مخيلته، إذ كنت في ذلك العصر أعرف حبه للخرافات- فقد كان يقصها علينا فتجد لدينا آذاناً صاغية. بل كنا ندفع عنه ثمن القهوة لنسمعه يتحدث كما يتحدث. وفي زيارة لمكتبة (النجاح) وقد اعتدنا أن نتردد من آنٍ لآخر نتعرف على ما جدّ من نتاج الأدب العربي، تعرفنا على شخصية لا تقل غرابة وقد لعبت أيضاً بطريقة لا شعورية دوراً مؤلِّفاً لأفكارنا واندفاعها في اتجاه معين. إنه (يونس البحري) وكان آنذاك شاباً بين العشرين والثلاثين. ولم نكن نعلم كيف وصل من بغداد وحل في مدينتنا ضيفاً على عمي إسماعيل وتعرفنا عليه. لقد شرح لنا مدير مكتبة النجاح بطريقة غامضة حكاية ضيفه الذي وصل من مكان غير معروف عبر طنجة. وكان يظهر مرتدياً الجلابية المغربية، وقد أثار وجوده في قسنطينة انتباه المسؤولين عن الأمن والنظام. فاستشعروا (خطراً) وراء ذلك اللباس المغربي. ولكن ذلك العصر لم يكن بعد العصر الذي بات فيه من الضروري مراقبة الأشخاص الذين تفوح منهم رائحة الخطر، فكان إذن على (يونس البحري) أن يكون له كفيل من أبناء البلد. تقدم عمي إسماعيل من السلطات ليكون مسؤولاً عن (يونس البحري)، وهكذا أُخِذ إلى مطبعته ذلك الشخص (غير المرغوب فيه) فسنحت لنا فرصة التعرف عليه. حين عرفناه لم يكن يرتدي الجلابية، بل كان قد تخلى عنها وتزيّا بالزي الحديث، الطربوش وربطة العنق والبنطال. وكان بناؤه الرياضي يعطيه مظهراً جميلاً بالإضافة إلى أنه يملك ناصية اللغة العربية. وقد جعلت له هذه

الملكة تأثيراً عميقاً في جماهير شمالي إفريقيا، حين أخذ يتحدث إليها من مذياع برلين أثناء الحرب العالمية الثانية، بعدما وضع نفسه في خدمة دوائر الدعاية الألمانية التي كان يشرف عليها (غوبلز). إذن كان الرجل يملك ما تتعطش إليه تلك العقول المجتمعة في مقهى (بن يمينة)، الباحثة عن الجديد سواء كان في السياسة أو الأدب أو الأخبار العادية. وكانت لديه أقاصيصه الشخصية، وسواء كانت صحيحة أم مُخْتَلَقة فقد داعبت أحلامنا. وكان يبدو لي خاصة أحد الرحالة أو الباحثين عن الآفاق الجديدة. وحينما حدثني عن رحلته إلى أستراليا وهي في الغالب خيالية فتح لنزعتي إلى التنقل والتشرد بعداً جديداً. وفي المدرسة منذ عودتي من تبسة واجهت مشكلة ملابسي الجديدة، فلم يكن الشيخ (عبد المجيد) يسمح لي بحضور دروسه مرتدياً البنطال. وأعتقد أنه قد ينبهني إلى ذلك بالفعل، أما الشيخ (مولود) فإن نظرته القاسية إليه كانت تفصح عن رأيه حول هذا الموضوع. ولما كانت علاقتي بالمدير (دورنون) سيئة، فقد فضلت ألا أحمل على كاهلي أعداء جدداً. ولذا فقد أخذت أدخل قاعات الدرس مرتدياً سروال صديقي (عبد الحميد نسيب) الطالب الذي كان في السنة الثانية في ذلك الوقت، وعماد الحركة الرياضية في (المدرسة)، وعزاء الأستاذ (بوبريتي Bobreiter). لقد كانت رفقة صديقي نسيب مغرقة في تخلّفها. فهي تضم على ما أظن أكثر النفوس قذارة وكسلاً والذين لم تنتج المدرسة مثلهم من قبل. ولم يكن واحد منهم يرتاد مقهى بن يمينة. وحبهم للدومينو والتحلق في دوائر يتحدثون فيها اضطرهم لارتياد المقاهي التي لا تزال تحافظ على الحصر والوجاق. كانت لأحدهم على ما أذكر ميزة تميزه: ((الضحك بلا سبب)).

وكانت لهم جميعاً خاصة واحدة هي: أنهم لا يفعلون شيئاً. لقد كانوا سواء في الوسط المدرسي، يختلطون برفاق السوء من شارع (ايشيل Echelle)، وحينما كان الأستاذ (بوبريتي Bobreiter) يدخل إليهم ليلقي دروسه في تلك الفرقة التي اختارتها الصدفة لتمثل العدم، لم يكن يجد أمامه من يستحق اسم (طالب) غير (عبد الحميد نسيب). وفيما يتعلق بالمدينة كنت أذهب نادراً إلى خالتي (بهية). فقد تابعت المأساة القسنطينية فصولها. فلم يعد التحدث عن العيسوية إلا قليلاً. وحينما يتاح لي المرور أمام الزاوية المغلقة كان شيء ما يعصر قلبي. ففي الطور الذي يحدث فيه التغيير يصبح فيه الإنسان متناقضاً. فهو من جهة يهدم الماضي بيديه ومن جهة أخرى يستشعر في ذاته ضغط ذلك الماضي وأتره. ولست أدري إنما كان ذلك صحيحاً أم لا، إنما على كل حال كان هذا هو الوضع بالنسبة لي. في مقهى بن يمينة شعرت في الواقع بالانقسام الايديولوجي، الذي أوجد انطلاقاً من باب المدرسة أو من باب المقهى، حدوداً أخلاقية فاصلة بين أولئك الذين كانوا يعملون في البحث عن طريق أفضل، وأولئك الذين لا يزالون مدمنين على قراءة (ألف ليلة وليلة). ولكن في شوارع قسنطينة بدأت أستشعر ذلك الانقسام الاقتصادي الذي بدأ تأثيره منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. فالنظام الاجتماعي القديم بدأ يتفسخ بوضوح؛ وفي ساحة سوق العصر بين أكوام الملابس الرخيصة الثمن تكونت طبقة بورجوازية جيدة. أما البورجوارية القديمة فكانت تعرض آخر ما تبقى لديها، من مجوهرات وحلي للبيع كما واجهتها مصاريف طارئة لمرض أو حادث غير مرتقب.

وأعمال يهود قسنطينة بدت في ازدهار كبير يدر عليهم الذهب في تلك الظروف المضطربة، فكانوا يقرضون الأموال بفوائد تصل إلى 50% أو 60% سنوياً، وكثيراً ما كان (سيدي المسلم) يوقع على بياض السندات والأوراق التي يقدمها تجار شارع فرنسا. وفي الفترة بين عامي 1920 و 1925 تمت في تلك الحوانيت تصفية ما تبقى من ثروات لدى عائلات قسنطينة العريقة في بورجوازيتها. وفي تلك الحوانيت أيضاً كان الفلاحون يتخلون عن آخر قطعة من أراضيهم في مقاطعة (سطيف) أو (قالما) أو (عنابة). والطريقة كانت واحدة، إنها التوقيع على سندات بيضاء. وهذه الإجراءات فرضت حصاراً مخيفاً حول ملكية الجزائريين أبناء البلاد. وقد أصبحت حوانيت اليهود عبارة عن واسطة لانتقال الملكية من أيدي الجزائريين إلى أيدي المعمرين، وكان ذلك سهلاً؛ فالبورجوازي من أجل أن يقيم حفلة زواج، والفلاح من أجل أن يشتري سيارة (سيترون) ليأتي بها ويقضي سهرة في شارع (ايشيل Echelle) في قسنطينة كان بحاجة للمال. واليهودي كان مستعداً دائماً ليقرضه بفائدة 60%، والفائدة المتجمعة بهذه النسبة تنقل آلياً بعد عام أو عامين ملكيتهم من أيديهم إلى أيدي المعمرين. (وسيدي المسلم) لا يحسب الفائدة مطلقاً، عندما يقدم له الدائن اليهودي الشاي والنعناع أو قهوة تركية جيدة الصنع، في الساعة التي يحين فيها توقيع السندات. ولم يكن ليدرك حقيقة ما فعل إلا حين يطرق حاجب المحكمة بابه. الانقسام الاقتصادي تابع هكذا سيره بتأثير مزدوج. فمن ناحية حَوَّل الملكية من أيدي الجرائريين إلى أيدي اليهود والأوربيين، ومن ناحية أخرى فقد نقلها من أيدٍ بورجوازية توارثت الثروة والجاه إلى أيدٍ بورجوازية أثْرَت من تعاطي التجارة. ذلك كله من وجهة نظرية لا يترجم سائر المأساة الإنسانية لتلك الفترة.

كنت أشعر بالمأساة في كل مرة أذهب فيها لزيارة خالتي بهية، فأرى خالي (علاوة) جالساً بقربها كولد صغير أو بتعبير أصح كصورة للبؤس البشري. وكنت أحسّ بالمأساة بصورة قوية في تِبِسَّة أيضاً وخاصة في زيارتي الأخيرة في عطلة الصيف، حينما رأيت آخر واحد من عائلة (بن شريف) العريقة - وهي تحمل الاسم نفسه لعائلة شريفة أخرى في قسنطينة- يغادر دار العائلة القديم في ساحة (الكنيسة)، ليستأجر غرفة صغيرة في حي المسلخ القذر، يطل بابها على الشارع فيتخد قسماً منها لتعليم القرآن لأطفال الحي وآخر لسكنه. أما دار العائلة عائلة (بن شريف) المهجورة المهدمة فكانت تحكي للمارة ببابها المغلق نهائياً مأساة أمةٍ وبلد. وكان هذا الشعور يزايلني أيضاً حين أمر أمام الدور التي كانت تقطنها في الماضي الفروع المختلفة لعائلة الشاوش العريقة في شارع (بريزون Prison). في ذلك العام وقع حادث صغير، إلا أن نتائجه على تفكيري كانت كبيرة للغاية. ففي مكتبة المدرسة كان (دورنون Dournon) يتولى إعارة الكتب للطلبة؛ وقد استعرت يوماً كتاب ابن خلدون في ترجمة فرنسية قام بها (سلفستر ساسي) و (مروج الذهب للمسعودي) في ترجمة فرنسية لم أعد أذكر صاحبها. وكانت إعارة الكتب تحدث مرة في الأسبوع. وفي إحدى المرات وضعت الصدف بين يدي كتاباً للفيلسوف الفرنسي (كونديلا Condillae) الذي عاش في القرن الثامن عشر والذي يمكن أن يعد إلى حد ما أستاذاً لمدرسة علم النفس الفرنسية. وقد أسرني هذا الكتاب على الرغم من ضخامته وصعوبة فهمه بالقياس إلى طالب مثلي. لم أعد في فترات الاستراحة التي تتخلل الدروس أفكر في تلك الرحلات الخيالية إلى تمبوكتو، كما لم أعد أجد لذة في رسم رأس الشيخ (بن العابد) أثناء

إلقاء محاضراته، فقد أسرني الكتاب فقضيت الوقت كله حتى موعد الذهاب إلى مطعم (بوكاميه) في قراءته. وفي بعض الأحيان كان يصاحبني إلى غرفة النوم، فأقرأ مع (شريف زرعين) قاضي تبسة الحالي بعض فصوله، أما (صالح حليمية) فكان منصرفاً عن ذلك كله إلى شراهته أو معالجة أمعائه. و (عبد الحميد نسيب) استأثرت به كرة القدم، وقد كان وباؤها منتشراً في الجزائر في الوقت الذي انتشرت فيه النزلة الوافدة الإسبانية. لقد تسبب لي ذلك الوباء بكثير من المشاكل مع المدير الفرنسي، الذي كان يريدني بأي تمن أن أشارك الآخرين من الطلبة لعبهم في الوقت المخصص للرياضة. وكنت شخصياً أفضل مطالعاتي الخاصة على ذلك. ولذا أصبح كتاب (كونديلا Condillae) رفيقي حتى على الوسادة. هل هذه هي الفلسفة؟ أعني توجيه الفكر من معطيات فكرة إلى أخرى مستنتجة. ومهما يكن من أمر فقد اعتاد فكري هذه الرياضة كما نعتاد رياضة كرة المضرب. لست أدري أي كسب علمي حصلت عليه مع (كونديلا Condillae)، إنما هذا الكتاب وضع عقلي وأفكاري وفضولي أو بالأحرى ثقافتي باتجاه محدد. منذ ذلك الحين لم أعد أتردد على مكتبة النجاح باحثاً عن الجديد في الأدب العربي. فقد كان في الشارع الصغير الممتد من ساحة (الثلمة) إلى الساحة الصغيرة مقابل دار المحافظة مكتبة فرنسية صغيرة. وقد أثار دهشتي أن صاحبها الفرنسي لم يكن متعالياً ساخراً من ذلك الجزائري (ابن البلد indigène) الذي اجتاز عتبته. وقد وقفت مبهوراً ذات يوم أمام رفوفه، حينما اكتشفت (جون ديوي

John Dewey) الذي كان كتابه الكبير (كيف نفكر) قد ظهرت ترجمته الفرنسية. كنت أعرف أن أميركا لديها (دوجلاس فيربانك) و ( Cow-boys رعاة البقر) والجاز والدولار، ولكني لم أكن أعلم من ثقافتها سوى أديسون. فـ (جون ديوي) كان إذن بالنسبة لي كشفاً أكثر منه عنواناً. بالطبع كنت أحافط على الاتصال بوسطي، بالمدرسة ومقهى بن يمينة، كنت أقرأ دائماً صحيفة (الإنسانية L’Humanité) و (النضال الاجتماعي Lutte social) و (الإقدام، والراية، وأوجين يونغ، والأخبار الأدبية) وغير ذلك من الصحف الأخرى. كنت دائماً وَطَنيّ النزعة. ومع صديقي (شوات) لم أكن بعد قد اتخذت قراراً باختيار المسكن الذي سوف أقيم فيه عند رحيل الفرنسيين؛ فقد ترددت بين شقة تطل نوافذها على ذلك المجتمع المنتخب في شارع (كارامان Caraman) والذي لم أكن أجرؤ على الاحتكاك به، وبين دارة أنيقة كتلك التي كان يبنيها في إحدى الضواحي السكنية (فراندو Ferrando). وهذا الرجل الأوربي كان يسيطر على تجارة الخردة في أنحاء مقاطعة قسنطينة. باختصار كان هؤلاء الأشخاص جميعاً يعملون على تحديد شخصيتي في ذلك العصر. يونس البحري ومحمد طاهر العنيزي وبوكاميه وبن يمينة وكاندياك وجون ديوي. لقد كانت الحياة تتابع نسيجها من حولنا وفي داخلنا بخيوط من كل نوع ومن كل لون، من الابتسامات ومن الزفرات. لقد بدأت السنة الدراسية تقترب من الامتحان مرة أخرى، والقلق على المنحة الدراسيه اقتحم من جديد كل طالب. وكما أنه ليس لأحد أن يتخلى عن غريزة البقاء، كذلك لم يكن أحد في المدرسة حتى من بين زملاء (عبد الحميد نسيب) ليشذ عن قاعدة السعي للمحافظة على المنحة الدراسية.

وحتى أولئك الذين يعتمدون في امتحاناتهم على الغش والنقل، فقد كان عليهم أن يعملوا بجدية لتحضير أنفسهم لأيام الامتحان الصعبة. فكان على هؤلاء إذن قبل كل شيء أن يحلوا مشكلتهم الأساسية. هل يدخلون معهم إلى قاعة الامتحان كتاباً يستعينون به في النقل، أم يحضرون نسخاً مكتوبة عن الدروس والمحاضرات. وفي فرقة عبد الحميد نسيب كانت هناك مناقشة خاصة حول هذا الموضوع. فالذين تبنوا النظرية الأولى أخذوا يدرسون أفضل الوسائل لوضع الكتاب على ركبهم، وتحديد كيفية إيصال النور إلى الكتاب عبر فتحة القميص (قندورة). أما أنصار الحل الثاني فقد أخذوا يدرسون إمكانية كل موضوع يطرح في الامتحان. ولذلك فرضوا على أنفسهم إمكانية فقدانهم المنحة الدراسية إذا لم يكن السؤال من بين المواضيع المختارة. لقد عادت كلمة الشاوش (هي ... هي ... هي) تمارس أثرها في أعصاب الجميع. وذات صباح قرأ (دورنون) أسماء الطلبة في باحة المدرسة أمام ذلك الجمع المتصبب عرقاً من عناء الليلة الأخيره من ليالي المذاكرة. وفي أيام الامتحانات هذه كانت تصدر عني حركات وتصرفات أذكر أنني قمت بها في امتحانات السنوات السابقة. لقد كنت أرى بشكل غامض أن لهذه الحركات قوة سحرية. وقد تكون غالباً أموراً تافهة، فمثلاً لقد غسلت قميصاً من قبل في ذلك الوقت، وإذا بي هذا العام أعود لأفعل ذلك في اللحظة ذاتها تقريباً وبالحركات نفسها. لقد كان المهم الحصول على هذه الفكرة المؤملة. وفي السنة الماضية فعلت مثل هذا ونجحت وتلك الأفكار الصبيانية كانت توجهني دون شك بمعزل عن سيطرة قواي العقلية.

ومرة أخرى نتيجة مزورة للامتحان علقت على باب المنامة. فقد كان هناك طالب يقلد بعناية توقيع (دورنون). وفي ذلك العام، وبعد أن أفقد الآخرين منحتهم بتزويره من أجل التسلية، فقد منحته حقاً حينما ظهرت النتيجة الرسمية. لقد استعاد مقهى بن يمينة نشاطه بعد ظهور النتائج، أما الطلبة فقد تفرغ قسم منهم لشراء حاجياته من الملبس استعداداً للعطلة الصيفية، بينما الآخرون استعادوا نشاطهم ومناقشتهم التي أوقفتها الامتحانات، أما صراع خالد ومورينو فقد تابع فصوله. لقد بدأ القوم يتحدثون عن الأمير عبد الكريم وانتصاره الساحق على الجنرال (سلفستر) في مليلية. أما في ألمانيا فقد تسلم السلطة أو ربما سُلِّم إياها الماريشال (هندنبرغ)، واستدعي (بوانكاريه) في فرنسا من عزلته ليعالج الوضع الاقتصادي المخيف في البلاد. وفي إيطاليا كانت الجماهير تصفق (للدوتشي) وهو يسير نحو روما. لقد نشر في فرنسا (رومان رولاند) كتابه (الهند الفتية) وبدأ اسم غاندي ينتشر في العالم. في هذا الوقت كان صديقي صالح حليمية يصر على صانع الأحذية أن يصنع لحذائه أعلى كعب ممكن، استعداداً للعطلة الصيفية. فقد كانت عقدة قصر قامته تشغله كما تشغله أمعاؤه المريضة دوماً بسبب الشراهة، فأخذ يعالجها باستعمال حشيشة (ست الحسن) (¬1) وقد وصفها له الدكتور موسلي الذي كان يتولى تدريسنا علم الصحة في المدرسة. ¬

_ (¬1) ست الحسن Belladon من فصيلة الباذنجان (قاموس المنهل).

رجوعي إلى تبِسَّة كان كسابقه لم يحمل الجديد. وعلى طول الطريق كان يترجرج بنا (أوتوبيس) مهلهل عتيق. لم يكن يقال له ( Car)، فالتأمرك في المنطقة لم يفرض بعد هذه الكلمة. وأراضي المعمرين من (الخروب) حتى (مسكيانا) تستعرض أمام أنظارنا امتدادها الأخضر الأشقر أو القاتم طيلة النهار. فالمزارع التي تستغل هذه الأراضي تحدد لنا معالم السير، بتجمعها الضخم تارة تأوي إلى واد ينخفض عن الطريق، أو تُنِيفُ علينا ربوة تجثم عليها تلك المزارع تارة أخرى. وقد رأيت على مسافة قريبة من (الخروب) تلك المزرعة الكبيرة التي أقيمت مبانيها على جانبي الطريق؛ والقطيع من الأبقار الذي يُمدّ محلات الألبان الكبيرة في قسنطينة بالحليب ومشتقاته، يجتاز الطريق أمام سيارتنا، ولعله كان ينتقل من البناء الذي تتم فيه عملية الاحتلاب إلى حيث يقوم الاصطبل. وكانت مطالعاتي حول الاستعمار الأبيض في كندا وغرب الولايات المتحدة قد زرعت في نفسي حب المغامرات، التي تتيح لرجل أن يصنع تاريخاً صغيراً على بقعة من الأرض تمنحها له الطبيعة، أو يستولي عليها من مالك قديم لا يعرف ولا يقدر على الاحتفاظ بها. كانت هذه المشاهد تعيد لخاطري حكايات سمعتها في طفولتي من أفراد العائلة، فتثير ذكريات مؤلمة عن ماضٍ زائل. فجدي كان يملك كما قيل لي في طفولتي مساحات واسعة في مقاطعة قسنطينة. كنت أريد أن تكون لي أرضي ومزرعتي وأبقاري وأغنامي، وأن أشم رائحة الاصطبل والزرائب. ذلك هو الحلم الذي داعب مخيلتي في تلك الفترة من حياتي. وإذا كانت أرض الجزائر ترفض أن تحقق لي أمنياتي فدون ذلك تمبوكتو وأوستراليا أذهب إليهما.

وكثيراً ما كانت أراضي المعمرين الفرنسيين تحملني على التساؤل: ((أين هي أرض أجدادي؟)). والواقع أن صحيفة (الإقدام) للأمير خالد و (الراية) لدندن قد أوجدتا في ذهني حساسية خاصة نحو هذا النوع من المشكلات. وعلى حافتي الطريق كنا نصادف من آن لآخر جزائرياً يسوق أمامه حماره، ذاهباً على الأرجح إلى كوخه. وكنت أدرك بشيء من الغموض كيف يعمل هذا المعمر الفرنسي على محو تاريخ هذا الرجل عن الأرض ليصنع عليها تاريخه. بعد أن اجتزنا منحدرات (حلوفة) بدت أمامي سهول تِبِسَّة قفراء أكثر من قبل. وعندما لاح من بعيد (قرص السكر) لاح عارياً بصخور بيضاء كلسية بفضل شمس تمور. والرجل الذي كان يسير هنا مع حماره على حافة الطريق بدا لي أكثر انسجاماً مع الجو المحيط به. فتحت تلك السماء يتابع فصول تاريخه إنما لا يصنع تاريخ الآخرين. واليوم أدرك كيف أن منطقة السهول المرتفعة قد حافظت في ضمير السكان عبر قرن من الاستعمار، على تلك الشعلة التي لم تمت كما ماتت في سكان شقيقتها منطقة التل، الذين أضحوا أكثر ألفةً وإيناساً، فشكلوا بذلك جرءاً من آلة الاستعمار. وهنا نجد انقساماً تاريخياً يبدو للعيان: جنوب الجزائر وشمالها (زناتة) و (صنهاجة). فمنذ القرطاجيين كانت كل مقاومة تُطِلُّ من الجنوب. ولعل غنى التربة يبدو عبر التاريخ مصاحباً للضعف في الخلال الحسنة.

وأخيراً وضعني (الأوتوبيس) في محطة شركة النقل للدخان، وفي المكان نفسه الذي كان الناس يركبون منه عربة البريد قبل عشر سنوات. عند أعلى درج الدار كانت أمي تنتظرني لتفاجئني واقفة على عكازين استُحضرا لها من مدينة الجرائر. منظر جميل من الماضي عاد إلَيَّ. أمي تقف على قدميها. لقد أظهر أبي اغتباطه بوصولي. أما جدتي فقد رفعت عينيها عن سُبحتها لترحب بي، وتبتسم ابتسامة خاصة بالمسنين الذين يصعب التعبير بشيء معين على وجوههم. وعلى كل فلا أذكر أني رأيتها يوماً تضحك أو تبكي في مناسبة ما. ولم أرها مضطربة إلا يوم وفاة ابنها خالي (يونس). وقد تحول عشاء تلك الليلة إلى عيد عائلي صغير شاركتنا فيه شقيقتاي وأولاد أختي الكبرى وزوجها. أما الصغرى فإن زوجها لم يحاول أبداً أن يجعل نفسه من أفراد العائلة. وعند الانتهاء خرج والدي كعادته للقاء أصدقائه. سي (بغدادي) كان أول رجل من أبناء تِبِسَّة يضع الطربوش على رأسه، ويرتدي القميص ذا الياقة المقواة، في وقت كانت فيه حُمّى الحماسة لتركيا تسيطر على الجزائر منذ أيام (عباس بن حمانة). سي (الحبيب) حارس المقبرة كان متخصصاً في السخرية والضحك، ويختار ضحاياه خاصة من رجال الصوفي والجريدي الذين كانوا يؤمون سوق المدينة في ذلك الفصل من السنة. الخباز سي (بلقاسم) لم يكن لديه ما يمتاز به إلى جانب مهنته. هؤلاء كانوا أصدقاء والدي وجلاسه. وخرجت أنا بعدُ للقاء رفاقي. إن سحر ليالي الصيف في تِبِسَّة ينتظر الجميع عند باب قسنطينة أو باب كراكلا.

وكان لتبسة أنماطها وهي وجوه ترسخت في لوحتها الإنسانية. ففي ساحة القصبة حيث تمتد المقاهي الأوربية المكشوفة، يمكن في تلك الساعة مقابلة (جمعة) منهمكاً ينادي بصوت مرتفع ليبيع رئيس البلدية. و (جمعة) هذا من (القَبِيل) رمته تقلبات الأحوال خلال الحرب العالمية الأولى بين سنتي 1914 - 1918 في شوارع تبسة، فقد كان في النهار يبيع الملابس القديمة وينادي عليها، وفي الليل وبعد أن يخرج من حانة رجل يدعى (فاسلو Vassalo) يتردد عليها سكارى المدينة، يعود إلى ممارسة مهنته فينادي: ((من يشتري رئيس البلدية بعشرة فرنكات))؟ كان رئيس البلدية (بلفيسي Belvisi) يبتسم لذلك. وإذا شاء سوء طالع جمعة أن يقابل في طريقه (أنطونيني Antonini) رئيس الشرطة العجوز، فإن عليه أن يقضي تلك الليلة يداعب قضبان سجن الشرطة ليستأنف صراخه في الصباح، غير أن الذي كان يشغل الشرطي العجوز أكثر من ذلك سكير آخر يدعى (بنيني) ليس له مأوى أو دار. فما إن ينتهي الرجل من عمله اليومي بوصفه حمالاً حتى يذهب إلى حانة (فاسلو Vassalo)، وحين يخرج يجد (أنطونيني) بانتظاره ليقبض عليه ويلقي به وراء القضبان حيث أصبح سكنه المعتاد. وقد اعتاد أبناء تبسة على هذا المشهد اعتياداً، جعلهم يجدون صعوبة في الإجابة إذا سئلوا إذا كان (أنطونيني) و (بنيني) صديقين، أم أنهما شخصان تجمع أحدهما بالآخر ظروف أو عمل. وكان هناك (بيريلا Birella) المستخدم في حانوت (عميمي إسماعيل) في الشريعة. فحين كان يأتي إلى تبسة يقصد مباشرة حانوت صديقه شَوَّاء اللحم

(الأفندي). وقد سمي كذلك لأنه قضى عدة سنوات في القاهرة، وهناك اعتاد لبس الطربوش ووضع ياقة مقواة كما فعل سي (بغدادي). وحينما كان يخرج من ذلك الحانوت يخرج مخموراً، ويسير بمحاذاة حائط الثكنة الواقعة عند ساحة كارنو ليحادث الملائكة. أما صديقه (الأفندي) فيغلق في ذلك الوقت حانوته، ويذهب إلى المقهى الواقع في ساحة البلدية، ليطرح على زبائنه هذا السؤال الفلسفي الدائم الذي ربما حمله معه من القاهرة: ((هل العادة أغلب أم الطبيعة؟)) وكان من عادته أن يتبنى دوماً الرأي المعاكس للجواب الذي يتلقاه على سؤاله. هكذا يكون لتبسة وجهها يتكامل مع سيدي (طاهر حما) الذي كان معلماً، وهو اليوم يقضي نهاره متجولاً في شوارع المدينة يحادث الملائكة ويوزع سجائره على الأولاد، وكنت من المستفيدين من عطاياه، وأحياناً يسدد إلى هؤلاء ضربات محكمة بقدمه. ونضيف إلى هؤلاء سيدي (بن نجا) الذي كان يرتدي ملابس رعاة الإبل من سكان جنوب وهران، واعتاد الناس أن يستفزّوه ويطلقوا لسانه باختطاف عصاه. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى استعادت المدينة بعض الرماة المُسرَّحين، وقد عادوا من الخدمة الإجبارية العسكرية. وقد حمل (باهي) معه من الجيش هواية الضرب على الطبل، بينما زميله (صدوق شتوكا) حمل عادة ارتداء ثياب الميدان مع منظار عُلِّق بحمالة من الجلد. وحمل الاثنان معهما حكاياتها الكثيرة- الصحيح منها والخيالي- عن فرقهم في الجيش، وفي الاستعراضات التي تجري في المدينة بمناسبة الرابع عشر من تموز (يوليو) كان الاثنان يعيدان أنفسهما للخدمة، فيجوبان شوارع المدينة،

وأحدهما (صدوق شتوكا) يتصرف وكأنه ذاهب على رأس فرقته لإلقاء حصار ما، و (باهي) يضرب طبله بقوة كأنما هو أصم لا يسمع. وكان (صدوق) قد حصل على مركز قائد ... فكان يزعج السكان بتصرفاته الغريبة إذ كان يعاملهم كأنما هم جنود رماة في فرقته. أما (باهي) فكان يرضي هوايته في الزاوية القادرية حيث نال شهرة بوصفه أمهر ضارب، إلا أن الطريقة القادرية في تبسة كمثيلتها العيسوية في قسنطينة كانت في طور انحطاطها في ذلك العصر. فالتجديد قد بدأ يعم البلاد عملياً حتى قبل أن تذكر كلمة (الإصلاح)، ولذا فبحكم التطور لم يعد (باهي) عمل في (القادرية) كما لم يعد له عمل في الجيش بحكم انتهاء الجيش فأضحى هكذا في الاستيداع. لقد قرر فتح مقهى فازدهر بفضل حكاياته وحكايات زميله (صدوق شتوكا) وثالث كان يستدعى في حفلات الزواج لأنه بارع في شؤون المطبخ، وأضحى المقهى المفضل أو بعبارة أصح النادي الليلي لشبيبة تبسة، إذ يتاح لهم إلى جانب هؤلاء سماع الأسطوانات المصرية. وكنا نقضي أنا وصالح وإزميرلي وصديقنا صاحب المقهى في حمام عباس، بقية سهرنا إذا عدنا من نزهتنا المعتادة خارج أسوار المدينة القديمة. وهناك كانت حكايات (صدوق شتوكا) الذي كان يترك قريته ويأتي إلى المقهى ليقصها علينا فتثير فينا الضحك العاصف. وكنت أنا قد عدت ذلك الصيف متعطشاً لسماع الأسطوانات المصرية، إذ كان في نفسي شغف خاص لسماعها حين فشلت في جعل رفاقي في مقهى بن يمينة في قسنطينة يشاركونني تذوقها، وقد استنكف صاحب المقهى عن إدخال هذا النوع من الأغاني.

ففي مقهى (باهي) كنت أروي تعطشي إذن لسماع تلك الأغاني، في وقت ينصرف فيه رفاقي لسماع حكايات صاحب المقهى، وكنت أستغرق في سماعها، فقد سيطرت علي أغاني أم كلثوم التي كانت قد بدأت بالانتشار. في ذلك الوقت على الأرجح عاد الشيخ (العربي التبسي) من القاهرة، ليضيف إلى علماء تبسة الذين يفاخرون بدراستهم الأزهرية عالماً آخر. فحتى ذلك الزمن لم يكن هناك من أبناء الجيل الذي تنتمي إليه والدتي غير عالم واحد، يمكنه أن يفاخر بالانتماء إلى الجامعة الإسلامية الكبرى، إنه الشيخ (مصطفى بن كحولة). ولكن علم الأزهر قد أفقده شيئاً من عقله، وحين عرفته- وكنت لا أزال ولداً ضغيراً- كنت أراه صباح كل جمعة يتنقل أمام أبواب دور المدينة يقرأ سورة من القرآن تارة، ويطلق السباب والشتائم تارة أخرى على الأطفال الذين كانوا يتحلقون حوله. ولكن قانوناً يبدو خاصاً بالعالم الإسلامي- يعود لأسباب عميقة لا ينبغي شرحها هنا- يجعل الوحدة إذا أضيفت لعدد لا تزيد قوته وإنما تنقص منها. وقد أدى وصولي (العربي التبسي) إلى مثل هذه النتيجة. هكذا رأينا في المدينة فريقين: فريق يتبع الشيخ سليمان وآخر الشيخ العربي. أما الشيخ (عسول) والشيخ (الصدوق بن خليل) فقد فضّلا ترك حلبة الصراع للاهتمام بأعمالهما الخاصة. إذن كان في تبسة في ذلك العصر خلاف واسع في الرأي. وقد شاءت عائلتي أن تحتفظ ببركة الشيخ سليمان وتستفيد من علم الشيخ العربي التبسي، نظراً لما للعلوم الأزهرية في نظر الناس من قيمة تاريخية قديمة.

أما أنا فقد وقفت ببساطة إلى جانب الشيخ (الصدوق بن خليل)، الذي كان رجلاً بسيطاً يهتم فقط بالعمل على كسب العيش عن طريق ممارسته فن كتابة الخطوط الجميلة. وكان يعمل في كتابة الإعلانات والإشارات العربية. ولكنه لم يلبث أن تدهور عمله في هذا المجال، فلم يعد في المدينة سوى مصنعين أو ثلاثة للدخان يكتب لها الإشارات التي تلصق عادة على التبغ. وهكذا اتجه إلى مورد جديد للرزق، إذ أخذ يكتب الحروز للفتيات الأوربيات اللواتي يقعن في متاعب عاطفية، فيبادر لنجدتهن بالعلم لكي يوفق بينهن وبين (فينوس). وفي ظني أنه كتب حرزاً لصديقي (شريف سنوسي) الخياط الذي كان مولهاً بحب فتاته اليهودية. ومن ناحية أخرى كان خروجي إلى المدينة على العموم في المساء. وكنت أقضي النهمار كله في المطالعة والحديث مع أمي. وقد قضيت العطلة بعيداً عن ذلك الضجيج السائد في المدينة مهتماً بقراءة صحيفة (العصر الجديد). وقد قرأت أيضاً الأجزاء الضخمة الثلاثة أو الأربعة من كتاب (تاريخ الإنسانية الاجتماعي) الذي كان والدي قد أضافه مؤخراً إلى مكتبته الصغيرة. كانت حياة المدينة تسير في طريقها العادي. وبتنا نرى (المحفل) يتناقص ظهوره شيئاً فشيئاً. ومدام (دوننسان) لم تعد ترى أمام محلها في شارع قسنطينة مواكب المغنيات من النساء وراء الدابة التي تحمل العروس، فيترك مرورهن رائحة العنبر الجميلة. فالنساء يضعن في أعناقهن عقوداً تتألف من حبات أُدخِل في تركيبها العنبر والمسك، فكان ذلك يعطي المجتمع النسائي الجزائري رائحة خاصة مميزة. وحتى مواكب الجنازات أضحت في أغلب الأحيان صامتة. فلم يعد الناس ينشدون قصيدة البردة وراء نعش الميت. لقد أضحت تصرفات الناس لهذه الجهة ترتبط بموقفين عقائديين من جهة ومن جهة أخرى برجلين.

فالعائلات التي تجري احتفالات زواجها ومواكب دفن موتاها وفق الطريقة القديمة، تبدو صواباً أو خطأ وكأنها من أنصار الشيخ (سليمان). أما العائلات التي تتبع العادات الجديدة في تلك المناسبات فهذه تعد من مؤيدي الشيخ (العربي). لقد بدأ الناس يأخذون بشكل غامض منحى العودة إلى تلك الطريقة الصحيحة التي يمثلها الشيخ، والتي سيطلق عليها فيما بعد اسم (الإصلاح) أو (السلفية). أما الشيخ سليمان فقد كان مرناً يوفق بين تلك الطريقة الصحيحة والعادات السائدة لكنه مع ذلك يمارس عليها تأثيراً مصححاً. وذات صباح تركت تبسة غارقة في اضطرابها الفكري وتلقيت مرة أخرى على رجلي (ماء العودة). ... في قسنطينة عدت للاتصال بالحقيقة الجزائرية عن طريق وجهها الآخر أعني المواجهة الأقسى للنظام الاستعماري. فالجالية الأوربية المتزايدة يوماً بعد يوم، وزينة الناس وملابسهم ومظهر الشوارع الرئيسية وثكنة القصبة وأولى عربات (التروللي باس)، هذه كلها مظاهر تطبع في النفس الوجود الاستعماري. ومن ناحية أخرى فقد تركت فيّ النفس التبسية ألماً أورثه إياها امتياز بمنح سبعة آلاف هكتار في (دوار المريج)، أي نصف مساحة الدوار لرجل أوربي، بالإضافة إلى حق في الري يستنزف ثلاثة أرباع احتياطي المياه. فقد كان هذا الأوربي صهر صاحب متجر ( Bazar de globe) الذي يمتاز بشهرة كبرى في قسنطينة.

وفي مدينة (سيرتا) القديمة ظهر الوجود الاستعماري ظهوراً أعنف مما كان في تبسة. وفي مقهى بن يمينة كان الناس يعلقون على آخر مراحل الصراع بين خالد ومورينو، وهو حوار بلغ ذروته في جريدة (الجهوري Le Républicain) التي أخذت تنكر على خالد لقب الإمارة. أما الحديث في صحيفة (الشؤون العامة لقسنطينة Depêche de Constantine) فقد كان يجري الحوار بصورة مكشوفة حول حرب الريف، وأضحى اسم الأمير عبد الكريم يشار إليه بوضوح. والشرطة الفرنسية بدأت تزعج أولئك الباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم في الطريق، من حلوى الفطير المقلي الذي يسمونه (الخفاف) أو (الاسفنج)، في ساعة مبكرة من الصباح ينادون عليه بصوت تقليدي: ((يا كريم)). وبدأت الإدارة تستنفر الفرسان من قبائل العرب للتجنيد. لقد أصبحت هذه الحرب الحديث الرئيسي في مقهى بن يمينة. وغدا الناس يرون في منامهم أحداثاً ومشاهد فيفسرونها بما يتلاءم مع نهاية ظافرة للأمير عبد الكريم. لقد كانت لي أحلامي أيضاً. وكنت أفسرها وفقاً لرمز خاص يمكن لي أن أنسبه إلى تربيتي البيتية الدينية. وكان تفسيرها في غير صالح (الريفيين). ولكن الحلم ما كان له أن يغير الحقيقة في ناظري، فـ (الريفيون) كانوا أسوداً يكافحون وحشاً يفترسنا جميعاً. وبطولة (الريفيين) كانت تثار لشعب لا يستطيع أن يثار لنفسه. وبعد عام من انتهاء تلك الحرب كتب أحد الصحفيين الأمريكيين معلقاً

على النتيجة: ((لقد خرجت فرنسا منتصرة إلا أن المجد الحقيقي بقي في الريف)). وفي الصحافة العالمية كان الحديث باستمرار حول الجمهورية الريفية. وكان ذلك يثير حنق وغضب مؤيدي أسرة (لويس بيرتران Louis Bertrant) في فرنسا وفي ( Navarre) وخاصة في الجزائر. على كل حال فأحداث الريف كانت تملأ نفوسنا في مقهى بن يمينة. وتثير فينا مشاعر يأخذ بي عنفها. كانت صحيفة (الإنسانية L’Humanité) بالنسبة لي المهدّئ الوحيد، إذ كان (كاشان وفايان كوتورييه Cachin et Vaillant Couturier) يصبان فيها دائماً هجومهما ولعناتهما التي تخفف عن نفسي. وبدأت فكرة غير واضحة في ذهني وذهن صديقي (شوات) إذ كان شريكي في هذه الانفعالات؛ الفكرة هي المالتحاق بصفوف (الريفيين). وهكذا بدأنا نرسم الخطط لاجتياز الحدود عبر الشمال من وهران، إلا أن مشاريعنا كانت تفشل لسبب أو لآخر. إني لا أعلم إذا كان للاستعمار طالع في برج السماء، إلا أني أعلم أنه في تلك السنة 1924 - 1925 كنا نعيش في ظل طالع الاستعمار. لقد زعزعت حرب الريف مواقف حديدية في فرساي 1919. فقد أثبت الأمير عبد الكريم أن امبراطورية استعمارية يمكن النيل منها. لذا كان لابد من رأب الصدع المعنوي الذي أحدثه (الأمير الريفي) مع حفنة من الرجال في هيبة الأمم الاستعمارية. لقد فكر بذلك السياسيون في باريس وربما في لندن أيضاً. كانت هناك الجولة الصفراء والجولة السوداء. وكلا الجولتين خرجتا من باريس: واحدة نحو طهران بغية الوصول إلى شنغهاي عبر آسيا، والثانية نحو الجزائر وصولاً إلى الكاب أي عبر إفريقيا بأكملها.

أعتقد أن مؤسسة (سيتروين Citroëne) هي التي نظمت كلتا الرحلتين. لكنه من الواضح أن الدولة الفرنسية كانت وراءها، لأن الأمر يتعلق بأن تثبت لأولئك الأقزام والمثيري الشغب من أهل الشمال الأفريقي أن إفريقيا وآسيا في قبضتها. ثم كانت هناك زاوية استطلاعية ورياضية معاً في تلك المغامرات الآلية ذات المدى الطويل. فللمرة الأولى أخضعت السيارة لتجربة المسافة الموحشة التي لم تطرقها من قبل طريق معبدة منظمة. (الرحلة السوداء) استحوذت على اهتمامي، اهتمام يثيره في نفسي بدون شك الحنين إلى الصحراء ونداء تمبوكتو. لكن سروري قد شابه شيء من الامتعاض. إذ أصبحت أشعر وأفكر على طريقتين: أمام ناظري حدث رياضي خارق يدعو للإعجاب لكنه هو أيضاً حدث استعماري. وإذ فهمت دلالته هذه فقد أفسد عليّ سوري وإعجابي به. في تلك الفترة بدأ فكري ينشغل بالمستقبل، فسائر المدرسيين الذين يبلغون السنة الرابعة لا يفكرون بغير ذلك. ((ما العمل بعد التخرج من المدرسة؟)) لدي فرصة أن أكون عدلاً وترجماناً مساعداً وشاوش محام، وبشيء من (الواسطة) ربما كنت موظفاً في الإدارة المختلطة. لكنني ما كنت أملك أن أذهب لقضاء سنتين في قسم (التعليم العالي) فهناك سببان يجعلانني لا أطمع في ذلك: فقد كان عملي من أجل المقررات دون الوسط دائماً وكانت منازعاتي مع (دورنون Dournon) فوق الوسط دائماً: فأنا أقرأ صحيفة (الإنسانية L’Humanité) وألبس البنطال، ولا أشارك في (التمارين)، الاسم الذي كان يطلق على ساعة الرياضة الأسبوعية.

آه لو أني أصبح مزارعاً! ولكن أين الأرض؟ إنها لا تُعطى إلا للمستعمر. تمبوكتو؟ ... أوستراليا؟ إنهما خارج طاقتي بالتأكليد. تاجر؟ ... أفتح مخزناً صغيراً في قرية الشريعة؟ ... إنه أفق مقبول. كنت أدور حول تلك الأسئلة التي يطرحها علي مستقبلي. ولم أكن أجد ما يصرفني عن هذا الذي يثقل رأسي سوى مقهى بن يمينة. كان شارع (بن شريف) يزداد حركة وحيوية. الذين يرتدون الملابس البيضاء ويضعون على رؤوسهم عمة ذات طرف يتدلى على الظهر إشارة لعالم الإصلاح، كانوا يمرون إلى مكتب إدارة (الشهاب) الصغير أو مطبعة (صدى الصحراء) التي أطلق فيها الشيخ العقبي عبارة أصبحت شعار الإصلاح، إنها آية قرآنية تتصل بمهمة النبي {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود 11/ 87]. كان منظر الشيخ (بن باديس) عند مروره أمام مقهى بن يمينة في طريقه إلى مكتبه قد بدأ يثير اهتمامنا. فكثير من أفكارنا وآرائنا تتصل بشخصيته أكثر من اتصالها بالشيخ (بن موهوب) الذي كان أول من زرعها في نفوسنا. وربما كان ذلك لأن الشيخ بن باديس قد بدا في ناظرينا خارج الإطار الاستعماري. فقد قطع صلته بعائلته وخاصة والده وهو تاجر كبير وبشقيقه المحامي وزوجه البورجوازية المترفة، هكذا بدا لنا أقرب إلى نفوسنا. في تلك الفترة التي كنت أفكر فيها بتمبوكتو وأوستراليا أو مخزن في قرية الشريعة، كنت أفكر أيضاً بتأليف كتاب تحت عنوان (الكتاب المنفي) لماذا هذا العنوان وماذا سيكون محتوى الكتاب؟ .. تلك أسئلة تحرجني لو أن أحداً سألنيها. ولكن الفكرة استهوتني فأخذت أتحدث مع بعض زملائي من المدرسيين كالأخوين (مشاي) القلماويين، وكان

يلذ لي أن أحدثهما عن جولاتي الفكرية لأنهما ينصتان إليّ بجدية يظهران معها كأنهما حديثا العهد بديانة ويستمعان لمرشد هام فيها. وكانت الفكرة تجعلني أكثر استلطافاً للشيخ بن باديس الذي يمثل بنظري الرجل المنفي بسبب وضعه العائلي. فكانت نظراتي تتبعه بعطف وحنان كلما مر أمام مقهى بن يمينة أو توقف في الشارع ليحادث أحد المارة، فهذا الرجل الأنيق المرفه ذو المنبت الصنهاجي كان يحسن معاملة الناس. وكثيراً ما يوقف أحد معارفه ليستطلعه أخبار قريب له مريض أو مسافر. لقد كانت لديه إنسانية الشيخ سليمان ونظرات الشيخ العربي القاسية. فكانت الأولى تحدُّ من تطرف الثانية في نفسه، وهكذا بات أقرب للنفوس وأبلغ فعالية من معاصريه التبسيين. لم أكن حتى ذلك الحين قد جالسته في حديث. وإذا عدت إلى أعماق نفسي ففي ذلك العصر كان في نظري لا يمثل الإصلاح، إنما يمثله الشيخ العقبي. ولم أعترف بخطئي حول هذه النقطة إلا بعد ربع قرن من الزمان. حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع. حينئذ تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة وفي تنشئة غير كافية في الروح الإسلامي. فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة، التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها. أما الخطأ في حكمي فمرده على ما أعتقد أثر البيئة التبسية في نفسي. فتبسة بسبب حياتها الخشنة منحتني نوعاً من التعالي على كل شكل من الحياة المرفهة. وكنت أعتقد أنني أكون أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وَسَط متحضر.

وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري بدوياً بينما يبدو الشيخ بن باديس بلدياً. وحين بدأت فيما بعد معركة (الإصلاح) وكنت أحد المشتركين فيها، بقيت أحمل في أعماقي شيئاً من التحفظ تجاه بن باديس وبعض الأسى لكون الشيخ العقبي لا يقود تلك الحركة ولا يرأس جمعية العلماء. وقد دارت مناقشات طويلة حول هذه النقطة بيني وبين صديقي (محمد بن سعيد) فيما بعد حينما التقيت به في باريس 1931. ولم أبدأ بالتعرف على خطئي هذا إلا عام 1939، وفي عام 1947 وصلت إلى الاعتراف الكامل بهذا الخطأ، وقد فهمت لماذا كان الشرع الإسلامي يفضل تقديم ابن المدينة ليؤم الصلاة على ابن القبيلة. وفي عام 1925 كانت أطلق شتائمي ضد جميع (البلديين) في العالم كلما حدث تأخر بسيط في صدور صحيفة (صدى الصحراء)، وكانت هذه الشتائم تصيب بالطبع الشيخ بن باديس. على كل فالحياة في قسنطينة منعتنا من أن نجمد على موضوع واحد. فإن كل يوم كان يحمل معه عنصراً جديداً يصرف تفكيرنا نحو اهتمامات أخرى أو قلق جديد. حتى الملاكمة التي جرت بين (دمبسي وكاربنتيه Dampsey - Carpentier) والتي كانت الأولى على ما أعتقد ولفتت أنظار العالم كله، قد شدت إليها أنظارنا في مقهى بن يمينة. وكانت عواطف المدرسيين متجهة منذ البدء نحو الأميركي (دمبسي)، وما كنت أعطي القضية أي اهتمام رياضي، ولكنها أثارت اهتهامي من الزاوية السياسية. فانهزام (كاربنتيه) يحمل شيئاً من تواضع المستعمِر. وكان هذا على ما أعتقد ما جعلني أتمنى انتصار خصمه عليه. وهناك حدثان آخران جاءا يزيدان أثرهما الخاص في الغليان الذي ساد

وسطنا. ففي يوم دخل علينا مقهى بن يمينة برفقة طالبين، شاب أخضر العينين رقيق المظهر أنيق الملبس، ينبئ عن عائلة فرنسية كريمة المحتد. وأعتقد أنه كان حاسر الرأس يرد إلى الوراء شعراً أشقر متموجاً ناعماً وجبهة عريضة لا تَغَضُّن فيها. لقد قدم إلينا محباً للإسلام غير جازم فيه إذ ما يزال يبحث عن حقيقته. لقد نسيت اسمه إنما هو من عائلة فرنسية بورجوازية في قسنطينة، فقد كان والده يتمتع بمركز ممتاز في عالم الأعمال. لقد سرد علينا قصته، كان رجل إدارة في إفريقيا الفرنسية الغربية، تزوج امرأة مسلمة من الزنوج خلال (المرحلة السوداء la croisière noir). ويمكن لنا أن نفهم ماذا تشكل مبادرة كهذه في أعين زملاء صديقنا ورؤسائه، فاعتزله قومه. ولم يجرؤ على أن يحمل معه إلى أهله زوجه الزنجية والطفل الذي أنجبه منها. لكنه حمل إليها موضوعاً مقلقاً أخطر. فالمرأة الزنجية وضعته دون أن تقصد على طريق دينها، لقد عاد إلى قسنطينة؛ وإذا لم يكن قد اعتنق الإسلام فإنه على الأقل قد ابتعد أكثر عن معتقدات عائلته. هذه القصة شدتني إلى هذا الرجل، لأن فكرة الأب (زويمر) لم تغادر بعد ذهني. فقد أثبتت عبث الجهود التي تهدف إلى تعرية إفريقيا من الإسلام. فهذه إفريقيا قد أدخلت في الإسلام أولئك الذين اقتحموا أرضها. لكن شيئاً من ذلك قرّبني من ذلك المؤمن الجديد حينما امتزج في وَسَطنا، لقد وجدت فيه حليفاً كان يؤيد طروحاتي العملية، في ذلك الوسط الذي كان يعتريه شيء من عدم الجدوى حيال النتائج التي يريدها، إذ لم يكن يحدد الأسباب التي تؤدي إليها. إنني أذكر مناقشة مع بعض الطلبة شارك فيها تلك الليلة.

كنا على رصيف (الشارع الوطني National)، وقد حاولت عبر صورة ما تحديد فكرة الفعالية التي تبدو لي حتى الآن تنقص العالم الإسلامي، وفي فورة من الحماسة قلت: ((إذا كنا في هذه اللحظة قررنا الصعود إلى القمر، فإن علينا فوراً أن نضع على هذا الحائط سلماً ونبدأ في التسلق)). وأيدني صديقي فوراً: ((نعم! هذا ما يجب أن يُعْمَل)). ربما أو على الأصح من المؤكد أنني لم أفهم كل ما تعنيه هذه الملاحظة في ذلك الوقت، لكنني اليوم أعرف أنها صدرت من رجل ذي حضارة. لم يبق هذا الرجل بيننا في قسنطينة إلا الوقت الكافي لتوضيح ما كان يعتمل في عميق نفسه ثم اعتنق الإسلام. ومنذ ذلك الوقت سيطرت عليه فكرة: كان يريد التوجه إلى الشرق. ولست أدري من رتّب له مقابلة مع الشيخ بن باديس كي يحمله توصية إلى الشيخ (رشيد رضا) في القاهرة. منذ ذلك التاريخ لم يترك هذا الصديق ما ينبئ عن وجوده على قيد الحياة. وأنا نفسي بعد ثلاثين عاماً لم أعثر له على أثر في القاهرة. هناك حدث آخر ترك بصماته في وسطنا خلال تلك الفترة، ليس في جانبه الأدبي والفكري بل لأنه حمل لبعض منا فرصة تبنّي موقف مقاومة. فذات يوم استضاف عمي إسماعيل مدير صحيفة (النجاح) (توفيق المدني) المُبْعَد من تونس. بعدما منع نشاط الحزب الدستوري ونفي رئيسه الشيخ (الثعالبي). كان أكثر أعوان هذا الأخير من أصل جزائري كـ (عبد الرحمن اليعلاوي) و (توفيق المدني). وهكذا اتجه الثعالبي نحو (عنّابة) حيث كانت طريقة (بن عليوة) مزدهرة فيها، فسلك الطريق وأضحى على ما أعتقد أحد شيوخها. أما توفيق المدني فقد توجه إلى الجزائر وتوقف في طريقه عند عمي إسماعيل، في قسنطينة حيث تعرفنا عليه.

من الطبيعي أن يكون التعرف على رجل منفي يعني التعرف على قصته، وعلى البوليس الذي كانت له أعين. لست أذكر قصته جيداً لكنني أذكر أنني وصديقي (شوات) واثنين من المدرسيين رافقناه إلى المحطة ليستقل القطار إلى الجزائر. على الرصيف كان الأمن، كما يقولون في ذلك الزمان، وقد راقبنا وسجل أسماء أولئك الذين جاؤوا لتوديع ذلك المنفي. في تلك الفترة كانت الأمور تجري بكل براءة، حتى البوليس كانت له براءته. وأحد رجال البوليس سأل عمي إسماعيل عن أسمائنا وسجلها في مفكرته أمام أبصارنا. أذكر أنني قفلت من المحطة بعد أن غادرت القطار فخوراً بما صنعت وحالماً بكتابي (الكتاب المنفي Le livre proscrit). لكن سائر الأحداث التي عشناها مع رفاقي في المدرسة، لم تكن قادرة على أن تحل مشكلتنا الرئيسية: ((ماذا نفعل بعد التخرج من المدرسة؟)). كل منا فكر في حل لهذه المشكلة المقلقة عدا (صالح حليمية) على ما أعتقد، فقد كانت لديه مناعة ضد ذلك الوسواس لما يشغله من أوجاع معدته وقامته القصيرة. فهذه سنتنا الدراسية إذن بدأت تتخذ منعطف الامتحانات المضجر، والقضية أضحت أكثر إلحاحاً بالنسبة لي، فقد واجهتها بحلول عديدة. فكرت بالهرب إلى (الريف) مع (شوات)، بل ما هو أسوأ أن أنسف مستودع البارود في قسنطينة دون أن أعلم من أين يمكن التسلل إليه.

ومع حليمية كنت أتهيأ لأعمل مساعد مترجم في تبسة، دون أن نأخذ باعتبارنا بأن طلبينا سوف يبطل أحدهما مفعول الآخر. ومع (قاواو) فكرنا بالسفر إلى فرنسا، بعد أن سبقنا إليها في السنة الماضية ثلاثة مدرسيين (شوات ترزي) و (ماريمش) و (أكتوف)، وقد نجحوا في المالتحاق بوظائف كتابية في مختلف المؤسسات التجارية في باريس. إنه ذلك العصر الذي كانت فيه الغانيات الباريسيات يرددن هذه الأغنية: ((باريس شقراء))، ((باريس ملكة الكون)). وينبغي القول إن كثيراً من الشبان الجزائريين كانوا يتنهدون خلف تلك الشقراء، التي كان القناص (باهي) وصديقه (صدوق شتوكا) يرويان عنها أشياء تبرم رأس الشاب التبسي. وأخيراً وبيني وبين نفسي كنت أتطلع إلى مشاريع أخرى، (تمبوكتو) أسرتني دائماً. آه حبذا أوستراليا، آه حبذا مزرعة غنم وبقر قرب (الخروب)، بل حتى مخزن في قرية (الشريعة) يصبح مع الزمن مخزناً كبيراً كمخزن عمي إسماعيل، يمكن لي أن أستخدم فيه (بيريلا) لأستمع إلى أقاصيصه. هذا الشريط مع فصوله كان يتردد في فكري في أيامي الأخيرة في المدرسة. ولكن سآخذ بالانتظار فإن المثل يقول: ((ما في يدنا أفضل مما نجري وراءه)) فقد نشرت صحيفة (الشؤون العامة لقسنطينة La Dépêché de Constantine) عرضاً لعمل صغير في نادي (ورقلة العسكري). فكرت بأن (ورقلة) هذه تقع على طريق تمبكتو، لذا قدمت طلبي مرفَقاً به الصور المطلوبة. الامتحان حلّ قبل أن يأتيني الجواب. وكان يجب أن أنجح فيه، بصورة أو بأخرى، لأن (دورنون Doumon) ليس لديه أية نية لإبقائي سنة إضافية. وحينما أعلنت النتائج استولى على نفسي حزن غامض. كنت دائماً

متناقضاً، وأستطيع منذ تلك الفترة أن أُعَرَّفَ بنفسي ثورياً من الوجهة السياسية محافظاً من الوجهة النفسية. وفي كل مرة كان الماضي ينتقم من الضربات التي أكيلها له. فثوري محافظ ذلك تعريف لا يعطي كل تفسير لذاتي فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك. فأنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ. ومرة في حزيران (يونيو) من عام 1940 وفي كهف لجأنا إليه في ( Dreux) حين دخل الجيش الألماني، تواريت حتى أخفي دموعي. لقد بكيت هزيمة الجيش الفرنسي. وفي ذلك اليوم رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم. في حزيران عام 1925. وحينما أعلن (دورنون Dournon) النتيجة لم أبكِ، إنما اقتحم نفسي حزن كبير وبقيت ساهماً على باب المدرسة أَصِيلَ ذلك اليوم. هذه المدرسة التي كنت أعدها سجناً نتعلم فيه تحرير واقعة زواج أو طلاق، كما يتعلم نزلاء السجون صنع الفراش، ها هي ذي تطلق سراحي. والآن، فإنني أشعر بأنها تركتني وأسلمتني إلى الشارع، إلى الحياة التي تضع أمامي علامات استفهام لا أجد لها الجواب. على مدخل المدرسة لم أجد في ذهني أي جواب على سؤال (ما العمل)؟ هناك فكرة خطرت لي ودخلت غرفتي لتنفيذها حيث لا يوجد أحد. فغرف المنامة أضحت فارغة حين ذهب الجميع بعد إعلان النتائج بين مبتهج بنجاحه، أو من يُسَرّي عن نفسه عناء الألم. ولقد أوحى إلي بفكرتي ذلك الحنين إلى الآفاق البعيدة. فقد كتبت لرجل

يدعى (بن خلاف) وكان أحد كبار تجار (جيجلي) ومستشاراً عاماً لهذه المدينة. ولأنه كان صديق الدكتور موسى ومن الأنصار العلنيين للأمير خالد فقد كان له في هذا الوقت هالة في أعين المدرسيين. ونشير هنا بان الإدارة الفرنسية في تلك الفترة قد وضعت حداً للجدل بإن خالد ومورينو، إذ عمدت إلى نفي الأول. وهذه النهاية تركت في بعض النفوس من أبناء جيلي ذكرى بعض الخيانات. وواحدة من هذه الخيانات على وجه الخصوص، بقيت في ذهني حتى الآن السمة التي وسمت هذه الطبقة من المثقفين الجزائريين الذين بدؤوا يسعون للحصول على مراكز إدارية، يشترون بالخيانة حظوة ومركزاً. ففي تلك الفترة قبل أيام من نفي الأمير خالد، نشر مورينو في جريدة (الجمهوري) رسالة تأييد وردت من باريس من طالب تبسّي في الحقوق. وبعد ثلاث أو أربع سنين فإن هذا السافل أصبح مديراً لمكتب نائب قسنطينة، حينما أصبح هذا الأخير مساعداً لأمين سر الدولة للشؤون الرياضية. في ذلك اليوم كانت حالتي هي الأمر المهم، وليس الأمير خالد الذي خانه مُدَّعٍ للثقافة، ولا الأمير عبد الكريم الذي باعته الطريقة المرابطية. كتبت إذن إلى (بن خلاف). وأعتقد أن المستشار العام (جيجلي) قد استلقى على قفاه حين قرأ رسالتي. لقد طلبت منه نوعاً من المشاركة في تأسيس شركة تجارية من نوع التوصية في مدينة (زندر Zinder) في السودان على ما أعتقد. كيف كان رأي التاجر المرموق في (جيجلي) في رسالتي؟ لعلي الآن أعرفه

على وجه التخمين. لقد كان الأمر كما لو أنني طلبت منه أن يرسل لي دراهمه لأؤسس محلاّ تجارياً على سطح القمر. إنني أفهم لماذا لم يرسل لي دراهمه. ولكنني اليوم أسأل نفسي لماذا لم يتسلح بشيء من الدعاية أو الحس الاجتماعي ليجيبني على رسالتي، على الرغم من الدهشة التي سببتها له أو بسبب تلك الدهشة. (بوكاميه) لم يعد لديه من الزبائن غير السكارى. مقهى بن يمينة أضحى فارغاً يتردد عليه زبائن الحي فقط، حتى (محمد طاهر السنوسي) لم يعد يأتي إليه لأنه لم يعد يجد فيه مستمعه المدرسي المألوف. (شوات) ذهب إلى المغرب، وبقيت أنا و (قاواو) وقد أمسكت به بوصفه آخر ما في الجعبة دون أن أصارحه بذلك مصارحة تامة. (الشاوش) تعجل خروجنا ليطلق لنسائه الحرية في داخل المدرسة. أما (دورنون) فقد كان يظهر العداوة لنا بشكل واضح. وحين مللت انتظار الجواب سواء على رسالتي إلى (ورقلة) أو إلى (جيجلي) عزمت على إقناع (قاواو) بمشروعي إلى فرنسا. كان هناك أمر أكيد هو أنني لا أريد العودة إلى تبسة بأي ثمن. ماذا أفعل بها؟ هكذا كنت أسأل نفسي لأقنعها. ولكن من أجل الذهاب إلى فرنسا، وإذا افترضنا أنه سمح لاثنين من أبناء المستعمرات بالنزول من الباخرة إلى البر الفرنسي، فإن الأمر يتطلب شيئاً من المال. ومنحتنا الأخيرة من المدرسة لا تكفي لهذه الرحلة. لقد قررنا أن نبيع أدوات النوم التي نمتلكها. وكسب منا (بوكاميه) فِراشَينا وغطاءينا الجميلين بسعر منخفض. كان ذلك بكل بساطة باباً قد انفتح أمامنا على العالم. ففي الجزائر كانت الأبواب موصدة.

كان تفكيرنا الأساسي أن نمر فقط بباريس لنذهب مباشرة لاكتشاف عالم آخر. كانت آفاق كل من الاكتشافات والمغامرات الباعثة على الحماسة ترتسم أمامنا. وقد عزمنا على أن نتدرب عصر يوم بأن نهبط إلى قعر وادي الرمل من جانبه الشديد الانحدار، أي جانب الطريق المنحوتة من الصخر تجاه طاحونة (كاوكي). والواقع أن ذلك كان مغامرة مهلكة حقاً أكثر مما كنا نظن، فالحجارة والحصى كانت تنزلق تحت أقدامنا وتزحلقنا وتهددنا بدفننا في ركامها المتهافت، الذي تثيره أقدامنا إثارة لا تحفُّظ فيها ولا حيطة. وأذكر أني كنت أرتجف كل الارتجاف حين بلوغنا قعر الوادي. ثم شرحت لصديقي من جانب آخر أنه ينبغي أن نعد أنفسنا لمقامنا في فرنسا، أياً كانت مدته، قبل أن نولي شطر المغامرة الكبرى. فعزمنا في النتيجة أن نذهب لنأكل وجباتنا الأخيرة لدى مطعم أكثر أناقة من (بوكاميه)، لنتعود على السكين والشوكة حتى لا نظهر بمظهر مضحك أمام الفرنسيات الجميلات. من ناحية الملبس فقد كنت مجهَّزاً تجهيراً كافياً، وكانت ملابس صديقي مجهَّزة نوعاً ما عدا غطاء الرأس. فقررنا ليلة رحيلنا أن نذهب ونشتري قبعتين من مخزن (المالطي الصغير Le Petit Maltais). وهكذا أصبحنا جاهزين للسفر. ... كنت في العشرين من عمري حين رأيت البحر لأول مرة، وقد تراءى لي ونحن نطل على (سكيكدة philippeville) ذلك الصباح. لقد عرفته من قبل عبر شاشة سينما قبل اختراع الفيلم الملون؛ لكنني الآن وأنا أراه أمامي على بعد في نهاية الشارع الذي دلفنا إليه في المدينة، يبدو لي أجمل بكثير مما تخيلته. لقد بدا

لي في أفقه البعيد حجراً أزرق مترامي الأبعاد، كأنما اقتطع منه الجوهريون الملايين من حجارة الفيروز الثمينة. لست أدري فلعل تأثري بذلك المنظر الأخاذ يعود إلى أنني كنت أراه للمرة الأولى، لكنها الطبيعة لم أرها في يوم من الأيام أجمل مما رأيت تلك اللحظة. عند ركوبنا البحر لم تكن ثمة صعوبات أمامنا في إدارة المرفأ أو في مكاتب الشركة البحرية (شركة عابرات الأطسي Compagnie Trans Atlantique)، مما يحدث في تلك الفترة. فقد كان الملاحون يدسون العمال الجزائريين في عنابر السفن هرباً من أعين المسؤولين بوصفهم بضاعة ممنوعة، بعد أن يتقاضوا منهم أجوراً باهظة، وكانت تتقطع أنفاس بعضهم فيموتون بالعشرات كما حدث في سفينة (سيدي فرج). هكذا أخيراً أصبحنا على ظهر السفينة، وحين رأيت القبطان (ليبين Lepine) يأمر برفع مراسيها زايلني حينئد شعور بالعالم كله ينفتح أمامي. وقفت بجانب حقائبي مستنداً إلى المتَّكَأ ( Bastaingage) أعبّ في صدري هواء البحر البارد المشبع باليود. فالصيف الجميل يسعف دريهماتنا القليلة في سفرنا هذا على ظهر السفينة. لم أكن أدري بعد في تلك اللحظة أن إرادة القدر ستخبئ لي الرحلات العديدة على ظهور السفن. ولم أكن بكل حال لأعتقد أنني مجرد عابر يعبر البحر إلى فرنسا، بل كان في نفسي شعور بأنها رحلة عظيمة كتلك التي قام بها كولومبس وهو يكتشف العالم الجديد. في اليوم الأول كنا نمخر عباب البحر، واليابسة أمام ناظرينا. فالسفينة يتجه خط سيرها بمحاذاة الشاطئ إلى (عنابة) لتحمل عدداً آخر من المسافرين،

لذا قضينا الليل في مدينة (القديس أوغسطنن) ولم تأخذ الباخرة طريقها شطر مرسيليا إلا ظهيرة اليوم التالي. وها هو ذا البحر الذي حمل على أمواجه الغزاة والمغامرين يحملنا أنا وصديقي (قاواو) مثقلين بما يعمر نفوسنا من آمال وأوهام وقلق. وكلما ابتعدت الشواطئ الجزائرية عن أعيننا فقدنا شيئاً من ذلك الاطمئنان وتلك الثقة. ولكن حماستنا للسفر ورغبتنا فيه كانت أقوى من تلك الطوارئ. كان كل شيء يثير فينا الانتباه، حتى تلك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالبحر أو بالسفينة. وأضحى البحارة بالنسبة لنا قاموساً نستفسر منهم عما يكون قد عصي علينا فهمه. فكلما صادفنا بحاراً بادرناه بأسئلتنا عن حالة الجو المتوقعة، وحتى عن حياته الخاصة على ظهر السفينة. وحين أخبرونا بأهوال العواصف التي قد تعترضنا عند خليج ليون، خُيِّل إلينا أننا سوف نلاقي هناك ما لاقاه البحارة البرتغاليون حينما داروا حول رأس الرجاء الصالح لأول مرة. وحينما أبلغونا أن سفينتنا ستصل جزر (الباليار) عند منتصف الليل، أخذنا نستعد سلفاً لذلك الحدث وكأنه امتياز مُنحته لا يحصل عليه إلا القلائل. كانت مخيلتنا المحدودة هذه التي تشبه مخيلة تلميذ هارب من مدرسته، تعطي المزيد من الأهمية لكل حدث جديد. لقد كنا في الواقع أولاداً صغاراً، وكلما أوغلت بنا المرحلة تناقص اطمئناننا إلى الأمور. كنا حين انطلقنا من الجزائر واثقين بأننا سنلاقي عملاً حال نزولنا مرسيليا، إلا أن هذا اليقين أخذ يتضاءل بين لفظتي (إذا - ولكن). تعرفنا على ظهر السفينة إلى يهودي من الجزائر كان هو أيضاً يقصد فرنسا بحثاً عن عمل. وكان يرافقه شاب أوربي ترك عمله في الحافلات الكهربائية واتجه نحو فرنسا ليبحث عن عمل هو الآخر. ويبدو أن الاثنين الأوربي واليهودي قد

تعافا على ظهر السفينة، ثم اتفقا على أن يذهبا سوية للعمل في مصانع (برلييه Berliet) بمدينة (ليون). ولم يبطئ بنا الأمر حتى انضممنا إليهما وشكلنا جماعة واحدة، سرعان ما تولى رئاستها الشاب اليهودي. فقد اتفقنا على أن نؤلف نوعاً من جمعية عمالية يضع كل واحد من أعضائها أجره الأسبوعي بيد اليهودي، ليتمكن هذا الأخير من تأسيس محل لبيع الفواكه في أحد أسواق (ليون). كنت أشعر أن لدي ثقة بخبرة هذا الرجل ونزاهته. غير أن ما كان يثير قلقي ألا أجد أنا و (قاواو) عملاً في ليون، فنخسر بذلك إمكانية الإسهام في (الشركة) ذات المسؤولية المحدودة، لكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في تلك الأحلام التي تصورناها في مدينة قسنطينة. نزولنا إلى مرسيليا استحوذ علينا فألهانا عن التفكير في مشاكلنا، وقد ذكرني قصر (إيف If) براوية (الكسندر دوماس Dumas) حين مررنا به. فعجائب شريط (الكونت دو مونت كريستو Conte de Monte Cristo) فعلت في صباي فعل السحر. هكذا أصبحنا أنا وقاواو أمام واقع مغامرتنا الآن. فقد فاجأنا ذلك المظهر البائس للجزائريين الذين كنا نصادفهم في الطريق. ولا أدري من الذي فسر لنا ذلك البؤس بأنه خاص بمرسيليا وحدها، فتكاثر المهاجرين الجزائريين فيها قد جعل أوضاعهم تسوء. وهكذا فحين طرحت علينا مسألة الاختيار بإن البقاء في مرسيليا- المدينة التي بناها اليونانيون من سكان إيونيا قبل آلاف السنين- وبين مرافقة زميلنا

اليهودي لم نتردد في قبول الحل الثاني، لكن نفقات السفر من مرسيليا إلى ليون لم تكن ضمن ترتيباتنا المالية، فبدت هذه مشكلة أمامنا لابد أن نحلها. ومن عادة اليهودي أن يعرف كل شيء. فهو خبير بمسالك الحياة البائسة حين يكون فقيراً وحين يكون من أصحاب الملايين مثل (ستافيسكي Stavesky)، يعرف تماماً كيف يلج أبواب القصور الكبيرة. لذا أخذنا هذا اليهودي إلى شارع يبيعون فيه الأشياء القديمة المستعملة، وهناك تخليت عن معطفي الجديد لقاء ثلث ثمنه وكان ذلك كافياً حتى نتابع سفرنا إلى ليون. كانت ساعات بعد الظهر كلها نقضيها في مرسيليا قبل أن نسافر، إلا أن القلق أخذ يسيطر علينا- أنا وصديقي- كلما تكشفت لنا حقيقة الفرص التي تمنحها المدينة (للجزائريين) القادمين إلى فرنسا. لم تكن بعد قد ابتكرت كلمة ( Monzami) للإشارة إليهم. إذ كان الناس لا يزالون يعيشون تحت تأثير اللياقات التي سادت زمن الحرب العالمية الأولى، حين كان الفرنسيون يطلقون لفظة (سيدي) على كل جزائري. لكنه مع نهاية الحرب أخذت هذه الكلمة تفقد معناها الأصلي، وغدت تعبيراً عن ازدراء السكان الفرنسيين للعمال الآتين من منطقة التل أو الهابطين من الهضاب المرتفعة. كان هؤلاء الجزائريون يفدون إلى فرنسا بصورة غير مشروعة بالمئات والآلاف، فيؤدي بهم ذلك إلى مزيد من البطالة. وهكذا يؤلفون الرصيد الاحتياطي لسوق العمل في الحاجات القذرة أو الموسمية. ذلك أن كبار المعمرين الأوربيين في الجزائر الذين كانوا يخططون للسياسة الفرنسية في هذا الحقل، قد أدركوا الخطر الذي يتهدد مصالحهم من جراء هجرة اليد العاملة الوطنية إلى فرنسا.

ثم هناك سببان نضيفهما يجعلان الحكومة الفرنسية تتشدد في مراقبتها لأبناء المستعمرات: أولهما حرب الريف وكانت لا تزال مستعرة، وقد بدأت تهز الرأي العام الفرنسي تحت تأثير المقالات التي كان ينشرها كل من (فايان كوتوريه وكاشان Vaillan couturier, Cachan) في صحافة حزبهما، أو الخطب التي يلقيانها في البرلمان الفرنسي. ثم إنه كاد في هذه السنة أن يدخل جزائري يدعى (عبد القادر) يقيم في ضواحي باريس البرلمان الفرنسي، ويكتسب بهذه الطريقة الحق في أن يشرع في (قصر بوربون) لأربعين مليونا من الفرنسيين. ومن ناحية أخرى فإن الأمير خالد لم يكن قد أخذ طريق دمشق كما فعل جده منذ مئة عام بعد أن نفي من الجزائر، وإنما توقف في باريس ليواصل جهوده المعادية للسياسة الفرنسية، بين السكان الجزائريين المقيمين حول باريس الذين كان عددهم كبيراً في ذلك الوقت. وقد تولى مع بعض الجزائريين من سكان ضواحي باريس الذين سيخونون ذكراه فيما بعد، تأسيس جمعية (نجم شمال إفريقيا) وإصدار صحيفة (الأمة) الناطقة باسمها. هكذا يتضح أن المعمرين قد كانت لديهم أسباب جوهرية تجعلهم يقلقون من تزايد هجرة الجزائريين لفرنسا، وهذه الأسباب تضاف إلى أسباب اقتصادية تعد بكل حال أساسية. وهنا يمكننا أن نفهم الأسباب التي جعلت الصناعيين والمتعهدين والتجار يتخذون موقفاً عدائياً موحداً من اليد العاملة الجزائرية، بل أكثر من هذا فإن مستشاراً بلدياً باريزياً عرفه كثير من أبناء جيلي قد اقترح إنشاء حزام وقائي

حول باريس، يحميها من غزو أبناء المستعمرات. وكانت الصحافة اليمينية تشن الحملات العنيفة ضد من أسمتهم (الغزاة الجدد). والإدارة التي لم يمض غير قليل على تدشينها جامع باريس قرب ساحة (مونج place Monge) ذلك الصيف، دشّنت على بضع خطوات الدائرة المختلطة الشهيرة ( Commune mixte) التي عرفت باسم الشارع الذي تقوم به شارع (لوكونت Rue le conte). وهكذا اجتازت فكرة (المستعمرين Indigenat) البحر المتوسط بسهولة أكثر مما اجتازه (أبناء المستعمرات indigené)، أولئك الذين أصبحوا تابعين منذ ذلك الوقت لتلك الإدارة المختلطة. من المؤكد أننا عند نزولنا في فرنسا كنا أنا وصديقي (قاواو) نجهل هذه الأمور، ولكنني الآن أعرف أن ذلك كله قد أثر فعلياً في مجرى مغامرة مدرسيين فارين من الجزائر. (كان ذلك قد كُتب علينا)، فحين وصولنا إلى ليون وجد رئيس فريقنا اليهودي منذ الغداة العمل لدى (برلييه Berliet)، ووجد رفيقه الأوربي العامل في الحافلات الكهربائية عملاً لدى (زنيث Zenith)، بينما بقينا كلانا في الشارع. كنا نتنادى فيما بيننا هو (أندريه André) وأنا (جول Jules)، وقد أوحى إلينا بذلك مستشارنا اليهودي. يضع كل منا على رأسه قبعة من النوع الجيد ونتحدث بفرنسية أصح بقليل من زميلينا الأوربي واليهودي، ولم يشفع ذلك بنا كله فبقينا في أكوام العاطلين عن العمل. نعم (إنه قد كُتب علينا) وبحروف بارزة على بطاقة هويتنا. وهكذا بعد أيام ثلاثة أو أربعة تبخرت مشاريعنا المتعلقة بشركة الفواكه

ذات المسؤولية المحدودة في ليون. وبتنا نأوي في المساء وقد أنهكنا التعب وأربكتنا الحيرة بعد يوم ممتلئ بالانتظار أمام مكاتب العمل. وفي اليوم الخامس أو السادس أصبحنا خالِيَيْ الوفاض. فما ادخرناه وما حصلنا عليه من ثمن معطفي الجديد الذي بعته في مرسيليا قد استنفدناه عن آخره. زميلنا اليهودي تكفل بنا، فكان يأخذنا إلى مطعم شعبي يتناول كل واحد منا نصيبه من الطعام من شباك، بعد أن يكون قد استحصل على بطاقة مقابل ثلاثة قروش أو أربعة. لقد بات وضعنا المادي والمعنوي لا يُحتمل. وفي أخلاط هذا المحيط الصغير لا تدري أهو محيط عمال أم عاطلين عن العمل، عرفنا أن مصنعاً اسمه مصنع (شنيدر) التابع لمجموعة مصانع ( Creusot) يحتاج إلى عمال، وهذا الصنع يقع في (نوتردام دولورت Notre dame de Lorette) على طريق مدينة (سانت ايتيين Saint Etiénne). كان علينا أن نتدبر عشرة فرنكات لنذهب نحن الاثنان إلى المصنع. ولم يكن قد بقي عندي ما أبيعه سوى شاشيتي البيضاء (الطربوش) وكانت جديدة من نوع فاخر، لكن من يشتريها في ليون؟ تعرفنا على شارع يكثر فيه السكان من (السيدي Sidi) الجزائريين حيث صادفنا اثنين أو ثلاثة منهم، كان أحدهم على ما يظهر يستعد للعودة. لم ندخل في مساومة حول الموضوع فقد تحدثت دون مواربة. إننا نحتاج تماماً إلى عشرة فرنكات. وهكذا وضع الشاب الجزائري شاشيتي على رأسه ووضعت عشرة فرنكاته في جيبي. تركت لزميلي اليهودي كتبي التي حملتها من قسنطينة كيما أطالعها في

مزرعتي المقبلة في السودان أو أوستراليا، واتجهنا مباشرة نحو المحطة لنأخذ قطار الساعة العاشرة مساء بينما كانت ساعتنا تكاد تشير إلى الرابعة. وإنه ليصعب تصور ساعات ست من الانتظار على مقعد محطة بعد سبعة أيام أو ثمانية من سوء التغذية والقلق، أمام مكاتب الاستخدام والانتقال على الأقدام من مكتب للعمل إلى آخر. لكنها كانت ساعات من الحرية المستعادة، فيها شيء من الطمائينة حيال وعد بأفق جديد. فالأمر لا يحتاج لغير القليل حتى ينتقل المرء معنوياً من السواد إلى البياض. كانت الشمس المرسلة بأشعتها على ساحة المحطة، قد عادت بناظري إلى ذلك اللون الذي كنت أحب اللعب فيه وأنا طفل في تِبِسَّة، إذا ما صُرفنا من مدرشة القرآن في تلك الأوقات، تبدو ذهبية اللون بعد ظهر كل أربعاء من الأسبوع وقبل صلاة العصر حين كنا نلعب وفي القلب كل وعد بكر في صبيحة الخميس. أظن أنه تبقى لنا خمسون سانتيماً من عشرة الفرنكات ثمن شاشيتي بعد أن دفعت قيمة تذكرتين في القطار. وكان ذلك يكفي لشراء قطعة من الخبز وأخرى من الجبنة لكل منا. وأزفت ساعة الانطلاق في النهاية فاتخذنا مقعدينا في قطار بطيء وفي غرفة سيئة الإضاءة كنا فيها وحدنا أنا و (قاواو). ربما قاومنا النعاس أول الأمر لربع ساعة، إلا أن تعب الأسبوع المنصرم وإرهاقه فضلاً عن المقاعد الفارغة، كل ذلك قد غلب علينا فاستسلمنا للرقاد بعد أن أوصى كل منا الآخر بقوله: ((توقظني في نوتردام دولورت - Notre Dame de Lorette))

استيقظنا في الفجر حين وقف القطار في (سانت ايتيين Saint Etiénne)، أراد كل منا أن بلقي اللوم على الآخر. ثم عزمنا على الخروج إلا أننا توقفنا عندما سد علينا الطريق العامل القائم على الدوار ( Tourniquet)، الذي لا يسمح بالمرور دفعة واحدة إلا لشخص واحد قائلاً: ((آه إني أعرفكم يا عصافيري، إنكم تسرقون الشركة وسوف أنادي الدرك)). بدا الهلع على وجه زميلي (قاواو)، ربما لأنه كان ابن أحد رجال الدرك، أما أنا فعلى العكس من ذلك وجدت فيه حلاً للمشكلة. بالطبع لم تخطر في ذهني في تلك اللحظة تمبوكتو أو أوستراليا أو شقراوات باريس، لقد اعتراني الملل. ولا ريب أن رجال الدرك قد كانوا الأقل سؤاً من ذلك الذي كنا فيه. لكن موظفاً آخر متأثراً بمشاعر العطف وربما بدافع الشفقة لما رآه على وجه (قاواو) قد بدد ذلك الأمل بقوله: ((دعهما يعودا إلى (لورت Lorette))). ثم أشار إلى قطار من عربة واحدة يهم بالتحرك كيما نلحق به، فاتخذنا مكاننا فيه ووصلنا في الثامنة من الصباح. كان الجو بارداً في تلك الصبيحة من شهر تموز (يوليو) يحيط به جو من الكآبة مشبع بالدخان. لم يكن وارداً في حسابنا تناولنا لفنجان من القهوة ندفئ به جوفنا، فجعبتنا فارغة من النقود. وهكذا توجهنا مباشرة إلى مصنع (شنيدر schneider) الذي قادنا إلى مكتب الاستخدام في ليون. وقفنا في الصف بين جمع من المرشحين الآخرين للعمل تحت رذاذ خفيف من المطر. كان في الصف فرنسيون وإسبانيون وإيطاليون ومثلنا من (السيدي Sidi).

مررنا أولاً أمام طبيب شاب ذي معطف أبيض وقد لفت نظره بشكل واضح ثوبي وصحتي. قال لي: ((إن قماشك من النوع الجيد)). بينما كان يتأمل ويجس طرفه بين إبهامه وسبابته. حقاً كنت قد خطته عند أفضل خياط في قسنطينة. في نهاية سلسلة من الإجراءات كانت النتيجة إيجابية بالنسبة لي وسلبية بالنسبة لـ (قاواو). نصف نتيجة أفضل من لا شيء على الإطلاق. سوف نأكل خبزنا سوية ولكن بانتظار ذلك فإن المعدة خاوية. ولأنه لا وسيلة لنا في ملئها فلتنم على الأقل. ولكن أين؟ فالسماء بدأت تتوهج بشمس تموز (يوليو) التي ارتفعت فوق رؤوسنا. لاحظنا عند أسفل المصنع ثمة حقلاً صغيراً يخترقه جدول ماء. أوينا إليه وفيما نحن نهم بالاستلقاء إذا بشاب أو بالأحرى ولد ينتصب فوق رأسنا. لم نكن نعرفه، إنما كان يبدو من مخايل وجهه أنه يعرفنا. خاطبنا بالعربية: - أنتما من قسنطينة؟. - وأنت من أين؟. - كنت أمسح الأحذية في ساحة (بريش la Brèche) في قسنطينة. ثم ركبت الباخرة من (سكيكدة philippeville) حتى وصلت إلى مرسيليا فبقيت فيها عدة أيام، ثم في ليون، ولما لم أجد عملاً أتيت إلى هذه البلدة، ولكنهم رفضوا إعطائي عملاً هنا لأنني ما أزال صغيراً. كان أمامنا بالفعل واحد من أبناء الشوارع الجزائرية مع ما في نظراته من عزم وصراحة يمتاز بها أولاد قسنطينة والجزائر.

ودون أن يتوقف عن الحديث بادرنا قائلاً: - بقيت معي سبعة فرنكات سأذهب لأشتري بها خبزاً وشوكولا. - لا .. لا .. احتفظ بفلوسك. لم يبتعد الولد عنا إلا ليعود بعد لحظات يحمل تحت إبطه قرصاً من الخبز. هناك أناس لا يؤمنون بحكمة الله، ولو لم أكن مؤمناً بها لآمنت بها ذلك اليوم، فالصبي قد حمل إلينا فوق خبزه وشوكولاه معلومات مفيدة. لقد أخبرنا أن ثمة مصنعاً للإسمنت فيه فرص للعمل، فقررنا أن نقف على أبوابه بعد الظهر. أنا و (قاواو) قُبلنا لنبدأ فعلياً العمل في اليوم التالي، أما الصغير فسوف يعيش معنا طالما لم يجد له عملاً ولكن أين نقضي الليل؟ تهنا في شوارع (لورت Lorette) فمررنا أمام مقهى جزائري لم نجرؤ بادئ الأمر على دخوله لأننا لا نملك نقوداً. ولكن كيف لا نجرؤ على الجلوس على أحد مقاعده على الأقل؟ هكذا دخلنا بالصيغة التي اعتادتها البلاد الإسلامية: ((السلام عليكم)). ردّ بعض الجالسين حول الطاولات من (السيدي Sidi) الذين كانوا يتحادثون أو يلعبون الدومينو: ((وعليكم السلام)). جلسنا في زاوية دون أن نطلب شيئاً. وبسرعة وضع أمامنا صبي المقهى (براداً) من الشاي وأقداحاً ثلاثة. على الرغم من كل ما أصاب المجتمع الإسلامي من انحطاط منذ أمد طويل، فالإسلام قد حفظ فيه الشعور الإنساني في مستوى لم يصل إليه العديد من البلاد (المتحضرة).

- من أين جاء الإخوان؟ قال ذلك صوت ربما كان هو الذي دفع عنا ثمن الشاي. هكذا بدأ الحديث يمتد من طاولة إلى أخرى في ذلك المقهى العربي الذي توزعت فيه دعامات مربعة من الخشب ربما دعمت سقف خان من قبل. جاء صاحب المقهى يجلس بيننا وقد اتكأ بمرفقيه على الطاولة ورأسه بين يديه. سألنا: ما هي أخبار الريف؟. كنت مهتماً بالموضوع ولذا فإن كل من في القاعة توقف عن اللعب وعن الكلام كيما يصغي إلي. وإنني أتساءل اليوم ما إذا كان الزعاء الجزائريون من أبناء جيلي وأولئك المثقفون الذين يدعون (المالتزام)، عرفوا حقاً الشعب الجزائري وأدركوا عواطفه وأفكاره في أحاديثه المختلفة حتى في دقائق صمته. إنهم بالتأكيد يعرفون كيف يستخدمونه وهم يستغلونه بكلمات وأقوال، كانت السلطة الفرنسية تعرف كيف تزيد من تأثيرها ومفعولها في الناس بأساليب شيطانية يدركها أولئك الزعماء أنفسهم. لكن قليلاً منهم من التزم خدمته وعاش مأساته، يأكل خبزه الأسود ويذوق لسعات القمل الذي يعشعش في أكواخه وبيوته المصنوعة من الصفيح. لقد كان أولئك الزعماء وأولئك (الملتزمون) يعيشون وَهْماً صيغ بكلمات ملفقة بمفردات أجنبية، بعضهم يقول إنه وارث (فولتير Voltaire) والآخر يقول إنه وارث (تروتسكي). هذا الوهم كان هو (الجزائر) وهو الشعب الجزائري في أذهانهم. أما الجزائر الحقيقية وشعبها فهما غريبان عنهما تماماً. لقد كانوا كالدودة الغريبة عن الثمرة لكنها تدخل إلى لبها لتتغذى منها.

في تلك الأمسية لم أفكر في ذلك كله. كان همي وأنا أتحدث عن حرب الريف أن أعلم أين أنام .. صاحب المقهى حل المشكلة والحمد لله، فقد دعانا ننام في مقهاه كيما نتابع الحديث بعد إقفال المقهى. في صبيحة اليوم التالي، كنا أنا وقاواو والولد في السابعة أمام باب مصنع الإسمنت. كان رئيس الورشة شهماً، في سيماه جمال العامل الفرنسي، فسرعان ما أقنعته بأن ولداً لا يستطيع العيش بغير عمل لا ينبغي أن نتركه بحجة أنه دون السن المطلوب، وهكذا أصبح لرفيقنا عمل مثلنا لكنه أقل وطأة. بيد أن رئيس الورشة قد وضعنا أنا وقاواو في مركز نغبط عليه نسبياً. كان عملنا يقضي بأن ننقل أكياس الترابة متسلقين سقالة إلى كوة تعلو أربعة أمتار أو خمسة، فكان عليّ أن أحفظ توازني وأنا أحمل على ظهري كيساً يزن خمسين كيلو غراماً. كنت أترك شيئاً من الترابة يدلف من الكيس على كلتا يدي من علٍ فأتذوق نعومة الإسمنت على جلدي، وهذا ما كان علي اجتنابه على وجه الدقة. فالإسمنت يفتك بالجلد كالأحماض كما تفسد نعومة الحياة الروح. في المساء لم أكن قادراً على الوقوف، فكان علي أن أغيّر عملي. في اليوم التالي كلفت بنقل قطع من القرميد تزيد الواحدة منها على خمسين كيلو غراماً، أضع أربعة منها في عربة صغيرة لأنقلها من مكان إلى آخر. كنت ناقلاً سيئاً على مثل هذا النوع من العربات، فالصينيون قد نسوا أن يضعوا لهذا النوع من العربات دولابين بدلاً من دولاب واحد، فعربتي ذات الدولاب الواحد كانت تميل مرة يميناً ومرة شمالاً. رئيس الورشة الحاذق حل هذه المشكلة بأن ربط

ذراعي العربة برسن كالذي يوضع للحيوانات صنع من قماش الأكياس، وهكذا أضحى توازن العربة لا يستقر على كلتا يدى بل على رقبتي. الآن وبعد أن قبضنا أجرنا، بدأنا نقف على أرض صلبة وبات علينا أن نفتش عن غرفة نسكنها، وجدنا واحدة بسريرين. أما الولد فقد حصل على مسكن له بفضل رئيس الورشة. بعد يوم من العمل المضني ارتمينا كقطعة من الرصاص على سريرنا. ومع ذلك فإنني أنا وقاواو استيقظنا عند منتصف الليل. لقد أكلتنا عقصات البق وبالطبع لم نكن قادرين على التخلص بسهولة من تلك الحشرات لوفرة عددها، فنام قاواو ما تبقى من الليل على طاولة صغيرة فيها افترشت أنا أرض الغرفة. لقد كان ذلك لا يطاق. سألت قاواو عند الصباح: ((هل تريد أن تذهب إلى باريس؟)). لم يكن لدينا المال لنسافر إلى باريس. وإلى أن ندخر من أجورنا ثمن تذكرة السفر فإن حشرات البق تكون قد صضت علينا وهضمتنا. ثمة تبسي سافر هو أيضاً لفتح العالم قبل عام من قيامنا بهذه المغامرة وكان مديناً لي بشيء من المال. تذكرت عنوانه وأبرقت إليه من أجل مبلغ يكفي لمقعدين إلى باريس. فأرسل ثمن تذكرة واحدة؛ فكتب علي أن أسافر وحدي تاركاً قاواو الذي كان عليه أن يلحق بي عندما يتجمع لديه المال للسفر أو عندما يمكنني أن أبعث إليه به، لأنني كنت ما أزال أومن بحسن طالعي. في باريس كأنما كل شيء قد أُعِدَّ من قبل، فصديقي التبسي الذي يعمل في مصانع (نيكولا Nicolas) للبيرة قدّمني فور وصولي إلى رئيس الورشة الذي أعطاني عملاً على الرصيف الفارغ ( Quai - vide)،

كان ثمة غموض في ذهني، إذ لم أكن أعرف ماذا يكون معمل البيرة. ففي مصنع الجعة يعد الرصيف الفارغ بمثابة جهنم، بينما تعد الأرصفة الممتلئة بمثابة المطهر. والعمال الجدد يوضعون عادة في جهنم ليكفروا عن خطاياهم قبل أن ينتقلوا إلى المطهر مثل زميلي التبسي. لقد كان العمل مضنياً بالفعل. فجميع الزجاجات التي تخرج ممتلئة من المصنع لتطفئ ظمأ سكان باريس في هذا الموسم كانت تعود فارغة في سيارات كبيرة من مختلف مناطق العاصمة. وهكذا تتجمع عشرات الآلاف من صناديق زجاجات الجعة الفارغة على الرصيف، حيث يتولى العمال ترتيبها في صفوف بسرعة تلائم سرعة الآلة التي تتولى نقلها إلى داخل المصنع. وفي ربع الساعة المخصصة للراحة وعندما يتوقف الرصيف اللفاف النقال والآلة التي كانت تقوم بوظيفة رئيس ورشة الرصيف، كنت أُلقي وأنا تحت سقيفة العنبر الشاسعة نظرة غبطةٍ إلى رصيف (الزجاجات المملوءة)، حيث كان العمل بطبيعته يتم بطيئاً حتى لا تتعرض البضاعة للكسر. ولكن متى أُقبَل في المطهر؟. كان صديقي التبسي يجيبني مداورة على سؤالي هذا كلما ألقيته عليه. وبانتظار ذلك كان كل عطش باريس في شهر آب (أغسطس) يمر من فوق ظهري فأحس بثقله الساحق. وفي فترات الراحة كان (نيكولا) يتلطف بإطفاء عطش آلاته البشرية بالبيرة الشقراء أو السمراء حسب الاختيار. لكن ثمة سؤال كان في ذهني يتجاوز شقراوات باريس: ((متى أُقبَل في المطهر؟)) ذلك هو السؤال الذي كنت أردده في فترة الراحة.

ربما عملت عند (نيكولا Nicolas) أسبوعاً واحداً. ثم لم أعد أستطيع صبراً فأرسلت بنداء الاستغاثة ( s.o.s): - أرسلوا دراهم للعودة. كانت هذه رسالتي الأولى مع أهلي منذ أن تركت قسنطينة. لم أعرف من باريس غير الأرصفة الفارغة والممتلئة من معمل (نيكولا Nicolas)، ومن بعيد كنت أرى برج (ايفل) وعليه اسم (سيتروين Citroên) بحروف مضيئة، حتى أني لم أزر جامع باريس الذي دُشِّن حديثاً، ولكي أستطيع أن أحدث أصدقائي في تبسة عن باريس فقد عزمت ليلة رحيلي عنها أن أذهب إلى ساحة (الأوبرا) بالمترو. عدت إلى الجزائر حاملاً معي السؤال: ما العمل؟. ذلك السؤال الذي دفعني إلى المغامرة البائسة التي عشتها مع (قاواو). كنت خائفاً من تلك العودة، إلا أن عائلتي باستقبالها لي استقبال (الولد المتفوق) قد بددت تلك المخاوف. واستقبلني رفاقي كأني بطل ملحمة إلا أنني لم أقص عليهم تفاصيلها حتى لا أثير اشمئزازهم. وباستعادتي لمألوف ما درجت عليه من التردد على مقهى (باهي) مع أصدقائي، فقد نسيت سريعاً مغامرتي التي تشبه ملحمة الأوديسة الشهيرة. كانت حرب (الريف) قد بلغت أوج احتدامها في الصحافة وفي النفوس. الإدارة كانت مستمرة في التجنيد. لقد حركت حتى منابر المساجد من أجل النداء للحرب ضد الثائرين. وكنا أنا ورفاقي نتابع هذه التطورات بمزيد من الاهتهام. ذات يوم وأعتقد أنه في نهاية شهر آب (أغسطس) من عام 1925 أطلق نداء للحرب من منبر تبسة.

لم نعد نملك أنفسنا، واجتمعنا أنا وصالح حواس وصانع الأحذية حما الصغير وإزميرلي محمود ومحمود الغلالي على جسر وادي الناقوس نبيّت أمر الرد على السلطة ونحن نتكئ على سوره في العتمة، ونقشر الفستق السوداني. وأعتقد أن واحداً منهم هو محمود الغلالي ما يزال على قيد الحياة. كلفني هؤلاء المتآمرون أن أكتب نداء نعلقه على باب الجامع ليلة الغد. اجتهدت في تجويد خطي وتقديم أفضل ما زودتني به عربيتي الضعيفة من تعابير، لذلك فقد قضيت سحابة نهار اليوم التالي في الكتابة والتجويد فيها. وهكذا كان الشكل والمحتوى مما أثلج صدر أصدقائي، حينما شرعنا في قراءة التبيان ونحن نقوم بنزهتنا المعتادة خارج المدينة. وليلة تعليقنا ذلك البيان لم نغير من عاداتنا المسائية. فبعد جولتنا المعتادة نحو الكنيسة ووادي الناقوس جذبتنا أقاصيص (باهي) وأسطواناته، واسترسلنا معها ذلك المساء فبقينا إلى موعد إغلاق المقهى. في تبسة لم تكن الرقابة الليلية في ذلك الزمن الذي انعدم فيه العمل السياسي مما يشغل بال الإدارة. فبعد إقفال المقاهي تبدو شوارع المدينة شبه خالية. ابن خالي (صالح حواس) هيأ هن مصنع التبغ الذي يملكه شقيقه علبة صمغ ووضعها قرب باب منزلهم فذهبنا لإحضارها. وفي الدقيقة الثلاثين بعد منتصف الليل اتجهنا نحو المسجد جميعاً وعلقنا النداء في مكان بارز من الباب الرئيسي للمسجد ثم تفرقنا كل في اتجاه. وفي اليوم التالي لم أخرج من المنزل كعادتي إلا في المساء. وحما الصغير وصالح حواس أبلغاني ما جرى في النهار. فقد كان دويّ الورقة في ضمير الإدارة الفرنسية أكثر مما كان في ضمير مواطنينا.

كان بوليس تبسة في نظر الإدارة غير كاف لكشف الفاعلين فاستدعي لواء (قلما). لم يكن من الممكن في ذلك الزمن أن تتجه الشكوك نحو ذلك الفريق الذي كنت الوحيد فيه أستطيع أن أكتب جملة بعربية ركيكة. وعلاوة على ذلك فمنذ بيع شاشيتي في ليون حتى هذا النهار لم ألبس شاشية، وكنت أسير عاري الرأس قبل أن يصبح هذا الأمر زياً شائعاً. ولعل هذا قد أبعد عنا جميعاً الشكوك التي اتجهت إلى زاوية أخرى، فسائر طلبة العلم والعلماء وأنصاف العلماء في المدينة استُجوِبوا. وكان الذي اتجهت نحوه أكثر الشكوك هو الذي كان أبرأ الناس من هذا الصنيع، وقد أضحى بعد حوالي عشرين عاماً إمام المدينة ومخبر البوليس، ولكنه في ذلك اليوم لم يكن بعد في عداد المتعاملين معه فأشبع منه ضرباً. انطوى الحادث دون ذيول. وقضينا ذلك المساء نلعب لعبة (الطاس تقول)، وهي لعبة تبسية كانت تثير حماستنا تلك الفترة، وكانت القاعدة فيها أن يعين اللاعب من بين أحد عشر كأساً الكأس التي تغطي قطعة من النقد. وبين الفريقين اللذين تباريا على حصيرة (حمام عباس) كان بعض اللاعبين من رجال البوليس، الذين شاركوا ذلك الصباح في جلد ذلك العالم خريج جامعة الزيتونة. تلك كانت أياماً جميلة على وجه العموم. لكن مشكلتي التي بقيت مأساوية مطروحة في ذهني: - ((ماذا أعمل؟)) كان عليّ أن أحُدَّ من مطامحي على الأقل من الوجهة (التكتيكية) كما يقال

اليوم. فقررت أن أقبل عن طيب خاطر وظيفة عدل في المحكمة الشرعية ريثما تتحقق (تجارتي الكبرى) في السودان أو (مزرعتي في أوستراليا)، لكن كان عليّ أن أسعى للحصول على هذه الوظيفة. والنائب العام الذي كانت تتبع له سائر المؤسسات القضائية الإسلامية قد حدّ من مطمحي في هذا الخصوص. لقد أُجِبْتُ بأن عدلاً في المحكمة لا يمكن أن يُعَيَّن قبل أن يبلغ الاثنين والعشرين عاماً. ومما زاد قيَّ الأسى أنني أُعفيت من الخدمة العسكرية بسحبي رقماً جيداً في تلك القرعة، التي كانت تجري بين المدعوين إلى الخدمة العسكرية من أبناء المستعمرات. إذ كان ترتيب متاع الجندي في الصباح، وعمل السخرة الصغير أو الكبير في المطابخ، أو حيث يفرغ جنود الرماة فضلات طعامهم، أفضل عندي من بقائي عالة على أهلي. وكان يبدو لي غريباً أن أبقى هكذا وأنا في سن العشرين. هكذا عادت مشاريعي نحو المغامرة تخامر ذهني. وكان سعاة البريد في تبسة يرونني يومياً أنسخ عناوين من الدليل التجاري. ومع ابن خالي (صالح حواس) الذي أطلعته على همومي أغرقت شمالي فرنسا وجنوبيها بطلبات الاستخدام. أكثر العناوين التجارية التي كانت لها أعمال في إفريقيا إذا لم نقل سائرها، تلقت هذه الطلبات، لكنها لم تجب عليها. وفي هذه الآونة تلقيت جواباً سلبياً من (ورقلة) حيث أُعيدت صورتي الفوتوكرافية. كنت إذن محكوماً بأن أبقى على مائدة العائلة وتحت سقفها وفي خارج المنزل رهن أسطوانات وقصص (باهي). أما قضية الريف فبدأت تعود القهقرى مبددة آخر أوهامنا.

كان اليهود يبسطون نجاحهم في تِبِسَّة. فوكالة سيارات (سيتروين Citroên)، والشركات التجارية الكبرى لتصدير الحبوب والصوف وكذلك البنوك هذه كلها قد أضحت بين أيديهم. ومقاهي المدينة الكبرى التي كان يديرها فرنسيون حتى تلك اللحظة غدت تحت رقابتهم. هذا النجاح قد غضّ من بهاء (كانبون Canbon) الذي كان في تبسة (قارون) الفرنسي في أعين المسلمين. وقد وضع هذا النجاح في ذهني في تلك الفترة أول مشكلة سياسية ذات أبعاد عالمية. وأصبحت أعبر عن هذا الانطباع أمام أصدقائي قائلاً لهم: ((إنه عصر المرأة واليهود والدولار)). ربما لم يكن في ذلك الوقت غير انطباع. لكنني أعلم اليوم أنه كان عنصراً أساسياً في توجيه فكري الذي أمسك وربما بصورة غامضة بمشكلة حضارة تندرج تحتها سائر هذه الظواهر. وأنا اليوم أرى المرأة واليهود والدولار يشكلون الأقانيم الثلاثة للقرن العشرين. لم تكن المشكلة تطرق ذهني في ذلك الوقت من زاويتها العالمية، ولكنها انطلقت من وضع شخصي معين. كنت عاطلاً عن العمل بداعي صغر سني. أما يهود تبِسَّة فكان لكل منهم مكان في السوق حتى أولئك الذين هم أصغر مني سناً. وفيما كنت أوالي إرسال طلباتي إلى الشركات الفرنسية في إفريقيا، كنت ألح من حين لآخر على النائب العام لعَلَّ الأسابيع أو الأشهر الماضية قد جعلتني كفئاً لوظيفة (العدل). لكن النائب العام ظل متمسكاً بالطبع بموقفه الواضح الصريح. فالجزائري لا يحق له قبل الثانية والعشرين أن يدخل الإدارة.

وفيما كنت أهيئ نفسي للوقت الذي أستطيع الحصول فيه على حق التوظف، كان يزعجني أن أقضي أيامي في البيت وفي المساء عند (باهي) أستمع إلى أقاصيصه وأسطواناته، وفي (حمام عباس) حيث نلعب لعبة (الطاس تقول). كان لي صديق في محكمة تبسة يشغل هو الآخر وظيفة (عدل)، وبما أنني لم أجد عملاً أتقاضى عليه أجراً فقد اتفقت مع صديقي العدل على أن أقوم بمساعدته بدون أجر، ففي هذا ما يشغل بعض وقتي أو على الأدق ينتشلني من العدم الذي كنت أشعر معه بأني غارق فيه منذ عودتي من فرفسا. اعتمدتني المحكمة في نهاية الأمر معاوناً متطوعاً، فهم قد وجدوا في ذلك فائدة. وبالنسبة لي فقد كانت الفائدة مؤكدة؛ فبالإضافة إلى الخبرة المهنية فقد كنت أرافق أعضاء المحكمة لتنفيذ الأحكام. والخروج مع أعضاء المحكمة إلى الريف التبسي خصوصاً في الفصل الجميل يستحق أكثر من التطوع، فلو كنت أستطيع أن أدفع عليه مالاً لفعلت. كانت الصلاحية القضائية لمحكمة تبسة كما يقال تمتد خصوصاً إلى (دواوير) أولاد سيدي (يحيى)، ثم لتجمعات المناجم في (الكويف والونزة). وكانت تجولاتي في تلك (الدواوير) تجعلني على اتصال بالطبيعة والرجل البسيط الذي انصقل عبر القرون. فإذا ما كانت الجولة في دائرة صغيرة حول تبسة فذلك أمر لا يثير الاهتمام، لأننا سرعان ما نعود في المساء إلى تبسة. لكن حينما تمتد جولتنا إلى دائرة أكثر اتساعاً فذلك ما يحتم علينا قضاء الليل خارجاً. وكان في هذا ما يسحرني على الرغم من أن السي (الجودي) باش عدل المحكمة كان يدبر أمر مبيته تحت سقف منزل وكنت أوثر الخيمة.

كان السفر على الرغم من ذلك يحتفظ بمتعته في سائر الوجوه. وأظن أن البلاد الإسلامية وخصوصاً الجزائر هي من دون البلاد الأخرى، قد بقيت فيها حياة الفلاح التي اكتسبت نمطها عبر القرون سالمة من الاضطراب، لم تفقد قيمتها في أي ظرف من الظروف. فالرجل الذي نأتي لننفذ فيه حكماً يلمح قدومنا من بعيد. وهو يعلم لأي سبب أتينا إليه، لكنه سرعان ما يطلب إلى زوجه أن تعد القهوة (للضياف). فنحن ضيوفه ونزلاؤه، وحينما نصل يكون ضباب الصباح قد انقشع في الفصل الغائم، أو تكون الشمس ما تزال باردة إذا كان الجو صيفياً، فكنا نفضل البقاء خارجاً في كلا الحالين. لكن الرجل يلحق بنا ويصر أولاً على تشريفه في خيمته أو كوخه. وإذ كان السي (الجودي) يعلم أن الزوج الفلاحة تروح وتجيء في أشغالها، فقد كان يشرح لزوجها أنه يفضل التنفس في الهواء الطلق رغبة منه في عدم إزعاجها. وكنت أنا نفسي قد حفظت بتأثير ساعات الرياضة التي أكرهني عليها (دورنون) بعض حركات الشهيق والزفير. تنشقت ملء رئتي الأوكسيجين، وشهيقي وزفيري أضحكا السي (الجودي)، كما ضحكت جدتي زليخة حينما رأتني أعقد ربطة العنق أو أشد حزام وسطي وهي تقول: ((إنك تحزم نفسك كالبغل)). فهذا الجيل القديم الذي لبس الثياب الواسعة يتنشق ويأكل ببساطة ولا يحب التصنع. حمل الرجل القهوة وشرعنا نتحدث بهدوء حول أسعار الغنم والمواسم المقبلة. وبعد احتساء القهوة بدأنا الحديث عن مهمتنا في تنفيذ الحكم. الرجل لم يغير لهجته ولا تعامله معنا. وإنني الآن أعلم أن المسلم قد احتفظ

بقيمه في سائر محن الحياة. وأعلم أنه حتى في ظروف حياة الفلاح الخشنة سواء كان (يحياوياً أو ليموشياً) من نواحي تبسة، فالإسلام قد صقل الإنسان في شروط أقرب ما تكون إلى أخلاق حضارة. وحينما تكون هناك حقيبة جلدية تحفظ مستندات المحكمة يخرج منها سي (الجودي) الحكم، فالرجل بوجه عام يحمل إلينا في هذه اللحظة شيئاً من الحليب الطازج يفوح منه عطر (العبيتران) الذي يميزه عن ذلك الحليب الذي نشربه في المدن. وحينما تنتهي الإجراءات القضائية فمن النادر أن يتركنا الرجل نذهب فهو ينسحب قليلاً. وحين نُهمُّ بالرحيل يقول: ((لا والله! لن تذهبوا قبل الغداء)). فتنفيذ الحكم لم يكن غير حادث عابر ثم يستأنف الحديث شجونه دون إشارة إلى الإجراءات القضائية. وإن هذا هو الذي حدا ببعض المراقبين السطحيين من الغربيين وبعض تلاميذهم في بلادنا أن يقولوا: ((إن ابن المستعمرات ( indigène) - وهم يقصدون بصورة خاصة الفلاح الجزائري- هو جامد أوسلبي تجاه ما يصيبه)) وفق التعبير الأدبي الذي يستعمله كل منهم. والعلماء والمطّلعون والمدّعون (صدفة كل شيء) في مادة السياسة الاستعمارية يفسرون ذلك كله بكلمة واحدة (مكتوب)، أي: كتب علينا بقدر الله، والمستعمر الجزائري بالنسبة إليهم فقير أمي في شروط بائسة لأنه (قدري) و (يؤمن بالمكتوب) كما يقولون. الحديث إذن مع مضيفنا استأنف طريقه حول الشؤون العادية للحياة واهتمامات الريف. ولأنه منغمس في تلك الاهتمامات فإنه لم يكوّن فكرة عن ذلك الذي بدأ يثير الرأي العام في المدن في ذلك الزمن. فالموجة الإصلاحية والسياسية التي بدأت تحرك تِبِسَّة لم تقتحم بعد حدوده.

في الدواوير المحيطة لم تزل التقاليد القديمة بعد حية. فالناس في (الدواوير) يدفعون فوق ضرائبهم الزمنية لسيدي الحاكم الحصة السنوية للشيخ، فكانت الزوايا تستلم زكاة المنطقة بأسرها. تمادى بنا الحديث إذن في هذا الإطار التقليدي الذي تجري في داخله حياة الفلاح النشيطة، ويميزها من وقت لآخر حدث بارز يصبح تاريخاً في ذاكرته. فالفلاح يؤرخ لأحداثه في دويرته أو في قبيلته بهذه الطريقة: إنه يقول مثلاً: ((عام الرز- سنة الجليد- سنة الجراد- عام وفاة أو زواج فلان أو زيارة الشيخ فلان)). أما المعمرون منهم فيقولون (عام المحلة)؛ ذلك الجيش المستعمر الذي أُرسل عام 1881 ضد باي تونس، وعام (الماشينة)؛ حينما وفد أول قطار إلى تبسة. هكذا يصبح تنفيذ الحكم نفسه حدثاً ثقافياً في هذا الإطار. والحديث يستأنف مجراه حول الذكريات والنوادر والملح والأسئلة، في الهواء الطلق ورائحة الفطر تنفتح لها شهيتنا حين تدير زوج مضيفنا في (طاجنها) ذلك النوع من طبق الفخار ينضج عليه الخبز. سي (الجودي) كان يحمل معه فوق الحكم الذي ينفذه، علم الفقه المتعلق بشروط الزواج والطلاق والزكاة والحج، وشيئاً من السنن المؤكدة لأفعال الرسول. فالفلاحون يحبون أن يصححوا مواقفهم أمام ضميرهم وأمام الآخرين، بالرجوع إلى أقوال النبي التي نقلت إليهم بقليل أو كثير من الأمانة عبر المشايخ الذين يزورونهم، وقد حفظها الناس حفظاً يتفاوت في أمانته أيضاً. فحينما يجد هؤلاء الناس فرصة الاغتراف من علم أوثق، فإنهم لا يترددون في الاستفادة منها. وهكذا يطرحون الأسئلة، وسي الجودي كان ضليعاً في هذه المواضيع.

وفي كثير من الأحيان كان عملنا يضطرنا لقضاء الليل خارجاً. وإذن فذلك هو العيد عندي على الرغم من بعض المزعجات العابرة. والمزعجات هذه تأتي من أني لم أكن يوماً فارساً. وإذا ما شاء فريقنا المؤلف مني ومن باش عدل سي (الجودي) وصديقي العدل ومعاون المحكمة، أن يحثوا سير الدواب لنبلغ مضرب الخيام قبل مغيب الشمس فقد كنت أجد نفسي في مأزق. فركوب الدابة يتطلب شيئاً من التعلم حتى في سيرها العادي. وكنت في هذا المضمار بالغ السوء. ومرة بينما كنت أحاول أن أسير بحذاء رفيقي الذي كان يسير الهوينى على دابته، ضربت بركابي جنبي الحصان- وكان في غالب الظن أصيلاً- فظن أني أستحثه للعدو. وحينما عدا بي ضربت جنبيه بركابي بقوة أكبر فأضحى مجنوناً واقترب بي بعدوه من القبر. وحينما توقف- بمعجزة- على حافة واد، بتنا والحصان نرتجف كورقة في مهب الريح. وقبل مغيب الشمس كانت التقاليد تقضي بأن نخطر مضيفنا بقدومنا إليه للمبيت ليلاً. ومغ أجل ذلك كان سي (الجودي) يكلف واحداً منا ليسرع الخطا ويقوم بهذه المهمة، وذلك أمر مزعج حقاً. ولكن كم هو ساحر قدومنا إلى مضرب الخيام ساعة تتوافد قطعان المواشي إلى حظائرها. مضيفنا الذي أُخطِر بقدومنا يبادر بصفة عامة ليرتب أمر طعامنا، ثم يخف لملاقاتنا في ظاهر الدوار وقد فرش أجمل بساط لديه أمام منزله أو أمام كوخه. وكنا نترك الجلوس عليه عادة ليجلس سي الجودي، أما كل واحد منا فكان يتمدد حيث يحلو له المكان. وإذا ما كان الربيع فإن الطبيعة تقدم بساطها الذي ينشر عطره الجميل في الفضاء، فيختلط برائحة خشب الصنوبر الذي يتقد تحت قدور طعامنا. الكلاب تستقبلنا بنباح يهدئ أصحابها منه. إنه نباح يسهم بصورة كاملة في

عادات وتقاليد ريفنا. فالكلاب بلا شك حراس أمن الدوار. لكنها بنباحها تهدي المسافر الذي أدركه الليل يبحث عن مكان يأوي إليه في ليالي الشتاء الباردة. إنها إذن نداء كرم الفلاح الجزائري. القوم في الدوار قد خفوا لاستقبالنا أيضاً، فذلك من أدب التقاليد. وشيخ القوم الذي استضافنا للمبيت عنده يدعو على شرفنا سائر أهل الدوار. الحلقة الكبيرة تلتف حول سي الجودي، وبعد العشاء على ضوء النجوم ينعقد المجلس، كلٌّ يطرح سؤالاً أو يروي قصته. وعندما كانت أعود من تلك الرحلات كانت والدتي تجدني ناضر الوجه. وكان ذلك يمنح صحتي ظماناً، إنما ليس ذلك الضمان الذي كنت أنشده لوضعي القلق، الذي يطرح أمامي ذلك السؤال الرهيب: ما العمل؟ تمبوكتو، أوستراليا عادتا تراودان مخيلتي. واستحوذت الصحراء على نفسي بما لا أستطيع دفعه. وكان ذلك حينما أعلنت بعثة علمية من جامعة الجزائر عن رحلة إلى (الحجارة (¬1)). لم يكن لدي أي تخصص بعلم ما قبل التاريخ الصحراوي، لكنني تعلقت بأمل غامض وتمنيت لو قبلت في البعثة على الأقل بصفة مترجم للغة العربية. في ذلك العصر كان وصول ( indigène) من الجزائريين الأصليين إلى بعثة علمية يعني الوصول إلى السماء. لابد من سلم كي أرقى إلى تلك الغاية وأي سلم؟ فكرت في (دورنون Dournon) وأرسلت إليه على الأثر رسالة أعرض عليه فيها خدماتي المجانية. وعلى الرغم مما تركت لديه من أثر فقد اتخذ الخطوة الأولى، ¬

_ (¬1) الحجارة: مقاطعة جبلية في جنوبي الجزائر يسكنها الطوارق.

لكن الجواب كان سلبياً. فالبعثة استكملت حاجاتها جميعاً سوى سائقين. وهكذا فاتني القطار رغم أنفي. وكان من حسن الطالع أن فورة في الأفكار بدأت تسود تِبِسَّة. ففي ذلك الزمن أنشئ كما أعتقد أول نادٍ في تبسة، وكان ذلك بمبادرة صديقي العدل في المحكمة. وقد اتخذ له مكاناً في قسم من مقهى فرنسي يقع في ساحة القصبة وهو المقهى نفسه الذي يشغله بكامل مساحته. ولقد أنشئ هذا النادي حين اقتضت حاجة ذلك الفريق من العلماء الذي بدأ يتحلق حول الشيخ (العربي التبسي) إلى مكان، يترددون إليه ولا تتعرض هيبتهم للقيل والقال، وما كان مقهى (باهي) يمنح علماءنا ضمانة كافية في هذا السبيل. ويمكن أن نلاحظ منذ تلك الفترة أن عِلْمَنا لم يعد يذهب من تلقاء نفسه ليحمل أنواره حيث ينتشر الجهل. بل كان على الجهل أن يسعى إلى العلم ليغترف منه. وفكرة صديقي عدل المحكمة بإنشاء النادي قد حققت بالتالي تسوية بين جهلنا وعلم العلماء. أما أنا فقد كنت في تلك الفترة آنيّ المقاصد. فقد سررت لأن النادي قد شغل مكاناً خُصِّص من قبل لإله الخمر (باخوس Bacchus). ثم إن هذا النادي بصفته قائماً في ساحة القصبة، التي كانت المجال الخاص بالأوربي، أتاح للجزائري (ابن البلد Indigène) أن يثبت للأوربي أنه يستطيع أن ينشئ لنفسه مكاناً مخصصاً لاجتماعاته، وهذا ما منحني شيئاً من الاعتزاز. لم أكن أعرف ماذا كان موقف الإدارة المحلية، ولكني أعترف أنه لم يكن هذا الأمر ليشغلني، إذ لم تكن أفكاري قد بلغت هذا الحد من الإدراك، وما عرفته فحسب هو أن مدام (دوننسان Denoncin) انتقدت الأمر في جمع من أصدقائها يتحلقون في مخزنها بعد ظهر كل يوم. كان ثمة إحساس غامض استولى على شبان تبسة، إنه الانعتاق من وطأة

التصنيف الاستعماري لسكان البلاد الأصليين، ( Désindigénisation). فثمة تطورات جديرة بالملاحظة تؤرخ لهذا التحول. فقد بدأت حلقات الرقص تشهد فراغاً من حولها، وكانت من قبل تستقطب في العادة الجزائريين ( Indigène) يتزاحمون بالمناكب حول الحلبة التي في داخلها، يرقص كل زوج من الأوربيين والأوربيات. لقد أعطى عملنا ثماره. وأعتقد أن مدام (دوننسان Denoncin) نفسها رأته بأم عينها. إذ حين تقام حلبة الرقص في ساحة (كارنو) لا يرى حول الراقصين غير بعض الأطفال يدفعهم الفضول، وكنا نفرقهم بالتي هي أحسن. وهناك تحول آخر ليس بأقل بروزاً، تم إحرازه على صعيد محاربة الخمر. وكانت الخطة بسيطة فمنذ أن علقنا نداءنا لتأييد الأمير عبد الكريم وشعب الريف، أمكن استخدام باب المسجد لمثل هذه الأهداف. وفي صبيحة العيد الصغير مثلاً قبل طلوع الشمس تعلق قائمة بأولئك المفطرين في رمضان الذين شربوا الخمر، وقد كان ذلك حلاً جذرياً. ولم تعد مدام (دوننسان Denoncin) ترى المشهد التبسي اليومي حين يقتاد العريف (أنطونيني) صاحبه السكران (بنيني) إلى الحبس؛ وحتى (بنيني) نفسه أقلع عن شرب الخمر لفترة من الزمن على الأقل. لقد بدأت الروح الاجتماعية تتجلى في تبسة. وها هو ذا المجتمع الجزائري الجديد قد ولد. فالمجتمع ليس كلمة تقال بل هو حقيقة ذات خصائص محددة، بها يكون المجتمع أو لا يكون. وأدعياء الثقافة الذين أطلقهم الاستعمار في السوق الجزائرية والذين احتكروا بفضله وسائل التعبير قد شوّهوا الأفكار الأكثر بداهة وبساطة. فمع هؤلاء انتقلت البلاد خلال ثلاثين عاماً من الزوايا التي وضعت تحت قيادة (المقدم) والقبيلة الخاضعة لسلطة سيدي الحاكم عبر (القائد)، إلى جمهور

من الناخبين لا اتجاه لهم ولا لون يقودهم الزعيم، وإلى (عمال منظمين) كما يقولون عن أنفسهم؛ أي مجموعة يستغلها حفنة من اللصوص، وإلى جمعية طلاب يوحي إليهم ممثلوهم كيما يهرعوا زرافات إلى محاضرة ما ويقاطعوا أخرى وفق الحسابات الدقيقة لسفارة أجنبية. وهكذا فإذا ما تأملنا جيداً في الأمر، نجد أن الخصائص التي تميز مجتمعاً ما إنما تكمن في شعوره الجماعي وذاتية قراراته. وهاتان الخاصتان كانتا أوضح في الجزائر مما هي عليه اليوم. ففي تبسة منذ عام 1925 بدأت الروح الجماعية في البروز في وقائع محددة. فإنشاء النادي كان أكثر تعبيراً في هذا الإطار من عشرة انتخابات يزورها الحاكم أو الزعيم. لم يبق النادي طويلاً في مكانه الذي أنشئ فيه، فالناس قد قرروا تهيئة مقر جديد له وتأسيسه وفرشه لإعطائه استقلاله وطابعه الخاص. وهاهم أولاء السكان منذ ذلك التاريخ يشرعون ببناء مسجد غير خاضع لرقابة الإدارة. وكانت هذه بالضبط خصائص ولادة المجتمع، وليست الكلمات التي أريد صبها في ضمير الشعب، كيما تعميه وتحرفه عن طريق النهضة الحقيقية. ففي تلك الفترة لم تنشغل تبسة بأمور الزعماء وانتخاباتهم، بل بأمور الشعب وتوجيهه نحو بناء المجتمع الجزائري. فالشعب كان يعمل بنفسه على تأسيس نواديه وبناء المساجد والمدارس. صديقي عدل المحكمة كان المحرك لكل مبادرة ذات طابع اجتماعي رأت النور في تبسة. فعيد المولد الذي تلا عودتي من فرنسا، كان هو نفسه مناسبة لإبراز أهميته ومغزاه الجماهيري.

ولما كانت الكهرباء وصلت المدينة فقد عزمنا على جمع تبرعات لإضاءة مئذنة المسجد، وأعطى الشيخ (الصدوق بن خليل) كل ما عنده من فن وبراعة لكتابة أربع لوحات خاصة لهذه المناسبة، علقت كل واحدة منها على جهة من جهات المئذنة. وفي ذلك المساء اعتقدت مدام (دوننسان Denoncin) أن شيئاً ما يتحول بالفعل عند هؤلاء الجزائريين المتخلفين ( Indigène). في النادي اتخذت سائر هذه القرارات، فالأمور يأخذ بعضها برقاب بعض، والعمل يجر آخر سواه، وهكذا أضحى النادي الينبوع الذي تستمد منه الحياة الاجتماعية في المدينة قوتها. ففيه ولدت فكرة المدرسة وفكرة المسجد الجديد. كانت الشهور تمضي ومشكلتي ما تزال تطرح السؤال: ما العمل؟ كتبت رسائل أكثر إلحاحاً إلى النيابة العامة. وكان لإلحاحي أن يحل مشكلتي على المدى الطويل، وهكذا جاءني الجواب أخيراً يعرض علي اختياراً بين ثلاث محاكم بوصفي عدلاً فيها. لم أعد أذكر غير محكمة (أفلو) التي اخترتها. بدا لي مرتب العدل في المحكمتين الأخريين كافياً ليجلب الكثيرين من المزاحمين الجزائريين من السكان الأصليين أمثالي، على الرغم من أنه متواضع في الحقيقة تافه بالنسبة لمرتب أوربي. لقد رغبت أن أصبح عدلاً على الفور. و (أفلو) بدت لي قادرة على أن تقدم هذه الإمكانية بفضل الراتب فيها وهو لا يتجاوز الستين فرنكاً في الشهر. كنت متأكداً بأن وظيفة خالية كهذه لا تثير مزاحمة كبيرة وما تبقى فسوف يُرى. (بوكاميه) عوّدني على نظام للطعام يسمح لي بمواجهة ما يتصور من شظف العيش. ومن ناحية أخرى فقد قيل لي إن (أفلو) في الجنوب الوهراني

غير بعيدة عن (الأغواط). وحينما كنت أقضي أوقات فراغي في السنة الثانية من المدرسة في رسم مسالكي عبر الصحراء كان بعضها يمر بالأغواط. (أفلو) كانت بالنسبة لي مرحلة نحو (تمبوكتو). هذه كانت على وجه التقريب الأسباب التي دفعتني لاختيار هذه الوظيفة المتواضعة، لكن الإدارة من ناحية أخرى لم تكن على عجل من إلحاقي بالعمل، وقد تركتني في رهق الانتظار أشهراً قبل أن تلحقني بهذه الوظيفة الشاغرة. وأخيراً، وذات يوم استدعاني قاضي تِبِسّة ليبلغني تعييني. كدت أطير من الفرح. كان ذلك في شهر آذار (مارس) من عام 1937 حين وصلت إلى (أفلو). لم يسبق لي أن زرت منطقة وهران من قبل. وحين فصل بنا المسير إلى (إغيل إيزان) لنبدل القطار إلى (تيارت)، زايلني شعور بالاغتراب إذ بدأت لهجة الناس تتغير. فالناس الذين استقلوا معي مركبة الدرجة الثالثة المتقشفة يقولون (واه) إذا أرادوا أن يقولوا (نعم)، وفي قسنطينة نقول (هيه) أو (نعم) حسب درجة الثقافة، فهذه الـ (واه) بدت لي غريبة كأن فيها شيئاً من اللغة (البربرية)، وغرابتها تشبه غرابة من يقول في فرنسا القرن العاشر ( oe) لرجل يقول ( oll). لكن حسن تصرف الناس الذين استقبلوني في (أفلو) قد أشاع الطمائينة في نفسي والإعجاب أيضاً. والشيء الوحيد الذي بدا لي مستغرباً من العشية الأولى في أفلو هو (الكسكسي) الذي قُدِّم إلينا عند القاضي الذي كنت ضيفه.

فأمام كل مدعو حيث توجد ملعقته التي يغترف بها من الإناء المشترك، وضع طبق فيه الزبد الطازج الممزوج بالعسل. والطبق الذي كان أمامي قد اختُصّ بقدر كبير لأنني كنت بالإجمال ضيف الشرف. في ذلك المساء كان عليَّ أن أبذل كل مهارة تمكنني من ألاّ أتذوق العسل بلساني، لكنني عدت إلى تذوقه وتعودت طعمه، وإني اليوم أحلم بـ (كسكسي) أفلو كما كانوا يعدونه. لكن الذي أسرني أكثر من أي شيء آخر سيماء سيد القوم وقد بدت عليه الأصالة والنبل، كان القاضي شيخاً تلفه مسحة من الجمال؛ وجه مستدير يعتمر بعمامة من (الأغباني) يبين تحتها جبين محدودب شيئاً قليلاً، يبدي نظرات صافية تحت حاجبين غليظين أبيضين. كان رَبْعةً ويداه ممتلئتان كشيخ سليم البنية، أنيق الملبس، في برنصه نوع من النسيج الدقيق الناعم فوق قندورة من الجنس نفسه، تُبدي فتحتها من تحتها (غليلة) سترة و (بديلة) صدرية، زُرِّرت بأزرار صنعت من الخيوط وفق طراز عهد مضى. بقي القاضي خلال المأدبة بعيداً عن ضيوفه. إنه يأكل عندما ينتهون من الإناء نفسه، فهذه سمة الضيافة سرت في دمه عبر الأجيال. في بهو الضيوف حيث نأكل توجد سجادة مبسوطة على الأرض، وهي من تلك البسط الفاخرة في الجزائر ينتجها سكان جبل (عمور)، المنطة ذات الاسم والشهرة معاً. على كرسي بجانب الصالة ثمة مصباح يضاء بالبترول. إنه بسيط غير ذي طراز لكن بساطته تنبئ عن النبل والعراقة. ثمة شعور منذ تلك العشية تملّكني، لقد وجدت في ذلك الجو الجزائر المفقودة، والأيام التي تلت أكّدت في نفسي هذا الشعور، فهأنذا في الجزائر البكر

في زاوية لم يقتحمها الاستعمار بعد، كأنما قد لاذت بها البلاد لتضع في حرزها الأمين كنوزاً من لطف المعشر والكرم والإخلاص وحب الخيل والبراءة. وبينما كنت في عالم أحلامي هذا منذ الليلة الأولى نسيت كلمة (واه) تتردد من حولي واسترسلت في حب هذا العالم. وأعتقد أن هذا العالم قد أحبني بدوره على الرغم من أني كنت حاسر الرأس في سروال (رعاة البقر)، ينتهي عند الساق في حزامين من الجلد، وهو هندام تفرَّدتُ به بين الحاضرين الذين يضعون العمائم ويرتدون (البرانص) و (القندورات). وقد اعتنيت عند مغادرتي تبسة بأن أحمل معي فراشاً وأغطية، لعلمي أنه بستين فرنكاً لا ينبغي أن أفكر بغرفة في فندق. لكن (أفلو) تخلو من فندق، والمسافر الغريب قلما يقضي الليل بها، فهو يتابع سيره إما في اتجاه (الأغواط) أو الاتجاه الآخر نحو (تيارت). وإذا اتفق لرجل من البلاد أن يبيت ليلة في (أفلو) فمنزل أيٍّ من معارفه هو فندقه، سواء أكان قريباً أم صديقاً. ولذا فمنزل الشيخ (بن عزوز) هو بالتأكيد الفندق الأكثر رواجاً. قاعة الضيوف هي قاعة للطعام نهاراً وللنوم ليلاً، فيها يتمدد على السجادة الكبيرة ضيوف اليوم وأولاد العائلة غير المتزوجين. ومنذ ليلتي الأولى في أفلو اتخذت جانباً فارغاً من المحكمة غرفةً لنومي فيها مددت فراشي، وفي يومي الثاني أصبحت بالتتابع ضيف سائر أعضاء المحكمة وبعض وجهاء المركز. وحين انتهت قائمة الدعوات، كان السي (عمر) الابن الأبَرّ بالقاضي يأتي إلى المحكمة ليأخذني ظهراً، أي في تلك الساعة التي أبدأ فيها البحث عن أية وسيلة أتبلغ فيها غذائي في مدينة لا فندق فيها ولا مطعم.

هكذا أصبحت واحداً من أعضاء مائدة الشيخ (بن عزوز)، ذلك الرجل الذي حمل على كاهله بكل اعتزاز تقاليد الضيافة، وقد جعل منها سبب وجوده حقاً. وغدوت من ناحية أخرى الصديق الذي لا يفارق ولده سي (عمر)، وحين يحين وقت الطعام كنا نتوجه إلى منزله كما أتوجه إلى منزلي في تبسة. كانت هذه عظمة، إنما بغير حركات طنانة رنانة، لأنه لا منّة فيها ولا استكثار. فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذلك النبل الذي حفظته الطبيعة في عروق البدوي. كانت (أفلو) بالنسبة لي مدرسة تعلمت فيها أن أدرك فضائل الشعب الجزائري الذي لا يزال بكراً، وكانت هذه فضائله بالتأكليد في سائر أنحاء الجزائر قبل أن يُفسِد منها الاستعمار. على وجه الخصوص كنت أجد نفسي بعض الشيء كأنني في متحف حفظت فيه تلك الفضائل، التي ضاعت في ناحية أخرى بسبب ذلك الاتصال المهين بالحدث الاستعماري، ولم أجد نفسي يوماً أفهم الآية الكريمة كما فهمتها ذلك اليوم {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل 27/ 33]. لست أدري إذا كنت قد فهمتها بهذا الوضوح تلك اللحظة. لكن الذي استولى على ذهني فوراً مع شيء من القلق، ذلك الخطر الذي يتهدد ما اؤتمنت عليه (أفلو) من فضائل دون أن يدرك السكان أنهم الأمناء عليها. وبقدر ما كانت تزيدني إقامتي بين هؤلاء القوم معرفة بعاداتهم وتقاليدهم كان قلقي يتضاعف. وما دامت المنطقة حبتها الطبيعة البراري الخضراء الرائعة والمراعي الغزيرة، فإنها لن تكون قادرة بسبب الفقر على صدّ مطامع المستعمرين فيها.

وإذا ما وصل إليها الاستعمار، فتلك هي النهاية. المتحف سوف يفرغ من محتواه الذي أودعته فيه القرون كما حدث في النواحي الأخرى في الجزائر. هذه الفكرة زادت من قلقي. وتملكتني الغيرة والشكوك كما يغار المرء على زوج جميلة. كنت أخاف من أولئك المسافرين الذين يمرون لبعض أعمالهم بـ (أفلو). كان كل وجه جديد يزعجني وأتساءل لماذا جاء إلى هنا؟ وما كانت كل جولة بين القبائل إلا لتؤكد في نفسي هذه الحالة من القلق. ففي قسنطينة وتِبسَّة وأخيراً في فرنسا اكتسبت معرفة عملية بخطر الاستعمار، ولذا فقد كان لي أن أتوقع مفاسده بين أولئك الناس الذين يعيشون العصر الذهبي الذي عرفته جدتي الحاجة (بايا)، تسودهم البراءة في عاداتهم وقيمهم الأخلاقية وشروط حياتهم الاقتصادية. والقوم في (أفلو) لم يكونوا في الوقت الذي وصلتُ فيه إليهم قد بلغوا المرحلة الزراعية. لقد كانوا ما يزالون رعاة، يمارسون تربية المواشي على نطاق ضيق أو واسع بدرجة غير معروفة في المناطق الأخرى. وأضرب مثلاً رجلاً يدعى (أبّا Abba) يمتلك حوالي ثلاثين ألف رأس من الغنم، أما نصيبه من الإبل فكان لا يقل عن الألف وله عدد مماثل من الخيول والبقر. في مثل هذه الشروط ليست الخيمة في قليل أو كثير دلالة بؤس يعمد إليها من لا قطيع له ولا كوخ، ويصنعها من أي قماش تصل إليه يده أو أي خرقة. إنها ضرورة يفرضها حَلّ الراعي وترحاله مع قطعانه، وهي لذلك ذات نسيج وحجم يتفق والثروة الحيوانية التي لصاحبها. خيم منطقة (أفلو) تستطيع استقبال فارس على صهوة جواده، وهي تستضيف تحت قبتها الهرمية العشرات من المدعوين. وهؤلاء لا يُستَقبلون في

خيمة العائلة، إنما في خيمة الضيوف التي تبعد قليلاً عن مضربها، وهي مفتوحة لا يستأذن في الدخول إليها مسافر، إنما يكفي أن يربط دابته بجانبها ثم يأكل فيها وتعلف دابته طيلة إقامته. ويمكن لمن يعيش في تلك المنطقة وتكون لديه فكرة عن ذلك الذي يجري في المناطق الأخرى، التي تلقت صدمة الواقع الاستعماري في الإطار الاقتصادي، يمكن له أن يدرك التحولات النفسية التي تميز الرجل الذي يعيش على الحيوان والآخر الذي يعيش على محراثه. فقصة قابيل وهابيل تتكرر في كل مرة يتعايش معها في مجتمع ما، الواقع الرعوي والواقع الزراعي كما كان الأمر في الجزائر عام 1927. فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي. لقد بدأت أدرك ذلك إدراكاً فيه بعض الغموض. ففي دعوى أمام القضاء في تبسة، يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان لمجرد روح التعصب لفريق، وشهود كل من الطرفين سيحلفان إنهما يقولان الحقيقة. أما في (أفلو) حينما كنت ترجماناً لمحكمتها فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف، ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح. ومن ناحية أخرى فقد مكثت عاماً في (أفلو) دوك أن تحدث جريمة. وثمة نادرة كانت الأكثر تأثيراً في نفسي، تلك قصة راعٍ أودع قطيعه المؤلف من خمس مئة أو ست مئة جمل إلى من يرعاه. ثم افتقد الراعي ذلك المؤتَمَن ولم يعد يراه ويئس من رؤيته ثانية. وبعد مضي عامين يرى فجأة قطيعه في مضرب الخيام وقد بلغ ضعفين: ذلك أن الذي أخذ القطيع ليرعاه تاه في الصحراء بحثاً عن المرعى والكلأ. وقاده

ذلك إلى حدود السودان. ومدة الذهاب والعودة التي حكمتها مسيرة القطيع بما يحفظ عليه صحته وإنتاجه، قد استغرقت عامين، وخلال ذلك فإن الراعي الأمين لم يأخذ من هذا القطيع غير ما جادت به أثداء النوق من لبن لغذائه. والرعاة في (أفلو) لهم أيضاً ظواهر غريبة. إنهم يمضون الليل وقوفاً وسط القطيع. وتحسب أن الراعي لا ينام، لكنه وهو متكئ على عصاه ينام واقفاً. ومع ذلك فأقل حركة في محيط القطيع تنتقل إلى ساقيه انتقال الموج وتجعله يفتح عينيه. ذلك أنه من أجل اتقاء هجمات ابن آوى في الليل فأجيال الرعيان في (أفلو) تعلمت النوم هكذا وقوفاً. لكن السمة الأبرز في أولئك القوم من الرعيان هي بلا جدال كرمهم. فالفلاح يعمل ويزرع ليخزن محصوله بعد ذلك، إنما الراعي يعمل وينام واقفاً وسط قطيعه كيما يستقبل بكل ترحاب ضيوفه. وكثيراً ما أضحت روح الضيافة عند بعضهم حالة مَرَضية. وحين يكون أعضاء المحكمة في رفقة القاضي في جولة خارج (أفلو)، فالموكب بسائر أعضائه مجتاز البراري الخضراء والسهول المغطاة بالحلفاء: نتغدى في مكان، وفي مكان آخر يكون العشاء والنوم. وفي كل مكان نحطّ رحالنا فيه يكون طعامنا الحمل المشويّ، يُشوى بكامله على نار الحلفاء سواء كنا ضيوف الغداء أم ضيوف العشاء. والفرصة سانحة حينئذ وخصوصاً في المساء لتعقد حلقة الساهرين تحت خيمة مضيفنا وجيه القوم. فحين يفرغ الرعاة من طعامهم ذلك المساء وقد شاركونا أكل اللحم المشوي والكسكوسي، فإنهم ينسحبون بلباقة السادة ليأخذوا مواقعهم وسط قطعانهم، ويبقى الشيوخ والشباب يسامروننا وهم يقصون علينا النوادر.

كان كل منهم قاص جيد. وربما يتكلم العربية دون التزام بقواعد اللغة، لكنها الأصفى بلا ريب في سائر أنحاء الجزائر. هكذا أصبحت الرحلات التي تقوم بها المحكمة بمثابة العيد عندي. وفي رحلة من تلك الرحلات كان ثمة ما هزني كما لم يهزني من قبل. فلكي يتفادى موكبنا أحد المضارب فقد أمر القاضي أن يتخذ طريقاً متعرجاً. لم أفهم السبب، وفجأة أبصرنا فارساً من ذلك المضرب يعدو بسرعة ليلحق بنا. سلّم علينا وهو يتوجه نحو القاضي قائلاً: - ياه! شيخ (بن عزوز)، مضربنا إذن مقبرة حتى ابتعدت عنه! كان الرجل في الأربعين من العمر، عليه سيماء النبل وهو فوق جواده يمتطيه بغير سرج، لم نر في صورته السخط أو الغيظ، إنما كانت نبراته تنبئ عن شيء من العتاب. ورأيت الشيخ القاضي يجيبه محرَجاً: - لا بل نحن في عجلة من أمرنا وقد تفادينا مضربك لا لأننا لا نرغب في زيارتك، ولكن لعلمنا بأنك ستمسك بنا. أجاب الرجل بلهجة حازمة: ((أرجوكم أن ترجعوا لتمضوا الليل تحت خيمتي)). أذعن الشيخ وتبعناه. وفي الطريق سألت معاون المحكمة الحاج (محداً) عن مغزى ما حدث وقد كان عندي المرجع في شؤون المنطقة ورجالها. قال لي: ((هذا الرجل كان يملك ما يقرب من خمسة آلاف رأس من الغنم. ولكن منذ عامين أصابتها آفة قضت على معظم القطيع، ولذا فقد أراد القاضي أن يتفادى خيمته حتى لا يسبب له نفقات إضافية)). استقبلنا الرجل بكرم الأمراء في خيمة تشهد بسابق غنى صاحبها. كلّ منا

أدلى في الحديث دلوه. ولأنني لا أرغب في أن أقضي العمر في المحاكم فقد عاد بي إلى الذاكرة مشروع السفر إلى أوستراليا. وهكذا تحدثت عن مشاريعي الخيالية هذه، ثم قضينا السهرة في الأقاصيص والنوادر. في الصباح وكما جرت العادة في هذه الرحلات، يبدأ الشيخ بسرج حصانه استعداداً للرحيل. تدخل مضيفنا قائلاً: ((أقسم بالله لن تذهبوا قبل أن تتناولوا طعام الغداء عندي)). لم نبدِ أية معارضة أو احتجاج. وكانت شمس الصباح ساطعة في بقعة كثيرة الوهاد، فتاقت نفسي للتجول حول الخيمة والخروج إلى تلك البراري التي لم يطأها الاستعمار بعد، وما تزال بكراً لم يُقَلّبا المحراث تربتها. ومن إمارة الحفاوة أن يصحب المضيف ضيفه في تجواله، ذلك أسلوب الضيافة في ريفنا. ولذا فقد خرج مضيفنا معي، تجولنا معاً بين أكوام الخلفاء نتجاذب أطراف الحديث. وفجأة قال لي مضيفنا: - أتصحبني معك حينما ستذهب إلى أوستراليا؟ إنه يبحث هو الآخر عن أفق بعيد، وها هو ذا قد آمن بأوهامي. وأردف الحاج محمد موضحاً أنه لم يبق لديه غير عشرة خرفان وقد نحر اثنين منهما من أجلنا. لقد فهمت إذن مأساته. ومأساة هذا المجتمع البريء الذي لا يعرف كيف يقابل الشر بالشر. إلا أنه لا ريب ثمة آفة اجتماعية في (أفلو)؛ إنها البغاء الذي يقبله المجتمع بوصفه جزءاً لا يتجزأ من فولكلوره. إنه مقبول قبولاً تستطيع معه واحدة من

(القوّادات) أن ترسل براداً من الشاي، تقدمه لأعضاء المحكمة ويضعه صاحب المقهى أمام الشيخ (بن عزوز) بالذات. كان ثمة فتيات من جبال (عمور) عيونهن لوزية، يأتين لا ريب من القبائل إلى سوق المركز يثرن بجمالهن العموري اضطراب الفتيان. لكن فسادهن يبقى في حدود المناسبات. إنه عَرَضي لم يولد تلك النتائج الاجتماعية التي نجدها في المدن، كالجزائر، حيث البغاء ينظَّم تجارة ولّدت محيطاً خاصاً بتجارة الرقيق الأبيض. ففي (أفلو) تقف الانحرافات عند هذا الحد: بنت تخلى عنها زوج طائش، أو كانت دون عائلة أو انجرفت بمثل سيئ أودى بها. لكن هذا التردي يظل في حدوده الأخلاقية والاجتماعية، فقد بقي لهذه البنت أصالة من شرف تستطيع أن تعود بها إلي الطريق السليم، ومغامرتها لم تولّد تلك الأوبئة المخيفة التي يفرزها البغاء المنظم في أماكن أخرى، حيث أضحى تجارة وسوقاً وبضاعة مهربة وصناعة. فالناس في الأعماق طاهرون ما تزال تسودهم البراءة، ولم يعرفوا بعد الرذيلة المتأصلة. ثم إن الضجة التي بدأت تحرك الأفكار في قسنطينة لم تكن قد امتدت بعد إلى منطقة وهران، فهناك لا تسمع أحداً يتكلم لا عن الإصلاح ولا عن الأسطوانات المصرية. ولم يكن الشيخ (الإبراهيمي) قد وصل بعد إلى تلمسان. وأظن أني أنا الذي أدخلت العدد الأول من مجلة (الشهاب) إلى (أفلو) وكانت أقرؤها مع السيد عمر ابن القاضي، الذي لم يكن يقبل محتواها كله. كان الناس ما يزالون خاضعين للروح (المرابطية)، ولذا فهم يقيمون الاستقبالات الحاشدة لممثليها حينما يأتون كل عام ليأخذوا حصتهم السنوية.

فالمرابطون يجمعون هكذا زكاة سائر المنطقة التي هي كثيرة الغنى والكرم معاً. ومن الطبيعي أن استغلال سذاجة الناس ما تفسح المجال أمام حيل تضحك اليوم الطفل، لكنها في ذلك العصر تركت أثراً بعيداً في بساطة أولئك القوم. هكذا كان الناس يشهدون كل عام موكب (القادرية) المهيب يأتي إلى (أفلو). راية ترفرف، وعلى رأسها ابن شيخ الطريقة (المقدّم) يلبس الثياب الخضراء من رأسه إلى قدميه، إنها ثياب أهل الجنة، وهو ذو ذكاء شيطاني يعرف كيف يبتزّ من السذاجة العامة للناس كل ما يريد. لقد كان يملك في تلك الفترة في (وادي سوف) بستاناً للنخيل، مؤلفاً من حوالي ألف نخلة، وهو من هبات أولئك الذين يريدون أن يدخلوا الجنة في موكبه. وهنالك مرابطي آخر يأتي من (الأغواط) حيث اختارها مقاماً. إنه يمثل الطريقة الرحمانية طريقة قاضينا الوقور، إنه مشعوذ أمكر. وهو يعرف كيف يستولي على مخيلة مريديه بأساليب جد بسيطة. كان يحمل في حقيبةٍ ملابس ضابط في الجيش الفرنسي. وحينما يتسنى له أن ينفرد بنفسه ولو لبضعة دقائق فإنه يرتدي ذلك الزي الذي هو شعار السلطة والقدرة في عيون أتباعه. وحينما يراه القوم بعيون الأطفال الذين يرون الحياة عبر رموزها، فإنهم يعطونه سلطة أكبر مما يعْنِيه سمت ضابط فرنسي. ويقال إنه يستطيع وهو جالس في (الأغواط) في غرفته ومن حلقته بين مريديه، أن يرى قافلة تأتي من بعيد إلى المدينة فيرسل إليها من يستقبلها. وطبيعي أنه إذا ما كان ثمة منظار شبيه بذلك الذي تستخدمه الغواصات،

قد رُكّز عل شرفة أحسن إعدادها فإن المعجزة ممكنة الحدوث. ولكن علينا أن نفهم أثر معجزة كهذه في خيال قوم سذج. وفي تبسة كان الشيخ المرابطي فى تلك الفترة يجلس في المقاهي يشرب خمرة اليانسون ( Anisétte)؛ ويسقي مريديه تواطؤاً مع صاحب المقهى شراب اللوز. أعني ذلك الشراب ذا اللون الحليبي نفسه الذي يتخذه خمر اليانسون إذا ما أضيف إليه الماء. وكان المعلّق يقول: ((ألا ترى أن خمرة اليانسون تصبح في حلق سيدنا الشيخ شراباً؟)). ومن أجل أن تدخل الإدارة في رأس مستعمَريها (أبناء البلاد) تلك الجرعات من السذاجة الضرورية لمصالحها الخاصة، كانت في تلك الفترة وخصوصاً في وهران، تعمد إلى حرق أكوام قمح أوربي مستعِمر رفض أن يعير أدواته ليحصد بها قمح (سيدي المرابط الفلاني). وكان المعلق يقول: - ((أترى أية كرامة لسيدي فلان؟ فالمستعمِر الذي رفض أن يعيره أدواته قد احترق موسمه)). وأنا نفسي كدت أن أعامل بوصفي شيخاً مرابطياً في منطقة (أفلو). ففي يوم أثناء جولتنا جاء رجل من أبناء البلاد ( Indigène) ليقبل ركبتي. ربما كان ذلك بسبب هندامي الفريد الذي ميزني بسلطة ما في عينيه. كان ذلك كله يتسرب إلى عميق نفسي فيتخذ له فيها شعوراً وفكرة. لقد خفت أن يأتي المستعمر إلى هنا فيفسد تلك العجينة الإنسانية الطيبة التي احتوت بعض السذاجة وعظيماً من الفضائل.

وما كنت لأستطيع إصدار قانون يحرم جبل (عمور) على المستعمر، كما يمنع دخول متحف وضعت فيه أشياء ثمينة في منتصف الليل مثلاً. ولما كانت خبرتي السياسية والاجتماعية قد تكونت شيئاً ما، فقد عزمت على أن أبذر الخوف في كل مكان أمر فيه خلال جولات المحكمة. كنت أشرح نظريتي للمضيف الذي يستقبلنا. وكانت تلك النظرية بسيطة: ينبغي أن تفلح أكبر قدر من المساحة حتى تنشئ حقك على الأرض، تلك الأرض التي لا تملك فيها سوى ما تنْبته الطبيعة من العشب اللازم لقطعانك. قلت للمضيف: ((لابد إذن أن تنشئ حقك الاجتماعي في الأرض. ذلك الحق الذي يخولك أن تكون المالك الشخصي لها، وأن تكون لك الإرث الذي ينتقل إلى أبنائك)). كان المضيف دهشاً عموماً من سماعه لحديث مثل هذا حول طبيعة حقه في أرض لم يجادل فيه أحد أجداده عبر الأجيال. هكذا تعمقت بنظريتي أكثر فأكثر. ثم أستمر قائلاً: ((وإلا فالمستعمر سيأتي ليحتل الأرض التي عليها خيمتك، وحينئذ أنت مضطر للرحيل من هنا لأنك في نظر القانون الفرنسي لست مالكاً للأرض)). لا أعرف ما إذا كانت أطروحتي هذه تجد أساسها في القانون المدني. ولكن الذي كان يهمني إنما هو أثرها في مستمعي، وكنت ألحظ بسرور أمارات الرعب على وجهه. هكذا كنت في الذهاب أغرس ذلك القلق فأرى نتائجه في الإياب عبر الرحلة الواحدة للمحكمة.

في الذهاب كنت أشرح نظريتي، وفي الإياب خلال أربعة أو خمسة أيام كنت أجد مضيفنا منهمكاً في الحرث. لقد عاودني الحنين على الرغم من ذلك كله إلى تبسة. واستبدت بي حاجة إلى رؤية الأهل، وخصوصاً أمي. ثم رأيتني أحن إلى الأسطوانة المصرية وباهي وأقاصيصه. ... ربما كنا في شهر آذار (مارس) من عام 1928. توقفت في قسنطينة قبل أن آخذ عربة تِبِسّة. لقد أردت أن ألتقي الشيخ بن باديس خاصة. فمجلة (الشهاب) قد جدَّدَتْ في نفسي خلال إقامتي في (أفلو) الأفكار التي كنت أروجها في مقهى بن يمينة والمدرسة. مررت أولاً بمقهى بن يمينة، وكان يحتفظ بنشاطه الذي عهدته فيه. استقبلوني استقبال الأخ الاكبر. و (الأخوان مشاي) من قالما احتفلا بي كمن يحتفل بمرشده. فحين كنت مدرسياً كنا نقرأ وننقد سوية نصوصاً فرنسية وعربية. وحينما مر الشيخ بن باديس في طريقه إلى مكتبه تبعته. كان معه بضعة أشخاص، ولربما كان يرى لأول مرة هذا الفتى ذا النظارتين والسروال والحزامين عند ساقه والرأس الحاسر؛ لذا لم يدعُني للجلوس. وتحدثت إليه واقفاً عن أشياء عديدة، وأذكر أني حدثته خاصة عن مشكلة الأرض في جبل عمور. وكان بادياً أن الشيخ لم يُعِر ذلك أي اهتمام، كان متملصاً ومهذباً معاً. خرجت من عنده وفي نفسي شيء من خيبة الأمل. فَعَجِلْتُ إلى رؤية (باهي) في تبسة والاستماع إلى أسطواناته وقصصه. وجدت تبسة تغلي بحمى الإصلاح. لقد بُني المسجد الجديد والمدرسة. وقد جُمعت التبرعات من الناس من أجل البناء.

وامرأة عجوز من الزاوية تبرعت بديك معتذرة بأن ذلك هو كل ما لديها. كُلٌّ قد أسهم بحسب قدرته. وكان هنالك من أسهم لكي يراهن على المستقبل. فالمستقبل حتى تلك اللحظة كان في اتجاه إرادة الشعب. فكان للمرء أن يصبح مكافحاً في سبيل الإصلاح لخدمة هذا الشعب أو لاستغلاله. حتى (المقدم) الشريف الوقور مقدم الطريقة القادرية في تبسة، أقفل زاوية تبسة بمحض إرادته ووضع المفتاح تحت الباب ليصبح معلماً بسيطاً للقرآن في المدرسة. و (باهي) لم يعد يستطيع أن يقذف (البندير (¬1)) في الفضاء بطريقة بهلوانية، وقد تعود أن يضرب عليه ضرباً يهدئ به الغضب الذي كان يحدث له مثيله وهو يضرب على الطبل قبل تسريحه من الجيش. فهذا القَنَّاص العجوز أضحى إصلاحياً ومقهاه غدا مركزاً للدعاية الإصلاحية. الحديث حول الأفكار الجديدة بلغ مداه حتى في العائلات. فأمي أضحت ذات نزعة إصلاحية وأبي أيضاً، وجدتي الحاجة (زليخة) كانت تستمع إلى المناقشات ثم تتجه إلى التسبيح بسُبحتها. وصهري زوج أختي الكبرى بقي جامداً على حالاته المرابطية. وهذا ما أورث البرود بيني وبينه، بينما لم يكن لزوج أختي الصغرى مشاركة في هذه الأمور. في المدينة أضحى النادي القلب الذي تنظم نبضاته جريان الأفكار وانتشارها. فالتبسيون كانوا يجتمعون فيه في الظروف التي تهم الناس جميعاً. وكان رجال القبائل اليحياوية والليموشية يترددون عليه أيضاً حين يؤمون سوق المدينة، وكانوا يحملون معهم الأفكار التي ينشرونها، ليبذروها في الدواوير خلال السهرات تحت الخيمة كما تنقل أسراب النحل رحيق الأزهار حين تمتصها. ¬

_ (¬1) المزهر في بلادنا.

وفي هذه السنة ظهر في تبسة المسرح الجزائري لأول مرة، حين أمَّت المدينة فرقة (المزهر البوني) التي أسسها في عنابة سي (الجندي) وكان يعمل وكيلاً قضائياً. كان مرور هذه الفرقة في المدينة حدثاً ثقافياً كما نقول نحن اليوم، لكنه حدث سياسي كذلك. ذلك أن سي (الجندي) كان يفكر في كل شيء عدا التمثيل؛ لكنه كان بإمكان هذا المسرح أن يساعد على إحياء اللغة العربية وأمجاد الماضي. وقد خلفت هذه الزيارة في رؤوس شباب المدينة فكرة تأسيس فرقة مسرحية تبسية. كانت السيدة (دوننسان Denoncin) ترى جيداً التحولات في وسط سكان البلاد ( Indigène)، لكنها لم تكن تدرك مغزاها. والإدارة ذاتها لم تكن أكثر إدراكاً منها لحقيقة ما يجري. إذ كانت في مراقبتها للأمور ترى أنها تترك مستعمريها سكان البلاد لأعمالهم الصبيانية هذه. لكنه في تلك الفترات بالذات وصل أول فيلم مصري إلى قسنطينة، إنه فيلم (الوردة البيضاء) وكان هذا حقاً إنتاجاً صبيانياً. لقد أضاع (جورج أبيض) جهوده في مشاهد صبيانية، والمنتج المصري أنفق أمواله وهو لا يدري أن مخرجه الإيطالي قد هزّأ موضوع الفيلم بشطحة ساخرة من آلة تصويره. وعلى الرغم من ذلك كله فإن جميع شباب المنطقة قد هبُّوا إلى قسنطينة لمشاهدة الفيلم، وكنت أنا بالطبع من بين أبناء تبسة الذين لم تفتهم هذه الفرصة. لكن النظام الاستعماري استمر في توسيع سلطانه على الأرض والناس معاً. ومنذ الحرائق الكبرى للغابات المحيطة بتبسة بدأ الريف يأخذ شيئاً فشيئاً

مظهر الصحراء. وسيارات (السيتروين والرينو) امتصت ميزانية الناس الهزيلة بالمحروقات. وهي تشق أرجاء هذا الريف بطرقاتها. لقد وضعت هذه السيارات حداً لتلك الصيغ من صلات المودَّة التي نشأت بين الدوار والمدينة: إذ كان رجل الخيمة من أبناء الريف مضطراً أيام السوق أن يقضي الليل تحت سقف ابن المدينة، وكان هذا الأخير في الفصل الجميل يحب أن يقضي بضعة أيام تحت خيمة صديقه من أبناء الريف. فالمواصلات السريعة كان لها الأثر الذي عمّ العالم كله: لقد ضاعفت من الاتصالات لكنها جعلتها سطحية. وهكذا فإن رسائل (مدام دو سافيني Madame de Savigné)، وصلات الأسفار التي حققها ابن بطوطة والمسعودي لم تعد ممكنة في عصر المحرك الانفجاري. وبالنسبة لي فقد بقيت المشكلة المطروحة: ما العمل؟ فـ (أفلو) لم تكن غير مرحلة لا شك أنها استهوتني، لكنها تظل مرحلة في الحياة. وبقدر ما أضحت تمبوكتو وأوستراليا بعيدتي المنال، فإن أفكاري بدأت تتجه نحو التجارة. لقد وجدت في (أفلو) فرصة في هذا المجال: إنه (جذر القنطس pyrèthre) يباع غالياً في تبسة وقسنطينة، ثم يصدر منها إلى فرنسا لصناعة المواد القاتلة للحشرات في زمن لم يكن فيه قد عرف مبيد (د. د. ت D.D.T). وكنت بالاتفاق مع السي (عمر) ابن القاضي أشتري هذه الجذور من جبل (عمور) بعشرة فرنكات للكيلو الواحد، وكنت أبيعه بحوالي عشرين فرنكاً في تبسة.

إنني أدلي هنا بهذا الاعتراف الصغير لأولئك الذين يتحدثون اليوم في الجزائر عن استغلال الإنسان للإنسان، حتى يتقنوا هذا الاستغلال بصورة أفضل. وإليكم تفصيلاً مضحكاً. فحين مروري بقسنطينة تقابلت مع (دورنون)، الذي سألني عما أنوي فعله إذا كنت، أرغب في البقاء بـ (أفلو) فأجبته ببراءة: - سأتاجر بالـ ( pyrèthre) يا سيدي المدير؛ وصرخ بشيء من الذعر: - تتاجر بتهريب الأسلحة؟ وقد أدركلت على الفور بأنه قد خلط بين ( pyrèthre) ومركبات (كبريت الحديد pyrites)؛ فأوضحت له نواياي السلمية حتى يطمئن إلى مستقبل الاستعمار في الجزائر. ألم نكن في عام 1928 أليس كذلك؟. اطمأن دورنون، ولعله كان يفكر في مهر بناته لذلك فقد عرض عليّ أن نفتح سوية (كشكاً) لبيع الدخان. وأجبته: إننا نستطيع سيدي المدير أن نهتم بتربية الخرفان فهذه تجارة أربح. بدت له الفكرة مغرية، وهي قد أغرتني أكثر لكن المدير حققها في النهاية مع مدرس من تبسة. فقد عرف هذا الأخير أن يقنع المدير بأن مستقبل بناته في الزواج سيكون أضمن، حين يكون الأمر في يديه من أن يكون في يدي. وهكذا بقيت أبحث عن مستقبلي. وفيما أنا أوزع وقتي بين أمي التي أحب صحبتها كثيراً، والنادي الذي كنت أحرك فيه مع أصدقائي الأفكار الجديدة، ومقهى (باهي) حيث كنت أستمع للأسطوانة المصرية، كان السؤال الدائم يُقلِّب في ذهني وجوهه: (ما العمل)؟ كنت أقرأ أيضاً أعداد (العصر الجديد) التي عادت الإدارة فسمحت بإصدارها. وكنت أغترف منها ذلك الغذاء الروحي الذي يروي تعطشي لمعرفة

أنباء العالم الإسلامي. فالصحافة الوطنية في تلك الفترة لم تكن بعد تملأ صفحاتها عن الحزب والمناضل. ومن حين إلى آخر كنت أقرأ جريدة (صوت المساكين La Voix des humbles) وكنت أمُجُّ كثيراً هذا العنوان. كان ثمة جديد في جبهة الإصلاح. فالشيخ (العقبي) استدعته بعض العائلات الميسورة في الجزائر، فقد أرادت بدون شك أن تمنح مدينتها عالماً كما كان لقسنطينة عالمها. لقد أنشأ (العقبي) في الجزائر (نادي الترقي)، وقد بلغ الجدل بين الإصلاح والمرابطية أقصى العنف. وقد أسس المرابطيون صحيفة تنطق بلسانهم أعتقد أن اسمها (السنة). الشيخ (مبارك الميلي) و (أبو يعلى الزواوي) كانا بَطَلَيَّ المفضلين في تلك المعركة. كان للأول عنف الاقتناع بالعقيدة وللثاني وضوح الأفكار. حرارة الإصلاح بدأت تجتاح وهران. فالناس في بلدة (سان دوني دوسيج St Denis - du -Sig .. ) بنوا مدرسة دعوا من أجل إدارتها الشيخ (العريي التبسي). وكان (باش آغا) المنطقة (بوشيحا) يدلي بنصيبه من تلك المبادرة، إذ كان يغطّي من جيبه الخاص ميزانية المدرسة وإدارتها. كانت هذه سمات ذلك العصر، فقد كان الناس يلتزمون بملء اختيارهم دون أن يدخلوا في حسابهم رأي الإدارة. عطلتي شارفت على النهاية. وفي محكمة تبسة وقد حافظت على صلاتي؛ أبلغت بأن وظيفة عدل فارغة في

(شاتودان Chateaudun) فتقدمت إليها. لكن عطلتي انتهت قبل أن يأتي جواب النائب العام في الجزائر. وفي الصباح غادرت تبسة عائداً إلى (أفلو)، وأمي متكئة على عكازيها صبت بين قدمي (ماء العودة) عند سلم المنزل، إذ لم تكن تستطيع النزول لتشيعني حتى الباب. حين وردت موافقة النائب العام كان رحيلي من (أفلو) مؤثراً. فالقاضي الهمام (بن عزوز) بكى لافتقاده نزيلاً يأكل على مائدته طيلة عام بالمجان. ابنه سي عمر انهار أيضاً واتهمني بالعقوق إذ طلبت نقلي من أفلو، حقاً فقد جُبِلْتُ لأعيش بين هؤلاء القوم أولي الشهامة في حياتهم البسيطة والنبيلة معاً. لكنني كنت أحمل بين جوانحي عذاباً لا تخفف منه (أفلو). وهكذا كان رحيلي ضرورياً. ولكن تصوروا لو أنكم تسكنون في بناء جميل في جناح تدخله الشمس من كل جانب، وتسرحون النظر في طيور السماء ونجومها، وفجأة ترون أنفسكم قد أودعتم في كهوف ذلك البناء لتسكنوها. كنت تماماً في ذلك الوضع منذ وصولي إلى (شاتودان)، كانت هذه البلدة مركزاً كبيراً للمستعمرين، كل شيء فيها يخضع لقانون الاستعمار. أما حياة السكان الأصليين فكانت نوعاً من الإقامة في أرض أجنبية، كانت فارغة من كل محتوى أصيل وصحيح، كإنتج مصطنع يمثل في ظاهره شيئاً ما لكنه ليس في حقيقته الشيء نفسه. لم يدعُ أحد من القوم ذلك العَدْلَ الشاب الذي وصل به الأمر إلى درجة لا يعرف معها أين يسكن. وفراشي أخرجني والحمد لله مرة أخرى من هذا المأزق. لقد مددته على مقعد قاعة محفوظات المحكمة. وكان في المدينة امرأة يهودية عجوز قد اتخذت من دارها لتعيش هي

وزوجها دائم السكر نوعاً من المكان، تقدم فيه طعاماً يومياً لصغار موظفي المنطقة، صغار حجاب ( Chaouch) المستعمِر أولئك الذين لا تسمح لهم إمكانياتهم بارتياد المطاعم الأوربية. وبما أن هذه المرأة طباخة جيدة فقد أصبحت من زبائنها الدائمين. في المحكمة كان (الباش عدل) لا يفيق من سكره. أما العدل الآخر فكان يعد نفسه لبلوغ القمة: أن يصبح قاضياً. كان ذلك موضوعه الوحيد في كل حديث. أما القاضي فلم يكن لديه من هدف آخر إلا أن يزيد عدد الهكتارات التي يشتريها في منطقة (قلما)، موطنه الأصلي في كل عام، من الموارد التي تأتيه خارج مرتبه (الرشوات). وحين شاءت الإدارة الفرنسية أن تمنحه وسام (جوقة الشرف) مكافأة له على أخلاقه العالية وفضائله، فقد قادوه إلى منزله في نهاية الاحتفال محمولاً على عربة وهو ثَمِل. أما خارج عملي فقد وجدت صحبتي في وكيل قضائي ذي أصل قسنطيني، و (خجا) وحدة إدارية مختلطة، كان أولاده أسن مني، ومساعد طبيب وموظف في بنك. كنت أجدهم كل مساء في مقهى يديره زوجان من أصل مالطي. كانت الزوجه فاتنة الجمال. والشباب المفتون بها يطلب من أجل عينيها الجميلتين كؤوس خمر اليانسون ( Anisétte)، يشربونها واحدة تلو الأخرى حتى التاسعة مساء ثم ينصرف كل منهم يتجشأ سكره. أما كيف تمكنت من المحافظة على نفسي في هذا الوسط فالله وحده يعلم.

وأحياناً كنت أفرَ بنفسي إلى مقهى يديره (مستعمر) عربي مؤثراً الحصير والدومينو. هنا كان لي صحبة آخرون يلعبون بالورق ( La ronda) حتى منتصف الليل. وكان ثمة ساعٍ للبريد يقص حكايات من نسج خيال كفيل بأن يُغْني أعمال الروائي الإنكليزي (كونن دويل Conan Doyle (¬1)) ويرفدها بالمزيد. كان ساعي البريد هذا ذا فن في حبك الروايات يتجاور التصور. لقد كانت الحياة الثقافية في (شاتودان Chateaudin) تتلخص في تجشؤات (اليانسون) وحَلِف لاعبي الورق، وحكايات الأشباح. كانت طباختي اليهودية وحدها تذكرني بشيء إنساني في هذا الوسط غير الإنساني. وأعتقد أنها استشفّت ما يدور في خلدي من أفكار. وكانت من حين إلى آخر تسألني عما أرغب فيه من طعام. وكان يحزنها عدم اكتراثي بشؤون ألوان الطعام وتذوقها حين أجيبها: - آه تعلمين أن طبخك رائع، وأنا حيال ألوانه ليس لي شيء خاص. في خاتمة المطاف لم أستطع البقاء أكثر مما بقيت. وقد وقع لي حادث مع كاتب بمحكمة الصلح كورسيكي الأصل كان النقطة التي طفح بها الكأس. كان يكيده أن (جزائرياً Indigène) لا يحييه وهو يلتقي به في الطريق. وكنت فعلاً لا أحييه لأنني لاحظت بأنه هو الآخر لا يرد التحية. وهكذا سمح الكاتب لنفسه أن يستدعي إلى مكتبه سائر أعضاء المحكمة واحداً تلو الآخر، واستدعاني في آخرهم. وحين دخلت مكتبه وجدت القاضي والباش عدل واقفين أمام مكتبه. فاتخذت على الفور قراري: أستقيل ولكن بعد أن ألقِّنَ هذا الشخص درساً. ¬

_ (¬1) قصاص روائي إنكليزي ولد سنة 1859 (ترجمة قنواتي).

اتخذ هذا الحادث مظهر التطاول على السيادة الوطنية. ونائب عام قسنطينة تدخل في الأمر. وهكذا قدمت فعلاً استقالتي. وهنا انتهت مرحلة من حياتي. ... كان صهري زوج أختي الكبرى يعمل على تأسيس مطحنة في منطقة تبسة. وقد اشترك مع (قساس) قائدى قرية (دوار) للعمل سوية في المطحنة. وإذ عدت إلى تبسة أحمل معي السؤال (ما العمل؟) فقد انضم إلى الشركة عنصر ثالث وأضاف وتراً إلى تناغم نشاطها. قررنا لاحتياجات المطحنة أن نحصل بالتقسيط على سيارة نقل صغيرة طراز (سيتروين)، ونستعملها كذلك في أعمال النقل العام فنحقق بذلك ربحاً مجزياً. الناقلة الصغيرة والمطحنة أعطيانا مجتمعين ما سمح لنا بأن نسدد الأقساط في مواعيد استحقاقاتها. لقد كانت سنة خير وبركة. لكن من أوتي خبرة في اتجاهات تجارة ( Indigène ابن المستعمرات) يعرف أن فيها شيئاً من العدوى. فإذا ما افتتح رجل مقهى ونجح، فإن الناس جميعاً يندفعون نحو هذه الصناعة. وإذا ما ازدهر صالون (جزائري Indigène) في الحلاقة الحديثة أضحى الناس جميعاً حلاقين. هكذا انتشرت عدوى الناقلة الصغيرة والطاحونة في منطقة تبسة. وكان لدى مزاحمينا ميزة الخبرة المكتسبة، وبدلاً من أن يديروا المطحنة بالبنزين كان الأوفر لهم أن يجهزوها بالديزل الذي يعمل على المازوت. وكان عام 1929 عام كساد التجارة العالمية. فالأسعار تدهورت خصوصاً في

إطار منتجات البلدان المستعمَرة: الأصواف والجلود والحبوب .. إلخ وكان من المحتم أن نتأثر بذلك كله. وبقدر ما كان سعر البنزين محافظاً على مستواه كان ثمن الشعير أعني عملة الدفع في المطحنة لا يفي بثمن البنزين، فقد كان الناس وفقاً للعادات يدفعون أجرة الطحن حصة من المادة المطحونة. طرحت المشكلة مع صهري، ولم يكن لها سوى أحد حلين اثنين: أن نسرق الزبون؛ أي أن نأخذ أكثر من العُشر المتعارف عليه من كمية الحبوب المطحونة، كيما نحقق ربحاً إضافياً كما تفعل غالبية المطاحن الأخرى، أو أن نترك مطحنتنا لمن سيكون أكثر انسجاماً مع هذا الواقع. وأذكر تلك المحاورة كأنما جرت اليوم على كومة من أكياس الشعير تحت سقف المطحنة: - لا أستطيع أن أسرق ..... - وأنا أيضاً لا أستطيع السرقة أبداً. قررنا إذن ترك المطحنة لشريكنا الثالث القائد. واحتفظ صهري بالناقلة التي أضحى يحسن قيادتها مع مرور الزمن. ففي الوضع الذي كنا فيه كنت أفكر في صهري أكثر مما في نفسي لأنه كان صاحب عائلة وأولاد. تبسة غدت خانقة، لقد سئمت النادي ومقهى (باهي) وحكاياته حتى نفسي أيضاً. وكنت أُسَرِّي عن نفسي أحياناً بالذهاب بضعة أيام إلى (دوار) الأرانب عند صديقي القائد (الأكحل). كانت هذه الجولات تفعل في نفسي الكثير من الخير، لكنها لم تكن تحل مشكلتي. مرت الأسابيع كذلك الشهور وقد تسنى لي مع القائد (الاكحل) أن

أقوم برحلات أبعد في ذلك الجزء من المنطقة التبسية حيث تبدأ الصحراء. وكنت أعود منها أسود كالفحم. كان ذلك في صيف عام 1930. في الجزائر كانت الإدارة تهيئ لأعياد مئة عام من استعمار الجزائر. وقد احتدم الجدل بين المندوبين الماليين حول استعمال الميزانية المخصصة لهذه الأعياد. طالب الناس باستعمال هذه المبالغ لبناء المدارس لكن المستعمرين لم يعيروا أذناً لهذا الطلب. والمحافظ (بورد Bordes) الذي قالت ألسنة السوء إنه احتفظ لنفسه بجزء لا بأس به منها، قرر أن يستعمل الباقي في إعداد الملابس العسكرية التي تعود لعام 1830، للعرض الذي سيقام يوم الاحتفال المئوي بتلك الذكرى. في ذلك اليوم قررت عدم الخروج من منزلي. سمعت الفرقة الموسيقية تجوب المدينة في الليل، بينما كانت جدتي لأمي تسبح بسُبحتها، وأمي مستلقية على ظهرها بسبب مرضها تتأمل كعادتها في نجوم سماء تبسة الصافية. لقد شاهدت من شرفة المنزل الشهب النارية التي كانوا يطلقونها من ساحة القصبة تلك الليلة. لقد دخلت الجرائر القرن الثاني من الاستعمار. في ذلك الزمن كنا نقرأ كتاب (إنسان يعيش على ماضيه Un homme se penche sur son passé) ولم أعد أعرف اسم مؤلفه. لقد نال جائزة (كونكور Gon court) لذلك العام. وقرأت أيضاً كتاب ( Partir, C'est mourir un peu السفر ضرب من الموت) فقررت إذن السفر. إنه هذه المرة ليس شغفاً بالبعيد ولكنه كان قراراً محدداً. لقد أخفيت مشروعي عن أمي، ولكن شيئاً لا يخفى على قلب الأم. وعندما كنت عائداً إلى المنزل مساءً نادتني أمي إلى غرفتها. كانت مستلقية على سريرها ولم يكن بمقدورها سوى أن تنام أو أن تقف على عكازين.

كان والدي جالساً بقربها على كرسيه، قالت لي: - صدّيق أتريد الرحيل؟ وبقيت صامتاً. فأردفَتْ: - إذن اذهب إلى باريس لتتابع دروسك؛ وأكمل والدي فكرتها: - إنك تعرف (بن ستيتي)، إنه بعد أن أنهى دراسته في المدرسة التحق لمدة عام بمدرسة (اللغات الشرقية)، وبذلك أُعفي من شهادة الدراسة الثانوية وسمح له بالتسجيل في كلية الحقوق. ثم أردف والدي قائلاً: - سوف نرسل لك كل شهر ما تحتاجه. وأقلّتني الباخرة بعد أيام ثلاثة إلى عنابة ( Bône) في طريقي إلى باريس.

القسم الثاني: الطالب

القسم الثاني الطالب (1930 - 1939)

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقَدّمة ليست هذه المقدمة من أجل تقديم هذا الكتاب للقارئ، على حسب التقليد الذي يلتزمه كاتب عندما ينشر له شيء من تأليفه. وإنما هي لمجرد التفسير للظرف الغريب، الذي وقع فيه في يدي، المخطوط الذي أنشر منه اليوم الجزء الثاني. إن لكل امرئ خلالاً يسلكها، وقد يحدث لي مما تعودت، أن أصلي صلاة العصر في تلك اللحظة الجوفاء عندما يخرج الناس من المسجد بعد صلاتهم خلف الإمام. فأصلي وحدي ... والمكان إذن ليس فيه أحد غيري، وأختار هذه اللحظة لأعتكف فيها. وكنت في ذلك المسجد القسنطيني الملاصق لـ (دار الباي) والذي صار طيلة قرنٍ الكنيسة الكبرى ثم عاد إلى أهالي قسنطينة منذ الاستقلال. وكنت حينذاك قد عدت إلى الوطن منذ ثلاثة أيام أو أربعة فقط من الهجرة التي فرضتها، على كثير من الجزائريين، سنوات الثورة، فألقيت وأنا أخلع نعلي عند باب المسجد نظرة على داخله، ولم يكن للمكان حديث يشعر به المرء من خلال أُبهة بنائه، وإنما كان يتحدث له حديث تاريخه المضطرب، ووقع بصري على مكان هادئ بين المنبر والمحراب، بعيداً عن ضوضاء الشارع فاتجهت إليه

وكبّرت فيه، بينما كانت النوافذ ذات الزجاج الملون توزع بين أعمدة المسجد ضوءاً متخافتاً يزيد في الهدوء الذي يحيطني. وربما كنت في السجدة الثانية، وقد تعودت أثناء هجرتي إلى الشرق الإطالة في السجود، كما يتعود ذلك بعض حجيجنا من المغاربة عندما يصلّون خلال رحلتهم بعض صلواتهم في مسجد سيدنا الحسين، قرب الأزهر الشريف. وبينما أنا في هذه السجدة سمعت قدماً تطأ الزريبة خلفي وطئاً خفيفاً، ثم تنسحب القدم. وأرفع رأسي من السجود، فينطلق بصري تلقائياً إلى جانبي الأيمن، فأرى عند ركبتي شيئاً ملفوفاً .. فاسترسلت في صلاتي حسب نسقها، حتى سلمت. ثم التفت عن يميني وعن شمالي، فلم أر أحداً. إن من وضع قرب ركبتي الشيء الملفوف قد اختفى .. ولكن ما هو هذا الشيء؟ تحسّست من خلال الغلاف السميك من الورق ما يحتويه، فشعرت أنه ورق .. وفتحته، فإذا بصفحات مكتوبة كتابة ناعمة ولكنها واضحة، قرأت على الصفحة الأولى عنواناً: (مذكرات شاهد للقرن). وقرأت صفحة .. ثم صفحتين .. أمر غريب! .. إن كل جزائري يتناول القلم قد يستطيع كتابة مثله شريطة أن يكون من الجيل الذي أنا منه. فقرأت صفحات أخرى .. وهأنذا أجد اسماً، لعله يكون اسم المؤلف: (الصديق).

من هو الصديق؟ إنه يقدم نفسه، منذ الصفحة الأولى، على أنه من مواليد قسنطينة سنة 1905، إذن هو رجل من مسقط رأسي وفي سني. لا تزيدني قراءة الخطوط أكثر من هذا .. هل يجب أن أرجع هذا المخطوط إلى صاحبه؟ ولكن لأي امرئ اسمه (الصديق) أرجعه؟ ألست أرجعه له بطريقه ما، إذا نشرته؟ ولعلي بذلك أكون قد لبيت رغبته! فعليه، أرجو أن يتقبل القارئ هذا الكتاب من جزائري أراد أن يخاطبه من وراء حجاب. الجزائر 5 أيار (مايو) 1965 مالك بن نبي

لم تكن أفكاري قد اتسقت بعد مع وضعي الجديد، منذ نرلت في صبيحة يوم من شهر أيلول (سبتمبر) عام 1930 بمحطة ليون بباريس، ولم تكن الأمور تقررت نهائياً في نفسي منذ فارقت قبل أسبوع أهلي، وودّعت الأقران بتِبِسَّة، وإنما الشيء الوحيد الذي قررته هو أنني لا أعود هذه المرة إلى الوراء مثلما عدت المرة الأخيرة، بعد النكسة التي أصابتني مع رفيقي (قاواو) في صيف 1925. عزمت على ألا أتراجع، وهذا العزم هو الشيء الوحيد الذي كان واضحاً لدي، إلى درجة نسبية لا تجعلني أخطط ما يستتبع نزولي باريس؛ بحيث لم أتوجه- عندما وضعني القطار على أحد أرصفة المحطة تلك الصبيحة- إلى الحي اللاتيني حيث ينزل كل طالب علم أو يعود بعدها يقضي الراحة الصيفية في بيته. وإنما تذكرت زميل الدراسة ذاك، الذي كان هو الآخر قد استولى عليه حلم الآفاق البعيدة مثلي، والذي يضطجع الآن في مقبرة مدينة (سوق أهراس)، بعد أن عاد من باريس في عام 1923 بمرض صدري، فتذكرت أنه سكن أثناء إقامته الباريسية، بحي (كورسيل) قرب تلك الحديقة الجميلة التي أعطت اسمها للحي كله، ومحطة القطار الجوفي ( Métro) بقربها؛ وتذكرت أنه كان يكاتبني من هذه الناحية فتعمدت التوجه إليها، وصرت أنتقل من فندق استُنفد تأجير غرفه إلى آخر بحثاً عن غرفة، والقدر يسوقني حتى وجدت بعيداً عن (كورسيل) في المنطقة العاشرة من باريس، غرفة مناسبة في فندق متواضع قرب باب (سان دونيس)، في شارع تؤمه بنات السوء المترقبات للزبون المتوقع في كل ذي بنطال من المارة فينادينه:

- هل تأتي يا عزيزي! ولا ريب أنني كنت في نظرهن، ببزّتي الخارجة عن الذوق المألوف بلونها المشرق، أحد نزلاء الأرجنتين أو البرازيل، أعني النزيل المشحون بالدولارات، فكانت دعواتهن تقرع أذني كلما خرجت هن الفندق أو عدت إليه. هكذا استقبلتني باريس، بوجه بناتها الطائشات الكاسيات العاريات العارضات لزينتهن وعِرْضهن دون أي شعور بالإثم. ولكن لباريس وجوه أخرى لا يكتشفها المرء عند نزوله. وقد كانت تجولاتي الأولى مجرد محاولات غير جريئة للتعرف عليها في العالم الجديد الذي أصبحت فيه ... ولقد ألقت بي خطواتي، أثناء أحد تلك التجولات الاستطلاعية، قريباً من معهد الدراسات الشرقية، فاغتنمت الفرصة لتسجيل اسمي للامتحان المزمع إجراؤه في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) أو في أوائل تشرين الثاني (نوفبر). فكان إذن لدي ما يكفي من الوقت للاطلاع على أحوال باريس، وقد يُفاجأ المرء أحياناً بما يرى من تلاؤم بين ما يجيش في باطنه، وما يدور حوله؛ وربما تكون هذه الملاحظه مجرد انطباع ذاتي، ولكن كنت فعلاً أشعر أن فصل الخريف في باريس يصب في النفس المضطربة بلسماً يهدئها، وبقي شعوري هذا إلى اليوم ... إنني أحب خريف باريس الفصل الذي تستيقظ فيه المدينة كل صباح كسولاً لتمزق ما على وجهها من ضباب كثيف ثم تنطلق لأشغالها تحت أوراق أشجارها المتناثرة. إن للفصول طابعها النفسي، فالخريف يحدّث النفوس بالوداع والحنين، وربما كان هذا الشعور يلتئم مع وضعي في تلك الفترة الانتقالية بين ماض قريب ومستقبل لا زال غامضاً.

لقد بدأت بحياتي اليومية فرتبتهما في انتظار يوم امتحان الدخول إلى معهد الدراسات الشرقية، أتناول وجبة الغداء قرب محطة (كاديه) للقطار الجوفي في مطعم صغير مع زبائنه العمال، الذين يأتي كل رهط منهم في لباس مهنته على حسب عادة القوم، ليتناولوا قطعة لحم على الطريقة الإنجليزية (بفتيك) يضيف إليها الذوق الفرنسي بعض بطاطس مقلية مع زجاجة نبيذ. بدأت هكذا في هذا الوسط العمالي، ملاحظاتي عن الحياة الفرنسية، الشيء الذي لم يُتَح لي أثناء إقامتي الخاطفة في صيف 1925. إنني آخذ هذه المرة من الوقت ما يكفي للتمعن في الأشياء والتدقيق في تفاصيلها، إذ لم يكن معهد الدراسات الشرقية يتطلب مني أي تحضير. لقد صفا الجو لاهتماماتي الاستطلاعية وتجولاتي الاكتشافية التي ساقتني ذات يوم إلى متحف الفنون والصناعات، بقرب باب (سان دونيس)، حيث وقفت تلك العشية أفكر لأول مرة في الجوانب التكنولوجية للحضارة، وأنا أشاهد بين روائع المتحف، القاطرة الأولى التي تحركت بالطاقة البخارية والطائرة التي عبر عليها (بليرويو) بحر المانش. وكنت أحياناً أقضي العشية في الناحية نفسها على سطح مقهى (كل شيء بخير)، أتتبع ببصري المتسكعين الباريسيين التائهين على الرصيف، يودعون جو الصيف في أيامه الأخيرة، وذلك قبل أن يرتدوا معاطفهم ويسرعوا في خطاهم تحت وابل الأمطار المقبلة. لم أكن بعد أرى الروابط التي تربط هؤلاء القوم بمحيطهم، ولكنني بدأت أشعر عل نحو ما بسعادتهم، أو على الأقل باطمئنانهم، في هذا المحيط الحميم، وأشعر أنني أجني عليه بكل ما تتضمن حياتي من مشكلات خاصة، وما يختلج في نفسي من خواطر لا تمر على بال هؤلاء القوم المتنعمين؛ ولا زلت في تلك الفترة

أتناول وجبات الغداء في المطعم الذي ذكرت، أما العشاء فكنت ألقفه في بيتي أتناول خبزاً وجبناً حرصاً على الاقتصاد. ولكن تجولاتي اليومية بدأت دائرتها تتسع يوماً فيوماً وبدأت تكتسب جرأة، أتعرض بسببها أحياناً لطوارئ مما يتعرض لها رجل الأرياف الذي يحط رحله بباريس للمرة الأولى. أتيت ذات صباح لأخذ القطار الجوفي، وأنا لا أدري كيف أسلك طريقي، وأردت أن أتأكد من اتجاه الخط بالنسبة لوجهتي، فسألت السيدة التي تراقب التذاكر عند البويب فأشارت بيدها: - لا، سيدي، على الرصيف الآخر المقابل. فاتبع بصري إشارتها الواضحة، ولم يبق علي إذن إلا أن أنزل بين الرصيفين وأن أعبر الخطين المكهربين، ثم أن أصعد من الناحية الأخرى من الرصيف الآخر؛ وربما خطر بذهني في تلك اللحظة أن الباريسيين ليسوا على جانب من المنطق العملي، إذ يفرضون على من يخطئ الاتجاه السليم رياضة بدنية شاقة، إن لم نقل خطرة، ولكن لامجال للتردد فإشارة المراقبة كانت واضحة، فحركت ساقي للتنفيذ وتوجهت إلى حيث أنزل بين الرصيفين، حتى اقتربت من الدرج، وإذا بصرخة تنطلق ورائي: - احبس (¬1) يا سيدي! إن المراقبة لم تترك هذا الرجل الغريب ببزّته المشرقة وشأنه، وربما توسمت في وجهه نوعاً من البراءة تعرف به الغريب، فرجعت نحوها فاستمرت تفسر: - يا سيدي إن نزلت هكذا بين الرصيفين فإنك ستتعرض إلى تيار ست مئة ¬

_ (¬1) توتف.

فولت، أرجوك أن تخرج من حيث أتيت وتدخل من الناحية الأخرى من باب الدخول. لا أدري إذا ما فهمت في تلك اللحظة أن الأشياء تؤتى من أبوابها، ولكن القصة تعبر عن ذلك. وحدث لي حادث آخر في ميدان (كنكورد)، فقد ذهبت لاكتشافه ذات عشية عند الغروب، في ساعة يكتظ فيها مرور السيارات بسبب الخروج من العمل، وها هي ذي المصابيح تضيء بنورها الكهربائي محيط الميدان الفسيح دون أن تزيح الظلام المخيم على وسطه تماماً، فعزمت أن أعبر إلى الناحية الأخرى، ولم أكن على خط مرور المارة، فانتظرت أن ينقطع سيل السيارات من ناحيتي، وانطلقت في فضاء الميدان الشاسع فلم أقطع إلا ستة أو سبعة أمتار حتى رجع السيل وطوقتني السيارات من كل جانب، خط يسير أمامي وخط ورائي، لا يترك كل خط إلا قدر القدمين لهذا الرجل المذهول، الذي يبدو للناظر أنه امرؤ يريد الانتحار، كما يبدو أن سائقي باريس لا يحبون من يأتي ليلقي بنفسه تحت عجلاتهم، فكانت كل سيارة تتجنبني قدر الإمكان، بينما سائقها يصرخ في وجهي: - يا عبيط! ... يا بليد! ... وهو حينئذ كأنه يثأر لنفسه من الصدمة التي أصابته من جراء هذا (العبيط البليد) صاحب البزة المشرقة .. ... إن صُبيحات باريس الخريفية تتمطط في خرق من ضباب يغشّي أسطحة المدينة وجدرانها إلى التاسعة، فيبقى التنوير الكهربائي في غرف حراس العمارات وفي المقاهي، التي تقدم للزبائن الذاهبين إلى الشغل قهوتهم إلى ساعة متأخرة.

وكنت في صبيحة أحد الأيام قد تناولت قهوتي بين أُولئك الزبائن الذين حين يطلبون (سوداء) فإنما يعنون قهوة، وحين يطلبون (أبيض) أو (أحمر) فإنما يريدون خمراً معيناً بلونه؛ وكنت أحرص على التزام العادات الشفوية بباريس، متذوقاً روح التيسير والتبسيط التي أشاهدها عند الباريسيين الذين يتجنبون الإطناب والتعقيد، بدليل أنه، عندما أنشئت في أوائل القرن الشبكة الأولى للمواصلات الداخلية تحت الأرض، وسميت رسمياً يوم التدشين (المتروبوليتان)، رأيناهم يتركون هذه اللفظة الطويلة الرنانة ويقولون فقط (المترو) بالترخيم. إنني أستعذب فعلاً هذا الميل الطبيعي للتبسيط ما دام في الحدود السليمة. وقد كان علي صبيحة ذاك اليوم، أن أذهب إلى شارع (تريفيز) وفاء لـ (إبراهيم خالدي) الذي كلفني، قبل مغادرتي تبسة، أن أتصل بصديق له هو الآخر من قدماء (المدرسة) في حاجة بينهما. ولم يكن المكان بعيداً عن الفندق، فقد دلني عليه أحد المارة، فوصلت شارع (تريفيز) وبدأت أرقب أرقام العمارات حتى لا يفوتني الرقم الذي أريد، وإذا نظري يقع على لافتة في مدخل ضخم، يُصعَد إليه ببضع درجات، فقرأت من اللافتة سطراً واحداً: وجبة الطعام، أربعة فرنكات وخمسة وسبعون سنتيماً؛ وفوق رأسي من أعلى المدخل مصباح معلق فوق الرصيف، على زجاجه من الجانبين خمسة أحرف أبجدية سوداء كبيرة يضيئها المصباح حين يوقد، ليلفت نظر المارة ليللاً قرأت الحروف دون أن أفهم فحواها، بينما لا يبدو المحل مطعماً، فقررت الدخول لأن ثمن الوجبة يهمني جداً. دفعت الباب الزجاجي الكبير الذي يفصل، بين المدخل حيث اللافتة وداخل المحل، فوجدت نفسي في قاعة واسعة فيها مصباح ما يزال مضاءً ينير مقدمتها، بينما كان باقي الصالة في الظلام بسبب العتمة المتطاولة تلك الصبيحة.

لم أبصر أحداً في البداية، فوقفت متردداً في مدخل القاعة بينما يكاد الباب الذي دفعته ينغلق برفق من خلفي. وها هو ذا وجه يبرز من الجانب المظلم: - ماذا تريد يا سيدي؟ وإذا الوجه الذي قال لي هذه الكلمات يبدو كأنما أضاء بابتسامته البشوشة ما يحيطني: - إني رأيت اللافتة قدام الباب وثمن الوجبة. قلت هذه الكلمات بشيء من الخجل بدده عني جواب صاحب الوجه: - نعم سيدي، إذا أردت أن تتناول الوجبات هنا فيجب أن تنتسب ... - آه: إذن ما هذا المحل؟ واستمر الشاب يبتسم أثناء هذا الحوار وهو يجيب على سؤالي: - هذه هي (الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين). ففهمت الحروف المكتوبة على الصباح عند مدخل المحل، بينما استرسل الشاب: - إن أردت الانتساب لوحدتنا سأدلك. ثم دلّني على شباك ظهر فيه فوراً صاحبه الذي كان في مكتب خلفي، بينه وبين الشباك فاصل زجاجي، فقدّمني إليه الشاب، فناولني صاحب الشباك استمارة راجياً أن أدلي فيها بالمعلوت المطلوبة، وقد كان علي أن أعرّف بديني وأن أذكر من يزكيني من الناحية الأخلاقية.

هذه اللحظة كانت تعرّضني لأول اختبار أخلاقي يواجهني في العالم الجديد الذي أصبحت أعيش فيه. لقد كنت خلال زيارتي الأولى لفرنسا، قبل خمس سنوات، أدعى (يوليوس) في الرهط الذي جعلهم اليهودي القسنطيني تحت يده، ولم يكن ذلك عن اختيار مني أو طواعية، بينما لم أكن هذه المرة أمام من يريد التصرف في ضميري، وإنما أمام ضميري فقط، فذكرت ديني بكل وضوح. وقد أصبحت هكذا عضواً مسلماً في (الوحدة المسيحية)، وما كان لأمر كهذا أن يكون عادياً في سجلات المنظمة. لا أدري كيف كان انطباع الموظف الذي سجل اسمي، ولكني شعرت أن الشاب البشوش الذي دلني زاد اهماماً بأمري منذ تلك اللحظة، اهتهاماً، تخالطه المودة والفضول، فتقدم ليطلعني على مرافق المنظمة. فاتبعته ونحن نتجاذب الحديث، يسألني عن الجزائر والإسلام، وأسأله عن تفاصيل الحياة في هذا المحل. كانت هذه الوحدة تُدار وتُنظَّم شؤونها طبقاً لضرورات شباب يدرس أو يعمل بعيداً عن بيوت الأهل، قادني الدليل اللطيف إلا الدور الأسفل، حيث توجد قاعة التدخين التي يتناول فيها الشبان القهوة بعد الغداء أو في الصباح، ويستطيع الزائر الدخول من هذه القاعة عبر أبواب اتصال، إلى قاعة للمحاضرات تستعمل إلى جانب ذلك لعرض الأشرطة السينمائية، أو إقامة التمثيليات على مسرحها. ثم نرلت معه إلى دور تحتي سفلي حيث توجد قاعة الرياضة بكل أجهزتها، من بينها مسبح يتسع لمباريات، ثم صعدنا إلى الدور الثاني فوجدنا الموظفين تلك الساعة يهيئون الصحف في قاعة المطالعة، لمن يطالعها من شبان (الوحدة) عندما يأتون لوجبة الغداء، وقد يفضلون مطالعة صحيفة على الوقوف في صف

الوافدين على المطعم المزدحم تلك الساعة، ووجدنا في الدور الثالث عمال المطعم يُعدون قاعة الأكل التي يتوالى فيها كل يوم الوافدون للطعام فوجاً بعد فوج. وكان لهذه الجمهورية المصغَّرة، جمهورية (تريفيز) كما يقول أعضاؤها، نشاط ثقافي مستر تدور بعض فعالياته في قاعة محاضرات إضافية في الدور الثاني خلال المناسبات العادية، وتخصص القاعة الكبرى المناسبات الثقافية الخاصة التي تترك أثرها البليغ في تاريخ الجمهورية، أو لطقوس الحياة الروحية مساء كل أحد. وكان دليلي البشوش يشرح لي كل هذه التفاصيل، كما يُلَقَّن الوارد على شيخه عندما يعطيه سر الورد لأول مرة. والآن بعد أربعين سنة أرى بكل وضوح أن الريح التي دفعتني في شهر أيلول (سبتمبر) 1930، لم تكن تدفعني لمغامرة في أفق بعيد، ولا إلى مرتبة اجتماعية تحققها لي شهادة (معهد الدراسات الشرقية)، إنما كانت تدفعني إلى هذا المكان الذي تكامل فيه تكويني الروحي، ولا بد من القول للحقيقة إن ضميري تفتح فيه إلى كل المشكلات التي شغلت حياتي حتى هذه الساعة. وبدأت صفحة حياتي الجديدة في اليوم نفسه، فقد تناولت وجبة الغداء على مائدة لا يعرفني أحد ممن حولها من شبان (الوحدة)، وتناولت القهوة بقاعة التدخين بين مدخنين لا أعرف منهم أحداً. ولكن في هذا الوسط لا تغيب شاردة ولا نادرة عن ملاحظة المسؤولين. وفي اليوم الثاني وربما في اليوم الثالث، بينما أتناول قهوتي بعد الغداء، إذا برجل شاب يقف إلى جانبي مبتسماً: - أراك منعزلاً أليس لك بعد أصدقاء؟

ذلك الرجل هو السيد (هنري نازيل) الذي يدير مع زوجه اللطيفة روحياً ومادياً شؤون (جمهورية تريفيز). أجل لم تتكون لي بعد علاقة صداقة في الوسط الجديد، لقد كان الأمر بادياً للأنظار، فقد كان الجزائري- في تلك الحقبة- بمجرد دخوله وسطاً أوربياً، ينزوي في قوقعته، وذلك بسبب أفكاره المسبقة عن الآخرين وأفكار الآخرين المسبقة عنه. وتاريخ قوقعتي بدأ ذلك اليوم البعيد من أيام طفولتي، فبينما كنت ألعب على رصيف بمدينة تبسة إذ أصابني رجل أوربي بركلة، ولكن بقدر ما كان (نازيل) يتكلم معي كان يظهر رأسي تدريجياً من القوقعة كالسلحفاة عندما يمر الخطر، وذهب (نازيل) إلى شأنه، واعداً بأن يأتيني برفقائه في الغد. كانت الفترة التي قضيتها بباريس منذ وصولي إلى يوم امتحان (معهد الدراسات الشرقية) على وشك الانتهاء. وبقي الخريف ينشر على الأرصفة الباريسية أوراق الشجر الأخيرة. وأصبحت وجهاً مألوفاً في الحي الذي أسكنه، لا تخاطبني بناته بسوء، ولا أوجه لهن النظر الشزر عندما أخرج من الفندق. ولعل الفضل في هذا الانسجام مع الوسط الجديد يعود إلى روح (الوحدة) الذي بدأ يطبع سلكوي الاجتماعي. وعرّفني (نازيل) فعلاً كما وعد وفي الوقت المحدد، على بعض (الوحدويين) الذين أصبحوا أعز أصدقائي، وغدونا لا نتفارق فكونت مجموعتنا في نظر الآخرين ما أسموه (المجموعة). لقد كانت المجموعة ذات تركيب متنوع وذات عروق متباينة، كان (حنوز) شاباً جزائرياً من عرق بربري، اعتنق المسيحية وهو طفل يرتع مع أقرانه في جبال القبائل؛ وكان (مرسولين) من ناحية نرمندية، جريئاً لبقاً مثل أهل عرقه، قد عاش يتيهأ صغيراً في مسقط رأسه قبل أن ينزح إلى باريس،

حيث تبنته سيدة يقاسمها حياتها هوايتها الموسيقى وواجباتها بوصفها سيدة بيت ترك لها زوجها الفقيد المركيز (دوفرانليو) اسماً بين العائلات النبيلة التي تقطن حي سان جرمان. وهذه المرأة النبيلة التي تبنت صديقنا (مرسولين) تبنت كذلك مجموعتنا التي كانت تضم أيضاً (ريمون)، إذ تزوجت أمه في شرق فرنسا بعد وفاة الأب، وهو الآن مساعد موثق مشهور بباريس، وكانت ميزته الصمت مثل أصحاب مهنته غير أنه كان رقيق الشعور كابن عائلة مؤدبة، ثم (جان سانشيز) الذي كان يفخر بجدته الشاعرة العجوز التي تهدي قصائدها للإله (بعل)، وربما يفخر باعتباره يمتّ لعرق إسباني تعتريه الخيلاء والكبرياء، ثم (بنيجن) الجرماني الأصل وآخرون. فأضفتُ إلى (المجموعة) واحداً ربما كان أغربهم لأنه مسلم جزائري. وكان هؤلاء الأفراد كلهم يلتحمون فيما بينهم بفضل الروح التي تبثها (الوحدة) بين كل أفرادها، من (نازيل) إلى أصغر شبل تقوده أمه من يده لعشاء ليلة الأحد، إذ كانت هذه المناسبة تجمع أسبوعياً، كل أعضاء جمهورية (تريفيز) في مأدبة تنتهي دائماً بطلب الحاضرين. - كلمة يا (نازيل)! كلمة يا (نازيل)! يخرج هذا الطلب من كل الصدور بنفس واحد ووزن واحد، فيقوم دائماً (نازيل) ليقدم التحيات وبلاغاً خاصاً بحياة الجمهورية. وكانت هذه الألوان الاجتماعية غريبة عني بأنسها وبساطتها، لم أعهدها حول عالم من علمائنا ولا زعيم من رعمائنا. ويتبع أحياناً هذا العشاء مهرجان سينمائي أو تمثيلية في القاعة الكبرى، حيث يجد كل مشارك قسماً من الإنجيل على مقعده ليسهم في الطقس الذي يقام قبل المهرجان، فيصعد حينئذ (نازيل) على أخشاب المسرح ليقيم الطقس بكل خشوع.

كنت في هذه الفترة تعرفت أيضاً على مصور زيتي شاب اسمه (رونيه)، يتأهب للزواج من فتاة يزور أهلها من حين إلى آخر، فأخذني مرة في إحدى زياراته لأسرة خطيبته، وكانت أسرة برجوازية بكل ما تتضمن الكلمة من جوانب مدح أو ذم في تلك الفترة التي كانت فيها البرجوازية هي الأمينة على تقاليد المجتمع الفرنسي، والمحافظة على كل سخافاته في آن واحد. لقد أثارت زيارتي كل الاهتمام وكانت موضوع الملاحة من طرف الأم الأيّم وبناتها مع شيء من الاستغراب، لأنني لم أكن أقدم بلحمي ودمي الصورة الذهنية التي ألفها القوم عن (أهلي) الجرائر، كما صورتها لهم روايات أو صحافة ذلك العهد. وقد تناست الأسرة الكريمة حتى اللون المشرق لبزّتي، مع أن الأم قد حدّقت وصعّدت فيّ النظر من أقدامي إلى رأسي عندما وصلت، غيرأنني لاحظت - عندما دار الحديث طليّاً عن أحوال الأدب، وذكر بمجرد الصدفة اسم (ربندرانات طاغور)، وتكلمتُ عنه ما تكلمت- لاحظت أن أصغر البنات سنا قاطعتني قائلة: - آه! تعرفون (طاغور)؟ فصوبت لها الأم نظرة قاسية، تظاهرتُ بأنني لم أرها. وكانت زياراتي إلى هذه الأسرة مع صديقي (رونيه) تكشف لي عن الحياة الأوربية من الداخل في نطاق عائلي، بينما لم أكن في الجرائر أعرفها إلا من الخارج، وكانت اتصالاتي داخل (الوحدة) تكشف لي عن الجانب الروحي الذي لم أكن ألمسه البتة في الإطار الاستعماري، كأنما الموظف الإداري الذي يمتطي الباخرة بمرسيليا متوجهاً إلى الجزائر، يتجرد من كل ميزاته الحضارية. لم أتعرف بعد على الحي اللاتيني، ولكن ساقتني الصدفة خلال عشية في أحد تجولاتي، إلى ضفة السين حيث يقوم سوق الكتب المستعملة، وتقوم الزبائن

المتسكعة أمام تلك الدكاكين الغريبة، كل دكان يكون له صندوق من الحديد يفتحه صاحبه ليعرض كتبه، ويغلقه عليها عندما يقفل راجعاً قبل الغروب، حيث لا إنارة في هذا السوق العجيب. فأصبحت أتردد عليه مع من يتردد، فأقف أطالع حتى أنسى أحياناً البائع الذي يترك كلاً وشأنه، دون أن يزعج أحداً يحجز كتاباً ومكاناً أمام صندوقه، وتمر الساعات الصامتة تقطعها من حين لآخر صرخة سيدة تمر وراء صف القراء الواقفين: - الله! .. الله! .. إن صاحبة الصرخة قد أصابتها، فوق شعرها أو فوق معطفها الجميل، فُضالة ألقاها عصفور من أعلى الشجرة. العصافير الباريسية هي بدون مواربة (أقبح سكان باريس)، تنشر الذعر على أرصفة المدينة في حدائقها عندما تتخلص مما في بطونها، خاصة فوق رؤوس السيدات. كانت تلك العشيات الخريفية، من فترة انتظاري الدخول لمعهد الدراسات الشرقية، خصبة جداً في الانطباعات من كل نوع، تلك الانطباعات التي كونت بالنسبة لي المعلومات الأولية عن وسطي الجديد. ذهبت ذات يوم مع (رونيه) إلى حفلة استقبال أقامتها أسرة خطيبته. وقد أخذ صديقي باقة زهور طبقاً للعرف الذي كنت أجهله، لأننا بـ (تبسة) أو (أفلو) عندما ندعى لمأدبة، نذهب لنأكل (كسكوسي) ونشرب لبناً دون أن نفكر- في الزهور لسيدة البيت، ولم يكن مع هذا ليفوتني رونق ورِقة العرف في الوسط الجديد. فوجدنا عند وصولنا جماعة من سيدات جالسات ورجال واقفين، هذا يدخن وذاك يأكل من لذائذ صغيرة أعدت خصيصاً، وتلك تتحدث بينما يصل مدعوون آخرون، وكان صديقي مهتماً بالجانب الشكلي، ككل من يداعب مهنة التصوير، فوجه اهتمامي إلى أحد الحاضرين وكانت تبدو عليه الكياسة والملاحة بوجه خاص.

كانت هجرة (الروس البيض) تصل أمواجها، الواحدة تلو الأخرى إلى باريس، أحياناً بعد منعرجات ومنعطفات طويلة، وكان الرجل الذي أشار إليه صديقي من أولئك المهاجرين، قد قذفته الثورة بعيداً عن وطنه، وكان كثير من مواطنيه النبلاء يصلون مثله إلى باريس فيلبسون لباس سائق سيارة الأجرة، أو يفتحون مطعماً روسياً. وأصبحت بَاريس في تلك الفترة تحب أكل (الكفيار) وشرب (الفدكة) والاستماع إلى (البلاليكة)؛ وها هو ذا الرجل المهاجر منسجم في الوسط الفرنسي كأنه في بلاده أكثر من كل (أهلي) ينزح من المستعمرات الفرنسية. ها هو ذا يوم امتحان الدخول لمعهد الدراسات الشرقية قد أتى. وكانت في هذه الفترة قد حولت مسكني من الفندق الأول، إلى آخر أقرب منه، إلى باب (سان دونيس)، في شارع القمر حيث توجد مدرسة اللاسلكي قريباً من مسكني الجديد، ولم أكن أشعر أن الأقدار كانت تنسج خيوط حياتي. فاستيقظت ذاك اليوم مبكراً، ولم أكن أشعر بأي رعب تجاه الامتحان، فتوجهت بكل اطمئنان وهدوء إلى المعهد فوصلت قبل الوقت، واستطعت التعرف على بعض الإخوان من المرشحين، وتعرفت على الخصوص بشاب من ناحية (الباسك)، مرشح مثلي لقسم العربية. ونوديّ علينا فدخلنا، ولم تبد لي أية صعوبة في الاختبارات ولكن النتيجة كانت خيبة أمل: لم أنجح!! .. وليس هذا كل ما في الأمر، بل لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى من الإصرار على الدخول إلى معهده، فكان الموقف يجلي لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع- بالنسبة لمسلم جزائري- لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي.

ونزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدّم، فكان هذا الفصل الأول من مأساة خيبة الأمل وعدم جدوى العمل وحدي؛ وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي تحطم أيضاً على صخرة الإرادة المقرَّرة في خفاء لدى الدوائر التي تسهر على المصالح الاستعمارية العلية. لقد أدركت في تلك اللحظة نفسها ما سيتبع عبارات المدير من نتائج عملية دون أن أحللها، إذ لم أكن بعد قد اكتسبت خبرة هذا التحليل، الذي يريني اليوم بكل وضوح درجة القرابة بين هذه العبارات وما قاله لي قبل سنة مدير شؤون الطرق بمدينة (تبسة)، عندما سألته عن شروط الإسهام في المزايدة التي تجري كل سنة تحت إشرافه لإصلاح الطرق، أو لفتح طرقات جديدة في الناحية، وقد اهتممت حينئذ باستغلال وسيلة نقل كانت لدي أستطيع بها نقل مواد الطرق من أحجار وغيرها. ولكن عوض أن يدلي إليّ بالمعلومات المطلوبة، أدلى إليّ سيادته بنصيحة: - الأفضل أن تبيع ما عندك من وسائل نقل إلى مسيو (كانبون) أو مسيو (سبيتري) فإن المزايدة بين أيديهما. واليوم بعد أربعين سنة، أرى بكل وضوح أن الرجلين، المدير المتواضع لشؤون الطرق بتبسة والمدير المحترم لمعهد الدراسات الشرقية، إنما يتكلمان لغة واحدة (لغة الاستعمار): فهذا حرمني من أن أصبح مقاولاً في مصلحة الطرق وذاك حرمني من فتح مكتب محاماة بتبسة بعد سنوات الدراسة بباريس. ولم أكن أشعر أن الأقدار كانت تحيك أمرها بطريقتها، ولا أتذكر اليوم كم مرّ عليّ حينذاك من وقت عشته وأنا لا أعلم كيف أوجه خطواتي، وذلك قبل أن يزورني صديقي الفنان، وإذا (رونيه) يزورني ليقص عليّ ملاحمه الغرامية

كعادته، وقصصت عليه قصتي؛ كنا متكئين على حرف نافذة الغرفة المطلة على شارع القمر، إذا بفوج من طلبة مدرسة اللاسلكي يخرج، وإذا (رونيه) يقول لي بعد لحظات تيه: - لماذا يا صديق، لا تغير اتجاهك وتنتسب إلى هذه المدرسة؟ لم يكن ذلك ليخطر ببالي، ولكننني أدركت أهمية الإشارة: - أتصحبني يا (رونيه) إلى مكتب المدرسة نسأل عن شروط الانتساب؟ ونزلنا حالاً، وأدّت لي موظفة المكتب المؤدبة كل المعلومات، ولئلا أنسى منها شيئاً قدمت لي كراسة المدرسة المطبوعة، فدرستها تلك الليلة فصلاً فصلاً وسطراً سطراً، فكان الانتساب على درجات مختلفة، من مهندس لاسلكي إلى مصلح الأجهزة، حسب إمكانيالت المرشح الرياضية ومدة الدراسة التي يريدها؛ شعرت أن إمكانياتي متواضعة لأنني تركت الرياضيات مند سنتي الأولى بمدرسة قسنطينة، ونسيت حتى مبادئ هذا العلم منذ عشر سنوات، فقررت إذن أن أنتسب إلى درجة مساعد مهندس، شرط أن أستعيد على الأقل المبادئ في الفترة التي بقيت حتى دخول الفوج الثاني للسنة الدراسية حسب نظام المدرسة، إذ سبقني الفوج الأول بشهر. وكان علي إذن أن أسرع الخطوات حتى أستطيع السير مع الركب في كانون الثاني المقبل، وقد ساعدني الحظ أثناء تجولاتي السابقة، إذ وقفت يوماً أمام مكتبة تعرض كتب الأب (مورو) الذي كان ينشر في تلك الفترة سلسلته الشهيرة (لتفهم). كنت أريد أن أفهم كل شيء: الجبر والهندسة والكهرباء والطبيعة والميكانيك، وكانت كل هاته المواد فعلاً معروضة في سلسلة الأب (مورو) بطريقة تزيد أو تنقص تعمقاً، ولكنها دائماً واضحة مقربة السبيل، لا يكلّ هذا

المبسط الجديد الذي كان مديراً لمرصد (بورجس) ولا يمل، من تبسيط الأشياء المعدة في كتبه ذات الغلاف الأحمر التي أخذت شهرة فريدة في الآفاف المدرسية. وانطلقت يحركني إيمان الوارد على دين جديد، فكانت هذه الفترة الدراسية بالنسبة لي لا تقف عند حدود تهيئتي لدخول مدرسة اللاسلكي، بل غيرت جذرياً اتجاهي الفكري، إذ أنها أسكنت في نفسي شيطان العلوم؛ ولم يكن الأب (مورو) قد فتح أمامي باب مدرسة معينة، بل فتح لي باب عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى القياس الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد أول ما يتسم، بميزات الضبط والملاحظة. وكنت بهذا الطريق أيضاً، أدخل الحضارة الغربية من باب آخر، بعد أن دخلت من باب (وحدة الشبان المسيحيين الباريسيين). وأصبحت أتردد على متحف الصناعات والفنون، ولكن بنظرة جديدة للأشياء، لذلك لم يصبح المتحف مجرد مكان جمعت فيه غرائب وعجائب ما أنتجه الفن والصناعة، ولكنه المستودع المقدس الذي أودعت فيه هذه الحضارة، أعلى ما أنتجته عبقريتها العلمية والتكنولوجية بوصفها شهادات أمام التاريخ على مراحلها المختلفة. فلما دخلت إلى مدرسة اللاسلكي، كنت الرجل غير الذي نزل قبل ثلاثة أشهر بباريس في صبيحة من شهر أيلول (سبتمبر) الماضي. لم تعد تجذبني أحلام الآفاق البعيدة، ولم يستملني مركز اجتماعي مرموق، لم يعد لي من حلم غير تحصيل العلم، وأصبحت أشعر كأنني حُمّلت جميع آثام مجتمع يبحث عن الخلاص من بؤسه، كأنني بالنسبة لذلك المجتمع كبش فداء شاعر بثقل ما حمّله من مسؤوليات ومحن وآمال ليحقق له الخلاص بفضل دراسته. فانكببت على تحصيل العلم بلهفة من يرى كل ما في وطنه وفي المجتمع

الإسلامي من جهل ومن أصناف الانحطاط، ولا يمكن لأحد أن يكون كبش فداء لقوم، دون أن يتصور بطريقة ما أنه المنقذ المبعوث إليهم. هكذا كانت حالتي يوم دخلت مدرسة اللاسلكي ... ... كانت اللاسلكي في بدايتها إذ ذاك، فزودتني المدرسة، مقابل مبلغ معين، بكل الأدوات التي تحتاج إليها الدروس التطبيقية، في صندوق يكتب عليه الطالب اسمه ليبقى في الورشة. هكذا تم تجهيزي للمرحلة الجديدة، وانتظمت فيها حياتي بين غرفتي أعمل بوصفي إنساناً لا يمهل ولا يهمل، والمدرسة أتبع الدروس، و (الوحدة) ألتقي الأقران وأتناول معهم وجبات الطعام. وكل ناحية من هذه النواحي الثلاث أصبحت تستقطب حياتي بصورة ما، فأجد نفسي في الغرفة أعيش مع أهلي، أتذكرهم كما وقع بصري على صورة والدتي ووالدي التي أخذتها من تبسة، وكأنني أكتشف جمال والدتي الوقور للمرة الأولى، لأن أصدقائي الباريسيين يجدونها امرأة ذات هيئة وهيبة، عندما ينظرون ملامحها في الصورة التي أمامي على المكتب، فكانت والدتي كأنها حاضرة معي، يدفعني حضورها إلى العمل ويذكرني أنها تنتظر رجوع ابنها مكللاً بالنجاح، حاصلاً على الشهادات التي تحقق المركز المرموق، فيزداد نشاطي حرارة، وتصميمي على تحصيل درجة مهندس مساعد. ولعل طموحاً غامضاً بدأ منذ تلك الفترة يخامر نفسي، يحدثني بتحصيل درجة أعلى ويجعلني أتساءل عن مؤهلاتي الفطرية: - هل أنا ذكي؟

لقد أصبح هذا السؤال يتردد في نفسي، بصورة أعنف من تلك التي عرفتها في المدرسة بقسنطينة وفي السنوات التالية، عندما كنت أردد: - ماذا أفعل؟ فهذه صورة الأب (مورو) على كتبه أمامي لو اتخذتها مقياساً أقيس به درجة ذكائي بالنسبة إلى ذكائه، إذ أنه في نظري الدرجة المثلى. فأوازن اتساع جبيني حسبما أراه على ظل رأسي كما تعكسه أشعة النور الكهربائي على جدار الغرفة، مع اتساع جبين الفلكي الشهير كما أراه في الصورة، فيكون بعد ذلك جوابي على سؤال (هل أنا ذكي) حسب ظروف اليوم، وحسب المقدار الذي هضمته من الجبر والميكانيك والمثلثات. أما في المدرسة فلقد أصبح صندوقي للجهاز التطبيقي، صندوق الأحلام. كنت إذا فتحته على المنضدة وتناولت منه أدوات العمل لألحم خيوط السلك أو أقطعها أو أمدها حسب زوايا معينة، كنت أعمل هذه الأعمال وأنا أشعر بنشوة الطفل البريء الذي وضع في يده جهاز لعب جديد أكثر تعقيداً من ذي قبل. لم تكن تلك الساعات في الورشة مجرد لعب، بل كانت ممتلئة بشعور الوارد على دين جديد، يقوم بطقوسه في معبد هذه الحضارة الآلية التكنية. ولم تكن أيضاً تخلو من ملاحظات وبواكر تفكير اجتماعي بدأت تخامر عقلي. فبينما تلك الأدوات البسيطة في يدي أشعر بأنها ليست لمجرد اللعب، بل هي دلائل على مقدار تطور المجتمع، لأن المجتمع البدائي آلته اليد والإصبع. يقال أحياناً عن الشعب الفرنسي إنه ذو دعابة، هوايته ترقيع الأشياء أو صنعها بنفسه، بما لديه من وسائل في بيته؛ والواقع أن الفرنسي، ما إن يخرج من مكتبه أو مصرفه حتى يصير في بيته نجاراً وحداداً وكهربائياً ومصلح أقفال ومفاتيح، فتراه يدق أو يخرم ثقباً في حائط. فلعله بذلك يصنع شيئاً بكلفة أكثر

من ثمنه لو اشتراه جديداً، أو كلف به صاحب المهنة، ولكنه يبرهن بذلك على أنه رجل الحضارة التكنية التي تحلل الذرة وترسل الصواريخ. ولا ريب أن الأطفال ينشؤون في هذا الاتجاه منذ صغرهم، إذ الهدية الأولى التي تقدمها لهم الأسرة لعب (الميكانو). يقابل ذلك أنه في الجزائر على سبيل المثال وفي الفترة التي نتحدث عنها، لا يجد رجل الريف في بيته إذا أراد إصلاح آلة محراثه للحرث، مطرقة ولا مسماراً ولا قطعة سلك، بينما يتسلى رجل الحاضرة بلعب (الدومينو) والأوراق. لم أكن في تلك الفترة لأقف كثيراً عند هذه الملاحظات العابرة، وإنما كنت أتناول بكل اغتباط تلك الأدوات التي صنعتها الحضارة التي استخدمت النار والحديد، وأتذوق أثناء عملي كل ما في اللحظة من عذوبة بسيطة. أما (الوحدة) فلأنها كانت تغذي في نفسي الجانب الروحي، وتعرض على فكري اهتمامات وموضوعات أخرى: كنت في جوها الخاص أعقد الصلة تلقائياً بين القيم الاجتماعية والتكنية، التي أشاهدها وأتدوقها في الشارع وفي المدرسة، والقيم التي أراها في هذا الجو، الذي يجد فيه الشباب (الوحدوي) روحه المسيحية في دقيقة التهجد عندما يقيمها (هنري نازيل)، وكنت بدوري اكتشفت خلال تلك الدقيقة، ما تنطوي عليه الروح المسيحية من حرارة في عقيدتها، ومن طاقة على الإشعاع. وربما كشفت لي هذه الملاحظات عن جوانب في روحي المسلمة لم أكن أشعر بها قبل بالحدة نفسها، إذ لم تكن روحي الموحِّدة تتسع للمفاهيم الثالوثية التي يحملها إخواني (الوحدويون)، وبدأت فعلاً تدور بيني وبينهم محاورات تدخل موضوعات جديدة في جو (الوحدة) وتساؤلات جديدة عند رفاقي. وربما بدأ (مرسولين) يتأثر بأفكاري، لأنه أصبح يُبدي بعض التفاهم مع

(حنوز) ذلك الشاب الجزائري الذي اعتنق المسيحية في طفولته البائسة، حتى انفجر يوماً بينهما ذلك الوضع في شبه مشاجرة كلامية، أثناء نوع من التقويم الروحي لمجموعتنا قام به (مرسولين) وهو يعد على أصابعه. - الصديق مسلم وريمون كاثوليكي، وأنا ما أدري ما أنا ... و (حنوز) بروتستانتي، فقاطعه على الفور (حنوز) وعلامات الغضب بادية على وجهه: - من قال لك إنني بروتستانتي؟، فشعرت أنه أخذ بدون شعور، في طريق العودة إلى دين أجداده، وقد كنا مجتمعين في غرفة صغيرة أظنها غرفة (ريمون) لأنه كان يسكن داخل (الوحدة) عندما دار هذا الحوار. ومن الطبيعي أن يصل صدى مثل هذه المحاورات داخل الوحدة إلى من يهمه الأمر، ولا ريب أن (نازيل) قد فكر إذن في كيفية صيانة الأرواح الداخلة تحت رعايته، فرأيته يوماً يبادرني بالحديث أمام أصدقائي ليدحض بحجته نظرياتي الإسلامية ويكشف أمامهم مقدار ضعفها. فدار الحديث بيني وبينه، وكانت نتيجته في آخر المطاف غير ما كان ينتظر، لأن المنطق المسيحي بما يتخلله من تعقيد قد ولى أمام منطق الإسلام السليم: لم تكن العقيدة الثالوثية تستطيع الجدال مع العقيدة الموحِّدة الإسلامية. ولم أكن أشعر حينئذ أنني كنت أضع الأقدام في مجال حرام، في الوقت الذي كان فيه الاستعمار يخطط لإرساء أمره نهائياً في الشمال الإفريقي بتنصير أهاليه. وكأنما كان حواري مع (نازيل) تكذيباً لخططه في صورة مصغرة. ما زلت الشاب الفاقد لخبرة الأشياء، فلم أدرك خطورة موقفي في نظام استعماري لا يترك مجالاً لأفكار الرجل المستعمَر ولا لعقيدته. ***

كنت في هذه الأثناء عقدت بعض الصداقات بمدرسة اللاسلكي، من بينها صداقة مع شاب يهودي نزح مع أسرته من رومانيا، غداة الحرب العالمية الأولى، عندما استولى السوفيات على مقاطعة (بساربيا) ومسقط رأسه بمدينة (كتشينيف). كنا نذهب كل عشية سبت إلى سوق البرغوث (¬1) بباب (كلينيانكور)، وفيه يتسكع الباحثون عن خردوات يشترون منها بالثمن البخس، ما يصلحون به آلة أو يلفقون به جهازاً، فكنا نحن نبحث عن أجهزة لاسلكي قديمة لنفككها ونركبها من جديد حتى نتمرن في مهنتنا. وكان صديقي يدعوني أحياناً إلى بيته، فتستقبلني عمته وبناتها بكل كياسة ويقدمن لي غالباً الشاي بالليمون، وأتيح لي خلال تلك الزيارات أن أكون فكرة أقرب للواقع عن المشكلة اليهودية في العالم. كان كل فرد في هذه الأسرة يحصّل قوته بكد يديه وعرق جبينه، وكانت إذ ذاك تقليعة الأحذية المشبكة شائعة بين السيدات بباريس وفي العالم، فكانت أسرة صديقي (كرليك) تشتغل طيلة النهار في إحدى غرف الشقة، التي صارت بسبب ذلك ورشة تعمل فيها الآنسات لحساب متجر من تلك المتاجر الضخمة المشهورة في باريس، بينما كانت الأم العجوز تقوم بشؤون المنزل. وكان صديقي هو الذي يذهب للمتجر الكبير مرة في الأسبوع، لتموين الورشة من الأشرطة الجلدية الملونة، وليأتي بأجر قريباته. كان فكري وأنا منكب في ناحية من الشقة على جهاز الراديو، أفكك أو أصلح، يراقب صعود جنس للاستيلاء على العالم، كنت أشعر بأن البنتين كانتا من النوع المثقف جعلتهما الضرورة تحصّلان القوت بعمل اليد، وألاحظ لهما رأياً ¬

_ (¬1) هكذا كان يسمى بسبب الأشياء القديمة التي تعرض في السوق للبيع.

مدققاً في الأشياء قلما يطرحانه في الحديث، فيدور أحياناً الحديث في الدين أو السياسة دون أن تترك البنتان العنان لجهر القول في الموضوع، ولكن صدق الشاعر الجاهلي زهير: ومهما تكن عند امرئ من خليقة … وإن خالها تخفى على الناس تُعلم رحنا ذات يوم نتحدث عن نظريات (فرويد) في الأحلام، وانطلق كل واحد يذكر بعض ما رأى، فذكرت بدوري: - إنني رأيت مناماً: أصعد إلى النجوم ... وإذا بكبرى البنتين تقاطعني: - صحيح؟ هل صحيح أنك رأيت هذا؟ كررتِ السؤال مرتين أو ثلاثاً، وقبل أن يرجع لي نفسي قالت: - إذا كان صحيحاً فإنك ستصير رجلاً مشهوراً. ففهمت أنها تؤمن بالعهد القديم أكثر مما تؤمن بفرويد، فقد فسرت الحلم بكل وضوح حسب قصة يوسف في الكتاب المقدس، بينما كانت هذه العانس اليهودية تصرح في كل حديث دار على الدين قبل ذلك، بأنها لم تلقن أي شيء ديني في طفولتها بـ (كتشينيف). وإذا بزلة لسان تكشف لي فجأة، عن أن السيدة لا تعلم تاريخ النبوة في العهد القديم وحسب بل تؤمن بهذا الكتاب كما أومن أنا بالقرآن. لماذا لا يريد اليهودي أن يكشف عن ذاته؟ مهما يكن الأمر، فالسؤال يذكرني حادثاً آخر جرى في الأسرة، فبينما كنا مجتمعين معاً في الورشة إذا الجرس يدق، فذهبت العجوز إلى الباب، وإذا صوت الزائر والزائرة يجعل البنتين تتركان الشغل وتلحقان بأمهما، فبقيت وحدي في

الورشة مع طفل صغير لقريبة من الأسرة، وكان الطفل يبتسم لي فداعبته: - لماذا تبتسم؟ - لأن أمي قالت لي أن أبتسم للناس حتى ولو كرهتهم. فهذا الاعتراف البريء لطفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، واعتراف قريبته عن زلة لسان في يوم سبق، تركا في نفسي بعض الحيرة: لقد بدأت المشكلة اليهودية تتكون في ذهني. لم تكن الجزائر بعيدة عن ذاكرتي جداً، إذ بقي بيني وبين الوطن الرابط الروحي قوياً. ما زلت أعبر عن أفكاري الإصلاحية وأفكاري الوطنية وأجهر بموقفي ضد الاستعمار، حتى في المناسبات التافهة عندما كنت أتسكع مع صديقي الباسكي، على أرصفة الشوارع الكبيرة يوم الأحد على مدار السنة، وكنا على أعقاب الشتاء في متوسط الربيع، وكانت الأشجار تنفض بقايا الجليد، وبدأت العصافير تواصل معاركها الغرامية بكل جرأة قريباً من أقدام المارة على الرصيف. وفي هذه الأثناء وصل من تبسة (عبد المجيد خالدي)، الذي سيكون - لحسن الحظ ولسوئه- الصلة بيني وبين الحي اللاتيني، إذ أنني سأعود هنا إلى الوسط الجرائري ومشكلاته مع مشكلات العالم الإسلامي. وفي الوقت الذي اكتشفت فيه الحي اللاتيني، كان ميداناً لصراع محتدم يقود معركته من الطرف التونسي (صالح بن يوسف وثامر وسليمان بن سليمان)، ومن الطرف المراكشي (بلفريج ومحمد الفاسي) اللذان كانا يهدفان مع الإخوان التونسيين، إلى توحيد الصف بين طلبة الشمال الإفريقي المسلمين، فأسسوا من أجل ذلك أول مركز يحمل هذا العنوان بشارع الودرو رولان).

وبطبيعة الحال كانت الإدارة الاستعمارية بالمرصاد، تعمل على إخفاق المشروع، وتسخّر من أجل ذلك الانفصاليين من الطلبة الجزائريين المتمسكين بالبربرية، وبعضهم تمسكوا بمسيحية جوفاء انقادوا إليها بغية الدنيا بدوافع انتهازية صرفة، فكانت على الصعيد الطلابي تدور المعركة بين (الوحدويين) والمنشقين، الذين كانوا في أغلبهم من الجزائريين المنضمين لوحدة إقليمية جرائرية تضم أيضاً أبناء مستعمِري الجزائر. كان عل رأس المنشقين (عمار نارون) الذي يعمل بإيعاز الإدارة، تحت إشراف رئيس المجلس البلدي لمدينة باريس (المسيو كولين)، وكان على اتصال بالأوساط الاستعمارية العليا المستعدة لتحقيق رغبات أي منشق، وكان صدر أكثر من طالب جزائري يجيش بالرغبات ... هذه صورة وجيزة للصراع المحتدم في الحي اللاتيني بين الطرفين في تلك الفترة، عندما وضعت فيه أقدامي واتخذت في المعركة موقفاً ضد الانفصاليين، دون أن يخطر ببالي أن لموقفي هذا أي صلة بوضع أبي موظفاً صغيراً بالجزائر. لم يكن عدد الطلبة الجزائريين في الحي اللاتيني كبيراً، إذ لم يصل بعد إلى باريس الجيل الذي منه أصدقائي (بن الساعي وعلي بن أحمد وبن شيكو وعمر عياش)، فلم يتبعني في الحلبة إلا طالب الحقوق (بن عبد الله)، بدافع الولاء والصداقة أكثر من الدافع الفكري أو السياسي. أعلنت انضمامي ولكنني أخفيت شيئاً مقرراً في نفسي، هو أنني عندما تنتصر فكرة الوحدة سأكون حلقة الوسط بينها وبين (وحدة الشبان المسيحيين الباريسيين) ليتلقى فيها بنو قومي دروساً في أمور ربما عجزت حينذاك عن تسميتها، وإنما أسميتها اليوم دروساً في الفعالية وفي الأسلوب أو بكلمة واحدة: (في الحضارة).

تلك كانت رغبتي في تلك الفترة، ولكن لم تسعفني الظروف على تحقيقها، إذ لم يتبعني في المغامرة على تلك الضفة المسيحية إلا (محمد بن الساعي وهادي نويرة) الوزير الحالي للمالية بتونس، وقد اتبعاني فيما بعد بخطوات مترددة. لا أدري إن لاحظت- ولكن كان بإمكاني أن ألاحظ من هذه المناسبة- أن النخبة الإسلامية قد استولى عليها حب الظهور في المراتب السياسية، فقد أهملت المشكلات الرئيسية التي يواجهها العالم الإسلامي اليوم، بينما لو كان لهذه النخبة نصيب من الإدراك والنزاهة والتواضع لحلت تلك المشكلات منذ ثلاثين سنة. ولكن القوم كانوا يتصارعون على أن يصبحوا (زعماء) و (أبطال) المعارك الانتخابية، فسلكوا بشعوبهم ملتويات السياسة ومنعرجاتها بدعوى أنهم يختصرون الطريق، في حين أنهم زادوا في طولها. إنني اليوم أرى هذا بكل وضوح، أما في تلك الفترة البعيدة فكان حسبي أن أدعو فقط. فدعوت في الحي اللاتيني للإصلاح والوهابية والوحدة الغربية أي للشعارات المختلفة التي كانت تغطي معنى واحداً (الإسلام). وكان صدى تلك الدعوة يصل إلى جمهورية (تريفيز)، فلم يتخلف (مرسولين) - الذي كان بوازع عرقه النرماندي لا يقعد حتى يُصيّر كل فكرة عملاً- عن اتخاذ التدابير لإنشاء مجلة شهرية توزع على الوحدويين بالحي اللاتيني وعلى أصدقاء جمهورية (تريفيز)، ولم تكن السيدة (دوفرانليو) الأم المربية لمرسولين لتتخلف بدورها عن تأييد كل مشروع خيري، فقدمت المساعدة المالية للمجلة فظهر عدد منها بتقديم مني، وزع حتى في الجرائر. وبدأت باريس تعد عدتها وتجمل وجهها لاستقبال زوار معرض المستعمرات، الذي أقيم بباب (فنسين)، إشادة بالعهد الاستعماري وبلوغه الأوج، وامتد للقطار الجوفي خط جديد فُتح بابه- البابا المذهب- استعداداً ليوم التدشين.

وكان المقاولون في ذلك الربيع 1931 يسارعون في أرجاء المعرض لإنهاء أشغالهم في اليوم الموعود. وجُمع داخل سور المعرض كل ما يجعله أكبر متحف يعرض فيه، ما يطبعه الاستعمار بطابعه الخاص وأساليبه المختلفة وما تنتجه المستعمرات من خيرات، وما أنتجته من فنون من أبسط كوخ إفريقي على ضفة النيجر، حتى أروع صورة في البناء، مثل معبد (أنكور) الذي تبوأ مركز المعرض بهيكله الشامخ، إذ يراه الزائر من كل أطراف المعرض، بينما لم يشيد إلا على نسبة الربع من حجمه الحقيقي. وانطلقت في الآفاق داخل فرنسا وخارجها، حملة إعلان صاخبة، وبدأ كل من يمتّ بصلة إلى التجارة في باريس، يهيئ نفسه لاستغلال المناسبة كيفما استطاع. وذات يوم أتى صديقي الباسكي ليتناول معي الغداء بمطعم (الوحدة) وإذا به يقول لي: هل مررت أمام دار الـ (با). دار الـ (با) متجر كبير للملابس الجاهزة، على مقربة من شارع (تريفيز)، في مقتطع شارع (مونت مارتر) وشارع (سان دونيس)، ولم أكن ذلك اليوم أتيت من الناحية التي يشير إليها صديقي، فاستمر قائلاً: - أتعلم أن دار الـ (با) قد غلفت وجه عمارة تبنى الآن أمامها، بلافتة ضخمة يذكر فيها اسم النبي محمد ... بنوع من الاستخفاف؟ فلم أفهم ... أي صلة بين محمد، والملابس الجاهزة، ودار البا، وحق المعرض كله؟ .. فعلاً، لم أفهم.

ولكن ما إن تناولنا آخر لقمة حتى خرجنا فوجدت فعلاً الجدار من الخشب الذي يقام احتياطياً على وجه كل عمارة جديدة، تغطيه لافتة تتضمهن إعلاناً شعرياً لا أتذكر وزنه ولا نصه، وإنما أتذكر منه البيت الأخير (ومحمد مات بعدما اعترف أن لا إله إلا البا)، الذي ترك في ذاكرتي أثر الجرح. لقد كان فعلاً جرحاً لم أستطع تحمله ذلك اليوم، ولم أعرف كيف أشفي غليلي، ولا على من أصب غضبي بسببه، غير أن فكرة غامضة توجهني إلى الحي اللاتيني بعد أن نقلت على كراستي نص الإعلان الشنيع، فحاولت أن أصب غضي في ضمير إخواني الطلبة الجزائريين فلم أوفق، وانقلب غضبي في ضميري إلى هيجان الكلب المسعور فتوجهت إلى مسجد باريس، لعلي أجد مديره المشرف على الشؤون الإسلامية، فلم أجده. ولم يبق إلا أن أسلم الورقة التي نقلت عليها شعر البا إلى إمام المسجد، راجياً منه أن يسلمها للمدير (السيد بن غبريط) حالما يعود. ورجعت إلى غرفتي في ساعة متأخرة ليلاً والأسى يصك عظامي، وألقيت نفسي على السرير يؤرقني الألم، وعندما أطفأت النور انطلقت من شفتيّ لعنة على من يتجرأ هذه الجرأة العمياء على حرمة النبي، وانتهت اللعنة في صورة تضرّع: - يا الله ... إن النبي تمس كرامته ولا تزلزل الأرض!! ولم تكد هذه الكلمات تمر في فكري حتى شعرت بسريري يتأرجح، وفجأة نسيت دار البا واللافتة والطلبة ولم يبق في ذهني إلا فكرة واحدة: - هذا شخص تحت السرير!. فولعت النور على الفور، ولم يكن أحد تحت السرير بطبيعة الحال، ولكنني لم أشك فيما شعرت به من تأرجح دون أن أفسر الأمر بوجه. وفي الغداة شرعت في تحقيق لأتأكد، فسألت جيراني في الدور فلم يشعر

أحدهم بشيء، ولكنني لما كنت كل يوم أحد أطالع الجريدة فتناولتها وأنا على سطح المقهى، وإذا بمقطع صغير ينقل نبأ عن مرصد (جرنويش): إن هذا المرصد سجل الليلة هزة صغيرة. وكانت ساعة الهزة تنطبق مع حركة سريري. هذا هو الأمر، أفضي به كما هو لمن يريد أن يتأمله ولن يريد أن يهزأ منه. بقيت هذه الذكرى من أيام المعرض مقترنة في ذهني بأخرى. افتُتح المعرض بعد أسابيع، وكان الزائر الذي يدخل من الباب الرئيسي، يشاهد مباشرة على يساره جناحاً لـ (الآباء البيض)، تعرض فيه نسخ العهد القديم والعهد الجديد، ولكن الجناح كان يوزع أيضاً كتاباً صدر في تلك الفترة تحت عنوان (الرسائل الجزائرية) يتناول صاحبه، المحامي الجزائري لدى محاكم باريس، العادات والتقاليد الإسلامية بنقد فيه التشويه والتشنيع، كأنما هذا المحامي الجزائري لدى محاكم باريس، أراد بكتابه تقديم مرافعة ضد الإسلام، زلفى وقربى من (الآباء البيض) لينال على أيديهم الزبائن الذين لم يكسبهم لمجرد موهبته، إذ لم تكن له أي موهبة في الفصاحة والبلاغة. لقد فتح المعرض أبوابه في غضون الربيع. وتوالت أيامه إلى الخريف، وفي هذه الفترة أصبح الرجل المستعمر- الجزائري والمراكشي والتونسي والهندي والهندي الصيني والسنيغالي والسوداني- موضوع الأحاديث في أكثر عواصم الدنيا تمسكاً بأمر سيدة الموضة، أعني باريس. ولكن الرجل الذي لفت أكثر الأنظار في المعرض بلا جدال، كان من قبيلة (الطوارق) - إحدى عشائر الصحراء الجزائرية- فكان مع رهط من عشيرته على ظهر جمالهم وفي هيئتهم الخاصة، يتقدم معهم الموكب الفلكلوري الذي يطوف في كل أرجاء المعرض ليلة كل سبت فيثيرون إعجاب المتفرجين، وكان يشتغل سائر

الأيام بتنزيه الزوار على ظهر جمله، ولقد كان هذا الطارقي أجمل صورة رأيتها إطلاقاً لهذا النوع من الرجال، فكان أكثر زبائنه من السيدات، وأعتقد أن إعجابهن كان يتجه للرجل أكثر منه لجمله. ولقد كان معبد (أنكور) تحفة المعرض الكبرى، وكان الطارقي تحفته الصغرى، ولكن الأمر الأهم بالنسبة للزوار الجزائريين كان بلا ريب كتاب (الرسائل الجزائرية)، لأنه يندرج في تلك الملابسات التي كانت فيها الإدارة الاستعمارية تهيئ (الظهير البربري)، كخطوة أولى لتنصير مراكش. ووفد من (تبسة) بعض المعارف وأعطوني أخبار الأهل، فقررت قضاء الصيف بباريس، لا من أجل مواصلة الدراسة، حسب النظام الخاص بمدرسة اللاسلكي، ولكن من أجل المعرض الذي أصبح مجال ملاحظاتي وتأملاتي عن (الشعوب المقيدة)، وعن الصور الكريكاتورية التي تعطى عنهم، خصوصاً عن الشعوب الإسلامية. وأكثر ما يلفت نظري، دور اليهودي يتخذ مثلاً من اللون والزي العربي ما يعرض به نفسه بوصفه عربياً، في صورة تحط بكرامته في نظر المتفرجين؛ وأحياناً أخرى تراه يستمع إلى قطعة موسيقية أو يتتبع دوراً تمثيلياً في مقهى مراكش، فيرفع صوته. هذا حسن ... حسن بالنسبة للعرب!! فكنت على إدراك تام لأهية هذا العمل، يغتنم اليهودي بمهارة عجيبة كل فرصة لانتقاص العربي، وأدرك خاصة أن الأوربيين والمسلمين على حد سواء، لم يكونوا يفقهون معنى لهذا النسيج الدقيق في أغوار نفوسهم. إن باريس تصوغ كل انطباعاتها الحسنة والسيئة. في (موضة) ... فكان (الرجل المستعمَر) موضة الوقت، حتى في ميدان الزواج. ولقد كانت كل الأسر

الفرنسية ذات الشأن تطالع (المجلة المصورة)، فكنت يوماً أطالع أحد أعدادها على سطح مقهى (كل شيء بخير) إذا بنظري يقع على إعلان: (شاعرة فرنسية تريد الزواج من أمير شرقي). فتصورت وراء هذا الإعلان الغريب، التوقعات التي ربما تحدث للسيدة المخاطرة فيما إذا وقع على خبرها، أحد فرسان المغامرات، فقررت أن أحيطها علماً قبل أن تكون نتيجة مخاطرتها على حساب المسلمين فكاتبتها عن طريق المجلة، حسب الإعلان. وبعد أيام قليلة، كنت عائداً من المدرسة إذ بمراقبة الفندق تناديني من مكتبها تناديني من مكتبها: - أيها الصديق إن سيدة تنتظرك في الصالون. وإذا بهذه الشاعرة التي ربما اكتشفت الشرق في قصة ألف ليلة وليلة ولا تدري عن وضعه الراهن شيئاً، ولعلها وجدت في خطابي لهجة الناصح فأتت تشكرني، وبالمناسبة ذكرت لي ما ورد عليها من طلبات زواج، منها واحدة من مهراجا برز إليها قطعاً من صفحات ألف ليلة وليلة، وأخرى من أمير ليبي، لاشك أنه من الأصل نفسه، وقرأت علي الخطابات الغرامية، فلم يبق لدي شك أن السيدة ستغدو ضحية لأحد هؤلاء الفرسان، وربما لاحظت على وجهي ما يختلج في نفسي، وبعد أيام عادت مرة أخرى إلى الفندق: - إنني أتيتك هذه المرة بخبر سار، إنك لا شك تعرف الأمير (شريف)، لأنك من تبسة كما قلت لي ... ومن لا يعرف (الأمير شريف) بمدينة تبسة؟ وكيف أنجو بذمتي من هذا المأزق؟ فقلت:

- يا سيدتي، نعم أنا من تبسة أعني من ناحيتها، وليس لأسرتي المتواضعة علاقة بالأسر التي تحمل لقب الإمارة، ولكنك تستطيعين الاتصال بشيخ مدينة تبسة، فإنه قطعاً خير مني في إرشادك إلى (الأمير). قلت هذا بكل صفاء نية، ولكن الله يهدي من يشاء، فقصة الشاعرة الطيبة مع (الأمير) الوهمي ستنتهي بعد سنة باختلاس رزقها ... أغلق المعرض أبوابه واستدرجني الحي اللاتيني من جديد إلى مشكلات لا صلة لها بدراستي، وعادت (جمعية الطلبة الوحدويين) لنشاطها، ولم تكن قضية المنشقين قد فصلت بعد، وأخد الصراع بين الطائفتين يزداد عنفاً مع عودة السنة الدراسية، وعادت الإدارة الاستعمارية في الحي اللاتيني تلقي شباكها لتصطاد من الطلبة الجزائريين المنشقين، وعدت كسمكة مفترسة من نوع البروشي الصغير، أنقض على تلك الشباك أمزق منها بأنيابي الصغيرة ما أمزق دون أن أشعر أن الخيوط التي أمزقها، كانت تترك في مصيري ومصير أسرتي البريئة جروحاً لا تبرأ ولا تندمل. وفي هذه الأثناء وصل إلى باريس (حموده بن الساعي)، رأيته في اجتماع للطلبة (الوحدويين) بمركز (لودرو رولان). فشعرت أنه تجنب تعرفي عليه قبل أن أعرفه، وسأكشف هذا المرض المتفشي في النخبة الجزائرية، مرض التجاهل تلك الظاهرة الاجتماعية التي طالما شغلت بالي فما بعد. ولكنني لم أقف عند هذه الظاهرة في هذه الظروف بالذات، وإنما وجدت نفسي مرتاحاً جداً فحمدت الله على وجود صديقي بين ظهرانينا، لأنني أستطيع معه القيام بمهمات لا يعينني عليها غيره. وبعد نهاية الجلسة صاحبته إلى غرفته بميدان (البانطئوون)، وفي الطريق عرض علي أفكاره وعرضت عليه أفكاري في الأمور التي كانت موضوع الحديث في

الأوساط الطلابية، فوجدت أننا على وتيرة واحدة في أهمها، وإن كان لفت نظري بعض التحفظ عند صديقي بالنسبة للإصلاح والوهابية .. كان صديقي لا ينتظر منهما المعجزات وكنت أراهما معجزتين، وما عدا اختلافنا في درجة التفاؤل والتشاؤم، كنا من مشرب واحد فيما يخص دور الإسلام في النهوض بالشعوب الإسلامية، ودور الطالب في هذه النهضة. ولكن يجب على هذا الطالب أن يشق الطريق السليم، فبيتنا الأمر بيننا على أن نضع معالم الطريق. ومن أجل ذلك قررنا أن يتولى صديقي جمع المعلومات والوثائق، لأن ذلك في نطاق عمله بوصفه طالب فلسفة يتردد يومياً على المكتبات. ولم أكن أعلم إذ ذاك أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات، إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد، خصوصاً بين مثقفيه، وكنت أجهل أيضاً فيما يخص شخص صديقي أنه كان يعاني حالة عدم اتزان مشؤوم يجمع بين طموح جبار وإرادة واهية، فقد كان طموحه يعرقله عن العمل المشترك الخاضع للإرادتين، وضعف إرادته يعطله عن العمل الفردي المتواصل. ولكنه مع ذلك كان الوحيد من جيلي الجزائري، الذي أستطيع العمل الفكري معه لأن شيطان المعرفة قد استولى عليه منذ صباه، حتى أنني اعتقدت تلك الليلة، أننا سوف نقوم بعمل سيبقى أثره في المجتمع الجزائري. فقضينا الليلة نتحدث عن مشروعات فكرية وسياسية لم يكتب لها أن ترى النور على أيدينا، كما تصورتها عقولنا. ولكن بعد أربعين سنة عندما تعود لي اليوم بعض ذكريات تلك الفترة، أدرك أنني على أية حال، أدين لـ (حموده بن الساعي) باتجاهي كاتباً متخصصاً في شؤون العالم الإسلامي، حتى لو أنني لم أنجز معه أي عمل بعيد المدى، يجب أن

أقول إنني أنجزت معه كل الأعمال اليومية الخاصة بالطلبة المغاربة بالحي اللاتيني، في الوقت الذي بدأت في وسطهم الإرهاصات المبشرة بظهور الحركات الوطنية. ومن ناحية أخرى يجب أن أقول، إن تحولي عن دراستي خاصة أيام العرض، قد زاد بصحبته منذ أصبحت مهتماً بالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، أكثر من اهتمامي بمواد مدرسة اللاسلكي ... لم يبق للأفق البعيد أي تأثير في توجيهي، ولكنني بدأت أشعر بآفاق جديدة لا زالت غامضة، ولم أكن أستطيع التعبير عنها بكلمات ولكنها تؤثر بوخزها في نفسي على توجيهي العام. إن باريس مدينة تُخشى عواقبها، فبدأت أفكر كيف أحصن نفسي من مغرياتها. وذات يوم- وأنا في غرفتي أمام النافذة- إذ انطلق من أعماقي دعاء وتضرع إلى الله ... كان يوم الجمعة من عام 1931 وقد تولى الله الأمر فهداني إلى زوجي وهداها هي، فسمت نفسها خديجة، وأخذت على الفور زمام حياتي المادية في البيت؛ ولكن بقيت حياتي الدراسية متأثرة متصدعة من مشكلات الحي اللاتيني ومما يترتب على صلاتي بـ (وحدة الشبان المسيحيين)؛ ومن ناحية أخرى فإنني بدأت أشعر بطموح جديد يبعدني عن مدرسة اللاسلكي في اتجاه علمي آخر، ربما أوحت لي به كتب الأب (مورو) وزياراتي إلى متحف الفنون والصناعات، وبدأ يقل ترددي على المدرسة وهجرت تماماً أسرة الزميل. وكل ما تحقق بالنسبة لي في هذه الفترة، هو أنني أصبحت أتابع مناقشاتي مع (حموده بن الساعي) تحت سقف بيتي، فتهيئ لنا زوجي الشاي على النمط المغربي، ثم تواصل في ركنها شغل الإبرة وهي تتتبع ما نقول لتراجعني في بعضه بعد ذهاب صديقي. وفي الحي اللاتيني بدأت تفد وجوه جديدة ... وصل (سحلي وبومنجل)

وغيرهما، وكأنما شيطان المعرفة بدأ يوسوس إلى المثقفين الجزائرين، ويستدرجهم إلى آفاق جديدة بحثاً عن العلم أو عن مركز مرموق، فوصل بدوره (كسوس) وأراد أن يكون لهذه المناسبة صدى يذكر، لأن الرجل كان على ما أعتقد يتطلع إلى منصب سياسي، فألقى بنادي الطلبة المغاربة محاضرة، لم يختر مكان إلقائها عن مبدإ وإنما لمجرد الشهرة، إذ أنه كان فيما عدا ذلك على مذهب الطلبة المنشقين، ومع ذلك فقد كان لمحاضرته فضل كبير في تصفية الجو بين الطلاب الجزائريين؛ لم يبق في تلك الليلة واحد منهم بقناعِهِ وعرف القوم كل فريق بسيماهم: فريق (الواقعيين) مثل (عمار نارون) الذي كان على رأس المنشقين، وفريق (المثاليين)، مثل (بن الساعي) ومثلي. ويجب هنا أن نحدد مصطلحنا: فـ (الواقعي) هو الطالب المستعد لكل التواطؤات مع الإدارة الاستعمارية و (المثالي) هو المستعد لرفض كل تواطؤ. لقد كانت المحاضرة فرصة لاحظت خلالها مع (بن الساعي) كيف كان المحاضر وفريقه يتبادلون النظرات وإشارات التلميح فوق رؤوس الملأ، وإشارات وتلميحات أسهم فيها بعض الطلبة التونسيين. وتبودلت أيضاً في فريقنا نظرات وإيماءات منها تلميح للمحاضر ورفقائه، وساد القاعة جو أوحى لي أن أتقدم بعد نظرة تبادلتها مع (حموده بن الساعي)، بإعلان عنوان محاضرة ألقيها المرة المقبلة، كأن الموقف كان يفرض رد الفعل، فاخترت (لماذا نحن مسلمون) بعنوان أتذكر أن اختياره ترك في القاعة أثراً حسناً. ... كانت المحاضرة في أواخر كانون الأول (ديسمبر) عام 1931، فتناولت فيها

الموضوع مستنداً إلى تاريخ الشمال الإفريقي. وما كان فريق (الواقعيين) ليترك فرصة كهذه تمر دون رد فعل، فعندما انتهيت انطلق فعلاً صوت يقول: - لماذا تلتفت للماضي، في الوقت الذي يهمنا فيه المستقبل؟ .. لم تكن هذه السماجات نادرة في وسطهم، فهي إلى اليوم من تراثهم تتكرر على ألسنتهم أو تحت أقلامهم، غير أن الظرف لم يدع مجالاً للسكوت عن السماجة هذه المرة، فأطقت ناراً على (الواقعيين) مرتجلاً كلامي، لا يهمني أتبادل (عمار نارون) و (كسوس) نظر المتواطئين بينهما أم لا، وإنما استرسلت كأنما ريح عاصفة تدفعني وروح تمدني بالكلمات، وأعتقد أنني حلقت في سماء المنطق الغلاب والشعر الخلاب، أتذكر إلى اليوم من بين ما قلت هذه الكلمات: - إن الروح تصنع المادة! .. ولا أدري إذا كنت فهمت في تلك اللحظة الوجدانية، ما قلته كما أفهمه اليوم، وإنما أتدكر أن عيني (حموده بن الساعي) كانت تبرقان وتقعان كالصاعقة على (الواقعيين) في كل جملة أقولها. فسادت في الجو وفي القاعة لحظات ملهمة لا أستطيع تصويرها، ولما انتهيت رأيت (صالح بن يوسف) يحتضنني قائلاً: - إنني أقبلك لا من أجل محاضرتك، ولكن لتعقيبك المرتجل عليها. هل كان هذا الطالب التونسي هو الآخر من المثاليين؟ إنني أطرح السؤال بعد أربعين سنة، لأنني رأيته بعد سنوات قد أصبح (واقعياً). إن الحلبة السياسية قد حققت فعلاً، في البلاد الإسلامية معجزات من المسخ! ومهما يكن الأمر في ذلك المساء فإن (الواقعيين) لم يكونوا عندما خرجنا من المحاضرة، ليجرؤوا على مبادلتنا النظر.

وبت سعيداً ... وبعد ثلاثة أيام اتفق لي أن أذهب تلك الصبيحة، لأتناول القهوة بجمهورية (تريفيز) من أجل مطالعة الصحف، حالما وصلت وجلست بقاعة المطالعة إذا بشخص يتقدم، ولو كان جاءني اليوم لعرفته بنوع قبعته المكورة: - صباح الخير، أنت السيد الصديق؟ قال هذه الكلمات وأخرج هويته: كان من البوليس. لم يحدث في نفسي أي شعور خاص أذكره اليوم، فبقيت أنصت لرجل البوليس: - ماذا تصنع بباريس؟ - طالب ... وتتابعت أسئلته وأجوبتي وهو يكتب على محضر، ثم سأل سؤاله الأخير: - من ينفق عليك؟ - أبي ... وانقلب الرجل ذو القبعة المكورة، دون أن أضع في ذهني أي صلة بين هذا الحادث التافه ومحاضرتي أمام الطلبة، وخصوصاً بينه وبين مركز أبي الموظف الصغير بالجزائر، ولا بينه وبين مستقبلي. وبعد بضعة أيام أخبرني (حمودة بن الساعي)، أنه بلغه من طالب جزائري، بالحي اللاتيني أن البروفسور (مسينيون) يرغب أن يراني، وربما عمد الطالب الجزائري إلى أن يبلغني الخبر عن طريق صديقي حتى لا أعرف صلته بالبروفسور، وعلى أية حال اعتراني شعور بالكبرياء لم أتنازل عنه لتلبية دعوة غير مباشرة وبالتالي فإنني فهمت مغزاها ...

هكذا تبتدئ الفاجعات الكبرى، بحدث تافه غالباً، ولكنني لم أكن بعد أدرك ذلك، بل لا زلت أتلذذ بانتصاري بنادي الطلبة، وأنعم باللقب الجديد الذي أهدانيه (محمد الفاسي) الذي أطلق عليَّ منذ تلك المحاضرة (زعيم الوحدة المغربية)، وأصبحت فعلاً وجهاً من وجوه هذه الوحدة، فقد اجتمعت على اسمي أغلبية أصواتها يوم ترشيح أعضاء هيئتها، ولا أدري كيف أصبح (محمد الفاسي) بعد ذلك رئيساً لها، وإنما أتذكر أن (بلفريج) والمرحوم (ثامر) أقنعاني بذلك وبأن أكون نائبه، ففضلت بدوري أن يكون (حموده بن الساعي) نائب الرئيس. وربما كنت في تلك الفترة، أعاني أزمة نفسية تجعلني أتعالى على (مسينيون) من ناحية وأتواضع لـ (حموده بن الساعي) من ناحية أخرى. والأمر الذي لا شك فيه هو أن السمك المفترس الصغير، كان يمزق بعض خيوط شبكة الاستعمار بينما تمزق هي أوداجه دون أن يشعر بذلك. كانت المناقشات الفلسفية مع (حموده بن الساعي) تجري مجراها، ومضت زوجي تفتن من أجل توفير جميع وسائل الراحة لي داخل البيت حتى من الناحية الفكرية، إذ كانت تأتي على الأشياء التي أشاهدها في عالمي الجديد، بشهادة من يعرفها من داخلها. لقد كنت أرى في تلك الأشياء القيم الحضارية التي أصبحت الشغل الشاغل بالنسبة لي من الناحية النظرية، ولكن زوجي ألبستها لباسها الإنساني وصيرتها ملموسة أمامي. لقد أصبحت في الحقيقة أعيش في الورشة المختصة بالجانب التطبيقي لملاحظاتي عن البيئة الجديدة، وبصياغة توقعي واستطلاعي الشخصي تجاهها، سواء من حيث الفكر والسلوك أو من حيث ما أزكي من فضائلها وما أرفض من رذائلها.

وكم استفدت من هذه المدرسة مدرسة المعايشة، إذ يصير التلميذ أستاذاً أحياناً والأستاذ تلميذاً أحياناً أخرى. ولكن ما لبثنا كثيراً نستنشق هذه السعادة البسيطة الجدية، حتى دق الباب نبأ من تبسة، يخبرني والدي أن رئيسه حاكم المدينة، أمر بنقله إلى مكان آخر، ويسألني هل يستطيع (مسينيون) التدخل لإصلاح وضعه في الإدارة ... وكيف لا يستطيع البروفسور، وهو المستشار الخبير للحكومة الفرنسية للشؤون الإسلامية؟ ولكن لا بد أن أدق بابه، بينما كنت في تلك الفترة على جانب من الاعتزاز يجعلني أتخيل أن الأبواب يجب أن تفتح أمامي وحدها، ودون أن أدقها؛ فاضطررت على أية حال إلى دق جرس الهاتف لأطلب موعداً من المستشرق الكبير، الذي حدد لي موعداً ربما لمصلحة معينة، وربما للتواضع اللائق بكل رجل ثقافة وعلم؛ فدخلت لأول مرة بيته في شارع مسيو، حيث يقضي يومه ويتصفح ويحلل كل تلك المخطوطات العربية ذات الورق الأصفر أو المصفر من القدم، المتراكمة على مكتبه. بينما يدق على مقربة من منزله جرس كانيسة (سان سولبيس) معلناً أوقات الصلوات في الصباح والعشية. ما جلست إلا قليلاً حتى دق جرس الباب وقام الأستاذ الكبير فتغيب هنيهة، ثم رجع يستأذنني: - إنه السيد (حسني الأحمق)، هل ترى مانعاً إذا أدخلته للمكتب معنا؟ تذكرت صاحب كتاب (الرسائل الجزائرية) فقلت بصرامة ودون تلطف: - لا يا سيدي، لا أريد أن أراه ... لقد فاتني أن موقفي كان في منتهى عدم الذوق واللياقة، بالإضافة إلى كونه خطأ سياسياً، بينما لم يبد على وجه (مسينيون) أي تغير واستمر في حديثه معي كأن شيئاً لم يكن.

إنني أستعيد في ذاكرتي، بعد أربعين سنة هذه الصورة، فالحقيقة أنني أخجل من هذا السلوك، وأرى كم كانت السمكة المفترسة الصغيرة لا تشعر بالخطورة ولا حتى باللياقة. وقبل كل شيء، لم أكن أشعر ذلك اليوم أنه في تلك اللحظة، كانت تنطق الموجة الأولى من العاصفة الهوجاء التي ستجتاح مصير أسرتي ومصيري، فتحطمت رخوة لينة بفتور على شفتي (مسينيون) الذي اصطحبني إلى الباب يودعني بكلمات لطيفة. ونقل والدي من منصبه إلى غيره وبهذا لا تستطيع والدتي المريضة أن تلحق به، وكان الأمر مبيتاً على ذلك من طرف رئيسه، مما اضطر معه والدي إلى طلب إجازة بقي فيها إلى يومنا هذا، وهو عجوز تجاوز الثمانين من العمر إذ ضاعت حقوقه كلها بوصفه موظفاً. كنت أتأثر من هذه المحن التي بدأت تنصب على أهلي بسببي، دون أن أغير سلوكي بسببها، بل كانت الأحداث نفسها تزيدني تصلباً وتحدياً في نظر الإدارة الاستعمارية، التي بدأت في ذلك الشهر بالذات شهر شباط (فبراير) عام 1932، تولي اهتامها في الأوساط الطلابية بصدى حدث وقع بعاصة الجزائر حيث أمر الحاكم بمنع أي نشاط لجمعية العلماء في مساجد الوطن. استأجرت في هذه الأثناء غرفة مفروشة، في شقة أيِّم قرب باب فرساي وانتقلت إليها مع زوجي، وإذا بطرد منشورات يأتيني من الجزائر أرسله لي (رونيه جوجلاري)، ذلك الفرنسي الذي اعتنق الإسلام واتخذ لقب (محمد الشريف). لقد تعوّد الرجل أيام شبابه بباريس، أن يوزع على الطلبة في الحي اللاتيني منشورات (شارلس موراس) زعيم الحزب الملكي الفرنسي، فهو الآن

يضع حدة مزاجه وحرارة إيمانه في خدمة قضية الإصلاح بالجزائر، ويعيش كاتب خطابات للأميين بالمقاهي الجزائرية الشعبية. وكان الطرد يحتوي منشورات لعلها من تحريره، ولكن باسم جمعية العلماء، تتضمن احتجاجاً حاراً على الإدارة الاستعمارية التي أمرت بمنع أي نشاط إصلاحي داخل المساجد؛ وكان (محمد الشريف) يرجوني في خطاب خاص توزيع تلك المنشورات بباريس. فاجتمعت مع (حموده بن الساعي) و (بن عبد الله) في مقهى (الهجار) بالحي اللاتيني، وانضم إلينا بعض العاملين على البر من الطلبة الجزائريين، وتسلم كل واحد نصيبه من المنشورات لنوزعها، وانطلقنا نمسح شوارع باريس ودروبها على الأقدام، إذ لم يكن لدينا غير ذلك من وسائل النقل، نضع المنشور غالباً في صناديق بريد أولئك المزمع الاتصال بهم، من الصحافيين والنواب وأعضاء مجلس الشيوخ، وكل من له اسم في حي (سان جيرمان). ولا شك أن باريسيين وباريسيات، لا يعرفون عن جمعية العلماء ولا عن الإسلام ولا عن الإصلاح شيئاً، قد فوجئوا بوجود منشورنا في صندوق بريدهم ذات صباح. إنني أتصور دهشتهم في ذلك الصباح، أما عن الأثر الحقيقي لمنشورنا، فإنه لم يكن له إلا صدى واحد في صحيفة (محمد الشريف جوجلاري) اليمينية الملكية التي تناولتنا- لا أتذكر تحت أي عنوان ولا بأي قلم- بالإشارة إلى بعض الحيّات من المسلمين ... الخ. أما الصحافة اليسارية والتقدمية الديمقراطية ففضلت الصمت ... هذا كل ما كان في الأمر، لا بل إن أهم ما في الأمر كان بالطبع خافياً عن الأنظار في خفايا وزوايا الدوائر الاستعمارية التي أسست، بشارع (لوكونت) من أجل تتبع مثل هذه الأمور، قسماً خاصاً أصبحنا نسميه على وجه التبسيط (شارع لوكونت)،

ولا شك أن هذا القسم تتبع خطواتنا في كل هذه الفترة، من أولها إلى آخرها، مقدراً كل خطوة حسب تسعيرة دفتره الخاص لهذه الحسابات. ولكنني لم أكن بعد أعلم شيئاً عن هذا الدفتر لأقدر ما أضيف لرصيدي بهذه المناسبة. وعلى أية حال فقد كان في الحي اللاتيني وفي باريس بل في العالم ما يلهيني عن هذه التقديرات والحمد لله. لقد بدأ (شرق نصر الدين) يُظْهر في السماء نجم هتلر داعية العنف المطلق، في حين بدأت تشيع على أرصفة باريس لعبة (يويو) بين الأطفال والكبار. وفي هذه الأثناء وصل غاندي والعنزة مرضعته، عائدين من مؤتمر مائدة مستديرة عقد في شتاء ذلك العام حول مشكلات الهند. فقرر المهاتما أن يحط عصا الترحال ريثما يلقي بباريس محاضرة أسهمت في تحضيرها جمعيتنا وحضرها خيرة القوم بباريس من السيدات والرجال: أما السيدات فليزددن معرفة بالعنزة المرضعة، وأما الرجال وكانوا من أهل العلم والفن والسياسة فليستمعوا لصوت داعية اللاعنف، وليستخلصوا من المناسبة ما يستخلصون كل حسب هواه أو هوايته أو مصلحته. وهكذا نرى (دنييل هاليغي) على سبيل المثال، يستخلص منها تلك العبارات التي قدم بها كتاباً لـ (هنري ماسيس) الذي حاز على الشهرة، وكان بعنوان (دفاع عن الغرب)، وكان أولى لهذا الكتاب أن يصدر تحت عنوان (هجوم على الشرق والشرقيين) بسبب مقدمته؛ فقد تولى صاحبها اليهودي تشويه الروح الشرقية أكثر مما تولى صاحب الكتاب تمجيد الروح الغربية. أما أهل النحت في الصلب والخزف فصوروا ما شاؤوا غاندي قائماً أو قاعداً، من تماثيل صغيرة معروضة في واجهات الدكاكين الكبيرة والصغيرة.

إن باريس تحول كل شيء إلى (تقليعة). فكان غاندي وعترته إلى جانب لعبة الـ (يويو) تقليعة الساعة. وفي الحي اللاتيني حدث أمر، أخذ أيضاً يشغلني على حساب دراستي تلك السنة. لقد بدأ نجم (مصالي حاج) في الظهور. وفكر الزعيم في بعث منظمة (نجم شمال إفريقيا) الذي أفل بباريس منذ ذهاب الأمير خالد رحمه الله إلى الشرق، فاتصل (مصالي) بجمعية الطلبة بواسطة الدكتور (بن ميلاد) - حسبما أتذكر- وتم الاتصال بممثلى الجمعية في غرفة من فندق (الهجار) لأن صاحبه يدعي القرابة من الأمير خالد، ويتظاهر بأفكاره السياسية؛ لم يحضر صديقي (حموده بن الساعي) هذا الاجتماع بسبب تحفظه إزاء كل نشاط سياسي منظم، فتم الاتصال بين الزعيم وبعض الطلبة في تلك الغرفة، في صورة مباراة في الفصاحة تحدث خلالها البهلوان- الذي سيصبح وزير الشباب التونسي- عن سقراط وأرسطو، وأبرز من خلالها كل منا ما عنده من ذخيرة ... ثم اتفقنا مع الزعيم على موعد آخر في غرفة أحد مريديه، وهو بقال بشارع (سان جاك)، اجتمعنا بين سرير النوم وكوم بطاطس وميزان البيع، لنقرر مصير (نجم شمال إفريقيا) المزمع بعثه بأكثر ما يمكن من الأبهة والإعلان حسب رغبة (مصالي حاج)، ولم أكن أعلم أن هذه الرغبة السامية كانت العرض للمرض الجديد الذي سيجتاح الجزائر، والذي سيبدد كل طاقاتها في الظهور والتظاهر والمظاهرات كأنما لم يكن، في نظر (الزعيم) سوى هذا الوجه من النشاط السياسي الذي استولى على الوطن طيلة ربع قرن. وللقائل الحق أن يقول إن المرض الجديد كان من بعض جوانبه شفاء، إذا قدرنا أن الجزائر خرجت من العدم لتدخل في عهد التظاهر، بالإضافة إلى أن المظاهرات الصاخبة وما تخللها من حملات انتخابية تشرف عليها الإدارة الاستعمارية، كان لها الفضل على أية حال في توعية الشعب الجزائري إزاء بعض

المشكلات المطروحة. ولكن هذا التقدير خطأ لأن الجزائر لم تنطلق من نقطة الصفر، بل انطلقت من ميدان المعارك الطاحنة التي خاضها الشعب تحت لواء الإصلاح، ولواء المؤتمر الإسلامي الذي سيأتي ذكره لتدخل ميدان الانتخابات، لذا فإنني لا أرى في تلك الحركات الحزبية مُسرّعاً لخطوات الشعب نحو الثورة في النهاية، بل على العكس أراها مسؤولة عن تعطيل أوانها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذه هي الحقيقة أمام التاريخ ... فلولا تدخل مصالي حاج في الأمر، لما وجدت الجزائر نفسها أمام كثير من المشكلات التي عانتها بعد الاستقلال سنة 1962 ... ولكن فلنترك التاريخ يتابع مراحله، ولنبق في مرحلة اجتماعنا بغرفة البقال بشارع (سان جاك) من أجل تحضير أولى (مظاهرات) الحزب الوطني ... لقد اتفق الرأي على أن تكون في صورة مهرجان يقام في إحدى قاعات العمارة الكبرى التي تشغلها منظمة الماسونية الفرنسية (الشرق الكبير Le Grand orient). كُتِب للحزب الوطني أن يكون مهده في هذا المقر، والآن بعد أربعين سنة وقد علمتني الأيام ما علمتني، يجب أن أقول إن أمراً كهذا يتركني محتاراً! ومهما يكن في الأمر، فها نحن أولاء مجتمعون للمرة الثانية في غرفة البقال، من أجل تحضير ذلك اليوم المشهود، فكنا طرفين: من طرف (العمال) الزعيم أولاً وصديقنا صاحب الغرفة و (سي الجيلالي) الذي كان يمثل الاستقامة نفسها، و (إيماش: رأس الثور) كما كنا نسميه لحجم رأسه، وربما جاء بملامح طفولية على وجهه؛ ومن طرف الطلبة كنت مع (بن ميلاد) وتونسي آخر من كلية الصيدلة، أتذكر فقط أنه كان محدودب الظهر، وكان دوماً يذكرني بكتاب فكتور هوجو (أحدب نوتردام).

واتفقنا على برنامج منوع من موسيقا ورقص، وطبعاً خطاب الزعيم الذي فاجأنا باقتراح فسح المجال أيضاً لتمثيلية قصيرة، ودون أن ينتظر تقرير الرأي في الموضوع، أخرج من جيبه كراسة مطوية وبدأ يقرأ لنا تمثيليته، فكانت ذات بناء ثقيل وبلاغة ركيكة، لو سمعها (اسخيلوس) لأصابته نوبة عصبية في قبره ولثار على الفور من مرقده ليثأر لفن التراجيدية من زعيم (نجم شمال إفريقيا). فتقرر أن الفكرة لا تخلو على أية حال من أهمية إذا كان قالبها الأدبي مقبولاً، فاتفق القوم على تحريرها على هذا الأساس، وكلفت كذلك. وجاء اليوم الموعود وأكتظت القاعة بالحاضرين، حتى بعض أصدقائي من (وحدة الشبان المسيحيين) قد حضروا مثل (مرسولين)، وتقرر أن يكون المهرجان كله تحت إشراف الأمير خالد بصورة رمزية، تتمثل في أن يبعث صورته تلك الليلة مع أول عدد من جريدة (الأمة) الذي صدر بتلك المناسبة، أو عاد للظهور بعد اختفائه منذ ذهاب الأمير خالد للشرق؛ وتولى تنسيق الحفلة (جلاب) الطالب الجزائري، فأخذ يدق بعصاه الأخشاب المسرحية ليعلن فصولها كل مرة. رفع الستار عن راقصة تولى أحدهم اختيارها من بنات باريس، لأنه لم تكن في تلك الفترة نساء جزائريات يقمن بمثل هذه المهمات. فأدارت الباريسية بطنها الفسيح، ورفعت وهبطت صرَّتها في أرجائه المتسعة. وأقلع البطن الأبيض السمين الضخم يدور حول الصرة كرحا حول قطبها. تصوروا ميدان (كنكورد) بفنائه الشاسع يقلع ويدور حول المسلة التي في وسطه، منذ أتى بها نابليون من مصر. لم تظهر فيما أعتقد هذه الرقصة البذيئة في مظهر أقبح منه في ذلك اليوم، فقد خلعت على الجو من الإثارة الغريزية ما قد يكون شعر به إمام مسجد

باريس لأنه كان في الصف الأول، مباشرة أمام الأخشاب، فانطلقت من الجمهور صرخات الاستياء فنزل الستار. وكانت حرم الزعيم (مصالي حاج) وعليها ملامح السيدة الحيية الوقور، مع زوجي في الغرفة الخاصة التي يستطيع المتفرج منها تتبع ما يدور على المسرح مباشرة من وراء شباك لا يُرى من خلاله، فشعرت أن المرأتين تنفستا الصعداء عند نزول الستار. ودق (جلاب) الضربات المعلنة لدورنا في التمثيلية، وقد كنت نسيت أن أعنونها، فلم يتردد لحظة واحدة عن تقديمها: - (الحاكم الطيب) (¬1)، تمثيلية ذات منظر واحد! كان (بن ميلاد) في دور الحاكم وكنت ترجمانه، أما الطالب الصيدلي التونسي فلا أدري في أي دور، وكان المجرم المقبوض عليه جزائرياً طبعاً، يقوم بدوره مراهق من جبال القبائل، فقام أحسن قيام بدور كبش الفداء. ثم دقت العصا وجاء دور الزعيم، ولا أدري كيف قدمه (جلاب)، إن قدمه فربما كان الخطاب مطولاً؛ ولكنني أعجبت به بقدر ما كان ينسينا ركاكة المثقفين، حتى إنني عندما قال ((قد يكون تفاوت بين الأفراد، ولكن لا تفاوت بين الشعوب)) كدت أصرخ إعجاباً، وكنت أثناء الخطاب أنتقل في القاعة للاطلاع على انطباع المستمعين، وصادف أنني كنت في الغرفة الخاصة جانب زوجي، عندما تناول الخطيب جرائم الاستعمار، فرأيت جانب مدام (مصالي) عملاقاً، لعله من حرس زوجها، قوي البنية، عالي القامة، ينفعل عند ذكر الاستعمار فيلوح برأسه وكأنه يهدد عدواً قائماً أمامه: ¬

_ (¬1) ينعكس المعنى ويصير العنوان ((الحاكم الجائر)) على الطريقة الفرنسية في التهكم.

- والله ... أضرب الاستعمار بالرأس .. ضربة ... ولا شك أن رأس هذا الثور قد يكون عندما يهوي على خصم، مثل مطرقة الحداد الكبرى، ولكن أتكفي في القضية ضربة رأس؟ ويا أسفاه كان لهذا الحدث البسيط أثر سيئ في فكري بالنسبة إلى مستقبل الحركة (الوطنية) في بلادنا، إذ قدرت أنها ستحل معظم المشكلات على هذا النمط؛ وقد ازددت تشاؤماً تلك الليلة عندما- رأيت (الزعيم)، بعد أن أنهى خطابه، ينزوي مع الرجل العملاق إلى جانبه على شرفة تطل على أخشاب المسرح، وقد غير هيئته، فلبس نوعاً أنيقاً من العباءات المسمى (قشابية) وحذاءً أبيض من نوع (البلغة) وتطربش الطربوش الأحمر، وأشرف في هذه الهيئة يطل على الحاضرين، بدلاً من أن يجلس بينهم؛ فرأيته تلك اللحظة وقد جعل لنفسه منصة يظهر عليها للعباد، ترفعه عليهم وتعزله عنهم. واستمرت الحفلة في فصولها، ولكن كلما وقع بصري على الشرفة شعرت بحرجح وربما وقع تلك الليلة في أعماق لا شعوري التمزق الأول بيني وبين الحزب الوطني، مع ما سيبقى بيني وبينه من صلات عذبة أحياناً ومُرّة أخرى. كان (شكيب أرسلان) في هذه الفترة لاجئاً في جنيف، فقد كان يواصل صراعه البطولي دون أن يكل أو يمل، ويصدر مع رفيق محنة من مصر جريدة (الأمة العربية)، فتصل بعض أعدادها إلى الجزائر حيث قرأتها، وقد كانت تصل أيضاً إلى الحي اللاتيني فنقرؤها في جمعيتنا. وإذا بوجه جديد يظهر في هذه الجمعية. هكذا تعرفت على (فريد زين الدين) الذي شغل منصب نائب وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة زمن الوحدة، بين سوريا ومصر، وكان حينذاك الطالب النجيب الذي يعد دكتوراه في الحقوق، ويستعد للعودة إلى

مسقط رأسه في جبل الدروز حيث دارت حوالي سنة 1925 معارك، هزت جيلي في الجزائر مع صدى معارك الريف، وكانت فيها يد لشكيب أرسلان. كان فريد زين الدين على صلة به مكلفاً من طرفه، بدعوة الطلبة العرب الموجودين بالعاصمة الفرنسية لتشكيل جمعية (الوحدة العربية)، وكأنما كانت هذه الدعوة كما يتبين للقارئ مقدمة للجامعة العربية الحالية، فشرع من أجل ذلك يتصل بالطلبة المغاربة. وفي نهاية المطاف أصبح (محمد الفاسي وبلفريج والطوريس) يمثلون مراكش في الوحدة و (بن ميلاد) مع بعض مواطنيه يمثلون تونس، وأصبحت أنا أمثل الجزائر. وكانت سوريا مع لبنان، ممثّلة في شخص فريد زين الدين وبعض مواطنيه ممن يقرضون الشعر. فكانوا عند افتتاح أو ختام كل جلسة، يشنفون مسامعنا بآخر قصيدة لهم في تمجيد العرب. وكانت هذه الجلسات (السرية) تجري مداولاتها في قاعة مقهى فرنسي، على مرأى ومسمع من البنات أو الشبان المشتغلين في القاعة، فنستمع إلى قطعة بلاغية أو شعرية تترك في النفوس موجة حماسية، أشبه شيء بالموجات التي انطقت من إذاعة (صوت العرب) وهزت النفوس، قبيل حزيران عام 1967، وكان من أسوأ آثار تلك الموجات أنها لا تفقد المستمع وحدة الشعور، بل تفقده أحياناً المتكلم نفسه، مثلما حدث يوماً لـ (لطوريس) إذ انطلق في صولة كلامية أثارت تصفيقاً فصفق هو معنا. وكان في ذلك من الإغراء ما يجعل كل طالب مغربي يتنفس الصعداء إذا لم تتح له فرصة الانخراط في جمعيتنا السرية، فقد أتاني ذات يوم (هادي نويرة)

الوزير التونسي الحالي للمالية (¬1)، وعيناه تهرقان الدمع والأسى يقطع صوته، يرجوني أن أقدمه إلى (فريد زين الدين). زاد هذا النشاط في تفاقم الأمر بالنسبة لدراستي، ولكنه لم يعطل شيئاً من مناقشاتي مع (حموده بن الساعي)، كان يزورني في بيتي كل يوم جمعة في المساء، يصحبه أحياناً أخوه (صالح) الذي التحق بدوره بباريس، فنتناول العشاء سوياً، وكانت زوجي تصنع المعجزات في الاقتصاد سائر الأيام لتحقق تلك المأدبة الأسبوعية، فتصنع لنا أكلة من العدس ولسان الضأن، كانت تتقنها حتى ترضي الضيوف بأقل تكاليف، فكنا- والحق يقال- نلتهمها التهاماً. ثم تبتدئ جلسة العمل، فتجلس زوجي في ركنها بعد أن تُناولنا القهوة، وتلحق بها هرتنا (لويزة) لتغطّ على ركبتيها في نومها بينما تستأنف سيدتها نسيجها اليدوي بالإبرة، ولم يكن موضوع المناقشة محدداً من قبل، وغالباً ما تحدده الورقة الصغيرة التي يخرجها (حموده بن الساعي) من جيبه، وقد تكون أحياناً ملاحظة له أثناء مطالعته في الأسبوع أو مجرد مقال مقتطع من جريدة. فيدور بيننا الحديث ويدوم أحياناً إلى الواحدة ليلاً، وكانت لصديقي عادة قد تعودها تجعله يضع قطعة من السكر في فنجانه ويحركها طالما أتكلم، ثم يترك الملعقة كلما تناول هو الحديث، وهكذا دواليك إلى نهاية الجلسة، فيترك غالباً فنجانه دون أن يكون قد تناول قهوته، وكان ذلك يسليني كثيراً لأنني كنت أتصور تأوهات زوجي المقتصدة في كل مرة يتناول صديقي بها السكر من السكرية، دونما شعور منه. كانت هذه المناقشات متنوعة، علمية أحياناً، وسياسية أخرى ودينية اجتماعية غالباً، أو مجرد نقد لتسيير الأمور في الجزائر من طرف المسؤولين عن ¬

_ (¬1) هذا المنصب يعود إلى زمن تأليف الكتاب. (المصحح).

المعركة الإصلاحية أو عن الحركة الوطنية. ولكن المناقشات كانت كلها تدور حول محور الإسلام، الأمر الذي جعلني أستفيد كثيراً من خبرة صديقي وسعة اطلاعه في الموضوع، لأنه قلما كان يغيب عنه أمر في الميدان الذي يُعنى به (معهد الدراسات الإسلامية) في (الصربون) ... فكان يدخلني معه في هذا الميدان بصفة مريد مبتدئ، ولكنني ربما كنت أفيده من ناحية تنسيق ومنهجية الأفكار، يساعدني على ذلك الأسلوب الرياضي الذي انطبعت به، حتى كان أحياناً هذا الأسلوب نفسه موضوع نقاش حاد بيننا، وذلك عندما ينتقد صديقي جفاف الفكر الهندسي، المناقض للأسلوب الوجداني أو البسكالي على حد تعبيره، لأنه كان فعلاً على مذهب (الغزالي) و (بسكال) في التفكير. كان يحدث لنا إذا كان الجو مساعداً، أن أخرج معه مباشرة بعد العشاء، ويستمر النقاش بين بيتي والحي اللاتيني، على طول شارع (فوجيرار) أطول شوارع باريس، وقد خرجت ذات ليلة، أشيعه ونحن نسفه سلوك أغنيائنا الذين ينعمون بجميع أنواع النعم ويتركون إخوانهم الفقراء لجميع أنواع الشقاء. وإذا باقتراح ينبع من صلب الحديث: لماذا لا نوجه خطاباً مفتوحاً للضمير الجزائري؟ ونقول فيه ... فكانت الكلمات تتوارد على لساني معبرة، أخّاذة، لطيفة، مشفقة، مؤثرة، راجية، عنيفة، شديدة، مقنعة ... وأول من اقتنع كان صديقي (حموده بن الساعي) فقال: - لماذا لا نذهب على الفور إلى مقهى نسجل فيه هذه الكلمات؟ فكنا كالدجاجة التي أخذها المخاض لتلد بيضتها. فدخلنا إلى مقهى، ولكن لما وضعنا بيضتنا على ورقة، فكأنما فقدت فكرتنا تلك الدرجة من الحرارة التي حركت مشاعر صديقي وأثرت حتى في صوتي عندما كنت أقولها. قررنا على أية حال أن نرسل منها بعض النسخ، نسخ منها صديقي اثنتين

أو ثلاثاً ونسخت مثله، وأرسلناها على الفور، من بينها نسخة إلى جريدة (الدفاع) التي بدأ يصدرها (العمودي) بالجزائر، ونسخة إلى مجلة (الشهاب)، وأخرى إلى جريدة (الصوت الأهلي) وواحدة خاصة إلى أسرة غنية بالعاصمة. وانتظرنا بباريس الصدى ... ولكن العالم دخل في عهد (الواقعية) فلم يرجع لنا أي صدى. لقد كانت الأحداث نفسها لا تتركنا نقف عند خيبة ظننا في أمر، فكان إخواننا الطلبة المراكشيون قد شرعوا في إصدار مجلة (المغرب) ضمت لجنة تحريرها (أوجين لونجي)، حفيد ماركس، واسماً غريباً (ابن أمية) يبدو أن صاحبه إسباني من سلالة عربية عريقة، وحتى رئيس الجمهورية الإسبانية في ذلك العهد (مسيو زمور). ربما كان ذلك في نطاق مخطط سياسي جديد للحكومة الإسبانية، إذ قررت سلطات مدريد تأسيس معهد عربي في قرطبة أو في غرناطة، ووجهت دعوة لجمعيتنا لحضور يوم تدشينه في شهر أيلول (سبتمبر) أو تشرين الأول (أكتوبر) من تلك السنة، وكلفتها أن تدعو من طرفها من تريد من الشخصيات الإسلامية. فوزعت على بعض الطلبة مسؤوليات الدعوة، فكان عليّ أن أقوم بالدعوات الخاصة بعمالة قسنطينة، وتكفل الطالب (بن عبد الله) بعمالة الجزائر. وبدأت السنة الدراسية تأخذ منعطفها الأخير، دون أن أبْذُل في دروسي العُشر من الوقت الذي بدلته لاستماع خطب (الطوريس)، وقصائد إخواننا الشعراء السوريين، ولمناقشاتنا (السرية) في جمعية الوحدة العربية. كنت في الحقيقة أرغب في تغيير اتجاهي لأن أستاذ الرياضيات بمدرسة اللاسلكي كان يشير علي- لما شاهد من استعدادي للدراسات النظرية- بأن ألتحق

بمدرسة أخرى متخصصة في الكهرباء والميكانيك، كانت في نظره أجدى بتكويني العلمي لأنها أعلى مستوى وذلك بفضل مديرها مسيو (سودريه) الذي سيصبح فيها بعد، وسيبقى على الرغم من بعض الظروف المؤسفة، نموذج رجل العلم الفرنسي في نظري. وبدأنا نتهيأ للرحيل بعد الترتيبات الأخيرة، فكان (حموده بن الساعي) بعد أن ألقى محاضرة لفتت الأنظار وذلك تحت عنوان (القرآن والسياسة)، بجمعية الطلبة الوحدويين يستعد لإعادة إلقائها في (نادي الترقي) الذي تأسس منذ وقت قريب بمدينة الجرائر، مستدلاً على أن العاصمة قد تدرجت في حركة الإصلاح فدخلت في عهد (النهضة). ولقد نال هذا التحضير الكثير من اهتهامنا إذ كنا حريصين على الاحتفاظ بإكليل الغار الذي تُوِّجنا به في نظر زملائنا بعد محاضرته ومحاضرتي، حتى غدا كلانا وبكل صراحة يستشم في نفسة رائحة الزعامة. واليوم بعد أربعين سنة لا أشك في أن الإدارة الاستعمارية بشارع (لوكونت) كانت هي الأخرى تستشم هذه الرائحة فينا. ولكن كيف يعقل أن السمك الصغير المغتر بعضلاته وهو يقفز فيمزق هنا وهناك بعض خيوط الشبكة، لم يكن يشعر بأنها تمزقه؟ لم يكن ذلك ممكناً لأن الخبرة لا تأتي إلا من التجارب وحدها. ومهما يكن من أمر، فقد بدأ الحي اللاتيني يخلو من الطلبة، وشعرت أنني لم أرَ أهلي منذ سنتين، فشرعت في ترتيبات السفر فذهبت إلى مدرسة الكهرباء والميكانيك لأسجل اسمي للفصل المقبل، فاستقبلني مقيدها أحسن استقبال، وأشار عليَّ بالمواد التي تجب مراجعتها في العطلة الصيفية، فكان ذلك أول لقاءٍ لي بهذا العلاّمة، الذي سأتعلم منه أكثر من أي كتاب في حياتي، وإنني لأتذكر على

وجه الخصوص التواضع النبيل الذي لاقاني به والذي أراه الفضيلة الأولى عند رجل العلم الحقيقي، كما شاهدته فيه ذلك اليوم وهو يقول: إننا عوّدنا الطلبة في هذه المدرسة أن يسألونا في الفصل، أو يطرحوا أسئلتهم في دفتر مُعَدّ لذلك، وقد يحدث أن يعسر علينا الجواب على الفور، فنأخد عندئذ وقتاً للتمعن في القضية، وربما للرجوع لبعض المراجع ... استمعت منه هذه الكلمات، فكانت أول وأكبر درس أخذته عنه. ... وجدت وجه العاصمة (الجزائر) في صيف عام 1932، قد تغير عما عرفته، وما كنت في الحقيقة أعرفه قبل ذلك إلا قليلاً، لأن أهالي الجنوب القسنطيني لم تكن لهم حاجة بالعاصمة قبل الحرب العالمية الأولى، خصوصاً منهم التبسيين الذين كانوا يقضون أمورهم الإدارية بقسنطينة، ويتوجهون لطلب العلم إلى (توزر) أو (نفطة) في الجنوب التونسي، إن لم تسمح لهم إمكانياتهم بالالتحاق بجامع الزيتونة بتونس؛ ومن كان به مرض كافٍ يسافر إليها أيضاً للمعالجة على يد الأطباء الإيطاليين. لم أكن أعرف جيداً قاعدة (خير الدين بربروس)، وقد رأيتها لأول مرة سنة 1927 عندها توجهت إلى (أفلو)، ولم يكن الجزائري يشعر في العاصمة عند وصوله إليها، أنه في منزله وعقر بيته؛ إذ كان القوم في الأحياء الشعبية يتكلمون فيها لغة هجيناً من مفردات عربية وإسبانية وفرنسية، أما في الأحياء الأخرى فيتكلمون اللغة الفرنسية. وقلما كان الجزائري أثناء تجواله داخل المدينة يتعدى بخطواته حداً معيناً، وكانت إدارة البريد هي الحد بين الحياة الجزائرية والحياة الفرنسية.

فعندما وصلت هذه المرة، وكانت زوجي معي وقد قررنا أن تتعرف على بلادي، وجدت وجه المدينة قد تغيّر، فشعرت بذلك منذ الكلمات الأولى بيني وبين الحمّال الذي تكلف بحقائبنا منذ نزولنا من الباخرة، لم يكن الحمّال يتكلم لغة عربية يراعي فيها قواعد الإعراب، ولكنها سليمة من حيث المفردات واللهجة، كلغتنا الدارجة في نواحي تبسة ... ولقد أخذ يزداد إعجابي به وهو يقودنا إلى فندق الحمامات، لما لاحظت في هيئته من سمات الكرامة النفسية، حتى وصلنا تحت لافتة (نادي الترقي)، وربما كانت أول لافتة بالخط العربي في العاصمة، فقال دليلنا: - أنا من مريدي الشيخ (العقبي) في هذا النادي حيث يعطي درسه كل مساء. ولم تكن ظاهرة التغير التي شاهدتها على وجه رجل الشارع وفي هيئته وكلامه، وفي هذه اللافتة المكتوبة بالخط العريض، لم تكن تعني إلا شيئاً واحداً هو أن موجة الإصلاح قد وصلت إلى هنا، وأيقنت أن هذا التغير البسيط ستتلوه تغيرات جذرية لا محالة ولو لم أكن بعد أتصورها، ولم تكن تتصورها في ذلك الحين الإدارة الاستعمارية كما ثبت ذلك فعلاً بعد عشرين سنة. وبالفعل فإن السلطات لم تكن على بصيرة مما بدأ يحدث نصب عينيها. ولكن الواقع لم يتركنا يوماً من الأيام لأحلامنا وضربنا في المجهول. وقد كان همي أن أرتب أمر زوجي في أسرة مسلمة تقضي فيها وقت العطلة، وذلك كيلا أفاجئ والدتي بزواجي عسى أن أهيئ فكرها بالتدريج قبل عودتي من تبسة، وكان في ذهني أن أستعين في هذه الترتيبات بالشيخ (العقبي)، وها هو ذا الحمّال يدلني عليه، فانطلقت إليه بعدما رتبت أمر زوجي بالفندق، فوجدته في درسه اليومي وسط حلقة أكثرها من عمال الميناء ومن صغار صيادي السمك

بينهم بعض وجوه الجزائر من الأسر القليلة التي انضمت تحت لواء الإصلاح، في الوقت الذي كان فيه يعرِّض نفسه لسخط الإدارة، خصوصاً إذا تبرع المتبرع بماله لـ (مدرسة البنين) التي كان يديرها الشاعر الجزائري الكبير الشيخ (حُمَّ العيد)، وكان الأبناء يؤمونها كل يوم، بينما يؤم آباؤهم كل مساء حلقة الشيخ (العقبي). هذا هو الوجه الجديد الذي وجدته لمدينة الجزائر ذلك الصيف من سنة 1932، ولم يكن لي أن أبقى فيها إلا ريثما أنتهي من مصالحي بشأن زوجي وقد وجدت فعلاً لها- بفضل الشيخ الطيب العقبي- مكاناً لائقاً في أسرة كريمة بضاحية القبة، أما بشأن المحاضرة التي سيلقيها صديقي (حموده بن الساعي)، بمناسبة انعقاد مؤتمر الطلبة المغاربة بمدينة تلمسان، فكان علي أن أهيئ جوها. ثم سلكت الطريق إلى تبسة، فاتفق أن رجلاً فرنسياً كان يوم سفري بمحطة القطار في توديع أسرة من أقاربه تأخذ القطار نفسه، فأوصاني بها بسبب صعوبات تواجه المسافر على هذا الخط عندما يجب عليه أن يغير القطار في قرية (وادي رحمون)، ليمتطي القطار الذي يتجه إلى تبسة، حدثت فعلاً هذه الصعوبات عند وصولنا إلى (وادي رحمون)، بعدما نقلتُ متاعي ورجعت لنقل متاع الأسرة، تحرك القطار الذي غيرنا إليه، فلو قصدت العربة التي فيها السيدات الموصى بهن لفاتني، فامتطيت أول عربة كانت تجاهي في آخره، ولم يكن حَلّ غير هذا حتى لو كنت قرداً مرَّنه سيرك. ولكن عندما وصلت إلى السيدات بمتاعهن، تفضلت الصغيرة فقالت لأمها: - إنه لذكي، دون أن توجه لي أي شكر. لا شك أنها وجدت القرد ذكياً، فشكرتها أنا لشهادتها بذكائي، ولكن شعرت حالاً أنني عدت إلى جو الاعتبارات الخاصة الذي فارقته مند سنتين.

واستمر القطار الصغير يدفدف في طريقه، واستمر المنظر يعرض علي لوحاته، تلك اللوحات الخاصة بالجنوب القسنطيني. ها هي ذي قمة جبل (سيدنا عبد الله) عند أحد منعرجات جبل (حلوفة)، وقد سماها الفرنسيون (قرص السكر) بسبب شكلها الحلزوني، تبرز لي مرة أخرى في إحدى عوداتي. واستمر القطار يدفدف عبر سهل تبسة حيث لا زال في تلك الساعة بعض الفلاحين يقيمون حصادهم أكواماً صغيرة لينقلوها على ظهر البغال والحمير، بينما كانت المواشي ترعى في الحقول المحصودة، والهدوء يسود والسكينة تخيم على هذا المنظر العتيق. وكنت في شوق جارف لأرى أمي. فوجدت والدي في انتظاري بالمحطة مع بعض أصدقائه؛ وعندما توجهنا مثل العديدين نحو المدينة- كان بجانبي صهري الذي كان شريكي في الطاحون التي أسسناها بناحية جساس (¬1)، فبدأ يذكر لي تفاصيل حياته وحياة الأسرة منذ فارقتها، وكانت أفكاري، وصهري يواصل الحديث، كأنها ترقص في أحشائي من الفرح، لأن كل شيء كان بخير والحمد لله. استطاع صهري بعد نكبتنا الاقتصادية سنة 1930، أن يؤمن قوت أطفاله في شغل مع شركة تصدير للحلفاء مقرها بالمدينة، ولعله أراد مزيداً من الضمان لمصير أسرته، فتعلق ببركة شيخه (سيدي التجاني) أكثر مما كان عليه، وبما أنني ازددت أثناء إقامتي بفرنسا تعلقاً بالفكرة الإصلاحية المغايرة تماماً للطرق الصوفية، فقد شعرت ببرودة وفتور بيننا، سيكون لها أثر في علاقاتنا ¬

_ (¬1) بالنسبة إلى كل الظروف المتعلقة بالماضي يستطيع القارئ أن يرجع إلى الجزء الأول، كما ننبهه من ناحية أخرى إلى أن بعض الحروف الصوتية نالها في الجزائر من التغيير ما ينالها في غالب البلاد العربية بحيث حرف ج بالنطق المصري يعبر في الحقيقة عن (ق).

الفكرية؛ ولكن علاقاتنا العائلية ستبقى على أية حال كما هي، كما شعرت بذلك وهو يذكر لي أنباء سارة عن الأسرة، من بينها أن سكننا تغير من ذلك الزقاق المحدود الذي تركته قبل سنتين إلى شارع (الرسول)، هذا الاسم الذي أضفته تبسة على أحد شوارعها، بفضل أحد أعضاء مجلس البلدية المسلمين (حشيشي مختار)، ليس بالسمة الوحيدة التي تتسم بها وحدها إلى اليوم من بين مدن الجزائر، والتي تعبر عن أنها مدينة إصلاحية، أي في المضمون السياسي مدينة مناضلة كما كانت تفهم ذلك جيداً السلطات الاستعمارية، فكانت تخص سكانها برعاية خاصة. فرحت بأني أصبحت من سكان شارع (الرسول)، وزادت فرحتي عندما علمت أن بيتنا الجديد الذي وضعت تخطيطه والدتي الأمية قد شيد كما كنت أتمنى، فزال عني الكابوس الذي لم يفارقني بباريس منذ أخبرني والدي بما حدث له مع رئيسه. وصلت إذن في أطيب الظروف النفسية إلى المنزل، فاستقبلتني والدتي بقبلتها الحنون، وهي متكئة على عكازيها بأعلى الدرج، وزوّرتني على الفور بيت زواجي: - لا حول ولا قوة إلابالله ... لو تعلم أنني تزوجت؟ وسرعان ما طرد هذا التخمين من نفسي، طرده السرور المنتشر في البيت المنبثق من كل العيون حولي، غير أنني لم أستطع في هذا الجو السعيد أن أنسى ما تسبب سلوكي بباريس لوضع أسرتي بالجزائر، فكنت أشعر بهذا الإثم حتى في تلك اللحظة. وكانت والدتي تتمتع بصحة جيدة، ما عدا عطب رجلها، فهذا على أية حال ينسي ذاك، أو يخفف من حدته، خصوصاً أن لي بتبسة تلك الليلة أكثر من مصرف للتخمين.

كانت والدتي لا تخفى عليها خافية في صدري، فعندما خرج والدي لفسحة الليل مع أصدقائه، من باب قسنطينة إلى جسر وادي (الناقوس) طبقاً لعرف التبسيين في فصل الصيف، أشارت عليّ بالخروج حتى لا تتركني في حرج الخروج كمن يؤثر لقاء الأصدقاء فيتخلص من الأسرة. كان فعلاً قريبي (صالح حواس) و (عمار سني) في انتظاري على سطح متنزه (كارنو) تجاه شارع الرسول، فوجدت تبسة جميلة، إنني خُلِقت أهوى سحر النجوم ونجوم سماء تبسة على وجه الخصوص، لأن تلألؤها يوحي للقلوب أشياء خالدة لا تستطيع التعبير عنها لغة الأحياء، وكأنما صورة تبسة تعكس للتبسيين معنى هذا الحوار الصامت، فلو أن المدينة فقدت لا قدر الله ما حولها من هذه الأحجار العتيقة لفقدت معها روحها. لقد بدأ في تلك الفترة يستولي شوق مبهم على النفوس في ذلك الجيل الذي لم يعد يقتنع بالحياة البسيطة والسعيدة التي كانت لآبائه، إذ بدأ يتكون في أعماق نفسه شعور جديد، شعور المأساة، الذي لا تشبعه إلا التغيرات الحاسمة والكوارث الكبرى. إنه شعور منعطفات التاريخ ساعة الرحيل. ولطالما سرت تحت وخزه قبل عشر سنوات، عندما كنت في شوارع قسنطينة أفكر مع زميلي (شوات)، كيف نستولي على هذا أو ذاك القصر من قصور المستعمرين أو كيف نفجر مخزن البارود، ونحن لا نعلم حتى أين يوجد. ولم يكن في الحقيقة جيلي وحده يحمل المأساة في أحشائه، بل يحملها ذلك العصر كله الذي تفجرت تحت أقدامه الحرب العالمية الثانية. ما كان حديثي يوماً يدور مع أصدقائي حول عبث الشباب، فكان تلك الليلة كله منصباً عن ملاحظاتي وانطباعاتي بباريس، فتحدثت عن (وحدة الشبان المسيحيين) وعن الانشقاقات التي حاولت وتحاول الإدارة الاستعمارية إحداثها في صف الطلبة المغاربة.

فبقي صديقي (شريف سنوسي) الخياط غارقاً في إعجابه بي كعادته، وقريبي (صالح حواس) و (عمار سني) يسألانني عن ظروف اختفاء مجلة (مرسولين) بعد ظهور عدد واحد منها وصل إلى تبسة، بينما تذكر الشيخ (الصادق) تكوينه الأزهري، فأخد مثل بئر معطلة يتحرك جهازها الآن لجر الماء بعد عشرين سنة، يتذكر ما تبقى في أعماقه من علم ليناقشني به بصدد الكلام عن الشبان المسيحيين. أما صديقي صاحب المقهى- وكنا نسميه (ولد جدنا) - الذي ما زالت قدمه راسخة بزاوية القادرية، فقد فضل الصمت حتى لا يتوروط في نظرياتي الإصلاحية الوهابية الوحدوية. وقد انضاف لمجموعة أصدقائي بتبسة عضو جديد هو النجار (محمد المكي) الذي أصبح منشط الحركات الثقافية، وكان يمتاز بحاسيته نحو كل ما هو جديد، فرأيته تلك الليلة مهتماً بما في حديثي من نقد الحالة الاجتماعية والركود عندنا، نقداً يكشف بضراوة مواطن المرض حتى في حركتنا الإصلاحية على الرغم من إيماني بها، فرأيت (محمد المكي) مهتماً بهذا النقدى الذي لم يكن مقبولاً لدى مثقفينا، كأنهم تحالفوا مع الاستعمار من أجل إبقاء الأمور على ما هي عليه في باطنها، بعد مسحها وتزويقها من الخارج، لتبقى تحت تصرفه كل ترهاتنا وكل انحرافاتنا الخلقية وكل ثغراتنا العقلية. ولكن لم يكن الوقت كافياً بعد لتقويم كل الضرر الذي ألحقه هؤلاء (المدافعون عن الشرف الوطني) بالوطن طيلة ثلاثين سنة، كنا فقط في بدايتها، وسيصبح في نظري صديقي المكي أوضح مثل بسبب نزاهته، على هذا الاستعداد المتناقض الطرفين، إذ كان يتقبل من الناحية العقلية كل النقد الذي أوجهه دون أن يرى جدواه من الناحية السياسية، ولقد استمر فينا هذا المرض حتى عهد الحكومة المؤقتة الجزائرية التي كانت تفرض على

كل جزائري قانون الصمت ولو شاهد المنكرات لئلا يستفيد- حسب زعمها- الاستعمار من كلامنا، والله يعلم كم استفاد من صمتنا. ولكن الفترة كانت خصبة تم فيها بناء المدرسة الإصلاحية والمسجد، وأسهم في البناء كل حسب مقدوره، وتطوع من تطوع، فتولى صديقي (المكي) كل ما يتصل بأعمال النجارة مجاناً، ولم يكن أمراً هيناً، حتى إن امرأة عجوزاً أتت بديك لها، هو كل ما لديها من الرزق. وكانت عودة الشيخ (العربي التبسي)، من مدينة (سيق) منتظرة ليوم التدشين القريب، وانضم تحت لواء الإصلاح حتى عرابدة تبسة ومدمنوها العاكفون على الخمر، مثل (بنيني وفندرودي وبيريلا) وغيرهم من عُبّاد باخوس، كما انضم كثير من الذين يعيشون في كنف الاستعمار. ونقل نادي الشبيبة الإسلامية لافتته من مقره الصغير الذي تأسس فيه سنة 1925، إلى مقره الجديد في الميدان الرئيسي وأصبح يزاحم المقاهي الأوربية الكبرى، وبالتالي كانت الملامح الاجتماعية كلها تتغير في المدينة بينما بقيت في سيرها الإصلاحي منذ غادرتها قبل سنتين، إن الفكرة الإصلاحية التي تسربت في بعض عائلاتها قبيل عشر سنوات مع الشيخ (سليمان) - وكانت الميزة التي تميز بعض الأفكار المتنورة، أو التقدمية كما نقول اليوم- أصبحت تملأ شوارع المدينة، فلم تعد مدام (دوننسان) تشاهد ذلك المنظر، عندما يتحرك من زاوية (¬1) الطريقة القادرية الموكب الصاخب الذي يصحب العريس إلى بيته ليلة الزفاف، وذلك لأن سيدي الشافعي شيخ الطريقة، انضم هو الآخر تحت راية الإصلاح، وأغلق باب الزاوية دون أن يفكر أحد في فتحه، احتراماً لذلك الشيخ الوقور ... ¬

_ (¬1) تعبر هذه الكلمة في الجزائر عن مقر الرابطة ومركزها حيث يجتمع الإخوان.

وكانت تبسة تنتظر أيضاً الشيخ (الإبراهيمي)، إذ قيل إنه سيأتي، ثم أتى وألقى درساً سيبقى أشهراً حدثاً يُذكر في مساوات الناس، خصوصاً أن سيدي الشافعي هو الذي افتتح الدرس بسؤال ألقاه. إن مدام (دوننسان) والسيدات اللواتي يجتمعن حولها في دكانها، الذي كان نادياً ومرصداً لمراقبة الحياة الأهلية، قد بدأن قطعاً يلاحظن هذه التغيرات، التي كان من شأنها أن تغير تلقائياً العلاقات النفسية القديمة بين المستعمرين وأهل البلاد، إذ كان الأولون يعتقدون أن لهم ملكوت الأرض بلا منازع، والآخرون يعتقدون أن لهم ملكوت السماء، فأصبح أُولئك يعدون سلطانهم لا يستحيل الوصول إليه للنيل منه، وهؤلاء يعلمون أن دخول الجنة ليس بالمجان والدعاء الصالح فقط. وتوالت أيام إقامتي بتبسة في هذا الجو السعيد، لم يعكره سوى نبأ لا يعني ظاهره شيئاً ولكن ... كانت جريدة (قسنطينة) تصل إلى تبسة كل يوم في الساعة الحادية عشرة، فيطلع فيها التبسيون على الأنباء اليومية، فطالعتها كعادتي ذلك اليوم وأنا على سطح أحد مقاهي الميدان الرئيسي، وإذا بنبأ صغير يقع تحت نظري، مفاده أن السيد (هيريو) رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك، ذهب للاستجمام بمحطة (سان سبستيان) على الحدود الإسبانية، هذا كل ما في ثلاثة أو أربعة السطور. ولكن مقارنات الأحوال في تلك الفترة جعلتني أرى من النبأ أكثر من هذا، خصوصاً الحملة الصاخبة التي قامت بها الصحافة الاستعمارية- مثل جريدة (قسنطينة) - ضدى الحكومة الاسبانية منذ فشا أمر تأسيس المعهد العربي بقرطبة أو غرناطة، ولأن نبأ استجمام (هيريو) قد اقترن ما في ذهني بنبأ آخر نقلته الصحيفة في اليوم نفسه، أو في عدد سابق، مضمونه: أن الحكومتين الفرنسية والإسبانية، تعاقدتا على صفقة موالح، فخطر ببالي أن مدريد عوضت مشروع المعهد العربي بصفقة رابحة تصدرها إلى فرنسا، وأن السيد (هيريو) ذهب

يستجم من أجل ذلك. وليس لدي طبعاً أي برهان قطعي على ذلك، لكنني أتذكر أنني حررت من مكاني خطاباً إلى صديقي (بن عبد الله) أشير عليه بين جد ومزاح، بألا يوجه الدعوات من أجل تدشين المعهد، الذي لم يفتتح فعلاً كما توقعت. ولكن الأمر الأهم في هذا والأكثر دلالة، هو أنني عندما لاقيت من بعد صديقي بباريس وسألته عن خطابي، قال لي: إنه لم يصله؛ ولا أدري إذا أوليت هذا الحدث البسيط بعض الأهمية، ولكني اليوم بعد أربعين سنة أدرك تماماً معناه، كما أدرك قلة خبرتي في نطاق الصراع الفكري في ذلك اعهد، فقد أرى ذلك السمك المفترس الصغير يستمر في عبثه دون اكتراث بعواقب الأمور، بالنسبة لمصيره وبالنسبة لأسرته الحنون. كانت والدتي حنوناً جداً، تولي صحتي كل الاهتمام دون أن تشعرني بذلك، فقررت ولم تقل إنه من أجلي، أن تستجم بمحطة (قربس)، قرب تونس، وكانت العائلات التبسية تتردد عليها لما يقال عن مياهها المتنوعة من صلاحية طبية، ولسبب آخر هو تواضع التكاليف، لأن العائلة المسلمة تستطيع بثمن يُحتمل، استئجار بيت كامل يتضمن الحمام ومرافق الطبخ والإسكان، فتأتي العائلة بزادها وتقضي مدة الاستجمام بأقصى ما يمكن من الاقتصاد. ذهبنا إلى (قربس)، ومعنا كل ما نحتاجه سوى الماء، لأن المقيمين يشترون كل صباح مقدارهم الكافي من ماء عين (أقطر)، وقد اتفق لي يوماً أن أشاهد معجزة لهذا الماء مشاهدة العيان، إذ كانت والدتي تضع منه كل صباح ما يفي بحاجتنا في إناء كبير من النوع المسمى (المطلي) (¬1)، كان يستخدم للغرض نفسه بتبسة عدة سنين، فتكونت في داخله طبقة كلسية لا تزول بالتنظيف العادي، ولا حتى بآلة مثل السكين. ¬

_ (¬1) التسمية هكذا بالجزائر، إناء من حديد يطلى بمادة ملساء على وجهه وداخله.

وإذا بوالدتي تفاجأ كل صباح، بأن ماء (عين أقطر) يعكر حالما تضعه في ذلك الإناء، فتلقي به. وتنظف الإناء لتضع فيه ماءً جديداً نشتريه فيتعكر بدوره، ودامت هذه الظاهرة تشغل بالها عدة أيام بعد وصولنا، حتى وضعت ذات صباح الماء كالعادة، وإذا بطبقة الكلس تنزل كلها مرة واحدة في قعر الإناء ... فتحدثنا كثيراً بعد ذلك عن صلاحية ماء (أقطر) العجيب لتحليل الحصى. واستمرت الأيام سعيدة هكذا أمام أجمل مناظر الطبيعة، لأن المحطة تمتاز بأنها على سفح جبل وعلى شاطىء البحر، بحيث يستنشق المقيم روائح النبات العطرية والهواء المشحون برائحة اليود. كنت أتنزه تارة في الجبل وتارة على شاطئ البحر، وأُراجع المواد التكنية التي أشار إليها مسيو (سودريه)، خصوصاً (الترمو ديناميك)، وأُفكر أحياناً أخرى في هذا الجو الهادئ المخيم عليه السكون، إلاّ مرة في الأسبوع في اليوم الذي تأتي فيه بعض الأسر القروية التونسية لتقضي نذورها تحت قبة شيخ هو وليّ المكان، فترتفع عندئذ أصوات الزائرين وخصوصاً الزائرات، ويدق الدف تحت القبة حسب تقليد متوارث. دامت هذه الفترة السعيدة واحداً وعشرين يوماً، فأرادت والدتي أن تزيد بعض الأيام في الاستجمام، وفكرت أنا بالرحيل، وذات صبيحة ودعتُ والدي وسكبت والدتي بين قدميّ (ماء العودة). سافرت فوجدت زوجي قد تأقلمت حتى في الملبس، لأنها وجدت صنفاً جديداً للأناقة في لباس السيدات المسلمات، حتى الحجاب؛ وتأقلمت أيضاً هرتنا (لويزة) التي كانت قد اعتادت عزلة الشقة بباريس، فأصبحت تعدو وترتفع في بستان الأسرة الكريمة المستضيفة لها ولمولاتها.

أما المدينة فلا زال يدوي فيها صدى مؤتمر الطلبة المسلمين الذين مروا عليها في الذهاب والإياب من تلمسان، حيث انعقد ذلك المؤتمر الأول والأخير. لماذا سيكون الأخير؟ إن كثيراً من نشاطاتنا سارت على هذا القانون قانون المد والجزر مرة واحدة، لماذا؟ فلنترك الأمر للأيام تفسره لنا؛ أما الآن فالجزائر لا زالت تدوي بصداه وبإعلان اعتناق (اتيان دينيه) الإسلام في حفلة خاصة أقيمت قبل بضعة أشهر بنادي الترقي. وبعبارة أخرى استمرت عملية التصفية التي وضحت الخط الفاصل بين طرفين: طرف من صغار الصيادين وعمال الموانئ مع بعض وجوه المدينة يمثل سير الإصلاح في الوطن ومقره هنا بنادي الترقي حول الشيخ العقبي، وطرف آخر هو تلك الفئة من الانتهازيين الذين لن تشملهم هداية الله، إلا يوم تصوب في صدورهم رشاشات الجهاد سنة 1954 وما بعد. ووجدت أيضاً بنادي الترقي صدى محاضرة صديقي (حموده بن الساعي)، وكأنما رسمت أيضاً هذه المحاضرة منعطفاً ذا دلالة على تلك الفترة، إذ أنها كانت ظاهرة جديدة في هذا الجو المتطور، تدل فيه على أن الجيل الجديد من الطلبة الجزائريين بدأ يكتب ويتكلم اللغة العربية، سواء أتقنها أم لم يتقنها، عل عكس الجيل السابق الذي كان لا يستعملها، سواء كان يجهلها أو يتجاهلها، فلم يتكلم (فرحات عباس) إلى الشعب الجزائري بلغة آبائه، إلا يوم دقت ساعة المزاحمة الانتخابية والمزايدة الديماغوجية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الحقيقة كان صديقي (حموده) قد أتقن العربية في محاضرته عن (السياسة والقرآن) كما علمت ذلك من بعض الحاضرين من الشبان الذين تعرفت عليهم بالنادي، غير أن صدمة صغيرة عكرت سروري عندما سألت الشيخ العقبي ففاجأني برأي غريب:

إنني لا أعتقد أن هذه المحاضرة من تحرير (حموده بن الساعي) ولا من بنات فكره، فبعض جملها سبق وتكرر على مسمعي كأنني طالعتها في إحدى المجلات الشرقية. لم أكن قد عرفت بعد أنها حالة مرضية تعتري غالبية حاملي الثقافة عندنا، فإن كانت ثقافتهم تقليدية فمثلهم الأعلى في الشرق، وإن كانت عصرية فمثلهم في فرنسا. وبالأحرى لم أكن أعرف أن هذه الحالة المرضية تعتري كل مثقفي العالم الإسلامي، إذ تراهم يعانون مركب نقص نحو الثقافة الغربية، وإنما تتخذ عندنا هذه الحالة ازدواجية بسبب ما يعاني الشباب الجزائري تجاه (طه حسين) من ناحية، وتجاه (فرنسوا فانوق) من ناحية أخرى، لأن التكوين غالباً ما يكون أدبياً. وهي بالتالي ظاهرة عامة: إن كل مجتمع فقد حضارته يفقد بذلك كل أصالة في التفكير، أو في السلوك أمام أفكار الآخرين. ... لقد أسرني الخريف في باريس مرة أخرى، وشعرت بسحره منذ أن نزلنا في محطة (ليون) ذلك الصباح الذي طوانا بين جنبيه ضباب كثيف. استأجرنا موقتاً غرفة بفندق صغير على ضفة نهر السين الشمالية، أي في محيط الحي اللاتيني، وذهبت لزيارتي الأولى للأصدقاء بجمهورية (تريفيز)، بينما ذهبت زوجي للبحث عن غرفة تكون أقرب ما يمكن من مدرستي لننتقل إليها نهائياً. والتقينا كما تواعدنا في المساء، وتقرر أن ننتقل إلى غرفة استأجرتها زوجي قرب باب (فرساي) وميدان (كنفنسيون)، في شقة تسكنها أسرة يشتغل فيها الأب مقاولاً والأم تشغل يومها في دكان عطور تديره تحت شقتها، فتبدو هذه

وكأنها شاغرة، الأمر الذي يروق لزوجي لأن المطبخ سيكون تحت تصرفها وحدها طيلة النهار. انتقلنا من الغد وأعجبني السكن بسبب نظافة العمارة وهدوء المكان في هذا الشارع، كما أعجبت فيما يبدو الهرة (لويزة) بالمكان الذي احتلته فوراً على طرف نافذة المطبخ، فيصبح هناك مرصدها فوق رؤوس المارة القليلين بشارع (فريدريك مسترال). وفي انتظار يوم افتتاح مدرستي، قررت زوجي أن تغتنم الفرصة لتعرفني على أمها، الأرملة التي توفي زوجها أثناء الحرب في معركة (فردان)، والتي تزوجت بمدينة (دروكس) على بعد ثمانين كيلو متراً من باريس. كانت الفرصة ثمينة جداً، بالنسبة لي، لأن من يعرف باريس فقط لا يعرف إلا فرنسا ذات الوجه الملمع المهيَّأ، الذي مر بكل عمليات التجميل بشوارعها المتقنة التبليط، وأسطح مقاهيها المكتظة في النهار والليل، وبقطارها الجوفي (المترو) الذي ينقل تلك الحشود من البشر ممن لا يعرف فيها الواحد اسم الآخر، وبمخازنها الكبرى فلا يعرف البائع المشتري، وببناتها المشمرات كأنهن يتحدين المارة. إن هذه الحياة المضطربة المصطنعة لا تعطي صورة صحيحة عن الحضارة الفرنسية، وإنما توجد هذه الصورة بنماذجها الأصيلة وأصولها البعيدة في الريف، في الطبيعة حيث تكونت صلة الإنسان بالتراب على مدى القرون. توجهنا إلى (دروكس) والهرة (لويزة) معنا طبعاً، في حافلة امتطيناها بباب فرساي، وسرعان ما وجدنا أنفسنا بين جمهور غير الجمهور المألوف، بين القروي والقروية ومن أرياف (النرماندي) أو (لابوص)، عائدين من قضاء

مصلحة لهم بباريس في ملابس روعي فيها جانب الراحة أكثر من الأناقة، فيشعر المرء من أول وهلة أن المصلحة تهمهم أكثر من المظهر. وترى وجوه القوم كأنما نحتها الهواء الطلق وكتب عليها علامات الصحة الجيدة، وحالما جاوزت الحافلة محطة فرساي، بدأ الريف الفرنسي ينشر لوحته الخضراء أمامنا، ويستلم من محطة لأخرى حصته من أولئك الركاب القرويين. لم يكن ممكناً بباريس التعرف على هذا الوجه الحقيقي للحياة الفرنسية، وهذه هي المرة الأولى التي أتعرف فيها عليه، وبقدر ما سيزيد اكتشافي، أرى الملامح التي أوحت إلى (سولي) وزير هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، ذلك الشعار الذي وضعه أساساً لسياسته: الحراثة والمرعى هما الضرعان اللذان تحتلبهما فرنسا. واليوم أدرك تمام الإدراك، أنهما الضرعان اللذان رضعهما عصر النهضة، وأن النهضة الفرنسية بالذات، هي بنت هذا الإرضاع. والآن بعد أربعين سنة- عندما تعود لفكري تلك الذكريات- أتصور أن الأقدار التي سخرتني وسيلة تعرفت خديجة بواسطتها على الإسلام، قد سخرتها هي لأتعرف بواسطتها على الوجه الأصيل للحضارة الفرنسية، في هذا الريف حيث استقبلتني أمها استقبالاً حل كل عقدة بيننا، وجعلني أتقبل دون تردد العرف الذي يقضي بأن الصهر زوج البنت ينادي أمها: يا أمي. فقدمتني (أمي) إلى زوجها السيد (مورناس)، وهو رجل قروي بكل معنى الكلمة كان يمتلك في الناحية مطحنة، ثم أصبح يعيش هو و (أمي) من راتب تقاعدي ( Rente) شهري كوناه بأسهم اشترياها من سوق الأسهم بالثمن الذي بيعت به المطحنة وبما اقتصدا أثناء عملهما. وهذا النوع من المتقاعدين يبلغ عددهم الملايين من تجار كبار أو صغار

وأصحاب مصانع كبرى أو صغرى وفلاحين، تقاعدوا في سن معينة حسب عرف شائع في أوروبا وفي فرنسا خصوصاً، يكونون طبقة لها دورها في تطور الاقتصاد خلال القرنين الأخيرين. كان الواحد منهم- صاحب جرابة الصوف (¬1) كما يسمونه في الأرياف- يضع ما يكتسب بين يدي قاض موثق (النوتير) ليتصرف فيه أحسن ما يمكن التصرف، فيستثمر ما وضع بين يديه في عمليات اقتصادية محلية، ليجلب لصاحب (الجراب) أكثر ما يمكن من أرباح، تكون له مورداً شهرياً أو سنوياً فيتقاعد معتمداً عليه. ولهذا ترى (بلغراس) - وهو لا شك أبرع كاتب عن الحياة الاجتماعية الفرنسية في القرن الماضي- تجمع غالباً قصصه، بين الوجوه القروية أو الحضرية التي تتشخصها ثلاث شخصيات: القس الذجما يتصرف في الأرواح، والطبيب الذي يتصرف في الأجسام، و (النوتير) الذي يتصرف في الأموال. ولكن عندما دقت ساعة التصنيع في منتصف القرن الماضي، خرجت وظيفة (النوتير) من يديه، ليتولاها صاحب المصرف على نطاق أوسع في مشروعات اقتصادية كبرى، وذلك عندما تحول الإنتاج من الورشات اليدوية إلى المصانع الميكانيكية الكبرى، وتحول بسبب ذاك المال الفردي من الحقل المحلي إلى رأس المال الذي لا ينتسب لفلان، ولا تحد حقله حدود مكان. كانت (أمي) من هذه الطبقة التي حركت قبل قرن، عجلة الرخاء في العهد الاقتصادي الجديد، ولكنني وجدتها في الفترة التي بدأت فيها عملية الرخاء تطحنُ مَنْ حَرَّكهَا، كانت الفترة صعبة جداً بالنسبة إلى هؤلاء المتقاعدين، لأن ¬

_ (¬1) يسمونه هكذا على سبيل المزاح والألفة لأنه يضع ما يقتصد من ذهب أو فضة في (جرابة صوف).

فرنسا كانت لا تزال تعاني رواسب الأزمة الاقتصادية الكبرى التي اجتاحت العالم سنة 1929، وكان أثرها في الجزائر ما كان، حتى تخلصنا أنا وصهري من (المطحنة) ذات الرحا التي أسسناها بدوار جساس، وطحنتنا في آخر المطاف. وأصبح المتقاعد الفرنسي، في تلك الفترة لا يستطيع التوفيق بين مورده المستقر- على أحسن الأحوال- وأسعار هي نتيجة حالة اقتصادية سائرة إلى التدهور، فأصبح يفكر كيف يعوض نقص مورده تجاه ارتفاع الأسعار. لقد عزمت (أمي) أن تعود مع زوجها إلى ممارسة بعض النشاط القروي الذي يناسب سنهما، ورأت أنها تستطيع تربية الدواجن والأرانب، ومن أجل ذلك غيرت سكنها من بيت لا مرافق فيه إلى بيت جديد، كان قطعاً مزرعة بكل مرافقها لإسكان الحيوان مع بعض الحقول لتغذيتها. استقبلتني (أمي) هاهنا، مع زوجي والهرة (لويزة) التي تحولت على الفور إلى قطة برية، تعيش أوقاتها في أرجاء العزبة الرحيبة، تقتنص فراخ الدواجن فتنالها مناقير الأمهات. أما أنا فأصبحت أسرح ماشياً في تلك الممرات الخضراء المتجمعة بين الحقول في الاتجاهات المختلفة، إلى المداشر الصغيرة الموجودة حول مدينة (دروكس)، ووجدت تلك الروائح الريفية التي طالما كنت أستنشقها أثناء تنقلاتي بريف تبسة مع الشيخ (بلجودي)، أو بريف (أفلو) مع الشيخ (بن عزوز)، وكانت الأسرة أثناء وجبات الطعام تجتمع تحت صولجان مدام (مورناس) فنفرش المائدة، وتعين لكل واحد مقعده وتتولى توجيه الحديث أثناء الطعام. كانت هذه المرأة- التي سميتها (أمي) من دون تردد منذ اللحظة الأولى - امرأة من طراز خاص: لو وُلِدَتْ رجلاً لنجحت في الصفقات التجارية، أو نبغت في السيرك؛ كانت من أصل باريسي تجيد النكتة، ولكنها ورثت من

آبائها الفلاحين بضاحية العاصمة كل ما تمتاز به أجيال فلاحي (جزيرة فرنسا) كما تسمى تلك الضاحية، من مثابرة في العمل وروح الكد، فلم تزل- في تلك الفترة التي وصلت فيها إلى بيتها- تضحك وتضحك، تسلي نفسها وتسلي الآخرين، مع أن موت (كروجير)، رجل الأعمال السويدي الذي كان انتحاره إحدى نتائج الأزمة الاقتصادية، قد مسّ كثيراً من المتقاعدين الفرنسيين مساً بليغاً و (أمي) بوجه خاص، لأنها كانت صاحبة بعض الأسهم في شركة (كروجير)، ولكنه لم يمس خفة روحها واستعدادها إلى اغتنام الفرصة المناسبة المسلية. وأتيح لي أن ألاحظ بهذه المناسبة، الفرق بين (أمي) وبين خديجة زوجي، التي كانت من أصل برجوني، وكانت بسبب ذلك، أميل إلى العزلة والتأمل والسكون، الأمر الذي يحدث أحياناً بعض سوء التفاهم بين المرأتين. وهذا جانب جديد اكتشفته في الحياة الفرنسية، مع (أمي) الباريسية القروية، المرأة التي تتقن تربية الدواجن وتسمي كل نبات بري باسمه خيراً مما يفعل صيدلي أو عطار، ومن ناحية أخرى تقرأ (بلزاك) وتضم بحنو جلّ كتبه في مكتبة صغيرة رتبتها لنفسها في ركن من خزانة أثاث الأكل. فاطلعت بفضلها على بعض الجوانب الخفية التي لا تبصرها العين بالعاصمة، وهكذا تم اكتشافي للحياة الفرنسية كما تبرز على الطبيعة، دون عملية التقطير التي تجري عليها بباريس. وحان يوم عودتنا، فرجعت (لويزة) إلى مرصدها فوق شارع (فريدريك ميسترال) من دون أي اكتراث بتغير المكان، وأصبحت زوجي تتردد على دكان مدام (بيري) صاحبة شقتنا، لتقضي معها العشيات حتى أعود من المدرسة ولعل العرق البرجوني قد جذب المرأتين.

ولم تكن امرأة تبدع في بيتها مثل خديجة وتتقن إتقانها، من ناحية النظافة والتجميل كان ترتيب الأشياء ميزة لها على وجه الخصوص، فقد طُلب منها ذات يوم في أحد تنقلاتها بين الجزائر وفرنسا، أن تفتح حقيبتها لموظف الجمارك، فعندما فتحتها وشاهد الموظف دقة ترتيبها وجماله، عدّ من العبث أن ينقضه بتفتيش على لا شيء فقال: - أغلقي سيدتي حقيبتك، إنني لا أريد أن أضع يدي في هذا البناء الدقيق. كان ذلك صحيحاً، وقد كنت أشاهد ذلك في بيتي، حيث لا يسمح لي بالدخول إلا وأقدامي على قطعة قماش سوف أجدها عند الباب، حتى لا يخدش نعلي البلاط الخشن الممسوح بمادة تجعله يبرق كمرآة. وما ننتهي من الأكل، حتى تصبح المائدة وسط الغرفة لتوضع عليها تحفة فيها طاقة من الزهور، تشتريها زوجي كل مرة حين تذهب إلى سوق باب فرساي، حتى القطة (لويزة) عندما تغادر مرصدها وتأتي إلى الغرفة، تصبح هي الأخرى مجرد تحفة يراها الزائر في بيت عرائس، وإذا قلت إن (أمي) لو وُلدت رجلاً لنجح في الصفقات التجارية أو نبغ في السيرك، فإنني أقول إن ابنتها لو ولدت كذلك، لكانت فناناً ماهراً في فن التجميل، وربما تفوقه بما تصنع بيدها من آيات من الذوق ببعض خشب وبعض قماش مزركش من نوع الكريتون الرخيص جداً. إنني أذكر هذه التفاصيل لأنني أعدها دالة على التطور النفسي الذي سيجعلني أشد الناس نفوراً لكل ما يسيء لذوق الجمال، ولأنها تفسر ثورتي على بعض جوانب تخلفنا التي تصبح موضوع السخرية في بعض المجلات، بإيعاز تلك الأوساط التي تتدخل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، باسم الوفاء للتقاليد عندما نحاول نحن، تحت أي راية تقدمية، أن نغيره، غير أن الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي، لم

أكتسبها اكتساباً بدأت معه تغيير بعض مظاهري منذ وجودي بمدرسة قسنطينة، وإنما وجودي بفرنسا ومعايشتي لزوجي طوّرا هذه الاستعدادات الوراثية إلى أفكار اجتماعية واضحة. كانت الحياة المنزلية تبتدئ بالنسبة لي، عندما أعود مساء من المدرسة، فآخذ استراحة قصيرة أتناول أثناءها كأس شاي، وأتجاذب الحديث مع (خديجة) حول القضية الجزائرية أو حول الدين، وكان يروق لها، بعدما أصلي المغرب، أن تستمع لما أتلو من القرآن دون أن تفهم بطبيعة الحال؛ غير أنها تتذوق جرس التلاوة نفسها، ويحدث أن تطرح بهذا الصدد سؤال المريد المبتدئ، أو تبدي رأيها في موازنة الإسلام والمسيحية بطريقة تفيدني أحياناً، أو تلفت نظري إلى أشياء لا تفقد أهمية بالنسبة لمن لا يحتقر الشيء البسيط لبساطته، فقد لفتت نظري ذات يوم إلى أن الهرة (لويزة)، كانت إذا قفزت إلى المائدة، لتحل مكانها على ركبتي مولاتها، وكان المصحف مفتوحاً بيننا، نراها تتياسر أو تتيامن كأنها لا تريد أن تضع أقدامها على المصحف في طريقها. وتنتهي هذه الاستراحة بعد العشاء، عندما ترفع أدوات الأكل من على المائدة لتعود إلى عملها. كانت (خديجة) في الأسابيع الأولى فرحة متفائلة بما أبذل في العمل، لأنها تقدره بالوقت الذي ضاع في السنة السابقة، ولكن مع مرور الأيام وعندما رأت أن خط السير لم يتغير، ولم يترك لها من وقتي إلا القليل، حتى أصبحت تشعر أنها تعيش مع (لويزة)، وجدتني مبالِغاً حتى بالنسبة لصمتي، لأنني كنت أستمر في العمل إلى الساعة الثانية ليلاً أحياناً، إذا ما كنت مع مشكلة رياضية في صراع محتدم إلى درجة البكاء. هكذا كان الجو حولي مملوءاً حرارة وطموحاً، مما تصرفه زوجي في قضايا

الدين وما أصرفه أنا في الرياضيات، حتى ألحت علي زوجي، تفادياً لصمتي وعطفاً علي، أن أخصص مساء السبت للتسلية مع أصدقائي، فأذهب إما إلى جمهورية (تريفيز) حيثما أجد (مرسولين) أو أذهب قليلاً إلى الحي اللاتيني، لأن علاقتي بـ (حمودة بن الساعي) كانت حينذاك فاترة بسبب محاضرته في نادي الترقي، فلم أكن في نظر صديقي حاسماً في دفاعي عن شرفه عندما وصمه الشيخ (العقبي) بتلفيقها من مصادر مختلفة، وقد كان أخوه (صالح) من رأيه. ولكن ضرورات الصراع لم تتركنا طويلاً على هذا الوضع، فجمعتنا مرة أخرى وحدة الصف، دون أن أتذكر من منا كان الأول في التغلب على كبريائه، وعلى كل كان صديقي في حاجة إليّ ليقرأ عليَّ الوريقات الصغيرة التي يملؤها بانطباعاته وتأملاته خلال الأسبوع، وكنت في حاجة إليه لتبادل الرأي حول (نيتشه)، وقد اكتشفته في ترجمة لـ (هاليغي)، أو حول (سبينوزا) الذي شغلني أيضاً في دراسة قيمة تتناول حياته، تلميذاً لـ (ابن ميمون) وبالتالي بالنسبة للمدرسة الإسلامية في عصره. ولقد كانت فعلاً بروق الأول وصواعقه وأفكار الثاني الملتوية المتسربة تشغل بالي كثيراً في تلك الحقبة. وكان (نيتشه) يشغلني خصوصاً لأن صواعقه كانت تدوي فعلاً في تلك الفترة التي ستفجر فيها الحرب العالمية الثانية، لم تكن الانتخابات العامة لرياسة الجمهورية بألمانية قد أعطت سوى مهلة لأوربا بنجاح المرشال (هندنبورغ)، ولكن الصحافة الألمانية نفسها قد عبرت عن حقيقة تلك الانتخابات منذ الغد، عندما أعطت نتيجتها في عناوين لاذعة هزلية تقول: ((كسب (هندنبورغ) عشرة ملايين من الأصوات ولكن عمر هتلر أربعون سنة)). وبالتالي قدر للمرشال العجوز بطل معارك (تاننبرغ) أن يكون هو الذي يدعو بنفسه هتلر مستشاراً إلى جانبه يوم 30 كانون الثاني (يناير) 1933.

وبدأ (أينشتين) يحضر حقائبه ليتوجه نحو سويسرا في الانتظار، ودخل العالم عامه الأول من تلك الأزمة السياسية التي كان مآلها انفجار الحرب العالمية الثانية. وبدأت الأفكار العربية الوحدوية التي حركها (فريد زين الدين) بالحي اللاتيني تخمد بعد ذهابه. وبدأت الموسيقا الوطنية في البلاد العربية تعزف على النوطة (القومية)، وبرهن (مصالي حاج) أنه يجيد هذا العزف، وصارت فعلاً بين يديه، جمعية (نجم شمال إفريقيا) آلة تصغي لعزفها الجماهير من عمالنا الذين يعملون بين يديه بباريس؛ فقد بدأت السلطات الاستعمارية تهتم بشأنها أكثر من ذي قبل، وبدأ أفراد الفئة الطلابية الجزائرية يفكرون في تحديد خط سيرهم حسب ما تجري به الرياح السانحة. أعتقد أنها السنة التي نشأت فيها فعلاً الاتجاهات القومية الأولى لطلابنا في الحي اللاتيني؛ وللقائل أن يقول: ((لماذا لم يصبح (عمار نارون)، قائد الانشقاقيين في الفترة السابقة، هو الآخر وطنياً قومياً؟)). ربما لأنه لم يكن يجيد العزف ولأنه يفقد حاسة الشم فلم يشتم من أين تأتي الريح السانحة. ومهما يكن فقد بدأت في الجزائر نفسها تنشأ صورة أخرى للوطنية، تلك الصورة التي تجسدت في مؤسس وحدة المرشحين بقسنطينة مع (فرحات عباس) والدكتور (بومالي) ومن لف لفهم، وتورط فيها حتى ذلك الرجل النزيه الدكتور (سعدان) رحمه الله الذي ساقته الحظوظ السيئة ذات يوم، إلى ذلك الغاب حيث تصيد الذئاب. وهكذا بدأت في تلك الفترة تنشأ صورة القومية الجزائرية بجناحيها: الجناح الكادح الطامح إلى البرجوازية في ذات قيادته المتواطئة مع الحركة اليسارية الفرنسية، والجناح البرجوازي المتواطئ مع الاستعمار.

وبقي الإصلاح يسعى في شق طريقه بين الطرفين، دون أن يشعر أنه سيقدم ذات يوم استقالته المعنوية للجناح القومي البرجوازي الذي يتقبلها منه بكل سرور، ثم يكون عرضة للجناح الكادح الذي يطحنه ويدوسه بالأقدام، لأنه عرّض نفسه لذلك بتسليم مسؤولياته. لم يكن (حمودة بن الساعي) وأخوه منتسبين لأحد هذه الأطراف، بينما كنت أنتسب للطرف الإصلاحي، لأنه كان يمثل في نظري الصورة الجزائرية للفكرة الوهابية التي كنت أرى فيها منقذ العالم الإسلامي. أما (خديجة) فكانت على مذهبي كانت تطالع كل ما يكتب أو يصدر من المكتبات عن (عبد العزيز بن سعود)، وهكذا قرأت معها كتاب الكابتن الانجليزي (أرمسترونج) عن حياة العاهل الراحل (عبد العزيز آل سعود). ولم تكن هذه النوافذ عن العالم لتلهيني في تلك الفترة عن مهماتي الشخصية في دروسي وفي المدرسة، وقد بقي تكويني الخاص جنباً إلى جنب مع ملاحظاتي العامة في الجو المدرسي، فاكتشفت يوماً فيوماً ما تتيحه لي الفرص. كنت أراقب نفسي وأراقب أقراني ربما بسبب مركب نقص تجاههم، نتج عن تقدمي في العمر بالنسبة إليهم، لأنني انفصلت عن التعلم مدة خمس السنوات التي بقيتها موظفاً وتاجراً في الجزائر بعد دراستي الشتوية، الأمر الذي جعلني أفرض على نفسي الجهد جهدين لأتخلص من مركب النقص، الذي لم يفارقني إلا في اليوم الذي طرح فيه (سودريه) على طريقته الفذة في أخذ مقياس مدرسته في التكوين، سؤالاً ماكراً في الرياضة فكنت الوحيد الذي أجاب عليه. سعدت كثيرا ذلك اليوم، ولكني لاحظت أن المدير لم تلح كثيراً على وجهه علامات السرور في تلك المناسبة، وكأنما خاب أمله. لاح لي وجه الاستعمار من الناحية النفسية هذه المرة، لأنني كنت متأكداً

من استقامة (سودريه) الكاملة من الناحية الأخلاقية، غير أنني لم أكن أعلم أن النفوس لها أغوار لا شعورية تخفى حتى على صاحبها، بينما لم أكن أشعر بأي حرج نفسي مع أقراني، بل كانت معاملاتي معهم سليمة من الطرفين، كانت أسلم من معاملاتي مع بعض المشارقة من بينهم، فقد كانت تحدث لي منهم بعض المفاجآت أحياناً، مثلما حدث لي ذات يوم مع أحدهم عرفته من القسم باسم (جيم) كما يسمي نفسه؛ وكنت أعتقده من أصل أمريكي لأنه لم يكن يحسن الفرنسية، وإنما كان ذكياً جداً، وإذا بي أكتشف ذات يوم، ولا أتذكر كيف اكتشفت أنه شاب لبناني اسمه (عمر عجم)، ولكنه (أَمْرَك) اسمه كي يخفي أصله، تماماً كما كان تلميذ آخر يخفي أو ينفي صلته بالعربية والعروبة، فيقول لمن يسأله عن جنسيته: ((أنا فينيقي)). والجدير بالذكر أن من أقوم من تعرفت عليهم من الطلبة، أبناء المستعمرات أو الشبيهة بمستعمرات، كانوا من الجنس الأصفر، من الصين أو من الهند الصينية، فتكونت هكذا تلقائياً جبهة ضد الاستعمار داخل المدرسة، كنت تقريباً زعيمها دون لقب. وربطتني بشاب صيني علاقة صداقة خاصة، بينما كنا من الوجهة السياسية على تناقض كبير، لأنني كنت موالياً لليابان أرى فيه المنقذ الوحيد للشعوب الشرقية، حتى إنني لو طلب اليابان الاستيلاء على الجزائر لرخصت له بذلك من أجل القضاء على الاستعمار الغربي، بينما كان صديقي يواجه الاستعمار الياباني بالذات. ولكننا كنا على الرغم من هذا التناقض أصدقاء بكل معنى الكلمة، وذلك لسلامة الضمير لدى الطرفين: فكان يشكو لي ضراوة الاستعمار ذي البشرة الصفراء، وكنت أشكو له الاستعمار الأبيض، وخاصة في الوقت نفسه أن صديقي كان أثناء مناجاتنا على حذر يبدو لي مفرطاً في حذره، فكان يفضل أن

يحدثني في فناء لا مساكن فوقه ولا تحته ولا جدار حوله، فكان يأخذني غالباً إلى ميدان (البانطئوون) الواسع الأرجاء لمناجاتنا السياسية، لأننا نكون في وسطه بعيدين عن مسامع المارة، كنت ألاحظ ذلك دون أن يبدو لي جانب منطقي لملاحظتي إلا يوماً بعد عشرين سنة، كنت مع صديقي (صالح بن الساعي) وجماعة من طلبة جزائريين نتناجى بغرفة نزل في القاهرة حول مسيرة الثورة الجزائرية، إذ قام صديقي ليغلق علينا باب الغرفة، فتذكرت فجأة كم كان صديقي الصيني أقرب لمنطق الحذر، فصرخت لصالح: ((أرجوك أن تترك الباب مفتوحاً، وإن استطعت أن تزيل الجدران من حولنا فافعل، لأن الجدران قد تكون أحياناً وراءها آذان صاغية.)) ومهما يكن فاليوم بعد أربعين سنة أرى بصورة أوضح جوهر اختلافي مع صديقي الصيني، إذ كان يطرح قضية البلاد المستعمَرة بتعبير السياسة، وكنت أطرحها من الوجهة الحضارية. وكان حولي في المدرسة وجوه أخرى ذات سمات معبرة، من بينها طلبة يهود نزحوا مع أسرهم من ملاح (¬1) (كراكوفيا) وغيرها من مدن الشرق الأوربي، ليتخرجوا ثم ليتوزعوا في عواصم الغرب، حتى في عواصم الشرق العربي، بعد أن يتخذوا جنسيات جديدة .. وكان خاصة شاب يهودي تخرج فيما بعد (الأول) في فوجه، كان قد قدم للتحصيل على التكنية من أجل تأسيس وطن يهودي بفلسطين، لا أتذكر اسمه وإنما أتذكر أنه يستحق التقدير أكثر من أي طالب عربي اسمه (س) في ذلك الجيل التائه؛ كان يعكف في القسم عندما يخرج منه أقرانه في الساعة الثانية ¬

_ (¬1) الملاح كلمة تعبر عن الحي اليهودي بمدن مراكش، ويعبر عنه بكلمة (جيتو) في المدن الفرنسية.

عشرة، فيأخذ من حقيبته قطعة خبز، ويبدأ يتناول لقمة من الخبز اليابس ونصيباً من دروس الصباح، كان هكذا يراجع مواد الدروس في يومها كل يوم، حتى يرجع الطلبة من الغداء، وربما أثناء تناوله الخبز اليابس والرياضيات، يفكر في الشيء الذي يصنعه على ضفة البحر الميت ... ثم ... وعسى ... ولعل ... من يدري؟ لم تكن بيني وبينه صداقة، لأنني اشتممت فيه رائحة الصهيونية منذ اللحظة الأولى، ولكنني كنت أقدره، وأعتقد أنه كان يقدرني على الرغم مما كنت أبدي له من استياء حول فكرة (الوطن القومي اليهودي) بكل صراحة. وكان أيضاً طالب يوغسلافي أكبرنا سناً، قد ترك بزّة ضابط في الجيش، ليأتي هنا من أجل تكوينه التكني، عندما شرعت بلاده في نهضتها الصناعية، فكان المدير مسيو (سودريه) لا يناديه إلا برتبته: - يا (كومندان) .. وهكذا تتابعت الأيام في تلك السنة بالنسبة لي، بينما كانت الصحافة في باريس تصب كل صباح في وطاب فَرّاشي العمارات، الأخبار اليومية عن الراقصة الزنجية (جوزفين باكر)، وعن تنقلات (أينشتين) الذي أصبح اسمه يتردد حتى على ألسنة البسطاء لما أعطته الدعاية من شهرة، خصوصاً الوسط الجامعي حيث أصبح من المقدسات، إلا على بعض الأساتذة مثل البروفسور (بواس) الذي استمر ضد نظرية (النسبية). وعلا أيضاً في سماء الأدب بباريس اسم (أندريه جيد)، فأخذ كتابه (الغذاء الأرضي) يعلو صيته في الأوساط المتنعمة، كما كان يجري الحديث في هذه الأوساط مجراه عن عملية جراحية يجريها الأخوان (فرونوف) بدعوى أنهما يعيدان للعجوز شهوات الشباب وطاقته، حتى بدأ يفد عليهما من كل صوب،

من أميركا وأوربا، كل رجل ذو ثروة كبيرة يرغب في زواج جديد؛ وكان للقصة صداها في الجانب الفلسفي، إذ تقوم العملية الجراحية على نقل أعضاء جنسية للقرد الشنبنزي، فذهب كل من سبق له أن سمع بنظرية (دارون) في روايتها الشعبية، إلى أن الإنسان أصله فعلاً من القرد. ولا زالت التعليقات عن حرق مجلس الأمة الألماني (الريشتاغ) تجري مجراها بين من يبرئ ذمة (ديمتروف) وبين من يدينه، كما أدانته مع شلة من رفقائه الشيوعيين محكمة (لايبسيش) النازية، فلم تزد هذه التعليقات إلا توتراً في الحالة الدولية في الوقت الذي كان فيه الاهتمام العلمي متعلقاً بالتجارب الأولى في ميدان التلفزيون، وبتجارب المهندس الفرنسي (جورج كلود) عن استخدام الطاقة الحرارية في البحار، بينما يرتفع صيت نظرية الميكانيكية المذبذبة، وتحقق لصاحبها (دو بروري) جائزة نوبل. ولم يتعلق اهتمامي كما تعلق بتجارب (جورج كلود): (يستخدم الحرارة البحرية)، لماذا لا نستخدم الحرارة الصحراوية؟ كان هذا السؤال يتردد في ذهني في تلك الفترة، لأن المجال العربي صحراوي على العموم، وأصبحت أولي شطراً من وقتي لدراسة (الترموديناميك) خاصة. وهكذا عاش جيلي، دون أن يتصور أنه يعيش، تحولاً كبيراً في جميع اتجاهات التاريخ. وفي هذه الأثناء أتاني من تبسة نبأ سفر والدي ووالدتي لأداء فريضة الحج، فتمنيت لو اصطحبتهما من أجل التمهيد لانتقالي بعد الدراسة إلى المملكة العربية السعودية الفتية، لأنني بدأت أشعر بصورة ما أن صعوبات كثيرة ستقوم في وجهي بالنسبة إلى تقرير مصيري مهندساً أشارت إلى اسمه السلطات الاستعمارية بسبب انحيازه لأفكار معينة، أو كما نقول اليوم، بسبب التزامه، وربما لرأيه في

القضية اليهودية، إذ كان لي فعلاً فيها رأي يزيد من خطورتي في نظر تلك السلطات، بالإضافة إلى أنها وجدتني ملتزماً نحو (الوهابية) والوطنية والإصلاح ونحو التكنولوجيا، أي نحو كل شيء تكرهه من طرف جزائري، بينما القضية اليهودية أصبحت في سياستها المحك الذي تقدر به الاعتدال في سلوك الفرد، خصوصاً إن كان من أبناء المستعمرات. لهذا كله، فوجئت بنبأ سفر والديّ بوصفه فرصة ثمينة ضاعت علي، ولم يبق لدي إلا الرجوع لله في الأمر وانتظار اليوم السعيد الذي أراهما فيه بعد عودتهما من الحج، وعودتي من فرنسا لأستمع منهما إلى أخبار الحجاز، فقد أصبح يأتيني نداء الأفق البعيد الذي كان في السنوات السابقة يأتيني من (تمبوكتو)، أو من أستراليا. وكانت السنة الدراسية تأخذ منعطفها نحو الامتحانات، بعد إجازة الربيع التي قضيتها مع زوجي وهرتنا (لويزة) عند أمي (مورناس). وبدأت ليالي المراجعة تستمر حتى الساعة الثانية، وتعودت خديجة أن تهيئ لي، قبل أن تضطجع القهوة في (ترموس)، مع خبز وجبن طعام سحور. وكان في تلك الفترة جبننا المفضل من نوع (المونستير)، فأصبحت خديجة تشتريه لي أكثر من غيره. وذات ليلة من ليالي المراجعة، استمر عملي طويلاً بعد السحور، فما رفعت رأسي من الشغل حتى أحسست كأنني مصروع، صرعتني رائحة الجبن لأنني تنفست طويلاً في جوه دون أن أشعر، كمن يتنفس في جو من أكسيد الكربون، فكانت آخر مرة أكلت فيها من (المونستير) إلى اليوم. ولعله كان يليق بمن يصنع هذا النوع الخطير من الجبن، أن يضع على غلافه هذا التنبيه (يُؤكل ولا يُشم).

كانت كل البواخر التي تعمل بين الموانئ الفرنسية والجزائرية تحمل في قمة عمودها الرئيسي العلم الفرنسي، وعلى مقدمتها اسم أحد الولاة الذين تولوا الولاية العامة بالقصر الصيفي (¬1) منذ سنة 1830. وكانت الباخرة التي تصل مدينة عنابة بمرسيليا، ترسي أولاً بمدينة (سكيكده) حيث ينقل أكثر المسافرين الأوربيين من الدرجة الأولى والثانية، فينقلبون بوسائلهم الخاصة إلى اتجاهاتهم المختلفة بعمالة قسنطينة. أما فوج الشرق القسنطيني فكان مثلي من ركاب الدرجة الرابعة، يقضي ليلته على العنبر فتفاجئه صباح الغد حملة تنظيف الباخرة وتطرده من سباته مع حاجاته وحقائبه، سيول الماء الموجهة ومكانس المنظفين؛ ثم تقلع الباخرة من جديد نحو ميناء (عنابة) حيث ينزل آخر راكب لينقلب عشية إلى وجهته في شرق العمالة. أما أنا فكنت أقضي النهار بمدينة (سيدي مروان (¬2))، لأن القطار المتجه نحو تبسة لا يخرج منها إلا مرة واحدة في الصباح، فتكون لدي فرصة جسّ نبض (عنابة)، فكان السكون يخيم تحت سمائها، لا تتحرك تحته العاصفة التي اجتاحت معظم نواحي قسنطينة، ولا يهب تحته روح الإصلاح كأنه لم يصل إليها بعد، بل ما زالت الطرق الصوفية منتشرة فيها، وقد كانت الزاوية (العليوية) هي الثانية في القطر الجزائري بعد زاوية (مستغانم)، وما امتص الاستعمار مدينة مثلها، فقد أصبحت الأسرتان المسلمتان صاحبتا الاعتبار فيها، لا همّ لهما غير الاندماج في الوسط الأوربي للحفاظ على مكانتهما، على النقيض من الأسر المسلمة الأخرى في القطاع القسنطيني التي بدأت تفكر في استعادة مكانتها على ¬

_ (¬1) هكذا كان يسمى قصر الشعب بالجزائر منذ بناه الأتراك إلى آخر العهد الاستعماري الفرنسي. (¬2) سميت هكذا في لغة الشعب باسم الفقيه المالكي الشهير الذي عاش فيها في القرن الرابع الهجري.

أساس الوطنية والدين، وتبعاً لهذا الوضع الخاص كانت (عنابة) مدينة تستهلك من الكحول ما لا يقدر، خصوصاً مناسبات الأعراس التي أصبحت كأنها نذر الإله باخوس تقام على نغمات الفنان المشهور (ولد الكرد). إذا أردنا الحقيقة على وجهها الكامل، يجب أن نقول إن الإسلام لم يفقد سلطانه الروحي في (عنابة) في تلك الفترة، وإنما نراه كأنه هاجر إلى البيوت المتواضعة التي كانت حياتها الروحية في فلك زاوية (بن عليوه)، وهناك يشار إليه بإصبع الريبة من طرف المصلحين، ولا تطمئن إليه السياسة الاستعمارية. هذا هو وجه (عنابة) من الطرف الجزائري في تلك الفترة. ولكن من كانت لديه بعض المقاييس لموازنة الأشياء، ما كان ليفوته أن الطرف الأوربي هو الآخر أخذ في التدهور في (عنابة). إذ أخذ يفقد قيمه الحضارية والأخلاقية كأن المدينة التي ميّعت في جو من بخار الكحول التقاليد الإسلامية، لم تسمح للتقاليد الأوربية أن تتأقلم كما تأقلمت في مدن أخرى مثل الجزائر، حيث لم يفقد الأوربي مظاهر حضارته على الأقل. كانت أستطيع هذه الموازنات لأن معايشتي مع زوجي أكسبتني حجر المحك، أو زادت كثيراً مما اكتسبته في (الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين). وكانت مناسبات تجعلني أتناول هذا المحك في حالات بسيطة، وأثناء سفري هذه المرة من (عنابة) إلى (تبسة) عندما شاطرت موظفاً فرنسياً سيارة استأجرها هو لعودته إلى تبسة، اغتنمت معه الفرصة بفضل السائق الجزائري، فبدا لي منذ أول لحظة ما يشذ في سلوكه بالنسبة للذوق الفرنسي، إذ رأيته يركب جانب السائق لا تواضعاً ولكن كبرياء، مثل عالم من علماء الإصلاح الجزائري، لم يتواضع أن يركب معي من خلف، ثم بدأ يكلمني في وضع غير

مريح فيضطر للالتفات، وكلما عجزت العبارة عن أداء فكرته، رأيته يكملها بحركات جسده، حركة اليد والرأس وحتى الرجل. فكانت الملاحظة تلفت اهتمامي لدور الحركة بوصفها وسيلة تعبير في سن الصغر أو في أوساط متخلفة، وقد كان السيد الموظف في نظري أثناء السفر، صورة لتخلف الوسط الاستعماري بالنسبة إلى سير الحضارة الغربية نفسها في بلاده. ومهما يكن فإن الانسان لا يفقد في أي ظرف كان، ما خصه الله به من تكريم، وهذا ما كنت أشعر به إلى جانب الموظف في السيارة التي استأجرها خاصة له؛ غير أن وجه والدتي بقي يبتسم لي من أعلى درجنا طوال الطريق، فكانت السيارة تسرع وتعرض علي ذات اليمين وذات الشمال مناظر الطبيعة الصيفية، بينما كان السائق في شغل بطرف من عمامته مصمم، لكي يرفعه بيده على جبينه، خشية أن يسقط مرة أخرى على عينيه. إن الوجود الاستعماري ينتهي مع الإقطاعات الكبرى، الممتدة من سهول (عنابة) إلى تلول (بو شقوف)، ثم من سوق أهراس تبتدئ حقول صغيرة يمتلكها مع بعض القطعان من المواشي الصغيرة من غنم ومعز، الفلاح الجزائري الذي يسكن أكواخاً سقفها من الديس (¬1) منفردة أو متجمعة على هيئة مداشر وقرى صغيرة لم يكن يصلها ببعضها بعضاً، سوى مسالك لم يعبّدها إلا حافر البغل والحار، وتصلها الآن سيارات (سيتروين) التي تولت مسؤولية التعبيد والتوسيع لتلك الدروب بعجلاتها. ثم رويداً رويداً ينتهي مجال النبات وتنتهي الغابة الكثيفة، من شجر الزين إلى شجيرات من الصنوبر، قليلة ضئيلة موزعة هنا وهناك؛ ومنذ قرية ¬

_ (¬1) نوع نبات متين يستعمل في الأرياف في حاجات متنوعة.

(العين الصافية) يتغير النظر تماماً، ويترك الكوخ مكانه إلى بيت الشعر، وتنتهي الحياة المستقرة العمرانية التعيسة تعقبها حياة الأجداد الرحل. لقد احتفظت حياة الرحل، على عكس حياة سكان الأكواخ، بكل كرامتها على الرغم من مضايقة العمران الاستعماري لها من ناحية الشمال، وزحف الصحراء عليها برمالها من الجنوب، فاحتفظت على الأقل بكرامتها وجمالها في جو عامر من الإيحاء الشعري، تُبْرِزُ فيه كصور للجلال والسكينة، الجمالَ ذا الخطوات الهادئة كأنها موزونة عل نسق حياة لا تقدر بالدقائق والثواني. وفي هذه اللوحة الزيتية، ترى الناس مشمرين في السهل يجمعون حصيلة حقولهم، حصيلة قليلة من شعير وقمح اغتصبوها بكدهم من أرض فقيرة عقوق، ولكنهم سيعودون بعد حين عند غروب الشمس، إلى منازلهم حيث تنعقد بعد العشاء، حلقاتهم للاسماع إلى ذكريات القبيلة التي تناقلتها عن الجدود، أو لاستماع ما قاله سيدي (علي بن الحفصي) في القرن الماضي. فمن لا يعرف في ناحية تبسة وخصوصاً في قبيلة أولاد (سيدي عبيد)، من لا يعرف أقوال سيدي (علي بن الحفصي)؟ إن القوم يعدونها تنبؤاً، ومفاتيح تُفتَح بها أسرار الأحداث، كما يفتح (ابن سيرين) ألغاز الأحلام: فلم يكن يحدث في تلك الناحية حدث هام إلا فسره مُسِنّ القوم وشيخهم على ضوء ما قاله سيدي (علي بن الحفصي) منذ قرن. إنني أتصور كيف كان هذا الجو البريء السعيد، يأخذ بمشاعر (ايزابيل ابرهارت (¬1)) ويصب في روحها ذلك السحر الذي تنفرد به كتبها، وأتصورها في تجولاتها خلال منازل هذه العشائر، تصغي إلى أحاديث السمر في هذا النزل ثم ¬

_ (¬1) كاتبة فرنسية كبيرة، من أصل روسي، خصصت كل ما كتبت للدفاع عن الإسلام والمسلمين في الجزائر، من كتبها (في ظلال الإسلام الدافئة).

تمتطي صباحاً فرسها متجهة بين باقات الشيح (¬1) وأكوام الحلفا، نحو نزل آخر للاستماع إلى ذكريات أخرى. إن هذا الجو يأسرني أيضاً كلما رجعت من غيبة طويلة، ويلوح جبل (قرص السكر)، كما تلوح من بعيد الصومعة التي تنذر المسافر بالوصول إلى بيته وإلى أهله. إن مدينة تبسّة تتجلى أكثر للمسافر عندما يأتي عن طريق سوق أهراس، من الاتجاه الذي تأتي منه قوافل الصحراء، لأنه يراها بأكملها مسطحة تحت جبل (بورمان). وها هو ذا سور المدينة العتيقة؛ وهأنذا قد نزلت عند باب قسنطينة. إن العادة في قرانا الصغيرة تقضي بأن يكون أطفال الحي هم الذين يعلنون للأسرة نبأ وصول المسافر، فما إن وصلت إلى ميدان (الرسول) حتى ترك الصبيان ألعابهم وانطلقوا يتسابقون إلى بيتي وهم يصرخون: - سي الصديق جاء!. سي الصديق جاء! ... وما وصلت إلى عتبة دارنا، بين مهرجان الأطفال المحتفلين بقدومي، ومن يهنئني من قدماء الجيران مثل (حشيشي مختار)، إلا وكانت والدتي في انتظاري في أعلى السلم متكئة على عكازها، والبشرى تشرق على وجهها، فمدت لي على عادتها يدها الحبيبة فقبلتها، وقبلتها هذه المرة لأنها أيضاً يد الحاجة التي تعلقت بحلقات الكعبة، وبشباك رسول الله بالمدينة. إن سعادة هذه اللحظة لا تقدر بثمن، بينما راحت أختاي تقبلانني، وأنا أتفرس في وجه الوالدة، فأجده أجمل ما رأيته قط، وعليه غشاوة من العطف والرقة لم أعرفهما من قبل عليه بهذه الدرجة. ¬

_ (¬1) نبات معطر في الجنوب الجزائري.

وربما يعجب هنا أولئك المثقفون الذين أصبحوا لا يدركون لغة الشعب الجزائري المسلم، إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجلهم، ولكن للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقضي تلك الخرافات التي تعرض أحياناً أفلاماً كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلفات العهد الاستعماري. لم يكن والدي في انتظاري، لأن وصولي هذه الساعة لم يكن متوقعاً؛ وصل بعد أن أخبره بعض أطفال الحي بوصولي، ولم يكن من عادته الابتسام أمام صبيان، فهو من الآباء الجزائريين الذين يجمدون على العموم اندفاعات أطفالهم، ولكن كان أبي يشرق وجهه ابتساماً كل مرة أعود من الخارج، ربما لأن يوم وصولي كان دائماً عيداً للأسرة. تحدثنا طيلة العشاء عن حالتي الصحية وعن دراستي، بينما كنت متعطشاً لانطباعات والدتي عن الحج، أنتظر الساعة التي تعودتُها للحديث معها، فكانت أسعد ساعة هي تلك التي أمضيها قبل عودة أبي من فسحته الليلية في الحدىيث مع والدتي. خرج والدي تلك الليلة كعادته، وأذنت لي والدتي كعادتها بالخروج، بل أمرتني أن أخرج لأتسلى مع الأقران. ولم يأت عمدة المدينة وحاكمها بطاقة زهور لاستقبالي، ولكنني وجدت تبسة كأنها تجمّلت لاستقبالي تلك الليلة، وجدت فعلاً أصدقائي في انتظاري بميدان الرسول وقد انضم إليهم الجار (حشيشي مختار) الذي يسكن البيت الذي تركه والداه (با عيرود) و (ما حليمة) خراباً، وهو البيت الوحيد الذي نجا في هذا الحي من يد (كانبون) الملاك الفرنسي الكبير بتبسة. كان (با عيرود) مثل قدماء التبسيين، يقوم باود أهله مما يفلح من بقول في بستان له خارج السور، ومن حبوب لإعالة الأسرة بحقل له في عشيرته

الأصلية، وكانت (ما حليمة) تعين زوجها بتربية بعض الدواجن ترتع وتنقر ما تنقر في الميدان الذي لم يكن بعد أخذ اسمه الحالي، ولكنها تراقبها لوقايتها من العابثين، فتثور مشاجرات بينها وبين الأطفال، كما يحدث لـ (با عيرود) في بستانه عندما ينقض عليه الصبيان زمان الخس الروباني كأسراب العصافير. نشأ (مختار) في هذه الأسرة دون أن يتلقى مع إخوته الصغار- إذ كان هو كبيرهم - أي نوع من الدراسة في مكتب ولا في مدرسة، فنشأ على الطبيعة وعلى عادات الشارع مثل أطفال تبسة في تلك الفترة. فمن توجيه الشارع له أنه بدأ يسهم في غزوات أقرانه على البساتين حول السور حتى بستان (با عيرود)، ثم تصاعد نجمه للانضام إلى عصابات أطفال تغزو في السوق بعض الدكاكين السهلة المنال، يعرف أصحابها عندما يرون تجمعاً كهذا أن بضاعتهم المعروضة على الأرض من بطيخ وشمام، سينالها النهب. ولم تكن تبسة تعرض مثل هذه الجرائم على محكمة جنح الأطفال، وإنما كانت تصفيها حسب العرف. ثم وجه الشارع (مختاراً) إلى ممارسة اختلاس ماهر من نوع القمار، تكون غالباً ضحيته من شبان العشائر الذين يفدون على المدينة يوم السوق، حيث ينتظرهم (مختار) وأمثاله ليغروهم بلعبة (الورقة الحمراء رابحة)، فيمكرون بهم مكراً ماهراً فادحاً. وبالتالي أصبح مختار مقامراً عاكفاً في المقاهي الأوربية على القمار، فبدت عليه علامات اليسر وتأنق لباسه حتى أصبح أهالي المدينة يتضايقون منه بسبب معايشته الأوروبيين أكثر من ممارسة القمار. انتهى به توجيه الشارع إلى هذا الحد ومات والداه. ولكن آن أوان الإصلاح في الجزائر، وفي تبسة خاصة، فتولت الطبيعة

والفطرة التوجيه الجديد، وإذا بالتبسيين يشدهون ذات يوم، إذ يرون (مختاراً) يتقدم إلى لجنة الاكتتاب لبناء المدرسة بمبلغ عشرة آلاف فرنك وهو مبلغ معتبر في ذلك العهد، ومما يزيد من اعتبار الأمر أن أهالي المدينة لم يروه بعد ذلك اليوم يمارس قماراً ولا يتناول خمراً. هكذا أصبح (مختار) مناضلاً في حركة الإصلاح، وهكذا حتى (بنيني) تراجع عن الإدمان في تلك الفترة، ولم يبق ذلك الكائن التعيس الذي تفوح من فمه ومرقعاته رائحة الخمر، والذي يسوقه الشرطي (أنطونيني) إلى السجن كل مساء، إنه هو الآخر قد تعدل حاله. ولا أدري كيف يعبر اليوم بعض (التقدميين) في بلادنا الإسلامية عن هذا التحول الاجتماعي، لعلهم يسمونه (التقهقر). كنت متعطشاً تلك الليلة للإصلاح في هذا الجو المنقى، الذي لم تلوثه بعد الجراثيم (المصالية) ولا الأكاذيب الفدرالية (¬1) حتى أعلم قدر ما أستطيع ما يدور فيه. فتحدثنا عن أشياء كثيرة تخص تلك المرحلة التي أصبح فيها الشعب يتخذ من كل حجر وسيلة لبناء مدارسه ومساجده وأنديته، ويتخذ من كل حطب عصياً في وجه الاستعمار، لم تفقد مدينة تبسة تلك الحساسية السياسية التي اكتسبتها مند بداية القرن مع (عباس بن حمانة)، فكانت هي الأخرى تذكر اسم هتلر لا كمايذكر في العالم، هنا كمنقذ وهناك كالمسيح الدجال، فكان اسمه على الألسنة مقروناً بأحداث مقاطعة (السارجيث) التي ستعيد عاصمتها اسمها الجرماني (ساربروكن) بعد أن سماها الفرنسيون (سر لويس) بعد الحرب العالمية الأولى. ¬

_ (¬1) إشارة إلى السياسة الجديدة التي انتهجها الاستعمارفي الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية.

ودخلها أو سيدخلها جيش (الفيرماخت (¬1))، وعلى نغمات مارش (خطوة الإوز (¬2)) يدقها الطنبور دقات مسترسلة. كانت سماء تبسة تشع فوق رؤوسنا- ونحن في الحديث- جمالاً مشرقاً؛ ونجومها تصب في قلبي ابتهاجاً لا أستطيع التعبير عنه. وكانت والدتي تنتظرني لتقص علي قصة حجها، ولم يكن والدي رجع بعد من فسحته، عندما رجعت إلى البيت: - قصي علي يا أمي ما رأيت وما سمعت وكل انطباعاتك. بادرت هكذا والدتي مجرد ما جلست كالعادة على طرف سريرها: - ماذا أقص عليك يا بني! كانت هذه العبارة على لسان والدتي تعني ازدحام ما تريد قوله، فأصغيت: - إيه!. دنيا أخرى. واسترسلت، وكنت أخشى أن تسكت عندما ترى دمعي، على الرغم من أن الغرفة كانت نصف مظلمة، كعادتنا في ليالي الصيف منعاً للحشرات، فلم نترك إلا إضاءة واحدة موقدة في الفناء. ولكن كان الحديث مؤثراً تهزني منه أحياناً هزات لا أستطيع كبتها، فأتظاهر بالعطش حتى أذهب إلى الشرفة حيث توجد برادات الماء فأطلق العنان للدمع، ولا شك أن والدتي كانت- دون أن يبدو شيء- تتبع تلك الحالات النفسية على وجهي، وما كانت لتفوت تلك المرأة التي تقدّر على عادتها كل حالة بنظرة ثاقبة، في لمحة بصر. ¬

_ (¬1) اسم الجيش الألماني زمان هتلر. (¬2) خطوة الاستعراض في الجيش الألماني.

وكانت كأمها الحاجة زليخة، تتمتع بميزة القصاص الماهر، تللك الميزة النادرة عند من لا يقرأ ولا يكتب، فقصت عليّ قصة حجها، بكل ما تحتاجه القصة من تنوير في بعض نواحيها، وما تقتضي من تظليم في نواحي أخرى، كما تتطلب قصة يلتقي فيها عنصرا اللاهوت والناسوت. ولم تفتها بعض الملاحظات ذات الطابع الاجتماعي: - لم يرد وكيل فندق نزلنا فيه بالمدينة، أن يتسلم من يدي محفظة نقود وجدتها بالحرم فالتقطتها كي لا تضيع على الحاج صاحبها. وبيّن لنا صاحب الفندق أنه كان من الأليق تركها في مكانها كما تقتضي التعليمات السعودية. كان فعلاً العصر الذهبي للحركة الوهابية في الأرض المقدسة؛ وما قصة والدتي- مع أنها زادتني رسوخاً في (وهابيتي) - إلا إحدى القصص التى يتناقلها الحجاج كل سنة يحملونها إلى الآفاق الإسلامية. وكانت والدتي تختار في قصتها النبذة ذات الدلالة: - أردت أن أشتري أمَة لأحررها، فأبت علي ذلك، إلا إذا أخذتها معي إلى الجزائر. ففهمت أنها تخشى العسر أكثر مما تأبى الرق. وكانت التفاصيل التي لفتت نظرها وأثارت إعجابها أيام الحج متنوعة كثيرة جداً: - كنت ألاحظ بالحرم المكي أثناء صلواتي، أن أسراب الحمام التي تعيش فيه، لا تحلق فوق البيت عندما تطير، وإنما تطوف به طوافاً. لا أدري ما في هذه الملاحظة من دقة علمية مع علمي ما لوالدتي من تبصّر، ولكنها تدل على أن روح الحاج لها أسارها؛ ومن تقاليد الحجاج الموروثة أباً عن جد، أن يعود كل واحد بأكثر ما يمكن من الهدايا، فرجعت والدتي بهدايا

متنوعة، خصوصاً لي ولزوجي المقبلة ولأولادي المقبلين، حتى العقال البدوي والعباءة العربية ليوم ختان أول أبنائي، زيادة على المسابح الثمينة وأدوات منزلية غالية من خزف صيني وياباني وصينيات دمشقية: - وكل هذا لم أدفع عليه قرشاً واحداً للجمرك، لأننا عند نزولنا بميناء (عنابة) كنت متكئة عادتي على عكازي، فعندما رآني أصحاب الجمرك في هذه الهيئة أعفوني من الوقوف في رتل الحجاج. كانت فعلاً معاملة موظغي الجمرك الفرنسيين للحجاج تلفت النظر، ولكن لم يكن بين الحجاج في ذلك العهد مهربون محترفون، لا يحجون لبيت الله ولكن لدكاكين جدة ومكة والمدينة. أما قصص والدي، كما قصها عليّ تقسيطاً في الأيام التالية، فكانت ذات طابع سياسي، قال لي ذات يوم: كان طاقم الباخرة الفرنسي يحوطنا بكل عنايته ورعايته في الذهاب، حتى أن الربان تولى بصورة خاصة (لطيفة)، يغدق عليها كياسة وظرفاً، ثم تغير كل هذا في العودة ... (لطيفة) هي بنت أختي الكبرى، احتضنها والداي في المهد، وحجت معهما في سنتها الخامسة. وهكذا عشت مع والدي ووالدتي في جو عائلي سعيد، طيلة أسابيع، وكذلك مع أصدقائي؛ وكنت أراسل زوجي التي بقيت هذه المرة في فرنسا، مع الهرة (لويزة)، ضيفة عند أمها بمدينة (دروكس) مدة، ومدة أخرى بباريس في شقة مدام (بيري)، وكانت تراسلني هي الأخرى. لقد بدأ في المدينة اسم الدكتور (بن جلول) يتردد على الألسنة بوصفه

زعيماً، ولكن لم تظهر فيما بعد الانشقاقات الحزبية ولا مجرد المنافسات الفردية، حتى إن القطيعة التي تحدث بين صديقين، مثل (أحمد فيلالي) و (كافي مبارك)، كانت تعالج في دكان سي (بوذراع) الذي أصبح مقر هيئة أركان حرب الإصلاح المحلية. واستمرت التغيرات الاجتماعية تسير سيرها المعتاد، فآخر مقهى غير هيئته بتبسة في تلك الحقبة، عندما أخذت الآلة العصرية (البركولاتور) مكان (الوجق (¬1))، وأخذ الجلوس على الكرسي في المقهى مكان الجلوس على سجادة الحلقة، ثم استبدلت كل المقاهي بـ (البندير) و (الغائطة (¬2)) وحتى (الفنوغراف) الذي اخترعه اديسون، المذياع الذي أخذ ينتشر في ذلك العهد. ولكن من يدقق الملاحظة يرى أيضاً أن عدد المقاهي بدأ يرتفع، كأنما التطور أخذ يتدرج نحو السوق الانتخابية التي ستفتح بابها على مصراعيه بعد سنة من ذلك التاريخ إذ دقت ساعة المزايدة في القيم الأخلاقية والاجتماعية التي اكتسبها الوطن خلالا الثلاثينات، والتي ستباع فعلاً بالمزايدة الديماغوجية التي أعلنتها اتحادية المرشحين. كما يلاحظ أيضاً أن الشباب بدأ يختلف أكثر من ذي قبل على مقاه خاصة به، تكونت فيها الإطارات التي ستدفع عجلة الحزب (المصالي). أما نحن فكنا نتردد على مقهى لجندي قديم تخلص من الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى، فأصبح بعد تقلبات كثيرة يملك أشهر مقهى بالمدينة. يجلب شبابها، لأن صاحبه (باهي (¬3)) يعرف عن ظهر قلب كل ما قاله سيدي ¬

_ (¬1) (الوجق) كلمة تركية تدل على أدوات الطهي الخاصة بتحضير القهوة التقليدية. (¬2) آلة عزف تقليدية. (¬3) تحريف لاسم ابراهيم.

(علي بن الحفصي)، ويفسر به كل أحداث تلك الفترة؛ حسبما تنقلها يومياً (جريدة قسنطينة) الفرنسية، فيختم بالتوالي تفسيره بهذه الصرخات: - برج! .. برج! .. برج! .. ولا شك أنه كان الوحيد الذي يفهم هذه الطلقات الصوتية، لأنه ربما نحتها اقتباساً عن نغمات الطنبور عندما كان بالجيش، وإنما كنا نفهمها نحن على أنها التعبير عن إعجابه بأقوال سيدي (بن الحفصي) على العموم، وخصوصاً عندما تفسر في نظره أحداث الزمن، وعلى أية حال بقي الإصلاح الاجتماعي يسير سيره، ولم تكن حلقات الشيخ (العربي التبسي) في تلك الفترة، يقل عدد مريديها عن مريدي حلقات (باهي). كان محور الحياة الدينية في المدينة يتحول من المسجد العتيق الذي تشرف عليه الحكومة، إلى المسجد الجديد الذي شيدته الأمة منذ سنتين، غير أن الشيخ (سليمان) إمام المسجد الحكومي بقي يتمتع بتقدير واعتبار جل السكان. أما الشيخ (الصادق بن خليل) فلا يزال يصنع الحروز والتعويذات للفتيات الأوربيات الباحثات الراغبات في الزواج. كما لا يزال (صادق شقة) هو الآخر، يعقد حلقته الخاصة في مقهى (باهي) نفسه، ويجري الحوار أحياناً بين الحلقتين فوق رؤوس الزبائن الذين يتسلون بهذه المناقشة (الإيديولوجية) المازحة بين جندي المشاة القديم، وضابط المشاة المتقاعد. أما مدام (دوننسان) فكانت تلاحظ بلا شك، هذه التطورات في الحياة الأهلية، ولكني لا أعتقد أنها بدأت بعد تفسرها وتفهمها. وبالتالي أتى أسبوع سباق الخيل السنوي الذي يعلن نهاية الصيف وعودة

الطلبة إلى مدارسهم. فبدأت أرى والدتي منغمسة في أمر يشغل بالها. هل هو الشعور بالفراق القريب؟ ... وذات يوم من بداية الخريف في عشية يشع فيها الاطمئنان والسكينة، كنت جالساً إلى جنبها قبل رجوع والدي من الشارع للعشاء وهي توصيني بصحتي، ثم رأيتها تطرق برأسها وتقول بصوت خافت: - يا صدّيق لماذا لا تقضي هذه السنة هنا؟ إن شتاء باريس قارس. وما عليك إلا أن تأتي بزوجك وتبقى معي. ثم سكتت كأن صوتها في نفسه الأخير، فبقيت مدهوشاً لسببنن: - لماذا والدتي، التي عرفتها لا تفرط أبداً في الواجب، تدعوني هذه المرة لأترك دراستي؟ ثم من أخبرها أتن تزوجت؟ كنت أردد في نفسي هذين السؤالين، دون أن أرى للأول غير تفسير واحد، هو أن حنو والدتي وعطفها عليَّ تغلبا على إرادتها أمام الفراق القريب، أما الآخر فسألت: - يا (ما) ومن أنبأك بأنني تزوجت؟ .. هل يعلم والدي ذلك؟ - لا يعلم أبوك شيئاً من هذا وسوف أقنعه. فطمأنني جوابها بالنسبة لوالدي، فأخذت يدها أقبلها وأحنو عليها، وقلت: - أتعلمين يا (ما) أن سنة دراسة لها حسابها. وكأن كلماتي وحنوي وقبلاتي أقصت ما كان يعتري نفسها، فظهر الابتسام والبشرى على وجهها الجميل، وقالت:

- أنت على صواب يا ولدي. فاذهب. وعاد والدي من الشارع واستمر العشاء في الأنس العائلي كالعادة، وخرجت كالعادة لقضاء الأمسية مع أصدقائي، ولأستمع معهم كالعادة إلى أم كلثوم و (باهي) وأقوال سيدي (علي بن الحفصي)، ونكت (صادق شقة) العابثة. فكانت أمسية مثل سابقاتها ولم تعد والدتي للموضوع، ولكن قبل سفري بيومين أو ثلاثة أتيت لأحييها بعد القيلولة كالعادة، وكانت في المطبخ و (لطيفة) بين يديها تعاونها على قدر سنها لتحضير العشاء فقالت لي: ياصدّيق .. أترى ما هو هذا، وهي تشير إلى حبة صغيرة على ثديها - يا (ما). هل رجعت تخشين كل شيء؟. هذا لا شيء. كان ذلك يقيني فخرجت منشرح الصدر كالعادة. وجاء يوم السفر وعندما وصلت إلى الباب وقبل أن أغلقه ورائي، ولّيت وجهي لأرى والدتي مرة أخرى وهي تسكب من أعلى درجنا، (ماء العودة) خلفي فلم يذُرْ في خلدي أنني أراها للمرة الأخيرة في هذه الدنيا. ... كانت زوجي تنتظر بفارغ الصبر قصص الحج، كما كنت لثلاثة أشهر من قبل أنتظرها، فقصصت عليها بالإجمال أولاً، ثم رجعنا إلى كل تفصيل على حدة، فأصبحت قصة حج والدتي موضوع حديثنا طيلة أسابيع، واطمأنت عندما أخبرتها أن والدتي علمت بزواجنا ورضيت به، لم يبق لدينا شك في مستقبلنا بعد دراستي، فأقول أنا: - سنذهب إلى الطائف إن شاء الله ونستقر هناك ... وتقول هي:

- أما أنا فأتولى فلاحة البقول وتربية الدواجن حسب قواعدنا في الغرب، وستكون والدتك راضية عني، فهل يرضى والدك؟ أيعيشان معنا؟ فاصنع لهما عشاً أؤثثه بيدي. كانت (خديجة) فعلاً نجارة Tapissier décorateur وفلاحة بساتين ولدا في جسم امرأة، ومنذ قضت في السنة الماضية فصل الصيف في أسرة جزائرية، أدركت الجانب الذي كانت بيوتنا تفقده في تلك الفترة، والذي يكمل حياة الأسرة، فتعرض علي برنامجها: - إنني أستطيع أيضاً أن نؤسس في الطائف مدرسة منزلية للبنات، فأعلمهن الخياطة ونسيج الإبرة. إن النساء في بلادك يتمتعن بكثير من الذوق الرقيق إذا ما ثابرن على العمل، وقد رأيت تحفاً رائعة من (دنتيل الجزائر) (¬1) تنشأ وتموت في المهد دون أن تتم بين أصابعهن. لأنهن يفتقرن إلى المثابرة ... وكنت من ناحيتي أقول: - لا أريد أن أشتغل بعد تحصيلي موظفاً في إدارة، بل صاحب أعمال مستقل، سأبتدئ بالقدر الممكن. فأصنع الإسمنت أو الصبغة أو العطور الفرنسية وأحول مخلفات عيد الأضحى بمنى إلى أسمدة .. و .. و ... وأستمر في دراسة استخدام الحرارة الصحراوية لعلها تصبح طاقة تفيد. وعلى هذا الأساس ما بدأت بجانب دراستي العادية أتردد مرتين في الأسبوع على الدروس الليلية في الكيمياء التطبيقية، بمعهد لاحق لمتحف الفنون والصناعات، كما بدأت مكتبتي الهندسية تُثرى من الكتب التطبيقية بقدرها يتكون في ذهني من مشروع أثناء حديثي مع زوجي، كنت في الحقيقة تلك السنة في حالة من ¬

_ (¬1) اسم لنوع نسيج إبرة مشهورة يصنع بالجزائر.

يريد ابتلاع كل العلم وكل التكنية، وأصبحتا فعلاً أعلم حتى عن حياة النحل ومعالجة بيوتها وعسلها الشيء الذي لا يتصوره فلاح جزائري. بينما كانت دروسي النظرية تسير من ناحيتها السير الحسن خاصة الرياضيات، والجدير بالذكر- لمن تهمه الملاحظة البيداغوجية- أنني على الرغم من حرصي على التحصيل في الرياضيات وتعلقي بها، لم أكن أرى فيها كثيراً من الجدوى في الجانب التطبيقي، إلى أن وزع على القسم مشروع آلة ضغط بوصفه موضوع امتحان جزئي، فكان لزاماً أن أستعمل الجهاز الرياضي لحل مشكلات الجهاز الميكانيكي، فأدركت منذ ذلك اليوم أن المعادلات هي مفتاح التطبيق، وأننا لا نقدر علماً حق قدره ما دمنا لا نعلمه إلا في صورته النظرية. كان (مرسولين) وبعض أصدقائي من جمهورية (تريفيز)، يزورونني من حين لآخر عشية الأحد، فكانت زوجي تقدم لهم بعض الحلويات من صنعها مع الشاي. وبقي (حموده بن الساعي) وفياً لعشائنا يوم الجمعة، وكان يستعذب مثل تلك الأكلة التي تقدمها لنا (خديجة) من عدس ولسان الضأن إشفاقاً على كيسها المتواضع. ثم تبتدئ محاوراتنا الإسلامية في ضوء الأطروحة التي كان يهيئها عن الغزالي، وكانت أفكار (زكي مبارك) في الموضوع تتردد بيننا، تغرينا بجدتها وحدتها ضد النزعات الصوفية، فنشاطر هجوم صاحبها على (حملة الراية الطروقية)، فتزداد حملة صديقي على الغزالي عنفاً ويكفهر وجهه ويصرخ: - إن معالجة المسلمين بهذه الطريقة تخدير لضميرهم أدى إلى ما أدى إليه؛ وبينما تواصل الهرة (لويزة) أحلامها على ركبتي مولاتها المنكبة على نسيج الإبرة كان كل واحد من أصدقائي يضيف بعداً لكياني الفكري، أناقش مع (حمودة)

القضية الإسلامية من ناحيتها الإيديولوجية، ومع أخيه (صالح) أناقشها من وجهتها الاجتماعية، ومع أحبابي من جمهورية (تريفيز) أتناول الموضوعات الثقافية، ويسليني صديقي (الباسكي) بحديثه عن سلوك بعض معارفه من طلاب مدرسة الفنون الجميلة، وكان طبعاً حديثي في المدرسة عن الأشياء التكنية. والأمر الجديد في علاقاتي الودية تلك السنة، كان (علي بن أحمد)، وهو مثلي من تبسة وتربطني به قرابة، وقد تقاطعت قبل ذلك خطوط حياتنا سنة 1925، إذ دخل إلى (المدرسة) في الوقت الذي تخرجت منها، وعندما لاقيته صدفة سنة 1930، بأحد شوارع (عنابة)، قرأت عليه قصيدة لي باللغة الفرنسية، قبل أن أمتطي الباخرة التي نقلتني إلى مرحلتي هذه، ثم ها هو ذا يأتيني نبؤه أثناء إجازتي الأخيرة بتبسة، في صورة العدد الأول من جريدة (صوت الشعب) التي صدرت ذلك الصيف في العاصمة الجزائرية، ولا أدري هل يتذكرها أي جزائري اليوم؟ لقد أصدرها (علي بن أحمد) مع بعض صغار صيادي السمك وبعض باعة البقول، كان هو يمدها بمادة العقل وهم يمدونها بالمال. لا أتذكر ما قرأت في العدد الذي وصلني منها، ولكنني أتذكر أنني شعرت من خلال لهجتها، أن صدورها عبّر عن مرحلة جديدة في تاريخ الصحافة الجزائرية الوطنية، التي انتقلت من المطالبة بحقوق الشعب إلى الهجوم الصريح على الاستعمار. كانت هذه النغمة جديدة فعلاً على صحافتنا، فكتبت على الفور أشكر وأهنئ (علي بن أحمد) على شجاعته، لأن (صوت الشعب) كان فعلاً حلقة الوصل في تطور صحافتنا، بين (العلم) و (الإقدام) وصحافة الرأي التي ستنشأ بعد الحرب العالمية الثانية.

ولكن الظروف المادية القاسية ومزاجه الخاص، لم تتركا أبداً (علي بن أحمد) يستقر في مشروع، فاختفى (صوت الشعب) بعد عددين أو ثلاثة. وهكذا فوجئت، أثناء عودتي الأخيرة من الجزائر، بوجوده في القطار الذي أخذته من مرسيليا، فقال لي: - إنني أذهب إلى باريس لأواصل دراستي. إنها لرياح ذلك الزمن، الرياح التي كانت تصرف إلى باريس كل جزائري تخفق أحلامه وتفشل مشاريعه في بلادي. فوجئت بشيء آخر، عندما علمت منه أن خطابي لم يصله، كما لم يصل إلى (بن عبد الله) في السنة السابقة، خطابي عن المعهد العربي المزمع إنشاؤه بإسبانيا. ولا شك أن هذه الخطابات أخدت طريقها إلى ملف ذلك السمك المفترس الصغير، من نوع (البروشية) الذي استمر في وثباته وتقلباته دون أن يشعر أن الشبكة تُلقى عليه أكثر فأكثر كل يوم. وعلى أية حال أضاف (علي بن أحمد) عنصراً جديداً، للجمع الجزائري الذي يسرح في الحي اللاتيني دون وجهة ولا توجيه، ولكنه كان العنصر الممتلئ حيوية وجرأة، يملأ رعباً تلك المستنقعات التي يرتع فيها ذلك السمك الهزيل الصغير الحقير، الذي يهيئه الاستعمار لبعض طبخه الخاص. وكان الحي اللاتيني في تلك الفترة من جانبه الجزائري، المستنقع الذي تتكون فيه الحشرات التي سيجرها التيار الجارف الذي انطلق من قاعة (بوهليبي)، حيث كانت الحشود من العمال الجزائريين تزدحم من أجل الاستماع إلى (مصالي حاج) والهتاف له.

فكان (علي بن أحمد) ضد الاستعمار، وضد المصاليين لا يؤمن بوطنيتهم، وضد العلماء لا يؤمن بإصلاحهم، وضد السيد (أمين الحسيني) معتقداً فيه شيئاً غريباً، هو يدعي أنه دخل السجن فعوضه الإنجليز بشخص آخر يشبهه وجهاً ويحمل اسمه. ولا ينتهي (علي بن أحمد) عند هذا الحد بل كان أيضاً ضد القسنطينين أبناء مسقط رأس والدته، لأنه لا يرى فيهم ما يتمنى من الخشونة. وبعبارة واحدة كان طبقاً لمزاجه، يقف من كل شيء موقف الضد ... فلم تكن لهذا السبب علاقتي به متصلة ولا حميمة دائماً، فلم أدعُه مرة لبيتي، وأعتقد أنه كان يغتاظ من ذلك، ولكن لم تكن لي الخيرة لأن مزاجي جعلني أتجنب الفوضى والإفراط، خصوصاً في الميدان الفكري والأخلاقي. وإنني أتذكر هذا متأسفاً على تفريط من طرفي تجاه رجل سيموت شهيداً على أية حال. كان هتلر يشغل الصدارة في أحاديث باريس، وذات صبيحة أعلنت الصحف الصباحية في عناوين ضخمة على صفحتها الأولى، إفلاس بنك القرض بمدينة (بايون). ربما بدا الحدث تافهاً ذلك اليوم، ولكن في عناوين صحف الغد ظهر اسم جديد (استافيسكي). - من هو؟ ردّد هذا السؤال ذلك اليوم كل من قرأ جريدة (البوتي بارسيان) من فراشي باريس. وأجابت الصحافة اليمينية في اليوم نفسه: - إنه يهودي نزح من بولونيا منذ ست سنوات فقط، ووصل إلى فرنسا وعلى كتفه حزمة لباسه الرث فقط.

فثارت ثائرة الرأي العام الذي اتهم من آزَرَهُ وأعانه. فانتحر ذلك اليوم أو في اليوم التالي، نائب مدينة (بايون) في مجلس الأمة الفرنسي. وبعد ثلاثة أيام أو أربعة نقلت الصحافة الكبرى: - إن (استافيسكي) قد انتحر!!. فردت الصحافة اليمنية، في اليوم نفسه: - إنهم نحروه للتغطية!!. ووردت في الصحافة نفسها، صورة مدام (استافيسكي) وعليها ملابس أغلى من ملابس (البيجوم) حرم الآغا خان، أوردها من يريد التوضيح للمسكين الذي له حتى في صندوق التوفير الفرنسي، أن حقه معرض للعبث والتلف. ودوت في جريدة (العمل الفرنسي) صرخات (دودي) بالويل والدمار، بينما أطلق (موراس) في الجريدة الملكية نفسها صواريخ جدلية رهيبة ضد النظام القائم. كلفت الحكومة وكيل الدولة (لويرانس) بالتحقيق، وإذا بجثته الهامدة ملقاة على خط سكة الحديد، فعلقت الصحافة الكبرى: - إنه انتحر!!. فرد الرأي العام: - إنهم نحروه!!. وبدأ الكولونيل (دولاروك) يهدد بالزحف على مجلس الأمة وكنسه، والتهب الشباب الجامعي حماسة وراءه؛ وصادف أن عربة تموين للجيش مرت بملتقى شارع (سان جيرمان) وشارع (سان ميشيل) في الحي اللاتيني، يقودها جنديان مراكشيان، فأوقفها الطلبة ينادون بحياة الجيش، بينما الجنديان

يبتسمان، دون أن يردا على تحية وهتاف الطلبة إلا بالابتسام لأنهما لا يتحدثان الفرنسية، وربما لا يفقهان معنى للموقف. وأراد (شياب) محافظ باريس في ذاك العهد، أن يعيد الهدوء للمدينة ويبعد السحب المتراكة، فنزلت على رأسه الصواعق: - اذهب يا (شياب)!! .. اذهب! .. هكذا صرخت المظاهرات الطلابية خلال اليومين الحاسمين الرابع والخامس، من شهر شباط (فبراير) عام 1934. سقطت حكومة (شوطان)، ودعي الرئيس المتقاعد (دوميرج) من ريفه، كما دعي سنة 1925 الرئيس (بوانكاريه) لإنقاذ الوطن من أزمة الفرنك. وكان والدي مهتماً بهذه الأحداث شأنه شأن كل جزائري يعتقد في تلك الفترة، أن كل تغيير حكومي في باريس سوف يغير مصيره، فكتب لي يسألني عن الوضع، وأتذكر أني أجبت أن فرنسا قد أخذت بذراع الشيخ (دوميرج) متكئة عليه نحو مصيرها ... واستمرت حياتي على نسقها لم يتغير فيها شيء، لأنني لم أكن أعلق على هذه الأحداث إلا اهتمام من يريد الاطلاع، بل كنت مهتماً أكثر بأنباء الجزائر، التي كانت تفيد أن النواب بدؤوا يستلمون مقاليد الحياة العامة، وأصبحت أتساءل: - هل تسلم جمعية العلماء المقاليد إلى تلك الفئة الحاملة للشهادات الجامعية؟ وربما لم يكن تخوفي من هذه الناحية نزيهاً كل النزاهة، إذ كان لي غرض يشاركني فيه (حمودة بن الساعي)، هو أن نكون نحن الاثنان، الوارثين لجمعية العلماء بعد دراستنا، لأننا نظن في أنفسنا الجدارة لخوض المعركة السياسية، مع المحافظة على الخط الإصلاحي ونتائجه في الوطن، الأمر الذي كنا نختلف فيه تماماً مع المثقفين الآخرين.

وكان مع هذا بيني وبين (حمودة بن الساعي) اختلاف في نقطة، هي أنه كان يريد أن يتولى الزعامة، بينما كان (علي بن أحمد) يخطئنا نحن الاثنين، ويعدّنا غير جديرين بها، ويدعي الزعامة لنفسه بسبب سوابقه منشئاً ومحرراً لجريدة (صوت الشعب). وما كان هذا الجدال الأخوي يهمني في شيء، إذ المهم في نظري هو فقط أن تسلم الحياة العامة من المثقفين لأنني كنت أتوقع منهم كل مكروه، وقد أكّدت الأحداث كل توقعاتي، وما كان لي أن أتفق معهم، ولا مع (مصالي حاج) في شيء، إذ كان رأيي السياسي قائماً على مبدأ، لم يتغير بل أكدته الأيام، هو أن نظاماً اجتماعياً ما لا يقوم إلا على نظام أخلاقي، حتى إن تلك المظاهرات الصاخبة لم تكن تغويني، بل على العكس كنت أظنها عقيمة ومضرة عندما تعطي لعقول غير مهيأة الفرصة لمعارك وهمية وبطولات تمثيلية. ومهما يكن فقد بقيت عجلة التاريخ تدور بما فيه الخير وما فيه الشر، وبقيت حياتي في بيتي وفي المدرسة كما هي، يوماً أفكر في عودتي للجزائر، ويوماً في انتقالي للطائف، وأصبحت عقدتنا الوهابية أنا وزوجي تزداد كل أسبوع يمر. وإذا بخبر يفاجئنا في صحيفة مسائية، (باريس- سوار) نقلت خبراً غريباً تقول فيه: إن أحداثاً صارمة تتهيأ في الجزيرة العربية، فانطلقت صرخة واحدة منا معاً: - آه ... إنهم يدبرون مؤامرة ضد عبد العزيز بن سعود ويحيكون مكيدة!! .. لقد صعقنا هذا النبأ ذات أمسية من شهر آذار (مارس) عام 1934. ومنذ الغد بدأت تظهر المكيدة في الصحافة الكبرى التي تحدثت عن (القبائل المتوحشة المتعصبة التي تعيش بنجد)، لقد اتضح الأمر؛ وخاصة أن

الصحافة نفسها نقلت أنباء عن حملة (لرد الخطر) تتهيأ بميناء الحديدة باليمن. كان فعلاً الإمام يحيى يجمع في هذا الميناء كل سفينة، ويسلحها كيفما كان للهجوم على ميناء جدة وعزله أيام الحج بالذات. إذن كان الأمر في منتهى الوضوح: قد يستطيع الإمام يحيى، غفر الله له، أن يجمع تلك السفن الشراعية المعدة للنقل المحلي ولإخراج الصدف، ولكن من سلحها بل من رسم لها الخطة؟ كان الأمر واضحاً، أو لنقل على نصف وضوح، إذ كيف نستطيع التبين والتمييز بين خيوط يأتي بعضها من باريس وبعضها من روما والآخر من لندن. الأمر الذي لا شك فيه، والذي كنت حسب اعتقادي أعلم المسلمين به، هو أن الاستعمار كان يتضايق كثيراً من تولي الدولة السعودية على الأرض المقدسة، لأنها ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة (الوهابية)، يعني في نظري سيطرة الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة، لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط خلافة بغداد. وهذه النظرة الاستعمارية كانت نظرة خبير لا يعلم مدى صحتها في تلك الحقبة، إلا من كان يتتبع عن كثب تداخل القابلية للاستعمار والاستعمار، بالإضافة إلى أن (موسوليني) كان يعلم أن التوسع الاستعماري لم يبق له مكاناً في خريطة العالم الإسلامي سوى اليمن، وفي إفريقيا سوى الحبشة، ومن ثمة نفهم اهتمامه بأمور اليمن وخشيته من السيطرة الوهابية عليها، فلا غرابة إذن أن نراه يفكر أولاً في تحصين مستعمرته المقبلة قبل أن يضفي عليها في مرحلة ثانية، اللون الأخضر لون الامبراطورية الفاشية على الخريطة. هذا كل ما في الأمر، ولكن هذه الحقيقة كانت تسوءني حتى من مجرد

تصوري بوصفي جزائرياً نازحاً إلى الطائف، إذ أصبحت القضية قضيتي وقضية خديجة وحتى قضية الهرة (لويزة). وأصبحت فعلاً هذه المأساة تملك أرجاء بيتنا الصغير، نتحدث عنها في الغداء والعشاء. - تنقل زوجي أصداء الشارع عنها، فنفسرها ونعلق عليها، وإذا بها تعود يوماً بنبأ: - بينما كنت على الرصيف إذ تلتقط أذني نبذة حديث بين رجلين عرفتهما يهوديين يتحدثان على باب حانوت، فسمعت أحدهما يقول: لا بد أن تحطم هذه القبائل (البربرية)، فثقلت رجلي كي أستمع أكثر، ولكن الرجلين قد تنبها ودخلا الدكان ... إذن هي أيضاً قضية اليهود وليست فحسب قضية موسوليني وقضيتي ... لا أستطيع على أية حال أن أصرخ: - النجدة!. النجدة يا عالم لهرتي (لويزة)! ... فقمت أصلي ركعتين لله متحصراً متذرعاً شاكياً من شر الاستعمار باكياً، ولكنني كنت دوماً على منهج الحديث ((اعقلْها وتوكل)). فأخذت ورقة وبدأت أحرر خطاباً مثيراً إلى سعادة سفير اليابان بباريس، أتوسل لحكومته أن تساند باسم التضامن الآسيوي المقدس أمام الدول الاستعمارية، ابن سعود في المعركة، وتؤيده. ثم قرأته على خديجة، التي استمعته ويدها تمسح رأس هرتها كعادتها عندما تستعدب كلاماً، فقالت عند نهاية قراءتي: - أجدت! .. أجدت! .. إنه مستعطف رقيق مثير إلى النهاية! ...

قد كان خطابي فعلاً مثيراً، ولكني أرى الآن أنه كان على جانب من البساطة يخجل أبسط البسطاء، وبطبيعة الحال لم يرسل جلالة (الميكادو) أسطوله لجدة لإنقاذ الموقف، بالإضافة إلى أن هذا الأسطول كان تلك الأيام مشغولاً في حصار موانئ الصين. هكذا وجد الموقف حله من طريق آخر، وإذا بصحف المساء تعلن في عناوين ضخمة، أن الحديدة سقطت في يد (الوهابيين)، وأن (الذرانيج) حرقوا في مينائها الأسطول الشراعي الذي جمّعه الإمام يحيى، وأن أمير المدينة فر سباحة وعلى ظهره خزينة الحكومة، وأن الأمير فيصل نقل الجيش السعودي على الآلاف من السيارات المعدة لنقل الحجاج، ليزحف على الساحل اليمني بينما أخوه سعود، رحمه الله، يتوجه إلى الناحية الجبلية. تركت هذه الأنباء الرأي العام مشدوهاً: - ياللويل ... ياللعار ... ياللمصيبة الشنعاء ... يالآمال فاشية استعمارية ذهبت هباء! .. بالنسبة إلى قادة السياسة الغربية، حتى المناوئين للفاشية، كان فعلاً دواء شراً من داء، إذ الوهابية وحدها على ما هي عليه شر لا محالة، ولكن وهابية وإحباط خطة استعمارية شرّان. أما في بيتي، فلم تزغرد خديجة لإعلان ابتهاجنا، لأنها لا تعرف كيف تزغرد النساء الجزائريات في ظرف السعادة والسرور، كما كنا لا نعرف في تلك الفترة التي ظهر فيها كتاب (ملحمة البترول (¬1))، ما سيكون في الجزيرة العربية بعد اكتشاف البترول في أرضها. ¬

_ (¬1) كتاب ظهر بهذا العنوان لكاتب يدعى (أسعد باي)، ويبدو أن اسمه الحقيقي اجنبي.

كنا نعيش في شقة مدام (بيري) حياتنا اليومية كما هي، دون تعقيدها بتوقعات المستقبل في العالم، مقتنعين بالأحلام التي تستقطبها الطائف في نفوسنا، وكان ذلك الأفق يكفينا. بالإضافة إلى أن الأحداث حولنا كانت تتوالى، يمحو اللاحق السابق منها في ذهننا، فها هو ذا يأتي من الجزائر نبأ يثير اهتمامنا أكثر من غيره؛ إن وفداً من اتحادية النواب سيحل قريباً في باريس، ليقدم مطالب الشعب الجرائري؛ وحسب ادعاء ذلك الوفد، فهذا يعني في الحقيقة أن يقدم بعض المقترحات المعقولة، خصوصاً في نطاق القانون الأهلي. بدأ الحي اللاتيني في طرفه الجزائري، يتهيأ لهذا الحدث، كل على حسب ميوله ورغباته: هناك من كان يرى الفرصة لإبداء ولائه للحكومة من أجل تحقيق أمله في الحصول على مركز في الإدارة، فيقف ضد الوفد على هذا الأساس، على مشرب (مصالي حاج)، الذي كان أيضاً بطبيعة الحال ضد الوفد؛ أما أنا مع (حمودة بن الساعي) و (بن عبد الله) فكنا غير مكترثين بالموضوع، وكان (علي بن أحمد) ضد الوفد وضد من يناوئه كعادته. وبالتالي وقفت الحكومة الفرنسية بين المتشاجرين الجزائريين كلهم، برفض رئيسها (كاميل شوتون) استقبال الوفد. وكانت تصلنا إلى باريس الصحافة الجزائرية: (الدفاع، جريدة الأمين العمودي)، و (الوفاق) للدكتور (بن جلول)، و (الصوت الأهلي) للزناتي، وحتى (مجلة المعلمين الجزائريين). علمنا من صحافتنا أن الصفعة التي ناولها (شوتون) للوفد أحدث ضجة كبيرة في الرأي العام الجزائري، وتسببت في تلك الموجة العارمة من السخط، التي يسميها التاريخ السياسي الجزائري (موجة التسليم العام)، بدأت فعلاً كل

هيئة منتخبة جزائرية تقدم استقالتها، فكان للحدث في الأوساط الاستعمارية صدى ثورة، وكان فعلاً أول ثورة وأول انتصار سجله الشعب الجزائري في ربيع 1934. وفي الوقت الذي أوشكت السنة الدراسية على الامتحانات أتتني برقية من الجزائر، تطلب والدتي فيها حضور زوجي على الفور. سألتني زوجي: - ألك فكرة عن سبب إحضاري؟ لم تكن لدي فكرة واضحة للجواب على سؤال زوجي، لكنني أجبتها: - إن والدتي تعلم أنني سأنتهي من الامتحانات بعد شهر، لعلها تريدك لتحضير شبه وليمة زواج ليوم وصولي ... كنت فعلاً أعلم ما لوالدتي من ألوان رقيقة من اللطافة، فذهبت خديجة سعيدة، سعيدة بأنها ستتعرف على حماتها، وبدوري كنت بعد شهر سعيدلً بين ضوضاء المسافرين على رصيف محطة ليون، حيث أخذت القطار. ... كان وصولي إلى (عنابة) في الفترة التي كانت فيها (موجة التسليم) في أوجها، فذهبت أتلقى الأخبار من سي (الجندي) وسي (الجنيدي)، لما كنت أعلم ما لهذين الرجلين من يد بيضاء في توجيه وتسيير الحياة الشعبية المسلمة بمدينة (سيدي مروان). فذهبت إلى مكتب سي (الجنيدي) الذي كان يشتغل بالمحاماة، فوجدت الرجلين منكبين على تحرير الاستقالات الجماعية التي تقدمها المجالس النيابية على مختلف درجاتها، من سكان المدينة وضواحيها بجبل (الايدوغ). كان المكتب كأنه مركز تجنيد للناحية يجند فيه سي (الجندي) وسي (الجنيدي) الرأي العام ضد حكومة (شوتون)، ضد (شوتون) بالذات.

فكان لي أن أشاهد هذه المعجزة: إن عنابة نفسها المدينة التي امتصها الاستعمار وخدّرها الكحول و (ليال ولد الكرد)، أهذه المدينة نفسها أصبحت مناضلة؟ لم يبق فيها إلا نائب واحد لم يقدم استقالته هو النائب المالي، ربما تخلف للحفاظ على مصلحة أسرته في الشركتين الكبيرتين للتبغ والطماطم. كانت فعلاً معجزة! ... فانطلقت أستنشق الهواء الطلق في متنزه (برطانيا) وأستنشق معه الهبوب الجديد ... ولا أدري ما إذا كانت الحشود الأوربية المكدسة على سطوح المقاهي الأنيقة تشعر بما يدور حولها في الفلك. وفي الغد أخذني القطار الصغير إلى تبسة، فوجدت على رصيف المحطة وجوهاً كثيرة لفتت نظري. - على شرف من هذا التجمع؟ فنزلت، وبدأت الوجوه تهنئني بالقدوم، وتحييني. - إذن هم تجمعوا على شرفي! .. فزاد الجواب على سؤالي في سعادتي وأنا أغادر المحطة، بينما الشيخ (الصادق) يسير بجنبي ممسكاً بيدي، والآخرون وراءنا في اتجاه باب (سيدي بن (¬1) سعيد) على ذلك الطريق المختصر بين المحطة والمدينة. وإذا بفكرة تلمح في ذهني: - لماذا لا أرى والدي؟ ¬

_ (¬1) ويسمى أيضاً (باب القديم) لأنه من العهد الروماني، وأيضاً (باب سيدنا عبد الله) على اسم الفاتح العربي، عبد الله بن الزبير أو عبد الله حفيد أبي سرح قائد الجيش.

قلت هذه الكلمات بصوت خافت، فأحسست بالشيخ (الصادق) يضغط على يدي، فشعرت بأنه البلاغ، فالتفت إلي الشيخ لأفهم من وجهه معنى البلاغ، فأطرق الرأس وزاد في الضغط على يدي وقال: - إنا لله وإنا إليه لراجعون ... فصرخت: - هل والدي؟ ... دون أن أتم الكلمة. - لا الوالدة ... رحمها الله .. فوقفت كأنما نزلت على رأسي صاعقة، وكأنما الأرض تزلزلت تحت أقدامي، وفي لمحة بصر تحولت عواطفي من السعادة القصوى إلى المصيبة الدهماء. - إنني لا أجد اليوم الوالدة في انتظاري كالعادة من أعلى درجنا ... لا أدري إن كانت هذه الخاطرة السبب في وقوفي كأن جبالاً حطت علي، فألقيت نفسي على كرسي عندما وصلنا إلى سطح مقهى ميدان البلدية، وجلس حولي بعض الأقارب والأصدقاء ... لابد من الوصول إلى البيت، فاستقبلتني أختاي والبكاء يخنقهما، واختفت زوجي لئلا ترى حزني، فوجدت والدي جالساً مع خالي (أحمد شاوش) في الغرفة التي لفظت فيها والدتي نفسها الأخير. قام والدي ليعزيني فأنساني مصابه مصابي، فعزيته: إنه فقد أصلح الزوجات، وفقدتُ خير الأمهات. وشعرت كأنما الظلام مخيم في البيت، وربما كان مخيماً بسبب عدم إشعال كل الأضواء، كما كانت تفعل والدتي يوم وصولي. كانت الضربة قاسية، ولكنني لم أشعر بعد بكل ألمها لأنها جديدة، كنت

تلك الليلة أولي كل اهتمامي لمواساة والدي الذي كان يبكي خلف منديل يخفي وجهه، وكان خالي (أحمد شاوش) الطبيب التقليدي المشهور والمحبوب في المدينة، يصرف كل جهد لمواساتنا جميعاً، بذكلر نبذ من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. فتظاهرت بالأكل أمام والدي، عندما ناولونا العشاء، وألح خالي (أحمد شاوش) على والدي بالخروج فخرج. لم يجرؤ أحد من أصدقائي أن يدق علي الباب كالعادة يوم وصولي، طلبت خديجة فوجدتها منهارة في الغرفة التي أعدتها والدتي منذ سنوات ليوم زفافي. لم أستطع أن أقول لها شيئاً يهدئها، فخرجت إذ أصبح لدي كل شيء لا يحتمل في هذا البيت، فذهبت كالسكران إلى حيث لا أدري، وإنما أتذكر الخطوات التي سرتها وحدي خارج السور، ولا أدري إذا كنت أسير مطاطئ الرأس على الأقدام، أم كنت أسير في ليل دامس لا أرى فيه النجوم. ولكنني أتذكر تلك الكلمة التي تترد في نفسي وبين شفتيّ: - أنا الآن ... يتيم عجباً لفكرة كهذه عند رجل شاب، ولكن عقله قد تشنج، شنجته المصيبة، بينما لم أشعر بكل صدمتها إلا في الغد عندما استيقظت من النوم، وقد كانت والدتي تراقب تلك اللحظة بالذات، فتأتي إلى غرفتي لتهدي لي أول ابتساماتها وأول عطفها. لم تأت والدتي ذلك اليوم فكانت الصدمة الكبرى، وتشنج فعلاً فكري، فأصبحت أقول: - لا ... إن والدتي ستفتح الباب ...

يظهر لي ويخفى علي عبث هذه الفكرة التي ستخامر عقلي كل الأيام التالية عندما أستيقظ باكياً، البكاء يقطع أنفاسي في النوم، وستدوم هذه الحالة سنوات إذ أجد نفسي كل صباح أنني كنت أبكي في النوم. ولم أجد حولي عصاً أتوكأ عليها في تلك الفترة، لا أبي يستطيع مؤازرتي لأنه فقد كل طاقة معنوية، ولا أختاي لأنها- غفر الله لهما- تعصبا تعصباً عنصرياً ضد زوجي. فزادت هذه المحن العائلية في محنتي، أريد أن أعقل من حولي، وكل من حولي فقد الرشد، وقد حزّ في نفسي خاصة أن الأسرة كلها اتفقت على بناء قبر فخم على جثمان والدتي، وعجزت في هذه النقطة بالذات، بينما كنت أقدم لوالدي تارة الدليل من الدين وتارة من اعتبار المجتمع. ولكن الحياة لم تفقد في تلك الفترة بالذات مصارف أخرى تلهي عن الأمر الداهم بأمور، وتسلي الأحياء عن ساكني القبور، كانت المعركة السياسية التي تركت صداها يدوي بعنابة يوم نزلت بها، تدوي في أرجاء القطاع القسنطيني عموماً ومدينة تبسة خاصة. كانت المدينة تموج على أثر استقالة كل نوابها، على مختلف درجاتهم، وكان (حشيشي مختار) يصول ويجول في النادي، وكان دكان سي (الصادق بو ذراع) كصندوق الصدى لكل ما يحدث في الوطن. ولا أدري إذا شعرت مدام (دوننسان) والسيدات المترددات على دكانها وناديها، بالعاصفة التي تجتاح البلاد. أما حاكم المدينة فلا شك أنه كان يتتبع عن كثب كل ما هب ودب، وكانت الأوساط الحكومية عموماً متأثرة كثيراً مما يدور، خصوصاً أن الحركة بدأت تمتد

لقطاع العاصمة، وأصبح لا يخفى على كل ذي رأي سديد، أن اللهب سوف يمتد إن لم تخمد ناره في القطاع القسنطيني، وفي تبسة أولاً وقبل كل شيء. لم تغير وفاة والدتي بعد الصدمة الأولى، كل عاداتي في المدينة، فبقيت أخرج في المساء بعد العشاء، غير أنني أتجول وحدي. كنت تلك الليلة أتنزه في اتجاه وادي (الناقوس) كالعادة، إذ صادفني على طريق قسنطينة، (عبد الحفيظ مسقالجي) أخو صهري عبد الحميد، وهو راجع من فسحته وكان ذا وجه بشوش يحبه الناس لبشاشته، فيلقبونه (غاندي) أو (القبائلي)، وأحياناً (استافيسكي) مداعبة له منذ أحداث باريس الأخيرة، والواقع أنني لم أره مرة غضب مع أحد، فكان تلك الليلة وهو في رجوعه قد عرفني قبل أن أعرفه بسبب نقص في التنوير، فتقدم وقدم لي من كان معه: - الصديق، ها هوذا الدكتور (بومالي) يصل الآن من قسنطينة ومعه أخبار. كنت أعرف الرجل الذي صافحني وبدأ على الفور الحديث: - إنني أصل فعلاً من قسنطينة. وقد كلفني رئيس اتحادية النواب بمهمة في تبسة. فحدقت أكثر في الرجل لأتبصر في مهمته. فواصل الحديث: - إن محافظ قسنطينة دعا اليوم رئيس الاتحادية وصرح له بأنه سيتخذ إجراءات صارمة، إن لم يتراجع النواب عن استقالاتهم، وأنه ربما يستعمل الجيش لقمع المدن والقرى المصرة على (التسليم). - إنك إذن قد أتيت بإنذار لمدينة تبسة .. يا دكتور. قلت له هذه الكلمات وحدقت فيه البصر، فتنحى من وجهي قليلاً وقال:

- لا. إنما رئيس الاتحادية هو الذي يرشد للصواب من أجل الصالح العام ... وفي تلك اللحطة أدركت تماماً الموقف: إن النخبة المثقفة ولجت بكل وضوح طريق الخيانة، وإن الاستعمار بدأ يستخدم الزعماء لإلقاء الحيرة والريبة في الضمائر، مفضلاً هذه الطريقة على (اتخاذ الإجراءات الصارمة) التي لا تزيد إرادة الشعب إلا صلابة. وفهم الدكتور (بومالي) أنني فهمته جيداً، فاعتذر بأنه مستعجل لأن الناس في انتظاره بالمدينة. والحق يقال إن الناس الطيبين أنفسهم، مثل قريبي (صالح حواس)، وسي (الصادق بو ذراع) كانوا يركنون لحلول التقاعس عندما يكون وراءها مسوغات كالتي تقدمها اتحادية النواب، ولا أدري أو لا أتذكر ما كان موقف الشيخ (العربي التبسي) وجمعية العلماء عموماً في الموضوع، فسيطر على الموقف الزعماء السياسيون فأخمدت الثورة. واستمر (صادق شقة) و (باهي) في ذكر نوادرهما في المقهى، واستمر السكير (فندرودي) يعلن في الميدان كل مساء بعد ثَمله المزايدة: - يامن يشتري عمدة بلدية تبسة! .. من يزيد؟ بينما ينتظر الشرطي (أنطونيني) متكئاً على إفريز هيكل (النجم المذنب) (¬1) قيام العمدة (بلفيسي) من مائدة القمار فينقلب هو لبيته، لأنه بقي دون شغل في المدينة منذ اعتنق الإصلاح سكيرها الأخير (بنيني) كان ذلك الصيف يمتاز بالأحداث ذات الدلالة على تغير البلاد المعنوي في وجهات شتى، فامتاز أحد هذه الأحداث بصدى خاص داخل الوطن وخارجه، ¬

_ (¬1) اسم استعارة لهيكل المرأة الذي كان بميدان تبسة الرئيسي.

كانت الألفة في قسنطينة بين المسلمين واليهود تسود طيلة القرون قبل الاستعار، ثم بدأت الحياة تتعكر فيها بالتدريج على حساب المسلمين بسبب أذى اليهود لهم، حتى أصبح صريحاً مستفزاً كتحديات مقصودة خاصة تجاه صغار التجار المسلمين، يأتي غالبهم من ناحية القبائل الصغرى لتحصيل القوت في المدينة بسوق (رحبة الصوف)، فتأتي اليهودية لتشتري بيضاً أو بقولاً، فتتعمد الإساءة إما في تحديد السعر حسبما شاءت، أو في بقول تفحصها فحصاً عابثاً ثم تتركها مبعثرة على مائدة التاجر المسكين، أو ملقاة على الأرض، كأنما يريد اليهود أن يثأروا من عرب قسنطينة لإخوانهم يهود برلين، وذلك دون أن يردع رادع أو يزجر زاجر، بل كان أحياناً التاجر العربي هو الذي يقاد للزجر بنقطة البوليس بعد التعدي على كرامته. حتى فار التنور يوم حدَّثت يهودياً نفسه، أن يبول في صحن ذلك المسجد الصغير بحي الجزارين حيث يصلي صغار التجار في ذلك الحي، فانطلقت الصرخة: - إن اليهود يتعدون على حرمة مساجدنا!! فكان الصول والجول والهول وانفجر الوضع، وشرع في تهدئته دون جدوى، بعض الأحبار من طرف اليهود وبعض المشايخ، من بينهم الشيخ (بن باديس) من طرف المسلمين، فقال أحد المشايخ على سبيل التذكير بالحكمة الشعبية: - إخواني، إنكم تعلمون أن رؤوس الأيتام معرضة للضربات القاضية (¬1)! .. لا شك أن الرجل يحمل تحت عِمّته (الرجعية) الأفكار التي يحملها الدكتور (بومالي) تحت طربوشه (التقدمي). ¬

_ (¬1) يريد بالأيتام المسلمين العزل، يطلب بذلك المسالمة وإن اقتضى الحال التسليم.

فثارت ثائرة الشيخ (بن باديس): - من يقول إننا أيتام .. لسنا أيتاماً في أرض أجدادنا!! لم يخرج الاجتماع بطائل، ولكن تقرر أن يعقد اجتماع آخر بملعب المدينة ليحضره الشعب، من أجل تحديد صورة تعايش بين المسلمين واليهود؛ فحضرت في الغد الحشود، وإذا بخبر سيعزى فيما بعد للعنصر الأوربي، يُدَس بين الصفوف: - إن رئيس اتحادية النواب قد قتل! .. فانطلقت الصرخة: - قتله اليهود!! .. لم يشعر أحد أن هذه الصرخات كانت الكلمات الأولى لأسطورة سيكتبها الاستعمار على حساب الشعب الجزائري، بدمائه الزكية أحياناً: - اليهود قتلوا الزعيم! .. إنما تعني هذه الكلمات في منطق الصراع الفكري ومكره: - اعبدوا الزعيم! .. قدّسوا الصنم! .. انفض الاجتماع ولم يبق أحد يصغي لأحد، وسال الجمهور نحو المدينة، وتدفق سيله على حي اليهود، وعلى الخازن الكبرى التى يمتلكونها في الأحياء الأخرى، وهي مغلقة ذلك الأحد. وحدث الأمر المذهل قبل أن يستطيع الجيش التدخل وقبل أن يرتد لليهودي بصره، انتهى الأمر في خمس عشرة دقيقة. رفعت ستائر الحديد من أبواب المخازن الكبرى، وفرشت الشوارع بما فيها من غال ثمين في دقائق وجيزة.

وتخلل هذا مواقف أسطورية. مثلاً عند ما يرى رئيس الشرطة الفرنسي هؤلاء الجماعة من باعة البيض والبقول، يكسرون خزانة أكبر مخزن يهودي كأنها من الكرتون، ويأخذون ما فيها من أموال طائلة ويحرقونها أمامه. وربما كانت السلطات الاستعمارية مغتاظة أكبر اغتياظها من أن أحداً من هؤلاء الفقراء المسلمين لم يدنس يديه بالسرقة ذلك اليوم. كان ذلك يوم الخامس من آب (أغسطس) عام 1934. وبقيت المدينة تموج في الغد والأيام التالية من الأسبوع، بأحداث كان لأحدها أسوأ أثر في الحياة السياسية الجزائرية المقبلة. حدث أثناء الأسبوع أن الزعيم رئيس اتحادية النواب ناول رئيس الشرطة ضربة رأس، وهو مثل ذلك العملاق الذي كان بجنب السيدة (حرم مصالي حاج) يوم تدشين حركة (نجم شمال إفريقيا) بباريس. فكانت الضربة التي صعد بها نجم الزعيم في السماء، وانتشر صيته في الآفاق، وقلما تلد الأحداث الكبرى فأراً، ولكنها ولدت فأراً في تلك الظروف وبدأ يعبث على الفور. إذ عندما وصل من السيد (أمين الحسيني) مبلغ لمعاضدة منكوبي قسنطينة من المسلمين، لم ير الفأر بداً من إرجاع ذلك المبلغ كيلا يظهر للسلطات الاستعمارية تواطؤ مع ما يشتم منه رائحة (الحركة الإسلامية). وهكذا بدأ الوطن يخرج رويداً رويداً من جادته إلى مسارب (الديماغوجية). ولم يكن العلماء على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف، ولم يكن لديهم من حدة المزاج وصرامة الإرادة ما يكفي حتى يتداركوا الموقف.

وربما كان هذا السبب الأول في فتور علاقاتي بهم، ولسوء التفاهم بيننا فيما بعد، خاصة بيني وبين الشيخ (العربي التبسي) رحمه الله. وبدأ الجو العائلي نفسه لا يسمح بالتنفس بالنسبة لي، كأنما وفاة والدتي زرعت حولي الفوضى والحيرة في العقول. فكان والدي يقضي جُلّ وقته في المقبرة ليتتبع بناء قبر والدتي، وكانت أختي الصغرى تنوبها حالات عصبية فظيعة من أثر المصيبة. كنت لا أستطيع الوقوف أمام هذا الانهيار الذي اجتاح أسرتي والذي ذاقت منه زوجي الأمرين. فأصبح جو تبسة لا يحتمل .. فقررت السفر دون أن يرى والدي في ذلك مانعاً، لأنه أصبح عاجزاً عن الأمر والنهي. وأتى يوم السفر ولم يسكب أحد (ماء العودة) بين قدميّ. ... العاصفة في البحر شيء رهيب عندما يملأ البرق الآفاق كأنه اكتسح العالم، ويدمدم الرعد ويتفجر، ويتردد صداه من كل ناحية، وترفع السفينة مقدمتها على الأمواج تارة كأنها صاعدة إلى فلك، ثم تغرسها في البحر تارة أخرى كأنها هابطة في أغواره البعيدة. ولكنني لم أكترث أو على الأصح لم أشعر بالخطر الذي يشعر به كل راكب على متن سفينة تواجه عاصفة أو إعصاراً. وعندما وصلنا إلى ميناء مرسيليا، وسمعت الربان يقول لزميل له: إن سفينته أوشكت على الغرق، أسفت لأنها لم تغرق فعلاً. ولم أكترث هذه المرة بالتقاليد التي نتبعها عادة عند إقامتي بمرسيليا تلك الساعات، قبل مغادرتي لها مساء على متن قطار باريس؛ لم تكن لي أي رغبة في

تناول (شوربة الفافوليا) (¬1) في ذلك المطعم الصغير؛ أمر كل مرة في الذهاب والإياب وأقضي أوقاتاً سعيدة أمام المبنى القديم الذي يحدث بالزمن الغابر. أصبحت لا يهمني شيء، فمرت ساعات انتظار القطار كأنها فراغ، ومرت الأشياء في الطريق دون أن تحدثني كالعادة. ووصلنا صباحاً إلى شقة مدام (بيري) المرأة الطيبة التي مسحت بظهر يدها دمعة تعالت على خدها عندما رأتني، لأنها تلقت نبأ وفاة والدتي من الأم (مورناس) قبل وصولي، وربما سكبت تلك الدمعة أيضاً على محنتها مع زوجها، ذلك الرجل الطيب المحبوب لطيبته في ذلك الحي، لولا أنه يعربد بالسكر في إحدى حانات الحي، عندما يكون انتهى من إنجاز مقاولة طلي في عمارة جديدة وفي انتظار أخرى. رجعت (لويزة) إلى ركنها على النافذة المطلة فوق شارع (فريدريك ميسترال)، ورجعت زوجي إلى شغلها المنزلي، وعدت- قبل افتتاح المدرسة - إلى علاقاتي الودية فزرت جمهورية (تريفيز) حيث لا زال (مرسولين) يجتر مرارة إخفاقه في قضية (الصداقة الفرنسية المغربية)، على الرغم من دعم مدام (دوفرانليو) الأدبي والمادي، ولا زال (جان سانشيز) يتعطر بتلاوة قصائد جدته المهداة إلى الإله شمس. وزرت أيضاً الحي اللاتيني. حيث لا يزال (فرديناند لوب) في حلقته من الطلبة، يتحدث عن الانتخاب المقبل لرياسة الجمهورية، ويمرح كعادته منذ ربع قرن، أنه سيرشح نفسه وفق برنامج سياسي ومقترحات دستورية ستغير مصير فرنسا ... وبينما بدأ مصير العالم يتغير فعلاً، بدأ (موسوليني) - بعد أن أجهدته ¬

_ (¬1) أكلة مشهورة خاصة بطبخ مرسيليا، تُهَيأ بحيوانات بحرية من كل صنف.

المطالبة بدون جدوى بعودة مقاطعة (الدوقية دوسافوي) و (الكونتية دو نيس) إلى التاج- بدأ يوجه النظر إلى أبعد، وبدأت حملة الحبشة القريبة تتهيأ بمظاهرات صاخبة بميدان (بلازا فنيشيا) حيث يلقي من شرفة فوق رؤوس الحشود المتظاهرة، كلمته المترددة. - إيطاليا! .. إيطاليا بروليتاريا وفاشيستا!! ... (¬1) أما شرق نهر الرون فكان الوضع في درجة الانفجار، كان الجيش الألماني بعد احتلال مقاطعة السار يشرع في الدخول إلى مقاطعة الرينان على نغمة مارش (خطوة الإوز)، بينما يقدم هتلر على الفور لدراسة مشروع تحصين هذه المنطقة بخط (سيجفريد) الذي سيشيد أمام خط (ماجينو) الفرنسي. بدأت إرهاصات العاصفة المقبلة كلها تتجمع في الأفق ... وكان زبائن المقاهي الباريسية يتحدثون فوق سطحها، عن فضيحة البنت (فيوليت فوزيير) التي قتلت أباها ونسبت له أمام المحكمة ميولاً فرويدية، وقد كان فرويد يومئذ يحتل منصة الموضة العقلية. ولم تبق لي في الوسط الطلابي الجزائري، إلا علاقاتي الخاصة بأصدقائي، فكانت بين (حمودة بن الساعي) وأخيه (صالح) قطيعة، يأتي الأول ويتشكى لي من أخيه، بدعوى أنه الأولى بالطاعة من طرف أخيه لأنه الأكبر في الأسرة، ولأنه على ما يبدو بقي متمسكاً عن غير شعور وعلى الرغم من احتكاكه بالفكر الديكارتي، بالأفكار الخاصة بقبيلته الأصلية. ومن المعلوم أن قبيلة اللمامشة تفرض الطاعة للوالد على الأبناء، ولأكبرهم إذا تغيب أو مات الوالد؛ ولم يكن (صالح) المهندس الزراعي المتخرج والأول في ¬

_ (¬1) كلمة كان يرددها موسوليني في خطاباته كما كان (كاتون) يردد (ولتتحطم قرطاجا).

دفعته والمتخلص بسبب تكوينه العلمي من كل ما تفرضه القبيلة، لم يكن على رأي أخيه في هذا الموضوع. كان يحرجني التدخل حاكم صلح بين أخوين، يرى كل منهما نفسه أنه على صواب، الأول باسم تقاليد نسختها الأيام، والثاني باسم حرية تقرير المصير التي رسخت الأيام معناها في الأذهان. بينما كان (علي بن أحمد) قد انتهى، في تلك الفترة، من قضاء شهر العسل لزواجه من صاحبة مكتبة صغيرة، ورجع إلى الحي اللاتيني ثائراً ساخطاً على كل شيء أكثر من ذي قبل. أما أنا فصرت مند افتتاح المدرسة، أواجه أزمة دراسية لم تكن في الحسبان: أصبحت غير قادر على أي عمل ذهني متواصل تلك السنة. فطلبت من المدير (سودريه) أن يجيزني لمدة غير معينة، فأدرك حالتي النفسية بعد موت والدتي، وقد كانت لي فكرة من وراى ذلك: إنني ما دمت مصمما على الهجرة إلى السعودية ألا يكون من الأجدى أن أدرس علم مسح الأرض (المساحة)؟ تلك علامة اضطرابي في تلك الفترة، لكن سلوكي لم يتغير من ناحية: كنت إذا ما بيّت مشروعاً لا أتخلف عن إنجازه، فاتصلت فوراً بمدرسة الأشغال العمومية لأسجل اسمي في دروسها بالمراسلة، لأنني قررت أن أسكن خارج باريس، فاتفق أن (أمي مورناس) قررت هي أن تشتري بقالة صغيرة في قرية (بروويه) في ريف قريب من دروكس وباريس، فقررت أن أسكن معها. وسكبت مدام بيري دمعة أخرى هذه المرة للفراق، وودعت زوجي والهرة (لويزه) وداع الحزين.

وذهبنا إلى (بروويه) وهناك تكونت لي علاقة مع الخوري، الذي كان بين التردد والإيمان، وبين الإباحة والتحريم في الأشياء التي لا يجيزها دينه، لمن يترهب. ولكن كانت زياراته لمنزلنا يوم الأحد، حين الغداء أو بعده، تعطيني فرصة الحديث معه في الأمور الغيبية، فكانت زوجي تستميت في سبيل إعلاء كلمة الإسلام على سواها، بينما تبقى أمها مُصغية لا تقول شيئاً- وربما لا تفهم شيئاً- في الموضوع، غير أنها عندما تظهر اهتمامها تقول في تلك اللحظة: - لعل شيئاً فوقنا ... لعل ... تقول هذه الكلمة دون أن تلهيها عن شغلها في إرجاع أثاث الأكل إلى خزانته أو غيره، ويستولي علي أحياناً الحنين إلى أصدقائي خاصة (حمودة وصالح) فأسافر إلى باريس. كانت الشركة الوطنية للخطوطى الحديدية تقدم تخفيضات على تذاكر الذهاب والإياب بمناسبة عطلة آخر الأسبوع، فأسافر عشية السبت وأعود عشية الأحد، ليس علي إلا تكاليف السفر المتواضعة جداً، لأنني كنت أنزل عند الصديقين أشاطرهما المنزل بفندق (بردوكس) حيث توالت أجيال الطلبة الذين يذهبون أحياناً بأجور غرفهم المتواضعة، فأنزل عند صديقيّ أشاطرهما أيضاً الطعام، لأن (صالحاً) كان يتقن طبخ الأرز بقليل من الزيت وكثير من الاقتصاد. فإذا جئت باريس كنت بطبيعة الحال أقضي تلك الليلة إلى ساعة متأخرة بـ (الهجار) المقهى الغربي الأول من نوعه بالحي اللاتيني، الذي دشنه صاحبه الجرائري منذ أربع سنوات، وكانت زبائنه من نوعين: هواة الموسيقا الفلكلورية والرقصات المغربية، وأصحاب النوايا السياسية. فكان النوع الأول ينصب في دهليز مهيأ على زعم صاحبه في إطار من ألف ليلة وليلة، يجلب السائح الأجنبي المتطفل بألوان مفرطة متراكة في لوحة

مزركشة تفتقر إلى الذوق، والنوع الثاني من هواة السياسة والمناقشات الفكرية، مجتمع في قاعة بالدور الأول تزعم هي الأخرى أنها مقتبسة من قصور هارون الرشيد، تجتمع فيها مجموعة من البشر من ذوي العيون اللامعة من الحمى، كتب على وجوهها الجوع والنقمة وما يصدر عن النفوس من عبارات مختلفة تتفجر أحياناً في مواقف مفجعة، مثلاً عندما تنطلق ذات يوم هذه البنت البلغارية مع أبناء جلدتها في حديث كان فيما يبدو على درجة من التأثير، جعلها تضرب بمعصمها باباً زجاجياً فمزقت شرايينها واستمرت مع ذلك في الحديث غير مستسلمة لمن يريد نجدتها حتى سقطت على الأرض. كنا نحن نجتمع في هذه القاعة على مضض من صاحب المقهى، لأنه يفضل زبائن الدهليز بسبب الأرباح التي يدرها عليه، وكنت أتجاذب الحديث مع (حمودة بن الساعي) عن الوضع في الجزائر، وعن كتاب (مسينيون) عن (الحلاّج) الذي كان موضوع الأخذ والرد في تلك الفترة. وربما كان مَن أمامنا من البلقانيين، يهيئ مؤامرة من نوع تلك التي سيذهب ضحيتها في تلك الأمسية رئيس الجمهورية الفرنسي (دوييرو) تحت طلقات (كركولوف) عضو المنظمات الوطنية الماسونية. وربما كانت البنت التي ضحت بمعصمها أو بحياتها- لا أدري- ربما كانت في ليلة من تلك الليالي تبرهن عن ضرورة تحطيم الأعداء. لم تكن صور الحياة في هذه الناحية من (الهجار) كلها من هذا النوع الأسطوري، بل كانت هناك صور أخرى صامتة هادئة، لا أدري إذا كانت تقل خطورة عن تلك في آخر المطاف. كان في تلك الفترة عامل جزائري بسيط اضطرته الظروف إلى مغادرة بيته بمدينة (سطيف)، لأن الحكومة أمرت بإقصائه بعد مشاجرة حدثت له مع رئيس شرطة المدينة، فاضطر إلى هجر عزبته وأسرته، وأن يعمل في باريس وتعرف عليّ وتعرفت عليه في مناسبة لا أتذكرها، فأصبح ينتهز فرصة وجودي

بباريس ليصغي إلى حديثي، كما يصغي المريد إلى شيخه. وإذا به يخبرني ذات مرة في (الهجار) بأن خطيبته تريد التعرف عليّ لأنه حدثها عما أخذ مني، فاتفقنا على الأمر، وعندما أتيت للموعد وجدت صديقي مع سيدتين قدم لي واحدة بوصفها خطيبته، والأخرى على أنها أخته، توسّمت على الفور أنهما يهوديتان، واستمر الحديث في الدين حتى قالت الخطيبة: إن خطيبي أخذ عنكم كثيراً، فأريد أيضاً أن أستفيد خاصة في تحديد مفهوم الله ... ما هو الله؟ أدركت على الفور مغزى السؤال: إنه الفخ الذي سبق لي أن تعرضت له مراراً بجمهورية (تريفيز): عندما يكون السائل لا يريد توضيحاً من المسؤول وإنما تعجيزه أمام شهود، كانت الخطيبة إنما تريد تعجيزي أمام خطيبها ليزول تأثيري المعنوي عليه، وكي تزول بيني وبينه صلة السر (¬1) التي تربط هذا المريد بشيخه. أدركت على الفور أنها تنتظر مني جواباً كلامياً يعطيها الفرصة للمناقشة والجدال، فأتيتها من حيث لا تنتظر، وقلت: - الله هو السبب، بلا سبب، لكل الأسباب. فرأيت المرأتين تطأطئان الرأس لأن منطق الجواب قطع عليهما السبيل فيما يبدو، ولم يكن ذلك الظرف الوحيد الذي قضى فيه هذا المنطق على بعض الأحابيل في أحاديث (الهجار). بل كان الظرف يتكرر كلما كان الحديث مع يهودي أو في القضية اليهودية، التي أصبحت موضوع الاهتمام في تلك الفترة، فكان صحافي باريسي- ربما من الصحافة اليسارية- يحتج ذات يوم على (أولئك الذين يتهمون اليهود بالعصبية) واستمر يستدل على رأيه بقصة، بينما كنت ¬

_ (¬1) السر، بالمصطلح الصوفي، هو العلاقة الخاصة بين مريد وشيخه.

أصغي إليه مع (عمار نارون) الطالب الذي قاد حركة الانشقاقيين في وسط الطلبة الجزائريين، فقال الصحافي: - إننا، في جمعية إسعاف للشباب المعسر بباريس، حاولنا مرة أن نساعد فتاة يهودية لم تجد شغلاً بباريس، فتقدمنا إلى أغنياء يهود من أجل تكاليف سفر عودتها إلى بيت أهلها بمراكش، فطلبنا من صندوق روتشيلد للإسعاف خمس مئة فرنك فلم يصرف إلا خمسين فرنكاً. أترون في هذا عصبية وتعصباً؟ ... لاحظت الثغرة في منطق الصحافي الطيب، فسألته: - عفواً يا سيدي ... وبالتالي هل رجعت البنت اليهودية إلى بيتها؟ أم لا؟ - طبعاً ... طبعاً ... إننا سفّرناها على أية حال ... فقلت: - هذا ما كنت متأكداً منه، ألا تعتقد أن السيد روتشيلد كان أيضاً، وربما أول من يكون متأكداً من ذلك؟ .. بحيث وفر لصندوقه أربع مئة وخمسين فرنكاً، وسفّر البنت على حسابكم ... وفوق كل هذا أعطاكم الصورة التي تدافع عنها بإخلاص. فسكت الصحافي حتى قطع السكوت (عمار نارون) فقال: - والله إنه لأمر عجيب، فعلاً ... ولا أدري مم تعجب. كانت فرص مقهى (الهجار) كثيرة متنوعة، تعرفت في إحداها على رجل شاب وزوجه قدمهما لي أحد خدم المقهى. - مسيو (سيريل أنا كليتو) من باريس، اعتنق وزوجه الإسلام ...

ولد (سيريل) قرب الحي اللاتيني، من أبوين نزحا من مقاطعة (الشارونت)، ليتولى الأب وظيفته في الجمرك الداخلي الذي أنشئ بباريس على إثر هزيمة 1871، وتولى استغلاله (روتشيلد)، لأنه قدم من ماله الضريبة الحربية التي فرضها (بيسمارك) على فرنسا بعد الهزيمة. وترعرع سيريل بين شارع (مونج) وشارع (سان ميشيل) في الحي الذي شيد به مسجد باريس سنة 1925، وهو يذكر طفولته فيقول: - كنت طفلاً أذهب ألعب في الساحة التي بدأ فيها بناء المسجد، كان ذلك أول اتصالي بالإسلام .. صحيح أن اعتناق الإسلام، بين الفرنسيين مثل (إتيان دينية أو رونية جوجلاري) يترتب غالباً على ظروف طفيفة، من دون تدخل دعاة كما يحدث في اعتناق المسيحية بل بالعكس؛ وفي قصة سيريل بالذات نرى ممثلي الإسلام الرسميين يعملون أحياناً أو يستعملون لتنفير من يستدرجه الإسلام بدعوة خفية لروحه. نشأ (سيريل) بحكم تكوينه في مدرسة الفنون الجميلة، يهتم أولاً بالجانب الجمالي في الأشياء، فكان يسحره في طفولته وفي شبابه لباس المصلين الوافدين على المسجد يوم الجمعة، كما يسحره البناء الشرقي بتلك المنارات الشاهقة، وبزركشة المزلاج المتعدد الألوان، وسيل الخط العربي الأنيق على الجدران، والنافورات المتدفقة بين الزهور في صحن المسجد. ولكنه مع مر الأعوام بدأ يبحث عن شيء آخر في الإسلام. - ما هو هذا الدين؟ كان هذا السؤال يتردد في ذهنه، ويتطلب جواباً من ذي علم، وكان على رأس إدارة المسجد مديره المعروف سيدي (بن غبريط)، كما يسمونه في القصر

الملكي بالرباط، وكان يقوم بالشؤون الدينية فيه ثلاثة أئمة: واحد من تونس، وواحد من مراكش، والثالث من الجزائر، رجل تقي ولكنه يعدم الجواب على أي سؤال. فتقدم (سيريل) بسؤاله عن الإسلام، فكانت الصدمة بسبب سلوك منحرف من طرف المسؤول ستؤدي لو لم تكن سبقت له هداية الله إلى أن يفر من المسجد مرتداً على أعقابه، لاعناً نفاق المسلمين ... ولكن الله يهدي من يشاء، فتداركه بلطفه بعد الصدمة، فتعرف على رجل مصري أتى إلى باريس ليؤسس بها جريدة للدفاع عن الإسلام، وكان المصري، بوصعفه رجلاً أجنبياً مضطراً إلى استعارة اسم فرنسي للحصول على رخصة الجريدة، فأعاره (سيريل) اسمه. وصدرت الجريدة فعلاً تحت عنوان نسيته، غير أنني قرأت منها عددين أو ثلاثة قبل أن تختفي حوالي عام 1930، على طريقة تلك النجوم المذنبة التي أضاءت حيناً سماء العالم الإسلامي ثم اختفت مثل مجلة (الإسلام الفتي) وجريدة (الشاب المسلم) في الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية. اختفت الجريدة ولكن (سيريل) أصبح (محمد أناكليتو)، وزوجه امرأة طيبة من ضاحية باريس من أسرة متواضعة، ولكنها لا تستطيع بسبب منشئها الثقافي الاجتماعي اتباع خطوات زوجها في رحلته الروحية. فأصبح (أنا كليتو) هدف الود من طرف بعضهم، والسخط من الآخرين في وسطه، وربما كانت زوج الفراش في عمارته أسخَطَ الناس عليه، خصوصاً عندما تراه صباح الأعياد، يخرج من بيته في الزي العربي الجرائري، ليذهب إلى صلاة العيد في المسجد، وكانت تراقب عودته من وراء ستائر الشباك الشفافة، فتقول لمن حولها من نساء العمارة: - واأسفاه! واحسرتاه! لقد كان أقاربه من سكان العمارة الطيبين. إنه

باريس تحب الشيء الغريب في متاحفها، ولكنها تكرهه في منازلها. ولم تكن مدام (أنا كليتو) لتخفف من حدة الأمر حتى في بيتها، فقد أزالت منه كل الطابع الفرنسي: فعوضت الكراسي بالسجاد و (الطرابيزة) بالمائدة الشرقية، حتى نال التبديل زيها واعتقدت عندما رأيتها لأول مرة، أنها امرأة شرقية، وعلى رأسها منديل حرير مثل نسائنا بتبسة. ولكن لم يكن زوجها من النوع الذي يكترث بحب أو سخط باريس، بل كان يزيد في الطين بلة أنه يرى طبعاً في الإسلام الدين الأفضل، ولكنه يعطي لهذا المبدأ في التطبيق ما يضفي عليه لون التعصب، حتى إن معارك (هوميرية) كانت تنشأ بينه وبين زوجي حول الطماطم مثلاًحين يقول (أنا كليتو) بكل عنف وإخلاص: - مدام الصدّيق، إنني أؤكد لك أن الطماطم الفرنسية ليست شيئاً بالنسبة إلى الطماطم الجزائرية. وتصر زوجي: - يامسيو (أنا كليتو)، إنني مسلمة مخلصة لديني ... ولكنني أعترف أن الطماطم الفرنسية أقل حموضة، وأكثر لحماً. والأمر في الواقع كان كذلك، ولكن لا يستطيع أحد أن يجعل (أنا كليتو) يتراجع في رأيه عن أفضلية الطماطم الجزائرية، لأنها في نظره ليست الطماطم فحسب، بل طماطم أنبتها التراب الإسلامي. ولكن هذا التعصب في التفاصيل الطفيفة، لم يجعله قصير النظر في المشكلات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي، خاصة المشكلات ذات الطابع الحضاري، وقد انسجمت معه منذ لقائنا الأول بالهجار، وأصبحت أدين له

بما استفدت منه مباشرة أثناء مناقشاتنا، أو من مكتبته الإسلامية التي أتاحت لي مطالعات عمّقت نظري في هذه المشكلات. وفي تلك الفترة عثر (حموده) أو أخوه (صالح) - لا أدري- على عنوان (أوجين يونغ)، وزاره في غرفة قليلة الأثاث، لا يدخلها ضوء النهار إلا من نافذة صغيرة، تحت أحد سطوح باريس، ولا تنورها ليلاً الكهرباء، وأصبح الرجل النبيل الذي علم جيلي الكثير عن وضع العالم الإسلامي في الحقبة الاستعمارية، أصبح عجوزاً مريضاً ستنطفئ حياته في عزلة هذه الغرفة كما تنطفئ فيها الشمعة التي تضيئها ليلاً، بينما كان تبذير بعض الطلبة من العرب والمسلمين في الحي اللاتيني كافياً لحياة هذا المريض في لحظاته الأخيرة. بدأ محور (برلين روما) يصبح موضوع الاهتمامات والأحاديث السياسية في العالم، وكأن (موسوليني) قد أراد أن يضع في الكفة التي تليه أكثر ما يمكن من الوزن والاعتبار، فجهز بعثة الجنرال (نونيل) المشهور للقطب الشمالي، وقد انتهت بمأساة كادت تصبح فضيحة، عندما أسرّت بعض الألسنة أن أعضاء البعثة افترسوا أثناء المأساة المكتشف النرفيجي الكبير (أموندسين)، الذي شارك في المرحلة المشؤومة. فانتقم موسوليني من سوء الحظ بتجهيز بعثة أخرى تحت قيادة جنرال الطيران (ايطالو بالبو)، الذي قاد بنجاح أول سرب طائرات يعبر المحيط الأطلسي الجنوبي، في محاولة جماعية. بينما كانت الحرب الإسبانية في أشدها؛ انقسم الرأي العام في كل بلد أوربي إلى معسكرين؛ أحدهما ينادي بالديمقراطية والآخر ينادي بسقوطها. وكانت سفينة حربية ألمانية في مهمة تدريبية بالبحر الأبيض المتوسط،

فاغرقتها طائرات إسبانية منحازة للجمهورية، فأمر هتلر بقصف ميناء (جرنيكا). ولم يُرد (موسوليني) أن يبقى متفرجاً أمام الأحداث، فامر الجنرال (باو وليو) بالزحف على أرض الحبشة. ولكن أصبح الجيش الإيطالي يراوح مكانه لا يتقدم، فاهتز الرأي العام الأوربي لهذه الفضيحة أكثر مما اهتز للأولى. وفي هذه الأثناء حضرت مع (حموده وصالح)، محاضرة ألقاها (مسينيون) بقاعة (جمعية الطلبة المسيحيين الباريسيين)، فأدان الجريمة الإيطالية، لا من ناحية أخلاقية فحسب، ولكن من ناحية سياسية لأن بطء إنجازها يعرض الاعتبار الأوربي إلى الهزء في المستعمرات. لا أدري إن كانت تلك المناسبة هي التي سمعت فيها خليفة (ارنيست رينان) على كرسي (كوليج دوفرانس)، ومؤرخ الحلاج، يذكر وفاة (رشيد رضا)، فيسكت هنيهة ثم يتنفس الصعداء كأنه استراح، يقول: - آه! مات هذا الرجل. ومن المؤسف في ذلك اليوم، أن (علي بن أحمد) كان في القاعة، لأنه كان من الطلبة الذين يتتبعون تقلبات كل المحاضرين عن الإسلام في باريس، خصوصاً (مسينيون) لأنه حسب بعض الأقوال، كان هو الآخر يتتبع خطوات الطلبة المغاربة، وعلى أية حال كنت أخشى حضور (علي بن أحمد) ذلك اليوم، لما أعلم لقريبي من جرأة لسان، لا تليق في مكان يعرفني فيه الجميع، ولا تليق في كل الظروف. وإذا به يطلب الكلمة عند انتهاء المحاضر من كلامه، فتوقعنا النكير وقلنا جميعاً فيما بيننا:

- ياستار! ... ماذا سيقول (علي بن أحمد)؟ ياستار الفضيحة. فأعطيت له الكلمة، فقام بجنب (مسينيون) وولى إليه وجهه وقال: - أيها الأستاذ إنك كذبت عندما قلت ... وقلت ... فسالت قطرات عرق على جبيني، وكرر (حمودة)، واهتزت القاعة وهاجت، وصرخت: - أخرجوه! .. أخرجوه! .. فاتكأ (صالح) عليّ وقال لي: - ارتق كيفما استطعت ... يا صدّيق ... ارتق! .. فطلبت الكلمة متعمداً التواضع في كل حركة وكل كلمة، كأنني ألعب في مسرحية دور المتواضع، فكانت كلماتي البلسم الذي هدأ أعصاب الحاضرين، ولكنني لا أعتقد أنها كانت بلسماً على أعصاب (مسينيون)، فلا أدري حين انقلب من محاضرته على أينا كان أكثر حقداً على (علي بن أحمد) أم عليّ أنا؟ وبدأ الصيف يحط رحاله في البساتين والحقول، حول قرية (بروويه) الهادئة، وبدأت أشعة شمسه توقد النيران في العالم أو تزيد في وقودها. استبطأ موسوليني الجنرال (باودوليو)، فعوضه بصقر الجيش الإيطالي (غرازياني). فلوحت عصبة الأمم من جنيف بإنذار، فترك الوفد الإيطالي مقاعده، وأوصد وراءه الأبواب بعنف. فهددت لندن بغلق قناة السويس، فرد موسوليني بالمثل وتوعد أنه سيغرق باخرة مشحونة بالإسمنت في مجرى القناة.

وأعلن رئيس الحكومة الفرنسية وفاءه للمشروع الإيطالي. أطلق (النجاشي) نداء النجدة ووجهه إلى العالم بأسره، فتغافل عنه الرأي العام الإسلامي، بإيعاز من (شكيب أرسلان) الذي كان لا يرى سبيلاً لاتخاذ موقف، دون أن يكون موقفاً ضد (المحور) الذي كان ينتظر منه العون في مقاومة الاستعمار. كانت الحقبة التي بدأت فيها (برلين) و (باري (¬1)) تذيعان بالعربية. ثم وقف (غرازياني) بين جميع الآراء عندما احتل (أديس أبابا). وأسدل الستار مؤقتاً على القضية الحبشية. وأخذ العالم يدخل في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية مباشرة. ... كانت الحقبة ممتلئة بأحداث ذات دلالة بالنسبة لمن كان فيها مهتماً بسبر تاريخ العالم، وبتاريخ إحدى الجهات مثل الغرب خصوصاً. وإذا كنت لا أدري التسلسل الزمني لتلك الأحداث بالضبط وذلك فيما يخص الجهة التي تهمنا، فإنني أعلم مع ذلك أنها من تلك الحقبة التي حوّلت العالم. بدأت المجموعة الطلابية المغربية، التي أثّرت في توجيه مجراها بالحي اللاتيني تعود إلى بلادها، وعلى رأسها إكليل الشهادات. رجع إلى مراكش (محمد الفاسي) و (بلفريج)، ورجع إلى تونس (بن ميلاد) و (بلهوان) و (صالح بن يوسف) وآخرون. حدث على أثر عودة الطلبة التونسيين، ارتفاع في درجة الاضطراب ¬

_ (¬1) أول محطة أنشئت بإيطاليا للإذاعة باللغة العربية قبل الحرب العالمية الثانية.

السياسي بتونس، كانت نتيجته أن الشيخ (الثعالبي) احتفظ بقيادة حزب الدستور مع (محيي الدين القليبي)، رحمه الله، وانضم لهما الدكتور (بن ميلاد). وتولى (بورقيبة) مع (صالح بن يوسف) أمر جناح من الحركة الوطنية سيتم تشكيله تحت اسم (الدستور الجديد). ماذا كانت الجهات العليا بباريس تفكر؟ إنها كانت دون أي شك لا تريد خيراً للجميع، ولكننا إذا تبصّرنا نحن في الأمر بإمعان، نرى أن الاستعمار لو خُيِّر في تلك اللحظة، لَفَضَّل الجناح الجديد، كما ستؤكد ذلك الأيام له ولنا بعد ثلاثين سنة. يجب علينا أن نتصور الاستعمار كما هو، أي عقلية علمية مطبقة في المجال السياسي، فلا يمكنه- طبقاً لتفكيره الديكارتي- أن يلغي من حسابه مبدئياً احتمال الاستقلال. إن الاستعمار لواثق، تجاه هذا الاحتمال ولمواجهته في الوقت اللازم، مما بيده من وسائل الضغط والقمع، وستدل على خبرته في استعمال تلك الوسائل أيام (كانبون) المشؤومة والمشهورة. ولكن إذا احتُمل، بعد كل ضغط وكل قمع، أن يتحقق الاستقلال فلمن تُسلَّم على الأفضل مفاتيح القلعة؟ أمن الأليق بالنسبة لمصالحه العليا، أن يسلمها إلى (بورقيبة) أم إلى الشيخ (الثعالبي)؟ هذا هو كل السؤال .. فمن الواضح لمن يطرحه، أن (الثعالبي) سيرفع على القلعة راية الإسلام أو ما يشبهها.

بينما الآخر سيجعل منها ما فعل بها بالضبط: قلعة علمانية، وإذا لم يبق أي تردد في الأمر لدى الجهات الباريسية تجاه احتمال الاستقلال فيجب أن تُسلِّم المفاتيح إلى الحزب العلماني إذا آن الأوان. ولعل الانشقاق الذي حدث في تلك الحقبة، إنما هو نتيجة مسبقة تمهيداً لاحتمال قد تصيّره الأيام واقعاً تاريخياً. أما في مراكش فلم تُغَيّر عودة الطلبة وجهةَ السير في شيء، إلا أنها غيرت في سرعة خطواته، وفي اتساع مجاله إلى حركة شاملة تشمل كل الوطن وتهزهه هزاً عنيفاً، مستغلة (الظهير البربري (¬1)) بوصفه طاقة متفجرة، سيفجرها فعلاً الحزب الوطني في ضمير الشعب، وستأخذ صوراً رهيبة من السخط على الاستعمار، يضفي عليها الدين طابعاً خاصاً عندما تجتمع الحشود من المصلين في مساجد فاس وغيرها من المدن، وفي حلقات ذكر وابتهال وتضرّع إلى (الله اللطيف) تأخذ بمشاعر الذاكرين إلى درجة الشطحة الصوفية. وفي الجزائر كانت أيضاً هزات عنيفة، في صور غير متوقعة أحياناً، مثل قضية (سجائر جوب) .. كانت هذه السجائر هي المشهورة في البلاد، ولم تكن الدار الكبرى التي تصنعها في حاجة إلى وسائل الترويج لبضاعتها، فلم تكن تطلب المدخِّن بل كان المدخن يطلبها حتى أصبحت شروطها قاسية على الباعة ... وإذا بالمدخنين الجزائريين كلهم يعلنون ذات يوم، أنهم يرفضون (سجائر جوب) وقاموا يبصقون عليها في المدن والشوارع كلها. ¬

_ (¬1) الظهير في مصطلح الديوان المراكشي هو اللائحة القانونية، والظهير البربري هو القانون الذي أصدرته السلطة الاستعمارية لفرض اللغة البربرية وتعطيل اللغة العربية في البلاد.

حدث ذلك في ظروف تشبه الظرف الذي سبب أحداث الحي اليهودي بقسنطينة قبل سنة، ربما قال شخص ما: إن دار (جوب) تعمل لحساب الصهيونية بفلسطين ... ولكن كيف أدى هذا القول، في كل مدن وكل قرى الجزائر، في اليوم نفسه وفي اللحظة نفسها إلى هذه الهزة العنيفة؟ وفسر بعض الناس الظاهرة على أنها مؤامرة (دار بسطوس) المنافسة لـ (جوب) وأنها هي التي رسمت خطة المقاطعة بكل تفاصيلها. وعلق عليها البرفسور (بهلول) الأستاذ الجزائري بثانوية (سانت بارب) الكبرى بباريس، بأنه لا يجوز لنا أن نعير أهمية إلى (قضية أعقاب السجائر). كان المثقف الجزائري، مثل الدكتور (بومالي) بتبسة أو (بهلول) بباريس، يقوم دائماً بدور المنتقص من أهمية الأحداث المهمة. وعلى أية حال سجل التاريخ الجزائري (يوم جوب) بين الأيام التاريخية في تلك الحقبة، بوصفه تعبيراً شاملاً للضمير الوطني في ظرف معين، وأخذ الحدث بهذا السبب حجم قضية تهم الدولة، وخصوصاً الأوساط الاستعمارية، وربما حتى دار (بسطوس) أصبحت تهبط وتصعد نظرها في الأمر. هكذا كانت الأيام تجرف الأحداث المنذرة في العالم وفي المغرب العربي، وبدأت مجموعتنا تتفرق في الآفاق. لقد انتهى (بن عبد الله) من دراسة الحقوق تلك السنة فعاد إلى الوطن، ورأت الحكومة أن تزيد في تشتيت جمعنا، فمنحت وظيفة إلى (صالح) في هيئة تصدير الغلال الجزائرية، ثم فكرت في إقصائه أبعد من ذلك، فعينته مهندساً زراعياً بمستعمرة (كايين) بأمريكا. ولجأ أخوه (حمودة) إلى العمل في مصنع باريسي بصفة عامل ... وتبخر

(عمار نارون) لا أدري كيف، وبدأ طلبة يغازلون (مصالي حاج)، وبقي (علي بن أحمد) يضرب بنعله الحي اللاتيني يلعن (المصاليين) أحياناً والمناوئين لهم أخرى. وبدأت أفكر جدياً في الهجرة إلى الحجاز لأستقر بالطائف، فطلبت جواز السفر لي ولزوجي. وكنت- إذا جئت باريس- أنتهز الفرصة لزيارة (محمد أناكليتو)، ولزيارة الحي اللاتيني لالتقاط الأخبار عن الأحداث في الجزائر وفي العالم. واتفق لي أن التقيت هكذا بـ (بن كرتوسة) أحد الطلبة الجزائريين، كان ناظراً في إحدى المؤسسات التربوية بضاحية باريس، المختصة في ترفيه الأطفال مدة عطلة الصيف في روضة تابعة لها بريف مدينة (ليزيو)، فعرض عليَّ قائلاً: - لماذا لا تقضي الصيف معي في أجمل مناظر الطبيعة بـ (النرماندي)؟ فتقرر الأمر على ذلك مع مدير المؤسسة، إذ لم يكن لدي مانع منه وأنا في انتظار الجوازات، وأسرّ إلي صديقي عندما خرجنا: - إن المدير توسم في مظهرك أنه يخشى أن تكون صعباً مع أطفال المستعمرة الصيفية، ويخشى أن تنالهم منك بعض الشدة. لعل مظهري كان كذلك، ولكن عندما اطلعت على أحوال المستعمرة، تبين لي أن تقدير المدير كان تافهاً إلى حد بعيد. كانت المستعمرة جنة تولى أمرها خزنة للنار، فأصبحت جحيماً للأطفال تربى فيه، أعني تقتات فيه كالدواجن في أقفاصها، بأكثر ما يمكن من أرباح للمؤسسة، وأقل ما يمكن من بذل في كل شيء، لأن صاحبها كان يستطيع بفضل والد زوجه النائب بمجلس الأمة الفرنسي، الحصول على مثل هذه المقاولات من

السلطات المعنية بباريس، وتُسَلَّم هكذا أطفال المستعمرة الصيفية إلى أيدي مربين، بينهم من هو طبيب ألقت به ظروف خاصة على هامش التعليم، وآخرون وحوش ضارية جعلتهم على هامش المجتمع انحرافات موروثة. إذن كانت المستعمرة جحيماً، خُصّص فيه قسم لمن لا يمسك البول في النوم، وربما كانت رائحته تزيد الوحوش المكلفة به ضراوة. ولكن رائحة ذلك القسم وضراوة وحوشه وشراسة مدير المؤسسة نفسه، لم يكن كل ذلك يغطي الجانب الآخر، في تلك الحديقة المتسعة الأرجاء، وقد ألبست الطبيعة كل جزء في هذا المكان المشهور من النرماندي جمالاً يغطي مساوئ الإنسان. كان هذا الجانب جنة الأطفال وقد توليت أمرها مع (بن كرتوسة) حتى اعتاد الطفل من أي قسم كان، أن يولي وجهه نحوي إذا خشي وحشاً من الوحوش أو إذا احتاج الأمر. - مسيو الصدّيق أريد كذا وكذا ... كانت هكذا حياة الأطفال في تلك المستعمرة الصيفية، من ناحية جحيم ومن ناحية أخرى جنة. أتذكر بعد ثلث قرن الساعات السعيدة، كأنها كانت لشدة الأقدار، الاستراحة التي قضيت فيها تلك الساعات، قبل مواصلة السير على طريق عبدته الصعوبات والمحن. لم تكن أخبار تبسة تصلني تلك الفترة، وإذا بخطاب يصلني منها، يدعوني فيه إلى الحضور خالي (أحمد شاوش) (الطبيب الأهلي) الذي يقال عنه إنه تلقى موهبة التطبيب من سيدي الحاج (العربي الطيطاوني) كما يأخذ المريد الورد عن شيخه. خطرت بذهني تفسيرات كثيرة للخطاب، دون أن أعرف الصحيح منها،

بينما أقرأ وأعيد القراءة تحت شجرة صنوبر ضخمة، يقال عنها إنها عمرت ألف سنة، واشتهرت بأن الكاتب الفرنسي الكبير (دوماس) كان يأوي تحتها. واستقر عندي الرأي أن ألبي دعوة خالي (أحمد شاوش) على أية حال، فغادرت المستعمرة متجهاً إلى منزلي الجديد، لأن (أمي مورناس) كانت في هذه الأثناء، باعت دكانها وغيّرت السكن حسب عادة تنقلاتها، فوجدت زوجي مهتمة بإصلاح ما يتطلب الإصلاح؛ فبقيت معهما ريثما أخبرهما وأتهيأ للسفر. ... اجتمع مجلس العائلة، وبثّ في الأمر: - إن ابن أختي الصدّيق لا يليق به أن يبقى دون ولد، وخديجة لا تلد له، إذن يجب أن يتزوج امرأة أخرى ... هكذا قررت خالتي (مليحة) بمحضر والدي وخالي (أحمد شاوش)، ولهذا الأمر كتب لي هذا الأخير بتكليف من المجلس. فبذلت كل المجهود لإرجاع القوم إلى رشدهم عندما حضرت أمامهم، ولكن أختي الكبيرة لم تقبل الهزيمة في الموضوع كما حدث بينها وبين خديجة قبل سنتين حين قالت: إن والدتنا أوصتني في لحظاتها الأخيرة، بأن أقول لك: الأولاد ثم الأولاد. فعلاً كانت والدتي مصممة على أن يكون لها أحفاد من ابنها، فقررت أن أرضي الجميع بالقول على الأقل في انتظار الظروف السانحة، علماً بأن خديجة لم تعارض في الموضوع مبدئياً. ولكن فكري كان مشغولاً بأمرآخر: هل أحصل على الجوازات؟ كانت المدينة جادة داخل سورها في تغيرات مجدية أو تافهة، وأصبحت

الأسطوانات المصرية مطلوبة في كل المقاهي التبسية، حتى لم يبق لـ (عيسى الجرموني (¬1)) مستمعون إلا خارج السور، في تلك المقاهي التي أنشئت خارج السور، واحتفظت بكل الطابع القديم، لأن غالب زبائنها يفدون من العشائر حول المدينة كل ثلاثاء يوم السوق. واتضح أكثر في تبسة خط التوزيع الإيديولوجي، بين مريدي الشيخ الإمام (سي سليمان) ورواد الفكرة الإصلاحية: يجتمع أولئك حول شيخهم بعد كل صلاة عصر، عند صومعة المسجد العتيق في انتظار صلاة المغرب، ويجتمع هؤلاء حول الشيخ العربي التبسي بمخزن (سي الصادق بو ذراع). وكانت الخصومة حامية بين الطرفين، يضرمها من يصطاد في الماء العكر، كلما أوشكت على الانطفاء، حتى لا تفوت فرصة على منتفعي تلك الفترة التي بدأت فيها تفتح مقاهٍ وتفلح تجارات وتتكون ثروات تحت راية الإصلاح. ولاشك أن الحكومة كانت أكبر منتفع من الخصومة، فكانت تدس في المعسكرين من يضرم نارها. بينما بقي (حشيشي مختار) المقامر المحترف سابقاً، على خط التوزيع محايداً،- مع إدراكه للجانب السليم والجانب المريض من الناحيتين، ومع ميله المبدئي لصف الإصلاح. أما الشيخ (الصادق بن خليل) فإنه استمر في شغله مع الفتيات الأوربيات الطامحات في الزواج، المعتقدات ببساطة عقل عجيبة، أن الشيخ يستطيع بالتمائم والحروز تحريك القلوب وتقليبها، وكان من ناحية أخرى يشتغل مع شريكه اليهودي في المطبعة الصغيرة الوحيدة في المدينة، في طبع القوائم التجارية ودعوات الزواج وإعلان المآتم. ¬

_ (¬1) عيسى الجرموني مطرب شعبي يتصل فنه بما يسمى اليوم (الفلكلور).

وخطر ببال الشريكين إصدار جريدة محلية، لا أتذكر أنني قرأت منها عدداً أو عددين، وقد كانت الفكرة (تقليعة الوقت)، حتى إنه أنشئت بقرية (أم البواقي) صحيفة باسم (صدى الحراكتة (¬1)) أشرف عليها (حساني رمضان)، ذلك الرجل البر الذي استعان بمثقف طائش وضعته بالتالي الحكومة تحت أقدامها. ولم تكن مدام (دوننسان) ترى في كل هذا جديداً، بينما حدث ذلك الصيف حدث صغير لا يخلو من دلالة على التغيير المستمر في العقول وفي البلاد. كانت امرأة فرنسية تتردد مع زوجها، على قرى الناحية بمتجر متنقل لهما يتاجران في (قمار العجلة)، فوصلا إلى تبسة كعادتهما في ذلك الفصل، وبدأت المرأة توزع تذاكرها وتدفع عجلة القمار، وتوزع الجائزة لمن ربحت تذكرته، في صف الزبائن المزدحم أمام المتجر قريباً من باب الساعة. كان كل الزبائن من الجزائريين الذين تعودت صاحبة القمار الإساءة إليهم بالكلمة اللاذعة في السنوات السابقة دون تحفظ، فأساءت لهم تلك الليلة الافتتاحية كعادتها، وربما كان أحد الشبان التبسيين بين الزبائن، لم ترق له كلمة السوء، فنقلها إلى النادي فأصبحت مع بعض الإضافات والتعليقات المحتملة في مثل هذا الظرف، قضية وطنية تهم الجميع. فنُعتت على الفور عجلة القمار وصاحبتها، بما يراه شبان النادي مناسباً، وتطوع بعضهم حتى إذا رأوا أحداً واقفاً أمام المتجر المتهم، أشير إليه أن يبتعد، فانفض كل من حول العجلة من أبناء العشائر، وذهبوا يستمعون (عيسى الجرموني) في أحد مقاهي السوق، ووقفت العجلة لا تدور. ¬

_ (¬1) الحراكتة، اسم قبيلة في الجنوب القسنطيني.

فلم يبقَ أمام صاحبي المتجر المهجور إلا أن يهاجرا من المدينة بعد انتظار ليال قليلة، وظهر بتبسة وجه جديد، اسمه (باهي) على اسم صاحب المقهى المشهور. كان (باهي) الجديد من (البسطاء) كما تعبر لغة الشعب عن الذين لا يتصرفون بعقلهم، وكان قاموسه يتضمن ثلاث صرخات متوالية تعبر عن حالاته النفسية، حسبها يتخللها من ضحك خشن أو غضب. - ها! ... ها! ... ها! ... فإذا سمعت هذه الصرخات ورءاك، والتفتّ تجد (باهي) يمزح معك أو غاضباً عليك دون سبب. وعلى الرغم من بساطته هذه أو بسببها، اكتسب (باهي) شهرة خاصة لدى النساء، يقلن عنه: - إنه فيه البركة! ... انتقلت أخباره إلى قسنطينة، فأصبحت تدعوه الأسر اليهودية من أجل زواج بناتها، وبذلك أصبح من هذه الناحية من دون أن يشعر، منافساً للشيخ (الصادق بن خليل) في مهنة تزويج البنات العازبات. وبينما كان الناس يعيشون هكذا حياتهم اليومية، كل على مشربه وهواه، استمرت الطبيعة في عملها الفتاك حول المدينة، وبدأت معالم القفر تضفي على ريفها الطابع الصحراوي، واستمرت رقعة الغابة تتقلص وتتقهقر من الدائرة الخضراء التي كنت ألعب فيها مع أترابي في الصغر، حتى صار من يريد الفسحة بين أشجارها يمشي مسافة طويلة. وتغير أيضاً المنظر حول المدينة، بسبب الأبنية التي شيدت خارج السور،

مثل المدرسة التي شيدت عند باب قسنطينة سنة 1930، في نطاق عيد مئة السنة على الاحتلال ثم أصبحت مدرسة بنات. وتغيرت أيضاً في المنظر الاجتماعي داخل السور وخارجه بعض الأشياء، لقد زالت حلقة تلاوة القرآن التي كانت تعقد منذ أجيال في صحن (سيدي بن سعيد) بعد كل صلاة عصر، لقد وارى التراب، واحداً بعد الآخر، الوجوه التي عرفتها في طفولتي ضمن تلك الحلقة وطوى الزمان ما كان حولها من التقاليد. كان جيل المقرئين الذين يحفطون القرآن الكريم عن ظهر قلب، يأتي بعضهم من عشيرة (اللمامشة) وبعضهم من قبيلة أولاد (سيدي يحيى) وآخرون من أولاد (سيدي عبيد)؛ ويتوزعون لحفظ الذكر الحكيم على حلقة (سيدي بن سعيد) داخل السور، وحلقة (سيدي عبد الرحمن) خارجه، ويتوزعون على الأسر الموسرة التي ترتب لهم وجبات الطعام، ثم ينقلبون من حيث أتوا بعد سنوات التحصيل، وعدد منهم يبقى في المدينة ليتولى بعض الحرف مثل غسل الأموات وتكفينهم وتلاوة القرآن عليهم، أو تحفيظ الصبيان. وكانت الطائفتان من هؤلاء (الجوانية (¬1)) تلتقيان في مباراة (الكورة) في فصل الربيع، خارج السور من ناحية (المرج). ولقد تآمرت الطبيعة والأيام على تغيير معالم صفحة من الحياة طواها التاريخ. لم تبق في المدينة أي أسرة تستطيع أن ترتب لطالب (جواني) وجبات الطعام، لأن الحرائق الكبرى في الغابات حول تبسة قبل الحرب العالمية الأولى، تسببت في تغيير المناخ الذي تطور إلى جفاف أفقر- بسنين كسنيّ يوىسف- كل ¬

_ (¬1) لفظة محلية يكني بها أهالي تبسة والجنوب بالجزائر هؤلاء النازحين للمدن لحفظ القرآن.

العائلان التي تعيش من الفلاحة، ثم لم يعد التطور الذي ألغى العادة المألوفة إلى أن يعوضها بعادة جديدة. لا زال طلب العلم يحرك الهمم في العشائر المجاورة. ولكن الطلبة الذين يفدون منها يتوزعون الآن على طرفي الخط الإيديولوجي في المدينة: فمنهم من ينتسب إلى المدرسة الإصلاحية التي يشرف عليها الشيخ (العربي التبسي)، ومنهم من يذهب إلى مدرسة أخرى يشرف عليها من يدعي أنه محافظ على التقاليد، وتشرف عليها في الحقيقة الحكومة. أما الأفكار التي كنت أحاول نشرها فكانت في تعويض فلاحة القمح والشعير بفلاحات أخرى، مثل التين الشوكي وشجر الصبار التي تتمشى مع تغير المناخ، لكنني ما كنت أجد لها أذناً صاغية، غير أذن (حشيشي مختار) ربما لأنه- مع التزامه الإصلاحي- بقي واعياً لنوعية المشكلات في البلاد. وفي هذه الأثناء كنت أكاتب زوجي وتكاتبني، فأخبرتني ذات يوم بأنها تسلمت الجوازين المنتظرين: الحمد لله! .. ربما لا يفهمني اليوم من يسمعني أحمد الله، المحمود على كل حال، لأنني حصلت على جواز سفر، بينما الأمر لم يكن في تلك الفترة سهلاً ولا عادياً، لأن الاستعمار كان شديد الحرص على بضاعته البشرية في المستعمرات خاصة البضاعة المتعلمة. فتأكدت لدي فكرة السفر إلى الحجاز، فراراً من العيش في أرض استعمار أو في أرض مستعمرة، لأنني سئمت فيها الوجوه والآفاق. ولم يكن والدي في حالة أطلب منه الإرشاد، لأنه أصبح منذ وفاة والدتي أجنبياً عن أمور الدنيا لا يهتم بها ولا يديرها، بل أصبحت الأسرة كلها كسفينة تتلاعب بها الأمواج، لأنها فقدت في والدتي اليد التي كانت ماسكة بمقودها.

وبدأت أتعرف في المدينة على وجه جديد، كان الدكتر (خالدي) طالباً في نهاية المرحلة الثانوية، يقضي عطلة الصيف عند أهله قبل أن يلتحق بجامعة (تولوز). ويبدو أنما أحد أساتذته بثانوية عنابة، أثرّ عليه بتوجيهات يسارية، ربما كانت تمهد لتأسيس الحزب الشيوعي الجزائري الذي سيتم بعد سنة، بعد مؤتمر (فيلوربان) للحزب الشيوعي الفرنسي، فما كان من الغريب أن يصدر إذن من باريس مثل تلك التوجيهات. ولكن المجتمع الجزائري كان في تلك الحقبة يتمتع بحصانته، متيقظاً على واجباته في المجال الإيديولوجي، يدافع في تقاليده، فاتصل بي صديقي النجار (سي مكي محمد)، وحدثني بشأن (خالدي) أثناء فسحة ليلية في اتجاه وادي (الناقوس): - إن (خالدي) في ذمتنا يا سي (الصدّيق)، لا يجوز لنا أن نسلم مثقفاً إلى التيارات الفكرية التي لا تتفق مع فكرتنا ومع شخصيتنا ومع تاريخنا. فتقرر أن نضيف (خالدي) إلى قائمة الشبان الذي يجب إنقاذهم من التيه الفكري، ونظراً لتكوينه وحرصه على الاطلاع والمطالعات، رأيت أن يكون المنقذ (نيتشه). ومن الغد في لقاء اتفقنا أو تآمرنا عليه، قدمت خالدي نسخة من كتب الفيلسوف الألماني، أظنها نسخة من كتاب (هكذا تكلم زرادشت). ورجعت هكذا نعجة تائهة، ردها نيتشه إلى القطيع الإصلاحي الذي يرعاه الشيخ (العربي التبسي) في المدينة من مخزن سي (الصادق بو ذراع)، فقد كانت تُتَّخذ تحت إشرافه كل التدابير والتقارير التي تهم الناس، خاصة ليلة رمضان وليلة الإفطار، عندما يمسي الشيخ متعلقاً بالهاتف إلى ساعة متأخرة:

- آلو ... آلو ... قسنطينة ... هل رأى أحد الهلال ... آلو ... الجزائر ... هل ... بينما تقضي البنت المكلفة بالهاتف بمصلحة البريد مع زميلاتها الأوربيات، أوقات تسلية على حساب صفاء المكالمة وأعصاب الشيخ الذي يصرخ: - آلو ... آلو ... إنني لا أسمع شيئاً ... بينما ينتظر الناس أمام المخزن التقرير الذي يعلن الصوم أو الإفطار، فتطلق الحكومة من طرفها التعليمات التي يكون أثرها في الغد تقسيم الأمة إلى شطرين من مفطرين وصائمين. أشبعت تبسة كل رغباتي البسيطة بين مخزن سي (الصادق بو ذراع) ومقهى (باهي)، وفسحاتي الليلية إلى وادي (الناقوس)، أشبعتها إلى حد السآمة، ولم يبق لي فيها وطر. فودعت الأهل والأصدقاء. ... لم تكن الطائرة وسيلة النقل العادية بين الجزائر وفرنسا، فكان وصولي صباحاً إلى مرسيليا على متن باخرة يجعلني أقضي فيها النهار، وكان ذلك اليوم إجازة للمشكلات، لأن السفر يعلق التفكير فيها ويؤجله إلى حين، فقد كنت أشعر عندما أنتقل من مكان إلى آخر أنني حر ريثما أصل. كنت هكذا كلما وصلت إلى مرسيليا، أشعر أنني حر من المشكلات، حر من الذهاب في تقليبها يميناً ويساراً، حر من البحث عن حلولها عبثاً. كان ذلك اليوم يوماً سعيداً لأنه يخلصني مؤقتاً من مسؤولياتي، ويخلصني أيضاً من ذلك الحائط المعنوي الذي يفصل في الجزائر بين منطقتي وجود تنتهي على حدودها عادات وتقاليد الطرفين، فلا ينظر أحد من نافذته إلى الطرف الثاني إلا بالريبة والتشكيك، كما تنظر مدام (دوننسان) من دكانها إلى حياتنا العادية وغير العادية بمدينة تبسة.

لا يرى هنا ذلك الحائط، حيث يذوب الفرد في وجود عام، ولا رقيب على سلوكه إلا ضميره، ما عدا بعض الشوارع التي أعدّتها جهات معنية لتعيد فيها العامل الجزائري إلى (وسطه) كما تقول، يعني حيث يجد نفسه في جو مصطنع يملؤه الذباب المتكدس عل بدن معلقة عند أبواب المطابخ، خاصة إلى جانب مقاهٍ أكل عليها الدهر وشرب، ويتكدس على (حصرها) (¬1) الرثة لاعبو (الدومينو) (¬2)، ويتناثر على أرضها رماد (الوجق)، ليجد نفسه يعيش فعلاً وراء حائط يفصله عن العالم. ولكن ما عدا هذه الشوارع الملفقة تلفيقاً صريحاً من أجل إنكار ما تغير في الحياة الجزائرية منذ حقبة، فالجزائري العامل والمسافر الوافد على مرسيليا كان يجد نفسه، في حياة طليقة لا يفصلها إلى منطقتين حائط تبطنه من الناحيتين الشكوك والأحقاد، فيجد نفسه فرداً معتاداً في جمهور لا يفرض عليه تنفساً خاصاً. كنت إذن أعيش ذلك النهار متحرراً من كل المشكلات ومن كل المسؤوليات، من كل الاعتبارات التي ترزح بها حياة المرء العادية، حتى إنني إذا ما خطرت ببالي خاطرة تمتّ بصلة إلى الواقع، كنت أطردها عني في الحين، كما نطرد ذبابة تضايقنا. وكنت أسوغ هذا السلوك أمام ضميري، بكلمة يسمعها أحياناً من يكون ماشياً بجنبي على رصيف مرسيليا: - إنني سأنظر ذلك عند وصولي إلى (دروكس) .. لم نكن في الحقيقة في (دروكس) تلك الحقبة، ولكن في قرية صغيرة ¬

_ (¬1) الحصيرة اسم سجاد خاص للجلوس أو للنوم في الأكواخ يصنع من الحلفا. (¬2) لعبة فرنسية شاعت في الأوساط الشعبية الجزائرية.

قريبة منها اسمها (لوات كليري)، حيث تركتُ زوجي تقوم عل إصلاح بيت جديد اشترته (أمي مورناس) بعدما باعت دكانها بقرية (بروويه). وكان الفصل عند وصولي إلى (دروكس) تلك المرة، ومرات أخرى فصل إشراق التوديع، عندما تلبس الطبيعة حُلّة الخريف، في جو لا تفرط فيه أشعة الشمس ولا لذعات البرد الشتوي، فكنت إذا نزلت من قطار باريس في مثل هذا الفصل، أمشي على الأقدام المسافة الصغيرة بين المدينة والقرية، متمتعاً بكل ما تقدمه الطبيعة الخريفية على حافتي الطريق من زرابي خضراء مبثوثة، وطيور شادية في الغابة القريبة من الطريق، وحشرات دابة على حافته فيما سخرت له، بينما تحلق في السماء قطع سحاب لا تخلو منها، على عكس السماء الحادة التي تغطي قفر تبسة، الأمر الذي يزيد في شعوري بالارتياح عندما أنزل بمحطة القطار في (دروكس) متوجهاً إلى منزلي. وجدت زوجي هذه المرة، في نهاية إصلاحها للبيت الذي نقلت إليه (أمي مورناس)، وريثما أسلم على الجميع، وأمسح على رأس الهرة (لويزة) وهي تتثاءب وتمطط على أقدامها تحت يدي، قلت لزوجي: - أين الجوازات؟ - كأنك والله مسافر الآن، وكأن قطار مكة ينتظرك بمحطة (دروكس)، على مهلك حتى تشرب كأس قهوة وتستريح هنيهة بعد ليلة سفر متعبة .. كانت خديجة في مثل هذا الظرف صوت العقل المتزن، ولكنني أصبحت في الحالة النفسية التي يكون بها سجين وُعِد بمفتاح سجنه، ويريد أن يتأكد من إنجاز الوعد، ولا يفهم هذه الحالة من لم يعش تجربة، وخاصة من لم يعشها من أبناء المستعمرات، قبل أن يعلن ميثاق الأمم المتحدة بين حقوق الإنسان، حتى التنقل.

بينما كنت أعيشها كمأساة تخص كل أفراد أسرتي، خاصة والدي الذي ما زال بسببي يطلب دون جدوى الرجوع إلى وظيفة كلما شغر منصب، وكان مع ذلك حتى بعد وفاة والدتي يرسل إلي المبلغ الشهري الذي أعيش به بفرنسا .. وتخصني المأساة من باب أولى، وقد بدأت أتصور بعض خطوطها المتوقعة بعد دراستي، وكيف سأحاط بالإجحاف الذي أحاط بوالدي منذ سنين .. فكنت فعلاً في وضع السجين الذي ينتظر مفتاح السجن، فأخرجت خديجة الجوازين من درج خزانة أثاث الأكل وقدمتهما: - هاك، والله إنك مثل الطفل، لا ينام إلا ولعبته المفضلة في أحضانه .. فتسلمت الجوازين وتفحصتهما وذهبت إلى غرفة النوم، بينما بقيت زوجي في شغلها في الإصلاحات الأخيرة لبيت (أمي مورناس)، وتهيئة كل تفاصيل السفر، قد جهزت حتى الهرة (لويزة) بحقيبة تستطيع فيها التنفس، وجهزتنا بحقيبة منسوجة من خيوط الكافور للحفاظ على ملابسنا على عادة من يسافر من أوربا إلى البلاد الحارة المناخ. إن أوربا لم تستول فحسب على مستعمرات بل سنت قوانين لها، وكونت طبّاً صالحاً لمعالجة أمراضها وعلماً خاصاً بها في معاهد (العلوم الاستعمارية)، حيث يدرس من سيتوظف في الإدارة الاستعمارية، وخلقت بصورة عامة أسلوب حياة يطبعها الاستعمار في كل تفاصيلها، مثل قبعة المستعمر و (البنجالوف) (¬1) الذي يسكنه في إفريقيا أو آسيا، واخترعت حتى الحقيبة المنسوجة من مادة خاصة تستعملها زوج المستعمر لحفظ ملابس الأسرة من حشرات البلاد الحارة. وقد هيأت خديجة من ملابسها ما تحتاجه لفرش البيت، كأننا سنسكن (بنجالوف) عند وصولنا إلى الطائف، وعندما انتهت من هذا التجهيز ومن مهمتها نجاراً وبناء وبياضاً في بيت (أمي مورناس) قررت يوم السفر. ¬

_ (¬1) (البنجالوف) البيت الذي يسكنه موظف المستعمرات الانجلبزية خاصة.

وأتى اليوم الموعود فتوجهت وحدي إلى باريس صباحاً، من أجل تأشيرات الدخول إلى مصر، وعلى أن تلحق بي في قطار العشية في بيت (أنا كليتو سيريل)، وخرجت وفي محفظتي الجوازات والمبلغ الكافي لحجز المكان في أول باخرة تغادر مرسيليا في وجهتنا. - لا أدري هل هناك شيطان خاص بأبناء المستعمرات، يتتبع خطواتهم أينما يتوجهون، وعلى أية حال لم يخطر مثل هذا ببالي ذلك الصباح وأنا أودع (أمي مورناس)، وأدلي بالتوصيات الأخيرة لزوجي، وأخرج من بيتي معتقداً أنه يكفي جزائرياً يعيش في ظل الاستعمار، أن يكون في جيبه جواز السفر وما يكفيه من النقود ليسافر فعلاً كأي انسان. وإذ اتبعني فعلاً في ذلك الصباح الشيطان، فإنه كان لاشك يضحك مني ويتهيأ ليعيش على حسابي أكبر مهزلة لعبها في حياته اللعينة. وصلت إلى باريس فتوجهت في الحين نحو السفارة المصرية، وكان السفير يومئذ (فخري باشا)، وعندما وصلت إلى بابها ودخلت، شعرت أنني وضعت أقدامي على أرض وطني العربي أو الإسلامي أو الاثنين معاً. فاستقبلني أحد السعاة وطلب مني تحريراً وتوقيع الاستمارات المعدة لطلب التأشيرات، فسلمتها له مع الجوازات ثم دلني ساعٍ آخر على قاعة الانتظار، فوجدت أوربيين وخاصة أوربيات لم أكن أعرف بعد ما يجذبهن لزيارة أبي الهول ولا سبب هوايتهن لمناظر النيل، ولا البضاعة الخاصة التي يروجنها على ضفتيه، تلك البضاعة التي- كما سأعلم فيما بعد- لها رواج كبير في البلاد العربية خاصعة اليوم، بعد اكتشاف البترول والسيارات (المرسيدس). ومن حين لآخر يظهر وجه الساعي في مدخل القاعة، فينادي أحد المنتظرين ثم يرجع ينادي آخر، وربما يكون قد أتى بعدي، ولم يخامر ذهني أن أعلق أي تعليق على ذلك متكسكاً بثقتي في البشر وبالصبر الجميل.

ولكن القاعة بدأت تفرغ حولي، وإذا بالساعي يناديني، فتنفست الصعداء فدخلت مكتباً متسع الأرجاء عميق الأغوار. إن مركبي الأفلام يعرفون استغلال هذه الظاهرة، في بعض مقاطع تركيبهم عندما يضعون بين زائر يدخل مكتباً ومن يستقبله فيه أكبر بعد ممكن، حتى تزيد كل خطوة من خطوات الزائر في التفاعل بين الشخصيتين، وترتفع بقدر ذلك درجة التأثير المسرحي في المقطع، خاصة إذا كان الزائر يشعر، أو من يقوم بدوره يشعر، أنه يسير في تلك الخطوات إلى مصيره. كان يستقبلني يومئذ قنصل مصر بباريس، وعندها وصلت وجدت الجوازين أمامه على مكتبه: - أتريد أن تسافر إلى مصر؟ شعرت بخبث السؤال، لأن نظرتي في وجه القنصل لم تكن مريحة، فأجبت: - إنني، إن شاء الله، مسافر إلى الحجاز كما ذكرت ذلك في الاستمارات .. - إنك إذن تستطيع الحجز على باخرة تذهب مباشرة إلى جدة دون أي حاجة إلى تأشيرة إلى مصر. - نعم سيدي كان ذلك أجدى، ولكن شركة (كوك) للأسفار أخبرتني أن المواصلات المباشرة مفقودة بين مرسيليا وجدة، وأشار علي موظفها بأنني سأجد بميناء السويس الباخرة التي تنقلني إلى ميناء الحجاز، فتوسمت في الرجل طبيعة ساذجة تجعله يتنعم بألم الآخرين، ولا يتراجع عن شر قدّره أو أُمر بتنفيذه، حتى كان من العبث أن يحاول المرء إيقاظ ضميره. فارتجت الأرض تحت أقدامي، فحوقلت، ورجعت وأخذت الجوازات

وخرجت، ونفسي تردد الترجيع في خطوة، وفي أخرى ((إن الرجل صنيعة))، لأن الجانب الشيطاني قد اتضح في الأمر: إن الاستعمار يستطيع أن يتمسك في بعض الحالات بمظاهر المشروعية، لأن خونة من بين العرب ومن بين المسلمين يتولون الأمر، للقيام بالدور الذي لا تسمح له به كبرياؤه في تلك الحالات. وستأتي عشرات الأعوام لتأكيد هذه الحقيقة المؤلمة بين الحقائق التي كشفتها لي الأيام. فخرجت من مكتب القنصل، وعندما صرت على الرصيف التفتّ ورائي لأقرأ على باب السفارة هذه اللافتة: سفارة المملكة المصرية ... يا لها من خدعة! .. انخدعت بها أيام كنت مع (فريد زين الدين) عضواً بالجمعية (السرية) التي تعمل من أجل (الوحدة العربية)، وبقيت أشعر بوخز الخدعة في نفسي ذلك اليوم كأنها من سخرية شيطان مُسَخَّر للعبث بأغلى ما تكنّه النفوس وتنطوي عليه الضمائر، خاصة أن الصدفة جعلتني ألتقي بالحي اللاتيني قبل بضعة أيام، بشاب يهودي نازح من أوربا الشرقية، تخرج من مدرستي واستقر منذ سنة مهندساً بمصر بتأشيرة قنصلها. يا لها من خدعة!. جعلتني أمشي على الرصيف كالثمل، بينما أفكاري السياسية تدور في عقلي كأنها اعترتها نوبة دوار. ولكن عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ... وكأنما الصدمة تسدل الستار على برنامج طالما فكرت في كل تفاصيله، وتزيحه عن أمر جديد أو مجدد في ذهني: - نعم، إذن ما عليَّ إلا أن أتم سنتي الأخيرة في المدرسة ... فتوجهت نحو البريد لأبرق لزوجي بأن تحضّر نفسها، وأنا أردد هذه الفكرة

كمرثية أرثي بها المشروع الذي قضى نحبه في السفارة المصرية، دون أن أتصور أن مشاريع أخرى ستلقى كذلك حتفها في ظروف مماثلة عبر الطريق. وساقتني خطواتي في حالة لاشعور إلى الحي اللاتيني، ربما لأني كانت في حاجة لإفشاء المصاب، ولمشاطرة المصيبة مع (حمودة بن الساعي وصالح). فقضيت معهما النهار بين الشكوى والتعليل، وأردنا في المساء أن نتناول قهوة في (كابولاد) مقهى الطلاب. وإذا بنا- ونحن متجهون إلى القاعة الخلفية- نجد في القاعة الأمامية حيث يجلس من تهمه التسلية، (مصالي حاج) مع بعض رفاقه من بينهم (إمعاش) و (سي الجيلالي) و (عبد الله) البقال المتنقل الذي انعقد في بيته قبل أربع سنوات، أول اجتماع حضرته من أجل دخول أو عودة (منظمة نجم شمال إفريقيا) للمسرح السياسي. فناداني الزعيم، حين رآني: - ياصديق! .. أنت لم تسافر للحجاز؟ - لا والله إن طريق مكة مقطوع! .. لا أدري كيف علق الزعيم على جوابي، ولكن جوابي يذكرني اليوم، بعد ثلث قرن، بكلمة رئيس الحكومة الفرنسية حينما قال أثناء الحرب العالمية الثانية: - إن طريق الحديد مقطوع! .. وكان يعني طريق الحديد النرويجي على ألمانيا. ومن الغد عدت إلى (لوات كليري) لأقول لزوجي أن تتهيأ لعودتنا إلى باريس لقضاء سنتي الأخيرة بالمدرسة.

عودتني خديجة وتعودت، ألا تتعجب من تقلبات الطريق منذ بدأت تسلكه معي، فقضينا الأيام التي تبقت قبل افتتاح المدرسة، في هذه الناحية الجميلة جداً على الضفة الشمالية لنهر (الأور)، قضيت أوقاتي أتفسح بين الغابات الصغيرة التي تحف القرية بمنطقة هادئة، يجد المرء نفسه على مساربها الخضراء مرتاحاً من متاعب الدنيا. ولعل اغتيال (أليكساندر) ملك يوغسلافيا، و (برتو) رئيس الجمهورية الفرنسية الذي كان في استقبال ضيفه بميناء مرسيليا، لعل هذا الحدث وقع في هذه الأثناء، غير أنني أتذكر بالضبط سؤال (أمي مورناس) عند رجوعي من إحدى هذه الجولات الريفية: - يا صديق، هل تعتقد أنه سيكون حرب بعد هذا الاغتيال؟ لا أدري ما كان جوابي، ولكنني تصورت من خلال سؤال (أمي) أنها من الجيل الذي شاهد اندلاع الحرب العالمية الأولى، على أثر اغتيال أرشدوق النمسة بقرية (سراييفو) من قرى البوسنة والهرسك بيوغوسلافيا الحالية. ثم انصرف اهتمامي واهتمام زوجي إلى قضية السكن بباريس، فاستأجرت على مقربة من مدرستي، غرفة عارية في الدور الأخير بعمارة لم يكن في مثلها تأجير هذه الغرف مستعملاً لأنها تابعة للشقق، ومعدة من أجل خدم أصحابها. وعلى الفور انتقلنا إليها، وبدأت زوجي مهمتها بوصفها مهندس تجميل، ونجاراً، وغرّاساً، فألبست الغرفة المتروكة تحت سقف عمارة ذات ستة أدوار، لباساً من الذوق والجمال جعلها تحفة تفاجئ الزائر عندما يكتشفها تحت هذا السقف. ومما زاد في سعادتنا أننا وجدنا ما يشبه جهاز تدفئة داخلي، لأن في هذا

الدور الأخير مداخن هذا الحناح من العمارة تجتمع كلها في هذا الدور داخل حائط غرفتنا، التي أصبحت تتمتع هكذا بتدفئة كافية دون أي تكليف. فوجدت هرتنا (لويزة) في هذا الجو كل ما يناسبها هرة سعيدة، ووجدت الوسط الذي أستطيع فيه العمل إلى ساعات متأخرة ليلاً وبدأت السنة. واستأنفت حلقات التدارس مع (حمودة بن الساعي) فكان يأتي صديقي كل مساء جمعة وحده أو مع أخيه (صالح)، لتناول الطعام معنا، وقد نوّعته زوجي بشيء جديد هو رأس الخروف، ولأن الباريسيين لا يحسنون طهيه الخاص فقد جعلوه في السوق يباع بأبخس الأثمان، فتفضله خديجة لهذا السبب أو لأنها أصبحت ماهرة في طهيه منذ أقامت بالجزائر، وحالما تبعد زوجي أواني الأكل تصبح الغرفة وكأنها أعدت للعمل الفكري فقط، فيخرج صديقي قصاصات جرائد خاصة بأمور تهم، أو قصاصات ورق مكتوبة بخط ناعم لا يقرؤه إلا هو، وتبدأ مداولات تلك الحلقة. ولم أكن أتصور إلى أي حد كانت هذه المداولات، وأحاديثي مع كل من يزورني على العموم تهم غيرنا، أعني السلطات العليا القائمة برعاية الطلبة الجزائريين بباريس. وستكشف لي هذا الاهتمام ملاحظتان، لاحظتهما زوجي في مدة وجيزة بعدما سكنا غرفتنا، فقد كنا بحكم الظروف نتناول ماءنا مع سكان الدور من حنفية واحدة، ونستعمل مرحاضاً واحداً مشتركاً ملاصقاً لغرفتنا بالذات. فلاحظت زوجي أن امرأة عجوزاً من سكان هذه الدور، تأتي إلى المرحاض، كلما حضر إلينا صديقي (حمودة بن الساعي) أو غيره من الزوار، فنشأ عندها تساؤل عن سبب تردد العجوز على المرحاض في المناسبات نفسها، وقامت بتحقيق سريع عن طبيعة المكان من الناحية السماعية، فتأكدت من أمر

هو أن المكان عندما تغلق نافذته الصغيرة يصبح صندوق صدى تدوي فيه حتى قطرة الندى، ويستطيع المرء أن يتتبع كل ما يقال في غرفتنا، فقررت أن تفتح تلك النافذة كلما أتانا زائر، فتأكدت هكذا من الأمر الثاني، وهو أن العجوز استمرت في مهمتها، فتأتي إلى المرحاض وتفتح النافذة التي أغلقتها زوجي، ثم تنساها مفتوحة عند ذهاب زائرنا. إذن لم يبق مجال للشك أن المكان كان مرصداً لا يخلو من أهمية، إذا عقدنا الصلة بين الزيارات الخاصة التي تحظى بها تلك العجوز من طرف شخصيات دينية تتردد على غرفتها البسيطة، وبين ما كان يدور في الجو العام في تلك الفترة، لقد أصبح أسقف باريس يحرك الرأي العام تجاه المسلمين متهماً إياهم بالتواطؤ مع النازية، بحكم منطق استعماري يتهم الإسلام بالتعكير كلما تعكر الجو الدولي بسبب قضية أو أخرى. لم يكن الأمر غريباً عن هذا المنطق تجاهي، بسبب السوابق وما تمليه الظروف الجديدة. واستمرت عجلة الأيام تدور كعادتها، وجاء عيد الميلاد واحتفل الناس برأس السنة كالأعوام الأخرى. وعبر فرانكو نهر (الروبيكون (¬1)) أعني مضيق جبل طارق على رأس الطابور الريفي، وأسدل الستار على مأساة الحبشة، وارتاح الضمير الأوربي من صرخات (النجاشي)، ولم يبق على وجه الخريطة شبر أرض غير ملون بأحد ألوان السيطرة الأوربية. واحتارت الباريسيات القائمات بشؤون منزلهن في أمر رئيس الحكومة (لافال)، هل يباركن في حياته مثل زوجي بسبب سياسته الاقتصادية التي أرخصت المعيشة، حتى أصبحت تشتري زجاجة ¬

_ (¬1) هو النهر الذي لا يعبره القائد الروماني العائد من انتصاراته، حتى يأذن له مجلس الشيوخ بالدخول إلى روما، فعبره يوليوس قيصر قبل الميلاد وقام بالانقلاب الذي أسس الإمبراطورية.

الزيت بثلاثة فرنكات، أم يلعنّه بسبب مساندته للاستعمار الإيطالي؟ في ذلك الجو الذي بدأت تجتمع فيه القوى السياسية التي ستكون (الجبهة الشعبية). لا أدري في أية منزلة من منازل صعوده كان نجم هتلر في تلك الفترة، غير أن العالم أصبح صندوق صدى لهتافات الجماهير الألمانية له، وأصبح كل من يقرأ صحيفة الصباح يردد في حديثه كلمات (ويلهيلمشتراسه).- وزارة الخارجية- وحروف (د. ن. ب) عنوان شركة الأنباء التي أذاعت أمواجها بلاغات (غوبلز) عن حريق (الريشتاخ)، وعن إلغاء معاهدة فرساي بالنسبة إلى تسليح ألمانيا، وعلى كل حدث هام من السلسلة التي ستقود العالم إلى الحرب العالمية الثانية. بينما كانت فرنسا تتأهب للانتخابات العامة التي سيكون لها أثر كبير في الاتجاه السياسي بالجزائر، بعد ظهور (الجبهة الشعبية) في مظاهراتها الصاخبة بميدان (البستيل) يوم 14 تموز (يوليو) 1936؛ لقد استطاعت بعدها الحركة (المصالية) أن تعبر البحر الأبيض المتوسط، من الشاطئ الشمالي إلى الشاطئ الجزائري، لأن زعيمها (مصالي حاج) أسهم في تلك المظاهرة الفرنسية. وهكذا بدأت الجزائر تدخل في عهد جديد. وكان الحي اللاتيني بمثابة صدى العالم، يردد لنا أصداء كل هذه التغيرات التي كان لها أثر خاص على أعصاب (علي بن أحمد)، بينما يفرق البوليس الملاكمات التي تنشأ على الرصيف، بين الطلبة اليساريين المنتمين لـ (الجبهة الشعبية)، والطلبة اليمينيين المنادين بسقوطها على الرصيف الآخر. وفي هذه الأثناء وصل إلى باريس وفد من علماء الأزهر من أجل تحضير شهادة الدكتوراه تحت إشراف أساتذة الصربون، ومعهم بعثة من طلاب جامعة القاهرة لتحضير شهادات أخرى، وأتيح لي ولحمودة بن الساعي أن نتعرف على

هؤلاء الطلبة وأولئك العلماء- ومن بينهم الشيخ (التاج) والشيخ (دراز) رحمه الله- بمقهى الهجار، كما أتيح لي ولصديقي أن نساعد هؤلاء الوافدين في خطواتهم الأولى في اللغة الفرنسية، وأخذت منهم في الوقت نفسه ما يفيدني من معلومات عن الحياة في الشرق، حتى بالنسبة لشروط الانتساب إلى المعاهد الأزهرية، لأنني لم ألق البتة بفكرة الهجرة إلى الشرق عرض الحائط، فبقيت تخامرني فترة بوصفي مهندساً ينشئ هناك إحدى الصناعات، وأخرى طالباً أزهرياً يبحث في مناهج التفسير. وافتتح كعادته في شهر أيار (معرض باريس) وفيه يعرض أصحاب المصانع الصغرى، كل ما ابتكروه تلك السنة من الأدوات المنزلية إلى أجهزة الراديو، وكنت في تلك الفترة مهتماً بشمعة توليع محرك البنزين، يهمني تعويض الشمعة التي تؤدي خدمتها شهرين أو ثلاثة، بشمعة تدوم دوام حياة المحرك. وأعتقد، بعد ثلاثين سنة، أن المسألة لا زالت تستحق الاهتمام، غير أنني تركتها في الطريق الذي نشرت على حافته كثيراً من الأحلام. وكانت الصحافة الوطنية تعدنا كل أسبوع بحصتنا من الفرح والابتهاج، أو من السخط والاستنكار، حسب عنوان المقال أو اسم الجريدة. فتصل هكذا أنباء الوطن كتموجات صغيرة تموت على رصيف الحي اللاتيني. وإذا بموجة عارمة تكاد، ذات يوم، تلقي (علي بن أحمد) على قفاه فوق الرصيف، فصرخ: - يا للخيانة! .. يا للخونة! .. بينما يلتفت إليه المارة الفرنسيون متسائلين، عن الخائن الذي يشير هذا الرجل إليه، وهو يلوح بجريدة في يده فوق الرصيف، فأتى (حمودة بن الساعي) ليخبرني بالأمر، فبادرني: - إنها النجاسة! .. إنها النجاسة! ...

ويده تلوح بجريدة (اتحادية النواب)، فاطلعت على المقال المتهم؛ قطعاً لم تهزني بعد قضية دار (البا) قبل خمس سنوات، صدمة مثل التي هزتني ذلك اليوم، منذ قرأت عنوان المقال (أنا فرنسا) ورأيت اسم صاحبه (فرحات عباس). ولا شك أن الصدمة كانت كبيرة في الوطن، حسب الأنباء التي تواردت علينا، فرد الشيخ (عبد الحميد بن باديس) على (الزعيم) في مجلة (الشهاب)، رداً لم يسكن ثورة (علي بن أحمد)، ولم يشبع انتظارنا، فاتفق الرأي أثناء ندوة خاطفة انعقدت ببيتي، على أن أحرر باللغة الفرنسية رداً في جريدة الأمين العمودي (الدفاع). ولأول مرة في حياتي، واجهت عملية توليد الفعل في مقالة اخترت لها عنواناً (مثقفون أم مُثيقِفون؟) نحت فيه المفردة الثانية، في لحظة سانحة، حربةً أرشقها بكل جهدي في كبرياء وبلادة (الزعيم) معاً، لأنني كنت على وعي تام، مع (حمودة بن الساعي) بالمهزلة التي بدأت في الجزائر، ومن الاختلاس الكبير الذي بدأت خيوطه تظهر على مسرحنا السياسي منذ ظهرت عليه (اتحادية النواب)، كما كنت أدرك أن الصراع لم يكن صراع أفكار، وإنما صراع مصالح تشرف عليه السلطات العليا، متظاهرة بمقاومته أحياناً، عندما تعلن غضبها على هذا (العدو لفرنسا) أو ذاك، حتى يرى الشعب المغرور في تلك (العداوات) بطولات توجب عليه السمع والطاعة لأصحابها. كانت هذه حالتي النفسية أثناء تحرير المقال، عندما انتهيت منه في الليلة نفسها، وأيقظت زوجي لأقرأه عليها، قالت: - لا أعتقد أنه من تحريرك، بل أراه من وحي السماء. فعلاً لا زلت أتذكر إلى اليوم، أنني صببت في سطوره الجحيم الذي كان بين

جنبيّ، فأخذ منه (حمودة) نسخة نسخها بيده، ليقرأها على الطلبة بالحي اللاتيني، خاصة منهم الذين على مشرب (فرحات عباس)، ثم أرسلت نسخة إلى (الأمين العمودي) للنشر في جريدته. وأصبحنا ننتظر أعدادها، فوصل منها الأول والثالث دون أن تنشر المقالة. كأنني رشقت حربتي في الضباب. لماذا لم ينشر (الأمين العمودي) مقالي؟ تركت الجواب على هذا السؤال للأيام، بينما بدأت السنة الدراسية تأخذ منعطف الامتحانات، ولم يبق لي أي مجال للحديث مع (حمودة بن الساعي)، ولا لزيارة الهجار مساء السبت. ربما كنا في أواخر شهر أيار (مايو)، وكانت زوجي توقظني في الصباح بعد أن تهيئ القهوة، لأنني أواصل العمل في الليل إلى ساعات متأخرات. ولكنني استيقظت وحدي ذلك اليوم مبكراً، بينما لم تكن أشعة النهار بدأت تضيء الغرفة إلا قليلاً من نافذتها المستديرة أو (عين البقرة) كما يقولون، المشرفة على فناء العمارة؛ إذ من المعلوم أن أول من يستيقظ بباريس عصافيرها، المعشعشة على حافة أسقفها تحت مجاري الأمطار وتكون أعشاشها بعد تناسل الربيع ممتلئة بالسكان، خاصة في هذا الركن الهادئ فقد بقيت الشوارع محافظة على طابع عتيق، وبقيت الحياة تجري على نسق يطيب للمتجول الباحث عن السكون والعزلة. إن عصفور باريس هو ديكها الذي يعلن بزوغ الفجر على سطحها، فعندما فتحت عينيّ سمعت ذلك العيد اليومي، تدخل وشوشته إلى الغرفة من النافذة مع أشعة النهار الضئيلة .. وها هي ذي الهرة (لويزة) ترفع جانباً من الغطاء ويظهر رأسها على الوسادة بيني وبين زوجي، ثم شرعت بكل تأن ودقة في قرقرتها.

تتبعت هذه الحركات تلقائياً بينما كان يعود الشعور إليّ رويداً رويداً، لقد كنت في تلك اللحظة الحاسمة التي سأنطلق منها قريباً بوصفي مهندساً حصّل تحصيلاً جيداً، وقد اكتشف قيمته منذ أيام قليلة ... فشعرت أنني سأتبع طريقاً تحفه الزهور والانتصارات، والشهرة، وإذا بشيء يصعد من أعماقي، دون أن أحدد بالضبط في تلك اللحظة معناه، فانفجر الدمع في مقلتيّ حتى اختنقت به، وأنا أردد: - لا يا ربي! .. لا يا ربي! .. لا أريد حصتي في هذه الدنيا ... كانت زوجي تردد النفس بجنبي بكل هدوء، بينما الهرة (لويزة) تنطلق، بعد قرقرتها، نحو الصفحة المعدة لها لتتناول وجبتها الأولى من الطعام. هذه الواقعة تحت سطح من أسطح باريس، هي اليوم ورائي بأكثر من ثلاثين سنة، لم أسر خلالها على طريق تحفه الزهور، بل في أحد مسارب الحياة زرعته الأقدار بكل نوع من الشوك، وكم طرأ علي في هذه الحقبة من لحظات شعرت فيها بثقل المحنة ثقلاً جعل الدمع يخنقني، وأنا أتضرع: - يا ربي! .. رحماك! .. لا تؤاخذني بكلمتي بالحرف!. لقد استيقظت خديجة وحضرت القهوة كعادتها، وكان يوم كالأيام الأخرى عملت فيه عملي كعادتي ... وبدأ الناس يتحدثون في العالم عن زواج الميس (سيمبسون) بولي عهد المملكة المتحدة البريطانية (البرنس دوغالس)، وأثار هذا النبأ في إنجلترا موجة من الاستنكار بلغت أوجها عندما تدخل أسقف (كنتربوري) للدفاع عن حقوق العرش، ولصيانة التقليد الملكي الذي يقضي ألا يتزوج ملك إنجلترة بامرأة مطلقة. وصمم الأسقف على موقفه حتى تنازل البرنس عن حقوقه في العرش ليتم

زواجه، فأثار هذا الحدث، بسبب المكان الذي احتله في الصحافة والرأي العام، غضب جمهور من المثقفين الفرنسيين الذين يرون مثل هذا الاهتمام عبثاً، في الوقت الذي بدأت تصل فيه إلى فرنسا أفواج اللاجئين الإسبان، عندما انتصر نهائياً (فرانكو). وبدأت أنا أفكر فيها بعد دراستي، متوقعاً الصعوبات التي سأجدها، حتى في التمرين الضروري الذي يختم دراسة المهندس: - لماذا لا أتمرن بإيطاليا في صناعة أدوات التنوير؟ خطرت هذه الفكرة في بالي لما كنت أعلم من تعارض شديد بين الإمبريالية الفاشية المتمثلة في شخص (موسوليني)، وبين الإمبريالية الفرنسية، لعل هذا التعارض بين مطامح إيطاليا في إفريقيا الشمالية والمصالح الاستعمارية الفرنسية يتيح لي الفرصة لتقديم مطلبي للسفارة الإيطالية بباريس، ثم لأن صناعة أدوات التنوير في مستوى الإمكانيات حتى في بلد مستعمر مثل الجزائر. فحررت طلبي وسلمته خديجة نفسها للسفارة، وأتت فترة الامتحانات، وربما أتاني جواب السفارة في تلك الفترة فخفق قلبي سروراً عندما وجدت الظرف وعليه شعار أسرة (سافوا) (¬1)، وإذا بالظرف لا يحتوي على شيء سوى كلمات أدبية، لا تقول ((لا)) بوضوح، ولا ((نعم))، وهي بالتالي ((لا)) غير صريحة. فأدركت أن الاستعمار الإيطالي هو الآخر، له اختياراته فيما تسميه الإدارة الجزائرية (الشؤون الإسلامية)، فرأيته يفضل مثل زميله الاستعمار الفرنسي التعامل مع (زعيم) مستعد لتعديل وتره على نغمة الموسيقا (الموسولينية)، يفضل ذلك على التفاهم مع مثقف يسعى من أجل تثبيت بعض الأفكار التكنية والاجتماعية على أرض بلاده، فلا يستطيع بسبب ذلك أن ينقر على وتره نغمات ¬

_ (¬1) هي الأسرة المالكة بإيطاليا في تلك الحقبة.

(الدوتشي)، ولا أية نغمة أخرى غير التي يعرفها التاريخ في أعماق الروح لدى أي كبير أو صغير من بلاده. ويجب أن نقول الحقيقة للتاريخ: إن الوطن لم يكن يبحث عن أفكار تكنية؛ وربما كنت الجزائري الوحيد الذي لا ينام من أجلها، وربما كانت الجزائر حينئذ في منعطف سيبعدها حتى عن الأفكار التي ولدت على أرضها، فتراها في تلك الفترة بالذات تولي ظهرها للأفكار الإصلاحية حتى في تلك اللحظة التي يتوجها المؤتمر الجزائري الإسلامي. انعقد فعلاً هذا المؤتمر. ووصل نبأ كان كصاعقة دوّى بها الحي اللاتيني، ولست أتذكر بالضبط ما كان صداه على أعصاب (علي بن أحمد)، ولا أتذكر بالحرف العبارات التي تلقيت بها النبأ، ولكنني أتذكر الهزة الوجدانية التي كانت تهزني، وأنا أنقله لزوجي على مائدة الطعام. قد كنا متفقين على أن المؤتمر أكبر انتصار حققه الشعب الجزائري على نفسه أولاً ثم على كل القوى التي تسعى لإبقائه في الوحل. إنه من الصعب أن نعبّر عما يختلج في نفس الآخرين في ظرف يهزنا هزاً، وإنما كنت واثقاً من أن الظرف رج الأستعمار رجّاً، وأنه دق في معسكره ساعة خطيرة. ولكن كان يجب على معسكرنا أن يعرف كيف يحافظ على انتصار دفع ثمنه الغالي، ذلك الثمن الذي كانت (أثينة) تعرف وتقدر قيمته، القيمة التي توحي لـ (فيدياس) ذلك التمثال الرمزي الذي أضافه إلى بناء معبد (الأكروبول)، والذي يسمى (الانتصار فاقد الجناحين): الانتصار الذي لا يطير من المعسكر الأثيني.

ولكن الجزائر التي كانت تستطيع كسب انتصار كبير على الاستعمار بثمن غالٍ، لم تكن بعد تجيد الحفاظ عليه، إذ أنها عوضاً عن أن تبقي المعركة على الأرض التي تحقق عليها نصرها، تنقلها وتورطها على أرض الخصم. ربما زارني (حمودة بن الساعي) وأخوه (صالح) ليخبراني بوصول وفد جزائري على رأسه رئيس (اتحادية النواب) وفرقة من أعضائها مثل (فرحات عباس)، ومعهم كل هيئة أركان حزب الإصلاح، من الشيخ (بن باديس) إلى الشيخ (العقبي). وفي هذه الأثناء انتهت فترة الامتحانات، ورجعت زوجي إلى بيت (أمي مورناس) التي عزّلت (¬1) مرة أخرى على عادتها، بعد أن باعت بطريقة مربحة بيتها بـ (لوات كليري)، واشترت بمدينة (دروكس) بيتاً يشرف على النهر الصغير الذي يمر تحت الجسر أمام مصنع الغاز. فاصطحبتُ زوجي، ريثما أساعدها في نقل أثاثنا من باريس، ثم رجعت وحدي لأنه كان لي مستقر مع حمودة وصالح بغرفتهما، وقررنا زيارة الوفد الجزائري الذي نزل بـ (جراند هوتيل). صاحبنا (علي بن أحمد) وطالب في الطب، كنت أحبه لصلتي بوالده الشيخ (صالح بن العابد)، وعندما وصل وفدنا إلى الفندق وجدنا الشيخ (عبد الرحمن اليعلاوي) كأنه كان ينتظرنا عند الباب فسألناه: - هل الوفد هنا؟ - لا، إنه خرج في مهمة. فالتفت (علي بن أحمد) إلينا كأنه غير واثق من صحة الجواب: ¬

_ (¬1) عزّلت: انتقلت من بيت إلى بيت باللهجة المصرية.

- علينا بالدخول على أية حال. فانهزم الشيخ (اليعلاوي) كأنه متأثر من موقفنا. وإذا بـ (الأمين العمودي)، وقد كان ضمن الوفد الجزائري، على عتبة الباب، وكان لي معه حساباً فانصرف بالنا عن الشيخ (اليعلاوي) فقلت: - هيه ياسي العمودي ... إنك لم تنشر مقالي عن (المثيقفين)؟ - نعم إنني لم أنشره عن رويّة حتى لا أحطم مستقبل (فرحات عباس) في الحلبة السياسية. إن ثلث قرن قد مر على ذلك الحين، وقد تصفحت أكثر من مرة ذكريات ذلك العهد، ورأيت عن كثب النتائج السلبية لهذا التفكير الذي واجهني به ذلك اليوم على عتبة (جراند هوتيل) وعن حسن نية مدير جريدة (الدفاع)، إنه لم يتصور مسؤوليته في عدم نشر مقالي إلا في مستوى من ليس له أي خبرة في مجال الصراع الفكري، إذ أنه لم ير أن مقالي قد وصل على أية حال إلى علم الاستعمار وأفاده في زيادة خبرته في شؤوننا، دون أن يؤدي أي دور في توعية الشعب الجزائري، وما كانت نتيجته بالتالي إلا وبالاً على صاحبه، دون أي فائدة للوطن. لقد رشقت فعلاً حربتي في الضباب. وعلى أية حال فقد وجدنا يومئذ الوفد الجزائري موزعاً في بناء الفندق؛ حلقة الشيخ (بن باديس) من المعمَّمين من ناحية، وحلقة المطربشين من ناحية أخرى، فتوجهنا إلى الأولى فقد كان حول الشيخ زملاؤه من جمعية العلماء، مثل الشيخ (الإبراهيمي) والشيخ (العقبي)، وبجنبه المحامي (سي بلقاضي) المنتمي إلى الإصلاح على الرغم من صلته المهنية بالحلقة الأخرى. وبعد السلام والتحيات شرعت في مرافعة شديدة. - يا أصحاب الفضيلة، ماذا أتيتم تفعلون؟ ولماذا في هذا الفندق المترف

تنزلون؟ أترون حولكم من أحبار اليهود وقساوسة المسيحية؟. وهل؟. وهل؟ .. كان كل سؤال موجهاً للشيخ (بن باديس) خاصة، فكان الأستاذ (بلقاضي) هو الذي يرد عنه بجدارة المحامي المتمرن على أسلوب الدفاع. لم أكن في الحقيقة مدركاً لجوهر الموقف تمام الإدراك، وعندما أدركت بعد مرور السنوات، فهمت أن مفهوم الإصلاح لا يعني شيئاً واحداً في عقل تمرن في المنطق (الكارتزياني)، وفي عقل كونه علم الكلام. فلما رجعت إلى (دروكس) تلقتني زوجي: - يا صدّيق إنني سأخبرك بشيء لا يسرك ... لاشك أن الإصبع الذي يضغط على زر آلة الكترونية، يحدث في كل أجهزتها حركات دقيقة، كذلك حرّكت كلمات (خديجة) في عقلي تياراً من الاحتمالات المشؤومة، بينما أتلقى من يدها ورقة بعنوان مدرستي. إنه مر على ذلك الحين أكثر من ثلاثين سنة، ولكنني ما زلت أتذكر ما قرأت في الخطاب كأنني أقرأه اليوم: (( ... إن سكرتارية المدرسة الخاصة للمكانيك والكهرباء، تخطركم بأنكم لم تستوفوا شروط الامتحان في بعض المواد ... )) قرأت هذا، ولا أدري إذا كان المحتوى قد هالني في رجاء خاب بطريقة غير متوقعة، أم مسّني أكثر بمعناه الأخلاقي؟ .. كنت أقدس العلم لأنني أؤمن بقيمته الأخلاقية، وكانت تلك القيمة مشخصة في نظري، في المدير (سودرية)، فقد كان تقديسي العلم ينعكس على شخصه، فانهار في لحظة إيماني بالعلم والعلماء ذلك اليوم. ولكن الأحداث التي توالت في تلك الفترة كانت على نحو جعل كل فاجعة

منها تغطي على الفاجعة السابقة، وكان الضرر الذي يأتي اليوم يضمد بقساوته الضرر الذي شعرنا به الأمس. وإذا بالصحافة تنقل نبأ مقتل مفتي الجزائر الشيخ (بن كحول) وتعزوه إلى (جمعية العلماء)، وإذا بالصحافة تنقل في الأسبوع نفسه، أن زعيم حركة (اتحادية النواب) الذي كان على رأس الوفد الجزائري، عاد إلى فرنسا في زيارة خاطفة، وأنه عند نزوله من الباخرة بميناء مرسيليا، قد استنطقته الصحافة: - ما هي علاقتكم بجمعية العلماء؟ ففهم الزعيم بالضبط معنى السؤال الخبيث في ذلك الجو، فما زالت جثة مفتي الجزائر تستقطب كل الأحاديث السياسية، فقال رداً على السؤال: - لا علاقة لنا مع من أيدهم مخضبة بالدم! .. لم تكن هذه الكلمات طعنة من الخلف موجهة ضد الحركة الإصلاحية، ولكن الظرف كان يضفي عليها معنى الطعنة في صدر المؤتمر بالذات، الطعنة التي ألقته فعلاً قتيلاً في مهده، بعد شهر فقط من ولادته، وتبخرت في لحظة تلك الوحدة المقدسة التي ضمت في صف واحد كل القوى الشعبية، بعد ربع قرن من سير حثيث موفق نحوها. والآن بعد ثلث قرن لم يتغير حكمي في القضية: إن الظروف السانحة وضعت العلماء أمناء على مصلحة الشعب، فسلموا الأمانة لغيرهم لأنهم لم يكونوا في مستواها العقلي، وسلموها لمن يضعها تحت أقدامه لتكون سلماً يصعد عليه للمناصب السياسية. ولا مجال هنا لبحث القضية في جوهرها الحضاري، لفحص الأسباب التي جعلت العلماء أي الطائفة المتكونة من بوتقة ما نسميه (الثقافة التقليدية) لا يستطيعون القيام بالمهام الكبرى.

لم يكن الفصل مريحاً ولم يأت بتسلية. إن إيطاليا الفاشية لم تعطني فرصة، و (سودرية) ومدرسة الميكانيك والكهرباء خيبا رجائي، والأمين العمودي لم ينشر مقالي في صحيفته، والمؤتمر الجزائري تبخر، وخاب ظني في الإصلاح والعلماء المصلحين، وأصحت أتساءل: - ماذا أفعل؟ بدأ هذا السؤال الذي طالما تردد في نفسي بعد خروجي من مدرسة قسنطينة، يتردد على ذهني من جديد دون جواب. وبدأت أشتم في نفسي رائحة الغرق: - ماذا أفعل؟ لعلي أكرر تجربتي مع السفارة المصرية الآن وقد أصبح لي أصدقاء من بين العلماء الأزهريين الوافدين على (الصربون). توجهت ذات صباح إلى سفارة فاروق الذي خلف فؤاد، فكانت الصدمة أقسى من أختها، لأنني كنت هذه المرة معززاً بتوصيات أصدقائي الأزهريين. لم يكن في استطاعتي في تلك الظروف أن أتراجع، وربما يجدر القول هنا إن الأقدار كانت مني على الدوام في موقف لا ألين معه إذا قسا الظرف، وأقسو إذا لان: فوردت ببالي فكرة أخرى في دائرة أفكاري العادية في الهجرة: - لو أهاجر إلى الأفغان؟ وتوجهت في الغد إلى السفارة، فوجدت من طرف السفير كل الكياسة المنتظرة من ممثل بلاد جمال الدين الأفغاني، وفي أثناء الحديث الذي دار بيني وبينه بخصوص تطور وطنه بعد (أمان الله خان) تذكر:

- إن شاباً جزائرياً آخر، زارني منذ سنة للغرض نفسه اسمه؟. وبينما كان سعادته يستعيد ذاكرته، بقيت أتساءل عن هذا الجزائري الذي سبقني على هذه الدرب، حتى استرجع السفير الاسم. - آه .. السيد (صالح بن الساعي)! .. فلم أشعر بغرابة في الأمر، إذ أن مرضنا واحد، المرض الذي يجعل طائفة من المثقفين الجزائريين في تلك الفترة تعيش ماسكة دوماً في يدها عصا الترحال، فقال السفير في نهاية الحديث: - إنني أشرت على السيد (صالح بن الساعي)، الاتصال بالهيئة الفرنسية المختصة بتقديم مثل هذه الطلبات إلى السلطات في (كابل)، وأشير عليك كذلك. فخرجت من مكتبه بالانطباع الذي أعتقد أن صديقي (صالح بن الساعي) خرج به يوم زاره قبل سنة. بقيت مصراً على فكرة الهجرة: - لو أهاجر إلى ألبَانيا؟ استقبلني سفير الملك (أحمد زوغو) بمرح وبشاشة كان لها أطيب الأثر في الحديث إذ طبعه بطابع الصداقة والمود، ويسر لي سعادته كل الإجراءات اللازمة للسفر بالمجان. وفي المساء قطعت في شركة إيطالية للسياحة تذكرة سفر عن باريس إلى (دوراتزو) الميناء الوحيد للمملكة الألبانية في ذلك العهد، وفي مساء الغد كنت في قطار (سانبلون) الذي يقطع الحدود الإيطالية في مدينة (بريشيا)،

متوجهاً بعد ذلك نحو ميناء (باري)، في عقب (الجزمة) كما يعبر الايطاليون عن بلادهم، بسبب صورتها على الخريطة. ولكن الطريق طويل، ويقتضي تغيير القطار أكثر من مرة في أرض لا أعرف لغة أهلها، فسلمتني الصدفة الحسنة إلى بحار شاب مسافر في الاتجاه نفسه، في طريق عودته من إجازة إلى وحدته في البحرية الحربية. واستسلمت إلى أنس رفقاء العربة الإيطاليين، وإلى سحر المنظر الطبيعي الجميل، الذي يتغير من المنطقة الجبلية في الشمال، إلى سهول إيطاليا الوسطى، ومن اللون القاتم بسبب الغابات إلى اللون الشاحب، وكلما أوغل القطار نحو الجنوب سيطر طابع الجدب والقفر على المنظر. وصل القطار إلى إحدى محطات الطريق، فنزل عدد من الركاب للترفيه عن أنفسهم ببعض الخطوات على رصيف المحطة، أو ببعض الفاكهة المتنوعة الجميلة الجيدة المعروضة، في ذلك الفصل في كل محطات إيطاليا، فلم نلبث إلا قليلاً حتى تحركت القاطرة من دون إنذار بنصف القطار فقط، لذلك بقي بعض من بقي على الرصيف وحقائبهم في العربات التي أقلعت، ثم دعي باقي الركاب إلى العربات التي كنت في إحداها، والتي أقلعت بدورها تجرها قاطرة أخرى، ولكن الأمر بلبل جمهور الركاب فاستمر بعضهم في المرح كعادة كل جمهور إيطالي في الظروف العادية، وانتقل الآخرون إلى اعتبار الحدث من زاوية سياسية، وبدأ الطرف الأول، وجلُّه من أبناء الشمال الإيطالي المعروفين بالقامة الطويلة واللون الأحمر، يعاتب الطرف الثاني، وجلُّه من أبناء الجنوب ذوي القامة المتوسطة أو الصغيرة واللون الأسمر، عن زهده في الأمور الجدية. لم أكن أعرف الإيطالية ولكنني أتتبع معناها لقرب اشتقاقها من اللغة الفرنسية، فكنت أتتبع ما يقال، وإذا بأحد الركاب يصرخ وهو يمسح قطرات عرق على جبينه:

- إنني سأبرق غداً إلى موسوليني بصدد هذا الإهمال وهذا العبث! يبدو أن الرجل كان من الشمال من الملتزمين الايديولوجيا الفاشية، فبقي سائر الركاب في مرحهم، بعضهم يغني وبعضهم يعزف على الجيتار. وعندما وصلنا في صباح الغد إلى (باري)، والراكب محطم القفا من المقاعد الخشبية في القطار الإيطالي، أخذني دليلي- الشاب البحار الإيطالي- بكل لطف ولم يترك لي حقيبتي المثقلة بكتبي الهندسية، فشالها على كتفه حتى سلمني إلى عربة (حنطور) وأوصى صاحبها ليأخذني إلى الميناء. وذهبت في هذا الركب عبر المدينة التي كانت تلفت نظر الزائر نظافة شوارعها، وتحفة ميادينها إذ توجد في وسط كل ميدان هضيبة زهور تضفي على النظر جمالاً ربيعياً. لا أتذكر من قال لي إن (باري) من منشآت العهد النابولي، ولكن عندما اجتزنا سورها العتيق، بدا لي أن أصل المدينة أقدم من مملكة نابولي (¬1)، وعلى أية حال كانت المدينة تجذبني حتى كنت مسروراً بقضاء يومي فيها حتى إقلاع الباخرة منها في المساء: - لا يا سيدي، إن الباخرة تقلع غداً مساء ... قال لي هذه الكلمات موظف الجمرك، عندما وصلنا إلى الميناء؛ فتركت في نفسي بعض القلق دون أن أشعر أنها كلمات القدر. بينما كنت عند أخذ تذكرة السفر بباريس، قد تأكدت جهد استطاعتي من مواقيت السفر. لم يبق لي إذن إلا الرجوع إلى المدينة حيث وجدت، لا أدري في أي ¬

_ (¬1) مملكة نابولي هي المملكة التي أسسها نابليون في شبه الجزيرة ونصب على عرشها ابنه في المهد.

(أفيا) (¬1) وجدت كرفة في (بنسيون)، استدرجني إلى النوم سريرها المريح مثل كل أسِرّة ايطالية، فاستسلمت للنوم تفادياً للتعب الذي أنهكني أثناء السفر. لم أستيقظ إلا في صباح الغد، فقد خرجت لأتناول القهوة على سطح مقهى قريب من (البنسيون)، فناولني الخادم القهوة مع كأس ماء، وناولته الكلمة الإيطالية الوحيدة التي تعلمتها من باريس إلى باري: (جرازيا)! ... شكراً. ثم سألته عن المطاعم القريبة فلم يفهمني ولم أفهمه، وإذا بصوت من خلفي: - هل أنت فرنسي يا سيدي؟ فالتفتّ إلى المرأة التي تسألني، فرأيتها تجيب على الأسئلة التي وجهتها إلى خادم المقهى، وبجنبها ابنتها المراهقة. ثم استرسل الحديث: كانت المرأة من مدينة (ليون)، فقد تزوجت ثيّباً بعد زواج سابق برجل من ألبانيا تركها ورجع إلى بلاده، فأتت تبحث عنه دون جدوى، فقلت: - أنا متوجه اليوم إلى (تيرانا) ... وقد قصدت بكلمتي استدراج السيدة للحديث عن شؤون البلاد التي رجعت منها بعد ما أقامت بها مدة، فقالت: - ماذا تريد أن تصنع هناك؟ لا يوجد شيء إلا الفقر والبؤس ... فبدأت أفكار مترددة تدور في عقلي وتساؤلات مضطربة تنشأ فيه: ¬

_ (¬1) اسم النكرة للشارع بمدن ايطاليا.

- لو أنني لم أجد في البلاد مأوى وعملاً فماذا أصنع بعد ما ينتهي ما لدي من نقود؟ بأي شيء أعود إذا ما اضطررت للعودة؟ كانت لحظات مزعجة يتصارع فيها تصميمي على مواصلة الطريق، مع الجبن الذي بدأ يتفشى في أعصابي، مع كل كلمة تضيفها السيدة. لم تكن الحياة القاسية قد علمتني بعد أن أحطم ورائي كل جسور الرجعة، فبدأت أتراجع وأقول في نفسي: - لعلي بباريس وحتى بالجزائر لم أستنفد كل الإمكانيات ... كان تصميمي عندما قمت من سطح المقهى على آخر رمق، بدأت أخبار الجزائر الأخيرة التي وردت للحي اللاتيني قبل مغادرتي باريس، تعود إلى فكري. كانت الحكومة الاستعمارية قد ألقت القبض منذ أسبوع على الشيخ (العقبي) بتهمة الإسهام في اغتيال مفتي الجزائر، فقررت أن أوجه له في السجن برقية تأييد. فرأيت على وجه موظفة البريد علامة التعجب من الأمر، ربما بسبب المرسَل إليه وخاصة بسبب عنوانه ... ... تنبأ بغض علماء الفلك بكارثة اصطدام ممكنة بين الأرض، وبين أحد الأجرام في السماء. وأتذكر أنني قرأت هذا النبأ في صحيفة مسائية بمقهى الهجار، بعد أيام قلائل من عودتي من رحلتي، فتقبلته بكثير من الرجاء. إن المرء يعيش هذه الحالات النفسية عندما لا يبقى أمامه إلا رجاء الفناء. ولاشك أن (غوبلز) مر بها في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، عندما أصبح (الريش الثالث) وشيكاً من حتفه، خصوصاً ذلك اليوم الذي صرخ فيه (غوبلز) من إذاعة برلين:

- إن ألمانيا ستطلق الكلمة إلى سلاحها السري الذي لا يبقي ولا يذر، حتى لا يبقى أحد يتساءل عما يحدث في الغد، لأن بعده لا معنى لسؤال عما بعد ... فالآن وأنا بينما أراجع ذكرياتي، أرى أن (غوبلز) لم يكن يومئد يهدد العالم بسلاح سري لم يكن تحت يده، وإنما كان يعلل نفسه بالفناء ... بينما كان الرأي العام الفرنسي حينذاك منقسماً تجاه الهجرة الإسبانية التي أصبحت شغله الشاغل، بين يمين يشيد بانتصار (فرانكو)، ويسار يتجند بكل ما يضم من أشخاص وهيئات، من أجل إيواء وتشغيل المهاجرين، حتى أصبحت أوازن عبثاً هذا الموقف الإنساني للتقدميين الفرنسيين- كما نقول اليوم- بموقفهم الجامد إزاء البؤس الفظيع الذي يتجلى في حياة العمال المغاربة، الجزائريين خاصة، الذين يتيهون في أتعس الأحياء الباريسية دون أن تنشط أي همة إسعاف نحوهم، بينما القانون يضعهم في إطار الجنسية الفرنسية. ولم تكن هذه الموازنة كلها عبثاً لأنها تأتي ضمن سلسلة الظروف التي جعلتني أدرك بصورة واقعية، أن الروابط البشرية لا تصوغها القوانين الموضوعة، وإنما تنشأ بين أفراد مجتمع حدد التاريخ مصيره بوصفه كُلاً. عشت تلك الفترة بين دروكس وباريس، فكان إطار حياتي بـ (دروكس) الطبيعة الجميلة على ضفة نهر (الأور)، في تلك الحقول المفروشة كبساط أو كحلة خضراء تحت السماء، أذهب مع زوجي و (أمي مورناس) بعد الغداء، لاقتطاف قوت أرانبنا اليومي، من كل طيب ولذيد من النبات. وكم تعلمت في هذه المدرسة من المرأتين، لأنهما تعطيان لكل نوع من النبات اسمه الخاص، وتسميان كل حشرة باسم خاص، دون أن يكون لها أي اطلاع بعلم النبات ولا بعلم الحشرات، شأنهما في ذلك شأن أي راع عندما يسمي الأشياء بأسمائها التي علمها الله لآدم يوم خلق الكون.

بينما يكني المثقفون عندنا كل نوع من النبات (نباتاً) وكل حشرة (حشرة). بدأت هذه الملاحظات، عن الاختزال Schématisme الذي يطبع التكوين الفكري عندنا، تلفت نظري بالتدريج إلى الفارق الكبير بين التثقيف والتعليم. وبدأت في هذه الفترة، أطالع بكل إمعان كتب (بلزاك)؛ لأن (أمي مورناس) كانت تحتفظ بكل إنتاجه على رف من رفوف خزانة أواني الطعام، فكانت هذه المطالعة تزيد كثيراً في معلوماتي عن حياة المجتمع الفرنسي عندما بدأت، بعد العهد النابليوني، انطلاقته في العهد الصناعي، بكل التفاصيل الحميمة التي تتسم بها الحياة الفرنسية بكبريائها وضآلتها كما تصفها (الكوميديا الإنسانية) (¬1). كانت هذه المطالعة وهذه الملاحظات وهذه الموازنات حقلاً خصيباً لأفكاري الاجتماعية الناشئة، أحملها معي إلى باريس، عندما أذهب للبحث عن الشغل، فأوزعها على حلقتي من طلبة وعمال جزائريين بمقهى الهجار، وكنت أهتم بالطلبة خصوصاً، لأنهم شرعوا في امتطاء الحزب (المصالي) من أجل الوصول إلى مآربهم أو إلى الزعامة، حتى ألفت نظرهم إلى مشكلات التغيير النفسي والاجتماعي الأساسية، التي لا تتكون بدون دولة. لقد كانت الحركة الوطنية تستهدف أهدافاً سامية؛ دون أن ترسم خطتها ودون أن تحدد وسائلها، فأصبحت تتطور في جو من الفوضى لا يصلح إلا لمن يعمل من أجل مصلحته، لذلك لم يكن لحديثي مع الطلبة والعمال أي أثر عملي، كأنني أخطب في صحراء، غير أنني كنت أجد في الحي اللاتيني السلوى من طرف أصدقائي. ¬

_ (¬1) الكوميديا الإنسانية، اسم مستعار لكل إنتاج بلزاك ومجموعة قصصه.

كان (صالح بن الساعي) يواصل كفاحه البطولي من أجل تثبيت قدميه على الأرض على الرغم من مناورات الاستعمار، يواجه كل عقبة في طريقه بالابتسام، ولا زال (حمودة) في جبهة المعركة ولم يركن بعد إلى الانزواء الذي سيجعل منه رجلاً يعيش إلى اليوم، على هامش المجتمع بحكم عقدته ضد كل حياة اجتماعية. ولا زال (علي بن أحمد) ساخطاً على الجميع، يلعن شياطين الإنس والجن عن يمينه وعن شماله، ويهدي التحية الهتلرية لمن يعرف ولمن لا يعرف على الرصيف، وكان أكبر سخطه موجهاً في تلك الفترة إلى جمعية العلماء، ينتقدها حتى لتعيينها الشيخ (الورتلاني) نائباً عنها في باريس، فيعلن سخطه: - إنهم تعدوا على كرامتنا نحن، أنا، و (بن الساعي). وكنت في الحقيقة على الرغم من مودتي للشيخ (الورتلاني) رحمه الله، أشعر أن تعيينه عن جمعية العلماء بباريس، كان انتقاصاً من موقفنا أمام السلطات الاستعمارية، التي طالما وقفنا منها بوصفنا مناضلي الفكرة الإصلاحية. ولكن لعل الظروف تصرفت وحدها في القضية كما سيفسر لي ذلك الشيخ (العربي التبسي) في إحدى مناظراتنا، بعد هذا العهد بكثير. وبقيت أيضاً على اتصال بـ (أنا كليتو)، أزوره في تلك المناسبات بسبب ما أجد في حديثه عن الإسلام والمسلمين من ألوان جديدة تنعش نفسي وتفيدني من الناحية الفكرية. وفي أحد هذه التجولات الباريسية، توجهت لدرستي لطلب شهادة عادية كنت في حاجة إليها، فأشار علي الموظف المكلف بهذا الإجراء، أن أرجع في الغد لسحبها، فصادف بعد خروجي من المدرسة، أن التقيت بالمدير (سودريه) على رصيف بالحي اللاتيني، فنظرت في وجهه دون أن أجد فيه ملامح الوقار والعلم

التي اكتشفتها فيه يوم رأيته لأول مرة ومرات بعدها، فمررت في طريقي دون أن أحييه. ولعل النظرة تكشف خفايا النفس لمن تنظر إليه، ولعل المدير (سودريه) شعر في نظرتي إليه، بما يختلج في نفسي نحوه من احتقار لشخصه واستصغار له؛ فعندما عدت في الغد إلى المدرسة لسحب الشهادة قال لي الموظف: إنها على مكتب المدير الذي يرجوني أن أستلمها من يده. فقابلني بوجه بشوش متلطف كأنه يريد التكفير عن سيئته: - السيد الصدّيق ... هل تريد أن تسهم في امتحان تجريه وزارة الدفاع من أجل اختيار بعض اختصاصي الحساب لقسم هندسة المدفعية؟ فقلت: - والله .. إنني في صدد البحث عن شغل يا سيادة المدير. - اذهب في الحين من طرفي إلى الكومندان فلان ليسجل اسمك، وسأتصل به. استقبلني بعد لحظات الكومندان بكل حفاوة: - إن المسيو (سودريه) اتصل بي في شأنك، فالامتحان يجري غداً، وملفك ليس جاهزاً، عليك أن تجهزه بعد الامتحان ... حاولت الشكر، ولكن الضابط لم يمهلني: - إنك تكون هنا في السابعة والنصف غداً. فخرجت أنشد في نفسي نشيد الفرح، بينما تتردد على فكري ألف فكرة فيما يخص ترتيب حياتي بباريس بعد الامتحان.

وفي الغد مضت الأشياء في الصباح على النسق العادي، وكنت بعد الغداء أول من دعي للامتحان الشفاهي، فوجدت في القاعة لجنة الامتحان وعلى رأسها جنرال ببزته العسكرية، وبجنبه الكومندان الذي استقبلني، رجل ببزة مدنية من ناحية أخرى، فأحسست في تلك اللحظة بانقباض في نفسي نحوه. كان الجنرال هو الذي يسأل، وكان الجواب على السبورة، ومن العلوم أن المسؤول يشعر بقدرة إجابته من خلال نتيجته ... ومما زادني شعوراً بالتوفيق موقف الجنرال بعد الاختبار. - الصدّيق؟ .. الصدّيق؟ .. هذا اسم جزائري من أي ناحية أنت؟ - من تِبسة يا سيدي. فالتفت الجنرال إلى الكومندان بجنبه: - إنني بدأت الخدمة العسكرية في هذه الناحية بمدينة (باتنة). لقد كان الجو مرحاً إلى أن أصبح الجنرال يستعيد ذكريات بعيدة، ثم التفت إلى الرجل الآخر: - متى تعلن النتيجة؟ - سنعلقها بعد عشرة أيام تقريباً ... فشعرت في تلك اللحظة شعوراً متشائماً، لأن رجائي في نتيجة الامتحان بالنسبة لي، كان كله على أساس المفاجأة التي أتاحت لي قرب تسجيل اسمي من يوم الامتحان، لذلك لم يكن في وسع الاعتبار السياسي أن يتدخل، في برهة زمن قصيرة جداً، أما وقد أُجِّل إعلان النتيجة عشرة أيام، فقد انفسح المجال لكل الاعتبارات الخاصة في النطاق الإداري.

كنت عندما أعود إلى بيتي من باريس، بعد كل ما يصيبني من تعب البحث عن الشغل، وبعد كل مسامراتي المرهقة بمقهى الهجار والحي اللاتيني، أعود وعلى وجهي ملامح تفزع زوجي: - والله لكأنك عدت من ارتكاب جريمة. تقول هذه الكلمات لا ترى في عيني من آثار حمى التعب، التي تترك شعري مشعثاً على رأسي، في هيئة من يعود من مغامرة خطيرة. ولكن لا تمر إلا ليلة واحدة من الراحة في بيتي حتى تعود ملامحي إلى عادتها في أنس الأسرة وهدوء الطبيعة .. كان الأمر كذلك هذه المرة، فاسترجعت حتى بعض الأمل في نتيجة الامتحان، ولكنه أمل الأطفال الذين يستطيعون، بمنة من الله عليهم، أن يستعيدوا في لحظة وجيزة المرح الذي يطمسه على وجوههم البريئة ظرف قاسٍ. لقد كان البريد شحيحاً بالنسبة لي، لذلك لا أنتظره عادة؛ بالإضافة إلى أن الجزائريين قد وجدوا حلاً صارماً لهذه المشكلة: فلا أحد يكاتب أحداً ... وإنما كنت في انتظار خطاب قسم هندسة المدفعية، فجاء في موعده، يتضمن سطراً: ((إنكم لم تستوفوا شروط الامتحان)).كأنما أصبحت هذه العبارة المفتاح الذي تفتح به أو تغلق،- لا أدري- قضيتي كلما عرضت على الإدارة ... لو أستطيع العدول عن الإدارة؟ ... لعل الهيئة الدينية لا تحاكم المسلم بجرم دينه؟ .. فتذكرت اسم رجل دين، هو أستاذ بمعهد للدراسات المسيحية قرب باريس، قد كنت تعرفت عليه أثناء زيارته للجزائر، قبل ثلاث أو أربع سنوات، فكاتبته في شأني، وحالما وصل خطابي إليه لم يتأخر ذلك الرجل الطيب بالجواب: إنني أوجه في الحين رسالتك إلى أحد أصدقاء المسلمين بباريس.

آه يا للرجل الطيب! .. إنه تعود في حياته العادية الطرق الواضحة، دون أن يعلم شيئاً عن المسارب الملتوية في حياة المستعمرات! .. لقد تصورت في ذلك الحين لأي (صديق المسلمين) وُجهت رسالتي، ومع ذلك فضلت أن أترك زوجي ترتاح من كربها ريثما يأتي النبأ، فلم يمض إلا يومان أو ثلاثة أيام، حتى أتاني خطاب من الأستاذ (مسينيون) يطلب حضوري. لا مناص من مواصلة الطريق الذي سطّرته الأقدار إلى آخر خطوة. وإذن لم يكن هناك بد من خطوة أخرى إلى (مسينيون)، أجلسني كالمرة الأولى أمام مكتبه ولم يسألني عن شيء، سوى الظرف الذي تعرفت فيه بالقس الفاضل الذي وجّه خطابي إليه، كأنه يجري تحقيقاً في هذه القضية بالذات دون اهتمام بسواها إلا في نهاية الحديث: - إنك تطلب شيئاً هاماً. ودعني بهذه الكلمات عند باب الشقة. ربما كنا في أوائل سنة 1937، ولا أدري كيف بلغني أن الإدراة بتونس قد شرعت في فتح طريق بالجنوب التونسي، وأنها تطلب تكنيين من أجل إنجازه، غير أنني أتذكر شعوري في هذه المناسبة بضرورة تغيير خطة السعي: - أن أقصد رجلاً يلبس جبة الراهب لا يحقق شيئاً في مجتمع علماني كما دلت على ذلك تجربتي الأخيرة. عليَّ إذن بالتذرع برجل يتصف بـ (الفكر الحر). وقد كان كل ساكن من سكان (دروكس) يعلم أن عمدة المدينة في أعلى رتبة من سلم (الماسونية): .. - عليّ به، لعل الفتح يكون على يده ...

ولا أجحد أن ممثل الجمهورية الثالثة الفرنسية المحترم تدخل فعلاً في تأييد طلبي. ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أبلغ لي الرد الذي ورد عليه بهذا الصدد: ((إننا لا نستطيع التصديق على هذا الطلب، لأن الطريق المشروع في إنجازه طريق عسكري.)) شعرت ببؤس تلك السمكة المتمردة وهي من النوع المفترس الصغير، طالما مزقت تقلباتها المتحدية خيوط الشبكة المعدة لصيد السمك الهادئ في المستنقعات السياسية ... إنهم لا يريدون الآن اقتلاع بعض حراشف جلدها فقط، ولا اقتلاع بعض أنياب فمها فحسب ... لا بل يريدون مرة واحدة أن يلقوها في المقلاة فيقلوها ويشووها حتى تصير لقمة سائغة للآكلين. كان الشتاء في آخره، وبدأت طبقة الجليد تذوب على أرصفة (دروكس)، وشرعت الأشجار تنزع لباسها من البرد الأبيض، وبدأت العصافير تبني العش الجديد، والفراشات الملونة تطير وتسرح وتمرح كأنها تداعب الحياة. وكان الجو عذباً هادئاً معتدلاً سعيداً بعودة الربيع. فأبقى ساعات متكئاً على حافة نافذة مشرفة على وادي (الأفر) الصغير، عندما يبرز ماؤه الشفاف من تحت أقواس الجسر قرب بيتنا، ليصير المرآة التي تنعكس على سطحها هذه الحركات السعيدة، فلا أرى شيئاً كأنني أجني على كل ما يصب ويدب في هذه الطبيعة المرفرفة، كأنني محجوب عنها بما يضطرم بين جنبي، وما يعصف بينها من عواصف هوجاء، لقد أصبحت أعيش داخل نفسي كالسجين داخل سجنه. ولم تكن الزيارات التي تأتينا كثيرة، وإنما كان أصدقائي من (الوحدة المسيحية للشبان الباريسيين) يترددون علينا من حين لآخر بمناسبة عطلة آخر الأسبوع. ولكني بدأت أشعر على الرغم من صداقتنا، أنني أجنبي عليهم، محجوب عنهم بمشكلة الاستعمار الغريبة عنهم.

وكانت تزورنا أيضاً أسرة، هي رجل وامرأته؛ كان الزوج شاباً طيباً جداً يشتغل في دار باريسية للنشر تخصصت في طباعة وتوزيع الكتب العلمية المبسطة، فأتى الحديث بطبيعة الحال على الصعوبات التي أواجهها، فأشار علينا الزوجان بأن أتعاقد مع الدار، التي رأت فعلاً من مصلحتها أن تمد نشاطها إلى الجزائر. تم التعاقد وتقرر موعد السفر وجهزتني زوجي من صنع يدها، لأن شراء الملبس من السوق أصبح متعذراً بالنسبة إلى إمكاناتنا، فاشترت قطعة قماش صوفي من دكان يهودية تشتري بضاعتها بالكيلو من المصانع، وتبيعها بالمتر لنساء المدينة، ففصلت لي زوجي من قماش لمعاطف السيدات (بدلة) لأن خزانة ملابسي لم تجدد تلك السنة كالعادة. ثم أقام مدير الدار الباريسية مأدبة غداء على شرفي، وسافرت مع صديقي. كنت حريصاً عند وصولي إلى الجزائر، أن أتحسس نتائج الأحداث التي أثرت في انهيار المؤتمر الجزائري الإسلامي، بعد قتل المفتي (بن كحول) واعتقال الشيخ (الطيب العقبي)، فوجدت الكساد مخيماً في ربوع المدينة، خصوصاً في نادي الترقي الذي كان معقل الإصلاح في العاصمة. ووجدت (محمد الشريف جوجلاريه) منزوياً في مقهى بالحي الشعبي، يحرر خطابات الأميين إلى ذويهم؛ فتأثر عندما رآني لجأت إلى ترويج العلم المبسط وسيلة عيش، ولم يكن هذا الرجل الطيب يدري، ولم أكن أدري أن هذه الوسيلة ذاتها لا تجدي في يد مسلم يعمل بها. ومنذ الغد شرعت في العمل، يصحبني صديقي في المحاولات الأولى، حتى يرشدني إن اقتضى الحال، فوجدني أدرى منه في الموضوع كما قال لي ذلك بكل صراحة، فتركني لشأني بعد اتفاق على خريطة نشاطنا في الأحياء الأوربية، حتى لا نطرق كلانا الباب نفسه.

ولكنني لم أتغلب على عقدة ورثتها من طفولتي، فمن يسألني عن اسمي أقول (الصدّيق)، بدأت كلما دخلت مكتباً أو منزلاً أتقدم كذلك لصاحبه، فتتحرك في نفسه منذ اللحظة الأولى العقيدة الاستعمارية؛ ومما يزيده اشتباهاً في أمري أنه يجدني- عندما يصغي لحديثي- أتكلم لغة لم يتعودها حتى عند باعة العلم المبسط، فأراه عندئذ يلطف العبارات لستر العورات، ثم يودعني على الباب بأطيب التحيات ... تكررت هذه التجربة يومين أو ثلاثة أيام، عرفت خلالها أن عملاً، حتى مثل هذا، يستحيل عليّ في مجتمع صنعه الاستعمار في كل جزئية من كيانه. فاستأذنت من صديقي وسافرت إلى تبسة. ربما في شهر أيار (مايو) ظهر لي الجدب والقحط يسودان تحت شمس محرقة ليس فيها هوادة، تحرق أشعتها كل شيء في المنظر الذي لم يشهد منذ زمن طويل سقوط تلك الثلوج التي طالما تمرغت فيها في طفولتي. ولكن بدا لي المنظر الاجتماعي أكثر جدباً وأفشى قحطاً، لم تبق فيه تلك الرابطة التي كان المرء يشعر بها بين القلوب والعقول المجتمعة حول قضية في جو يضفي عليها القداسة ... بل هذه القضية نفسها أصبحت كأنها ذابت وتبخرت في طوفان من كلام، إذ أصبح كل مقهى سوق عكاظ وكل مائدة فيها أصبحت منصة يخطب من حولها بما شاء ولمن شاء وكيفما شاء. لقد فقدت الكلمة قيمتها بانتقالها من النادي أو المسجد إلى المقهى، منذ سلّمت القيادة (المعمَّمة) زمام الأمر للقيادة (المطربشة)، حتى على رأس المؤتمر الجزائري الإسلامي، الذي ذهب أول ضحية لهذا التسليم، وبدأ ظهور (الجبهة الشعبية) بفرنسا يضيف مفعوله الخاص إلى الانهيار الذي حدث بالجزائر، فأصبح كل جزائري ذا اهتمام سياسي يعلن عضويته في الحزب الاشتراكي الفرنسي، حتى بعض هيئة أركان حزب الإصلاح.

ولم يخطر ببال أحد أن يصرخ بكلمة (الخيانة)! .. في جو بدأ فيه (مصالي حاج) ينصب الخلايا لحزبه بمدينة الجزائر .. وبدأ الوطن يهجر حلبة الواجبات ويتجه إلى ميدان الحقوق .. والتقدمية .. وإنني لأرى، وأنما أحرر هذه السطور بعد مضي ثلث قرن، نتائج هذا الانحراف في المظاهرة الطلابية التي تمر هذه اللحظة في الشارع تحت نافذتي، منادية بسقوط شخصية عربية أعلنت اليوم استقالتها من الحكم بعد الهزيمة النكراء، بينما لم أر همة هذا الشباب تتحرك قبل أسبوع لينادي بسقوط (موشي دايان). إن هذا الظرف يكشف عن ظاهرة الفرار من الواجب بالتظاهر والمظاهرات، تلك الظاهرة التي لم تكن بعد نتائجها واضحة في الميدان السياسي ولكنها أصبحت في منتهى الوضوح في الحقل النفسي. أصبح كل الناس يتكلمون بينما لم أمنح يوم ولادتي موهبة كبار المغنين، فكنت أبقى غالباً ملازماً الصمت إلا في بعض المناسبات، عندما يتغيب الشيخ (العربي التبسي) ليلة جمعة، لأنه تعود أن يتحدث تلك الليلة في (نادي الشبيبة الإسلامية) فإذا تغيب يطلب مني أن أنوب عنه، فأغتنمها فرصة لمقاومة التيار الجارف، فأتحدث فيما يتصل بالواجبات أو بمشكلات الحضارة. ولكنها صخرة (سيزيف) يرفعها إلى القمة، فتسقط مرة أخرى في الهاوية السحيقة. كذلك أصبح ضمير الجمهور الجزائري لا يرتفع في لحظة موفقة إلى مستوى المشكلات الحيوية، دون أن يهوى مرة أخرى في الثرثرة والمظاهرت، بتأثير جاذبية الظهور، جاذبية محكمة يجيد الاستعمار تسليطها على الحركات الناشئة لتعكس اتجاهها إلى أسفل. ولم يكن في استطاعة العلماء مواجهة هذا التيار، لأنهم بادئ ذي بدء

لا يشعرون به ولا يؤيدون من يشعر بخطورته، فقد كانوا يفضلون من يخون عهدهم ويرضي غرورهم، على من يخلص لهم وينقد سلوكهم، لذلك نشأ في هذه الفترة بالذات بيني وبين الشيخ (العربي التبسي) ما يشبه القطيعة، لأنني توليت وحدي المرافعة ضد الزعيم الذي تبرأ منذ سنة في صحيفة فرنسية من جمعية العلماء، التي نصّبته على رأس المؤتمر الجزائري، فكان الشيخ رحمه الله، يقوم بدور المحامي عنه بدعوى أنه الرجل الأوحد؛ بينما كان الرجل يقوم علانية بدور من ينقض الغزل كلما غزله الشعب منذ ربع قرن؛ فيرفض بوصفه رئيساً للمؤتمر فكرة دعوته لسنته الثانية، رفضاً كان بمثابة إلغاء لمبدأ نفسه، في فترة لم يكن العالم فيها قد عرف بعد حق (الفيتو) الذي سيكون له شأن في مداولات الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. انتصر الاستعمار في هذه المعركة من دون أي بذل ولا تضحية، ثم انتصر في معركة أخرى على أرض الإصلاح بالذات، يوم قرر (الرجل الأوحد) وزملاؤه من (اتحادية النواب) أن تقام بمدينة قسنطينة (زردة) (¬1)، بعد أن قضى الإصلاح على مثل هذه العادات التي كانت تشوه الدين. ولا أدري ما فكرت مدام (دوننسان) يوم أقيمت (الزردة)، ولكن كل جزائري كان يعلم أن كل كبار المستعمرين مَوّلوها من مالهم الخاص، حتى تقدم مجاناً للرأي العام، بينما بدأت مخازن اليهود التي حطمها الشعب منذ سنتين عندما نقل إليه نبأ مصطنع بققل (الرجل الأوحد)، تبيع اليوم أقمشة مطبوعة باسمه. لم يكن التنفس بالأمر اليسير في هذا الجو المتعفن. كنت لا أخرج من بيتي إلا في المساء، لأتناول شاياً على سطح النادي، إلى جانب (حشيشي مختار) الذي كان هو الآخر يضم في جيبه بطاقة عضويته في ¬

_ (¬1) يسمى هكذا الندر الذي يقام كل سنة قبل قيام الحركة الإصلاحية في المدن الجزائرية.

الحزب الاشتراكي الفرنسي، لأن العدوى كانت شاملة، ولكنه مع ذلك بقي محتفظاً بفطرته البدوية السليمة، فقد كان لا يترك فرصة تفوته للتعبير عن سخطه بلغة فرنسية مهلهلة، نعلمها في مداولات المقاهي الأوربية يوم كان قمَّاراً: - يا جيل الضفادع. كانت هذه الكلمات تتصدر كل خطبه السياسية التي كنا أنا وخالدي، نحرص على استماعها أكثر من أي خطبة زعيم آخر لا نجد فيها من روح الصدق والإخلاص. وقد كنت ألاحظ بارتياح على وجه (خالدي) علامة النقاهة الروحية الناجعة منذ بدأ قراءة (نيتشه)، كما أشرت عليه بذلك قبل سنتين، فأصبح محصناً بأفكار الفيلسوف الألماني من تلك العقبات التي توضع في طريق شبابنا الجامعي حتى اليوم، لتحيله إلى طريق تفكير وإحساس تجعله أجنبياً عن الشعب شاذاً على نسق حياته. ولا شك أن الإنسانية ستتكبد خسارة كبرى من جراء ما تقوم به اليوم لجنة مختصة، من تعديل تدخله على كتب (نيتشه) لتصيّرها صالحة لمكتبة عالمية، ترفض الأصالة وحرارة الإيمان ومضاء الأفكار، ولا ترجو من الكتاب إلا التوقيع تحت كل ما يجول ويدور. فقدت الميل إلى الفن المصري، الذي طالما قربني من مقهى (باهي) ومن حلقة (صادق شقة) بالتبعية، وأصبحت أسأم من كل شيء بينما كان العالم لا يستطيع التنفس، وهو يرزح تحت ثقل جبار لحضارة مثقلة بكل مطامع ومطامح استعمارهم. وكنت أمر بباب الساعة، في الوقت الذي يفتح بجنبه باب الثكنة لتوزع فيه، مخلفات أكل الجيش على الفقراء من أطفال وشيوخ يتراكمون على باب

الثكنة للحصول على حصة طعام، يتناولونها في علب قصدير يلتقطونها من مزابل المدينة، ويخفونها تحت أسمالهم لينقلبوا إلى أهليهم. كان هذا المنظر يذكرني بمأساة الشعب الذي يعيش في عالم لا تعرفه القيادات، ويحدثني يومياً عن التدهور الاجتماعي الفظيع الذي يواجهه الشعب وحده دون مساعدة رسمية ولا إرشادات أخوية. وقد اتفق الرأي بمناسبة عيد فطر أو أضحى، أن نوزع بعض الملابس على الأطفال، وإذا بعدد منهم لم نكن نتوقعه يأتي من كل حدب وصوب، وزوجي التي التحقت بي في هذه الأثناء، تتتبع من إحدى نوافذ بيتنا عملية التوزيع، لأنها كانت تجري في شارعنا، وقد تجمعت مند الصباح الباكر، جموع من الأسمال والأسقام كان أثر منظرها على أعصاب زوجي مثل الصدمة النفسية، حتى إنني عندما عدت إلى البيت، سمعتها تقول وكأنها في حالة وجدانية غريبة: - والله لو وضعوا رشاشة في مدخل هذا الشارع، ورشاشة أخرى في مدخله الثاني، ثم حصدوا هؤلاء الأبرياء بالرصاص، لكانوا أرحم بهم من أن يتركوهم تائهين هكذا! .. كنا في عهد (الانشلوس) (¬1) وتأخر المستشار (دلفوس) عن الحكم أو أخروه، وأصبحت طريق فيينا مفتوحة، فوصل هتلر والطبل يدق دقاته العسكرية، وألقى خطاباً عقّبت الجماهير على كل كلمة منه بهتاف تنقله أمواج الأثير كصدى عاصفة اجتاحت العالم. كانت ليلة لا نظير لها. كنت أسمع الخطاب في مخزن (سي الصادق بو ذراع)، مع (خالدي إبراهيم)، فكانت كل موجة تصب في قلبي الرجاء بفناء قريب. ¬

_ (¬1) الكلمة ألمانية تعبر عن عملية ضم النمسا إلى ألمانيا التي قام بها هتلر.

ولكن إلى أن يتحقق هذا الرجاء، ماذا أصنع؟ كنت أتعجب من عبث هذه الشبيبة التي تقضي يومها بمقهى (باهي) تخطب، أليس من الأجدى أن تتجند للقيام بأي أمر إيجابي حتى تتكون عندها روح الخدمة والتضحية؟ بدا لي أن لو تطوع بعض الشبان لتنظيف مقبرة المسلمين التي كانت بالقياس إلى المقابر الأخرى خاصة لمقبرة اليهود، في حالة إهمال يُرثى لها، كان الأموات مهملين فيها، مثل الأحياء في الشوارع، لو تطوعوا لكان قيامهم بهذا المشروع بمثابة تمرين لهم تجاه الواجبات، ودرساً نافعاً للمجتمع الذي اقتنع حتى ذلك العهد بالمطالبة بحق الأموات، راجياً من البلدية الاستعمارية بناء سور حول المقبرة وتنظيف داخلها، فلو تحركت همة بعض الشبان في تنظيف المكان، لتحركت همم أخرى بجمع المال ولتقدم البناؤون للعمل الخيري بالمجان. وإذن لتبين لهذا الشباب أن السياسة الحقيقية التي تغير وجه الأشياء ووضع الشعب، ليست في المطالبة بحق، ولكنها في القيام بالواجب. عرضت مشروعي على طائفة من الشبان اجتمعوا لاستماعي بمقهى (باهي)، وهتفوا لمقالي عندما انتهيت، وسررت وسعدت، ثم تفرقنا ولم يتحقق المشروع. ولو راجعت اليوم هذه الصفحة المعبرة عن لافعاليتنا، لوجدت فيها ما يتصل بموقف الشبان من الناحية النفسية، وما يتصل بموقفي من الناحية الفكرية. ومما زاد الطين بلة في تلك الفترة أن (الجبهة الشعبية) كان لها على الحياة العامة الجزائرية التأثير نفسه الذي كان لها في فرنسا، وخاصة أنه قد فتحت في الجزائر محابس الكلام، فاستولى على كل فرد داء الكلام كلامه أو كلام جاره، وإنه لداء قتال!

حتى إن بعض المصابين كان ذات يوم مع الجمهور التبسي، يستمع إلى خطباء يتكلمون بقاعة المهرجانات، فطلب الكلمة فلم تعط له فصرخ: - إنني سأنفجر إن لم أتكلم! .. فأراد بعض الحاضرين- وأعتقد أنه (حشيشي مختار) وربما معه (خالدي) - أن يتفادوا الانفجار فقالوا: - أعطوه الكلمة! .. أعطوه! .. قفز المريض على المنصة ومكنسة بيده، لا أدري أين وجدها وقال: - يجب أن نكنس الاستعمار هكذا! .. هذا كل ها قاله وهو يلوح بالمكنسة، ثم نزل مرتاحاً كمن تنفس بعد أن ضاق صدره؛ ولا يستطيع أحد تقدير ما تكبدنا من خسائر جوهرية منذ استولى علينا مرض الكلام، ومنذ أصبح المجتمع سفينة تائهة، بعد إخفاق المؤتمر. كانت الأفكار قبل ذلك صافية، والنوايا خالصة صادقة، والقلوب رحيمة خيرة، فاستحال كل ذلك إلى الخلط والخبط والتباغض والانتهازية والثرثرة. وأصبح كل فرد مهتماً بـ (معزوفته) الشخصية في العزف العام، ويسعى لمصلحته الخاصة باسم الإصلاح أو باسم الوطنية. وبدأت الخرافات التي طردت من الباب تعود من النافذة، وبدأ الجمهور الذي هجر الزوايا الطرقية، حتى أغلقت أبوابها، يعود إليها لتفتح أبوابها من جديد، وأصبحت أسمع من بيتي نقرات البندير بزاوية القادرية وزاوية العمارية، كل ليلة جمعة كما كنت أسمعها في شبابي، وكما كانت تسمعها في ليالي الزفاف مدام (دوننسان). وعاد (باهي) ينقر البندير بمهارة العسكري الذي تمرن على الطنبور، فيجر وراءه جمهور المقهى إلى الزاوية القادرية وجمهور الزاوية إلى المقهى.

وظهرت من جديد المواكب الصاخبة في تشييع الجنازات، ولا أدري كيف فسرت مدام (دوننسان) هذه الظاهرة. وذات يوم من هذه الأيام انطلق (البراح (¬1)) يعلن وصول (الزعيم) ليلقي خطاباً للجماهير تلك العشية. ولا أدري إذا فكرت مدام (دوننسان) أن الاستعمار شرع يدفع في حلبة الصراع جنده الجديد من المطربشين المتكونين على مقاعد الثانويات والجامعات. وسمعت القيل والقال عندما ارتفعت حرارة الوطنية بدرجات في الجو، وتوجه الناس إلى جسر وادي الناقص لاستقبال (الزعيم)، كانت منقلباً إلى بيتي لأختفي، كما فعلت لست عشرة سنة خلت، يوم العيد المئوي لنزول الجيش الفرنسي، فلقيني أحد أهالي المدينة ممن يعرف موقفي من هذه المهرجانات، فقال لي إنه سمع أحد الشبان من البادية يسأل آخر: - هل للزعيم (جطاية) (¬2) من ذهب؟ .. يا لها من هزيمة مجتمع فقد رشده! .. وفي المساء أقيمت مأدبة عشاء للزعيم بدار (سي الصادق بو ذراع) فدعيت لها مع (خالدي) وقريبي (صالح حواس)، و (سي محمد المكي)، فألح علي أصدقائي أن أحضر معهم لنسأل الزعيم عن أسباب موت المؤتمر الجزائري الإسلامي، فحضرنا وبعد الطعام تناولت الحديث. ولكن الزعيم كان أمكر من ثعلب وكنت أبلد من خرتيت. فتكلمت وسكت، وتولى الرد على أسئلتي المحرجة أحد زملائه ممن سيكشفه الرأي العام بعد ¬

_ (¬1) كلمة جزائرية تعبر عن الإنسان المكلف بإعلان الأنباء في المدينة. (¬2) (جطاية) بالجيم المصرية كلمة جزائرية تعني الخصلة من شعر، والعبارة (جطاية من ذهب) تتردد في القصص الشعبية عن بنت السلطان.

ذلك بوصفه رقماً من أرقام قلم المخابرات الفرنسي، ولكن بعد أن أدى في الحياة السياسية الجزائرية كل مهماته. كانت مرافعتي أحر من الجحيم، ولكن وطيسها لم يحرق إلا الفراغ وبالتالي بقي النصر للزعيم، وفزت أنا بقصب الخطابة. وكتب للزعيم انتصار آخر ذلك المساء، لأنه دعي إلى حفلة شاي بعد العشاء، فحضرها الشيخ (العربي التبسي) من بين من حضرها، فتكلم هذه المرة (الزعيم) يسوّغ موقفه إزاء الجمهور التبسي، فيما يخص موقفه من جمعية العلماء بعد قتل مفتي العاصمة. فاعتبرت أن واجب المرافعة يقع هذه المرة على عاتق الشيخ العربي بصفته الشخصية الثانية أو الثالثة في جمعية العلماء بعد الشيخ (بن باديس)، ولكن العالم سكت فانقلب الزعيم مكللاً بانتصارين: مرة لأنه سكت، ومرة لأنه تكلم. ومضى العالم في طريقه نحو الحرب العالمية الثانية، تحت هتاف الجماهير الألمانية التي تملكتها الشطحة الصوفية، بينما بدأ (الدوتشي) هو الآخر، يرفع صوته مهدداً ذات اليمن وذات الشمال، ويشهر (سيفا الإسلام) الذي قدمه له بعض الوجهاء الليبيين، تحت قوس نصر شيد من أجل ذلك، في منتضف الطريق بين طرابلس وبنغازي، وقد بقي هيكله بعد الحرب العالمية الثانية، شهادة على عبث وجبروت الإنسان، كما تشهد على ذلك الآثار الرومانية التي سبقته في المكان نفسه بألفي سنة. ولكن عندما بدأت محطة (باري) إذاعتها، كانت حلقة (باهي) وحتى حلقة (صادق شقة)، تتحولان إلى حلقة واحدة من المستمعين إلى صوتها، ذلك الصوت الذي كان يذكرني فيما يخصني، بمحاولتي العابثة مع السفارة الإيطالية، وفي سفري الفاشل إلى (باري) بالذات قبل سنة.

ولا زلت أعاني المشكلة نفسها: ماذا أصنع؟ كان طوق الاستعمار يزيد كل يوم في خنق جميع وجوه النشاط حتى أتفهها، ولا يحصل عليه من يطلبه إلا بتدخل ذي جاه في قلم المخابرات. وأصبح صديقي (حشيشي مختار) يواجه هو الآخر صعوبات بعد سنوات جدب متكررة، وكان بحكم استقامته الفطرية، لا يحاول إيجاد مخرج له من شباك البركات الحكومية، غير أن الصدفة أعانته على إيجاد نشاط له في صفقات الحيل التي بدأت الجزائر تصدرها في تلك الفترة، لاستهلاك الجزارين الفرنسيين؛ فأعانه مادياً أحد تجار المدينة، لذلك أصبح صديقي يتردد بين الجرائر ومرسيليا بصفقاته، مستفيداً منها بقدر فائض ثمن البيع بنسبته من ثمن الشراء، ولكن ما طال الزمن حتى بدأ هذا القدر من الكسب يتقلص بسبب الجزارين الفرنسيين الذين خفضوا أكثر فأكثر تسعيرة الشراء، وبسبب شركات الملاحة التي رفعت تكاليف النقل، فما تغير مع ذلك صديقي ولا تلوثت مروءته في هذه الهزيمة العامة. وبقي خاصة وفياً لصداقتي في جو يتجنبني فيه كل من له ولاء للاستعمار أو رجاء في بركاته ... وإذا بصديقي يفاجئني عند عودته هذه المرة من مرسيليا: - ياسي (الصدّيق) هيئ نفسك لتسافر معي في صفقتي المقبلة. - كيف هذا ياسي (مختار)؟ ففسر لي الأمر بإيجاز: - إن بعض الإخوان أسسوا بمرسيليا منذ بضعة أشهر، نادياً أطلقوا عليه

(نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي) من أجل تثقيف إخواننا العمال هناك، واسترشدوني في مدير لمؤسستهم فأشرت عليهم باسمك فهم ينتظرونك. لا أدري هل شغلتني أكثر: الفرحة بالفرار المقبل من جو لم يبق لي فيه متنفس، أم العبرة من وفاء رجل الشعب الجزائري لفكرة (المؤتمر الجزائري الإسلامي) التي قضت نحبها في الرؤوس المثقفة مطربشة كانت أم مُعَمّمة؟ على أية حال لم يبق لي بتبسة ناقة ولا جمل، خاصة منذ رجعت زوجي إلى (دروكس) في منتصف الصيف، وبدأت الأشياء التي كانت تربطني بها عندما أعود في العطلات السنوية تعكس سيرها وتمشي القهقرى. ولم يبق مجال للقول لمن يعتقد أن واجبه أن يقول شيئاً، لأن كل ذي أذن أصبح ذا فم يتكلم .. وأصبحت الحياة التبسية تفقد كل ما كنت أتذوقه في بساطتها شبه البدوية، فلم يبق لي أي تعويض فيها، حتى في جانبها الطبيعي الذي استولى عليه هو الآخر، أو استمر فيه التدهور العام، يزيد كل يوم درجة في مَحْل الطبيعة وشبراً في قفرها. فوجدت إذن فيما عرضه علي (حشيشي مختار) سفينة النجاة، وبعد أيام وصلت معه وصفقته من الخيل إلى مرسيليا. ... حانة (المرايا) من الحانات الموجودة في ذلك الشارع الذي تؤمه بنات السوء وأولاده، لذلك يغشاها زبائن من نوع خاص؛ ولكنها مع ذلك المركز الذي يجتمع فيه أعضاء (نادي المؤتمر الاسلامي الجزائري) لأن صاحبها (التلموذي) هو مؤسس النادي. كان (التلموذي) من أهل (عنابة)، وربما كان يدين لهذا السبب بانسجامه التام في وسطه الجديد، فلم يكن من لا يعرفه خاصة يفرق بينه وبين

أي صاحب حانة مرسيلي، يجيد الحرفة في كيفية مناولة زبونه كأس (البسطيس) (¬1) وكيفية الحذيث معه حتى يقضي وطره. فعندما اصطحبني (حشيشي مختار) إلى هذه الحانة، شعرت بالحرج المزعج عندما دخلتها، إذ كنت في حالة من يتصور دور القس المسيحي على صورة مثالية، يراه يقضي مهمته التبشيرية في معبد، دون أن يتصور شيئاً عن مهمته الكبرى في النواحي المتدهورة من المجتمع. عانيت ذلك اليوم هذه العقدة التي تذكرني الآن بالحالة النفسية التي طالما شاهدت أثرها في سلوك المثقفين المسلمين، الذين يتعالون عن المهمات المتواضعة لأنها لا تغذي فيهم النزعة إلى الظهور، كما سأشاهد ذلك يوماً في سلوك أحد الطلبة التبسيين الذي أبى أن يتولى في مدرسة تبسة قسم الصبيان، لأنه تخرج من جامع الزيتونة فتوليته أنا. وليست هذه العقدة خاصة بطبقتنا المثقفة، سواء المطربشة أو المعمَّمة، بل نجد أثرها في سلوك أحد الوجوه اللامعة للأدب الفرنسي في القرن السابع عشر (بوسييه) الذي كان مكلفاً بمصلى الملك، لأنه كان خطيباً مصقعاً، فأبى في صلاة يوم أحد أن يلقي كعادته، خطبته الوعظية لأن الملك والأميرات لم يكونوا في القاعة. أما عقدتي فلم تكن مستولية عليَّ إلى هذا الحد، فالظروف التي أعيشها كانت تحد من تأثيرها في سلوكي، إذ لو طلب مني في تلك الفترة، أن أدخل لتعليم الحروف في حفرة إصطبل تجمع فيها أبوال الحمير، لدخلت بلا تردد فراراً من واقع مرير. ومما أعانني على التغلب عليها، أنني تعرفت منذ وصولي إلى حانة (المرايا) ¬

_ (¬1) نوع من المشروبات المسكرة يتناوله أهالي مرسيليا بوجه خاص.

بوجوه من العمال الجزائريين، لا زلت أحفظ لهم أعطر ذكرى، إذ لم تكن طائفة الجزائريين الذين قدمهم لي (التلموذي) ذلك اليوم، من مستهلكي (البسطيس) ولا من الذين يتعاطون الغزل المنحط، وإنما كانوا يفدون على هذا المكان لأنه أصبح بحكم ظروف خاصة، مكان ندوتهم عندما يجتمعون من أجل تسيير مشروعهم الثقافي. كانت ندوتهم ذلك اليوم من أجلي في قاعة خلفية، وكان (التلموذي) كلما وصل أحد الأعضاء، يترك مكانه وشغله في القاعة الأمامية، ويأتي معه ليقدمني: - هذا شيخنا سي (الصديق)، الذي سيقوم بإدارة مركزنا الثقافي. فيعقب (حشيشي مختار) على هذا التقديم: - لم يأت سي (الصدّيق) ليعلمكم فحسب بعض شؤون دينكم، إنه يستطيع أيضاً تعليمكم صناعة الزجاج أو صناعة الكاغد، إنه مهندس. كان صديقي يتولى هذا التعقيب بحكم وجهة نظره في الإصلاح لأنه لا يراه مجدياً إذا تناول جانب الدين فقط، ولكنني أشعر أنه يقصد أيضاً بتعقيبه الرفع من شأني في نظر الأعضاء، على عادة أهل الفطرة الذين لا يتكلفون في التعبير عن عواطفهم الودية، فيطلقون لسانهم يعبر بكل بساطة، حتى يكون أحياناً صديقهم محرجاً لا يعرف كيف يتفادى المدح الموجَّه له، ولكنني وجدت مصرفاً لهذه الخواطر العارضة في حديثي مع الأعضاء الذين أخذت حلقتهم تتسع حولي، فاسترسلت معهم على عادتي في أي حلقة أخرى، في الحديث على الوضع في الجزائر، خصوصاً بالنسبة للإصلاح، فكانت كلماتي المشحونة بكل ما أومن به وبكل ما أسخط عليه، تنفذ إليهم بحدة أرى أثرها على وجوههم، خاصة على وجه (سوالمية) الذي سيصبح صديقي والدولاب الفعال في حياة (نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي) تلك السنة.

نشأ (سوالمية) يتيماً في حي (القصبة) الشعبي بالجزائر، ثم انتقل طفلاً إلى مرسيليا، فنبت على أرصفتها بين أطفالها المشردين، وأصبح في ملبسه ونطقه وهيئته أحد هؤلاء العمال المرسيليين الكادحين بميناء مرسيليا، يعرف كل مسارب الميناء ودروبه، ويعرف كل شركات الملاحة وأسماء بواخرها الصادرة والعائدة بمواقيتها. كان ما يمكن أن نسميه (تيتي (¬1) مرسيليا)، وبقي مع ذلك متصلاً بالوسط الجزائري يعرف كل زواياه وخفاياه بخيرها وشرها، ولكنه لم يقترب من الشر مثل أولئك الذين تعاطوا الحشيش أو الكحول ليتسلوا عن مصائبهم، بعد أن شردتهم الظروف من مسقط رأسهم، وزرعت بهم شوارع مرسيليا حيث تغوص أقدام بعضهم في تلك الرمال المتحركة الموجودة في كبريات المدن مثل مرسيليا. كان (سوالمية) متجنباً حتى الحركة النقابية التي أصبحت مجرد شبكة صيد، إلى أن قصدت العمال الجزائريين لتصنع منهم كبش الفداء في الاضطرابات النقابية، أو حديدة الرمح في الاصطدامات بين المنظمات اليسارية واليمينية، خصوصاً منذ بدأت حركة (الجبهة الشعبية). وكان خاصة يعرف ما يهب وما يدب بشارع (لوشابولييه) الذي تحدثنا عليه في فصل سابق، والذي كان حديقة الحيوان تعرض فيها الحياة الجزائرية للسائح الأوربي المتجول في المدينة على ذوق الاستعمار، حسب إرادته في إظهارها في أبشع صورة، فكان (سوالمية) على إدراك تام بهذه السياسة اللعينة، وكان بوجه خاص يحقد على التجار الجزائريين الذين ينفذون هذه السياسة في مطابخهم ومقاهيهم: - لعنهم الله إنهم يتاجرون بكرامة وطنهم ويستغلون بؤس إخوانهم! .. ¬

_ (¬1) كلمة شعبية مستعملة في باريس للتعبير عن الفتى الذي ينشأ في الشارع وهو حاذق لبق.

كانت هذه كلمات التعقيب التي يختم بها (سوالمية) كلامه، كلما جرى الحديث على شارع (لوشابولييه). فأصبح منذ لقائنا الأول، بحانة (المرايا) صديقي الحميم، وسيكون دليلي المخلص طيلة إقامتي على رأس المؤسسة، وها هو ذا يبدأ مهمته معي منذ حديثنا الأول، الذي انتهى بتوصية (التلموذي) له: - لعلك تأخذ معك اليوم سي (الصدّيق) إلى شارع (فوشييه) ليتعرف على النادي ... ودعانا (حشيشي مختار) للغداء، فتناولناه في مطعم قريب، ثم انطلقنا إلى شارع (فوشييه) حيث قابلنا الرقم ستة عشر، يمتد على طول واجهة المحل المطلي بطلاء جديد مثل الباب الكبير، يتوسطها هذه اللافتة (مركز المؤتمر الجزائري الاسلامي للثقافة (¬1)) تجاه مؤسسة مسيحية للتعليم على واجهتها هي الأخرى، لافتة (معهد سان جاك). ويختلف مظهرها تماماً عن مظهر النادي الجزائري، كما يختلف الشيء الذي يضرب عروقه في التاريخ عن الشيء الذي نشأ حديثاً على الرصيف. تقدم (سوالمية) بمفتاح كبير في يده، ففتح باب النادي أمامنا وقدمه إلينا: - إنه ورشة حداد سابقاً ... دخلنا قاعة مستطيلة عميقة الغور، بيضوا جدرانها بالجير الناصع، وفي أعلى جدارها الأمامي قبالة الباب، كوة لا صغيرة ولا كبيرة كانت تضيء الورشة. ¬

_ (¬1) هذه ترجمة العبارة الفرنسية بالحرف، أما في الحديث فكان الناس يقولون (نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي).

وعلى اليسار عند المدخل قاعة صغيرة، يفصلها عن القاعة الكبيرة جدار خشبي، وتضيئها نافذة عادية مطلة على شارع (فوشييه) قبالة باب المؤسسة المسيحية، ربما كانت سابقاً مكتب الحداد، فقدمها (سوالمية) لنا: - هذا مكتب النادي ... كانت النظافة تسود المكان، فارتاحت نفسي له، وبدأت أفكاري تعود إلى مجراها، بقدر ما بدأت أنسى حانة (المرايا) وأتصور الحياة بالنسبة لمهمتي في هذه الورشة، مع العلم أن زوجي ستتولى بمواهبها النادرة بوصفها نجارة وخياطة وسيدة منزل ماهرة، جانب حياتي المادية، دون أن أفكر لحظة واحدة في الراتب الشهري، ودون أن يكلمني فيه أحد، وإنما اقتنعت بحسن النية التي شعرت بها عند الجميع، وخصوصاً بتصميم (سوالمية) في الموضوع، ورأيته فعلاً ينطلق ذلك المساء إلى كل مكان فيه جزائري، وإلى كل مطابخ ومقاهي شارع (دوشابولييه) ليعلن النبأ: - إن الشيخ (الصديق) قد وصل وسيعقد أول اجتماعه في النادي يوم الأحد المقبل. ولم يبق لي إلا أن أقوم عن كراهية أو رضا بدوري الجديد، دور الشيخ غير المعمم. وأتى اليوم الموعود، وحوالي الساعة الرابعة مساء، كانت القاعة مكتظة، وافتتح (التلموذي) الجلسة، فتكلم عن واجب إنعاش المؤسسة بالاشتراكات الشهرية. وتكلم بعده عضو آخر من هيئة التأسيس فقال: - قد أتانا بصيص من نور مع الشيخ (الصديق)، إن قمنا بواجبنا يصبح مضيئاً، وإن تركناه ينطفئ ..

إنني أتذكر إلى اليوم، هذه الكلمات التي ختم بها كلامه، ففاضت عيناي دمعاً، لا لأن الكلمات وجدت غروراً في نفسي، بل كانت أول رد سمعه الاستعمار من فم رجل من الشعب الجرائري على موقفه الوحشي تجاهي مع أسرتي منذ سنوات. ثم تكلمنا بلغتنا الدارجة حتى أتممت، فأصرّ (حشيشي مختار) أن أتكلم أيضاً باللغة الفرنسية، فتكلمت لإرضاء الصديق الذي يحرص على إبراز قيمتي لدى المستمعين. كان بجنبي على المنصة (سي الجيلالي) أحد أعضاء هيئة التأسيس، الرجل الطيب الذي لا ينسيني الدهر محياه وفضله، فارتمى في أحضاني، عندما انتهيت يقبلني ويبكي. لم تكن المقاعد كافية في القاعة، فكان جل الحاضرين وقوفاً، وبدأت المناقشات الفردية تجري مجراها في صفوفهم، وقد تبددت من على وجوههم علامات البؤس، حتى من وجوه العاطلين عن العمل الذين كانوا يكوّنون نسبة كبيرة في جالية العمال الجزائريين، وفي هذه اللحظة من السعادة الشاملة شعرت بأنني سعيد، سعيد بأول انتصار لي على الاستعمار، وبشعور من يخرج من قبر قُبِر فيه حياً. ولم أكن أعلم بعد أن هذا الشعور سيلازمني في حياتي، لأنني أكون دوماً في حالة من يُقْبَر .. وفي حالة من يخرج من القبر حياً. كنت في لحظة خروج من القبر؛ وقبل رفع الجلسة أعلن (التلموذي): - أيها الإخوان، يجب علينا حضور التظاهرة التي ستكون يوم كذ في قاعة سينما كذا. لأن صديقنا (برنارد لوكاش) سيتكلم فيها. لم أكن أجهل هذا الاسم، لأن صاحبه كان له دور في الحياة العامة الجزائرية

في تلك الحقبة، ونستطيع تعريفه بأنه من الرعيل الأول الذي سبق (التقدميين) الذين لهم علاقة بقضايانا، منذ نشأت الحركات الوطنية في الشمال الإفريقي يشملها عطف اليساريين، ومنذ كانت جريدة (الأمة) لسان حال الحزب (المصالي)، تطبع على مطابع (الدولية الرابعة) التروتسكية بباريس، الأمر الذي كان يؤدي بـ (علي بن أحمد) إلى حالة تشنج الأعصاب؛ وسوف يكون لهذا العطف دوره أثناء الثورة الجزائرية عندما كانت قيادتها المفكرة في القاهرة وتونس تستمد وحيها من الصحافة التقدمية. إذن كنت أعرف جيداً (برنارد لوكاش) زعيم الحركة (ليكا Lica) التي تجمع تحت رايتها اليهود لمواجهة الخطر الهتلري والخطر العنصري، الذي بدأ يظهر أثره في جانب من الرأي العام الفرنسي، على أبواب الحرب العالمية الثانية. كانت الجماهير من العمال الجزائريين تستخدم جهاز وقاية في الاصطدامات التي تحدث في مثل هذه التظاهرات، وتستخدمها أحياناً الحركات اليمينية للغرض نفسه. بينما كان الرأي العام في العالم متعلقاً بأحداث الشرق الأقصى، حيث تواصل اليابان حربها التوسعية ضد الصين، وكانت يومئذ تشرع في هجومها الكبير على ميناء شنغهاي، ليحطم طيرانها أكواخ الأحياء الشعبية الصينية وقصور مناطق النفوذ الأوربي. كنت أتتبع العمليات العسكرية على خريطة وأجدها بطيئة، مثلما كان بعض الفرنسيين منذ سنتين، يستبطئون تقدم الجيش الإيطالي بأرض الحبشة، غير أن مسوغاتي كانت تختلف عن مسوغاتهم: كنت أرى ضرورة تكوين دولة آسيوية قوية لتقف في وجه الاستعمار، وكنت مؤمناً بإخلاص اليابان نحو آسيا.

وكان هذا يذكرني بمذاكراتي مع صديقي الطالب الصيني بباريس، الذي لم يكن بدافع وطنيته مقتنعاً برأيي في كيفية تحرير بلاده على يد اليابان، الأمر الذي ربما زاد في تحفظي في تلك الفترة إزاء كل الحركات الوطنية، فأصبحت أرى في كل وطنية منحصرة في قضية وطن خيانة لقضية أكبر، ولم يكن فيما أعتقد، أحد على مذهبي هذا سوى (علي بن أحمد). وفي هذه الأثناء مضت مظاهرة (برنارد لوكاش)، فكنت يومها إلى جانب (حشيشي مختار) في القاعة، وقد احتشد كثير من العمال الجزائريين، وكان (التلموذي) إلى جانب (برنارد لوكاش) على المنصة مع ممثلين آخرين للحركات اليسارية. وعند انتهاء المظاهرة أقيمت حفلة شاي على شرف (برنارد لوكاش)، فدعي لها ممثلو (نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي) وكنت مع (حشيشي مختار) من بينهم. فتناول رئيس المنظمة اليهودية الحديث مرة أخرى، بمحضر عدد من وجهاء مرسيليا نساء ورجالاً وشباناً، وتلطف خاصة مع الجزائريين الحاضرين، فطلب مني (التلموذي) أن أرد عليه، وأيّده بطبيعة الحال (حشيشي مختار) حتى لا تفوت على صديقه فرصة تعريف بنفسه في وسطه الجديد. فتلطفت أيضاً، ولكن الفرصة كانت ثمينة للتعريف بوحشية الوضع الاستعماري في الجزائر، فعرفته بإيجاز متجنباً في كلامي كل ما يجعل منه مرافعة ضد الشعب الفرنسي حتى لا نجرح عواطف الحاضرين، ولكن مبيناً لقسوته على الشعب الجزائري، فكنت ألاحظ عبارة الانكماش تنطبع على وجه (برنارد لوكاش) بقدر تصويري لتلك الوحشية، لا لأنه فوجئ بالصورة، إذ هو يعرفها بحذافيرها، بل لأنه كان ينتظر مني الفظاظة والعجرفة التي تجرح العواطف عوض أن تنيرها، كان ينتظر مني ذلك لمعرفته بأسلوب مثقفينا بنوعيه فإما

الإطراء والمدح أو التهريج والتهييج، فكأنه خاب أمله في تلك المناسبة، خصوصاً إذا رأى ما لاحظه صديقي (حشيشي مختار) حسبما ذكر لي بعد الحفلة، من أن بعض السيدات من الحاضرات كن يبكين أثناء كلامي. فعلاً لقد تكلمت باتران، ولكن بنبرة وجدانية رسمت من خلالها في صوتي صورة حياة الشعب الجزائري التي كانت تمر أمام عينيّ وأنا أتكلم. فلما انتهت الحفلة، وقمنا من حول المائدة المحفوفة بالزهور، التف حولي بعض الشبان من الحاضرين يشكرون ويسألون. فكانت بيني وبينهم في القاعة، لحظة اتصال بين قلوب تخلصت من أسر ما يفرقها، وإذا برجل يتقدم ويشق الجمع الذي كان حولي، ويقول لي: ياسيدي ... تعلم أن الفرنسي حساس وذوقه رقيق يحب الحقيقة، ولكن الحقيقة المحتشمة التي لا تقرع بعنف الذوق العام. ففهمت في الحين، أن الرجل لم يقدم لي نصيحة، وإنما تقدم بمكيدة ليعكر جو التفاهم والتآخي الذي ساد المكان، وأدركت في الحين أن الرجل يهودي، وأن هذا الأسلوب في التفريق بين البشر هو بالذات هويته. إنني أتذكر هذه القصة بعد ثلاثين سنة، متأسفاً على أنني لم أر عليه: - إنه لطعن في الذوق الفرنسي العام، إذا عددناه عاجزاً عن التواضع أمام الحقيقة حتى الحقيقة المرة ... ولكنني لم أرد عليه بشيء يومئذ، وفي الغد أو بعد الغد ودعت صديقي (حشيشي مختار) الذي عاد إلى الجزائر. ***

كان موقع النادي بشارع (فوشييه) نقطة استراتيجية مهمة بالنسبة لنشاطه الذي يتضمن أسبوعياً، درساً لحلقة تلاميذ عشية كل سبت، وبمحاضرة عامة للجمهور عشية الأحد، فكان الموقع يساعد على تطبيق هذا المخطط الثقافي البسيط، شارع (فوشييه) ورقمه السادس عشر خاصة حيث النادي يوجد داخل المثلث الذي تكونه عناصر استراتيجية ثلاثة: ميدان (ايكس) حيث الجمهور من العمال والعاطلين الجرائريين، وشارع (لوشا بولييه) حيث يرجى المدد، وحانة (المرايا) القيادة العليا حيث تصدر التعليمات. ومع هذا لن يكون لهذه العناصر مجموعة أو مفردة أي تأثير في حياة النادي فيما بعد، لو لم يتدخل عنصر آخر، هو مزيج من الشعور برسالة ومن الواجب نحو قضية مقدسة، ومن نشاط متفانٍ من أجلها. كان هذا المزيج مركباً في ذات (سوالمية)، تركيباً يستدعي الإعجاب، فشرعت معه منذ الأسبوع الأول في تطبيق المخطط الثنائي الذي تقرر قبل عودة (حشيشي مختار) إلى الجزائر. فنقر سوالمية الناقورة في كل صوب وحدب، معلناً: - يا من يأتي يوم الأحد لمحاضرة الشيخ (الصديق)، بشارع (فوشييه) رقم ستة عشر! ... ثم نقره ثانية: يا من يريد أن يكتب بنفسه خطاباته لأهله بالجزائر، عليه أن يحضر درس الشيخ (الصدّيق)، ليتعلم! ... فكان ترتيب المحاضرات أمراً يسيراً بالنسبة لي لأنني تعودت في تبسة، الحديث إلى الجمهور بلغته وأستطيع أن أبسط بها حتى الموضوعات الاجتماعية الدقيقة.

أما ترتيبات الدروس فلم تكن بالأمر اليسير. بدأت أتساءل أمام حلقة تلاميذ تختلف كثيراً أعمارهم، وسوابقهم الذهنية، حسب منشئهم بالريف أم بالحضر، بدأت أتساءل عن ماهية الدروس وكيفيتها. لقد كان الدرس الأول مجرد تجربة لي، واتصالاً برجال لا أعرف منهم إلا الوجوه، فتعمَّدت في الدرس الثاني أن أتعرف عليهم بالأسماء، فشرعت أسألهم وأسجل بالتوالي الأسماء والأعمار. كان أصغرهم (بن يحيى السعدي) قد نزح من مسقط رأسه (وادي أميزور) بجبال القبائل، وقد كان يرعى بعض الشياه ولا يزال طفلاً دون السابعة عشرة من العمرة، ولا تزال على وجهه ملامح البراءة. وكان جالساً في الصف الأول وسيبقى مكانه إلى أن أغادر مرسيليا. ومضيت أسأل حتى وصلت إلى الصف الأخير، وتوقفت عند رجل مسن ذي قامة طويلة وهيكل متين، فسألته: - ما هو اسمك؟ .. - (تاشفين عبد الله)! .. لقد تركني الجواب لحظة متوقفاً كأنه قطع بي النفس، فأعدت: - ومن أية ناحية؟. - من تلسان! .. فبقيت تائهاً، إن الاسم والمكان قد اقترنا في ذهني مع صفحة طواها التاريخ، بينما أتصور في لمحة بصر مظهراً مؤثراً من المأساة التي نعيشها: - هل يمكن أن يكون هذا الرجل من أحفاد (يوسف بن تاشفين) مؤسس دولة المرابطين بالمغرب؟ وأن تلقي به الأيام في هذه السن على رصيف مرسيليا؟ ... هل هذا ممكن؟ ..

اختلجت في نفسي هذه التساؤلات فعدت: - ماذا كنت تصنع بتلمسان، قبل أن تأتي إلى فرنسا؟ - كنت مؤدباً في أحد الكتاتيب، أحفّظ القرآن للأطفال. ولكن هذه الحرفة أصبحت لا تضمن لصاحبها القوت إن كان له عيال. كانت هذه الكلمات البسيطة معبرة أكثر من أي خطاب، أو من أي دراسة عن التحولات القاسية التي فرضها الاستعمار في الجزائر، إن المأساة التي بدأتُ قبل عشرين سنة، أشعر بأثرها في بيت خالتي (بهية)، ومن حياة الأسر القسنطينية الكبيرة والأسر التبسية العريقة (¬1)، قد تجلت لي الآن بكل وضوح في شخص (تاشفين عبد الله) ولكن هل هو يشعر بها؟ أردت أن أتأكد من ذلك، فسألته سؤال من يغتنم الصدفة: - هل احتفظت أسرتكم يا عبد الله ببعض الوثائق القديمة؟ فسكت عبد الله هنيهة، كأنه يأخذ منطلقاً في نفسه ثم قال: - الغريب أن هذا السؤال قد سبق للعامل الفرنسي بناحيتنا أن سألني مثله؟ .. فلم استغرب سؤال العامل، وبقي علي أن أجيب على تساؤلي في تقرير برنامج تعليم يليق بمثل هذه الحلقة، التي يختلف أفرادها في الأعمار والتكوين والسوابق الذهنية إلى حد بعيد. والأمر الذي تقرر في نفسي منذ اللحظة الأولى، هو أنني لا أستطيع على أية حال، أن أشق بتلامذتي طريق التعليم الذي سطره (الروتين)، والذي تعبّده ألف باء، تاء، ... وواحد، اثنان، ثلاثة ... لا بد إذن من التفكير في طريق آخر، خاصة أن اطمئناني تجاه الظروف ¬

_ (¬1) أشير إلى هذه الحالة ببعض التفصيل في الجزء الأول (الطفل).

كان ضعيفاً، ولم أكن أتصور أنها سوف تمهلني حتى تنتهي مهمتي بنادي (المؤتمر الإسلامي الجزائري)، كما لم أكن أيضاً أتصور أن ظروف التلاميذ أنفسهم ستسمح لهم بالبقاء معي الزمن الكافي، على احتمال أن النادي هو الآخر، يبقى على قيد الحياة، وهو مجرد احتمال إذا نظرنا إليه بصفته مؤسسة ليس وراءها من الرصيد والضمانات ما وراء معهد (سان جاك) قبالته، وإذا نظرنا أيضاً إلى أن علاقتي الشخصية به مديراً قد تضرّ به لأنها تغضب السلطات العليا. أصبحت هذه الاعتبارات عادية بالنسبة لي، فقررت على أساسها ألا يكون مضمون البرنامج، في تلقين معلومات قد لا يكفي الوقت لتلقينها، بل في تكوين شخصية ذات أبعاد ربما تكونها طفرة واحدة، هزة أو بعض الهزات النفسية. فاتضح الموضوع في ذهني: إنني سوف أعلم التلاميذ القراءة والكتابة بطبيعة الحال، حتى يستطيعوا إمضاء اسمهم على الأقل، في مكتب بريد أو في إدارة عملهم، ولكنني سأحاول جهدي قبل أي شيء، أن أغير أبعادهم النفسية؛ ولم أكن أرى شيئاً يصلح لهذا الغرض مثل مفهوم (اللانهاية) الذي يفتق فعلاً الحدود العادية في النفوس، كل النفوس المرتبطة في أول نشأتها بعالم الأشياء المحدودة بطبيعتها، وليس من وسيلة تعبر بطريقة مُحَسَّة على مفهوم اللانهاية، مثل الأعداد الكبيرة. فعندما يتعود الطفل أو التلميذ المسن، كتابة عدد كبير تحت إملأاء معلمه، ثم عدد أكبر .. ثم أكبر .. فأكبر .. فإن الشعورب (اللانهاية) يتكون عنده تلقائياً، نتيجة انفجار داخل حدوده العقلية السابقة. إنني أعتقد أن الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- اكتشف هذا الأثر في نفسه، يوم أتاه أحد عماله بفيء، وقال! له:

- يا أمير المؤمنين، إنني أتيتك بثمانين ألف ألف. فقال له رضي الله تعالى عنه: - ماذا تقول؟ أثمانون ألف؟ .. فصحح العامل بطريقة تحليل العدد: لا يا أمير المؤمنين، بل ألف ألف، ثمانون مرة. فكان تعقيب الخليفة أنه عبر عن دهشته: - أهذا ممكن؟ .. بينما كان رضي الله تعالى عنه، قد دخل في عالم (اللانهاية) يوم اعتناقه الإسلام بالذات، لأن الوارد على عالم (اللانهاية) يدخله إما من باب الأعداد الكبيرة أو من باب علم الفلك ... فقررت أن أدخله بتلاميذ حلقتي من باب الأعداد الكبيرة، ومن باب علم الفلك المصغر أي الجغرافيا. ولكن الباب الأول كان يوجب طريقاً مختصراً نسير عليه، وللقارئ أن يتعجب إن أراد التعجب، ولكن بعد ثلاث أو أربع حلقات، أصبح هؤلاء الذين لم يكونوا يعرفون كتابة الأعداد العشرة الأولى، يستطيعون كتابة ما شاؤوا من البليونات والتريليونات بلا أي تردد؛ فاقتصد التلاميذ بفضل الطريقة المتبعة، أشهراً من التمرين وعاشوا أثناء تمرينهم المختصر، لحظات منعشة كنت أتصورها في نفوسهم خلال خطواتهم الجادة نحو (اللانهاية). وأثناء هذه الخطوات ذاتها، بدؤوا يتمرنون على العمليات الأربع، وعلى تطبيقها مباشرة في حل مسائل حسابية بسيطة، لأن عمرهم يسمح بهذا الاختصار.

فامتاز، مند الحلقة الأولى، أصغرهم (بن يحيى السعدي) الذي سيصبح بعد ثلاثة أو أربعة أشهر، يستطيع حل بعض المسائل في مستوى الإعدادي، ويحرر باللغة الفرنسية بصورة عجيبة. وامتازت معه نخبة من التلاميذ الشبان كونت مجموعتهم هيئة أر كان حرب حول الشيخ (الصدّيق)، الهيئة التي سيعينها ذات يوم لشراء خريطة كبيرة للعالم، من دون أن أتدخل معهم في الشراء كي يتولوا بأنفسهم حتى يتغلبوا على عقدهم النفسية الموروثة من بيئة بدائية. لا أستطيع أن أصور الانطباعات التي ظهرت على وجوه التلاميذ، عندما وصلت الخريطة إلى النادي أمامهم تحت النافذة التي كانت تضيء ورشة الحداد، وشرعنا في الدخول في عالم اللانهاية من الباب الثاني: - من أين أنت؟ قلما كان يأتي الجواب على مثل هذا السؤال، إلا بذكر اسم مسقط الرأس، ولو كان قرية مهما صغرت، ولو ولد المسؤول بغار فأر لا يوجد اسمه حتى في خريطة الناحية لاقتنع مع ذلك بذكره. شرع التلميذ يوسع تصوره المكاني للوجود، من القرية إلى الحوز فالناحية، وإلى العمالة، وإلى الوطن، وإلى القارة، ثم إلى الكرة الأرضية؛ وفي كل خطوة يشعر أن حدود عقله تتسع، ثم إذا أتى السؤال: - وأين توجد الأرض؟ ... يتصور القارئ ما يحدث في عقل التلميذ وفي نفسه وهو بالأمس أمي، عندما يرى أنه يستطيع الجواب عليه، ويشعر أنه انتصر على حدود عقلية ضيقة ورثها في كل تصوراته في وطن ورث هو الآخر رواسب ثقافة متدهورة، منذ

التدهور الحضاري الذي اجتاح البلاد، ومنذ أصبح فيه كل شيء في يد الاستعمار. ولكن للخريطة ميزة أخرى في التكوين، فإذا كان الحساب ينبه العقل للكم، فإن الجغرافيا تنبهه للكيف، أي الاختلاف بين الأجناس والرقعات الحضارية، والمواصلات بأنواعها والإنتاج بأنواعه المختلفة حسب المناطق والجهات، أي لكل انعكاسات العبقرية البشرية على سطح الأرض. وكان الحديث على هذا الجانب الكيفي، يسوقنا بطبيعة الحال إلى الحديث في الموضوعات السياسية والأخلاقية وفي السلوك خاصة: - يجب ألا تمشوا على الرصيف مشية البهائم التائهة، تسدونها على المارة، يجب أن تتقنوا عقدة الرقبة ما دمتم تستعملونها، يجب أن تقصوا شعركم بطريقة تحسن صورتكم. يجب أل اتتكدسوا بميدان (إيكس) مثل الذباب على المزابل، يجب بصورة عامة أن تخالفوا ذوق شارع (لوشابولييه) وأسلوبه، وألا تظهروا بالمظهر الذي يطبعه هذا الأسلوب، حتى لا تتعرضوا لسخرية المرسيلي المتهكم ... كنت أكرر هذه التوصيات في كثير من المناسبات، وأعود لها في كل مناسبة جديدة، وفي المكان الذي كان ورشة حدادة يضرب على قطعة حديد ليصوبها، ويجعل منها شيئاً جديداً، وأصبحت أضرب على كل اعوجاج في الذوق أو في السلوك لأسويه. بدأت أشعر بتغيرات في نفوس التلاميذ، بل بدأت أرى بعد شهرين أو ثلاثة، تغيرات ظاهرة على وجوههم. لقد كان نظرهم عندما تعرفت عليهم للمرة الأولى، لا يعبر عن شيء، كأنه خالٍ من أي فكرة؛ وعندما ينعكس فيه انفعال داخلي، يبرق بريقه بحدة الحيوان الضاري. فأصبح نظرهم يشع إنسانية، ويعكس حياة داخلية تحركها فكرة أو يلونها انطباع، أو تشع فيها عاطفة.

ومما لاحظته على وجوههم أن شفاههم المفتوحة مثل شفتي الصبيان، انطبقت كأن إرادة داخلية أغلقتها. وبهذا وذاك تغيرت صورة الوجه، فأصبحت أشاهد مشاهدة العيان، أثر الحركات الباطنية لحياة الإنسان في تكييف ملامح وجهه. كنت أرى من دون أي جهد كيف يتغير الوجه، عندما تمسك يدٌ القلم وتتحرك .. كنت أعيش تجربة مؤثرة، تكشف لي عن حقيقة أدركها لأول مرة، ألا وإن الحضارة التي تضع على عالم الأشياء طابعها الخاص، تضعه أيضاً على وجه الإنسان، فتجعل عليه مسحة الجمال. فإذا كان اليوم الجمال النروجي يحوز قصب السبق، في مباريات الجمال العالمية، لتعيين أجمل امرأة في العالم، فما يعود هذا للعرق، لأنني لا أعتقد أن المرأة النروجية كانت جميلة، حين لم يكن حول رأسها سوى شعرها الباهت، ولم يكن شيء داخله. ولكن لم يكن هذا الجانب العذب من حياتي في تلك الفترة، يغطي جانبها الآخر، الذي كان عبؤه الثقيل يقع على زوجي وحدها، لأنها التحقت بي منذ الشهر الأول لتأخد مسؤولياتها في هذا الجانب المادي. لم يأت المدد المنتظر من شارع (لوشابولييه) ولم يكن ليأتي منه مدد لتقاعس أصحاب المتاجر الجزائريين فيه من ناحية، وذلك لأن النادي أصبح منطلق كل التهجمات الموجهة ضده، بوصفه مخبراً يصنع فيه الاستعمار الجراثيم السيكولوجية التي من مهمة النادي مقاومتها في كل مناسبة، وخاصة عشية كل أحد.

ولم يكن (التلموذي) بالذي يهمه هذا الأمر حسبما يبدو، وخاصة لأنني قطعت زياراتي لحانة (المرايا) أو قللتها كثيراً. فكانت ميرانيتنا الشهرية خفيفه والمسؤوليات المادية على زوجي ثقيلة، بينما أُضيفت إلى النادي صلاحية جديدة، بأن أصبح نقطة إسعاف يجد فيها التلميذ الطبيب والدواء، فزوجي اكتشفت في نفسها واكتشفت فيها موهبة الطبيب في حالات تعالجها بالأعشاب البسيطة، حققت بها فعلاً بعض المعجزات. والمرأة على وجه العموم تحركها النزعة إلى الأمومة التي ترهف حساسيتها، وتحدّ بصرها في ملاحظة التفاصيل الدقيقة الطفيفة التي غالباً ما تفوت الرجل؛ فأي حبة صغيرة تبدو على وجه طفل تفوت غالباً ملاحظتها على الأب، بينما تلاحظها الأم منذ اللحظة الأولى. كانت (خديجة) أم النادي ترى في لمحة بصر كل ما يدور في داخله أو حوله، فلاحظت ذات يوم من خلال الستار الشفاف الذي أسدلته على زجاج نافذة المكتب، أن القس مدير معهد (سان جاك) يراقب حركات النادي؛ ورأته ذات يوم يعبر عتبته ويتحدث مع أحد التلاميذ في غيابي، فسألت التلميذ فقال لي: إن القس سأله عن ماهية الدروس، ثم عبر له عن رغبته في التعرف علي. لم يكن لديّ أي مانع من ذلك، بل سعدت بما كان في هذه الرغبة من حسن جوار، ولكنني لم أرَ القس، وأنستنيه مشاغل أخرى، إذ كان في تلك الفترة ممثل حزب (مصالي حاج) يتصل في الخارج بتلاميذ، يلقي أو يحاول أن يلقي في نفوسهم الريبة تجاه النادي وصلاحيته ووطنيته، وكنت دوماً أتفادى هذه الإيحاءات السلبية بتحميل أولئك التلاميذ الدعوة إلى صاحبها:

- ادعوه يحضر يوم الأحد، وله حتى الكلام، يقول ما يشاء أمامكم وأمامي. ولكن هذا كان يتجنب الحضور، لأسباب تجعله يفضل دون أي شك، الوشوشة على الوضوح، والعمل المقنع على العمل الصريح. فلم أره مثل القس. ثم استدعتني مع (سوالمية) جبهة أخرى، أتاني صديقي يوماً بنبإ حلقات تعقد كل مساء بساحة من ساحات مرسيليا، يجتمع بها الناس من كل الألوان السياسية، ويتناولون مشكلات الساعة، ومن بينها قضية المستعمرات بطبيعة الحال، فرأى (سوالمية) أن نذهب للرد على أولئك الذين يرون رأيهم في القضية الجزائرية، في الوقت الذي تأسست فيه حركة (شباب الامبراطورية) وقد أسسها بباريس ابن رئيس الحكومة الفرنسية (دلادييه). ذهبنا إذن لنقرع الحديد مع (شباب الامبراطورية)، خاصة في الحلقة المهتمة بالجزائر، فوجدنا وجوهاً ونغمات تختلف بين ما نسميه اليوم (الرجعي) و (المعتدل) و (التقدمي)، وبين أصحاب (الخبرة)، أعني الذين يعلمون بعض الحروف الهجائية فيما يخص الشعوب المستعمرة، والذين لا يعلمون إلا أنهم يتكلمون بقريحة قلوب طيبة. فكان علامة وخبير (الحلقة الجزائرية)، مراسل صحيفة مرسيلية، يفرط في الحديث عن الإسلام، ويفرط خاصة في اللفظ باسمه مشوهاً: - الإسلان كذا. والإسلان (¬1) هكذا. ولم يكن في حلقة المعجبين من يرد عليه، سوى رجل واحد، عرفته فيما بعد عضواً في الحركة الفوضوية، لم يكن في استطاعته تصحيح لفظ الصحافي ¬

_ (¬1) هذا تقريب للتشويه الصوتي بالنطق الفرنسي.

(الخبير) ولكنه كان يقاوم بعنف آراءه السياسية في الاستعمار والمستعمرات، فوقفنا إلى جانبه، فبدأ الصحافي يتقهقر ذلك اليوم وفي الأيام التالية ويتراجع عن بعض آرائه، إلا عن لفظه المنحرف بكلمة إسلام، واستمر يقول: - الإسلان كذا ... والإسلان هكذا ... إن العادات طبائع ثانية يصعب تغييرها. ثم أتت صرخة النفير من جهة أُخرى، على أثر شكوى رفعتها للرأي العام سيدات المنازل بمرسيليا، بسبب ارتفاع أسعار البقول الواردة من الجزائر، ففسرت الصحافة هذه الظاهرة منذ الغد. - إن السبب في ارتفاع الأسعار يعود إلى طريقة العمل بميناء وهران وميناء عنابة، فعمال الشحن الجزائريون يؤدون عملاً بطيئاً كسولاً .. ويبدو أن الصفعة حركت الهمم، فجمع (التلموذي) هيئة أركان حرب النادي لدرس القضية، فكلفت بتحرير الرد الذي وجهت منه نسخة مسجلة لكل صحيفة مرسيلية، فلم تنشره واحدة بطبيعة الحال. ولكن كانت ساحة الحلقات السياسية حافلة ذلك المساء، بمناقشات حادة في الموضوع، وكان عضو (الحركة الفوضوية) في موقف جاد لم أره فيه من قبل، فكان يختنق في مشادة كلامية مع شاب، ربما من (شباب الامبراطورية)، وكاد (سوالمية) يخنق الشاب. فكانت معركة حامية الوطيس! ... ولكن ستأتي معركة أشد ضراوة، كنا في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1938. كان العالم يدوي من صوت هتلر وموسوليني، وإذا بمقياس الحرارة يعلن درجة الانفجار يوم دخل العالم في أزمة تشيكوسلوفاكيا، فانتعشتُ لأن الساعة التي كنت أنتظرها منذ سنة 1936 أصبحت على الأبواب.

بدأت برقيات الولاء ترد على الحكومة الفرنسية من الجزائر، أما حرب (مصالي الحاج)، الذي اتخذ اسماً جديداً (حزب الشعب الجزائري) منذ سار في موكب (الجبهة الشعبية) سنة 1936، ففضل السكوت سواء في فرنسا أم الجزائر. وبلغت الأزمة أوجها يوم 28 أيلول (سبتمبر)، فنظمت ذلك اليوم الحركات اليسارية تظاهرة دعي إليها النادي فكنت ممثله، وبدأت في القاعة المكتظة الخطب حسب التقليد المألوف، فأتى دوري فتلخص خطابي في اقتراح: - يجب على هذا المؤتمر للقوى التقدمية أن يوجه اليوم برقية إلى الحكومة يطالبها بمنح شعوب الشمال الإفريقي حقوقها، حتى تدخل المعركة من أجل الديمقراطية شاعرة بكرامتها لا بوصفها مرتزقة. في آخر الجلسة قرئت على الحاضرين لائحة التوصيات، فلم أجد فيها اقتراحي ولا مجرد التلميح إليه، فاقتحمت المنصة لألفت النظر إلى هذا النسيان، ولم أصرح بأنه تناسٍ، فهاجت القاعة وقامت خصوصاً السيدات تهتف لي. ولم أحصل صباح ذلك اليوم إلا على هذا الهتاف دون أن أفاجأ في الأمر بشيء، بينما العاصفة بدأت تدمدم، فكانت ريحها تهز في العالم أمواجاً عارمة، وتبعث في نفسي البشرى بالغرق العام الشامل، لسفينة أُحيطت من كل جانب، فلم يبق لمن فوقها رجاء إلا في الموت، خاصة من أخذه الهم قبل الآخرين مثلي. ولكن مهما تكن أخطار الموت تحيطم بالمرء، فإنه يشعر بمهمات الحياة حتى اللحظة الأخيرة، لذلك لم أعد بعد خيبة الأمل التي أصابتني ذلك الصباح بمؤتمر الحركات التقدمية، أفكر في تلافي تلك الخيبة، فكلفت (سوالمية) بصرخة النفير في الأحياء التي يؤمها الجزائريون، بأن يأتوا عشية إلى النادي لاستماع خطاب على الوضع الراهن، فما دقت ساعة الوعد حتى أتت من كل حدب وصوب، حتى

من شارع (لو شابولييه)، حشود من العمال اكتظ بها النادي وامتلأ الشارع أمام معهد (سان جاك). لم يكن الظرف يوحي بالتحفظ، فكنت صريحاً: - إنه سيطلبون منكم دماءكم. فبادروهم بطلب حقوقكم! .. كان هذا فحوى الخطاب، وكان فيما أعتقد مسجلاً في نفوس كل الحاضرين! ... ثم بقينا وبقي العالم في الانتظار حتى المساء، حين أعلنت وكالات الأنباء، أن هتلر اتفق مع (دلادييه) و (شانبرلان) على اقتسام تشكوسلوفاكيا التي قضت نحبها دولة يوم 28 أيلول (سبتمبر) 938 1، يوم ميونيخ! .. لقد كنت في الحقيقة أنتظر إلقاء القبض علي ذلك النهار لأنني لم أكن بعد تعودت أسلوب الصراع الفكري. ولكن بعد أيام من ذلك الأسبوع وردت علي، من أكاديمية مرسيليا دعوة للحضور، فاستقبلني المفتش بكل حفاوة: - هل تدرس في (مركز المؤتمر الجزائري الإسلامي للثقافة)؟ - نعم، سيادة المفتش، إنني أعلم حروف الهجاء لبعض الأميين من الجزائريين. - ولكن، ليس لديك شهادة تسوغ لك التدريس، بالإضافة إلى أن المكان نفسه لا يصلح لهذا الغرض بسبب النقص في تهويته، وعليه أراني مضطراً لإيقاف دروسك .. قال لي الموظف هذه الكلمات بكل هدوء وتؤدة، فاتضح لي الأمر على ضوء المثال الفرنسي ((إذا أردت أن تغرق كلباً قل إنه مسعور)) .. ولكنني أردت أن أسبر غور القضية، فقلت بكل هدوء وتؤدة:

- ولكن سيادة المفتش هل أكون متطفلاً إن سألت عن السبب الحقيقي؟ .. فرأيت الموظف يرمقني بشيء من صدق العاطفة: - أوه! .. والله لا أدري، إن الأمر صدر من فوق .. فسكت هنيهة ثم استرسل كأنه يفسر: - لا تجهل أن إدارة الشؤون الأهلية بشمال إفريقيا، أصبحت من الأمر الصعب منذ قضية فلسطين (¬1) ... وشعرت أنه كان في حرج، ففضلت ألا أزيد في حرجه فحييته وخرجت، فرحاً في الحقيقة بأن الإدارة غطت دون أن تشعر، على فضيحة كنت أخشاها، لأن النادي كان مضطراً لو تُرِك لنفسه إلى إغلاق أبوابه لعجز ميزانيته، لأن المدد المنتظر من شارع (لوشابولييه) لم يأته، وبدأ إمداد المؤسسين له يتقلص، خصوصاً من طرف أولئك الذين لم يحضروا خطاب يوم ميونيخ. مثل (التلموذي) .. انتهى هكذا دور الشيخ الصدّيق بمرسيليا، فعادت زوجي إلى (دروكس) وعدت إلى تساؤلي: ماذا أصنع؟ .. ... لا زالت موجة الفصاحة تستولي على جمهور المقاهي التبسية، إلا أن أسماء الفصحاء قد تغيرت، منذ أصبح (يونس بحري) يتكلم من إذاعة برلين، فغطى صوته المهدار حتى أعلى أصوات مسموعة مثل (ب ب س) وراديو (باري). حدث بسبب ذلك تغيير كبير في توزيع جمهور المقاهي، فأصبح أغلبه ¬

_ (¬1) يعتقد بعض الشبان اليوم أن القضية بنت عهدهم.

يتردد على مقهى (باهي) لأن صاحبه كان بعد كل حديث ليونس بحري يقوم بتفسيره. وكان (باهي) بارعاً في هذه المهمة، كأنه ساحر كلام. يستولي على المستمعين بكلمات نصفها جد ونصفها بهتان يفتريه، على لسان يونس بحري، ويصبه في قوالب شخصية تزيد في جانب التسلية، إن لم تفد من ناحية الإعلام، وكان يستخدم في ذلك موهبة ذاكرة نادرة يستطيع بها سرد النشرة العربية لإذاعة برلين بحذافيرها، ثم يفسرها بشعر سيدي (علي بن الحفصي). كانت شبيبة تبسة تجتمع حوله كل مساء في الساعة السادسة عندما تبتدئ النشرة، فينزل السكوت ويستولي الخشوع وتصغي الآذان، وعندما تنتهي النشرة، يبتدئ (باهي) تفسيرها دون أن ينسى افتتاحيتها: - هنا إذاعة برلين، على موجة كذا. يونس بحري. أحيي العرب! .. يسرد النشرة ثم يبتدئ شرحها فيطول غالباً أكثر من المتن، لأن (باهي) لا يقول مجرد القول، ولكنه ينسج كلمات المتن ليونس بحري، مع أقوال سيدي (علي بن الحفصي) ومع حركاته هو وسكناته، وصرخات إعجابه تارة بالمتن وتارة بقول الشارح، خصوصاً إذا كان الإعجاب بالغاً درجة الشطحة الصوفية، فيصرخ (باهي): - براج! .. براج! .. براج! .. على نغمة أوحى له بها فيما يبدو، نقر الطنبور يوم كان في الجيش، فتصيح الحلقة وتتشنج أعصاب (باهي)، فيسقط شبه مغشي عليه فوق السرير الذي يجلس عليه، حتى تعود أنفاسه، بينما المارة خاصة منهم الأجنبي عن القرية، لا يمرون أمام المقهى عندما يكون (باهي) في حالته الوجدانية دون أن يمهل الخطوة أحدهم ليشاهد المنظر الغريب.

أما اليهودي (مرالي) الذي يسكن شقة فوق المقهى، فكان على العكس يسرع الخطوة ليتجنب قدر الإمكان، الاستماع إلى متن يونس بحري وشروح (باهي) عليه، مثله في ذلك مثل كل اليهود الساخطين على صوت إذاعة برلين في تلك الفترة، وربما كان لديه سبب خاص هو أن ابنته الحسناء أحبت وذهبت مع مختطف قلوب من سكان تبسة المسلمين، متسببة لأهلها في الوسط اليهودي، فضيحة لا يغفرها أبوها (مرالي) للمسلمين عامة. وبكلمة مختصرة، استولى مقهى (باهي) على جمهور المستمعين التبسيين الذين هجروا النادي، حتى أصبح من يتولى شؤونه، يرفع قضيته إلى الشيخ (العربي) كقضية خيانة كبرى نحو الإصلاح. وربما كان الرجل الطيب محقاً في هذه الدعوى أحقية لم يكن يتصورها هو نفسه؛ إذ كانت الموجة (المصالية) تكتسح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتتأسس الشعب والخلايا في كل قرية، فتكونت بتبسة شعبة تجتمع بباب قسنطينة بعد الغروب للحفاظ على سريتها، كما كانت تحافظ على السرية جمعية (الوحدة العربية) بباريس مما دفعني للمشاركة أيضاً في مناقشاتها، دون أن أكون عضواً في الحزب، لمجرد تلبية رغبة من تحركت قريحته نحو نشاط يخرجه من الجو المألوف، فكان (باهي) بطبيعة الحال في صدر هذه الهجرة، التي تركت الشيخ (العربي التبسي) يشعر أكثر فأكثر، بقلة الأتباع دون أن تترك السلطات رقابتها عليه، فيدعوه ذات يوم حاكم المدينة، السيد (بتستيني) ويقول له دون هوادة: - أنتم تريدون إحياء القرآن .. بينما نريد إقباره .. إيه؟ ومما كان يزيد الطين بلة بالنسبة للشيخ، أن الهيئة المشرفة على المدرسة الإصلاحية، بدأت هي الأخرى تراقب إدارته لشؤونها، وتعقب عليها بالنقد الشديد القاسي.

أما أنا فكنت غير منحاز لأي طائفة لسبب بسيط هو أنني لم أكن أنتظر أي تغيير من الداخل، ولم يكن لي رجاء إلا في حرب عالمية تغير كل شيء. فكان لهذا السبب، كل نشاطي منصباً في المحاضرات الثقافية التي ألقيها في النادي، دون أن يكون لها أثر كبير في نفوس بلغت درجة الإشباع، بسبب ما خلفت موجة الإصلاح، وبعدها موجة حركة (اتحادية النواب)، وبعدها موجة (الجبهة الشعبية) وما بدأت تلقي فيها موجة (حركة الشعب) المصالية، وما تبثه فيها يومياً إذاعة برلين، على لسان يونس بحري وشارحه (باهي). غير أنني كنت ألهو وأتسلى عن هذا الجانب العام، بجانب خاص من أصدقاء وخصوم. كان (جزوم) لا يستدل إلا بآرائي في كل موضوع: - سي الصدّيق قال .. سي الصدّيق يقول ... وكان (محمد ولد فيلالي) بإيعاز لم يكن يخفى علي يردد: الصديق؟ ... ها! ... ها! ... إنه مهندس من كلية وادي الناقوس، لا يستطيع كسب قوته .. صحيح، إنني لم أستطع إلى ذلك اليوم أن أحصل على عمل يرزقني، وكنا في آذار (مارس) عام 1939، وقد بدأت بشائر الربيع تعلن سنة استثنائية، وأصبحت رقعة شمال إفريقيا بساط زهور مبثوثة من تونس إلى الدار البيضاء، ظهرت فيها نباتات جديدة لم يكن الناس يعرفونها، حتى ظننت أن اتجاه محور الأرض في الفلك تغير بدرجات، دون أن أبوح بظني لأحد قبل اليوم. فخامرت عقلي فكرة هي أن تأتي زوجي لتشاهد هذا التغيير في أرض تعودت أن ترى جدبها المصقع، تحت سماء قفر لا تثير فيها الرياح سحاباً.

وشجعني الأصدقاء، خاصة (حشيشي مختار) على تحقيق الفكرة رجاء من أن يكون لي وراءها استقرار. فجاءت زوجي وكنت استأجرت من دون أن أدفع كثيراً، جناحاً من برج (بوذيبة) خارج السور، وفيه كانت زوجي خديجة تستطيع أن تتمتع بجمال الطبيعة بين شروق الشمس على جبل (الدير) وغروبها على جبل (الدكان)، وتسلو طيلة النهار بمرور من يأتي إلى المدينة من البادية القريبة صباحاً، وينقلب إلى منزله عشية؛ خاصة يوم الثلاثاء، حين يأتي أصحاب المواشي إلى السوق، على المسرب الذي يعبر وادي الناقوس خلف البرج (¬1). بينما تملأ الحيوانات ورعاتها الجو جلبة فيتخذ بسببها الطابع الريفي. أصبحت الحياة في هذا الإطار البدائي السينما المفضلة عند زوجي، التي كانت تتذوق بشغف كل ما فيها من بساطة وطيبة وكرامة، وبدأت تكتشف جوانب أصالتها الخفية مع امرأة من سكان البرج (1) الفقراء تعيش مع ابنها (أحمد) الأبكم في غرفة كانت في الحقيقة عندما بني البرج ليكون مركزاً عسكرياً لأحد الحصون الصغيرة التي تحمي جوانبها، فكانت الغرفة لا تقي هذين المسكينين الحر في الصيف والقر في الشتاء، خاصة إذا نزل المطر على مرقدهما من ثقب السقف المنهار. كان أحمد يرعى عنزات للجيران في النهار، دون أن يدفع له أحد أجرته، ويعود في المساء إلى الكوخ لتهيئ له أمه من الطعام ما تسمح به إمكانياتها الضعيفة جداً، لأن موردها لم يكن في الواقع من شغل ابنها ولكن من دجاجتين أو ثلاث تبيع بيضها لتشتري قليلاً من الزيت وبعض قهوة وسكر. كانت هذه الصورة من حياة الفقر والكرامة تعرف زوجي على هذا الجانب ¬

_ (¬1) كلمة جزائرية تعبر عن مجموعة مساكن ذات فناء واحد.

المؤلم المؤثر من المشكلة الجزائرية، أكثر مما يعرفه بعض الجزائريين حتى جعلتها هذه الصورة المثيرة تقول: - إنني أشك أن الزعماء والمثقفين عندكم يعرفون المأساة بهذا العمق، إنه مفزع، لا تكاد الناس تصدق به عندنا في فرنسا. واتفق في تلك الفترة أن اطلع الشيخ (العربي) على كتاب فقه جاء هدية من صاحب سعودي لاجئ إلى القاهرة، وكان عنوانه الغريب (الصراع) يُستَغرَب على غلاف كتاب يدرس الفقه، وله مقدمة أغرب من العنوان لأنها تتناول بإسهاب وبراعة نادرة دور القيم اليهودية في صياغة العالم العصري. فقرأه الشيخ العربي واقترح أن أقرأه أيضاً لأن المقدمة لفتت نظره، ورأى أنها لو ترجمت للفرنسية لأفادت في توجيه الشباب الجزائري في تلك الفترة؛ وكان رأيه أن أضيف للمقدمة ما جادت به القريحة حتى ينشر الكل في صورة كتيب باسمي واسم الشيخ، الذي تعهد من ناحية أخرى بتكاليف الطبع من صندوق جمعية العلماء، فرأيته رأياً وجيهاً. عكفت على القراءة، فكان انطباعي عن المقدمة كأنها من (نيتشه) كتبها مباشرة بالعربية. ثم عكفت على الترجمة، وأردت أن يكون ما أضيفه لها مستوحى من الاعتبارات الفلسفية العامة نفسها من ناحية، ومن أخرى مستَمداً من الظروف الخاصة بالشبيبة المثقفة الجزائرية، حتى يأتي الكتيب في آخر المطاف في صورة بلاغ يشتمل على الجانب النظري والجانج التطبيقي. فعكفت على إنجاز هذا العمل، وبينما أنا كذلك إذ دوت صرخة النفير في المدينة وفي الجزائر كلها: إن الجيش الإيطالي نزل بألبانيا واحتل ميناء

(دوراتزو)، ويجب الاحتجاج الشديد ضد الاستعمار الفاشيستي باسم الديمقراطية! ... فكانت (اتحادية النواب) أول من أسرع لتنظيم (يوم ألبانيا) دفاعاً عن الديمقراطية المتمثلة في شخص الملك (أحمد زوغو)، وتقرر أن يكون الاحتجاج في المقابر الإسلامية، ووزعت في الوطن منشورات تدعو وتحث على ذلك. بدت لي مند اللحظة الأولى هذه الفكرة- بما تتضمن من إثارة للعاطفة الدينية- غريبة عن تلك الرؤوس الفارغة التي لم تنتج يوماً من الأيام فكرة محكمة واحدة، للوصول في الميدان السياسي إلى أهداف مهمة بوسائل بسيطة، ولم يبق علي إذن إلا أن أفسرها في نطاق المخطط الذي وضعته السلطات الاستعمارية العليا لمواجهة الموقف الدولي الجديد. ولم أكن فيما أعتقد وحدي، غير أن الصف الإصلاحي كان ممزقاً بين مخافة القمع العنيف المحتمل من طرف الحكومة، وبين عاطفتهم الوطنية، حتى وصل المنشور الذي طبع على مطابع الإصلاح بمطبعة (الشهاب) وقرئ على الملأ بنادي تبسة، فلم يبق تردد في الإسهام في (يوم ألبانيا) الذي سيقام في اليوم المعين بعد صلاة العصر في المقبرة، لينطلق موكب المتظاهرين نحو المدينة في مسيرة السخط على الاستعمار الفاشيستي!!. انتدب أحد أقاربي ليتصل بي، كي أكون أحد الخطباء فرفضت ... وأتى اليوم الموعود فاحتجبت مثل يوم العيد المئوي .. ورجعت الأمور إلى مجاريها، واستمر (باهي) في شرحه لمتن يونس بحري كل يوم، وانتهيت من عملي في مقدمة كتاب (الصراع)، فسلمت نسخة لبعض الأصدقاء، منهم سي (محمد المكي) النجار و (خالدي) و (مشري النوري)، ليقدموها للشيخ (العربي) فقدموها له، فأبدى بعض التحفظات: إن هذه الرسالة لن يسمح بنشرها، فلا بد من تعديلات في بعض سطورها. حتى يتحقق طبعها.

عندما رجع إلي الأصدقاء بهذا الجواب، قررت أن أرى الشيخ حتى أتفق معه مباشرة في الموضوع، وكي أهدئ شيئاً من تصوراته المتشائمة بخصوص مصير الرسالة: - يا فضيلة الشيخ لعلك تخشى علينا بعض العواقب، فمن الممكن أن يبقى اسمي وحده على غلاف الرسالة حتى لا تتورط جمعية العلماء ... فلم ير هذا الرأي، واحتج عليه: - إن الحكومة لا تسمح بنشر هذه الرسالة مهما يكن الاسم على غلافها، ما دام محتواها كما هو دون أي تعديل. فاحتججت بدوري: - فلنترك الحكومة تأخذ مسؤوليتها في الأمر، دون أن نساعدها عليه بإحجامنا! .. وفرغنا من المناقشة دون اتفاق، وخرجت منها بفكرة واضحة عن اختلاف طريقة التفكير بيننا، لأن الطريقتين تأتي كل واحدة منهما من ناحية تختلف تماماً عن الناحية الأخرى، وليست القضية مجرد تلقين معلومات، أو تكلم بلغة عصرية كما يقولون اليوم، إذ كثيراً ما شاهدت الاختلاف نفسه مع مثقفين مطربشين أو حاسري الرأس، مثل الدكتور (خالدي)، أتفق معه في كل فكرة وأختلف معه كل مرة على تطبيقها، وكثيراً ما لاحظت في حياتي أن المسلم المثقف مهما يكن نوع ثقافته، يخلق من نفسه المعوقات التي تحول دون العمل إن لم يجدها في طريقه. ولم يبق علينا إلا أن نفكر في وسيلة أخرى لنشر الرسالة بوصفها صرخة نفير للضمير الجزائري في ظروف تستعجلنا، بينما كان العالم يستعد للحرب على قدم وساق، وقد بدأت زوبعة ممر (دانتزيغ) تجرفه نحو الحرب العالمية الثانية، بينما

أصبح اليهودي (مرالي) يعجل أكثر فأكثر خطواته أمام المقهى الذي تحت منزله، لأن صاحبه (باهي) أصبح يفسر متن يونس بحري بألغاز لا يفهمها أحد من حلقته، حتى شاع الخبر بأن عقله دار إلى الناحية الأخرى، وأنه صار يتفوه في بيته بكلمات تروع والدته الحنون، عندما تسمعه يصرخ: - أنا المهدي! .. أعطوني السيف حتى أحرر الجزائر! .. كانت الظروف تستعجلنا فعلاً من كل ناحية. ففكر بعض الأصدقاء من الشعبة المصالية، أن نوجه نسخة من الرسالة إلى الهيئة المركزية لحزبهم بالعاصمة؛ فتقرر الرأي أن نوججهها مع أحد الشبان، فاكتتبنا من أجل تكاليف السفر، وسافر ذات يوم (مشري النوري) حاملاً الرسالة التي جعلتني المناسبة أفكر في عنوان لها، فعنونتها (الخطوة الجزائرية (¬1)). كنا في أواخر شهر حزيران (يونيو) عام 1939، فاتصل (مشري النوري) بالهيئة المركزية التى كانت تصدر جريدة (البرلمان) تعبيراً عن مطالب الشعب، وتعويضاً لجريدة (الأمة) التي كان يصدرها الحزب في باريس، فكان أثناء اتصاله يُرْجَأ من الصباح إلى المساء ومن المساء إلى الصباح طيلة أسبوع، وبعد ذلك سرحوه بخطاب لي، يشكرونني فيه على المجهود الذي بذلته، ويخبرونني بأن أعضاء الهيئة في إجازة الصيف، بينما كان (هتلر وموسوليني، ودلادييه وتشمبرلين وستالين) على ثغراتهم. رجع (مشري النوري) بخفي حنين ولم يبق مجال لنشر (الخطوة الجزائرية) والعالم على أبواب الحرب، ولم تبق لدي إلا فرصة تعويض القبة بالحبة والقنطار بالقطمير، فحررت مقالاً يعبر عن العواطف العامة في تلك ¬

_ (¬1) كان هذا العنوان مستوحى من عنوان حقيقي يكتب بالحروف الأولى لكلمات: Parti Apolitique social Algéries ويخفي في الوقت نفسه الغاية المقصودة.

الظروف، تحت هذا العنوان: (لا مع الفاشية ولا مع الشيطانية)، وقد نحتُّ فيه الكلمة الأخيرة نحتاً يعني اشتقاقاً (سلطة الشيطان) وشكلاً (السلطة الديمقراطية)، ووجهته إلى جريدة (البرلمان) فلم تنشره، ربما لأن قيادة الحزب الشعبي الجزائري لا زالت في إجازتها وربما لأسباب أخرى. فترجمنا المقال إلى العربية ووجهناه إلى جريدة الحزب الحر الدستوري بتونس، فلم تنشره كأختها .. وإذا بانفجار هائل يهز الرأي العام العالمي، في منتصف شهر تموز (يوليو)، عندما نقلت وكالات الأنباء، أن الاتفاق قد تم في موسكو، بين (فون روبينتروب) وزير خارجية ألمانيا، و (مولوتوف) وزير خارجية الاتحاد السوفياتي، ونشرت الصحف ابتسامة الوزيرين على إثر الاتفاق ... مع نبأ رجوع الوفدين الفرنسي والإنجليزي من موسكو بخفي حنين، فكانت فضيحة لا مثيل لها، وتبلبل الرأي العام في الغرب إلى حد لا يُتَصور. ولكن ابتسامة (مولوتوف) كان لها أثرها الخاص في الوسط التبسي، فقد أصبح هؤلاء التقدميون الذين كانوا يعرضون عني بسبب انتمائهم لـ (الجبهة الشعبية) بدعوى أنني أنا رجل رجعي، أصبح هؤلاء الناس يلقونني في الشوارع بالابتسام وانشراح الصدر. ومرت الأيام الأخيرة من شهر تموز (يوليو)، وقبل نهايتها بيوم أو يومين وصلت إلى والدي برقية رسمية تدعوه بالشخوص أمام طبيب معين بقسنطينة، كي يجري عليه فحصاً من أجل رجوعه إلى وظيفته، فطار والدي فرحاً بعد أن ذهبت سدىً كل محاولاته للرجوع إلى منصبه، منذ فقده على إثر محاضرتي الأولى بباريس في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 1931. ولكن وصلني ببريد اليوم نفسه كتاب غريب العنوان (الهتلرية ضد

الإسلام) ولا يوجد على الطرد اسم مرسله، ولا أحد يستطيع أن يقرأ على وجه الكتاب اسم من ألفه بالعربية، لأنه كتب بطريقة توهم القارئ أنه اسم مكتوب بخط دقيق، بينما لا يجده يعني شيئاً تحت آلة مكبرة. فخشيت منذ ذلك الحين على فرحة والدي، لأنني أدركت الغرض من الكتاب الذي وصلني في تلك الظروف، إذ كان المنتظر مني بكل وضوح، أن أقوم بسلسلة محاضرات عن (الخطر الهتلري)، كما أدركت الأسباب التي عطلت نشر مقالتي في جريدة الحزب الوطني الجزائري أو جريدة الحزب الوطني التونسي، حتى لا يتعطل بسبب نشرها منطلق المحاضرات المنتظرة مني، فكانت إذن فرحة والدي البريء قيد تصرفي دون أن أبوح له بذلك إلى اليوم، وهو شيخ كبير في الخامسة والثمانين من العمر، قد قضى أكثرها في المحنة بسببي. كنت ذلك اليوم مصمماً على ألا أدفع ثمن فرحة والدي ولو كان في موقفي تجاهه ما كان من القسوة، أرجو الله أن يعوضها له بالرحمة والغفران .. ودقت ساعة الحرب، فأتاني (خالدي) بخبرها في الصباح: - إن الجيش الألماني عبر حدود بولونيا في الساعة الخامسة من صباح اليوم. لم أكد أصدق لطول انتظاري، ولكن شرع البوليس في التفتيش ذلك اليوم، فسلمت محفظة تضم كل أوراقي لأم الدكتور خالدي، وذهبت مع زوجي تلك العشية بمنشور عن قضية فلسطين، فدفناه في علبة معدنية خلف البيت على ضفة وادي الناقوس، حتى يبقى للتاريخ. ولكن لم يأت التفتيش إلى بيتي، وفسر لي ذلك في العشية أحد الشرطة: - إنني أقنعت رئيسي بأنك لا تهتم بالسياسة. ومنذ الغد بدأت الأسعار ترتفع في السوق والبضاعة تختفي، ودخل هكذا

العالم في الحرب العالمية الثانية، وشعرت أنه لم يبق لي بتبسة ناقة ولا جمل، فقررت العودة إلى فرنسا مع زوجي، ويوم 22 أيلول (سبتمبر) عام 1939، تسلقت سلم الباخرة بميناء عنابة مع زوجي والهرة (لويزة) وسلحفة أهدتها لنا أم أحمد عند التوديع، وكان معنا خالدي في طريق عودته إلى جامعة (تلولوز). وعندما بدأت الأرض الجزائرية تغيب في الافق، وجدت نفسي أقول وأنا متكئ على حافة الباخرة: - يا أرضاً عقوقاً .. تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة! .. بينما بدأ ظلام الليل يسدل ستاره رويداً رويداً على بحر هائج تتراكم أمواجه بعضها فوق بعض. انتهى الأصل الفرنسي يوم 14/ 1/ 1969 في الساعة الرابعة مساء. والتعريب 2 رمضان 1381 هـ في الساعة 11 ليلاً (¬1). ¬

_ (¬1) وذلك يقابل أيار (مايو) 1969 م.

مسارد الكتاب ¬

_ ..................................................................... الصفحة 1 - مسرد الآيات القرآنية ........................................... 431 2 - مسرد الأحاديث النبوية ......................................... 431 3 - مسرد الأعلام (الأشخاص والدول والأمكنة) ...................... 432 4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب ............................ 450 5 - مسرد المؤتمرات والمعاهدات والاتفاقيات ......................... 453 6 - مسرد المراجع والمصادر ........................................ 454

§1/1