مذكرات أحمد باي

أحمد باي

مقدمة

مقدمة يعتبر الحاج أحمد، باي قسنطينة الأخير، من ألمع وجوه المقاومة في الجزائر، ومن أكبر قادتنا الذين دوخوا فرنسا، والذين يجب أن نفتخر بهم. لقد اعترف له كثير من الجنرالات بالدهاء العسكري، وحاول المارشال فالي أن يتفق معه، اقتناعا منه بأن الرجل أهل للقيادة ولا يمكن أن يستسلم بسهولة. وإذا كان المؤرخون الغربيون لم يعطوا له حقه، قاصدين بذلك تشويه التاريخ الجزائري المجيد، والتمييز بين مختلف عناصر الشعب للتقليل من أمجاد ماضينا الحافل بعوامل الأمل، ودوافع الإيمان بالمستقبل، فإن واجبنا نحن أن نزيل الغبار على هذه الشخصية، وغيرها من أمثال ابن سالم، ابن علال، حمدان خوجة، بومرزاق، بومعزة بوبغلة، بوعمامة، محمد الصغير بن أحمد بن الحاج، بوزيان الخ .. ونخرج من طيات النسيان تلك الصفحات الخالدة التي كتبوها بدمائهم، لنستوحي منها طريقنا نحو حياة أفضل. لقد كان الحاج أحمد كرغليا، على حد تعبير المؤرخين الفرنسيين. ولكن المنطق يحتم علينا أن نؤكد عكس ذلك، أنه جزائري قبل كل شيء: ولد في الجزائر من أب ولد في الجزائر. زد على ذلك فهو ذلك الرجل الذي وهب حياته لهذا الوطن ولا يعرف وطنا سواه.

وإذا سلمنا لهؤلاء المؤرخين أن أحمد لم يكن جزائريا، فماذا نقول عن بونبرت الذي جاء لإلى فرنسا من جزيرة كورسكة؟ وماذا نقول عن الأمراء الفرنسيين الذين ينحدرون من سلالة بريطانية؟ وماذا تقول، أيضا، عن أباطرة روما العرب والأفارقة؟. وإذا أردنا نحن أن نجرد أحمد من الجنسية الجزائرية يجب، قبل ذلك، أن نطرح على انفسنا السؤال التالي: لماذا أعطيت الجنسية الجزائرية لكل من طلبها ممن انخرط من الأجانب في صفوف جيش أو جبهة التحرير الوطني أثناء ثورة نوفمبر 1954؟ هذا بالإضافة إلى أنه لا مجال للمقارنة بين أحمد وهؤلاء، لأن الباي لم تكن له جنسية أخرى، ولا لغة، ولا تقاليد، ولا عادات، ولا أخلاق، غير جنسية الجزائريين ولغتهم، وتقاليدهم، وأخلاقهم. أما عن حياته، فإن السيد أحمد بوضربة، عندما قدم مذكراته إلى اللجنة الافريقية سنة 1833، يذكر بأن الباي كان يبلغ من العمر في ذلك الوقت 47 سنة، الأمر الذي يجعلنا نحدد تاريخ ازدياده بعام 1786. وقد كان يسمى باسم أمه، فيقال الحاج أحمد بن الحاجة شريفة. وهي من أسرة ابن قانة المعروفة في الصحراء. أبوه هو محمد الشريف خليفة حسن باي الذي تولى الحكم بعد صالح باي المتوفى سنة 1792. وأما جده فهو الباي أحمد القلي الذي حكم قسنطينة مدة ست عشرة سنة ابتدأها عام 1755، والذي يقول عنه الحاج أحمد المبارك في (تاريخ حاضرة قسنطينة) أنه رجل عاقل صالح عالم بتسيير شؤون البلاد. وقد نشأ أحمد في بيت أخواله، فشب على حياة البداوة، وتعلم الفروسية، وتدرب على القتال، فكان رجلا حاسما وشجاعا لا يعرف التردد عندما يجب الفصل في القضايا.

وان هذه الصفات الخليقة بكل مسؤول، هي التي جعلت الايالة تعينه، وهو لم يتجاوز الثلاثين خليفة لباي قسنطينة التي هي أكبر القاطعات في الجزائر وأهمها من جميع النواحي. ولقد ظهر أحمد، أثناء ممارسته هذه المسؤولية الجبارة، مهارة كبيرة وخبرة واسعة في اكتساب ثقة الأهالي وضمان تعاونهم معه، بحيث أنه، عندما وقع الخلاف بينه وبين رئيسه، وأمر هذا الأخير بحبسه، وجدناه يحظى بمساعدة أعيان المدينة والبايلك بصفة عامة لمغادرة المكان والتوجه إلى العاصمة بسلام. وفي منفاه، ظل الباي متمسكا بسيرته الأولى، فكان يبرهن على شجاعته وتفانيه كل ما دعي للمساهمة في عمل من الأعمال. وفي البليدة، استطاع أن يثير إعجاب يحي آغة باستقامته وإخلاصه، وانقلب هذا الإعجاب محبة بعد تجارب طويلة، وخاصة بعد الدور الذي لعبه أحمد أثناء الزلزال الذي أصاب البليدة سنة 1825. ولذلك رأينا الآغة، صاحب النفوذ والسلطان في ذلك الحين يتدخل لدى الداي، ويحصل للحاج على العفو في مرحلة أولى، ثم على البايلك في مرحلة ثانية سنة 1826. هكذا، حصل أحمد على هذا المنصب باستحقاق. وبمجرد ما تسلم مسؤوليته الجديدة شرع في تنظيم الأمور والقضاء على الفوضى. وتبين من خلال هذه الأعمال أنه قائد مقتدر له من الدهاء العسكري والسياسي ما لم يتوفر لسابقيه. ولذلك تمكن من البقاء اثنتين وعشرين سنة على الرغم من المشاكل والمحن، ومن المجهودات والتضحيات التي بدلتها فرنسا للقضاء عليه. هذا، وإننا سنفرد للحاج أحمد دراسة مستقلة في وقت لاحق. أما اليوم، فإننا ننشر مذكراته التي يجمع المؤرخون على أن لها قيمة تاريخية كبرى. ولقد سبق أن نشرها

بالفرنسية وعلق عليها السيد مارسال أمريت في المجلة الأفريقية الصادرة سنة 1949. ورجعنا إلى المخطوطات الوطنية في باريس، فوجدنا أن هناك نسختين من هذه المذكرات مكتوبتين باللغة الفرنسية، وأن هناك بعض الاختلاف بينهما من حيث الشكل لا من حيث المضمون، الأمر الذي جعلنا نتأكد من أن المذكرات إنما كتبت في أصلها بالعربية، وترجمها شخصان مختلفان. ولكن الترجمة التي نشرها أمريت هي الأتم على ما نعتقد. ولذلك لجأنا إليها لنعيد المذكرات إلى لغتها الأصلية .. وما لجأنا إلى ذلك إلا بعد أن يئسنا من وجود الأصل العربي. المترجم باريس 14 نوفمبر 1971

مذكرات أحمد باي

مذكرات أحمد باي

في سنة 1830 ذهبت إلى مدينة الجزائر لأداء الدنوش أو الزيارة الإجبارية التي يؤديها إلى الباشا جميع البايات مرة كل ثلاث سنوات. كنت بايا لقسنطينة منذ أربعة أعوام، وكانت تلك هي المرة الثانية التي أقوم بهذا الواجب. فلم أكن إذن، مستعدا أي استعداد لمحاربة الفرنسيين، ومع ذلك كان الداي حسين قد أخبرني بمشاريعهم في رسالة ذكر لي فيها أنه بجب أن أهتم بعناية فقط. ولم يكن قلقا لا على نفسه ولا على مدينته الرئيسية. وهكذا، جئت كالعادة أحمل ((اللازمة)) ومعي أربعمائة فارس أو أقل، وأذكر من جملة القادة الذين اصطحبوني: ولد مقران، ابن حملاوي آغا، شيخ النغاس، قائد الزمالة، الوردي قائد بن عاشور، وشيخ بوشناح. وعندما حضرت بين يدي الباشا قال لي: ((ليس لديكم أكثر من الوقت الكافي للخروج إلى الفرنسيين الذين سينزلون بسيدي فرج، إنني أعرف مكان النزول من الرسائل التي تصلني من بلادهم ومن كتاب طبع في فرنسا وأرسله لي جواسيسي من مالطة وجبل طارق)) ثم أضاف بأن الرسائل ترد إليه باستمرار من فرنسا وانه على علم بكل ما يجري هناك.

غادرت مدينة الجزائر بسرعة، واتجهت إلى المكان الذي تجمع فيه الجيش. وعقدنا مجلسا لتحديد خطتنا في الدفاع عن البلاد، وشارك معي في هذا المجلس الآغا ابراهيم، صهر الداي، ومصطفى باي التيطري، وخوجة الخيل، وخليفة ياى الغرب. وقعت الندوة في مكان قريب من سيدي فرج. وابتدأ صهر الداي هكذا: ((يجب بناء حصون على شاطيء البحر، وتزويدها بمدافع قوية حتى نمنع الفرنسييين من النزول.)) وأجبت بأن هذا الرأي سديد، ولكننا لا نستطيع العمل به حينا، كما تقترحون ذلك، لأنكم لا تملكون الوسائل التي تمكنكم بسرعة من إقامة الحصون التي أشرتم إليها وبالفعل فكيف تحملون إلى هنا المدافع والذخائر الحربية التي تحتاجون إليها وليس في سيدي فرج سوى قلعة قديمة مخربة يحتاج إصلاحها إلى شهور كاملة. لقد استيقظتم متأخرين، وفي نظري، إذن فإنه لا ينبغي أن تنهكوا أنفسكم لصد نزول الفرنسيين، ومن المستحسن أن تبدوا بعض المقاومة وتهاجموهم بحيث تعرقلون النزول. ولكننا إذا وضعنا كل أملنا في إقامة التراسين والحصون، فإنكم لن تنتصروا، لأن نيران المراكب الفرنسية ستقضي على هذه

المنجزات المقامة بسرعة وتكون أعمالكم قد ذهبت سدى. ثم إنكم لن تتمكنوا من تسليح الحصون دون تعرية مدينة الجزائر التي ينبغي أن تهتموا كل الاهتمام بالدفاع عنها. وإذا استطعنا أن نفسد مشروع الفرنسيين بواسطة المعركة الصغيرة التي سنشنها عليهم أثناء النزول، فإننا نحمد الله ونشكره على مؤازرته لنا. وإذا لم نتمكن من التصدي لنزولهم، فإنه يجب على الجيش أن ينسحب إلى مؤخرة جيوش الأعداء ثم نشطأ البحر من الجهة الغربية. وتذكروا شيئا، فإن الفرنسيين يريدون إنهاء هذه الحرب بكل سرعة، وإرجاع الجيش إلى أوروبا. إنهم من بني الأصفر، ذوي الوجوه الشاحبة الذين يصعب عليهم تحمل مناخ هذه البلاد. وعندما نمدد الحرب في الزمن، فمعنى ذلك أننا سنحقق النصر لا محالة. وسيصيب أعداءنا ما وأصاب جميع الذين نزلوا هنا: إن الله كان دائما بجانب المؤمنين على الكافرين الذين يأتون لمهاجمة المدينة الموضوعة تحت حمايته، وهذه المرة أيضا، فإنه لن يتخلى عنا. ولاحظوا أن الفرنسيين لن يلحقوا ضررا كبيرا بالمناطق التي سيمرون بها لأن أراضيها تكاد تكون غير مزروعة، وليس فيها إلا عدد قليل من المساكن والأجنة.

وإذا وثقتم بي واتبعتم خطتي، فاننا نتجه إلى وادي مازفران، وعندها يقع أحد أمرين: إما أن يهاجم الفرنسيون مدينة الجزائر وإما أن يسيروا نحونا. ففي الحالة الأولى ننقض على مؤخرتهم فنأخذ مؤونتهم، ونهاجم قوافلهم فنقتل المتخلفين ونعمل على قطع الاتصال بينهم وبين مراكبهم، وهذه النقطة الأخيرة سهلة جدا لأن البحر يتغير ولا يسمح دائما بالنزول. أما إذا ساروا نحونا ليشنوا علينا الحرب، فإن واجبنا هو أن نتجنب المعركة ونجر جيوشهم إلى ميدان ملائم وبعيد عن مدينة الجزائر التي هي هدف مشروعهم. وإنكم لا تجهلون كم سيفقد الفرنسيون من الجنود، أثناء ملاحقتهم لنا، نتيجة للحرارة، وفقدان الماء وانعدام العديد من الأشياء الأخرى التي تعودوا بها والتي لا يمكن أن تتسع لها مراكبهم، هذا بالإضافة إلى أننا نكون قد حافظنا على مدينة الجزائر. إذن، فرأيي هو الرجوع إلى الوراء.)) وأجاب صهر الباشا بحمية جاهلية وثقة مزهوة في نجاح الخطة، بأن عدم مجابهة العدو ليس من عمل الرجال الشهام، وأن الله لن يغفل عن مساعدة من سيهاجمون الكفرة عند نزولهم وهم به واثقون.

وأثر هذا اللجوء إلى الله تأثيرا كبيرا على عقول الحاضرين. واستعملت نفس الوسيلة وأردت حملهم على أن يتركوا مدينة الجزائر تحت رعاية الإله يفعل بها ما يشاء ولكنهم عارضوني وتقرر أن يسيروا لمجابهة الفرنسيين. وهكذا، شرع في بناء المتاريس بسيدي فرج، ولكنها لم تسلح إلا بمدافع خفيفة لعدم وجود العربات التي يمكن أن تحمل المدافع ذات العيار الكبير. وتم النزول، وبعد انتصار الفرنسيين على مقاومتنا، تقرر التراجع وانتظارهم في سهل سطاولي حيث بنينا حصونا بسرعة وزودناها ببعض المدافع. وكان الباشا قد وزع عددا منها كذلك على جميع الأعيان الذين كانوا يقودون الجيش وعلى من كانوا مثلي قادمين من مناطق بعيدة. وقد خسرنا هذه المدافع في معركة سطاويلي التي ربحها الفرنسيون. وكان مدفعي قد سقط مرة أولى بين أيديهم، ولكنني جمعت فرساني وهاجمنا فخسرنا أكثر من مائتي جندي، ولكن الله مكنني من الانسحاب ومعي المدفع الذي أعطيت. وبعد معركة سطاويلي، هاجم الفرنسيون برج مولاي حسان. وكنت إذ ذاك قد انسحبت إلى المكان المسمى

بوادي القليعة (¬1) وسقط البرج خرابا بفعل البارود، ثم استسلم الباشا للفرنسيين الذين دخلوا من غدهم مدينة الجزائر. عندئذ، انسحبت مع فرساني إلى عين الرباط (مصطفى باشا)، وواصلت سيري نحو جنان الباشا (¬2) حيث لحق بي جميع الهاربين. فأصبح معي 1600 شخص وفي مساء يوم الاحتلال انسحبت إلى قنطرة الحراش حيث قضيت الليلة على الضفة الأخرى من الوادي. وفي الغد توجهت إلى الخميس (¬3) وعسكرت في الفندق. (¬4) وفي أثناء الليل وقع إنذار وأعلن عن ظهور طلائع الجيش الفرنسي. فركبت حصاني على الفور واصطحبت أربعين من فرساني، ولكن الإنذار كان خطأ. وواصلت طريقي، وعندما بلغت أولاد زيتون اتصلت برسالة من الجنرال الفرنسي المسمى بورمون. (¬5) ¬

(¬1) - هو الوادي الذي يأخذ منبعه من باب البحر ويشق بوفريزي ثم الأبيار ليصب في وادي مازفران. (¬2) - هو مستشفى مايو حاليا. (¬3) - المقصود هو خميس الخشنة على بعد حوالي 30 كلم شرقي مدينة الجرائر. (¬4) - قرية صغيرة على بعد حوالي 25 كلم من مدينة الخميس الآنفة الذكر. (¬5) - هو دوبرمون، قائد الحملة العسكرية ضد الجزائر، وصاحب معاهدة 5 جوليت.

يقول لي بورمون، في رسالته: إن الفرنسيين قد خلفوا حسين باشا في الحكم، وإنني احتفظ بمرتبة باي قسنطينة إذا رضيت أن أدفع لفرنسا ((اللازمة)) التي كنت أدفعها للداي، وباختصار إذا قبلت الاستسلام. وأجبت بأن السلطة تسلمتها من حسين برضا جميع سكان قسنطينة ومقاطعتها وإنني راجع إلى مركز قيادتي، وإذا كانت إرادة قادة قسنطينة تتفق مع رغبة الجنرال الفرنسي، فإنني سأخضع لها بكل سرور. انتهت هذه المفاوضات عند هذا الحد، وتوجهت إلى قسنطينة عن طريق الأعمال والبيبان، ثم بلغت منطقة العوامر بالقرب من سطيف وبعد 22 يوما من السير، منذ أن غادرت مدينة الجزائر، وصلت إلى المكان الذي يسمى الحامة (¬6) بنواحي قسنطينة. في أثناء غيابي عن قسنطينة دبرت مؤامرة ضدي. لقد تركت في المدينة حامية الشتاء وهي مكونة من الأتراك ¬

(¬6) قرية على بعد 7 كلم شمال قسنطينة، تدعى الآن حامة بوزيان.

واليولداش (¬7). فأراد هؤلاء الأجناد أن يقلدوا ما كان قد جرى في مدينة الجزائر، وأعلنوا أنهم لم يعودوا يعترفون بي كباي وعينوا مكاني القائد سليمان، الباي الذي قاد المؤامرة بمساعدة خليفته ولد شكال محمود. وعبد الله خوجة وسطامبولي وجيمي علي ووزان أحمد وزمير لي بشير وضبيات علي. وعندما علم هؤلاء الناس بمقدمي، أرادوا أن يثيروا علي القبائل المقيمة في نواحي سطيف ولكنني هزمت من خرج إلى وقصدت قسنطينة التي غادرها المتآمرون ليعترضوا سبيلي، وبمجرد ما خرجوا من المدينة اجتمع الطلبة والسكان بسرعة تحت قيادة الباشا حمبا كيمان بن عيسى وألقوا القبض على سليمان وقتلوه أمام باب المدينة. وهكذا ¬

(¬7) - كان اليولداش لا يخضعون إلى القانون، والداي وحده هو الذي له الحق في محاكمتهم، وكل من التجأ إلى مقهاهم ينجو من كل سوء. وكان ذلك يحدث بلبلة كثيرا ما يشتكي منها البايات إلى صاحب أمرهم (أنظر رسالة أحمد باي بخظ يده في المحفوظات الوطنية بباريس ف.8، 1673).

لم ألاق أي عناء لاسترجاع سلطاني (¬8)، ولكنني أردت أن أضرب مثلا، فوضعت يدي على المجريين، ووفقا للقانون حكمت عليهم بالإعدام ونفذت الحكم فيهم. وبعد ذلك قررت أن أضع حدا للمناورات المستمرة التي يقوم بها الأتراك واليولداش (¬9) وخشي الكثير منهم نقمتي العادلة فالتجأوا إلى العرب. فكتبت إلى كل الجهات أقول: ((تحللوا من هؤلاء الأجانب الذين لا يحملون إليكم سوى البلبلة ويمنعون الحاكم من أن يحقق الخير الذي يريده لكم.)) ووجدت هذه الكلمات آذانا صاغية فدفع كثير من اليولداش ثمن الطغيان الذي فرضوه على البلاد زمنا طويلا. ¬

(¬8) - يزعم ابن قانه أن الفضل يعود إليه في التغلب على هذه الصعوبات (كتاب بوعزيز بن قانه، لصاحبه، ص: 38). وكتب صالح العنتري (ص: 55) أن الشيخ لففون هو الذي تزعم الحركة المساندة للباي. (¬9) - يشير صالح العنتري (نفس المصدر) إلى أن الباي وضع حدا لتعسفات الأتراك، وذلك عندما كون جيشا من القبائل.

وبمجرد ما رجعت إلى الحكم، اتصلت، من مدينة الجزائر، برالة كتبها الجنرال الذي يسمى كلوزال. (¬10) فعرض علي هو أيضا، الاعتراف بي كباي على قسنطينة ولكن شريطة أن أدفع اللازمة وقال بأنه سيرسل لي، عندما أستسلم، قفطان الشرف باسم ملك الفرنسيين. وفي الحين جمعت الديوان وقرأت عليه رسالة الجنرال. فكان رد الأعضاء أن قسنطينة كانت في الحقيقة تابعة لباشا الجزائر وتمتثل لأوامره، ولكن الجزائر، بدورها، كانت تابعة لسلطان اسطمبول: ولقبول الصلح المقترح علي يجب، أولا أن أحصل على موافقته، والإجابة الوحيدة هي أن نخبر الفرنسيين بأننا نستشير السلطان ثم نرفع الإرادة السنية بكل سرعة إلى الجنرال. كان الديوان يحمل بغضا شديدا للفرنسيين، ولم يكن الغرض من الإجابة التي نصحت بتقديمها لهم سوى تمديد المفاوضات وإطالتها، ومنع البلاد من أن تتعرض لمصائب جديدة نتيجة رفض عنيف. ¬

(¬10) - هو المارشال الذي يحكم الجزائر سنة 1830، ثم تولى قيادة جيش افريقية من سنة 1835 إلى سنة 1836 (ولد سنة 1772 وتوفي سنة 1842).

وأجبت كما أشار علي الديوان بذلك، وبعد وقت قصير علمت أن الجنرال الذي كان يحكم الجزائر أمر بعزلي، وأبرم في هذا الموضوع عهدا مع باي تونس. وينص هذا العهد على أن قسنطينة تكون تابعة لتونس، وأن سي مصطفى أخا العاهل التونسي هو الذي يتقلد مرتبة الباي فيها. (¬11) ولم يكن لهذا العهد أي مفعول، بل إنه ظل مجهولا من جزء كبير من السكان وبعد مدة قليلة من إبرام هذا العهد، وردت رسائل من تونس إلى مقاطعة قسنطينة، وحمل إلى عدد منها. إنها من الباي، وتقول أن قسنطينة كانت في الأزمنة الغابرة جزءا من مملكة تونس. وتقول أيضا أن الباي يعتزم استرجاع الوضع القديم، واستبدالي بأخيه أو بأي خليفة آخر يختاره وقد لاحظت أن هذه الرسائل لا تتكلم عن الفرنسيين أبدا. وكنت ممثلا فيها ¬

(¬11) - المقصود هي معاهدة 18 ديسمبر 1830 التي لم توقع عليها الحكومة الفرنسية.

كرجل مستبد وكانت نهايتها دعوة إلى الثورة حتى أطرد من بايلك قسنطينة. (¬12) وحينما أطلعت على محتوى هذه الرسائل قلت: إذا كان مثل هذا التغيير بإرادة من الله ومن شأنه أن يساهم في إسعاد الجميع، فإنني مستعد لقبوله. ثم أردت أن أعرف رأي الديوان في هذا الموضوع فجمعته وعرضت عليه ادعاءات الباي الواردة في الرسائل التي تكاثر عددها في كل مكان وبعد تفكير وتدبير فيما ينبغي فعله في هذه الظروف، تقرر أن يكتب الديوان رسالة إلى باي تونس، فكانت كما يلي: إن ما تقترحونه علينا لا يليق بنا مطلقا. إننا فرحون بحكم الباي أحمد ولا نريد استبداله. فكيف يمكن لكم أن ترغمونا على ذلك ألستم مثلنا، تابعين لخليفة اسطمبول وبأي عنوان تطالبوننا بالطاعة إن السلطان محمود وحده هو الذي يستطيع أن يقرر تقسيم أملاكه، ولو أننا دعينا إلى اختيار سيد غير السلطان الشرعي، ¬

(¬12) - كتب بارتوزين رسالة إلى المارشال سولت يوم 1831/ 2/21 يقول فيها بأن ذلك كان نتيجة مؤامرة دبرها صهر أحمد مع باي تونس.

فاننا، وبكل صراحة، سنفضل احتلال الفرنسيين، لا حبا في الكافرين ولكن لأننا نعلم أن جوارهم سيجر لنا الحرب إن آجلا أو عاجلا ولأننا سنتعرض لهجوماتهم ولن تستطيعوا شيئا ((لحمايتنا.)) وقد وقعت هذه الإجابة عندما تأثر سكان قسنطينة من مزاعم الباي، كما تأثر الديوان من قبلهم وجاؤوني يقولون: انظر هذا ملك تونس، وهو ندلك قد تلقب بالباشا فلا بد أن تفعل مثله في اللقب وأن تضرب النقود على غراره فأرغمت على اتباع نصائحهم وعينت ابن عيسى خزناجيا وأمينا للسكة التي ضربت، كما هي العادة، باسم سلطان القسنطينية ثم قررت أن أحيط علما بكل ما جرى، من كنت أرى فيه سيدا لي وهو السلطان محمود رحمه الله. واغتاظ باي تونس من الرفض الذي لاقاه في قسنطينة، فكتب إلى اسطمبول يحرض علي ويتهمني بالطغيان. ويقول بأنني أثرت حقد جميع رعيتي. لقد علمت بذلك وعزمت أن أحارب الإدعاءات الكاذبة بلائحة يمضيها أهم القادة في مقاطعة قسنطينة. وضمنت رسالتي كل ما دار في الديوان بهذا الشأن وكذلك الرأي الذي تم التوصل

إليه، وختاما قلت: إنك الآن تعرف كل شيء وأنت صاحب الأمر، فإنني أنتظر قرارك)). ثم رجوته أن يرشدني إلى الطريق الذي يجب اتباعه. وكان كل من حضر قراءة هذه الرسالة موافقا على مضمونها فوضعت عليها خاتمي ووضع الأعيان خواتمهم ثم ذيلوها بملاحق تعبر عن رأيهم في حكمي وعينوا واحدا منهم ينقلها إلى سيدنا ومولانا ويؤكد له ما احتوت عليه. وكان سي علي بن العجوز، أحد أعيان قسنطينة، هو الذي كلف بأداء هذه المهمة، فأوفدت معه واحدا من عمالي، يدعى الحاج مصطفى. ومضت أربعة أشهر قبل رجوعهما، وفي هذه الفترة من الزمن وقع ما وقع من الأحداث الهامة التي يضطرني سردها إلى الرجوع إلى ما قبل الأحداث التي ذكرتها الآن. 3 كان مصطفى بومزراق بايا للتيطري (¬13) عندما استولى ¬

(¬13) - يقول أوكاتبان وفيدرمان في ((مذكرة حول تاريخ وإدارة بايلك التيطري))، المجلة الأفريقية ج 9، 1865، ص: 927: ان بومزراق حكم التيطري من سنة 1819 إلى سنة 1830، وقد كان جنديا باسلا ونشيطا، لعب دورا كبيرا في معركة سطاولي.

الفرنسيون على الجزائر، فحاول أن يربط علاقات معهم للاحتفاظ بالسلطة ولكنه لما لم يتمكن من أن يعتمد لديهم أراد أن يستقل وتلقب بالباشا ثم كتب لي يقول بأن علي طاعته ودفع اللازمة إليه، ومقابل ذلك يبعث لي قفطان الملك. فأجبت رسوله بقولي: ((كيف! بالأمس، كان مصطفى بايا مثلي، واليوم ينتصب باشا من تلقاء نفسه فما عليه إلا أن يأتي ليأخذ الاعتراف فليس عندي له إجابة والبارود وحده الذي يفصل بيننا.)) وأمام هذه الإجابة اندفع بومزراق في حمقه وأعلن أنه يعزلني وعين مكاني ابراهيم الذي كان بايا لقسنطينة في السابق والذي كان الداي حسين قد عزله. ولمحاربتي تحالف ابراهيم هذا مع فرحات بن سعيد (¬14)، شيخ العرب السابق الذي استبدلته مؤخرا بقريبي بوعزيز بن ¬

(¬14) - ابراهيم باي هو الذي عين فرحات بن سعيد في منصب شيخ العرب، بعد أن أرغم ابن قانه على اخلائه والتنازل عنه. وكان طموحا وفوضويا، ثار سنة 1821، لكنه سومح وظل يمارس سلطة كبيرة في الجنوب (مارسي، تاريخ قسنطينة، ص: 357).

قانة (¬15) وهكذا أراد مصطفى أن يثير ضدي طموح الأول الزائف وغيظ الآخر المكين. وقام ابراهيم وفرحات بإعلان الحرب علي، فوجهت لهما بوعزيز وبعض الجند ثم انتقلت للقائهما شخصيا، فهزمتها هزيمة شنعاء وأرغمتهما على الفرار (¬16). أما فرحات، فقد انسحب إلى أولاد جلال حيث راح يواصل معاداته لي، وظل يمارس نوعا من السلطة على قبائل وادي جدي. وأما ابراهيم، فإنه تمكن من اللجوء إلى تونس وبعد ذلك رجع إلى عنابة، فبدأ أولا وكأنه ارتبط ارتباطا متينا بالفرنسيين الذين لم يكن وضعهم فيها قد تعزز حينئذ. إلا أنه سرعان ما راح يحث همم المسلمين، ويؤلبهم ضد الكافرين وثور السكان، فأرغموا الفرنسيين على مغادرة المدينة، واستقر هو في قصبة الساحة المشرفة ¬

(¬15) - لقد ظل التنافس قائما بين عائلتي بوعكاز وابن قانه يدمي الجنوب ردحا طويلا من الزمن. (¬16) - يذكر صالح العنتري أن أحمد باي قام بحملتين ضد ابراهيم، احداهما في ناحية سطيف والأخرى في الصحراء. واننا لنجد في كتاب بوعزيز المذكور، ص: 41 وصفا مطنبا للعمليات التي جرت في الصحراء.

عليها. وكانت مجاورة هذا العدو خطرا شديدا على سلطاني، فأرسلت ضده ابن عيسى، باش حمبايا (¬17) فحاصر عنابة من جميع نواحيها واستطاع أن يدخل المدينة (¬18) وأجبر ابراهيم على الانحباس في القصبة (¬19) وبما أن المؤن لم تعد تصل إليه، كاد أن يرغم على الاستسلام لو لم تأت ظروف مكنته الفرار من القصبة. ولم يفقد الفرنسيون أمل استرجاع عنابة التي طردوا منها. فأرسلوا إلى الميناء باخرتين محملتين بالجيوش تحت قيادة ضابط اسمه دارماندي واستغلت هذه الجيوش الفرصة فنزلت على الشاطيء. وقد بقيت أذكر اسم هذا الضابط لأن ابن عيسى، خليفتي، كان قد أقام معه بعض ¬

(¬17) - يذكر صالح العنتري أن قيادة الجيش أعطيت أولا لعمار بن زقوطة، ولما أن الباي كان يعرف أنه مصاب بمرض خطير أمره بالرجوع إلى قسنطينة وأسند القيادة لابن عيسى. (¬18) - كان ذلك يوم 5 مارس سنة 1832 (فيرو، وثائق لكتابة تاريخ عنابة، المجلة الافريقية، ج 17، ص: 4). (¬19) - نفس المصدر يؤكد هذا القول.

العلاقات (¬20) ووجد ابراهيم نفسه بين استعدادات الفرنسيين المهددة بالخطر، وهجومات ابن عيسى، فلم يحد مسلكا آخر غير طريق الفرار، فغادر القصبة خفية بينما انضم من تركهم فيها إلى السيد دارماندي، والمدعو يوسف المملوك الذي قدم من تونس والذي سيلعب دورا في البلاد. وفي هذه الأثناء، وبينما كان ابن عيسى قد اقترب من القلعة، تأهبا منه للاستفادة من فرار ابراهيم، رأى أن الجيوش الفرنسية نزلت من مراكبها متوجهة إلى القصبة. وساعدها المحتبسون في هذه الأخيرة فتسلقت الحيطان (¬21) واعتقد ابن عيسى ان لا طائلة في مواصلة هجومه على الحين وجهت حملة ضده، وتم نفيه بعد أن ألقى عليه القبض. والتجأ إلي ابن عدوي: سي احمد ولد بومزراق فنسيت أخطاء أبيه وازدهائه وعينته خليفة لي، واخترته ليكون صهري لكنه خان ثقتى. لقد كان بناحية الحمزة ¬

(¬20) - أنظر دارمندي إلى الدوق دوروفكو، عنابة 5 أفريل سنة 1832 نشره آسكار ضمن ((مراسلات دوروفكو)) ج 3، ص: 182. (¬21) - كان ذلك يوم 17 مارس 1832، نفس المصدر، ص: 187.

عندما ترك مركزه ذات يوم، وأخذ معه مبلغا من الأموال ونهب من كانوا أشد ارتباطا بي، ثم لجأ إلى الحاج عبد القادر الذي عامله بإكرام في بداية الأمر، ولكنه حينما علم بخيانته وأطلع على تفاصيل حياته الماجنة، كبله بالأغلال غير أنه استطاع أن يهرب إلى الفرنسيين، وعندهم أطلق العنان لمؤامراته وفجوره. 4 وأخيرا، أتاني جواب السلطان محمود بعد احتلال مدينة عنابة، وكان كالآتي: ((إن سلوككم إزاء الفرنسيين والإجابة التي تفضلتم بها على اقتراحاتهم ليتفقان في نظري، كل الاتفاق مع العدالة فأثبتوا على هذه السيرة، إنها هي الوحيدة التي يمكن أن تساهم في خير الإسلام والمسلمين. ومما لا شك فيه أنني أريد نجدتكم، وفي هذه الظروف، إنني في حالة سلم مع عنابة فاكتفى بإخلائها من السكان. أما الفرنسيون الذين كانوا قد تلقوا في ذلك الحين نجدات معتبرة، فإنهم لم يتوقفوا عند استيلائهم على القصبة، وإنما نزلوا إلى المدينة واستقروا فيها بكيفية محكمة.

كل هذه الأمور التي ذكرتها وقعت بعد احتلال الجزائر بعامين. وأحدث الاستيلاء على عنابة قطيعة مطلقة بيني وبين الفرنسيين. ولم أعد أفكر منذ ذلك الحين، إلا في خلق أكبر عدد ممكن من العراقيل لمشاريعهم المقبلة، وفي هذا الصدد أمرت ابن عيسى بمحاصرة عنابة ومنع تموينها. وقام الفرنسيون بتنصيب المملوك يوسف، وتعيينه على رأس فرسان البلد. أما ابراهيم الذي لجأ إلى الجبال، فإنه ظل يحاربني مدة عامين، كما كان يدير حربا عوانا على الفرنسيين. وأخيرا لجأ إلى المدية وتوفي فيها. (¬22) أما الباي مصطفى بومزراق الذي كان قد انضم إلى الفرنسيين في بداية الأمر، فإنه لم يلبث أن خانهم، وفي جميع البلدان المسيحية ولا يمكن أن أقطع العلاقات إلا إذا وجدت أسباب جدية للغاية. وإذا قدمت لكم اقتراحات جديدة، فأجيبوا عنها كذلك بتملص، وأوضحوا بأنكم من رعايا القسنطينية،، وبأنه لا يمكن أن تتفاوضوا إلا ¬

(¬22) - ورد في مذكرة من وزارة الحربية (المحفوظات الوطنية في باريس، ف 80، 1973)، انه مات مقتولا بتحريض من أحمد باي وان ابنه وقع نفسه تحت تصرف فرنسا.

عن طريقي وأوصيكم، خاصة، أن تحيطوني علما بجميع الاقتراحات التي تعرض عليكم، وابقوا في طاعتي، ولا تبرموا السلم إلا إذا أمرتكم بذلك، ولا تقلقوا فإنني مهتم بكم.)) كانت هذه الرسالة تحمل خاتم رؤوف باشا، وسلمها لي رسل قسنطينة الذين نزلوا في طرابلس ومنها حملوما إلي. وبدا لي أن إجابة السلطان لم تكن مرضية، فقررت أن أرسل من جديد أحد أعواني إلى القسطنطينية، وانتهيت إلى اختيار بلهوان وتكليفه بالذهاب إلى الوزير رؤوف يحمل إليه الرسالة التالية: انظروا أيها السلطان كيف أصبحت اليوم ملاصقا للفرنسيين لقد استقروا في عنابة وصاروا، في كل يوم، يتقدمون ويتحصنون، ومن الممكن أن أهاجم من لحظة لأخرى وأنا مستعد لاضحي في سبيل ديننا الحنيف، ولاهلك دون أن استسلم إذا كانت تلك هي إرادتكم. ولكنه، إذا أردتم أن نقاوم، فابعثوا لنا النجدات وعززونا بنصائحكم وجيوشكم. وإذا رأيتم من المستحسن أن نستسلم إلى الفرنسيين فامروا بذلك، وإننا سنفعل في الحين، ومن سوء

الحظ، فان الوضع الذي نحن فيه لا يشير إلى شيء آخر غير الطريقة الأخيرة، ولكن، بالله عليكم خلصونا من هذه الحيرة.)) واستقبل الوزير رؤوف بلهوان بشيء من الحذر. وكانت الإجابة تأمرنا بالصبر، وتذكر أن رسولا سيأتي إلى قسنطينة للاطلاع على حقيقة الأمور. والسبب في هذا الاحتراز هو أن باي تونس كان قد بعث إلى السلطان محمود رسائل تهدف إلى إظهاري في مظهر التمرد إذ تقول ((إنكم لا تعلمون ما يجري في قسنطينة، إن أحمد قد شق عصا الطاعة، وتلقب بالباشا، وأعلن عن استقلاله، إنه يضرب النقود باسمه كما لو كان هو سلطا ن القسطنطينية)). ولذلك قرر الامبراطور، كما ذكرت، أن يبعث إلى عين المكان أحد رجاله الأمناء. وكان ذلك هو كامل باي. (¬23) ¬

(¬23) - ان هذه المعلومات تفند ما جاء في أطروحة ج. سار ((سياسة الأتراك في شمال افريقية في عهد ملكية جوليت)) ص 189، إذ يقول: انه لم تكن هناك علاقات مستمرة بين الباي أحمد والباب العالي قبل سنة 1835.

5 وفي هذه الأثناء كنت بناحية عنابة في حرب مستمرة مع الفرنسيين من جهة ومع الباي ابراهيم من جهة أخرى وكان يوسف يقوم بغزوات متعددة ضد القبائل المجاورة. وعلى إثر غرق حدث على ساحل سكيكدة ارجعت إلى الفرنسيين أربعة من النوتية الذين فقدوهم، وبذلك بدأ الجو يتحسن بيني وبين سلطات عنابة، كنت أتمنى أن تستمر العلاقات في تحسن عندما قدم إلى قسنطينة ذات يوم المدعو سي حمدان (¬24) من مواليد مدينة الجزائر. لقد كان مرسلا الي من الحاكم الجديد، الدوق دورفيكو، فسلم لي رسالة كانت بالتقريب، تحتوي على العبارات التالية: ((أستلموا لفرنسا التي وهبها الإله سلطان افريقيا. انه لمن الواجب عليكم، ومن حقنا أن نطلعكم على الشروط التي نضعها لاستسلامكم ولإبقائكم في الحكم. تدفعون 3 ملايين من الفرنكات كتعويضات للحرب وللحملات التي تتسببون فيها يوميا. بعد ذلك تدفعون اللازمة مرة في كل ¬

(¬24) - هو سي حمدان بن عثمان خوجه صاحب المرآة، والذي لعب دورا كبيرا أثناء احتلال الجزائر وبعده.

سنة. فتفاهموا في كل شيء مع رسولي: سي حمدان. إنني وكلت إليه التفاوض معكم وفقا لتعليماتي.)) أحببت سي حمدان ((بأنني لست وحيدا في البلد، ولا أستطيع التفاوض من تلقاء نفسي. إنما سأجمع قادة المدينة والمقاطعة، لأنني تعودت الأخذ برأيهم قبل القيام بأي شيء.)) واستدعيت، حينا، جميع الأعيان في المدينة وفي خارجها، وبمحضر سي حمدان قرأت عليهم الرسالة التي تضمنت نوايا الحكومة الفرنسية. وعلى إثر ذلك بدأ النقاش وبعد أن تكلم كل واحد وأدلى برأيه، تم الاتفاق على أن تكون الإجابة على الرسالة المذكورة بالعبارات التالية: (¬25) ((من جميع الأعيان في المقاطعة إلى حاكم مدينة الجزائر، لقد اتصلنا برسالتكم، وشرح لنا مبعوثكم سي حمدان كل نواياكم. فكيف تريدون منا أن ندفع ثلاثة ملايين (¬26) بوجو إنه مبلغ يفوق ممتلكاتنا. أما عن اللازمة، فإننا لا نرفض دفعها إليكم، ولكن، ليتم ذلك يجب أن تسحبوا ¬

(¬25) - مراسلات روفيكو ج 2، ص: 558. (¬26) - هو الريال بووجه: عملة كانت سائدة في البلاد قبل الاحتلال تساوي 1،8 فرنك فرنسي.

جنودكم من المناطق التي تحتلونها. إن كل ثروتنا تتمثل في القموح والأصواف التي كنا نبيعها في ميناء عنابة. فإذا أرجتم إلينا هذه المدينة، فإننا سنكون قادرين على أن ندفع الضرائب كما كان الأمر في الماضي ولن نرفض ذلك أبدا. ثم بعد ذلك تقيمون قنصلا في عنابة كما هو الشأن في السابق، وعلى هذا الأساس يمكن أن نتفاهم. بيد أننا ننذركم بأننا لا نستطيع ابرام أي اتفاق نهائي دون إعلام السلطان محمود الذي هو سيدنا. ولقد أخبرناه بعد بجميع المقترحات التي عرضت علينا. وان التفاوض اليوم، بدون رضاه، يعتبر عملا صبيانيا يفند كتاباتنا. وعليه يجب أن نكاتب القسطنطينية)). خرج سي حمدان بكتابنا وتوجه إلى عنابة، ومنها أبحر عائدا إلى مدينة الجزائر. وبعد ذلك بقليل رجع إلى قسنطينة، ومعه رسالة ثانية من الجنرال الفرنسي. وكانت الشروط، في هذه المرة، قد تغيرت. لم نعد مطالبين بثلاثة ملايين بوجو، ولكن المبلغ انخفض إلى خمسين ألف دورو إلى جانب اللازم السنوي. ومقابل ذلك تتعهد فرنسا بأن تحصل لي على القفطان من القسطنطينية، شريطة التمكن من تنصيب حاميات فرنسية

في قصبتي عنابة وقسنطينة، وزيادة على ذلك يكون ميناء عنابة تابعا للفرنسيين، وتكون فيه حرية التجارة لهم وحدهم. فأجبت سي حمدان، وسلمته رسالة أقول فيها بأنني لا أستطيع قبول هذه الشروط، ولا دفع الخمسين ألف دورو التي تعتبر مبلغا باهضا بالنسبة إلينا، خاصة منذ أن جردنا من المواني التي هي مصدر ثرواتنا. وكررت كذلك بأن التفاوض لا ينبغي أن يكون معنا، وإنما يجب التوجه إلى القسطنطينية. عندئذ قال لي سي حمدان: ((من الخطأ أن تواجهوا الفرنسيين بهذا الرفض المطلق. فزودوني بعبارات ألطف، وأعطوني 5 أو 6 آلاف دورو وسأذهب إلى باريس وهناك أقوم بمساعي لصالحكم، وسوف أتمكن من تسوية قضيتكم بحيث يتركونكم في أمان.)) وكانت إجابتي: «يا سي حمدان، يشهد الله، لو كنت أعلم أني أحصل على هذه النتيجة بواسطتكم لدفعت عشرين من أضعاف ما تطلبون، ولكنني لا أعتقد أنكم تنجحون)). ألح سي حمدان على إمكانية تنفيذ هذه الخطة وأكد بأن المبلغ الذي يطلبه مني يزيد عن الكفاية.

عندئذ أحضرت خزنداري، فنقده المبلغ أمامي وتوجه إلى عنابة ومنها إلى مدينة الجزائر. وبعد ذلك علمت أنه ذهب إلى فرنسا ثم إلى القسطنطينية، وعندما رأيت وعوده لم تتحقق كتبت له، فأجابني بأن لا خوف علي ولا على دراهمي، ولكنني في الحقيقة تعرضت للمصائب وفقدت دراهمي إلى الأبد. (¬27) 6 في أثناء هذه المفاوضات قدم إلى قسنطينة كامل باي المبعوث الذي أرسله السلطان ليطلع على أوضاع البلاد. فاستقبلته استقبالا يليق بمرتبته، وأمرت حينا، باستدعاء جميع الأعيان في المقاطعة. وعندما اجتمعوا حولنا خاطبهم كامل قائلا: ((لقد أرسلني السلطان أعزه الله لأدعم شجاعتكم وأطلب منكم الالتزام بالايمان والصبر، لأن السلطان محمود قد تفضل بالتفاته إلى بلدكم، وهو لا يريد له أن يتألم مدة أطول، ويقوم الآن بابرام صلح يرمي إلى إبقاء المقاطمة في ¬

(¬27) - يذكر حمدان في مرآته، ص: 213 أن الباي بذل كل ما في وسعه للتفاهم مع الفرنسيين ويؤكد كل ما أورده الباي حول هذه القضية.

حوزته بصفة نهائية. وعليه فلا تقبلوا أي شرط دون الرجوع إلى عاهلكم الشرعي ثم أوصيكم بالاتحاد، وسينصركم الله.)) صنق الجميع لهذا الخطاب ووعدوا بتنفيذه نقطة نقطة ثم سأل كامل الأعيان عن البلاد وعن ادارتي. ومن خلال هذا البحث اقتنع ببطلان اتهامات باي تونس. وبقي عندي مدة ظل يردد أثناءها نفس العبارات التي تفوه بها في الأيام الأولى. وأخيرا أراد أن يطلع السلطان بنتائج مهمته. وقبل أن يتوجه إلى القسطنطينية طلبت منه أن يشتري لي عدة أشياء وخاصة شالات من شالات كاشمير وبمجرد وصوله أنجز المهمة، وبسرعة فائقة أرسل لي ما طلبته بواسطة أحد خدمه، ويدعى عثمان فجاءني إلى قسنطينة وسلمني رسالة من كامل هذا نصها: ((بمجرد ما وصلت إلى مقام مولانا الملك، فضحت لجلالته جميع الاتهامات المغرضة التي وجهها ضدكم مصطفى باي تونس. وان السلطان يطلب منكم ان تتسلحوا دائما بالصبر، وعما قريب سيبرم صلحا لفائدتكم، وإذا لم يكن النجاح كما يتمناه، فإنه سيقرر، عندها، نجدتكم بقوات معتبرة. فلا تخفوا عنه شيئا من أمركم، وإذا كنتم تريدون

ابلاغه معلومات هامة، فافعلوا ذلك بواسطة سي الطاهر باشا الموجود في طرابلس، والذي يجب أن تبعث جميع مراسلاتك عن طريقه.» (¬28) 7 وهنا يجب أن أذكر، بحسب ترتيب الأحداث، أنذارا من الله أنبأني بالمصائب التي سأتعرض لها في مستقبل قريب. لقد كنا في منزل الربيع عندما أصاب قسنطينة مرض مريع، هو الريح الأصفر (الكوليرا) الذي أطلق عليه اسم ((واف)) (¬29). وهو مرض كان يجعل من الرجل الصحيح، في لحظة، جثة هامدة وقد ظل يخرب مدينة قسنطينة مدة 17 يوما. مات في اليوم الأول 220 شخصا من جملتهم 22 جنزية من منزلي. وفي اليوم الثاني بلغ عدد الضحايا 600 ثم 700 في اليوم الثالث. وبعد ذلك صار الوبأ في نقصان إلى أن زال نهائيا في اليوم السابع عشر. ولم ينتشر في قسنطينة وحدها، وإنما بلغت الوفيات في جميع القبائل ¬

(¬28) - قد تكون هذه الرسالة هي التي جعلت سار وغيره يعتقدون بأنه لم تكن هناك علاقة مباشرة بين الباي أحمد والباب العالي. (¬29) - أنظر صالح العنتري، ص 69، حيث يقول: ان هذا الوبأ ظل مدة أيام يبيد يوميا 500 شخص.

درجة جعلتنا نعتقد أن عزرائيل ناقم عن بلدنا. لقد كان هناك معسكر، وعندما رأى مكونوه ان عددهم لم يعد كافيا لدفن الجثث فروا متفرقين. ولقد شهدت حادثة أثرت في تأثيرا عميقا، وخلاصتها أن طفلين كانا يلعبان على ركبتي، وفجأة شحبا ولم تمرر إلا لحظات حتى لم يبق بين ذراعي سوى جثثين هامدتين. ووقعت بدوري مريضا ولم أنج إلا برعاية خاصة من الله. وأقيمت الصلوات في جميع المساجد فحن الله علينا، وكما ذكرت، توقف الموت عن انتهائنا في اليوم السابع عشر. لن أتكلم عن الحملات المتعددة التي أمرت بشنها، أثناء السنوات التي عقبت احتلال عنابة (¬30)، على قبائل الصحراء وقبائل وادي مغير التي لجأ إليها فرحات بن السعيد، والتي ظل يشعل فيها نيران الثورة ضدي، حتى أن الضرائب أصبحت في هذه الناحية، لا تدفع إلا قهرا. وكان على شيخ توقرت أن يتوب مرات عديدة. غير أن هذه الأعمال لم تهدد، قط، سلطتي: إذ أن الحرب هي عادة الأعراب وأن الذي يريد حكمهم قد يتحتم عليه إبقاءها ¬

(¬30) - تفاصيل هذه الحملات موجودة في كتاب بوعزيز بن قانه المذكور، ص: 47 وما بعدها.

بينهم، والتحريض على المنافسات بين القبائل المختلفة الأصول والأجناس. أما أوضاع السلم، فإنها تقارب بين العرب وتوحدهم حول غرض واحد. وهذه حالة لا ينبغي أن يطمئن إليها من كان يريد السيطرة عليهم إذ قد تأتي ظروف يتحد فيها هؤلاء الرجال كالأخوة، ويجدون أنفسهم منظمين للقيام بالثورة. وعلى العكس، فإذا وجدت الحرب أو العداوات بينهم، فإن من يريد حكمهم يكون دائما متأكدا من إيجاد الأنصار. ومن المعلوم أن الحرب بين القبائل تخرب البلاد وتسهل السيطرة على من كانوا بعيدين عن السلطة، خاصة إذا لم تكن لهذه الأخيرة جيوش كبيرة أو حاميات متعددة في الحصون تنفذ أوامرها. 8 إن الذي شغل بالنا، بعد الكوليرا، هو رجوع يوسف المملوك إلى عنابة. لقد كان غادر هذه المحلة التي رأيناه ينزل فيها للمرة الأولى، ليتبع الفرنسيين إلى الغرب. وعندما عاد شرع يوزع كمية من الرسائل على سكان المقاطعة تقول لهم فيها: أقبلوا علي، إنني مسلم مثلكم، جئت أخلصكم من الاحتلال الفرنسي ومن طغيان أحمد الذي يضطهدكم. إنني لم آت إلى هنا إلا لأساعدكم على

إبادة جميع الفرنسيين، وللقضاء على وجودهم. اجعلوني على رأسكم وسوف ترون أنني أعرف كيف أنجز مشروعي)). لقد قرأت عددا من هذه الرسائل التي وجهها لي حسناوي الذي كان موجودا بعنابة. وتبعا لما أوصيت به من أخطار السلطان بكل ما يجد في المقاطعة، أرسلتها إلى الوزير رشيد باشا في القسطنطينية، ولا أدري إذا كانت هذه الرسائل عرضت على السلطان أم لا، ولكنني أجزم بأن سي حمدان، الذي كان في القسطنطينية آنذاك، قد كلف بترجمتها إلى التركية. واستولى الفضول على العرب الذين اتصلوا برسائل يوسف، فأرادوا أن يعرفوه ويختبروا دينه. ولذلك بعثوا إليه جماعة منهم تستوضح الأمر (¬31) فاستقبلهم يوسف بحفاوة، وليؤكد لهم صحة إسلامه أدى أمامهم الشهادتين وردد مرارا: ((لا إلاه إلا الله محمد رسول الله)). ثم كرر لهم ما كان قد ضمنه رسائله، من أنه لم يأت إلى البلاد إلا ليطرد الفرنسيين منه. ¬

(¬31) - كان يوسف يشرب الخمر، ويأكل الخنزير حتى في رمضان، ويرقص مع الأوربيات، كما كان ينهب القرى المجاورة، ويطلب من جميع القبائل الدراهم والنساء، ويقتل، تحت العصا، القادة الذين يرفضون تلبية رغباته (مراسلات كلوزال، اسكار، ج 2، ص: 120).

ولا تنور بدوري واستفسر عما يقوله يوسف، أرسلت له ابن شيخ وادي زناتي. فقصده هذا الشاب إلى عنابة بإذن مني وأحاط سفره بغموض كبير وتقابل معه مدة طويلة دارت فيها المناقشة حول كل ما ورد في رسائل يوسف. والظاهر أن هذا الأخير أعجب بحديث الرسول الفتى، ولاكتساب ثقته أهداه بندقية جميلة لم يحتفظ بها وإنما حملها إلي. بعد ذلك وجه له ابن الشيخ السؤال التالي: ((في أية فترة تريدون تنفيذ ما وعدتمونا أن تقوموا به إزاء الفرنسيين وأجاب يوسف بأنه لا يستطيع تحديد ذلك ((لأنني ما زلت في حاجة إليهم، ولكنكم سترون فيما بعد كيف أنفذ وعودي.)) لقد كنت وما زلت مقتنعا بأن كل ما كتبه عن مشاريعه ضد الفرنسيين، لم يكن سوى لمغالطة العرب، وتأكد لي ذلك، خاصة، عندما رأيت أن نفس يوسف هذا طفق ليكون لنفسه حزبا في المقاطعة، ينشر عن حياته الماضية أقاصيص كاذبة تبين للجميع فيما بعد أنها لا تعتمد على أي أساس من الصحة. وهكذا أراد أن يقدم نفسه كأخ لأحمد باي المملوك باي

قسنطينة السابق. ولكنه تبين أن أحمد باي كان جورجي المولد بينما يوسف يهوديا من يهودي إيطاليا المرتدين. لقد علمت بهذه التفاصيل من أحد رفقائه القدماء، المسمى سليم الذي قضى معه سنوات طويلة عند سليمان كاهية تونس، حيث كانا مملوكين. فلم يخدم إذن، سوى باش مملوك باي تونس. وذات يوم فر يوسف وسليم بعد أن ارتكبا عملا إجراميا إزاء سيدهما. فقصد يوسف الفرنسيين، بينما جاء سليم إلي فاستقبلته بحفاوة وقلدته منصب قائد الشعير ليكتسب عيشه وكثيرا ما كان يقص علي النوادر المذكورة، وإنه لمن حقي أن أثق به، خاصة وأن الرجل ظل وفيا لي عندما سلطت علي المصائب، فتبعني إلى المنفى. ولما أذنت له بالانسحاب كتب إلى سيده ليعفو عنه، ولكن سيده كان قد نقله ربه إلى جواره. ومع ذلك رجع سليم إلى تونس وهو اليوم يشغل منصبا ممتازا في جيش الباي أحمد، وفي استطاعة كل واحد أن يسأله أنه هو الذي أخبرني بأن يوسف كان يهوديا، وذلك في الظروف التالية: التقيت به عندما علمت ما كان يجري في عنابة فقلت له: ((يا سليم ألا يتركني أخوك أنا وشأني - أيها السلطان،

كيف يمكن أن يكون هذا الرجل أخي. ولدت في الشركس من أبوين مسلمين، وولد يوسف في إيطاليا من أبوين يهوديين.)) وبعد كل هذا تعجبت كثيرا من مساعدة الفرنييين له. وفهمت جيدا أن كل أقواله عن طردهم، لم تكن سوى نتيجة اتفاق بينهم. ولكن الذي لم أستطع أن أتصوره هو إعطاء السلطة لرجل ليس له أي تأثير في البلاد. وبالفعل، فلكي يكون للمرء نفوذ يجب أن تكون له ثروة عظيمة ومواهب كبيرة، وان يكون عالما وشجاعا ومن أسرة نبيلة جليلة، ويوسف لا يملك أي شيء من هذه العناوين كلها. وان الذين لم يكن لهم أي كره ضد الفرنسيين يسخطون عليهم عندما يرونهم يريدون أن ينصبوا على رأسهم رجلا عرف في تونس كأبسط ما يكون. وان هذا السخط ليزداد عندما نعلم انه أحاط نفسه بأناس انقضوا على المقاطعة ليستحوذوا على المناصب وأعني بهؤلاء الناس القائد سليان بن زكري (¬32) وغيره. ¬

(¬32) - يقول عنه بيليسي في حولياته (الجزء الأول، ص 323): انه شخصية غامضة هرب من قسنطينة ولجأ إلى الجزائر حيث اتصل بقائد الحملة فكلفه بحماية ((حصن الماء)) (برج الكيفان حاليا) مقابل 6000 فرنك شهريا.

على ذلك، فان جيوشي لم تكن محنكة كما أن فرساني لم يكونوا قادرين على التحرك بسهولة في الأراضي التي تجتازها. وعليه قلت في نفسي: ((لنترك الفرنسيين يتقدمون إلى قسنطينة دون أن نتعرض لطريقهم وان نفس الرجال الذين ضعفوا في السهل سيقاومون أحسن مقاومة عندما يكونون وراء الأسوار. ومن جهة أخرى، فان للفرنسيين أمتعة كبيرة، وتحركاتهم صعبة ثم بعد ذلك يتحتم عليهم أن يهاجموا قسنطينة. ان العملية خطيرة وما علينا إلا أن نتركهم يتقدمون إلى داخل المنطقة وأتبعهم عن كثب حتى يكونوا بيني وبين المدينة، ويكون عليهم أن يحاربوا على جبهتين.)) وعلى أساس هذه الخطة لم تعد المدفعية تفيدني كثيرا، فأرسلت جزءا منها إلى المدينة وانسحبت مع الأجناد إلى مؤخرة الجيش الفرنسي لا تفصلني عنه سوى مسافة قصيرة جدا، أرقب باستمرار جميع حركاته. (¬35) ¬

(¬35) - يذكر مارسي في كتابه ((حول حصار قسنطينة)) ص: 18: ان أحمد لم يتحرك أثناء هذا الحصار، ولكن خطة الباي كانت معقولة جدا وهي التي مكنته من الانتصار.

وأخيرا وصل الفرنسيون إلى قسنطينة، ولكن الأمطار والثلوج التي كانت قد سقطت بقوة خارقة تكاد لا تعرف مثل هذه الفترة من السنة، قد ألحقت بهم خسائر فادحة، ومنع الوحل والثلج من تقدم تجهيزات المدفعية وعتاد الجيش وفي الحين أوليت كل اهتمامي بمن تبقى في المؤخرة، فهاجتهم وقتلت عددا كبيرا منهم وغنمت قسطا من التجهيزات. وان الذين تمكنوا من اللحاق بالمقدمة، لم يتسن لهم ذلك الا مشتتين وفي كثير من الفوضى. وعندما التحق هؤلاء الرجال بمشقة كبيره بالجيش، تم في الحين تنصيب مدافع في المنصورة وفي هضبة سيدي مبروك لمهاجة المدينة. وانقسم الفرنسيون إلى فريقين ثم نزلوا مع منحدرات المنصورة وقطعوا وادي الرمل وليتمركزوا في كدية عاتي (¬36) ويجعلوا منها نقطة هجوم ثانية ضد المدينة. وتوجهت بكل ما أخذته من الفرنسيين إلى المكان المسمى مسلح (¬37) في طريق قسنطينة، ثم أقمت المدفعية ¬

(¬36) - هي الكدية الحالية، في قسنطينة. (¬37) - ربما هي عين الصلاح الواقعة على مقربة من وادي زناتي.

التي بقيت معي في الونقات (¬38) وأضفت إليها جميع الغنائم. وهكذا أصبح الفرنسيون، كما توقعت، بين المدينة التي ينوون مهاجمتها وفرساني الذين يحاصرونهم. ولما خشيت أن تكون حامية قسنطينة غير كافية، قررت أن أرسل إليها جزءا من عساكري الذين يمكنني الاستغناء عنهم. واستطاعوا أن يمروا وسط الجيش الفرنسي، ليلا ويدخلوا قسنطينة من جهة صعبة توجد بين القصبة والباب الجديد والمنحدر الذي تسلقوه للوصول إلى هذا المكان يسمى: عقبة السماره (¬39) وقد وقعت في هذه الليلة، بين المدينة والفرنسيين معركة حامية الوطيس امتدت طوال اليوم الثاني وكانت الأمطار تشكل عائقا بالنسبة لجميع المحاربين إلا أنه كان أقل بالنسبة إلينا نحن الذين نعرف الميدان الذي تدور فيه الحرب، ولذلك استفدنا من جميع المزايا ولم نسمح للفرنسيين بأن يذوقوا طعم الراحة ولو لحظة واحدة. غير أن الوقت كان معاكسا إلى درجة أنني أمضيت عشرة أيام متتالية دون أن أستريح ساعة وقد ¬

(¬38) - نعتقد أنها مدينة الزغوت يوسف حاليا، والتي كان الفرنسيون يسمونها ((السمندو)). (¬39) - هي العقبة التي ندخل منها إلى قسنطينة عندما نأتي من عين السمارة التي تبعد بحوالي 20 كلم عن المدينة.

أثرت الأتعاب والآلام في جسمي حتى أنني ما زلت أشكو الأوجاع في كامل نصفي الأيسر. ومع ذلك عرفت كيف أتحمل المشاق. أصبحت العلامات تدل على أن الفرنسيين استنفذوا عتادهم، وفهمت أنهم صاروا يردون القيام بمحاولة يائسة للاستيلاء على المدينة. لقد كانوا، كما ذكرت، يقومون بهجوم مزدوج، يستهدف الأول باب القنطرة بينما وجه الثاني ضد الباب الجديد. فأما الهجوم الأول، فإنني لم أكترث له كثيرا لأن الوصول إلى باب القنطرة يتطلب اجتياز القنطرة وهي ضيقة وباستطاعة حراس هذا الجانب أن يتصدوا له بكل سهولة. وأما فيما يخص الباب الجديد، فإن الأمر يختلف لأنه يقع في مفرق طرق الأجزاء الموحدة بين كدية عاتي والمدينة، وهو النقطة الحساسة التي يجب أن تهاجم منها قسنطينة، والمكان الوحيد الذي يمكن أن يتم منه الحصار. كان الجو قد ازداد رداءة، وكنا نستعد لاستقبال اليوم السابع عندما بدأت جيوش الباب الجديد تتقدم وفي أثناء الليل نصبت مدفعا قريبا جدا من الباب، وكان الغرض هو توجيه قنابل تتلف قضيبا حديديا كان يمسكها.

وأقام المدفعيون الفرنسيون بواسطة الحبالة نظاما خاصا لإحكام التصويب ولإصابة الهدف المقصود بالضبط. وانطلقت النار لكن القنبلة أخطأت الهدف. غير أنها أطلقت بقوة فائقة حتى أنها اجتازت ثلاثة أبواب وراحت تستقر في أعماق سور أحد المساكن المجاورة. وعلى إثر الانفجار مباشرة اندفعت الجيوش، لكن الباب لم تفتح، ومن القمة التي كانت محصنة أطلق المدافعون النيران فقتلوا ستة عشر رجلا، وانسحب المهاجمون تاركين مدفعهم وحصانا مجروحا. من جهة باب القنطرة كان العدو قد أتى بأكياس التراب والسلاليم وصناديق البارود لتهديم الباب. واندفعت الجيوش إلى القنطرة ثم بدأت أشغالها، ولكنه في هذه اللحظة، أطلقت عليهم نيران مدفع كان معدا لهذا الغرض فقتل منهم اثني عشر رجلا. وأعيدت الكرة، ولكن الفرنسيين لم يتحملوا فانسحبوا تاركين وراءهم السلالم وصناديق البارود ومجموعة من الأشياء الأخرى. أما أنا، فقد ظللت أرقب ما يجري صحبة أجنادي. وفي الصباح الباكر سمعت مزامير جيوش المنصورة وعلى اثرها بدأت جيوش الكدية تنسحب. فانطلقت وراءها،

طاردها، ولكن بنشاط قليل حتى أزيد من يأسها. وبدا لي من الواضح أن كل الجيوش الفرنسية تريد الانسحاب، استبحت ذلك من كميات البارود الهائلة التي أحرقوها في أوقات مختلفة دون أن يشكل انفجارها ما نسميه ((بالفومادة)) وعندما صارت هذه الجيوش تقطع وادي الرمل هاجمتها فعليا، ولكنني بمجرد ما سمعت طلقتين من أحد مدافع البارود في المنصورة أدركت أن العدو أمر بالعودة إلى عنابة فخففت المطاردة، وأصدرت أمرا لجميع فرقي حتى تترك الجيوش الفرنسية تنسحب. ورفضت أن أغتنم فرصة رداءة الطقس لألحق خسائر أخرى بالفرنيين قائلا في قرارة نفسي: لو أننا نبيد الجيش كله بمطاردتنا هذه ومواصلة هجوماتنا المستمرة، فإن فرنسا - القوة التي لا تقف في وجهها قوة - ستعمل بصرامة على أخذ ثار هذه الهزيمة، الأمر الذي قد يؤدي إلى هلاكي.)) ومن جهة أخرى كنت آمل أن الفرنسيين سيوفدون إلي في خضم هذه الأحداث، شخصا يفاوضني ويعمل معي على إرساء سلم متين نستخرج بذوره من هذه الحرب. غير أن أملي كان بلا جدوى وأن أحدا لم يأمني.

كنت وددت، كما ذكرت ذلك أعلاه، لو أنني أحول دون مطاردة الفرنسيين، ولكن جنودي كانوا موزعين على مساحة واسعة جدا، بحيث أن أوامري لم تصلهم في الوقت المناسب. ثم ان العرب الذين يحبون النهب لم يتمكنوا من كبح أنفسهم. وأخيرا دخل جماعة من التونسيين إلى مغارات المنصورة وذبحوا عددا كبيرا من الفرنسيين المرضى والجرحى الذين تركوا فيها إلى مصائرهم. غير أن هذا كله وقع على عكس ما أمرت به. وظللنا نتابع الجيش الفرنسي إلى الصومعة (¬40) حيث تكررت الفومادة التي اعتبرتها من جديد كعلامة للانسحاب. لست أدري إذا كان من الضروري أن أذكر بأن وجود يوسف في صفوف الفرنسيين هو الذي كان يشكل بلا شك، السبب الرئيسي في مقاومة سكان قسنطينة والمقاطعة وفي مقاومتي أنا بصفة خاصة. فلو كنت أعلم أنني أستطيع التفاوض مع الجيش والاحتفاظ بمرتبتي كباي لحاولت أن أفعل ذلك. ولكنني عندما رأيت أنهم جاؤوا بباي ليستبدلوني وأكثر ليهينوني ¬

(¬40) - مكان الهرم حاليا، وكان الأهالي يسمونها صومعة أبليس.

اذ اختاروا لهذا الغرض مملوكا، ((ايكور غليا)) من تونس، لم أعد أرى شيئا آخر غير المقاومة النشيطة، وهو ما فعلت وقد كان على أن أفعله من قبل. وهكذا إذن لاحقت الجيش الفرنسي دون أن أهاجمه بشدة، وإذا كان قد تعرض لهجومات خطيره من طرف أجنادي ذلك كان عكس إرادتي. وظللت أنتظر بعض المفاوضين، ولكن أحدا لم يأت. ولقد اندهشت كثيرا لذلك، لأنني لم أتماد في الملاحقة إلا لا تصل برسول من الجنرال الفرنسي. وبقيت أتبع الفرنسيين إلى ما بعد ((مجاز عمر)) والي قالمة حيث دخلوا معسكرهم. وفي أثناء الانسحاب كان يوسف يتبختر في أوساط الذين كان سببا في هزيمتهم، وكان العرب الذين يرونه يصيحون في وجهه قائلين: ((كيف يمكن لك أن تبقى في صفوف الفرنسيين بعد أن صيرتهم في هذا الوضع وجلبت عليهم المصائب، أنظر ماذا كلفتهم درجة باي التي أرادوا أن يرفعوك إليها)) كما أنهم كانوا يوجهون إليه شتائم أخرى تتعلق بأصله وبحياته حينما كان في تونس. أما أنا، فعندما رأيت أن الفرنسيين لم يوجهوا لي أي

اقتراح، وانهم أقاموا معسكرهم بكيفية تدل على أنهم لن يبرحوه قبل أيام، قررت الرجوع إلى قسنطينة لأشكر أولائك الذين قدموا لي مساعدة لا يمكن تقييمها. وفي طريق العودة وجدت عددا كبيرا من العربات المشحونة بالمؤن المختلفة الأنواع. لقد كان فيها البيسكوت والسكر والقهوة وأدوات التشريح وعتاد الحرب والخمور والأحذية، وبإيجاز كل ما يحتاج إليه الجيش الفرنسي من تجهيزات. فأمرت بجمع هذه الغنائم ووعدت إعطاء إجازات للعرب الذين يحملون إلي بعض البقايا. فحددت 2000 بوجو للمدفع و 500 بوجو للبندقية. ومن أتى بأسير حي يأخذ 500 بوجو، بينما لا تعطى لمن يأتي برأسه سوى 200 بوجو. وهكذا اشتريت بأموالي الخاصة كل ما قد ترك. ويقدر المبلغ الذي استعملته لهذا الغرض بأكثر من 100.000 دورو. ولقد تسامحت في هذه العملية حتى أنهم قدموا لي كلبا وجدوه في مغارات المنصورة، فاشتريته بما تبقى. وان الغرض من تصرفي هذا هو انني كنت أقول في داخل نفسي: ((ان الفرنسيين لن يبيتوا على هزيمة.)) وانهم

سوف يعودون لأخذ الثأر، وإذا استطعت أن أرجع لهم كل دلائل الهزيمة، فان الشروط التي يمكن أن أقترحها عليهم تكون أكثر معقولة.)) (¬41) بعد أن انتهيت من هذه المهمة رجعت إلى قسنطينة حيث سرحت أجنادي وشكرت جميع الذين هرعوا لمساعدتي. ثم وزعت عليهم جوائز تتناسب مع خدماتهم وانصرف كل واحد راضيا مرتاح البال. 10 بمجرد ما رجعت طلبت من ابن عيسى ومن خليفتي أن يطلعاني على كل ما جرى. فعلمت أنهم عقدوا مجلسا حربيا اثناء هجوم الفرنسيين، وان شيخ البلد كان قد أشار بالاستسلام وبرقع علم فرنسا فوق المسجد الأعظم كدلالة على ذلك. وان هذا الاقتراح لحلقة من سلسلة المؤامرات التي كان يوسف قد حاكها، واستطاع أن يشرك فيها معه، جميع الذين يحقدون على سلطاني. والعامل الرئيسي في هذه المسألة يدعى مرابط العربي الذي ¬

(¬41) - يريد أحمد باي أن يبرهن الفرنسيين، الذين كان في أسرهم أثناء صياغة هذه المذكرات، على أنه لم يكن عدوا لدودا لهم.

برهن لي، في تلك الظروف، على لؤم شديد وأكد لي مرة أخرى صحة المثل القائل بأن العدو عدو حتى ولو اغدقت عليه النعم، فإنه يغتنم أول فرصة للإيقاع بك. قبل ارتقائي إلى درجة باي، وعندما كنت ما أزال قائدا على العواسي (¬42) عرفت العربي القسنطيني. لقد كان مشهورا بالفكاهة والمداعبة لا يحاشي أحدا ولم أسلم منه حتى أنا. وبما أن الداي حسين كان يسمع له، فإنه رفع إليه اتهامات ضدي أطلعني عليها الباشا فيما بعد وذكر لي صاحبها. غير أنه لم يكن لهذه الاتهامات أي مفعول اذ أن حسين عينني بايا على قسنطينة بعد ذلك بمدة قليلة رغم ما أبديته من رفض، فازداد غيظ العربي لذلك وأخبرت بكل ما كان يوجهه إلي من سب ولم أعط لشتائمه اهتماما كبيرا، بل لقد نسيتها. وفي هذه الأثناء استولى الفرنسيون على الجزائر , وعندما جمعت - في جنان الباشا جميع الهاربين من المدينة، جاءني العربي صحبة أسرته وقال لي: ((يا أحمد إنني لجأت إليك، ووضعت بين يديك زوجتي وأطفالي وكل ما أملك. أعرف بأنني أسأت إليك، ولذلك أهبك رأسي، ولكن انقذ حرمي وأبنائي وأعدهم إلى ¬

(¬42) - قبائل كانت تسكن بناحية عين البيضاء.

قسنطينة فأموت مرتاح البال.)) وكانت إجابتي: ((لا! لا أريد رأسك، ستتبعني، وستقاسمني أتعاب الطريق. لقد مضى كل ما كان بيننا ووقع في عالم النسيان.)) ورد علي العربي من عبارات الإجلال والاحترام والإخلاص حتى ظننته صادقا. وفي الحقيقة لقد ظل هادئا مدة سنتين. فكافأته على ذلك وعينته قائدا على بني مروان (¬43) ولكن السلطة غيرته، إذ أنه لم يستعملها إلا للتآمر ضدي. فاتصل بجميع أعدائي، وكتب إلى الفرنسيين وأخيرا ارتبط بيوسف وأصبح رائد جميع أنصاره الذين يعملون على رفعه إلى درجة باي. كل هذا جعلني لا أستطيع أن أعفو عن خيانته ولا أن أغض النظر عن كفرانه بالنعمة. فحكم عليه بالإعدام ونفذ الحكم فيه. والجدير بالذكر هو أن جريمته الأساسية، في نظري، لم تكن هي رغبته في الاستسلام للفرنسيين، إذ كنت على قاب قوسين أو أدنى من ذلك، ولكن الذي أدانه، في نظر السكان أنفسهم، هو تآمره مع يوسف ليعين بايا. أما شيخ البلد، الذي أجرم هو أيضا، وبما أنه كان شيخا محبوبا لعلمه، ¬

(¬43) - قرية صغيرة على مقربة من الميلية.

فإنني اكتفيت بأن ذكرت له خطورة الغلطة التي ارتكبها، ثم ان تقديرنا له قد فرض علينا النسيان. 11 وبعد ذلك فكرت في تصليح أسوار قسنطينة وحصونها التي تأثرت من هجومات العدو. ثم أمرت بتهديم جميع المنازل بين الكدية والمدينة لأن المحاصرين كانوا قد استقروا بها، واتقوا بحيطانها ليلحقوا أضرارا كبيرة بالسكان. ولم أترك إلا القبة التي تأوي ضريح المرابط فارق. وأخيرا، اشتريت من القبائل الجنوبية كميات هائلة من البارود. وبهذه التدابير أصبحت قادرا على صد عدوان جديد تدل جميع العلامات على أنه سيقع قريبا. وفكرت كذلك، في اعلام السلطان محمود بكل ما جرى وفي أن أطلب منه معونة ومساعدة في حالة هجوم جديد. وأجابني السلطان برسالة كتبها شرف أفندي هذا نصها: ((لقد علمنا من رسالتكم التي نقلها إلينا سي الطاهر، باشا طرابلس، بكل ما حدث في بلادكم. وإننا نهنئكم على الشجاعة التي أبديتموها في مثل هذه الظروف، ونحمد الله على النصر الذي حققه لكم. إننا ندرك جيدا بأن الكافر سيهاجمكم من جديد، ونخبركم بأننا لن نبخل

عليكم بمعونتنا. وسنرسل إليكم عددا كافيا من الجنود والمدافع ومن المختصين في المدفعية.)) لقد وصلتني هذه الرسالة في فصل الربيع من سنة 1253. وبعدها بقليل جاءني اعلام أنه وصل إلى تونس أربع بواخر مشحونة بالجنود الأتراك وعلى متنها 12 مدفعا و 150 من المختصين في المدفعية وما يتبع ذلك من عتاد. في بادىء الأمر، سمح أحمد باي تونس بإنزال المدافع، ولكن عندما وصل دور الجنود ليلتحقوا بالأرض ويستعدوا للرحيل، أرسل أحد ضباطه إلى القبطان باشا يخبره بأنه على إثر وصول البواخر التركية، دخلت إلى مياه تونس سفن حربية فرنسية، وإذا تم إنزال الجيوش، فإن الفرنسيين سيهاجمون المدينة حينا ولذلك فهو يرجوه عدم السماح بإنزال الجنود حتى يحفظ السكان من كل سوء. وفي نفس الوقت كتب لي رسالة يطلب مني فيها أن أعذر سلوكه. ويقول بأنه يقيم علاقات طيبة مع الفرنسيين ولا يريد أن يجلب لبلاده حربا مدمرة نتيجة سماحه للجيوش التركية بالنزول ويتأسف للظروف القاسية التي

اضطر فيها إلى حجز معونة موجهة لأحد حماة الإسلام: وقد جاء في رسالته هذه: إنني لم أفعل ذلك عن محض إرادتي، وما قصدت غير الخير. فاسمح لي يا أحمد وإنني أطلعت السلطان محمود على ما أرغمت عليه، وقلت له بأن الدنيا بأسرها تخاف اليوم، قسوة فرنسا. ولا أستطيع أن أعرض مملكتي لغضبها. ومن جهتك أحطه علما بكل ما جرى وأكد له الحقيقة التي أخبرته بها)). لقد كان تصرف باي تونس، في تلك الظروف، عن حيلة وخداع. فعلى الرغم من العواطف النبيلة، التي خصني بها، كما رأينا، فإنه كان يطمع في ضم مقاطعة قسنطينة، ثم انه رفض إعادة شحن المدافع بحجة أنه سيرسلها إلي في الوقت المناسب، ولكنها ظلت في تونس حيث استعملها في مصالحه الخاصة وظن القبطان باشا أن من واجبه الاستجابة لرجاء الباي، فرفع الشراع وغادر المدينة دون أن يشترط استرجاع المدافع. وأحدث لي الاهمال الذي تركت فيه حزنا شديدا خاصة وان رسائل كامل باي كانت قد زودتني بآمال كبيرة.

12 أريد أن أذكر هنا ما دار بيني وبين ضابط فرنسي (¬44) كان في تونس. لقد سافر إلى هذه المدينة، لأغراض تجارية، يهودي من قسنطينة، كان خادما في قصري ويدعى ابن بعجو. وصدفة، أو بسبب معين ارتبط بنقيب فرنسي اسمه فولتز (FOLTZ) ، وذات يوم قال له هذا الضابط: إنني أريد أن أكتب إلى سيدك، فتحمل إليه رسالتي وتعود إلي بجوابه. وجاء الله ابن بعجو إلى قسنطينة حيث سلمني ما حمل. وكانت اقتراحات للصلح ألهمتني قراءتها في الحين إجابتين، أحديهما لوالي الجزائر وثانيتهما للنقيب. ثم أرسلتهما إلى تونس بواسطة ابن بعجو. وبمجرد اتصاله بالرسالتين، سافر السيد فولتز إلى الجزائر وأخذ معه ابن بعجو الذي رجع لي باقتراحات من الوالي العام، وكانت هذه الاقتراحات قاسية إلى درجة أنني لم أتمكن لا من قبولها ولا من الإجابة عليها إلا بالرفض، وكان ابن بعجو، مرة أخرى، هو حامل الكتاب، ¬

(¬44) - قام بهذه المفاوضات، في بادىء الأمر أحد المغاربة المقيمين في تونس يدعي: الحريشي (محفوظات الولاية العامة، و 120).

فلم ذهب إلى مدينة الجزائر لأن الوالي العام الجديد الذي خلف صاحب حصار قسنطينة، كان قد وصل إلى عنابة. (¬45) وعندما كنت في ناحية مجاز عمار (¬46) وجه إلي المدعو بوجناح، وهو يهودي جزائري يرتدي لباسا فرنسيا. فلم أتفاءل خيرا بمجيء رجل من هذه الملة، لأن اليهود، في هذه البلدان، كانوا دائما قد عكروا صفو الشؤون السياسية التي تدخلوا فيها. إنهم لا يحاربون، ومن فائدتهم أن يروا غيرهم يتناحرون. إنهم كالضباع التي تأتي بعد معركة الأسود تلتقط البقاء. وإذا قيل لي لماذا استعملت اليهودي ابن بعجو؟ أجبت بأنني لم أكن صاحب الاختيار، وإنما النقيب الفرنسي هو الذي انفتح لأول شخص التقى به - وربها كانت له تعليمات في هذا الشأن _ وصادف أن كان ذلك الشخص يهوديا. فكبير الجنرالات، اذن، هو الذي أرسل بوجناح معتقدا، حسب ظني، بأنني فوضت لهذا اليهودي أن يتفاهم مع الفرنسيين. وكان ذلك غلطا. لأنني لم أكن ¬

(¬45) - يسند دامرمون رفض أحمد إلى مناورة من الأمير عبد القادر (مراسلات دامرمون، ص: 274). (¬46) - دوار صغير الى جانب حمام المسخوطين بالقرب من مدينة قالمة.

أعرف بوجناح ولا أسمع به إلى اليوم الذي سلمني فيه رسالة تقترح علي الأمان بالشروط التالية: (¬47) ادفع غرامة حرب مقدارها مليونان وتدخل حامية فرنسية إلى قسنطينة تحتل القصبة وبالمقابل تترك لي السيادة على على المنطقة الواقعة بعد مجاز عمار الذي سيبنى فيه معسكر عندما يتم الاتفاق. وتنص الشروط أيضا، على أن جميع القبائل تستطيع، إذا رغبت في ذلك ودون معارضة مني أن تعترف بسلطة فرنسا. وردت إلي هذه الرسالة في بلاد عمر بالمكان المسمى بيار العسل وعلى الفور استدعيت جميع أعيان المقاطعة، وعندما وصلوا أجمعوا على عدم قبول هذه الشروط. وبعثت الرسالة إلى علماء قسنطينة فردوا بنفس الإجابة. وعليه أجبت كبير الجنرالات بأن اقتراحاته قد رفضت، لا مني فقط وإنما من جميع أعيان المقاطعة، ومع ذلك فالله يشهد أنني أريد السلم، وإذا كانت تلك هي أيضا رغبته فما عليه إلا أن يقترح علي شروطا تكون أقل قسوة، وقلت انني سأدفع اللازمة وكذلك مبلغا معتدلا مقابل مصاريف ¬

(¬47) - نجد مشروع هذه المعاهدة في مراسلات دامرمون، ص: 278.

الحرب، ولكنني لن أوافق على ترك القبائل حرة في الخروج عن طاعتي وإذا فعلت فكيف تريدون أن أدفع اللزمة. لأن العرب سينضمون إليكم عند أقل الغضب وأن الطريقة الوحيدة التي تسمح لي بأن ألبي رغبتكم هي أن تنسحبوا من المكان الذي أنتم فيه لتبقوا في عنابة وتتركوا لي باقي المقاطعة)). وذهب بوجناح بهذا الرد ثم عاد بعد ذلك بقليل ومعه رسالة لا تغير أي شيء في الاقتراحات الأولى: إنما هي تكرار لما كنت قد أخبرت به (¬48). وعليه أجبت بأن ((الشروط قاسية جدا، ولا أرى أنكم ترغبون في إبرام السلم، ولو كان العكس لعدلتم الاقتراحات، وأن رسالتكم الثانية تشبه كتابكم الأول وعليه فإجابتي الثانية لا يمكن إلا أن تكون مطابقة للأولى. واعتقد أنه لم يبق بيني وبينكم غير المعركة)). إن الجنرال الفرنسي قد أساء الاختيار عندما وضع ثقته في بوجناح، لأنني بمجرد ما أعلنت له تصميمي قال لي: ((لقد أحسنت في رفضك حدود مجاز عمر التي اقترحت عليك. إن الفرنسيين أناس يريدون التوسع ¬

(¬48) - ترجمة هذه الرسالة منشورة في المراسلات المذكورة ص: 619.

بجميع الوسائل الممكنة. فهم اليوم، يطلبون منك هذا وغدا سيطالبونك شيء آخر، ثم - أضاف قائلا - إن جميع هذه الأمور لا تقرر في افريقيا، وإنما في فرنسا أي في باريس. وإذا أردتم أن تضعوا ثقكم في فانقدوني 2000 دورو، وسأذهب في الحين إلى هذه العاصمة وهناك سأحصل على سلم معقول وملائم لكم. ((ولكنك، - صحت في وجهه - تتهم الفرنسيين بأنهم يريدون مخادعتي بينما تلك هي نيتك أنت أيها اليهودي. ان جيشينا متقابلان لا تفصل بينهما سوى مسيرة أربع ساعات، وأنت تطلب مني الدراهم وتتكلم عن الذهاب إلى باريس لإبرام الصلح هل تعتقد أن الله أفقدني عقلي ((لا تظنوا، يا أحمد، أنني أريد مخادعتكم. إنني لا أقصد بهذا الاقتراح إلا الخير وإذا لم تقبلوه فاستسلموا، إذن، للفرنيين وادفعوا لهم المبلغ الذي طلبوه منكم، وهو في الواقع، مبلغ باهض لن تتمكنوا من دفعه إلا إذا تجردتم نهائيا. غير أن هناك وسيلة سهلة تتخلصون بها، فاجمعوا أعيان المقاطعة وباشحمباكم وخليفتكم وقائد الدار وقولوا لهم بأنكم تقطعون رؤسهم إذا لم يمكنوكم من دفع المليوني

بوجو)). (¬49) وكانت إجابتي كالآتي: ((الآن عرفت خبث نفسك أيها اليهودي ألا تعلم أن هؤلاء الذين تريد القضاء عليهم هم ريش أجنحتي، وأطراف جسدي وإذا قطعت رؤسهم، فكيف أستطيع السير بعد ذلك)). ولم أتغلب على غضبي إلا بصعوبة كبيرة، ولو أنه لم يكن محصنا بامتيازات الرسول لعاقبته عقابا شديدا على كلامه هذا. ومما لا شك فيه أنه حرف إجابتي عندما رجع إلى المعسكر الفرنسي، وأن المعاملة التي تعرض إليها نتيجة اقتراحاته قد كونت لديه رغبة في الانتقام لكرامته ولاطمئن من هذه الناحية، ولأبذل مجهودا أخيرا من أجل المصالحة، أرسلت إلى معسكر الفرنيين كاتبي ومعه اثنان من المخازنية (¬50) وقد حملته رسالة جددت فيها اقتراحاتي الأولى. وظل الرسل غائبين مدة ليلتين ونهار، لكن الجنرال لم يتأثر ولم يدخل أي تغيير على الشروط. ¬

(¬49) - سبقت الإشارة إلى هذه العملة، وأصلها الريال بووجه. (¬50) - الكاتب محمد بن العنتري الذي قاد هذه المفاوضات مات بعد ذلك بقليل، أما ابنه صالح، فإنه يتهم أحمد بأنه قتله لكونه أعطى لسكان قسنطينة فكرة حقيقية عن قوة فرنسا التي لا تغالب، وهذا خطأ لأن أحمد لم يكن يجهل ذلك، وقد أعرب، أكثر من مرة، عن تخوفات الباب العالي.

لقد قمت منذ زمن طويل باستدعاء جميع الجيوش في مقاطعة قسنطينة، وقد هب جميع القادة لتلبية ندائي، وأذكر من جملة من حضر: مسعود بن المبارك شيخ ريغة، رزقي شيخ الحناشة، الحاج رجب شيخ الحراكتة، العربي ضياف شيخ الأوراس، محمد بن بوعزيز شيخ بلازمة، شيخ أولاد بوعون، أحمد المقراني، محمد بن عبد السلام المقراني، ولد بن عبد الله المقراني، شيخ أولاد الحداد، ابن محمد مسعود، ابن الحفصي المقراني، قائد ساحل سكيكدة، قائدا با أحمد، شيخ المعاطلة، بوطيب البادي، محمد بن مراد قائد الشقفة، بوعزيز بن قانة شيخ العرب، محمد بن الحاج قائد التلاغمة، بوعكاز شيخ فرجيوة، ابن عز الدين شيخ الرواغة، محمد بن بوعزيز قائد أولاد عبد النور. لقد جمع هؤلاء فيما بينهم 5000 فارس و 2000 عن المشاة، بقطع النظر عن العساكر المختصين في المدفعية من جملتهم علي البومباجي جورجي- يولداشي الجزائر القديم - الذي برهن مرة أخرى، أثناء الحصار على مهارته، وسوف أتكلم عنه فيما بعد.

13 وبما أن كاتبي رجع دون أن يتمكن من تغيير إرادة الجنرال، بدأت على الفور أستعد للمعركة. فهاجمت مدة ثلاثة أيام متوالية، جميع الجيوش التي كانت متمركزة في مجاز عمار (¬51). وقد كنت أعلم أن جيوشا أخرى، قادمة من عنابة، ستنضم إليها: فقمت، إذن، بمحاربة الأولى قبل أن يتم الالتحام. غير أن هجومي لم يتجح ولم تتعطل الحملة في شيء. لذلك رأيت أن أكتفي بمناوشتها وأخليت السبيل لأكرر الطريقة التي نجحت بها أثناء حصار قسنطينة الأول، أي أنني أعمل على جعل الجيش الفرنسي بين نارين: نار المكان الذي يريدون مهاجمته ونار جيوشي التي تطوقهم. وهكذا، فبينما كان الجيش الفرنسي يتقدم كنت أرجع إلى الوراء. وتوقفنا، اليوم الأول، في سيدي دمدم، واليوم الثاني في وادي زناتي والثالث في الصومعة وقد انتهى كل من هذه الأيام بمعارك متواصلة. وكانت المعركة التي نشبت بين الصومعة والمنصورة حامية إلى درجة أن حرس بالمؤخرة الفرنسي لم يغادر الصمعة إلا عندما وصلت المقدمة ¬

(¬51) - يذكر دامرمون هذا الهجوم في مراسلاته، ص:331.

إلى المنصورة. ولما اجتاز الجيش الفرنسي الوادي تصدت له حامية قسنطينة، غير أن أعمالها لم يكن لها أثر كبير. وفيما يخصني، فإنني أرسلت جزءا من رجالي ليدعم الحامية لأن عدد الزمان كان كافيا لما أنوي القيام به. وكما هو الشأن بالنسبة للحصار الأول، فإن الجيش قد انقسم إلى فريقين رئيسيين بحيث أن أكبر جزء تمركز في المنصورة إلى أن تتم الأشغال الخاصة بقطع الوادي وتنصيب المدافع المعدة لثلم الأسوار. وكانت الأمطار التي بدأت تتساقط بعزارة تعيق هذه العمليات إعاقة كبيرة. أما الجزء الآخر من الجيش الفرنسي الذي توجه إلى كدية عاتي فإنه تمركز قبل الموقع المسمى المسلح بقليل. وفي هذه الأثناء التحق بي مولى الشقفة، قائد قبائل جيجل والقل، ومعه أكثر من 10.000 رجل. كما جاءني رجال من ميلة ومن كامل أنحاء القبائل. أما المعاوي بن الأكحل من جبل عواج فإنه جاء كذلك لمساعدة المدينة، ولكنه وصل متأخرا إذ وجدها قد سقطت بعد في أيدي الفرنسيين. وعلمت، أيضا أن أحد أبناء الملك قد وصل في تلك

الأثناء إلى معسكر الفرنسيين ليضطلع بإحدى القيادات فيه. وكنت أعلم ذلك من قبل ولكنني لم أتأكد إلا أمام قسنطينة. ودفعني هذا الخبر إلى التفكير مليا فانتهيت إلى أنهم لم يهملوا شيئا لإنجاح العملية. إنهم جاءوا، في هذه المرة، ليهاجموا المدينة، وليس معهم باي. إنهم لم يأتوا لإشباع رغبة شخص واحد، وإنما أصبح الأمر يتعلق بإرضاء أمة عظيمة. ولذلك أوكلت نفسي إلى الله. وبينما كان الفرنسيون يواصلون تنصيب مدافعهم حدث أمر هام في معسكرهم. لقد كنت وراءهم على مسافة قصيرة جدا، وكنت أشاهد بالتفصيل، بواسطة منظار، كل ما يجرى هناك. فلاحظت تجمعا يتسوطه ضابط يتقبل تحية واحترام الجميع. لقد كان في موكب، الأمر الذي جعلني أستنتج بأنني أمام اجتماع لأكابر الجيش وعليه أمرت، من أعلى الموقع الذي كنت أحتله بأن تنقل الإشارة المتفق عليها إلى علي البومباجي، رئيس المدفع المنصب في الباب الجديد، ليرسل بعض القنابل مكان التجمع. وصعد علي إلى القصبة لتحديد الهدف المقصود ثم عاد إلى مركزه، وبعد أن صوب المدفع أطلق النار. ومن جهتي كنت أتتبع كل ما يجري وسط الاجتماع. فرأيت الجنود يتحركون،

وتقدمت عربة فحملوا عليها جثة واصطحبوها موجهين رؤوس بنادقهم إلى الأرض. فرمية علي البومباجي، إذن كانت دقيقة انه أصاب أحد كبار الجيش. وأردت أن أغتنم هذه الفرصة لأهاجم الفرنسيين، وأن أجعل الهجوم منسقا مع خروج المحاصرين، ولكننا لاقينا في جميع النواحي نفس المقاومة التي كنا نتعرض لها من الفرنسيين ولم أتمكن إلا من جعل جزء من مشاتي يحيطون بكدية عاتي ويدخلون المدينة من الباب الجديد ومن منحدرات القصبة. فراحوا يدعمون صفوف الجيوش التي يقودها الخليفة بن عيسى وقائد الدار محمد البجاوي، وكان عددها إذ ذاك يزيد عن 4500 رجل مسلحين كأحسن ما يكون. وفيما يخص طريقة الدفاع عن المدينة، كنت أمرت بوضع عدد من الألغام ولكن جهل المنفذين أفقد هذه الوسيلة قيمتها، إذ أنه لم ينفجر سوى لغم واحد أثناء الحصار ثم أن الأضرار التي ألحقها بالمدينة تكاد تكون متساوية مع الأضرار التي أصابت المحاصرين. وغداة مقتل قائد الجيش، وهو كبير الجنرالات على ما علمت فيما بعد، ضاعفت المدفعية الفرنسية نشاطها،

وتقدم الجنود يهاجمون الأسرار حتى أنهم أحدثوا فيها ثلمة كبيرة على الرغم من أنهم لم يتسلقوها إلا بصعوبة. ولكنهم واصلوا زحفهم وتمركزوا على قممها مستعدين لدخول المدينة. وفجأة تفجر اللغم الذي تكلمت عنه آنفا وقتل عددا كبيرا عن المحاصرين غير أنه أهلك في نفس الوقت، كثيرا منا. أما الألغام الأخرى، فإنها لم تنفجر، مما جعلني فيما بعد، عندما علمت بهذه الأحداث، أتأسف لعدم وجود خبراء في هذا الفن من فنون الحرب. وتهافت جميع الفرنسيين على المدينة من مداخل متعددة فتحتها إليهم الأفواج الأولى، وعندما رأى ابن عيسى أن كل مقاومة أصبحت غير مجدية، أمر بأن يخرج السكان جميعهم من ناحية الصخرة فخرجوا نساءا وأطفالا وشيوخا كما خرج بنفسه من هذا الطريق الصعب الذي ترك فيه كثير من الضحايا أرواحهم بعد أن سقطوا في الهوة الكائنة هناك. وعندما انتبه الفرنسيون إلى السكان وهم يخرجون خشوا أن تكون في الأمر مفاجأة فأحضروا عددا من طوابير الكدية شتت الهاربين من جهة وادي الرمل. هكذا، إذن، سقطت المدينة في قبضة العدو وبعد أن

أصجت بخسائر فادحة (¬52) قتل أحسن أعواني ومن جملتهم محمد بن البجاوي قائد الدار، رحمهم الله، ولم تبق لي إلا أمتعة البادية وكان أعيان قسنطينة قد اقترحوا علي قبل الحصار بكثير أن آمر بإخراج الأشياء الثمينة ولكني اعترضت بشدة على هذا المشروع اقتناعا مني بأن مقاومة السكان تكون أكثر ضراوة كلما ازدادت الأملاك التي يحافظون عليها. ولكي أكون لهم قدوة وحتى لا أثير أي غضب أعطيت أوامر صارمة بأن لا يخرج شيء من القصر وقلت للسكان: بما أنني أعرض كل ما عندي للعدو، فلماذا تخافون على ثرواتكم فمصيرنا واحد ولا ينبغي أن يكون غير ذلك. ولذلك فمن الممكن أن الغنيمة في المدينة، كانت معتبرة. ¬

(¬52) - غير أن الجيوش الفرنسية عجزت عن مطاردته. وقدر فالي الخسائر بمائة قتيل و500 جريح (المجلة الإفريقية، نوفمبر 1937، ص 21). ولكن هذه الأرقام كانت أقل من الحقيقة بكثير، إذ أن بريسون، كتب سريا من الجزائر يوم 28/ 10 / 1837 إلى وزير الحرب يقول: ((كان زادنا الحربي قد نفذ عندما سطونا للمرة الأخيرة، ولو أن الهجوم، الذي زعزعه انفجار لغم، لم ينجح، واستطاع العدو أن يرجع الجيوش إلى مكان المدافع الصامتة، وهو ما كاد أن يقع، لهلك الأجناد كلهم)). المحفوظات الوطنية بباريس، ف 80، 1672).

ولقد علمت أن اليهود، على سبيل المثال، قد اغتنموا أوقات الاضطراب والفوضى، التي لابد منها أثناء جميع الهجومات، ليستولوا على الأشياء الثمينة التي كانوا يعرفون أمكنتها الخفية. ومن جملة من نهبوا، ابن عيسى فإنه قد فقد كل ما يملك تقريبا. ولم أتأثر كثيرا بفقدان أملاكي، كما أننا لم نتألم لذلك لأن جنودي خرجوا سالمين وأن شجاعتهم كانت في مستوى الظروف القاسية التي فرضت علينا. 14 وفي الحين فكرت في محو الهزيمة لأن الله لا يضيع كليا إلا الذين يهملون أنفسهم. لذلك استدعيت قادة القوم فاجتمعوا حولي وبعد أن استعرضت الموقف اقترحت عليهم تشكيل زمالة بجميع الذين خرجوا من المدينة ثم نقودها إلى مكان أمين في الجنوب ونبقيها فيه تحت حماية مشاتنا. أما نحن فنرجع فورا إلى المدينة ونتمركز في طريق عنابة بحيث نقطع حركة المرور. فنحن نعلم أن العدو خسر، بالإضافة إلى كبير الجنرالات، عددا آخر من الضباط المعتبرين وأن المؤن قد تكون نفذت وعليه، فإذا استطعنا أن نتمركز في طريق عنابة بحيث نقطع جميع الاتصالات

بالمكان الذي يمكن أن يبعث النجدات، فإنه يكون لنا أمل كبير في تحقيق النصر. وتمت المصادقة على مشروعي، وكاد يدخل في حيز التنفيذ عندما صاح بوعزيز بن قانة قائلا: ((ماذا تريدون أن تفعلوا: تبتعدون عن بلدكم وتتوجهون نحو الشمال إذن، فأنتم لا تعلمون أن فرحات بن سعيد يقترب بسرعة من الزيبان. وفي الوقت الذي تحاولون فيه الدفاع عن قسنطينة، فإنكم تعرضون أنفسكم للطرد من منطقتكم. ولذلك يجب أن نسرع إلى الصحراء ندخل عائلاتنا ومن اتبعنا إلى المدن ثم نخرج متحدين ضد العدو الذي نخشى هجومه أكثر. فالفرنسيون لن يتقدموا، بينما فرحات يزحف علينا. ومن ثمة يجب أن نبدأ بمحاربته، وبعد ذلك نوحد قوانا ونهاجم الفرنسيين)). لم أستحسن هذه النصيحة، ولكنه لم يكن لي أهل، عدا أبنائي، أقرب من بوعزيز فلم أكن أعتقد أنه يستطيع أن يقترح على ما من شأنه أن يضرني. وعليه انضممت إلى رأيه ولو أن الله هداني في ذلك الوقت، لفهمت أنه يريد جلبي إلى الصحراء ليأخذ أموالي عن آخرها. ولكن إذا حكم القدر على شخص بالهلاك عمي بصره وبصيرته وصار يعتقد الخير فيما يؤدي إلى الخراب. وأكرر، لقد اتبعت رأي بوعزيز وكان ذلك هو مصابي الأعظم.

وفرحات بن سعيد هذا الذي أتيحت لي فرصة التكلم عنه بعد، والذي تسبب عدوانه في تغيير مشاريعي، كان عدوا ومنافسا لبوعزيز الذي خلفه في منصب شيخ العرب. فظل يبحث عن جميع الوسائل لقلبه ولاسترجاع النفوذ الذي كان له في السابق. ولذلك كان قد اتحد مع إبراهيم، وعندما انهزم هذا الأخير اتصل بجميع الذين يريدون تشويش البلاد. فكتب إلى عبد القادر والي الفرنسيين. وأملا منه في أن يكون حظ الفرنسيين أحسن في هذه المرة على الرغم من هزيمتهم الأولى رأيناه يتقدم نحو قسنطينة. ولكنه لم يستعجل وبقي ينتظر على من تدور الدوائر. ولو أن الفرنسيين غلبوا لكان من المحتمل أن ينضم إلينا ويطالب بجائزة. غير أننى أريد أن أنصف فرحات فأقول: إنه رجل بارود وصاحب ذراع. ولقد حاربني مدة سبع سنوات. فكان في المعركة يقابل مائة وحده ويعتبر بوعزبز، إلى جانبه، امرأة)). وبعد أن صممنا الذهاب إلى الصحراء توجهنا إلى الجنوب. وكان ذلك بعد احتلال قسنطينة بيومين. وعندما كنت في المكان المسمى الأصنام حمل إلي أحد الفرسان العرب رسالة من الجنرال. قائد الفرنسيين. لقد كانت

قصيرة وتحتوي على العبارات التالية: ((تعالوا اطلبوا الأمان واستسلموا سريا سنبعثكم إلى فرسا)). كان هذا هو العرض الوحيد الذي قدم لي، ولم أكن قادرا على قبوله فأجبت بالرفض. وبعد ذلك بثلاثة أيام جاءني شخصان آخران هما ابن العطار من قسنطينة والحاج الباي من عنابة. فرددا علي نفس العبارات مضيفين بأن أيدي فرنسا ممتدة إلى جميع الأنحاء وأن لا مفر من الاستسلام بدون شرط. (¬53) وفي هذه المرة أضافا بأن الفرنسيين سيعاملونني بالإكرام الذي تتسم به هذه الأمة العظيمة، فأجبت بأنني: ((أريد أن أستسلم، ولكن لا أحب أن يفرض علي الذهاب إلى فرنسا، يجب أن يترك لي الأمر في أن أتوجه إلى بلد إسلامي أو إلى بيت الله)). وعندما أبديت هذه الرغبة قال لي بوعزيز: ((ماذا تفعل أتريد أن تنكث عهدا ضربته على نفسك ? ألم تقل أنك ستصطحبنا إلى الصحراء؟ فلا تقبل هذا الاقتراح، إذن. وضرب الله مرة أخرى، على بصري غشاوة فأجبت المرسلين بالرفض المطلق. ¬

(¬53) - على العكس، فإن فالي يذكر بأنه عرض على. أحمد أرجاع البايلك مقابل غرامة قدرها 100000 فرنك، وقد وجدنا مشروع اتفاقية في هذا الصدد ننشره كملحق لهذه المذكرات.

وقبل احتلال قسنطينة بمدة قصيرة، كان الحاج عبد القادر قد كتب إلى العرب يخبرهم بأنه أبرم الصلح مع الفرنسيين الذين اعترفوا بسيادته على كامل أنحاء البلاد، وعليه يطلب منهم أن يتخلصوا من سلطاني ويدخلوا في طاعته. ((وإذا لم تفعلوا ذلك، فإنني أثير عليكم الفرنسيين وفي وقت وجيز ستسحقكم قواتي وقواتهم)). ولم يكن لهذه الرسائل تأثير كبير على عرب قسنطينة، ولم يستجب لعبد القادر غير فرحات بن سعيد الذي كان يعمل على استغلال جميع الفرص التي من شأنها أن تخدم مشاريعه ضد بوعزيز بن قانة. وتعين خليفة لعبد القادر في الصحراء وأعطاه هذا الأخير رسائل اعتماد. ولكنه قبل التورط معه كليا واستعمال تلك الرسائل، عزم فرحات على الذهاب إلى ناحية قسنطينة التي تكون مسرحا لكثير من الأمور الهامة، وكما ذكرت، عمل على أن لا يصل إليها إلا عندما يتم النصر لواحد من الطرفين. وبالفعل، فإنه لم يصل إلا بعد مرور سبعة أيام على السلم، ولما رأى أنني متجه إلى الصحراء حاول أن ينضم إلى الفرنسيين وعرض عليهم اقتراحات فيما يخص التحالف. فطلب أن يعترفوا به كشيخ للعرب وأن يمدوه بالجيوش

ليحاربني ويحارب بوعزيز، وقال لهم: انظروا، إنني أتصرف في سبعة نجوع من العرب بينما لم يبق مع بوعزيز سوى نجع واحد. وإذا أعطيتموني جيوشا، فإنني سأنتهي معه وآتيكم برأس الباي أحمد)). ولكن - أجابه الفرنسيون - كيف تطلب المعونة وأنت تزعم أنه لم يبق مع ابن قانة سوى نجع واحد وأنت تتصرف في سبة. فاذهب إليه، إذن بكل ثقة، وعندما تهزمه وتبرهن له على قوة فرنسا، فإننا نعطيك أكثر مما تطلب. أما الآن، فلا تعتمد كثيرا على الجيوش الفرنسية)). امتثل فرحات لهذا القول ولاحقني، وبعد ذلك بأيام كان لقاء خالد بيننا ونصرني الله عليه نصرا مبينا. ثم واصلت طريقي إلى الصحراء، وفي منعطف من منعطفات الطريق وجد جنودي أنفسهم وجها لوجه مع جنود فرحات الذين جاوءا يقطعون سبيلي معتقدين أنهم أسروني. غير أنني، وبدون أدنى تردد، أمرت فرساني أن يحملوا ويكسروا الحواجز التي تعترضنا. ودارت المعركة حامية الوطيس، فسالت الدماء من كل جانب وفقد فرحات ما يزيد عن ثلاثمائة من أجناده ما بين جريح وقتيل. وهكذا تخلصت من فرحات الذي اضطر، على الرغم من الشجاعة التي أبداها، إلى الفرار تاركا في حوزتي كل ما كان يملك. ولجأ إلى بلاد سوف بين الجريد وتوقرت.

15 وعندما وصلت إلى مكان يكاد يكون آمنا، كتبت إلى السلطان محمود أعلمه بكل ما جرى. ولم أستطع الإحجام عن رفع شكاوي شديدة اللهجة من الإهمال الذي تركت فيه فقلت: ((انظروا، إنني رفضت التفاوض مع الفرنسيين وظللت أنتظر النجدات التي وعدتموني بها. إنني لم أفعل شيئا دون استشارتكم والعمل بنصائحكم، وها أنا الآن طردت من قسنطينة وأصبحت أتجول بين الأعراب. هل هذا هو جزاء ثقتي بكم وهل نفذتم ما وعدتموني به منذ سبع سنوات أليست طاعتي إليكم هي التي قادتني إلى هذا الوضع المؤلم وهل تتركونني على ما أنا عليه. إنني أخبرتكم وعليكم أن تفعلوا ما تريدون)). وفي هذه المرة بعثت رسالة عن طريق تونس، وكانت مصحوبة بأخرى إلى الباي الذي استقبل رسولي بكل حفاوة وإكرام وخصه بالضيافة اللائقة. ومما لا شك فيه أن تصرف الباي هذا لم يكن نتيجة حبه لي، لأننا كنا تعادينا عدة مرات أثناء ولايتي: عندما احتجز الإعانة التي أرسلت إلي وفي كثير من المناسبات الأخرى التي يبدي فيها غيرته من سلطاني. ولكن سبب الاستقبال الظاهري الذي خص

به رسولي هو أنه كان ينوي الاستقلال عن القسطنطينية ويخشى أن يدعوني الباب العالي لاستبداله. وقد كان من السهل علي في ذلك الوقت أن أثير البلد. وهكذا، فإن الباي أجابني على الفور وقال بأنه ما علي إلا أن ألجأ إلى تونس حيث يستقبلني كأخ شقيق، إذا لم أعد أجد الأمن في بلادي فشكرته على حسن عواطفه ثم رفضت كل ما عرضه علي شخصيا واكتفيت بأن أوصيته خيرا بأعواني. وبعد ذلك قصدت المكان المسمى بوحصيف في حدود التل، وكان جميع العرب التابعين لي قد تعرضوا لخسائر فادحة جعلتهم يعيشون في تقشف كبير. وعندما علموا بأن القموح تباع، في إيالة تونس، بأسعار موافقة، طلبوا مني أن أكتب إلى الباي ليسمح لهم بشراء ما يحتاجون إليه من مؤن. ولما كتبت، أعطى الباي في الحين، أمرا يسمح لهم بذلك ويعطيهم الأولوية على غيرهم. وفي الإجابة عن هذا الموضوع، ألح الباي من جديد علي أن أتوجه لولايته. ويؤسفني أن أقول هنا بأن الرجال الذين ذهبوا إلى تونس لم يتصرفوا كما ينبغي. لقد اتبعوا نصيحة مفسدة أعطاهم إياها بوعزيز بن قانة. فنسوا أنهم لم يكونوا سوى ضيوف على هذا البلد وأنهم فيه محظوظون ومخصصون

بالأولوية، وراحوا ينتهكون واجبات الضيافة ويقومون بغزوة ضد زاوية عبد الكريم التي كانت مخزنا لحبوب كامل الشرق التونسي. وعلى إثر ذلك كتب لي كاهية الكاف يلومني على سلوك قومي، فأجبته بأنني مستعد للتعويض وأمرت بإجراء تحقيق حول قيمة المسروقات فوجدت أنها تبلغ 80.000 ريال تونسي. وكتب لي الكاهية من جديد يطلب مني أن ألزم المذنبين بدفع هذا المبلغ، ولكنني أخبرته بأنني لم أعد سوى حاكم مخلوع لا يملك أية سلطة تقريبا. ولكي لا يقال بأن قومي اقترفوا عملا سيئا ولم أصلح الخطأ، اقترحت على الكاهية أن أدفع الثمن من خزينتي الخاصة. غير أن الكاهية أجاب بأنني لست مرغما على تقديم أي تعويض. ومع ذلك أخذت 50.000 ريال ووزعتها على المصابين. أما بوعزيز، فقد كانت نيته، عندما أعطى نصيحة في مثل ذلك الخبت، أن يثير علي باي تونس. لقد كان يريد الاجهاز علي لتأخذ ما كنت أملك. وبما أنه لم يكن رجلا شجاعا ليفعل ذلك علنا، فإنه يستعمل جميع الوسائل لبلوغ هدفه، ولقد كان ملهوفا على المال فضحى بكل شيء لإشباع رغباته ثم إني كنت رفضت في ذلك الوقت أن أنزل عند طلباته، والسبب في ذلك هو ما يلى: ((كان

عم الحسناوي، في القديم، هو شيخ قبيلة الحنانشة (¬54) التي كنت مقيما عندها، ولأنه حاك مؤامرات ضدي، حكم عليه بالإعدام واستبدل برزقي الذي أبدى لي كثيرا من الإخلاص. ولإرضاء أسرة الحسناوي (¬55) عينت هذا الأخير كاتبا للشيخ. ولكن حقده علي اضطره إلى التنازل عن منصبه، فلجأ إلى تونس أولا، ثم ذهب إلى يوسف في عنابة دون أن يقطع إطلاقا الرباط بيني وبينه. وذات يوم طلب من بوعزيز أن يعينه شيخا على الحنانشة في مكان رزقي، ولهذا الغرض قدم له مبلغا كبيرا من المال وعلى الفور استجاب بوعزيز إلى الطلب وجاء يرجوني أن أقوم بهذا التبديل.)) ولكنني - قلت له - كيف أثق في عدوي وكيف تريدني أن أخلع رزقي وقد كان دائما مخلصا لي. إن ما تشير به علي ليس من العدل في شيء.)) وقاومت طويلا، غير أنني كنت، في ذلك الوقت تقريبا تحت رحمة بوعزيز فاضطررت إلى القبول. فعين الحسناوي وابتعد رزقي عني. لكنه عندما علم بسبب عزله قصد بن قانة، بدوره، ووعده ¬

(¬54) - قبيلة كبيرة تمتد أراضيها من تبسة إلى الأوراس. تستطيع أن تجند ما بين 2500 و 3000 فارس، و 6000 جندي راجل. (¬55) - تستطيع هذه الأسرة أن تجند أكثر من 500 فارس.

بالمال إن هو أرجعه إلى منصبه، وخوفا من أن أشك في تصرفاته قال له: ((اذهب إلى الباي أحمد واقترح عليه أن يتخلص من الحسناوي ويأمر بقتله ثم يعين صهرك محمد بن علي شيخا على الحنانشة، وسأكون كاتبا له ومستشارا.)) لم يتردد بوعزيز أمام هذا الاقتراح وجاء يطلب مني تحقيق المشروع، إنني استنكرت عليه ذلك بشدة وقلت له: ((كيف تشفع في عدوي وتعمل على تنصيبه ثم تأتيني، اليوم، تطلب قتله، وأنت تعلم أنه نزل ضيفا علينا واستقبلته في خيمتي، وإذا كنت قد عاقبت من خانني، فإنني لم أخن أحدا.)) واغتاظ بوعزيز لهذه الإجابة فأشار على القوم بأن يغزوا زاوية عبد الكريم ليعزلني عن سلطان تونس. ولما انتبه غادرني ورجع إلى الصحراء. أما أنا فقصدت الحراكته. ومنذ ذلك الوقت استسلم بوعزيز إلى الفرنسيين (¬56) ولكن بعد استشارتي. لقد كتب لي رسالة في هذا الموضوع يقول فيها: ((سأنضم إلى الفرنسيين وأكون لك وسيطا عندهم إن سمحت.)) غير أن ما جرى بيننا منعني من قبول ¬

(¬56) - اعترفت فرنسا ببوعزيز كشيخ للعرب وخليفة على الصحراء، فحارب حسان بن عزور خليفة الأمير عبد القادر.

هذا العرض ومع ذلك فلم استنكر الاختيار الذي انتهى إليه. وهكذا تولى الحكم مكان فرحات، بيد أنه لم يمارس السلطة إلا بعد ذلك بكثير. أما أنا، فبقيت عند الحراكته حوالي شهرين وبعد مرور عام على احتلال قسنطينة علمت أن الفرنسيين يعملون على تنظيم حملة ضدي، وخرج الجيش ثم تمركز على مقربة مني وأرسل إلي الجنرال الذي يقوده، يطلب مني الاستلام (¬57) فأجبته كما سبق أن فعلت ذلك مرارا، بأنني كتبت إلى القسطنطينية، وإنني أنتظر الرد. وظننت أنني سأهاجم، فحولت معسكري ليلا، غير أن الفرنسيين لم يلاحقوني ورجعوا إلى قسنطينة. وعلى إثر ذلك انسحبت إلى وادي ريغ حيث قضيت الشتاء، وفي الربيع خرج طابور من قسنطينة وتوجه إلى ¬

(¬57) - المقصود هي حملة الجنرال نيقري التي وقعت في ماي 1838، وتقول رسالة نيقري. ((ان الاستسلام الكلي وحده هو الذي يمكن أن يمنعك من الهلاك الذي ينتظرك، وليس لك إلا أن تثق في شرف فرنسا وإكرامها المشهورين في كامل أنحاء العالم. بهذا الشرط أضمن لك الأمن ولعائلتك وأملاكك. ولا فائدة في أن تعرض علي شيئا آخر، فإني لن استمع إليه)).

المرتفعات. ولكنني، قبل التكلم عنه، يجب أن أسرد جميع المؤامرات التي دبرت ضدي في تلك الأثناء. إن الذي يفقد الملك يكون كالأسد الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة. ويصير أولائك الذين كانوا يخشون النظر إليه في عهد عزه، كالطيور الكاسرة تنقض عليه لتقتلع قطعة عن لحمه. 16 علمت أن المسمى ولد يونس قد دبر خيانة ضدي بالتعاون مع أولاد سيدي يحي والزرالنه من رعايا تونس فكتب إلى القائد الفرنسي الذي كان في قسنطينة وقال له: ((أعطوني 40.000 دورو أوزعها على الأعراب وآتيكم برأس الحاج أحمد باي.)) ثم جاءني وذكر بأنه كتب إلى الجنرال حاكم قسنطينة: ودعونه إلى أن يخرج من المدينة مع جيوشه وطلبت منه 40.000 دورو. وعندما يخرج ننصب له كمينا ونأخذ طابوره بأكمله.)) وعندما سمعت هذا التعس يجرأ على التصريح بفمه، ويؤكد خطته الإجرامية التي كنت أعرفها من قبل، قدمته إلى المحكمة فحكم عليه وعلى ابنه بالإعدام، وعينت مكانه ابن أخته أحمد بن الزين. وبعد أيام قلائل توجه الجيش الفرنسي إلى الحراكته، فأرسلوا يستنجدون بي. وكنت في ذلك الوقت، مصابا بمرض شديد جعلني

أفكر في اللجوء إلى الجبل، ولكنني لم أستطع مقاومة دعائهم ولم تسمح لي نفسي بالتخلي عنهم وهم تعرضون للهلاك من أجلي. (¬58) ثم تغلبت على الألم وذهبت إليهم. غير أن الفرنسيين كانوا قد سبقوني وقاموا بغزوة مريعة تم فيها أسر عدد كبير من الحراكته وفر الباقون. فاضطررت إلى الانسحاب، ولكن الفرنسيين لم يلاحقونا فرجعنا إليهم من الغد واسترجعنا جزءا هاما من القطعان. وبعد هذه الحملة رجعت إلى وادي ريغ حيث أقمت، ولم تمض إلا فترة حتى جاءني الشيخ مراد: شيخ الدرادة الذين هم من رعايا تونس، وقضى الليلة، كضيف عند أحمد بن الزين، ولكن هذا الأخير قام بالليل وسرق له من جبيرته خاتمه الذهبي ثم كتب إلى باي تونس يقول له: ((اعلموا أن الشيخ مراد جاء إلى هنا يقابل الباي أحمد على غير علم منكم ويتآمر ضدكم، والدليل على ذلك أني أبعث إليكم خاتمه الذي أخذته من جبيرته.)) وفي الغد جاءني ¬

(¬58) - المقصود هي حملة الجنرال قالبوا التي وقعت في ربيع سنة 1840، وفيها فقد الحراكتة 80000 رأس من الأغنام والأبقار.

مراد يشتكي من السرقة التي تعرض لها، فاستعلمت وتحققت من خيانة ابن الزين الذي لم يكن له هدف غير إثارة غضب الباي علي. ولذلك ألقيت عليه القبض، وبعد التأكد من الخيانة تم الحكم عليه بالإعدام. لم يكن هو الوحيد الذي تآمر ضدي، وقد كنت مرغما على أن أعاقب بشدة جميع الذين شاركوا معه ومن جملتهم الزرالمة. ثم مر عام وأنا مقيم في وادي ريغ، وذات يوم جاء الزرالمة وأولاد يونس في قوة معتبرة يرعون أغنامهم على حد قولهم، ولكنهم أتوا في الواقع للقيام بخيانة وللانتقام وقد كنت أخبرت بمشاريعهم قبل ذلك بأيام. لقد جاؤوا عند غروب الشمس، وعندما هجمت عليهم وقتلت لهم 25 رجلا فروا من ميدان المعركة، فلاحتهم ولكن بلا جدوى. ثم مر عام آخر دون أن يحدث شيء. وفي آخر السنة انتقلت من وادي ريغ إلى منطقة الحنانشة حيث، قضيت شهرين. وبعدهما توجهت إلى جبل أوراس أجمع أفراد أسرتي وجميع الأمتعة التي كنت أرسلتها إلى هناك أثناء احتلال قسنطينة.

وفي هذه الأثناء خرج إلي طابور فرنسي، ولكنه حينما علم أنني التجأت إلى الأوراس رجع إلى قسنطينة. بقيت عاما في هذا الجبل، وذات يوم جاءني أولاد دراج يطلبون مني مصاحبتهم إلى الحضنة. فقلت لهم: ((إنني موافق ولكن ينبغي أن يتبعني جميع القوم.)) وهكذا انضموا إلي واستطعت أن أرغمهم على المسير ضد أحمد بن الحاج، خليفة الأمير عبد القادر الذي كان في بسكرة. فهاجمناه وأخذت له، في أثناء المعركة التي دارت بيننا، 30 بندقية وقتلت له 40 من جنوده. والتجأ الباقون إلى داخل المدينة وأحكموا غلقها بحيث أنني لم أتمكن من الدخول إليها. وكنت علمت أن أحمد بن الحاج كان يريد القيام بحملة ضدي، وذلك بالاتفاق مع أولاد دراج. غير أنني تصرفت بمهارة واستعملت ضده أولائك الذين أراد أن يسلحهم ضدي. وبعد هذه الحملة توجهنا إلى الحضنة (¬59) حيث أقمت إلى أن جاءتني رسالة من مسعود شيخ ريغة (¬60) ¬

(¬59) - كان ذلك في أوت 1841. (¬60) - ربما هي ريشة التي تقع في ناحية ميلة.

يخبرني فيها بأن طابورا خرج يطلبني من سطيف، وبأنه يجب أن أجمع أجنادي وأنضم إليه، فوزعت 4000 بوجو على فرساني والتحقت به. وعندما التقينا بالطابور الفرنسي فقدت ستة من رجالي وتسعة أحصنة. ثم انفصلنا ودخلت إلى الحضنة حيث قضيت أربعة أشهر توجهت بعدها إلى أولاد سلطان وبقيت عندهم عاما ونصفا. وفي أثناء هذه الإقامة خرج من سطيف طابور ثان وتمركز عند أولاد علي فجمعت أولاد سلطان وسيرتهم إليه وقد دام القتال يومين ثم رجع الطابور إلى سطيف ولم أحضر المعركة. وبعد حوالي ثمانية أيام رجع الطابور ثانية فهاجمناه ولكن الفرنسيين تراجعوا في أعمالهم. ولقد وقعت هاتان الحملتان في الفترة التي توجه فيها ابن الملك (¬61) إلى الصحراء بعد أن تعين على رأس مقاطعة قسنطينة. وعلى إثر هذه الحملة رجع إلى قسنطينة، حيث قضى بضعة أيام ثم سير ضدي قبائل الأعراب والتلية. وكانت قواتي تتكون من 700 فارس وجندي ومن أولاد سلطان، وبعد حين طوقتنا الجيوش الفرنسية والأعراب ¬

(¬61) - الدوق دومال (أفريل 1844).

الذين كانوا معها، فتقابلنا مدة يومين بكل شدة وضراوة حتى أنني أستطيع القول بأنها أدمى معركة حضرتها، حياتي، ويعلم الله كم معركة شاهدتها منذ طفولتي، وكان الفرنسيون قد شكلوا ستة طوابير ليصلوا إلى قمة الجبل: ولكن نشاطنا كان متزايدا بحيث أنهم عندما وصلوا إلى منتصف المنحدر كررنا عليهم بشدة وعنف، فأرغمناهم على العدول عن خطتهم والرجوع إلى مركزهم. وقد استفدنا في ذلك اليوم من الأمطار الغزيرة ومن الضباب الذي بلغ من الكثافة حتى أن الرجل أصبح لا يرى جاره. وكانت أضرارنا أخف من أضرار العدو لأننا كنا نعرف الميدان. وفي يوم السبت التالي عاد جيش الأعداء من جديد إلى الجبل وتمكن من التمركز في المكان المسمى بالبير قضى فيه ليلته ثم اجتاز الأوراس ودخل إلى باتنة حيث بات وتزود، وبعد أن لف بالجبل بحثا عن منحدرات أسهل، رجع ثالثة إلى الأوراس. وقد لاحظت أن هذه الهجومات الثلاثة وقعت في ظرف خمسة عشر يوما، ودائما في يوم الأربعاء. وفي المرة الثالثة عندما صعد الجيش الفرنسي كنت في مرض شديد قريببا من الموت، ولم ينقذني إلا إخلاص رجالي الذين حملوني على نعش كما يفعل

بالجثة. وعندما اشتد القتال وضعت في غابة كنت أسمع منها جميع الطلقات النارية. ولكم آلمني أنني لم أكن قادرا على المساهمة في معركة سببها مصالحي، وعز علي أن أبقى بعيدا عن الميدان، وعندما تغلب الجيش الفرنسي علينا، كنت على مقربة منه، لا تفصلني عنه سوى مسيرة ربع ساعة، ولما كان الليل، ورأيت أن الله لم ينصرني، حملني أنصاري ومررت بجانب الجيش الفرنسي فكنت أميز الحرس تمييزا كليا. وسرنا الليل كله متجهين غرب البير. وفي الصباح اكتشف الأعداء آثارنا فلاحقونا. ثم حملت إلى جبل متليلي حيث أقمنا ليلة ونهارا. وفي الغد توجهنا إلى الدايا. وأثناء هذه الفترة كلها كان المرض قد اشتد بي إلى درجة أنني لم أكن قادرا لا على السير ولا على ركوب الخيل بل قطعت المسافة في نعش يحمله أعواني المخلصون على أكتافهم. وبعد إقامة قصيرة في الدايا , قصدنا بني فراج، وعندما وصلنا إليهم قضينا الليلة عندهم وفي اليوم التالي دخلت إلى قريهم حيث مكثت بضعة أيام. ثم ذهبت إلى المنعة (¬62) إلى منزل ابن العباس فجمعت أمتعتي وأفراد أسرتي: ولا ¬

(¬62) - قريه تبعد بحوالي 60 كيلومترا عن آريس في قلب الأوراس.

أظنني في حاجة إلى القول بأنني فقدت كل ما أملك أثناء هذا الفرار. أمتعتي، أوراقي، خيامي، كل ذلك تقريبا وقع في حوزة العدو. لقد كنت شديد المرض، فلم أتمكن من اتخاذ أي نوع من الإجراءات وكان المصاب عظيما. وأقمت في المنعة مدة عام تقريبا. وفي تلك الأثناء وجهت حملة ضد سكان وادي عبدي. (¬63) وعندما اقترب الطابور منهم بعث إليهم الجنرال يدعوهم إلى الاستسلام، لكنهم رفضوا الدعوة بشدة وأوفدوا يطلبون معونتي، فجمعت كل من كان حولي وانضممت إليهم. ولما وصلت رأيت أنهم لم يستعدوا للمعركة، وأنهم كانوا مختلفين فيما بينهم. فقلت لهم: ((إنني لا أستطيع أن أحارب معكم، ولا أريد أن أعرض نفسي إلى هزيمة وأن نصيحتي إليكم هي أن تستسلموا وتقولوا للجنرال أنكم تقبلون عروضه. وأنها لنصيحة أملتها علي مصالحكم. أما أنا فإنني أترككم)) ولكنهم أجابوني قائلين: ((هذا مستحيل إننا لن نستسلم لأحد، بل سنحارب ولن نترككم تنصرفون.)) وأحسست في داخل نفسي أن من الخزي والعار أن أتركهم، فبقيت إلى اليوم الذي وقعت فيه المعركة. ولكنهم، عند احتدام ¬

(¬63) - هي حملة الجنرال بودو، في ماي 1845.

القتال، تخاذلوا وفروا إلى جهات مختلفة ورجعت إلى المنعة. أما الفرنسيون فواصلوا سيرهم لينقضوا على التوابة وبني سليمان (¬64) ثم توقفوا في المكان المسمى بالمدينة. وقد صادف أن أحمد بن الحاج (¬65)، خليفة عبد القادر، كان متمركزا بجيشه عند التوابة. وحينما علم بقدوم الفرنسيين ارتحل وفر إلى بلاد السوف. وبعد ملاحقة دامت بضعة أيام رجع الفرنسيون إلى المدينة حيث استراحوا في هيئتين توجهت إحداهما إلى قرى التوابة، وسارت الثانية مع الوادي. ولما تعرضت الفرقة الأولى إلى هجوم التوابة سارعت إليها الثانية دون أن يراها أحد وعندما وجد التوابة أنفسهم بين نارين تأكدوا من أنه لم يبق لهم سوى الاستسلام فطلبوا الأمان، ولما رأيت كل ما جرى، غادرت المنعة وتسلقت جبل أحمر خدو (¬66). ¬

(¬64) - قبيلتان مشهورتان ما زالتا إلى يومنا هذا في نواحي آريس. (¬65) - هو محمد الصغير بن أحمد بن الحاج قائد مدينة سيدي عقبة سابقا، وخليفة الأمير عبد القادر بالناحية فيما بعد. (¬66) - فيما يخص إقامة أحمد بمنحدرات الأحمر خدو، هناك دراسة كتبها أ. بابي عنوانها: قلعة كباش وواحة مشونش، باريس 1894.

وترك الجيش الفرنسي أولاد عبدي إلى بيت ابن العباس حيث كنت مقيما. وبعد الاستقصاء علم الفرنسيون أنني في جبل أحمر خدو. فاستراحوا بضعة أيام ثم انقسموا إلى فرقتين توجهت إحداهما إلى بني فارح ثم إلى باتنة. ورجعت الثانية إلى المدينة تلاحق أحمد بن الحاج، وظلت تطارده إلى أن وصلت مكانا يقع بين الخنقة والتوابة، وهو مكان لا توجد فيه مياه. ولذلك تعذب الجيش كثيرا ومات عطشا عدد كير من الجنود. ثم قصدت الفرقة الخنقة ومنها توجهت إلى جبل العمامرة. وهنا تفرق الأجناد ورجعوا إلى ثكناتهم. أما الأمتعة التي بقيت في المدينة، فإنها حملت إلى قسنطينة بواسطة العربي بن ضياف. 18 أما أنا فقد استقريت في جبل أحمر خدو وقضيت فيه حوالي عامين. وذات يوم كتب لي القائد الفرنسي في بسكرة يقول بأن من المستحسن أن نضع حدا للعداوة القائمة بيننا. وتبادلنا عدة رسائل أدركت على إثرها أن السلم محبب عند الله وارتحت إلى الاقتراح. ثم كتب لي قائد باتنة في نفس الاتجاه ووعدني باستقبال صادق وبالأمان، كما ذكر بأنه سيحبب لي سلطان فرنسا

التي تعيد إلي أملاكي ومكتسباتي، وامتلأت نفسي حبورا لهذا الوضع الجديد كما أنني كتبت عددا من المراسلات في هذا الصدد. وبعد ذلك بأيام قليلة خرج قائد باتنة في طابور معتبر وقصد بني وجانة. فأرسلت إليه أحد أعواني المخلصين، وهو الوحيد الذي رضيت باستعماله في مفاوضات بمثل هذه الأهمية. ولكنه أصيب بمرض خطير، ولكي لا أطلع شخصا آخر على سر استسلامي إلى الفرنسيين، انتظرت شفاءه لمواصلة المساعي التي كنت بدأتها. ولقد كان من اللازم أن أكتم السر، لأن العرب ما كانوا يتركونني أنفذ مشروعي ولربما اغتنموا هذه الفرصة للإجهاز علي. وهكذا أرسلت إلى حاكم باتنة من كان يحظى بكامل ثقتي، وطلبت منه أن يبعث لي رجلا يمكن أن أتفاوض معه بصفة نهائية، وأن يبلغني ما يريده بالضبط. وبعد يومين جاءني الرسول وسرني كلامه. ثم أفهمته بأنه ينبغي المحافظة على السرية الكاملة، وأن ترسل جيوش تحاصرني من كل جهة حتى لا تبقى فكرة المقاومة عند العرب. وعلى إثر ذلك انسحب ليعود بعد التشاور مع من أرسله، وقد ارتحت

كل الارتياح عندما رأيت أن اقتراحاتي قد قبلت وفي سرية مطلقة أمرت بالاستعداد للرحيل. فاستعدت أسرتي وتوجهت شخصيا إلى مكان عين لي مسبقا، وكنت أعلم أنني التقي فيه بقائد باتنة الذي جاء على رأس جيش عرمرم. (¬67) وبالفعل لقد وجدته، وبمجرد ما وصلت أسرع إلي واستقبلني بحفاوة. ثم كرر الوعود التي كانت قد أعطيت لي، والتي دفعتني إلى الاستسلام، وهي استرجاع أملاكي ومكتسباتي الخاصة، والسماح لي بالذهاب، تحت رعاية فرنسا، إلى أرض أسلامية. ولو أنني لم أثق كل الثقة في تنفيذ هذه الاتفاقيات لهربت، وقد كان في وسعي أن أفعل ذلك بكل سهولة. وعليه، فإنني جئت إلى الفرنسيين راضيا تحدوني إرادة صادقة في وضع حد للحرب الطويلة التي ظلت قائمة بيني وبينهم، وذلك بإبرام اتفاق متين وأمان مشرف. لم تدم المقابلة الأولى مع قائد باتنة إلا فترة وجيزة ¬

(¬67) - بعد مفاوضات طويلة، استسلم الباي يوم 5 جوان 1848 إلى الرائد دوسان جرمان الذي سيقضي عليه الثوار في الزعاطشة سنة 1849.

توجهنا بعدها إلى بسكرة حيث استقبلت بحفاوة وامتياز محاطا بالاحترام والتبجيل. وأقمت هناك ثلاثة أيام أتمتع بنفس الاستقبال ثم ذهبنا إلى باتنة، وقد اجتهد القائد في أن يسعد أوقاتي التي أقضيها معه. ووعدني، باسم فرنسا، الصدق والأمان وتحقيق ما أصبو إليه. لقد أمضينا يومين معه وفي اليوم الثالث أخذنا الطريق إلى قسنطينة. وفي أثناء الطريق استحوذت علي أفكار متعددة: إنني أذهب بلا أملاك ولا قوة إلى المدينة التي رأتني سيدا في أوج عزتي وحيث مارست سلطة السيادة. ولكن الله كيف نفسي وتجلت إرادته. وأي إنسان يستطيع الإفلات من أيدي القدر فسبحان الله وجل جلاله. وعندما اقتربنا من قسنطينة خرج أكابر المقاطعة لاستقبالي. وما لا شك فيه أنهم أحسوا بالشعور الذي كان يغمرني، فأسرعوا للتخفيف مما كان يثقل كاهلي وذلك عندما جاؤوا بعدد من الفرسان توسطتهم ودخلت إلى المدينة. وهناك أيضا، حظيت باستقبال رائع، وأن سكان قسنطينة لم ينسوا أبدا بايهم القديم، ومن الواجب علي أن

أذكر هنا، وكلي عرفان بالجميل، إنني أثناء الفترة التي قضيتها في المنفى، اتصلت من جميع السكان - فقراء كانوا أم أغنياء - بتذكار خالد: فبعضهم أرسل لي الملابس والأغذية والعسل والزبد والفواكه، والبعض الآخر بعث لي، وفقا لثروته، عددا من منتوجات مصانعهم كالأحذية والجزامى والتلاليس وغيرها ... وقد قام الجميع بإنجاز ما كانوا يعتبرونه واجبا نحو ملكهم، وأن عددا منهم كان يرسل لي ما أحتاج إليه (68). لم نبق في قسنطينة إلا ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أخذنا طريقنا إلى سكيكدة حيث استقبلت بحفاوة بالغة. وانتظرنا فيها يومين قدوم المركب البخاري الذي أقلني إلى مدينة الجزائر. وقد أولانا قائد هذه الباخرة - أنا وجميع أفراد أسرتي الذين اصطحبوني - كل عناية ورعاية. وبعد إبحار دام يومين وصلنا إلى ميناء الجزائر، وكان ذلك يوم الثلاثاء 17 رجب سنة 1264. وفي هذه المدينة، أيضا (68) - إن السلطات العسكرية المحلية لم تفهم هذا الشعور، وراحت تلقي القبض على من أظهروا عطفهم على بايهم القديم، وقد أشار مدير الشؤون العربية إلى المغالاة في التشدد، وذلك في رسالة كتبها إلى وزير الداخلية يوم 7 جوان 1848.

استقبلت بامتياز، وخصصوا لي دارا استطعت أن أسكن فيها مع أسرتي وخدمي (¬69) ثم قدمت إلى الوالي العام الذي أسمعني، باسم فرنسا، عبارات في مستوى هذه الأمة العظيمة أعزها الله لأنها تستحق ذلك. وإني الآن، أنتظر إنجاز الوعود التي أعطيت لي، وكلي ثقة في الله وخضوع لإرادته (¬70). ¬

(¬69) - خصصت له منحة سنوية قدرها 12000 فرنك ومات في الجزائر سنة 1850. ويوجد ضريحه داخل زاوية سيدي عبد الرحمان. وهكذا، فإن فرنسا لم تنجز وعودها وأرغمته على البقاء في مدينة الجزائر تحت رقابتها. (¬70) - وفي نسخة أخرى جملة أخيرة تقول: ((أحمد الله على أنه سلط علي عدوا في مثل هذه القوة وهذا الكرم)). (المحفوظات الوطنية بباريس، ف 80، 1673، النسخة الثانية).

§1/1