مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية

عثمان جمعة ضميرية

مقدمة

مقدمة ... وتزاحمت فيه الكتب على رفوف المكتبات، شيقة العنوان، جميلة التغليف. وعندما استعرضت هذا الكتاب تذكرت يوم كنا نتلقى العلم والمعرفة من أمهات كتب العقيدة، بدءا بكتاب "التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" وشرح أرجوزات المؤلفين في العقيدة، واستنباط آيات الأحكام في العقيدة من كتب الشوكاني وغيره، ومن الصحاح وشروحها المتعددة. إن العقيدة هي ركيزة الإسلام الأولى، وأول أركان الإسلام -وهي الشهادة- عقيدة متفرع منها توحيد الربوبية والألوهية، ثم يتبعه توحيد الأسماء والصفات. من أجل ذلك كانت العقيدة هي الركيزة الأولى التي تعتمد عليها أركان الإسلام الخمسة، فلا أركان بلا عقيدة ولا إسلام بلا ركيزة. والفطرة التي فطر الله الناس عليها عقيدة صافية، لا يشوبها شرك في الاعتقاد، ولا عمل يعتريه الضلال والفساد. ولذلك كان استمرار عقيدة الفطرة أمرا مطلوبا من كل موحِّد سلمت عقيدته من الدخائل المبطلة. وتلك هي الفطرة التي حدّدها قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . والعلم هنا هو الاعتقاد والمعرفة والإدراك لتلك الحقيقة العظيمة المرتبطة بحياة البشر ودينهم وأعمالهم. وهذا الكتاب الذي يبحث في العقيدة، كتاب جمع بين دفتيه جانبين يمثلان البحث في أصول العقيدة، وتحديد النظام المنبثق عن هذه الأصول كما يشير المؤلف. وعندما استعرضت هذا الكتاب وجدته كتابا نافعا لطالب العلم، يعرض للقضايا في سهولة ويسر، ويسعى لتقريب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم، ويؤيد

ذلك العرض بالدليل الناصع والمرجع النافع والأسلوب البارع، ويعتمد على حسن الدلالة ووضوح الإحالة، وذلك مطلب المتعلمين والدارسين. لقد ألف العلماء الأجلاء في العقيدة مؤلفات شتى، تباينت في طريقة تناولها لهذا الجانب الهام في حياة المسلمين، وكلها نافع ومفيد، والحمد لله. ولكنها تتباين في طراز القارئين؛ فبعضها لا يدركه إلا العالم المتخصص، وبعضها الآخر يحتاج إلى إضافة وتحليل وشرح وتعليل! ولقد جاء هذا الكتاب -فيما أراه- صالحا لطالب العلم الذي يبتغي معرفة الأصول ونظامها، ويحتاج إلى الشرح والتبسيط وتقريب المعرفة. وهذا نمط من التأليف لا يتهيأ لكل كاتب, ولا يتيسر لكل طالب. وإذا كانت مصادر العقيدة معروفة مألوفة, فإن المؤلف قد استطاع أن يقرب إلى الأفهام مدلولات تسهل إثبات الحقيقة الراجعة إلى المصدر بدليل واضح, لا يحتاج إلى أدلة شارحة. وذلك ما يريده المتعلم في هذا المجال. وإذا كان المؤلف في هذا الكتاب قد استنبط من بعض الأدلة مقاييس لم تكن قائمة في عصر السابقين، أوجدها العصر الذي نعيشه، فقد لا يوافقه البعض على جوانب مما ذكر، ولكن أمر الاجتهاد في العلم والمعرفة مفتوح، فتح بابه الإسلام لأهل العلم، وجعل مرده لكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ثم لأهل العلم والمعرفة، وذلك ما قام به المؤلف؛ فإن إرجاع الرأي في العقيدة لأهل العلم -وقد أشار المؤلف إلى جمْع منهم- هو من دلائل الإجماع. ولا إخال إلا أنهم سيقيِّمون هذا الكتاب خير تقييم, والله المستعان. وبعد: فهذا الكتاب -كما ظهر- فيه من الجهد والتتبع والاستقصاء والاجتهاد ما يدل

على عزم مؤلفه أن يصل به إلى التمام, وفوق كل ذي علم عليم. ومما يشرح النفس ويريح الخاطر هو اجتهاده في تتبع الأدلة وحصر الشواهد والرجوع إلى أمهات الكتب في كل موضوع يطرقه, وفي كل معنى يأتيه، والتثبّت مطلوب لكل عالم يريد لعلمه قبولا ومكانة. أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصواب، وأن يجنبنا الخطأ والارتياب، وأن يجعل أعمالنا عبادة الصادقين معه، المخلصين لدينه، سالمة من المؤاخذة. ونسأله أن لا يوكلنا إلى علمنا وإلى عملنا, فإنه نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين.

مقدمات

مقدمات: تقاريظ وكلمات: تفضّل عدد من أهل العلم والفكر بكلمات أو مقالات عن الكتاب في طبعته الأولى نثبت بعضها، شاكرين لهم جميعهم اهتمامهم وحسن ظنهم. كلمة معالي الشيخ ناصر بن حمد الراشد، وزير الدولة رئيس ديوان المظالم، عضو هيئة كبار العلماء بالرياض: الأخ الأستاذ عثمان بن جمعة ضميرية سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد: فتلقيت شاكرا ومقدرا إهداءكم القيِّم مؤلفكم "مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية" الذي جمع بين دفتيه جانبين يمثلان البحث في أصول العقيدة وتحديد النظام المنبثق عن هذه الأصول. علاوة على أنه يعرض للقضايا في سهولة ويسر، ويقرّب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم. وكنت قد قرأت الكتاب من قبل، وفي قراءتي الأخيرة ازداد إعجابي به؛ لما فيه من تحقيق وتخريج وحسن استنباط. زادكم الله علما وفهما وأجزل مثوبتكم. وفي الختام نسأل الله -جل وعلا- التوفيق والسداد للجميع, وأن ينفع بهذا المؤلف. رئيس ديون المظالم المخلص ناصر بن حمد الراشد

من كلمة سعادة الدكتور إبراهيم عوض: كتب الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض، الأستاذ بكلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة، مقالا مطولا بجريدة "الجزيرة" العدد "8120"، عرض فيه الكتاب عرضا شاملا، وأبدى بعض وجهات النظر، وناقش بعض القضايا المتصلة بمباحثه، نقتطف منه بعض الفقرات، حيث قال سعادته: قدم الأستاذ عثمان جمعة ضميرية للمكتبة الإسلامية عددا غير قليل من الدراسات، تأليفا وإخراجا ... وقد ظهر كتابه هذا "مدخل لدراسة العقيدة" في طبعته الأولى سنة 1414هـ، وهو يضم مباحث شائقة، ويجوس بين المكتبة الإسلامية العقدية، ويشرح للقارئ جوانب كثيرة من مباحث العقيدة، وليس بالضرورة أن تحمل هذا العنوان ... وقد اعتمد المؤلف في كتابه عدة مناهج: فهو في الفصل التمهيدي قد اتبع المنهج التاريخي، وفي معظم الأحيان نراه يأخذ بالمنهج الوصفي، إذ يقدم للقارئ تحليلا للموضوع الذي يتناوله, عارضا سماته التي تميزه وتجعل له ذاتيته الخاصة. ومع ذلك فهو لم يغفل الجانب التقويمي، وبخاصة حين يقارن بين مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الذي يرتضيه ويدافع عنه، وبين غيره من المذاهب. وفي قائمة المصادر والمراجع المذكورة في آخر الكتاب يطالع القارئ أسماء مئات من الكتب التي تزيد على الثلاثمائة والثلاثين، وهي دليل على الجهد الذي نراه مفيدا للقارئ العام والمتخصص على السواء. د. إبراهيم عوض آداب عين شمس - القاهرة

كلمة فضيلة الشيخ الدكتور فؤاد مخيمر: كتب فضيلة الشيخ الدكتور فؤاد بن علي مخيمر، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وعضو هيئة كبار علماء الجمعية الشرعية بمصر، كلمة ضافية، نجتزئ بمقتطفات منها. قال حفظه الله: إن الاشتغال بعلم العقيدة من فروض الكفاية وخصوصية الخاصة من أهل العلم، ولا يشتغل به إلا من صَفَتْ سريرته وخلصت عقيدته من الشوائب والانحرافات والتأويلات، ورسخ إيمانه بالله وحده، وصدقت فراسته، واستقام خُلُقه وعمله، وأنعم الله تعالى عليه ببصر ثاقب، وفكر ناقد، وعقل نابغ، ليطرح القضايا بعد نظر وتأمل، ويدبر الحوار ويناقش، ثم يستلهم الحق والهداية للبشر، ثم يوجه القول إقامة للحجة مع وضع البرهان السامع أمام من له عقل وقلب. وهذا الكتاب للأخ الفاضل عثمان بن جمعة ضميرية، كتاب عظيم في مبناه، غزير في معناه، سهل في أسلوبه وتراكيبه، محكم في عرض قضاياه, يلمس من يقرأ فيه صدق العبارة مع التوجيه المحكم والإلهام المستنير ... ولسنا في حاجة إلى عرض ما في الكتاب من قضايا وتوجيهات؛ لأن المؤلف -طيّب الله نفسه- قد أُلهم الرشد في اختيار العنوان الذي وسمه بـ "المدخل"؛ ذلك لأن محيط العلم واسع وعمقه بعيد المدى وبابه محكم، فخطا الأخ الشيخ عثمان خطوات ووقف أمام المدخل ففتح له الباب, فأجاد الغوص في علم العقيدة، فالتقط دررا نفيسة جعلها مشاعل هداية على طريق معرفة الله -عز وجل- ليوحده الناس توحيدا خالصا، ويخلصوا العبودية له وحده. وبعد ... فهذا جهد مشكور، وعلم موفور، وتجارة لن تبور، قدمها الأخ الفاضل الشيخ عثمان جمعة مبتغيا بها وجه الله تعالى -أحسبه كذلك- نسأل الله أن يثيبه عليه وأن يثيبنا معه. والله من وراء القصد.

كلمة الدكتور حمد عبد الله العيسى: ونشرت مجلة الدعوة السعودية في عددها رقم "1440" عرضا للكتاب بقلم الدكتور حمد عبد الله العيسى، نقتطف أجزاء منه شاكرين له جهده وتشجيعه. قال سعادته: اهتمت الدراسات المعاصرة بالعقيدة الإسلامية اهتماما بالغا يليق بمكانتها ودورها في الحياة, وتعددت الكتب والمؤلفات في جوانب كثيرة منها. إلا أن المكتبة الإسلامية ما زالت بحاجة إلى لون آخر من التأليف في العقيدة، وهو ما يمكن أن نجعله مدخلا لدراسة العقيدة وتمهيدا عاما بين يديها، على غرار ما نجده من "المداخل" في علم الشريعة "الفقه" واللغة والتاريخ. وميزة هذا اللون من التأليف أنه يعطينا نظرة كلية عامة قبل الدخول في الجزئيات، ويمهِّد تاريخيا للبحث والكتابة. وقد جاء هذا الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف الأخ الفاضل الشيخ/ عثمان جمعة ضميرية؛ ليسد الفراغ الذي كانت تشكو منه المكتبة الإسلامية الحديثة. والكتاب مجموعة من المحاضرات الجامعية في مادة "العقيدة الإسلامية", ألقيت على طلبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ويضم الكتاب تمهيدا عاما عن الإسلام: عقيدة وشريعة، ثم ست فقرات تتناول العوامل الداخلية والخارجية التي أثرت في استقلال علم العقيدة وتدوينه، ثم التطور التاريخي لتدوين علم العقيدة منذ القرن الهجري الثاني وحتى نهاية القرن الرابع، حيث استقر تدوين العلوم الإسلامية عامة. وجاءت الفقرة الثالثة لتبحث في بعض العموميات فعرّفت ببعض المصطلحات الأساسية ومصادر العقيدة ودور العقل في ذلك وبيان الصلة بينهما. وجاءت الفقرة الرابعة لدراسة أعظم جوانب العقيدة الإسلامية وهو التوحيد وأنواعه، وهذا يستلزم دراسة الانحراف عن التوحيد. وجاءت الفقرة السادسة لدراسة موجزة عن الولاء والبراء ومكانتهما في العقيدة. وأخيرا جاءت الخاتمة لتوجز أهم السمات والخصائص العامة التي تتميز بها العقيدة الإسلامية.

وإذا عدنا إلى هذا الكتاب بالدراسة لنتبين منهجه وطريقته، وجدنا الكتاب يجمع فصولا مترابطة متسلسلة، وأفكارا واضحة مرتبطة بمصادرها الأصلية من الكتاب والسنة وأقوال علماء السلف من أهل السنة والجماعة، فكان منهجا علميا استدلاليا، يعطينا الثقة فيما يعرض من مبادئ أو أحكام عقدية، مع الالتزام بالأحاديث الصحيحة أو الحسنة وعَزْوها إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة النبوية. وقد جمع هذا الكتاب ميزات متعددة وأبحاثا جديدة في أبواب مستقلة أو منثورة في ثنايا الكتاب ومسائله، وحرّر بعض المسائل تحريرا علميا، وحسبنا أن نقتطف كلمات من مقدمة الأستاذ الدكتور عبد الله العبادي -عميد كلية التربية بجامعة أم القرى- ترسم لنا صورة عن الكتاب, حيث قال: "وهذا الكتاب الذي بين أيدينا ضرب من المثل الذي شق به مؤلفه الطريق في زمن اتجه أهله إلى الماديات المغرية حتى في الكتابة والتأليف، وتزاحمت فيه الكتب على رفوف المكتبات، شيقة العنوان، جميلة التغليف". وقال: "استعرضت هذا الكتاب فوجدته كتابا لطالب العلم المبتدئ، يعرض للقضايا بيسر وسهولة، ويسعى لتقريب المفاهيم للدارسين وطلاب العلم. ويؤيد ذلك العرض بالدليل الناصع والمرجع النافع والأسلوب البارع، ويعتمد على حسن الدلالة ووضوح الإحالة. وقد جاء -فيما أراه- صالحا لطالب العلم المبتدئ بمعرفة الأصول ونظامها، الذي يحتاج إلى الشرح والتبسيط وتقريب المعرفة. وهذا نمط من التأليف لا يتهيأ لكل كاتب، ولا يتيسر لكل طالب". وفي ختام هذه الكلمة أرجو أن أكون قد وفِّقْتُ في التعريف والنقد لهذا الكتاب النافع المفيد، وأدعو المؤلف لمزيد من الكتب الجيدة التي نحتاجها في هذا العصر، شاكرا لمجلة "الدعوة" وداعيا للقائمين عليها. والله من وراء القصد.

كلمة سعادة الدكتور حماد الثمالي, عميد شئون المكتبات بجامعة أم القرى: سعادة الأستاذ عثمان جمعة ضميرية.. تلقينا ببالغ الشكر والتقدير هديتكم القيمة "مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية". وإننا إذ نهنئكم على هذا الجهد العلمي المخلص الذي هو خدمة للعلم والدين، نتمنى لكم دوام التوفيق, آملين أن يزداد التعاون بيننا في كافة مجالات المعرفة، سائلين الله تعالى أن يوفقكم لخدمة العلم والمعرفة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كلمة سعادة الدكتور محمد سعيد الغامدي: في كلمة تعقيبية على ما نشر في جريدة الجزيرة، كتب الدكتور محمد سعيد الغامدي يقول: وكنت قد قرأت الكتاب فوجدته يجمع ميزات عديدة في المنهج وطريق العرض والأسلوب، وفي الاستدلال وحسن التنظيم والترتيب لمباحثه وأفكاره التي يأخذ بعضها برقاب بعض، مع التوثيق الدقيق وبأسلوب لا يستعصي على القارئ العادي، ولا ينبو عن ذوق المتخصص. مع ما فيه من جهد في التتبع والاستقراء؛ مما يجعله مرشحا ليكون مرجعا ذا فائدة في دراسة العقيدة الإسلامية, وخاصة بمباحثه الأولى عن تاريخ تدوين علم العقيدة ومناهجها.

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: 1- فهذا كتاب ابتدأ إنشاؤه في كلية المعلمين بالطائف، واكتمل سويا في كلية التربية بجامعة أم القرى "فرع الطائف" وهو يجمع بين دفتيه مجموعة من المحاضرات تتناول جوانب من علم العقيدة الإسلامية، أردت لها أن تكون مدخلا عاما لدراسة العقيدة الإسلامية، وتمهيدا بين يديها. وقد جاء هذا الكتاب في تمهيد عام يتبعه ست فقرات وخاتمة. تناولت في الفقرة الأولى منه "الإسلام عقيدة وشريعة" كما تلقاه الصحابة رضوان الله عليهم، وفي الفقرة الثانية العوامل الداخلية والمؤثرات الخارجية التي أدت إلى نشوء علم العقيدة واستقلاله عن سائر العلوم الشرعية، ثم تتبعت التطور التاريخي لتدوين العقيدة منذ القرن الثاني الهجري وحتى نهاية القرن الرابع, حيث استقر تدوين العلوم الإسلامية بعامة وعلم العقيدة بخاصة. ثم ألمعتُ إلماعة سريعة إلى بعض الكتابات العَقَدِية المعاصرة. وفي الفقرة الثالثة بعض العموميات الأساسية في البحث, فعرّفنا ببعض المصطلحات التي تتردد في هذا المدخل، وتعرّفنا على مصادر العقيدة مع الإشارة إلى دور العقل ومكانته والعلاقة بينه وبين الوحي؛ لنخلص بعد ذلك إلى وجوب التزام العقيدة والتحذير من البدع. وجاءت الفقرة الرابعة لدراسة أعظم جوانب العقيدة الإسلامية, وهو التوحيد وأنواعه بعامة مع بعض التفصيلات عن توحيد العبادة "الإلهية"، ويستلزم ذلك أن

ندرس الانحراف عن التوحيد؛ كالشرك والكفر والنفاق في الفقرة الخامسة. وفي الفقرة السادسة دراسة موجزة لعقيدة الولاء والبراء ومكانتها في الإسلام. أما الخاتمة, ففيها إشارة إلى أهم الخصائص التي تميز العقيدة الإسلامية عن غيرها من العقائد والمذاهب. وكان من الممكن أن يتسع هذا المدخل لفقرات أخرى تناسب موضوعه، كمنهج السلف في عرض العقيدة ابتداء أو ردا على الفرق الأخرى. كما يمكن أن تتسع بعض فقراته لشيء من البسط، ولعلنا نستدرك ذلك على ضوء ملاحظات الإخوة القراء، في طبعة قادمة إن شاء الله ويسّر ذلك. 2- وفي كل ما كتبت حاولت أن أربط كل فكرة بمصدرها؛ ليكون ذلك عونا للقارئ على التوسع فيها والتثبت من مصدرها، وتحقيقا للأمانة في النقل -مما نفتقده في كثير من الكتابات المعاصرة -ولهذا تراني أحيل في بعض الجوانب إلى كثير من المصادر والمراجع، وقد أكتفي أحيانا بالإحالة إليها رغبة في الإيجاز. وأما الإشارة في كثير من المواضع إلى فقرات سابقة أو لاحقة, فإن ذلك يومئ إلى الترابط والتكامل في البحث ويجنبنا التكرار. وأما ما قد يراه بعض الإخوة من القراء إسرافا في النصوص اللغوية بين يدي التعريفات الاصطلاحية، فإن ذلك كان عن عمد وقصد؛ لأنها تلقي الضوء على التعريف الاصطلاحي، وهو في أصله تعريف لغوي، ومن لم يكن بحاجة إليها من القراء فيمكنه أن يتجاوزها إلى ما وراءها بيسر وسهوله. واجتهدت ألا أذكر في هذا البحث من الأحاديث النبوية إلا ما كان صالحا للاحتجاج به، وعزوته إلى مصدره من دواوين السنة النبوية، مكتفيا بالصحيحين أو

أحدهما إن كان من أحاديثهما، وفي أحاديث غيرهما أنقل حكم أحد الأئمة المحدِّثين عليها. 3- وقد كان في النية أن ندفع بهذا الكتاب للطبع منذ سنوات، فقضت إرادة الله تعالى غير ذلك، مما هيأ الاطلاع على كتابين اثنين في هذا الموضوع. أولهما للدكتور يحيى هاشم فرغل بعنوان "مداخل إلى العقيدة الإسلامية" وهو ينحو منحى فلسفيا يستهدف الدخول في العقيدة الإسلامية، فهو في غير ما يهدف إليه هذا المدخل. وأما الثاني فهو "المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة والجماعة" للدكتور إبراهيم محمد البريكان، وهو بجملته في موضوع هذا المدخل نفسه وفق المنهج المقترح لكليات المعلمين، وإن كان لكل وجهة هو موليها. هذا، وقد رأى بعض الإخوة أن يكون عنوان هذا الكتاب "المدخل لدراسة علم العقيدة الإسلامية"؛ لأنه يشتمل على البحث في نشأة العلم ومراحل تدوينه ... إلخ، ولكني رأيت العنوان الحالي يدخل فيه علم العقيدة كما تدخل فيه العقيدة نفسها موضوعا للبحث. 4- وقبل أن أغادر هذه المقدمة ينبغي أن أعود بالفضل لأهله فأقدم الشكر -بعد شكر الله سبحانه وتعالى- لكل من نظر في هذا الكتاب, أو في جزء منه فأفادني برأي أو توجيه أو تصحيح. وأخص بالشكر فضيلة الشيخ الدكتور/ بكر بن عبد الله أبي زيد، وكيل وزارة العدل وعضو هيئة كبار العلماء بالرياض، وفضيلة الأستاذ الدكتور/ ناصر بن عبد الكريم العقل، أستاذ العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض،

وفضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد الرحمن المراكبي، أستاذ العقيدة المشارك بجامعة الأزهر، وسعادة الأستاذ الأديب الدكتور إبراهيم عوض، الأستاذ بآداب عين شمس بالقاهرة، الذي قرأ الكتاب قراءة نقدية دقيقة وتفضّل بعرض الكتاب والتعريف به. وأما سعادة الأستاذ الدكتور/ عبد الله بن عبد الكريم العبادي، عميد كلية التربية بجامعة أم القرى "فرع الطائف" فقد طوَّق عنقي بمنة كبرى عندما تفضل بقراءة الكتاب كاملا وتولى تقديمه للقراء الكرام، فله ولهم جميعا خالص الشكر والدعوات. وبعد: فإن كنت قد بلغت في هذا الكتاب ما أردت فذلك توفيق من الله تعالى، وهو حسبي، وإن كانت الأخرى فإنني أُشهد الله تعالى أنني راجع عن كل ما فيه من خطأ. والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. الطائف - غرة شهر ذي الحجة 1413هـ عثمان بن جمعة ضميرية

تمهيد عام

تمهيد عام: خلافة وهداية: قضت حكمة الله وإرادته أن يخلق آدم، وأن يجعله وذريته خلفاء في الأرض؛ ليقوموا بعمارتها وفق منهج الله تعالى وشريعته، فيحققوا بذلك غاية وجودهم, توحيدا لله تعالى وعبادة له وطاعة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] . ولما أهبط الله آدم إلى الأرض لم يتركه لنفسه أو لعقله؛ فهو يحتاج إلى عناية ورعاية، ويحتاج إلى منهج وهداية، يسير هو وذريته عليه، فيكون سببا للنجاة وحاجزا عن الضلالة والشقاء، وقد أكرمه الله تعالى بهذه الهدية الربانية والهداية الإلهية: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 38، 39] . {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123-127] .

طريقان للهداية

طريقان للهداية: الفطرة والوحي ومنذ أن أوجد الله تعالى البشر فَطَرهم على التوحيد والإيمان بالله تعالى، خالقهم ومعبودهم، وأخذ عليهم العهد والميثاق مذ كانوا ذرية في ظهور آبائهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172، 173] . ولذلك يأمرهم الله تعالى أن يقيموا وجوههم لله، وأن يخلصوا دينهم له، فإنه مقتضى الفطرة التي فطرهم عليها، وتحقيق للعهد والميثاق، وأداء لشهادة الحق التي أشهدهم عليها: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] . وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} "الآية"1.

_ 1 أخرجه البخاري: 3/ 219، ومسلم: 4/ 2047, وانظر "تفسير البغوي": 6/ 296 مع المراجع المشار إليها، طبعة دار طيبة بالرياض، "معالم السنن" للخطابي: 7/ 83-88.

وعن عياض بن حمار المجاشعي، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلتُه عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... " 1. وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار، وهو الحنيفية التي وقعت الخِلْقة عليها، وإن عبد غيره، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] . فكل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة، أي: على الجِبِلَّة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره، لآفة من آفات النشوء والتقليد، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره2. وهكذا كانت البشرية الأولى أو ذرية آدم عليه السلام، قبل أن يقع الانحراف، كانت على التوحيد والإسلام، فقد كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح -وكان بينهما عشرة قرون- كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح، فبعث الله إليهم نوحا، فكان أول نبي بعث، ثم بعث بعده النبيين3.

_ 1 أخرجه مسلم: 4/ 2197. 2 انظر: "تفسير البغوي": 6/ 270, والمراجع المشار إليها في الحاشية. 3 وهذا مرويّ عن قتادة وعكرمة. انظر: "تفسير البغوي": 1/ 243.

وعن أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله, أنبيا كان آدم؟ قال: "نعم" , قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة قرون" 1. قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" 2. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا"3 وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب رضي الله عنه4. وهذا متناسق مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِيَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] . {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ

_ 1 أخرجه ابن حبان ص"509", والطبراني في "الأوسط" 1/ 256، والحاكم: 2/ 262، والبيهقي في "الأسماء والصفات": 1/ 517. قال ابن كثير: وهو على شرط مسلم. 2 انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير: 1/ 101. 3 أخرجه الطبري: 4/ 275، وصححه الحاكم في "المستدرك": 2/ 546، 547, ووافقه الذهبي. وعزاه السيوطي في "الدر" "1/ 582" للبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم. 4 "تفسير ابن كثير": 1/ 364 "طبعة الشعب".

اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] . وأنزل الله تعالى كتبه هداية ورحمة وبيانا وإزالة للخلاف؛ ليفيء الناس جميعا إلى الحق والعدل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 63، 64] . يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله: "وهذه هي قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد، والموازين والقيم ... كان الناس أمة على نهج واحد وتصور واحد، وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم قبل اختلاف التصورات والاعتقادات. فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد، وهم أبناء الأسرة الأولى: أسرة آدم وحواء. وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة؛ ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم، وليجعلها هي اللبنة الأولى. وقد غَبَر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى، حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها، وتفرقوا في المكان، وتطورت معايشهم، وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة التي فطرهم عليها لحكمة يعلمها، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع والاستعدادات والطاقات والاتجاهات. عندئذ اختلفت التصورات, وتباينت وجهات النظر، وتعددت المناهج، وتنوعت المعتقدات ... وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين"1.

_ 1 "في ظلال القرآن": 1/ 216، وانظر فيما سيأتي ص219-224.

حاجة البشرية إلى الرسالة

حاجة البشرية إلى الرسالة: ولا تستقيم حياة البشرية ولا تنتظم إلا ببعثة الرسل، عليهم الصلاة والسلام، فالرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، فهي روح العالم ونوره وحياته؛ فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟! 1 ولذلك سمى الله تعالى وحيه إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- روحا، وسماه نورا، والإنسان لا يستغني عن الروح؛ فهي سبب الحياة، ولا عن النور؛ فهو سبب الهداية، فقال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53] . وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] . فبعث الله تعالى الرسل تترى، كلما ضلت أمة بعث إليها رسولا، فكثر الرسل والأنبياء، فما من أمة إلا وقد بعث الله فيها نذيرا، يقطع العذر ويقيم الحجة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .

_ 1 "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": 9/ 93.

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] . {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] . وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله, كم عدد الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة عشر ألفا"، قلت: يا رسول الله, كم الرسل من ذلك؟ قال: "ثلاثمائة وخمسة عشر، جما غفيرا" 1. وهؤلاء الرسل هم الذين يحملون الشرائع للناس، ويبينونها لهم، ويبلغونهم البلاغ المبين، فيعرفون الناس بربهم معرفة صحيحة صادقة، ويضبطون حركتهم الفكرية والعملية بضوابط الوحي الإلهي، إذ لا تستطيع العقول البشرية أن تستقل بإدراك حقائق الأشياء على ما هي عليه ولا تستقل بمعرفة ما تنبغي معرفته من مصالحهم العاجلة والآجلة، ولا تستطيع معرفة أمور الغيب المحجوبة عنها، ولا الأمور الدينية على وجه التفصيل "وسيأتي شرح هذا في الكلام على دور العقل". والرسل هم القدوة الصالحة التي تتأسى بها البشرية، ولهم الأثر الباقي الخالد في الحياة، وهم سبب كل خير.

_ 1 قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند": 5/ 178، 179، وابن حبان ص"52، 53" من "موارد الظمآن"، والحاكم: 2/ 597 وتعقبه الذهبي. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" "1/ 159": "رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، ومداره على علي بن يزيد، وهو ضعيف". وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة": "3/ 1599". وانظر: "الفتاوى الحديثية" لابن حجر الهيثمي، ص180.

الرسالة الخاتمة

الرسالة الخاتمة: وقضت حكمة الله تعالى وإرادته أن تختم رسالات السماء برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا رسالة بعد رسالته ولا نبي بعده: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وأُحلت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون" 1. وقال: "مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لَبِنَة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" 2. وهذا يقتضي أن تكون دعوته -عليه الصلاة والسلام- للناس جميعا, لا تخاطب أقواما بأعيانهم ولا جنسا بذاته، وإنما يتوجه فيها الخطاب للناس جميعا بصفتهم الإنسانية العامة، فقال سبحانه وتعالى على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيما أمره بالبلاغ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .

_ 1 أخرجه مسلم: 1/ 371. 2 أخرجه البخاري: 6/ 558، ومسلم: 1/ 371، 4/ 1790.

{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] . ولذلك جعل الله القرآن الكريم نذيرا للعالمين جميعا، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] . وأكمل الله تعالى هذه الرسالة وأتم بها النعمة ورضيها لنا دينا، وجعلها ظاهرة على الأديان كلها فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ} [المائدة: 3] . {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] . ولهذا لا يقبل الله تعالى من الناس دينا سوى الإسلام، فإنه كلمة الله الأخيرة للناس، والدين الحق الذي نسخ به سائر الأديان، وجعله مهيمنا عليها1. فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] . {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]

_ 1 انظر: "الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى" عثمان جمعة ضميرية، ص54-60.

ولذلك تكفل الله تعالى بحفظ هذا الدين عندما تكفل بحفظ أصوله المنزلة وحيا على نبيه صلى الله عليه وسلم1، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . ولذا فهو: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] .

_ 1 انظر فيما سيأتي ص385, تعليق 1.

العقيدة والشريعة

العقيدة والشريعة: الصحابة يتلقون الدين منهجا كاملا: نهض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأعباء الدعوة، وصدع بها منذ أن أمره الله تعالى بذلك، حيث قال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . واستمر نزول الوحي عليه -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما، لم يعرف لها التاريخ مثيلا في التجرد والإخلاص، والصبر والجهاد والمجاهدة, والتربية الإيمانية العميقة، فنشأت القاعدة الصلبة التي رباها النبي -صلى الله عليه وسلم- على عينه، يقود خطاها الوحي الإلهي في كل لحظة من اللحظات، ويأخذ بيدها لتكون على الجادة من الطريق الطويل، ثم انتقل بها إلى حيث تجد التطبيق العملي لمبادئ الإسلام كاملة في المدينة, بعد أن أراد الله لهم الخير, فساقهم ليبايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة، التي كانت حجر الأساس في بناء الدولة الإسلامية، التي عمل لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من ربه تبارك وتعالى. حتى إذا ما أكمل صلى الله عليه وسلم البناء, وأتم البلاغ والتحق بالرفيق الأعلى كان لهذه القاعدة ولهذه الأمة شأن أي شأن في تاريخ البشرية كله. كل هذا، والصحابة -رضوان الله عليهم- يتلقون من النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكام هذا الدين وتعاليمه وآدابه، فيما يتعلق بالإيمان ومعرفة الله سبحانه وما ينبغي له من الطاعة، وفي كيفية العبادة وأداء الشعائر، وفي شتى أنواع المعاملات في مناحي الحياة الفردية والاجتماعية، وفي الأخلاق والآداب والسلوك، ثم في علاقة الأمة بغيرها من الأمم والديانات الأخرى ... دون أن يكون هناك تفكير في تقسيم هذه

الأحكام أو تصنيفها وتبويبها ليكون هذا عقيدة وذاك عبادة، والثالث اقتصادا أو سياسة ... إلى غير ذلك من هذه التقسيمات الحادثة التي اقتضتها ضرورة البحث والتأليف، ودون أن يكون هناك تفريق بينها في الالتزام والعمل بمقتضاها، فهي كلها أحكام منزلة من الله، ينبغي عليهم أن يتلقوها بالتسليم، وأن يسارعوا إلى الامتثال لها ليحققوا بذلك مقتضى إيمانهم بالله واستسلامهم لشرعه ودينه، وليدخلوا في الدين كافة. ولذلك نجد الإسلام والإيمان والإحسان في سياق واحد، يعبِّر عن الدين كله، كما في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فأقبل حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فقال: صدقت. قال: فعجبنا له، يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله, وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل".

قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان". قال: ثم انطلق فلبث مليا. ثم قال لي: "يا عمر, أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل, أتاكم يعلمكم دينكم" 1. فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال, وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين؛ ولذلك قال: "فإنه جبريل, أتاكم يعلمكم دينكم" 2. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس لهذا الدين بجملته؛ لأنه "لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه"3. فقد جاء وفد ثقيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكثوا أياما يغدون على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام ... فقال له عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ فقال: "إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية ولا صلح بيني وبينكم".

_ 1 أخرجه البخاري: 1/ 114, ومسلم: 1/ 37، 38، واللفظ له. 2 "شرح السنة" للبغوي: 1/ 11. 3 نص جواب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لجماعة من شيبان، بعد أن عرض عليهم الإسلام وسمع منهم مقالتهم, في قصة طويلة أخرجها الحاكم وأبو نعيم في "الدلائل": 1/ 99، والبيهقي في "الدلائل" أيضا: 2/ 426, وذكرها ابن كثير في "البداية والنهاية" "3/ 143-145" وقال: هذا حديث غريب جدا، وقد ورد من طرق وحسّنه القسطلاني. وانظر: "الروض الأنف" للسهيلي: 1/ 265.

فقال عبد ياليل: أفرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ قال: "هو عليكم حرام؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ". قال: أفرأيت الربا؟ قال: "هو عليكم حرام". قالوا: فإن أموالنا كلها ربا؟ قال: "لكم رءوس أموالكم؛ إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ". قالوا: أفرأيت الخمر؟ فإنها عصير أعنابنا، ولا بد لنا منها؟ قال: "إن الله قد حرمها" وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1 [المائدة: 90] . وبعد إسلامهم سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يَدَع لهم الطاغية -وهي اللات- لا يهدمها، ثلاث سنين. فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعها لهم شيئا مسمى. وإنما كانوا يريدون بذلك -فيما يظهرون- أن يَسْلموا -بتركها- من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. وما زالوا يسألونه أن يتركها لهم سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهرا واحدا، بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، فسألوه أن يعفيهم من هدمها بأيديهم، فأعطاهم ذلك. وقد كانوا سألوه -مع ترك الطاغية- أن يعفيهم من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا خير في دين لا صلاة فيه" 1.

_ 1 انظر: "زاد المعاد" لابن القيم: 3/ 596 بتحقيق الأرناءوط "إمتاع الأسماع" للمقريزي: 1/ 492.

علم العقيدة وعلم الشريعة

علم العقيدة وعلم الشريعة: إن الدين الإسلامي, بما أنه منهج إلهي للبشر ينبغي أن يصرِّف حياة الناس وينظمها، يشمل جانبين اثنين تتفرع عنهما سائر الجوانب الأخرى وتعود إليهما: الجانب الأول: الأصول العقدية، أو الأساس النظري للدين، الذي يشكل القاعدة الأساس في بنائه، ومنه ينطلق المؤمن، ويضبط كل حركته بضوابطه، ويوجه كل سلوكه وأعماله، ويفسر للإنسان طبيعة وجوده ونشأته وغايته، ويعرفه بدوره في الحياة، ويحدد مصيره الذي ينتهي إليه في الآخرة، ويرسم له معالم صلته بالله تعالى، وصلته بالحياة والأحياء والكون من حوله. وهذا الجانب هو العقيدة التي تقوم على أصول نسميها: أصول الإيمان وأركانه، كما جاءت في حديث جبريل -آنفا- عن الإسلام والإيمان ... مما يجب أن يعتقده المؤمن ويصدق به. ولأهميتها ومكانتها في الدين فقد أولاها الإسلام عنايته الكبرى -على ما سنلمح إليه إن شاء الله تعالى- وتسمى الأحكام المتعلقة

_ 1 انظر: "مسند الإمام أحمد": 3/ 341، "سيرة ابن هشام"، مع "الروض الأنف": 2/ 326، "زاد المعاد": 4/ 499. وقارن بتخريج الألباني لأحاديث "فقه السيرة" للغزالي ص450.

بهذه النواحي: أحكاما أصلية واعتقادية. والعلم المتعلق بهذا الجانب يسمى "علم العقيدة" أو "علم الإيمان" أو "أصول الدين" أو "علم التوحيد والصفات"؛ لأن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده. والأصل في هذا النوع من العلم هو التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، ولزوم طريق السنة والجماعة، الذي كان عليه الصحابة والتابعون، ومضى عليه الصالحون من السلف رحمهم الله. والجانب الثاني: هو النظام الذي ينبثق عن هذه الأصول العقدية ويقوم عليها، ويجعل لها صورة واقعية متمثلة في حياة البشر الواقعية؛ ولذا فهو يحدد للمكلفين حدودا في أقوالهم وأفعالهم -كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله- فيبين كيفية عمل المكلف وفعله والإتيان به على الوجه الذي أمر به الشرع، في الشعائر التعبدية, والنظام الاجتماعي, ونظام الأسرة، والنظام الاقتصادي، والنظام السياسي، وفي قواعد الأخلاق والسلوك والتربية والمعاملات الأدبية والمالية، وكل ما من شأنه تنظيم حياة الناس وارتباطاتهم وعلاقاتهم ... وتسمى الأحكام المتعلقة بهذه الجوانب كلها: أحكاما فرعية أو عملية. والعلم المتعلق بهذا الجانب يسمى "علم الفروع" أو "فروع الدين" أو "علم الفقه" أو "علم الشرائع والأحكام"؛ لأنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند الإطلاق إلا إليها1.

_ 1 انظر: "مقدمة ابن خلدون": 2/ 780، "شرح العقائد النسفية" للتفتازاني ص12-15، "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني: 1/ 4، "أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار" للبخاري: 1/ 7-13، "المبسوط" للسرخسي: 1/ 2.

الصلة بين العقيدة والشريعة

الصلة بين العقيدة والشريعة: وإذا كانت العقيدة هي أصل البناء وأساسه، فإن الشريعة تنبثق عن هذا الأصل وتقوم عليه، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك الإنساني في أي جانب من جوانب الحياة, متفرعا عن أصل من أصول العقيدة والإيمان، ومرتبطا به، فلا قيمة ولا استقرار لشريعة أو نظام لا يستند على أساس متين، كما أنه لا جدوى من أساس ما لم نرفع فوقه بناء قويا محكما. وهكذا تتعانق العقيدة والشريعة لتكونا -معا- هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، وإن كان أحد الجانبين أعظم أهمية من الجانب الآخر، فإن العقيدة هي الجانب الأعظم الذي أولاه الإسلام عنايته الكبرى أولا في مكة المكرمة، وهي مرحلة الإعداد والتكوين والتربية للأمة التي أراد الله تعالى إخراجها للناس لتكون "خير أمة", ولتكون "الأمة الوسط" التي تشهد على سائر الأمم. ثم استمر الحديث عن هذه العقيدة عندما بدأت الأحكام التفصيلية تتنزل على هذه الأمة في "المدينة"، بعد أن أصبح لها وجود فعلي وكيان مستقل، بل كانت العقيدة هي الروح الذي يسري في هذه الأحكام, فيهبها الحياة النابضة المتحركة1. "ولهذا, فإن هذه الأحكام عرضت من خلال العقيدة، وفي سياق ما يتصل بها من شعب الإيمان ومستلزمات الطاعة والعبادة، حتى في أشد المسائل التصاقا بالبعد المادي عند الإنسان أو نزعته الحسية، كاللباس والطعام والشراب والتناسل ... مما يظهر أثره في حياة الإنسان وسلوكه، ويدخل في ثقافته في نهاية المطاف. {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى

_ 1 انظر: "خلاف الأمة في العبادات" لشيخ الإسلام ابن تيمية، المقدمة ص6-9.

ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] . وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] . وقال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] . وليس وراء هذه النزعة أو الشهوة في حياة الإنسان ما هو ألصق منها بالمتاع الحسي.. ومع ذلك فإن الأمر يُربط في القرآن الكريم بتقوى الله، والتذكير بالجنة ويوم الحساب. وغني عن البيان -بعد هذا- أن نذكر أن أحكام الشريعة التي وردت في القرآن الكريم جاءت على هذا النحو مرتبطة بالإيمان بالله واليوم الآخر ... ومؤسسة على التقوى وعلى العلم بصفات الله عز وجل، وأنه عليم حكيم، وسميع بصير، وحكيم خبير ... إلخ. كما قامت على التذكير الدائب بعقد الإيمان الذي يعقده الإنسان مع ربه عز وجل، منذ أن يدخل الإسلام ويرضى بحكم الله تعالى, سواء كان هذا التذكير بطريق مباشر، كقوله تعالى في أوائل سورة المائدة, بعد بيان حكم الله تعالى في العقود والصيد والطعام والزواج، وبعد الأمر بالوضوء والطهارة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7] . أو كان هذا التذكير بطريق غير مباشر، مثل جميع آيات التكليف التي جاءت مصدَّرة بهذا النداء الرباني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أو ربطت بالإيمان بوجه من الوجوه"1.

ضرورة ومحاذير

ضرورة ومحاذير: ولعله من نافلة القول، أن يأتي التأكيد -مرة أخرى- على أن هذه التقسيمات السالفة للدين إلى عقيدة وشريعة ... إنما هي تقسيمات فنية اصطلاحية من أجل الدراسة والمعرفة، اقتضتها ضرورة التأليف والتصنيف بعد نشأة العلوم واستقلالها بالتدوين. وهذه الضرورة تنبه لها المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- وبيّن آثارها بعد ذلك، عند حديثه عن خاصية "الشمول" في التصور الإسلامي وأثرها في التوحيد بين الاعتقاد والتنظيم في الحياة، فقال: "إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و"معاملات" مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة "الفقه". ومع أنه كان المقصود به -في أول الأمر- مجرد التقسيم "الفني"، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه -مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها، إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع

_ 1 عن "دراسات في الفكر الإسلامي"، لأستاذنا الدكتور عدنان محمد زرزور حفظه الله، ص53، 54.

الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات" بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله "فقه المعاملات"! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي ... "1. وإذا كان تقسيم الإسلام إلى عقيدة وعبادة وشريعة وأخلاق مسألة فنية كذلك جاءت متأخرة عند التأليف في هذه العلوم، اقتضتها ضرورة البحث الفني والاختصاص، فإنها تركت آثارا في حس بعض الناس جعلتهم يظنون أنه يكفيهم أن يكونوا على عقيدة نظرية تستقر في قلوبهم دون أن يكون لذلك أثر في حياتهم، أو دون العمل بمقتضيات هذه العقيدة، ويحسبون أنهم متمسكون بهذا الدين حتى ولو كانوا يستمدون تشريعاتهم في جوانب الحياة الأخرى من مصادر بشرية أو مذاهب وأفكار أخرى لم يأذن بها الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وما كانت هذه الآثار نابعة عن التقسيم بحد ذاته، وإنما جاءت بعد أن بهت الدين في نفوس الناس والتبست عليهم الأمور واختلفت المفاهيم2.

_ 1 "خصائص التصور الإسلامي" ص13، وانظر: "مفاهيم ينبغي أن تصحح" للأستاذ محمد قطب، فصل: "لا إله إلا الله" وفصل: "العبادة", وانظر فيما سيأتي ص291-295. 2 ولذلك كان من الغلو والإجحاف أن يجعل بعض الكاتبين هذا التقسيم مخالفا لحقيقة الدين حيث يقول: "إن ثنائية تقسيم الدين إلى عقيدة وشريعة من أخطر الأمور التي جرّت آثارا سيئة على ديننا الحنيف؛ وذلك لأن هذا التقسيم مخالف لحقيقة الدين التي تقوم على أمر واحد وهو تأليه الله -عز وجل- وحده ... " انظر: "في مجال العقيدة، نقد وعرض" تأليف غازي التوبة، ص27، 28.

أهمية العقيدة وأثرها

أهمية العقيدة وأثرها: أما لماذا كان هذا الاهتمام بجانب العقيدة؟ ولماذا كانت هي الأصل الذي ينبثق عنه النظام؟ ولماذا ربطت بها سائر الأحكام؟ ... فهذا ما يجب أن نقف عنده وقفة نستجلي فيها الإجابة. بعث الله تعالى محمدا -صلى الله عليه وسلم- بعد فترة من الرسل، وبعد أن انحرفت البشرية عن دين الله تعالى ومنهجه، فضربت في بيداء التيه والضلال، وتجرّعت مرارة الضياع، وعبدت الشجر والحجر، والنجوم والدواب، واستعبدتْها الأهواء والشهوات، كما استعبدها الطغاة من الملأ، في كل مرة تمردت فيها على عبوديتها لله سبحانه وتعالى. فكانت بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- حياة ونورا، لا غنى للبشرية عنهما: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] . ووقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصدع بكلمة الحق ويهتف بها في الناس قائلا: "أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا". وظل القرآن الكريم في مكة المكرمة يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاما كاملة، يحدثه فيها عن قضية واحدة لا تتغير ... لقد كان يعالج القضية الأولى، والقضية الكبرى، والقضية الأساسية في هذا الدين ... قضية العقيدة والتوحيد، ممثلة في قاعدتها الرئيسية وأسّها الأول: الألوهية والعبودية، وما بينهما من علاقة. وهذه القضية الكبرى، هي قضية كل إنسان؛ لأنها تفسر له سر وجوده في هذا الكون, وغايته التي يسعى من أجلها، وتفسر له نشأته، وتحدد له مصيره ونهايته،

وتجيبه على الأسئلة التي يتوقف على الإجابة عليها تحديد كل ما من شأنه أن يرسم له المنهاج المستقيم لحياته في الدنيا والآخرة: من أنت أيها الإنسان؟ ومن الذي أوجدك؟ ولماذا أوجدك في هذه الحياة؟ وما المصير والنهاية التي تنتهي إليها بعد هذه الحياة؟ ما هي علاقتك بهذا الكون الذي تعيش فيه؟ وما علاقتك بخالق هذا الكون، سبحانه وتعالى؟ وهذه هي الأسئلة التي تشغل بال الإنسان منذ أن أوجده الله تعالى في هذا الكون. ولا يذهبَنَّ الظن بأحد من الناس ليقول: إنها كلمة سهلة، لا تحتاج إلى كل هذا الجهد والعناء، وإلى كل هذا الزمن المديد، الذي أنفقه الرسول صلى الله عليه وسلم، من أجل تثبيتها في نفوس الناس وفي حياتهم! لقد وجدنا كفار قريش، وكل الكفار من غير قريش، يُناصبون النبي -صلى الله عليه وسلم- العداء؛ من أجل هذه الكلمة، ومن أجل هذه العقيدة، التي تزلزل كيانهم، وتجعل الأرض تميد تحت أقدامهم، ويشعرون أن السلطان الذي يستعبدون الناس باسمه سوف يُنزع من أيديهم ليُرَد إلى صاحبه الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى. فقد كانت عقيدة التوحيد هذه من أشد الأفكار غرابة على عقول الجاهليين وحسهم وشعورهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ

أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4، 5] . وبعد أن غرس النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك العقيدة في نفوس أصحابه، ورباهم عليها، وعرّفهم بربهم سبحانه وتعالى، وأن شأنهم هو شأن العبد مع الإله الخالق الرازق المشرِّع، وأنه لا إله إلا هو، وعرفهم تكاليف هذه العقيدة وأعباءها، وصبروا على الطريق الطويل الشاق، وخلصت نفوسهم لله ... عندئذ جاءت العناية بكل جوانب البناء الضخم لهذه الشريعة الخالدة، من عبادة وأخلاق وتشريع ... فالعقيدة هي الأساس، الذي يقوم عليه البناء، وما لم يقم العمل على هذه العقيدة فإنه سيكون هباء منثورا، لا ينفع صاحبه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] . {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] . وقضت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يقوم هذا الدين على قاعدة "الألوهية الواحدة" ".. كل تنظيماته، وكل تشريعاته، تنبثق من هذا الأصل الكبير ... وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة، الوارفة، المديدة الظلال، المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء.. لا بد لها من أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء.. فكذلك هذا الدين". "إن نظام هذا الدين يتناول الحياة كلها، ويتولى شئون البشرية، كبيرها وصغيرها، وينظم حياة الإنسان، لا في الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة، ولا في عالم الشهادة وحده، ولكن كذلك في عالم الغيب، ولا في المعاملات المادية الظاهرة وحدها، ولكن كذلك في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا، فلا بد إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة

والعمق والانتشار أيضا. ومتى استقرت عقيدة "لا إله إلا الله" في أعماقها الغائرة البعيدة, استقر معها في الوقت نفسه النظام الذي تتمثل فيه: "لا إله إلا الله"، وتعين أنه النظام الوحيد، الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة، واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام"1. ومن الأمثلة الكثيرة الرائعة، التي تدل على هذه الحقيقة، ما حدث عند نزول النهي عن الخمر، في مجلس شرب، ولم تكن الخمر قد حُرمت قبل ذلك، أي: في صدر الإسلام. فعن ابن بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن نشرب الخمر حِلًّا، إذ قمت حتى آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلّم عليه وقد نزل تحريم الخمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91] . فجئت إلى أصحابي، فقرأتها عليهم إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} وبعض القوم شَرْبَتُه في يده، شرب منها بعضا وبقي بعض في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام، ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا يا ربنا! انتهينا يا ربنا! 2.

_ 1 معالم في الطريق، ص31، 32، طبعة دار الشروق، 1399هـ. 2 تفسير الطبري: 10/ 572، تحقيق الشيخ محمود شاكر. وقوله: "فقال بالإناء ... " يعني: أماله ثم نزعه، كما ينزع الحجام كأس الحجامة. و"الباطية": إناء عظيم من زجاج يملأ من الشراب، يغرفون منها ويشربون.

"ولم يزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يربِّيهم تربية دقيقة عميقة، ولم يزل القرآن الكريم يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم، ولم تزل مجالس الرسول -صلى الله عليه وسلم- تزيدهم رسوخا في الدين, وعزوفا عن الشهوات، وتفانيا في سبيل المرضاة، وحنينا إلى الجنة، وحرصا على العلم، وفقها في الدين، ومحاسبة للنفس، يطيعون الرسول في المنشط والمكره، وينفرون في سبيل الله خفافا وثقالا ... ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه، وبكل ما يشق على النفس إتيانه، فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها. وانحلت العقدة الكبرى -عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها، وجاهدهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- جهاده الأول، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي. وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى، فكان النصر حليفه في كل معركة. رأينا كيف نزل تحريم الخمر، والكئوس المتدفقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمِّظة والأكباد المتَّقدة، كسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة"1. إن القلوب يجب أن تخلص أولا لدين الله تعالى، وتعلن عبوديتها له وحده، بقبول شرعه وحده، ورفض كل شرع آخر غيره, فإن نظام الله خير في ذاته؛ لأنه من شرع الله، ولن يكون شرع العبد يوما كشرع الله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] . وما يزعم مسلم أبدا أن شرع العبد وحكم العبد كشرع الله وحكم الله، وإلا فهو الكفر: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] .

_ 1 "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ " لأبي الحسن الندوي، ص98، 99.

إن الاستسلام لله هو مقتضى الإيمان بالله وتوحيده؛ ولذلك تلقت تلك النفوس المؤمنة التي رباها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحكام الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدورها إليها، ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له، وهكذا أبطلت الخمر.. وأبطل الربا.. وأبطل الميسر.. وأبطلت العادات الجاهلية كلها.. أبطلت بآيات من القرآن الكريم أو كلمات من الرسول، صلى الله عليه وسلم. بينما النظم الوضعية تجهد في هذا كله بقوانينها وتشريعاتها، ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطاتها، ودعايتها وإعلامها، فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات، بينما المجتمع يعجّ بالمنهيات والمنكرات1. ولعل في فشل دولة من أكبر الدول الغربية الجاهلية في منع الخمر، بعد أن سخّرت كل أجهزتها ووسائلها المتنوعة لتبشيعها وبيان أضرارها ... لعل في ذلك دليلا قاطعا وشاهدا صادقا على هذا. هذا قانون البشر، وحكم البشر، وذاك حكم الله، وشريعة الله العليم الخبير: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] .

_ 1 يراجع كيف حرّم الله تعالى الخمر، في الجزء الخامس من كتاب "في ظلال القرآن"، ص663-667, طبعة دار الشروق، وكيف عجزت أمريكا عن ذلك، في كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ " للسيد أبي الحسن الندوي، منقولا عن كتاب "تنقيحات" للسيد أبي الأعلى المودودي.

علم العقيدة

علم العقيدة مدخل ... علم العقيدة: لم يكن الجيل الأول من الصحابة -رضوان الله عليهم- بحاجة إلى تدوين العلوم في العقيدة والشريعة وغيرهما، فقد كانوا يتلقون من النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة كل ما يتعلق بأمر الدين والدنيا، والقرآن الكريم يتنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- حسب الحاجات والوقائع، كما نجد ذلك واضحا صريحا في الآيات والسور التي أنزلت بعد الغزوات أو الحوادث التي كان لها أثرها في بناء المجتمع، أو في أعقاب سؤال أو استفتاء عن قضية معينة لمعرفة حكم الله فيها، ينزل القرآن فيصقل النفوس ويزكيها، ويربي الأمة، ويعالج ما يطرأ من مشكلات، ويجيب على ما ينشأ من تساؤلات، ويحمل المؤمن على الالتزام بالأوامر الإلهية دون تردد أو تلكؤ؛ ليحققوا بذلك مقتضى إيمانهم، فيتم التفاعل الكامل مع النصوص الشرعية, قرآنا ناطقا، وسنة حادثة. وكان الجيل الأول على عقيدة نقية صافية، ببركة صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقرب العهد بزمانه، ولِمَا فُطروا عليه من سليقة تمكنهم من الفهم بعد التلقي، فالقرآن الكريم يتنزل بلغتهم التي يفهمونها وتجري على ألسنتهم كما يجري الدم في عروقهم، مما جعلهم جميعهم على عقيدة واحدة لا يختلفون فيها، رغم ما قد يقع من خلاف في أحكام فرعية تشريعية.

ويصف المقريزي -رحمه الله- حالهم في ذلك فيقول: "إن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز, وبما أوحى إليه ربه تعالى، فلم يسأله -صلى الله عليه وسلم- أحد من العرب بأسرهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله سبحانه فيه أمر ونهي، وكما سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنُقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه -صلى الله عليه وسلم- في أحكام الحلال والحرام ... ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث. ومن أمعن النظر في كتب الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية، علم أنه لم يرد قط، من طريق صحيح ولا سقيم، عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية، من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر والكلام, والجلال والإكرام، والجود والإنعام، والعز والعظمة. وهكذا أطلقوا ما أطلقه الله تعالى على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك، مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا لله تعالى الصفات بلا تشبيه بخلقه، ونزّهوه عن صفات النقص من غير تعطيل وإنكار. ولم يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا -بأجمعهم- إجراء الصفات كما وردت. ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى, وعلى إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- سوى كتاب الله، فما عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية

ولا المناهج الفلسفية"1. ففي الدليل على معرفة الخالق سبحانه وتعالى، يستدلون بمثل قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] . وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 6-8] . وأمثال ذلك من الآيات الكريمة الدالة على الخالق سبحانه وتعالى دلالات ظاهرة قريبة من الأفهام، تنفع النفوس وتغرس في القلوب الاعتقادات الجازمة. أما الدليل على وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده، فيستدلون بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وبقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا

_ 1 "الخطط المقريزية": 3/ 309، 310 بتصرف يسير، وانظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم 1/ 49، "شرح العقائد النسفية" للتفتازاني ص15، "مفتاح السعادة ومصباح السيادة" تأليف أحمد مصطفى الشهير بطاش كبرى زاده: 2/ 143، "التفكير الفلسفي في الإسلام" للدكتور عبد الحليم محمود ص119-126.

بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] . وبقوله تعالى: {لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] . أما صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيستدل عليه بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . وأما اليوم الآخر والإيمان بالبعث، فيستدل عليه بقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ، أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 78-82] . وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5-7] . وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثيرة ... لهذا كله لم يكن الصحابة والتابعون -رضوان الله عليهم- بحاجة إلى تدوين علم العقيدة أو أصول الدين، وإلى ترتيب مباحثه كتبا وأبوابا وفصولا، كما نجد اليوم مثلا.

أولا: نشأة علم العقيدة

أولًا: نشأة علم العقيدة العوامل الداخلية ... أولا: نشأة علم العقيدة: ثم جدّت بعد ذلك أمور اقتضت تدوين مسائل العقيدة في علم مستقل. ونشير فيما يلي إلى أهم هذه الأسباب والعوامل، فيما نستخلصه من الوقائع، لعل باحثا يقوم بتتبع ذلك وتقديم دراسة متكاملة عن مراحل التدوين وأساليبه في مجال العقيدة الإسلامية. العوامل الداخلية: 1- التحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، بعد أن بلّغ رسالة ربه تبارك وتعالى، وترك في هذه الأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبدا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكان كتاب الله تعالى محفوظا في صدور الصحابة، ومكتوبا في الصحف -على ما كان متيسرا من وسائل الكتابة- ليكون ذلك وسيلة لتحقيق وعد الله تعالى بحفظ الذكر، ثم جمع في مصحف واحد في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم كان الجمع الثاني ونسخ المصاحف وتوزيعها في الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه، وقد توفر لهذا الكتاب ما لم يتوفر لكتاب آخر؛ سماوي أو غير سماوي1. أما الحديث وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تُدَوَّن رسميا تدوينا شاملا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دُوِّن القرآن الكريم، وإنما كانت محفوظة في الصدور، نقلها

_ 1 انظر: "الموافقات في أصول الشريعة" للشاطبي: 2/ 58-61، "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم: 4/ 453، 454، "إظهار الحق" للشيخ رحمه الله الهندي ص207 وما بعدها.

صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى من بعدهم من التابعين مشافهة وتلقينا، وإن كان عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخل من كتابة بعض الحديث، لا على سبيل التدوين الرسمي. ولقد انقضى عهد الصحابة ولم تدون فيه السنة إلا قليلا، وتكاد تجمع الروايات على أن أول من فكر بالجمع والتدوين للسنة من التابعين: عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم -عامله وقاضيه على المدينة-: "انظر ما كان من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم1 وذهاب العلماء". فكتب شيئا من السنة.. وقام محمد بن شهاب الزهري -وكان عَلَما خفَّاقا من أعلام السنة في عصره- بتدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوّب على أبواب العلم، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة والتابعين، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد2. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري، في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد -على ما فعله الإمام مالك في "الموطأ" ثم من بعده البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، وأصحاب السنن في "جوامعهم وسننهم"- فبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب، مثل: باب الإيمان، باب العلم، باب الطهارة، باب الطلاق ... باب التوحيد ... باب السنة، وهكذا.

_ 1 درس العلم، أي: عفا وخفيت آثاره. 2 "السنة ومكانتها في التشريع" للدكتور مصطفى السباعي ص103-107, وانظر: "دراسات في الحديث النبوي" د. محمد مصطفى الأعظمي: 1/ 77 وما بعدها، "قواعد التحديث" للشيخ جمال الدين القاسمي ص70-72 "السنة قبل التدوين" د. محمد عجاج الخطيب ص290 وما بعدها، "تدوين السنة: نشأته وتطوره" د. محمد مطر الزهراني ص65 وما بعدها.

فكان هذا التبويب للأحاديث كان النواة الأولى في استقلال كل باب، فيما بعد، بالبحث والنظر والعناية بالبيان وبيان الأحكام، فعن أبواب الإيمان، والوحي، والسنة، والتوحيد.. نشأ علم العقيدة واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من الكتاب والسنة, فكان هذا هو العامل الأول. 2- وأما الثاني: فقد كان المسلمون عند وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا ... وكانوا على كلمة واحدة في أبواب العدل والتوحيد, والوعد والوعيد، وفي سائر أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع في مسائل كثيرة، بل يمتد هذا الخلاف إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان اختلافهم هذا لا يورث تضليلا ولا تفسيقا1؛ لأنه في أمور لا تمس العقيدة، وإنما هي مسائل فرعية، ثم هي مما لم يرد بها نص صريح عن الله تعالى أو عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو جاءت في بعضها نصوص مختلفة، بعضها يعارض بعضا في ظاهر الأمر. فلم يكن بد لأحدهم من أن يجتهد برأيه، فيستنبط من نصوص الشريعة العامة حكم بعض المسائل أو يقيس شيئا على شيء، ولم يكن بد لأحدهم -إذا جاءته نصوص مختلفة- من أن يوازن بين هذه النصوص فيرجح بعضها أو يخصص كل نص بحالة تغاير حالة النص الآخر، أو غير ذلك من وجوه الترجيح2.

_ 1 "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي ص14. وعن الفرق بين ما يجوز من الاختلاف في الفروع وما لا يجوز من الاختلاف والتفرق في العقيدة، انظر: "الحجة في بيان المحجة" للأصبهاني: 2/ 288، 229، "الإبانة" لابن بطة العكبري: 1/ 557-562، "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 218-221، "خلاف الأمة في العبادات" لابن تيمية ص29 وما بعدها. 2 من تعليقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، على "مقالات الإسلاميين" للأشعري ص37، 38".

ثم اختلف الناس في أشياء اتخذها قوم من بعدهم تكأة؛ إما للطعن في بعض الصحابة، وإما جعلوها أساسا لنِحْلَتهم، أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي اتخذوها شعارا لهم، ثم تعمق الخلاف وأدى إلى نشوء جماعات متفرقة. يقول الإمام أبو الحسن الأشعري، رحمه الله: "اختلف الناس بعد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في أشياء كثيرة، ضلّل بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم. وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- اختلافهم في الإمامة ... وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم1. وبعد هذا الاختلاف قامت كل فرقة تجادل عن رأيها وتؤيده بالأدلة، وتدفع رأي الآخرين وترد عليه، فوضعت في ذلك كتب ومؤلفات، فكان ذلك من عوامل نشأة الكتابة والتدوين في هذا الجانب. 3- ونضيف هنا عاملا ثالثا هو: ما نجم وظهر من البدع والانحرافات عن العقيدة الصافية التي كان عليها الصحابة -رضوان الله عليهم- بعد سنوات من خلافة علي رضي الله عنه2.

_ 1 "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" للإمام أبي الحسن الأشعري ص34. 2 بل قد يقع شيء من الانحراف عن الإسلام والعقيدة حتى في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه بذاته لا يشكل فرقة أو مذهبا، إنما يشكل بذرة لمذهب أو أصلا، كما يشير إليه حديث أبي سعيد الخدري فيما أخرجه البخاري "6/ 618" ومسلم: "2/ 7401"؛ قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسما، إذ أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله, اعدل. فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟! فقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". فقال عمر: يا رسول الله, ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال: "دعه؛ فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة ... ".

ونجتزئ هنا بما كتبه العلامة المقريزي في "الخطط" وهو يدرس عقائد أهل الإسلام منذ ابتداء الملة الإسلامية إلى أن انتشر مذهب الأشعري، ويرصد البدع التي ظهرت في المجتمع, ويرسم خطا لتطورها التاريخي، فيقول: "مضى عصر الصحابة -رضي الله عنهم- على هذا, إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر، وأن الأمر أُنُف، أي: إن الله تعالى لم يقدّر على خلقه شيئا مما هم عليه. وكان أول من قال بالقدر في الإسلام: معبد بن خالد الجهني. وكان يجالس الحسن البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وسلك بعض أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له: يونس سنسويه، ويعرف بالأسوري، فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج، وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين، ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، مقالة معبد في القدر تبرأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة من الناس. وأخذ السلف -رحمهم الله- في ذم القدرية، وحذَّروا منهم، كما هو معروف في كتب الحديث، وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر، وكان يأتي هو ومعبد الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله؟ فقال: كذب أعداء الله، فطُعن على الحسن بهذا ومثله.

_ قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه ... "وهم الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه".وانظر: "الوصية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص65-68 بتحقيقنا، الطبعة الثانية.

وحدث أيضا في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- مذهب الخوارج, وصرحوا بالتكفير بالذنب، والخروج على الإمام وقتاله, فناظرهم عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فلم يرجعوا إلى الحق1، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وقتل منهم جماعة، كما هو معروف في كتب الأخبار، ودخل في دعوة الخوارج كثير، ورُمي جماعة من أئمة الإسلام بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعُد منهم غير واحد من رواة الحديث، كما هو معروف عند أهله. وحدث أيضا في زمن الصحابة -رضي الله عنهم- مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، والغلو فيه، فلما بلغه ذلك أنكره وحرّق بالنار جماعة ممن غلا فيه2، وأنشد: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أجّجت ناري ودعوت قَنْبَرا وقام في زمنه -رضي الله عنه- عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء السبئي، وأحدث القول بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخليفته على أمته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضا، وزعم أن عليا لم يُقتَل،

_ 1 بل رجع منهم عدد كبير بعد مناظرة ابن عباس -رضي الله عنهما- ففي الرواية نفسها: "فرجع منهم عشرون ألفا، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا". انظر: "المصنف" للإمام عبد الرزاق: 10/ 160، "مجمع الزوائد": 6/ 241. وفي "المستدرك" للحاكم: 2/ 152: "فرجع من القوم ألفان، وقتل سائرهم على ضلالة" قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. 2 أخرج البخاري 6/ 149 عن عكرمة أن عليا -رضي الله عنه- حرّق قوما، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه" وانظر: "فتح الباري": 6/ 149-151، 12/ 269-272.

وأنه حي، وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لا بد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة، وصاروا يقولون بالوقف، يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعيلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق. وعنه أيضا أخذوا القول بأن الجزء الإلهي يَحُلّ في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحق آدم -عليه السلام- سجود الملائكة. وعلى هذا الرأي كان اعتقاد الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر1. وابن سبأ هذا هو الذي أثار الفتنة على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حتى قُتل، وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار "أي: أصحاب كثيرون في معظم الأقطار" فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج، وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر. ثم حدث بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم- مذهب جهم بن صفوان "توفي 128هـ"، بالمشرق، فعظمت الفتنة به، فإنه نفى أن يكون لله تعالى صفة، وأورد على أهل الإسلام شكوكا أثرت في الملة الإسلامية آثارا قبيحة، تولد عنها بلاء كبير، وكان قبيل المائة من سِنِي الهجرة، فكثر أتباعه على أقواله التي تئول إلى التعطيل، فأنكر أهل الإسلام بدعته، وتعاونوا على إنكارها وتضليل أهلها، وحذروا

_ 1 يميل القارئ إلى صحة نسب الفاطميين، وإلى ذلك يذهب ابن خلدون وابن الأثير، ولكن أدلة كثيرة تُثبت أنهم عبيديون من أصول مجوسية ولا يصح نسبهم لفاطمة -رضي الله عنها- وإلى هذا ذهب عدد كبير من المؤرخين الثقات؛ كالحافظ ابن حجر والذهبي وابن حزم والسيوطي وابن خلكان. انظر: "تاريخ الخلفاء" للسيوطي "524، 525", و"جاء دور المجوس" ص75، و"قضية نسب الفاطميين"، و"الحاكم بأمر الله".

من الجهمية وعادَوْهم في الله، وذموا من جلس إليهم، وكتبوا في الرد عليهم ما هو معروف عند أهله. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال منذ زمن الحسن البصري المتوفى سنة 110هـ -رحمه الله- "على يد واصل بن عطاء المتوفى سنة 131هـ"، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر، وجهروا بأن الله لا يُرَى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا أن القرآن مخلوق مُحْدَث ... إلى غير ذلك من مسائلهم، فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام، وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى، وأتباعهم تكثر، ومذهبهم ينتشر في الأرض. ثم حدث مذهب التجسيم المضاد لمذهب الاعتزال، فظهر محمد بن كرّام بن عراق بن حزانة، أبو عبد الله السجستاني، زعيم الطائفة الكرّامية، بعد المائتين من سني الهجرة، وأثبت الصفات حتى انتهى فيها إلى التجسيم والتشبيه، وحج وقدم الشام، ومات بزغر في صفر سنة ست وخمسين ومائتين، فدفن بالقدس، وكان هناك من أصحابه زيادة على عشرين ألفا، على التعبد والتقشف، سوى من كان منهم ببلاد المشرق، وهم لا يحصون لكثرتهم ... وكانت بين الكرامية بالمشرق, وبين المعتزلة مناظرات وفتن كثيرة، متعددة أزماتها. هذا، وأمر الشيعة يفشو بين الناس، حتى حدث مذهب القرامطة المنسوبين إلى حمدان الأشعث -المعروف بقرمط- وكان ابتداء أمره في سنة أربع وستين ومائتين، وكان ظهوره بسواد الكوفة، فاشتهر مذهبه بالعراق. وقام أتباعه ببلاد

الشام والعراق والبحرين بالدعوة إلى مذهبه الذي يقوم على القول بالباطن، وهو تأويل شرائع الإسلام وصرفها عن ظواهرها إلى أمور زعموها من عند أنفسهم، وتأويل آيات القرآن الكريم ودعواهم فيها تأويلا بعيدا، وانتحلوا بدعا ابتدعوها بأهوائهم فضلّوا وأضلوا عالما كثيرا ممن دخل في مذهبهم. وكان بينهم وبين خلفاء بني العباس حروب وفتن، فأوقعوا بعساكر بغداد، وأخافوا الخلفاء وفرضوا الأموال التي تُحمل إليهم كل سنة من تلك البلاد التي غزوها. هذا، وقد كان المأمون، عبد الله بن هارون الرشيد، سابع خلفاء بني العباس، لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عرّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة. فانتشرت مذاهب الفلسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. ولما قامت دولة بني بُوَيْه في بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وأظهروا مذهب التشيع قويت بهم الشيعة ... وكثرت ببغداد الفتن بين الشيعة والسنة. وفشا مذهب الاعتزال في العراق وخراسان وما وراء النهر ... وقوي أمر الخلفاء العبيديين بإفريقيا وبلاد المغرب وجهروا بمذهب الإسماعيلية، وبثّوا دعاتهم في البلاد وملكوها سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة وبعثوا بعساكرهم إلى الشام، فانتشرت مذاهب الرافضة في عامة بلاد المغرب ومصر والشام، وديار بكر, والكوفة, والبصرة، وبغداد، وجميع العراق، وبلاد خراسان وما وراء النهر خلا بلاد الحجاز واليمن والبحرين. وكانت بينهم وبين أهل السنة من الفتن والحروب والمقاتل ما لا يمكن حصره لكثرته. واشتهرت مذاهب الفِرَق، من القدرية, والجهمية، والمعتزلة،

والكرامية، والخوارج، والروافض, والقرامطة, والباطنية، حتى ملأت الأرض. وما منهم إلا نظر في الفلسفة وسلك من طرقها ما وقع عليه اختياره، فلم يبق مصر من الأمصار، ولا قطر من الأقطار إلا وفيه طوائف كثيرة ممن ذكرنا.."1. ولما ظهرت هذه البدع، وقف علماء السلف وأهل السنة يردون عليها ويحذرون منها، ويوضحون أصول العقيدة، ويدعون للتمسك بها. فكان ذلك واحدا من أهم العوامل التي ساعدت على تدوين علم العقيدة واستقلاله، في كتب ومؤلفات خاصة. 4- هناك عامل رابع، كان له أثره في نشأة التدوين في العقيدة الإسلامية, وهو اختلاف طبيعة المنهج الذي سلكه المسلمون بعد عصر الصحابة في التفكير والفهم لمسائل الألوهية والعقيدة، نشأ عنه الانشغال ببعض المشكلات التي لم تظهر مبكرة، أو لم يكن هناك ما يدعو للانشغال بها أو التعمق في بحثها والتفكير فيها، ونشأ عن هذا ظهور مشكلات وقضايا شغلت الفكر الإسلامي، وكان لها أثرها في نشوء الفرق وبالتالي الكتابة حولها. كان موضوع التفكير في عهد الرسول والصحابة هو موضوع الألوهية وما يتفرع عنها، إذ وصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم، وعرّفنا بدلائل قدرته كي نعبده ونسلم له، إذ وصف نفسه باعتبار ذاته بأنه الأول والآخر، والظاهر والباطن ... وغير ذلك من الصفات التي تعرّفنا بالله؛ غنيا بنفسه، أبديا، واسع القدرة والعلم، محيطا بكل شيء. ووصف نفسه بأنه الخالق المبدئ المعيد، والبارئ والمصور، والمحيي والمميت..

_ 1 "الخطط المقريزية": 3/ 310-312 بتصرف يسير، وانظر: "منهاج السنة" لابن تيمية: 1/ 106-116، "مختصر الصواعق المرسلة": 1/ 21، "تذكرة الحفاظ": 1/ 160 و328, 329.

إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه الخالق المطلق، المدير الحاكم الملِك، الذي لا قوة ولا سلطان غير سلطانه في الوجود. وباعتبار علاقته بالإنسان، وصف نفسه بأنه: الرحمن الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، والعفوّ الحليم ... كما وصف نفسه بأنه المهيمن والهادي والوكيل، والرازق والمعطي والمغني، يبسط الرزق لمن يشاء ... وغير ذلك من الأوصاف التي تدل على أن صلة العبد بالله تعالى هي صلة احتياج، فالعبد محتاج إلى عفوه وتدبيره، والله هو الرقيب والحسيب عليه ... والله إذن هو الفاعل لكل شيء في الوجود، وإرادته هي سبب ما في الوجود كله ... يضل من يشاء ويهدي من يشاء. والإنسان المؤمن، لا يستطيع إزاء ذلك غير أن يرجو الله ويدعوه الهداية، وأن يسأله أن لا يجعله من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وكانوا في الآخرة من الخاسرين. هذا الاعتقاد في "الله" جل جلاله على هذا النحو، كان واضحا عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعند جماعته من المهاجرين والأنصار. وكانوا يبشرون به ويدفعون عنه، وإذا تليت عليهم آيات الذكر الحكيم قالوا: آمنا به, كلٌّ من عند ربنا. لم يلجئوا إلى تفتيش عن المتشابه فيه، ولم تكن بهم حاجة إلى تأويله. كان ذلك عنوان الجماعة الإسلامية, ومظهر إيمانها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان هو حال المؤمنين حقا. ولكن لأمرٍ ما بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ابتدأت الجماعة الإسلامية تحاول فهم

وهل يوصف الله تعالى بصفات سلبية, أم لا يوصف بها؟ ... إلخ. وظهرت كذلك مسألة "القدر" التي نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الخوض فيها1، فقد وردت في القرآن الكريم آيات تشعر للوهلة الأولى بأن الإنسان مجبور مقهور ولا إرادة له، كقوله تعالى: {إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] . {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] . وجاءت آيات أخرى تشعر بالاختيار، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . وقد تجد في آيات أخرى ما يشعر بالأمرين معا: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29، 30] .

_ 1 أخرج الإمام أحمد في "المسند": "2/ 178"، وابن ماجه في "السنن": "1/ 20" "صحيح ابن ماجه"، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب, فقال: "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه بعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم". وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه": "4/ 2053" عن عبد الله بن عمرو قال: هجّرت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما. قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

فشغل المسلمون أنفسهم بذلك: هل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر؟ وإذا كان كذلك فهل هو مسئول عن عمله؟ وما حدود هذه المسئولية؟ وغير ذلك من الأسئلة التي طرحت في أعقاب التعمق في هذه المسألة مع البعد عن منهج السلف في العمل والعبودية والخضوع لله، فإذا انضم إلى ذلك محاولة كل فريق أن يسند رأيه بآية أو حديث، يضعهما في غير موضعهما، أو يؤولهما ليؤيد رأيه بذلك، أو يأخذ بعض النصوص ليعارض بها نصوصا أخرى؛ إذا انضم هذا إلى ذاك علمنا مقدار الخسارة والجهد الذي أضاعه المسلمون في بحث هذه المشكلات والتعمق فيها والرد على أصحابها، وإن كان ذلك لا بد منه لرد الشبهات وإقامة الحجة1. والمسألة الثالثة التي شغلت التفكير الإسلامي كذلك, هي مسألة "مرتكب الكبيرة"، وفي أول الأمر كانت ممثلة في أحداث جزئية، ثم بالتدريج أخذت تظهر في صورة عامة وتفرعت عن هذه المسألة مسائل أخرى؛ كمسألة الإمامة, وحقيقة الكفر، وحقيقة الإيمان، وزيادة الإيمان ونقصانه. وعن البحث في هذه المسائل نشأت في الجماعة الإسلامية فرق وأحزاب: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة..2 وذهبت كل فرقة تدافع عن رأيها ومعتقدها, فكان هذا من العوامل التي دفعت بأهل السنة إلى الرّدّ على هذه الفرق فنشأت الكتابة في العقيدة؛ لبيان الحق ورد الشبهات.

_ 1 راجع: "التفكير الفلسفي في الإسلام"، "129-133"، "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 229-233، "المذاهب الإسلامية" ص99-102. وعن الإيمان بالقدر وموقف السلف والنهي عن التعمق فيه انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ص250-280، واقرأ ما كتبه الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" القسم الأول ص143-154 عن التوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة. 2 "الجانب الإلهي" للدكتور محمد البهي ص67، 68، "المذاهب الإسلامية" لأبي زهرة ص102.

العوامل الخارجية

العوامل الخارجية: كانت تلكم هي أهم العوامل والمؤثرات الداخلية في نشأة علم العقيدة واستقلاله عن العلوم الأخرى. وهنا نشير إلى العوامل الخارجية التي ساهمت في نشوء وتطور التدوين في الجانب العقائدي, وهي احتكاك المسلمين بغيرهم من أصحاب الديانات والمذاهب الفلسفية، عن طريق اللقاء المباشر والجدل مع أصحابها, أو عن طريق الترجمة التي بدأت في عهد الدولة الأموية، ثم اتسعت في عهد الدولة العباسية. وكان للخليفة المأمون أثر كبير في هذا، حيث فعل ما لم يفعله السابقون، وهو أنه ترجم الكتب الخاصة بالإلهيات والأخلاق وأمثال ذلك مما سموه بـ "ما وراء الطبيعة". وليس من غرضنا هنا أن نعرض بالتفصيل لحركة النقل والترجمة وأثرها والمنهج الذي سارت عليه والطريق الذي اتخذته. وحسبنا إشارة سريعة إلى الاحتكاك المباشر بين المسلمين وغيرهم عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وتهيأت الأسباب لهذا الاحتكاك المباشر بين المسلمين واليهود من جهة، وبين المسلمين والنصارى من جهة ثانية, وكذلك بين المسلمين والمجوس، ثم بينهم وبين الفلسفة اليونانية وغيرها. فاليهود الذين عاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد الهجرة، وهم الذين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج ببعثة نبي جديد، هم الذين كفروا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وناصبوه العداء من اللحظة الأولى، وتنوّعت وسائلهم في الصد عن الدعوة، والمماطلة والجدال، وإلقاء الشبهات، والحرب الفكرية والنفسية. وكان القرآن الكريم يتولى مناقشتهم والرد عليهم وبيان مؤامراتهم، كما أوضح

تحريفهم لكتبهم، ورسم صورة صادقة لطبيعتهم ونفسيتهم. وبعد أن خرج اليهود من الجزيرة العربية, قاموا بدور كبير في عدائهم لهذا الدين -ومنهم من دخل فيه ظاهرا وهم على حقد وضغينة- وقد بدأ اتصالهم بالمسلمين لإثارة الفتنة، فكان لعبد الله بن سبأ دوره في الفتنة في عهد عثمان -رضي الله عنه- ثم تتابعت مظاهر الفتنة في نشر فكرة الإمام المعصوم والوصي والرجعة التي تلقفتها عنهم الفرق الباطنية، وأثاروا الجدل بين المسلمين حول الذات الإلهية والصفات، ومعروف عنهم التشبيه والتجسيم كما هو في كتبهم، وقد انتقلت هذه الأفكار إلى التراث الإسلامي مما عرف بـ "الإسرائيليات" في كتب التفسير والحديث. وأثاروا أيضا بين المسلمين الجدل حول الجبر والاختيار وغير ذلك من أمور عقائدية, وعندئذ قام المسلمون بالرد على مفتريات اليهود وشبهاتهم وناقشوا عقائدهم، واصطنعوا لذلك منهجا يقوم على النظر والدليل، فكان بعد ذلك هذا التراث الإسلامي من كتب العقيدة والرد على اليهود. وأما النصارى؛ فقد بدأ الجدال بينهم وبين المسلمين في الحبشة أولا، عند الهجرة الأولى للمسلمين, في حقيقة المسيح، وفي الكلمة وغيرها, وفي مسائل تدور حول العقيدة الإسلامية في المسيح. ثم وَفَدَ نصارى نجران إلى المدينة, وجادلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن عيسى -عليه السلام- وقد دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المباهلة، قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] . ثم وصل الإسلام إلى الشام والعراق ومصر، فبدأت النصرانية تنازعه نزاعا،

فكريا شديدا1. وثار الجدل حول طبيعة المسيح، وحول مسائل الألوهية، وفكرة الجوهر والعَرَض، والأقانيم الثلاثة، والوحدانية، وفكرة الخطيئة والصلب. وبلغ الجدل ذروته من الشدة بعد "يوحنا الدمشقي" "طبيب الأمويين الذي وضع للنصارى أصول الجدل مع المسلمين" على يد "يوحنا النقيوسي" المصري الذي رحل إلى الحبشة وبدأ يرسل رسائله إلى أقباط مصر، يحاول فيها مناقشة العقائد الإسلامية، والحيلولة دون اعتناقهم الإسلام ثم تتابع النقاش في عهد العباسيين2. وساعد هذا الجدل على توجيه أنظار المسلمين إلى معالجة مسائل جديدة, ومشكلات عقائدية ظهرت على سطح المجتمع الفكري. وقد يكون علم الكلام أيضا -كما سمي في فترة من الزمن- نتيجة التأثر بالكلام النصراني أو اللاهوت. وكان لترجمة كتب الفلسفة اليونانية والرومانية وإقبال بعض المسلمين عليها، أثر في بعض المسلمين الذين فتنوا بها, فحاولوا التفلسف في ضوئها وتأثروا بها منهجا وموضوعا حين راحوا يفسرون تعاليم الإسلام في ضوء هذه الفلسفة، وحاولوا التوفيق بينها وبين الإسلام، وفسّروا القرآن على ضوء الفكر اليوناني, على

_ 1 انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" د. على سامي النشار: 1/ 62. 2 وكان لعلماء المسلمين مناقشات لمذاهب المسيحيين، وتركوا لنا تراثا ضخما في هذا المجال يتمثل فيما كتبه ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" والجويني في "شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل" والغزالي في "الرد الجميل" والقرطبي في "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام" وابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" وابن قيم الجوزية في "هداية الحيارى" وأبو الفضل المالكي في "المنتخب الجليل" والميورقي في "تحفة الأريب" والبغدادي في "الفارق بين المخلوق والخالق" والقرافي في كتابه "الأجوبة الفاخرة" وأبو عبيدة الخزرجي في كتابه "بين الإسلام والمسيحية" وابن معمَّر في "منحة القريب المجيب في الرد على عُبَّاد الصليب" وكلها مطبوعة, وأمثالها كثير.

حد تعبير العلامة المفكر محمد إقبال رحمه الله. ومع أن هذه الفلسفة وسَّعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام, فإنها غشَّت على أبصارهم في فهم القرآن1. وقام فريق من العلماء المسلمين يزيِّفون آراء الفلاسفة وتهافتهم، ويقيمون صرح التفكير الإسلامي على أسس مغايرة لما حاوله الفلاسفة، وكان نتيجة ذلك كثير من الكتب في الجانب العقائدي. وليست هذه الفلسفة هي كل ما اتصل به المسلمون وردوا عليه، فهناك أيضا المذاهب الغنوصية الشرقية2. يقول الدكتور علي سامي النشار: "وقد قابل الإسلام هذه المذاهب في جميع البلاد التي دخلها بلا استثناء. فقابلها في العراق، وفي إيران، وقابلها في مصر في شكل الأفلاطونية المحدثة. وقد بدأ غنوص تلك المذاهب يهدم الإسلام منذ قوّض الإسلام عقائد تلك المذاهب وطقوسها القديمة، وكانت من أخطر المذاهب الهدامة التي جالدت الإسلام ... حاربته بالسيف والقلم، وهاجمته بقوة وعنف. على أن هذه الدعوة ما زالت آثارها حتى الآن تتمثل في غلاة الشيعة وفي الإسماعيلية وفي البهائية"3.

_ 1 "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ص8، 9. وقد أوضح المقريزي أثر ترجمة كتب الفلسفة على المسلمين فيما نقلناه عنه سابقا في ص57. 2 "الغنوص" أو "الغنوسيس" كلمة يونانية الأصل معناها: المعرفة, غير أنها أخذت بعد ذلك معنى آخر اصطلاحيا، هو التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا. أو هو تذوق تلك المعارف تذوقا مباشرا بأن تلقى في النفس، فلا تستند على الاستدلال أو البرهنة العقلية. انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 186، 187، "المعجم الفلسفي" ص133. 3 "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 62، 63.

واتصل المسلمون بهذه المذاهب وناقشوا أصحابها وردوا عليها، ومن خلال المناقشة والرد كانت تتضح كذلك الجوانب العقدية التي يدعو الإسلام إليها، فنشأت الكتابة في العقيدة الإسلامية. نتائج وملاحظات: ومن هذا العرض الموجز للعوامل المؤثرة في نشأة علم العقيدة وتدوينه يمكن أن نقول: إن هذه النشأة كانت "استجابة لضرورة طبيعية ملحة، تمثلت في مشكلات سياسية واجتماعية نجمت في حياة المسلمين، وباتت تهدد باستفحالها المطرد البناء الديني، الذي قام عليه المجتمع الإسلامي. كما تمثلت في تحديات دينية وفلسفية مع الأديان والفلسفات القديمة، باتت تروج بين المسلمين وتهدد بنية العقيدة الإسلامية. فهذه المشكلات والتحديات، دفعت الفكر الإسلامي في سبيل الدفاع عن مرجعيته العقدية إلى أن يتجه إلى معالجة تنظيرية، فكانت نشأة علم العقيدة بمنزلة الاستجابة لتحديات ناجمة من صميم واقع المسلمين"1. وهذا مما يدعو إلى التأكيد على وجوب الالتفات إلى التحديات الفكرية والعقدية والمشكلات المعاصرة ومناقشتها وبيان ما فيها من خطورة على العقيدة الإسلامية، بدلا من الإغراق في دراسة أمور ومشكلات تاريخية لا وجود لها في حياتنا المعاصرة على الأعم الأغلب. ونجد أمثلة على هذه الكتابات المعاصرة فيما قدمه الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" والأستاذ محمد قطب -حفظه الله- في كتبه وبخاصة "مذاهب فكرية معاصرة"، وفي سلسلة الشيخ محمد سرور زين العابدين -حفظه الله- عن "قضايا العصر على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة" ...

_ 1 "في فقه التدين؛ فقها وتنزيلا" للدكتور عبد المجيد النجار: 2/ 25، 26.

ولئن كانت مواجهة تلك العوامل أمرا ضروريا، فإن بعضها قد سبب انحرافا في المنهج الذي سلكه بعض العلماء، متمثلا في "علم الكلام"، الذي وقف منه علماء السلف موقفا متشددا, على ما سنلمح إليه فيما يأتي، إن شاء الله تعالى. وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "ولقد وقع -في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصيلة المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوان الحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك، ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد. واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية, وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء ... وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية, كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية. اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلى اللغة العربية ... ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين، وفي الأندلس أيضا، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل، التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات, ومن مثل هذه الاتجاهات وردها إلى التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة للبناء، والتعمير، والارتفاع والتطهير, ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة، كما يصون الإدراك البشري أن يُزَجّ به في التيه بلا دليل. ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لا بد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك،

بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله -سبحانه- وصفاته, وحول القضاء والقدر, وحول عمل الإنسان وجزائه, وحول المعصية والتوبة ... إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي، ووجدت الفرق المختلفة: خوارج وشيعة ومرجئة, قدرية وجبرية, سنية ومعتزلة ... إلى آخر هذه الأسماء. كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فُتِن بالفلسفة الإغريقية -وبخاصة شروح فلسفة أرسطو, أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- والمباحث اللاهوتية "الميتافيزيقية" وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله؛ أو مظاهر أبهته وعظمته؛ إلا إذا ارتدى هذا الزي -زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات! وكما يفتن منا اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها، فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية, وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو! "1.

_ 1 انظر: "خصائص التصور الإسلامي" للأستاذ سيد قطب ص11، 12.

ثانيا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة

ثانيًا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة مدخل ... التطور التاريخي لتدوين العقيدة: إجمال وبيان: إن من أكثر الألفاظ دورانا على الألسنة, وتداولا بين الناس: لفظ "العقيدة" وما يقاربها ويتفق معها في الاشتقاق، كالاعتقاد، والعقائد، والعقدي ... وعلى كثرة استعمال هذه الكلمة التي غدت مصطلحا شائعا، فإننا لا نجد لها استعمالا في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف، وإن كانت المادة موجودة في القرآن الكريم, كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] , وقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . ولذلك يرى بعض الباحثين أنها مُستحدَثة في العصر العباسي للمعنى الذي استعملت فيه، وأن اللفظ المستعمل في القرآن الكريم والحديث الشريف: "الإيمان". وقد استعمل لفظ "العقيدة" أجيالٌ من أئمة المسلمين بمعنى: الأفكار الأساسية التي يجب على المؤمن بدين أن يصدقها ويقبلها, أي: يعتقدها. واستعمال السلف من العلماء والأئمة دليل على جواز استعمال هذه الكلمة لهذا الجانب من جوانب الدين1. ولعل هذا يدعونا إلى استقراء المصطلحات الفنية بعد تدوين العلوم الإسلامية، التي بُحثت هذه الأفكار العقدية من خلالها، لنبين أصل استعمال كل

_ 1 "الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية" للأستاذ محمد المبارك, ص75.

منها في اللغة، واستعماله في لسان الشرع بعامة، وفي الجيل الأول بخاصة. ثم كيف أصبح ذا مدلول خاص بعد ذلك. وقد يترتب على استعمال هذه المصطلحات آثار نلمع إلى شيء منها عَرَضا دون الدخول في التفصيلات1. والاستقراء -وإن لم يكن تاما, بل على حسب الوسع والطاقة وما أتيح لي من اطلاع- يرشدنا إلى هذه المصطلحات الآتية التي رتبتها بحسب ظهورها واستعمالها تاريخيا، حيث أذكر أول من استعمل اللفظ أو كتب فيه، ثم أُتبعه بمن تابعه على ذلك ولو في عصور متأخرة, دون استقصاء أو استيعاب. ففي القرن الثاني الهجري كان تدوين العقيدة الإسلامية تحت عنوان "الفقه الأكبر". وفي القرن الثالث ظهر مصطلحا "الإيمان" و"السنة". وفي نهاية هذا القرن وبداية القرن الرابع كان التدوين تحت مصطلح "التوحيد" ثم "الشريعة", يليهما مصطلحا "العقيدة" و"أصول الدين". واستقرت هذه المصطلحات أو الإطلاقات عند أهل السنة، فكان التدوين والتأليف في العقيدة الإسلامية تحت واحد من هذه العناوين. فإذا وصلنا إلى عصرنا الحاضر وجدنا بعض التجديد في الكتابة وأسلوبها, ويمكن أن نرصد هنا مصطلحا جديدا هو "التصور الإسلامي". وفيما يلي من صفحات عرض سريع لهذه المصطلحات, وأهم الكتب حسب الترتيب التاريخي، ومن الله نستمد العون والتوفيق:

_ 1 أشار إلى ذلك الغزالي في "إحياء علوم الدين": 1/ 32-36، والأستاذ المبارك في المرجع السابق ص75, وانظر كتاب الأستاذ أبي الحسن الندوي: "ربانية لا رهبانية".

الفقه الأكبر

1- الفقه الأكبر: تعريف الفقه في اللغة: قال العلامة اللغوي ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "4/ 242": فَقِه: الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول: فَقِهْتُ الحديث أفقهه. وكل علم بشيء فهو فقه ... ثم اختص بذلك علم الشريعة، فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه. وأفقهتُك الشيء، إذا بينتُه لك. وقال ابن منظور في "لسان العرب" "13/ 522": "الفقه: العلم بالشيء والفهم له. وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كله ... ". وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" ص384: الفقه: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد1, فهو أخص من العلم، قال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] ، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] إلى غير ذلك من الآيات. والفقه: العلم بأحكام الشريعة، يقال: فَقُه الرجل فقاهة، إذا صار فقيها، وفَقِه، أي: فهم, فقها، وفَقِهه, أي: فهمه، وتفقّه؛ إذا طلبه فتخصص به، قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] .

_ 1 قال الكَفَوِيّ في "الكليات" "3/ 344": "الفقه في العرف: الوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم. وإليه يشير قولهم: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. أعني: أنه تعقل وعثور يعقب الإحساس والشعور ... ".

نتائج وملاحظات: من هذه النصوص وغيرها نستنبط أمرين: الأمر الأول: أن الفقه في اللغة هو الفهم والعلم بالشيء، أو هو فهم غرض المتكلم خاصة، ومنهم من يجعله خاصا بفهم وعلم الأمور الخفية الدقيقة التي تحتاج إلى النظر والاستدلال1. والأمر الثاني: أن العرف قد خص الفقه بعلم الدين أو العلم بأحكام الشريعة كلها. وهذا المعنى الشرعي العام هو الذي كان معروفا عند السلف في العصر الأول قبل أن يخصصه المتأخرون بمعرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية, كما هو المشهور عند الفقهاء والأصوليين2. وقد أوضح الإمام الغزالي هذا في حديثه عما بُدِّل من ألفاظ العلوم إلى معانٍ غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول، فقال في حديثه عن "الفقه": "فقد كان الفقه يطلق في العصر الأول على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا -بالنسبة للآخرة- وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة, واستيلاء الخوف على القلب. ويدلك على هذا المعنى قول الله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] . وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه، دون تفريعات الطلاق

_ 1 انظر "الصحاح" للجوهري: 6/ 2243، "ترتيب القاموس المحيط": 3/ 513، "التعريفات" للجرجاني ص216. 2 انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي: 1/ 42، "الكليات" للكفوي: 3/ 345, وعامة كتب الأصول.

والعتاق واللعان والسَّلَم والإجارة ... فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف. بل إن التجرد لهذه التفريعات والاشتغال بها على الدوام -دون ملحظ آخر- يقسِّي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد من المتجردين له. وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] وأراد به معاني الإيمان دون الفتاوى. ولعمري, إن الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال به قديما وحديثا. قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] . فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه. وليس ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى، وإنما هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم، "أي: معرفة الآخرة ودقائق آفات النفوس ... ". ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان متناولا له بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع, فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر. ثم تصرف المتأخرون في اسم "الفقه" بالتخصيص، لا بالنقل والتحويل، إذ خصَّصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها. وكان هذا التخصيص بعد أن انقرض السلف الصالحون، وذهب أهل القرون الفاضلة الأولون، وانقلبت العلوم كلها صناعات بعد أن كانت مقاصد وغايات"1. وعلى هذا المنهج في عموم معنى كلمة "الفقه" جاء التعريف المنقول عن أبي

_ 1 "إحياء علوم الدين" للغزالي: 1/ 32، 33 بتصرف يسير, وتقديم في بعض العبارات.

حنيفة -رحمه الله- بأنه: "معرفة النفس ما لها, وما عليها" أي: ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة، أو ما يجوز لها وما يجب عليها وما يحرم. وهذا يتناول الأحكام الاعتقادية كوجوب الإيمان ونحوه، والأحكام الوجدانية الأخلاقية مما حث عليه الإسلام؛ كالصدق والأمانة والوفاء ونحوها، ويشمل أيضا الأحكام العملية؛ كالصلاة والصوم والبيع ونحوها1. ويُفَصَّل في هذا الاستخدام لكلمة "الفقه" بهذا المعنى، فإن كان للاعتقاديات سمي "الفقه الأكبر"؛ لأنه "أكبر" بالنسبة للأحكام العملية الفرعية التي تسمى "الفقه الأصغر"، ولأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته, الذي يبحث فيه هذا العلم؛ لذلك سمي "الفقه الأكبر"2. 1- وأول من استخدم مصطلح "الفقه الأكبر" هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت "150هـ"؛ فقد روي عنه كتاب بهذا الاسم، وهو مشهور عند أصحابه، رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي3. وهو متن صغير، يقع مطبوعا في بضع ورقات، "حدد فيه عقائد أهل السنة تحديدا منهجيا"4. ويرد فيه على المعتزلة والقدرية والجهمية والشيعة.

_ 1 "التوضيح لمتن التنقيح" لصدر الشريعة 1/ 10، 11، "كشف الأسرار شرح أصول البزدوي" للبخاري: 1/ 8، "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي: 1/ 41، 42. 2 انظر: "كشف الأسرار على أصول البزدوي": 1/ 8. 3 انظر: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": 5/ 46، "درء تعارض العقل والنقل": 6/ 263، 264. وقال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم عن "الفقه الأكبر": "شهرته معروفة، وثابت عن أبي حنيفة بالأسانيد الثابتة، ويوجد من هو دعيّ في الأحناف ليس منهم أشكل عليه نسبته إليه ... " انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: 13/ 143, وراجع بحثا جيدا عن هذا في أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، د. محمد عبد الرحمن الخميس، ص116-122. 4 "نشأة الفكر الفلسفي" للنشار: 1/ 234.

ويشتمل على خمسة أبواب؛ الباب الأول في القدر، والبابان الثاني والثالث في المشيئة، والرابع في الرد على من يكفر بالذنب، والباب الخامس في الإيمان1. قال أبو مطيع البلخي: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ فقال: "لا تكفر أحدا بذنبه، ولا تنفِ أحدا من الإيمان، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطاك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورضي عنهم، ولا توالِ أحدا دون أحد, وأن ترد أمر عثمان وعلي -رضي الله عنهما- إلى الله عز وجل. قال أبو حنيفة رحمه الله: الفقه الأكبر في الدين أفضل من الفقه في العلم, ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير. قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه؟ قال: أن يتعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة.."2. ثم ذكر بقية المسائل والأبواب على هذه الطريقة بكلام حسن نفيس, مع استدلال بالقرآن الكريم والحديث الشريف ومقاصد الشريعة الإسلامية. وقد نال كتاب "الفقه الأكبر" العناية من العلماء المتقدمين والمتأخرين؛ فشرحه أبو الليث السمرقندي "373"، والبزدوي "482"، وهناك روايات وشروح أخرى،3 منها شرح منسوب للإمام أبي منصور الماتريدي، ونسبة هذا الشرح إلى الماتريدي موضع نظر؛ لأنه يحتج على الأشعرية ويحتج لهم، وذلك يشير -بلا ريب- إلى أنه متأخر عن أبي الحسن الأشعري، مع أنهما في الحقيقة متعاصران، إذ

_ 1 انظر: "نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر" للقاضي عبيد الله ص28. 2 المرجع السابق. وبعض الألفاظ صحّحتها مما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عنه. 3 انظر: "كشف الظنون": 2/ 1287، "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان: 3/ 238-240.

الماتريدي توفي سنة "332هـ", والأشعري توفي سنة "333" أو سنة "334"1. وينقل العلماء آراء أبي حنيفة واعتقاده من هذا الكتاب, كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية2. وللفقه الأكبر روايات أخرى غير رواية أبي مطيع هذه، منها رواية حماد بن أبي حنيفة، وهي التي شرحها الملا علي القاري الهروي المكي "1014هـ" في كتابه "منح الروض الأزهر شرح الفقه الأكبر"3, وهو مطبوع متداول. وكان قد شرحه آخرون قبله كالبزدوي "482هـ", وأكمل الدين البابرتي "786هـ"، وأبي المنتهي المغنيساوي "القرن العاشر", وغيرهم كثير4. وهذه الرواية تختلف عن رواية أبي مطيع، فهي أوسع مادة وأكثر مسائل، تبدأ بالكلام على "أصل التوحيد وما يصحّ الاعتقاد عليه؛ يجب أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله تعالى، والحساب والميزان, والجنة والنار". ثم يتحدث عن الأسماء والصفات, ويقول: "فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته".

_ 1 انظر: "أبو حنيفة"، للشيخ محمد أبي زهرة ص168. ويلاحظ أن الرد على الأشعرية وليس على أبي الحسن الأشعري رحمه الله, ففي حياته لم يكن هذا المذهب الذي انتسب إليه من جاء بعده ممن عرفوا بهذه النسبة. 2 "فتاوى شيخ الإسلام": 5/ 46-48، "درء تعارض العقل والنقل" 6/ 263، 264. 3 وهو تحت الطبع بتحقيقي, إن شاء الله تعالى. 4 انظر: "أبو حنيفة" لأبي زهرة ص168، 169"، "كشف الظنون" لحاجي خليفة: 2/ 1287، "تاريخ الأدب العربي" لبروكلمان: 3/ 237-240، "دائرة المعارف الإسلامية" للمستشرقين: 1/ 456, 547.

ويرد هنا على القدرية والمعتزلة الذين يؤولون هذه الصفات بالقدرة أو النعمة؛ "لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدرة والاعتزال. ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف" ... إلخ. ثم يعرض لمسائل: الفطرة والميثاق المأخوذ على بني آدم, وأفعال العباد، والطاعات والمعاصي، وعصمة الأنبياء، ومكانة الصحابة, ويذكر شعائر أهل السنة المخالفة للمبتدعة.. ويعقب ذلك بالكلام على الثواب والعقاب وآيات الأنبياء وكرامات الأولياء, ورؤية المؤمنين ربهم في الجنة, ويبين معنى الإيمان ووجهة نظره في زيادته من جهة اليقين والتصديق وعدم زيادته من جهة المؤمن به, ثم هل الإيمان والإسلام مترادفان أم متغايران؟ وما يتصل به من مباحث ومسائل. ثم الكلام على الشفاعة، ووزن الأعمال يوم القيامة.. وسائر السمعيات.. ويختم بالكلام على أبناء النبي -صلى الله عليه وسلم- وبناته وبعض علامات الساعة. ولعل بعض هذه المسائل التي لم تكن ظاهرة بين العلماء في عهدهم -كالكرامة وما يتعلق بها- جعلت بعض الباحثين يشككون في نسبة الكتاب إليه، وقد ينضم إلى ذلك أن بعض المسائل وردت في هذه الرواية, ولم ترد في الرواية السابقة عن أبي مطيع البلخي التي تقدمت. ولكن شهرة الكتاب بين أصحابه قد تغني عن الإسناد، رغم أنه منقول بالإسناد، ولا عجب في اختلاف الروايات، فإننا نجد هذا في كتب كثيرة صحيحة النسبة لأصحابها1, كما أن ما جاء فيه من آراء يتفق مع ما هو مشهور عن أبي

_ 1 ومن أمثلتها في كتب العقائد: "كتاب السنة" للإمام أحمد بن حنبل، فقد طبع في القاهرة مع "الرد على الجهمية" طبعة غير مؤرخة، ثم طبعت رواية أخرى لكتاب "السنة" في مكة المكرمة سنة "1349هـ", "دائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين: 2/ 374" ثم أعيد طبعها مع "الرد على الجهمية" في الرياض بتصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري، دون تاريخ، نشر وتوزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

حنيفة رحمه الله، وما هو في الكتب التي صحت نسبتها إليه1، وإن كان هذا لا ينفي أن تكون بعض المسائل ألحقت في الكتاب على يد بعض الشراح، أو هي في أصلها من كلام الشارحين لم تتميز عن كلام الإمام، والله أعلم. 2- وينسب كذلك للإمام الشافعي، محمد بن إدريس، رحمه الله، "204هـ" كتاب باسم "الفقه الأكبر" يقول عنه حاجي خليفة في "كشف الظنون" "2/ 1287": "وهو جيد جدا، مشتمل على فصول، قرأه بعض أهل حلب على الشيخ زين الدين الشماع، لكن في نسبته إلى الشافعي شك، والظن الغالب أنه من تأليف بعض أكابر العلماء". ويرجح بروكلمان "2/ 298" أنه يرجع إلى أوساط إسرائيلية، متأسيا في ذلك بالمستشرق اليهودي جولدزيهر الذي يرجع كل أثر إسلامي إلى أصول إسرائيلية! وقد طبع الكتاب في القاهرة سنة "1900م" وتقع مخطوطته في ثلاث وعشرين صفحة2، أوله بعد الحمد: "هذا كتاب ذكرنا فيه ظواهر المسائل في أصول الدين التي لا بد للمكلف من معرفتها والوقوف عليها، وسميناه "الفقه الأكبر"، وأعرضنا عن بسط الأدلة؛ قصدا للتقريب على المبتدئ. وبالله التوفيق". ثم عرض لمسائل العقيدة مسألة مسألة؛ فبدأ بما يجب على المكلف معرفته، وما يدخل في التكليف، ومعرفة الله تعالى, ووجوب النظر والاستدلال، ثم تحدث عن الصفات، وما يجوز على الله تعالى، وبحث في القرآن الكريم وأنه كلام الله قديم

_ 1 مثل كتاب: "العالم والمتعلم" و"الوصية" و"الفقه الأبسط" وكلها في العقائد. 2 وهي ضمن مجموع برقم "509" مجاميع، بمركز البحث العلمي بمكة المكرمة.

أزلي، ثم رؤية الله تعالى وكذلك يبحث في المشيئة ومسألة أفعال العباد وكسبهم والاستطاعة. ثم يعرض لقدرة الله تعالى على البعث، وتنزهه -سبحانه وتعالى- عن الظلم في مسائل عديدة تتصل بذلك, ويعرض للخلاف في مسألة الآجال والرزق. وبعد ذلك يتحدث عن المعجزة التي يؤيد الله بها المرسلين، وأنها لا تظهر على أيدي الكاذبين، وأنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، ويبحث في دلائل نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإعجاز القرآن الكريم. ويقف وقفة أطول في بحث الإيمان وحقيقته، وأنه أصل وفرع، مبينا أن زيادته ونقصانه إنما يكونان في فرع الإيمان لا في أصله؛ لأن النقصان في أصله كفر, فلا يمكن فيه الزيادة1. ثم يلي ذلك حديثه عن فُسّاق المؤمنين إذا ما ماتوا قبل التوبة وأنهم تحت المشيئة, وأن الذنوب كلها معاصٍ تستحق العقاب, وتختلف مقاديرها باختلاف الذنوب. ويتحدث عن الشفاعة والجنة والنار وأنهما مخلوقتان وأن نعيم الجنة لا يزول، ويدخل في هذا: الحديث عن نعيم القبر وعذابه، والميزان والصراط، والحوض. ويختم الكتاب بالحث على التمسك بالإجماع والجماعة ويحذر من الفرقة والخلاف، ويبين مسألة الإمامة وأن الإمام الحق بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. ويشير إلى شروط الإمامة ومكانة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وذلك كله بعبارة ناصعة قوية واضحة، تجد فيها، في مواضع كثيرة، روح الإمام الشافعي وأسلوبه، وفي بعضها تقف لتشك في أن هذا من كلام الإمام؛ لأنه يستعمل ألفاظا أو مصطلحات إنما نشأت متأخرة بعد عصر الشافعي رحمه الله1. ولا تكاد تخلو مسألة من استدلال بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف أو من دليل عقلي، وغالبا ما تكون إشارات موجزة تنبئ عما يريد. وفي أثناء الكتاب ردود ومناقشات لآراء الفرق المخالفة لأهل السنة فيما ذكره من مسائل, فيرد على الخوارج والمعتزلة والكرامية. وبعد؛ فلعلي أطلت قليلا، وخرجت عما كنت أريده من الإشارة إلى أن أول مصطلح استعمله العلماء في باب الاعتقاد هو "الفقه الأكبر", فلننظر الآن في عنوان أو مصطلح آخر.

_ 1 وهذا ما نجده في: "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة، وفي "العقيدة الطحاوية". راجع: "شرح العقيدة الطحاوية" ص"331-346".

الإيمان

2- الإيمان: تعريف الإيمان في اللغة: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة: "1/ 133-135": "أمن؛ بالهمزة والميم والنون, أصلان متقاربان: أحدهما الأمانة، التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب؛ والآخر التصديق, والمعنيان متدانيان..". وبعد شرح الأصل الأول قال: وأما التصديق فقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: مصدق لنا، وقال بعض أهل العلم: إن "المؤمن"

_ 1 يقول الدكتور علي سامي النشار عن "الفقه الأكبر" المنسوب للشافعي: "فيه أسلوب عصر فخر الدين الرازي، وإن كانت آراؤه تمتّ إلى كثير من آراء الشافعي في أصوله". انظر: "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام": 1/ 246، "كشف الظنون": 2/ 1288.

في صفات الله تعالى هو أن يصدُق ما وعد عبده من الثواب. وقال آخرون: هو مؤمن لأوليائه يؤمنهم عذابه ولا يظلمهم, فهذا قد عاد إلى المعنى الأول. وقال الأزهري في "تهذيب اللغة" "15/ 510": "وأما الإيمان: فهو مصدر آمن إيمانا، فهو مؤمن. واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم أن الإيمان معناه التصديق. قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] ". ثم قال: "وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم؟ وأين يستويان؟ والإسلام: إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يحقن الدم. فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب, فذلك الإيمان الذي يقال للموصوف به: هو مؤمن مسلم، وهو المؤمن بالله ورسوله غير مرتاب ولا شاك، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريب، فهو المؤمن وهو المسلم حقا، كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ؛ أي: أولئك الذين قالوا: إنا مؤمنون، فهم الصادقون. فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه؛ فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مصدق، فذلك الذي يقول: أسلمت؛ لأن الإيمان لا بد أن يكون صاحبه صديقا؛ لأن قولك: آمنت بالله، أو قولك: آمنت بكذا وكذا، فمعناه: صدّقت، فاخرج الله هؤلاء من الإيمان فقال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: لم تصدقوا، إنما أسلمتم تعوذا من القتل؛ فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر، والمسلم التامّ الإسلام مظهر للطاعة مؤمن بها، والمسلم الذي

أظهر الإسلام تعوذا غير مؤمن في الحقيقة, إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين. وقال تعالى حكاية عن إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} ، لم يختلف أهل التفسير أن معناه: ما أنت بمصدق لنا. والأصل في الإيمان: الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدّق بلسانه فقد أدى الأمانة، وهو مؤمن. ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤدٍّ للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافق". والإيمان في لغة العرب يستعمل لازما ومتعديا؛ فإذا استعمل لازما كان معناه أنه صار ذا أمن. وإذا استعمل متعديا، فتارة يتعدى بنفسه فيكون معناه التأمين، أي: إعطاء الأمان، تقول: آمنت فلانا إيمانا، وأمنته تأمينا، بمعنى واحد. قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] ومنه اسمه تعالى: "المؤمن"؛ لأنه أمن عباده من أن يظلمهم، أو جعل لهم الأمن. وتارة يتعدى بالباء أو اللام، فيكون معناه التصديق1، كقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] ، {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] .

_ 1 انظر: "المفردات في غريب القرآن" للراغب ص26، "المختار من كنوز السنة" د. محمد عبد الله دراز ص96، "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني: 1/ 102.

تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي

تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي: وفي الاصطلاح الشرعي كثيرا ما ترد كلمة الإيمان ويراد بها المعنى اللغوي نفسه، فتطلق على مطلق التصديق، سواء كان تصديقا بحق أو باطل. وكثيرا ما يراد بها معنى أخص صار في العرف الشرعي حقيقة جديدة، فيراد بها خصوص التصديق بخبر السماء المنزل على الأنبياء. وضابط ذلك: أن ننظر في استعمالها، فإن كانت متعلقة بشيء بأن قيل: إيمان بكذا؛ كانت بمعناها اللغوي البحت، أي: مطلق التصديق1، وأما إذا ذكرت بدون متعلق فالمراد بها تلك الحقيقة الشرعية الخاصة، وهي التصديق بالحق والانقياد إليه. وعندئذ, فالإيمان عبارة عن ثلاثة أشياء 2: الأول: هو الجزء الذي لا غنى عنه بحال -وإذا عدم عدمت حقيقة الإيمان- وهو "الاعتقاد" أي: العلم الجازم بكل ما ثبت بالضرورة أنه جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله، ولا بد من اليقين الجازم من الرضا والارتياح النفسي لهذه العقيدة. فإذا تحقق هذا الجزء الأول فقد وجد أساس الإيمان. الثاني: إعلان هذه العقيدة بالقول أو غيره من كل ما يدل عليها دلالة ظاهرة. وهذا الاعتراف الظاهري يعد ترجمة عن العقيدة يدل دلالة ظنية عليها. والثالث: العمل بكل ما أمر الله به من فريضة أو نافلة، والانتهاء عما نهى الله عنه من حرام وشبهة صغيرة وكبيرة, في سره وعلانيته، بقلبه وجوارحه3. هذا، وكلمة "الإيمان" ومشتقاتها، من أكثر الكلمات استعمالا في القرآن الكريم والسنة النبوية، وفيهما نجد حديثا مستفيضا عن الإيمان بالله وما يتفرع عنه وعن الإيمان بالبعث والجزاء والحساب ... بأسلوب حي مؤثر يملك على الإنسان جوانب نفسه، ويحمله على الطاعة والالتزام، فيكون لهذا الإيمان أثره في نفس الفرد وفي استقامة سلوكه، وفي الجماعة ونظام حياتها. وهذا يختلف عن أسلوب المتأخرين لما بحثوا في الإيمان، وشغلوا أنفسهم بمباحث جدلية كثيرة حول حقيقة الإيمان وأجزائه, وحول ارتكاب الكبيرة وحكم مرتكبها ... وهل يكفي التصديق أو العلم والمعرفة.. إلخ.

_ 1 ويقيد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك بقيد، وهو أن يكون تصديقا للخبر عن شيء مغيب، فيقول: "إن لفظ الإيمان ليس مرادفا للتصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة -كقوله: طلعت الشمس وغربت- أنه يقال: آمناه، كما يقال صدقناه ... " انظر: "الإيمان" لابن تيمية ص276. 2 جاء التعبير بـ "أشياء" بدلا من "أجزاء"؛ ليشمل ما يمكن فهمه من كلام السلف من أن العمل جزء داخل في مسماه، وما يمكن أن يفسر به من أن العمل من مقتضيات الإيمان وواجباته, وهو مطلوب وإن لم يكن جزءا منه. راجع في هذا بحثا قيما للشيخ محمد أنور شاه الكشميري في "فيض الباري على صحيح البخاري": 1/ 54, 58. 3 "المختار من كنوز السنة"، د. محمد عبد الله دراز، ص73.

المؤلفات في الإيمان

المؤلفات في الإيمان: وتحت هذا العنوان "الإيمان", بحث علماؤنا -رحمهم الله- جوانب من العقيدة الإسلامية، كما نجد ذلك في أبواب الإيمان من كتب الحديث والسنة، وكما نجده أيضا في بعض كتب التفسير، وخصص بعضهم كتبا مفردة للإيمان، نذكر أهم ما وصل إلينا منها حسب الترتيب التاريخي لوفاة مؤلفيها: 1- "كتاب الإيمان, ومعالمه وسننه واستكمال درجاته" للإمام أبي عبيد، القاسم بن سلَّام البغدادي الهروي "224هـ". 2- "كتاب الإيمان" للحافظ أبي بكر، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي "225 أو 235هـ", وطبع كلا الكتابين بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني. 3- "كتاب الإيمان" للإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني "241هـ" وهو غير كتاب "السنة" الذي سيأتي في فقرة تالية. وحُقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. 4- "الإيمان" تأليف محمد بن أسلم الطوسي "242هـ", وهو في حكم المفقود. 5- "كتاب الإيمان" للحافظ أبي عبد الله، محمد بن يحيى بن أبي عمر المكي العَدَني "243هـ" تحقيق حمد بن حمدي الجابري. 6- وللإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، صاحب العقيدة الطحاوية، "321هـ" كذلك كتاب في "الإيمان". 7- "كتاب الإيمان" للحافظ محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده "ت: 395هـ" حققه الدكتور علي بن محمد ناصر الفقيهي، وطبع في ثلاثة أجزاء. 8- "كتاب الإيمان" للقاضي أبي يعلى، محمد بن الحسن الفرّاء الحنبلي "458هـ". 9- ولشيخ الإسلام ابن تيمية "728هـ" كتابان في الإيمان: "الإيمان الأوسط"، و"الإيمان الكبير", وطبع كلا الكتابين ضمن مجموعة الفتاوى، وطبع الإيمان الكبير طبعة مستقلة بالمكتب الإسلامي مع تخريج موجز للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. ومنهج هؤلاء في كتبهم هذه يتلخص في إيراد النصوص على مذهب أهل السلف تحت عناوين دالة على المعنى، وقد يتميز بعضها بالرد على المخالفين ومناقشتهم، وتوجيه الأدلة التي يسوقونها، ويتميز بعضها بحسن الترتيب والتبويب وجمع المسائل تحت أصول عامة كما نجد في كتاب أبي عبيد مثلا، وكتاب ابن منده. ويتميز كتاب ابن تيمية -رحمه الله- ببسط الأدلة وإيراد المذهب المخالف مع أدلته ثم نقضها بصحيح المنقول, وصريح المعقول1. وفي العصر الحديث وجدنا كتبا كثيرة تحت عنوان "الإيمان"؛ لبيان حقيقته وأركانه ومسائله وأثره في الحياة، أو لدراسة جوانب معينة من العقيدة تحت هذا العنوان.

_ 1 انظر مقدمة "الإيمان" للعدني، تحقيق حمد الجابري الحربي، ومقدمة الدكتور الفقيهي لكتاب ابن منده.

السنة

3- السنة: تعريف السنة في اللغة: قال ابن فارس: "سن: السين والنون، أصل واحد مطَّرد، وهو جريان الشيء واطّراده في سهولة. والأصل قولهم: سننت الماء على وجهي أسنّه سنًّا، إذا أرسلته إرسالا ... ومما اشتق منه: السنة، وهي السيرة. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيرته التي كان يتحراها. قال الهذلي: فلا تجزعَنْ من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سنة من يسيرها ... 1 فالسنة في اللغة: هي الطريقة المسلوكة محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" 2. والسنة أيضا: هي العادة قال تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} [الإسراء: 77] ، أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوْهم بخروج الرسول من بين أظهرهم؛ يأتيهم العذاب3.

_ 1 "معجم مقاييس اللغة": 3/ 60، 61. وراجع مادة "سنن" في "الصحاح" للجوهري: 5/ 1238-2140 "ترتيب القاموس المحيط": 2/ 632-634، "لسان العرب": 13/ 220-228، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير: 2/ 409-413. 2 أخرجه مسلم في الزكاة، باب الحث على الصدقة، برقم "1017": 2/ 705. 3 انظر: "تعريفات الجرجاني" ص161، "تفسير ابن كثير": 3/ 54.

تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي

تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي: وفي الشرع تطلق على معانٍ: 1- منها: الشريعة، وبهذا المعنى جاء قولهم: الأوْلى بالإمامة الأعلم بالسنة, أي: بأحكام الشرع. 2- ومنها: الطريقة المسلوكة في الدين، فتنتظم المستحب والمباح، بل الواجب والفرض أيضا. 3- وعرفا -عند الفقهاء- تقيد بأنها الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب. والمراد بـ "الطريقة المسلوكة في الدين": ما سلكها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره ممن هم عَلَم في الدين، كأصحابه -رضي الله عنهم- لقوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، فتمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ" 1.

_ 1 أخرجه أبو داود في السنة: 7/ 11، 12، والترمذي في العلم: 7/ 438-441، وقال: هذا "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه في المقدمة: 1/ 16، والدارمي: 1/ 44، 45، وصححه الحاكم في "المستدرك": 1/ 95، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان ص56 من "موارد الظمآن"، ورواه ابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 17، 18، والإمام أحمد في "المسند": 4/ 126، 127، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد": 1/ 85، وابن بطة في "الإبانة" 1/ 305-307، والبغوي في "شرح السنة": 1/ 205، وفي "التفسير": 3/ 209، والآجري في "الشريعة" ص46، 47. وانظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب ص243، 244.

ولذلك يطلق لفظ السنة أيضا على ما عمل عليه الصحابة -سواء عثرنا عليه, أو لم نعثر عليه فيها- لكونه اتباعا لسنة ثبتت عندهم. 4- وتطلق السنة عند علماء أصول الفقه: على ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير. فهي هنا مصدر من مصادر التشريع كالقرآن الكريم. 5- وعلماء الحديث يريدون بالسنة: ما نقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلْقية أو خُلُقيه أو سيرة مطلقا. وهي بهذا مرادفة لمعنى الحديث. 6- كما تطلق السنة أيضا على ما يقابل البدعة، كقولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا، وفلان على سنة, أي: موافق للتنزيل والأثر في الفعل والقول، وفلان على بدعة: إذا عمل على خلاف ذلك. وهاتان الكلمتان "السنة والبدعة" تستعملان دائما كلمتين متضادتين -كما رأيت- لأن السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- والبدعة هي ترك ذلك الطريق والانحراف عنه، وسلوك طريق آخر مخترع. فلهذا كانت السنة هداية، والبدعة ضلالة1.

_ 1 راجع في معاني وإطلاقات السنة: "الكليات" للكفوي: 3/ 9-12، "كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي: 4/ 53-57، "مجموع الفتاوى": 18/ 191، 192، "الحجة في بيان المحجة" للأصبهاني: 2/ 384, 385، "الموافقات" للشاطبي: 4/ 3-7، "السنة ومكانتها في التشريع" للدكتور مصطفى السباعي ص47-49، "حجية السنة" لأستاذنا الشيخ عبد الغني عبد الخالق رحمه الله، ص45 وما بعدها، "السنة قبل التدوين" د. عجاج الخطيب ص15-20, "تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار" للكنوي ص68-86.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا: أن السنة تقتضي المواظبة، وهي أعم من الحديث؛ لأنها تتناول الفعل والقول والتقرير، والحديث لا يتناول إلا القول، فكان هذا فارق ما بينهما1. ومن هذه الإطلاقات لكلمة "السنة" يظهر أنها تطلق بمعنى شرعي عام يشمل ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون، من الاعتقادات والأعمال والأقوال, وهذه هي السنة الكاملة. ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون السنة إلا على ما يشمل ذلك كله2. السنة بمعنى الاعتقاد: ثم إن كثيرا من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقاد فحسب؛

_ 1 انظر: "الكليات" 3/ 10، "تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها" للسيد سليمان الندوي ص20-22، "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي: 3/ 267. 2 ومما ينبغي التنبه إليه ههنا أمران اثنان: أولهما: أن بعض الناس يقصرون التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على جانب واحد، وهو الجانب المظهري، ويغفلون سائر الجوانب الأخرى، فيقولون: "فلان سنيّ"؛ لأنه أطلق لحيته مثلا أو قصّر ثوبه -مع أننا لا نقلل من أهمية هذا الجانب أبدا، فإن هناك ارتباطا بين المظهر أو الشكل والمضمون- وينسون الجوانب الأخرى، وهي على غاية من الأهمية كالعقيدة السليمة والعلم الشرعي والأخلاق والسلوك ... إلخ. ثانيهما: أن بعضهم قد يتساهل بالمشروعات مما هو في مرتبة السنة -بالمعنى الفقهي- بحجة أنها سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها. هكذا بإطلاق، مع أن العلماء قد نصوا -بناء على الأحاديث الكثيرة التي تحض على المتابعة والتمسك بالسنة- على أن من يعتاد على ترك السنة يعاقب، وأنه مسيء وآثم، وكان الصحابة يحرصون عليها حرصهم على الفرائض، وقد نقل اللكنوي -رحمه الله- نصوصا كثيرة في هذا في كتابه "تحفة الأخيار" ص87-92. وأما تفرقة الفقهاء بين الفرض والسنة، فإنما هي في آحادها لا في تركها جملة. انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون": 4/ 54، "المختار من كنوز السنة" ص332.

لأنها أصل الدين والمخالف فيها على خطر عظيم1. وعلى هذا المعنى الخاص جاء استعمال علماء السلف لكلمة "السنة" عنوانا على جانب العقيدة وأصول الدين فيما كتبوه بيانا للعقيدة الإسلامية ابتداء أو ردا على الفرق المخالفة؛ ليميزوا بين عقيدة أهل السنة وعقيدة أهل البدعة2، وهو ما نرمي إليه في هذه الفقرة من البحث. وقد شرح ابن أبي عاصم -رحمه الله- هذا المعنى للسنة, وذكر أهم مباحثها فقال: "السنة: اسم جامع لمعانٍ كثيرة في الأحكام وغير ذلك. ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة: القول بإثبات القدر، وأن الاستطاعة مع الفعل للفعل، والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وكل طاعة من مطيع فبتوفيق الله له، وكل معصية من عاصٍ فبخذلان الله السابق منه وله، والسعيد من سبقت له السعادة، والشقي من سبقت له الشقاوة، والأشياء غير خارجة من مشيئة الله وإرادته، وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم خلق لخالقهم، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى، تكلم الله به، ليس بمخلوق، ومن قال: مخلوق -ممن قامت عليه الحجة- فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وإثبات رؤية الله عز وجل، يراه أولياؤه في الآخرة عيانا، كما جاءت الأخبار. وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده، وهو الخليفة خلافة

_ 1 "جامع العلوم والحكم" ص249. وانظر أيضا: "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص60 بتحقيقنا، "كشف الأسرار على أصول البزدوي" 1/ 8، "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين": 1/ 415. 2 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": 19/ 307.

النبوة، بُويع يوم بُويع وهو أفضلهم وهو أحقهم بها، ثم عمر بن الخطاب بعده على مثل ذلك، ثم عثمان بن عفان بعده على مثل ذلك, ثم علي بعدهم على مثل ذلك رحمة الله عليهم جميعا ... ومما قد ينسب إلى السنة -وذلك عندي إيمان- نحو: عذاب القبر، ومنكر ونكير، والشفاعة، والحوض، والميزان، وحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة فضائلهم وترك سبهم والطعن عليهم، وولايتهم والصلاة على من مات من أهل التوحيد، والترحم على من أصاب ذنبا والرجاء للمذنبين، وترك الوعيد ورد العباد إلى مشيئة الله، والخروج من النار، يخرج الله من يشاء منها برحمته، والصلاة خلف كل أمير جائر، والصلاة في جماعة، والغزو مع كل أمير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون"1.

_ 1 "كتاب السنة" لابن أبي عاصم: 2/ 645-647. وانظر ما نقله الملطي في "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" ص15-17 عن محمد بن عكاشة في "بيان أصول السنة" مما اجتمع عليه الفقهاء والعلماء.

اصطلاح السنة: "وقد ساد هذا الاصطلاح في القرن الثالث الهجري في عصر الإمام أحمد بن حنبل حين ظهرت الفرق وراجت عقائد المعتزلة والرافضة والصوفية وأهل الكلام. فأخذ أئمة الإسلام -حينذاك- يطلقون على أصول الدين ومسائل العقيدة: "السنة"؛ تمييزا لها عن مقولات الفرق.. وهذا -أي: وصف العقيدة وأصول الدين بـ "السنة"- وإن كان معروفا في عصر الصحابة إلا أنه لم يكن مشهورا، إنما يدل عليه مثل قول عمر: "من ترك السنة كفر" فإن التكفير من الصحابة لا يكون إلا في أمر عظيم كأصول الدين وأمور الاعتقاد، كما يدل عليه قول علي رضي الله عنه: "الهوى عند من خالف السنة حق, وإن ضربت فيه عنقه" فإن مثل هذا الحكم إنما يتأتى في أصحاب العقائد والأهواء والفرق الضالة"1. يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة، مثل حماد بن سلمة "ت 167هـ"، وعبد الرحمن بن مهدي "198هـ"، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي "255هـ"، وعثمان بن سعيد الدارمي "280هـ"، وغيرهم في طبقتهم. ومثلها ما بوّب عليه البخاري "256هـ"، وأبو داود "275هـ"، والنسائي "303هـ"، وابن ماجه "270هـ" وغيرهم في كتبهم، ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم "261هـ"، وعبد الله بن أحمد "290هـ" وأبي بكر الخلال "310هـ"، وأبي القاسم الطبراني "360هـ", وأبي الشيخ الأصفهاني "369هـ".. ثم ذكر سائر أهل العلم الذين صنفوا في السنة مما سنذكره2.

_ 1 "مفهوم أهل السنة والجماعة" للدكتور ناصر العقل ص42، 43, راجع ايضا: "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية" لابن بطة: 1/ 338، 359، 362. 2 انظر: "الوصية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص60-63. وفيه تراجم العلماء الذين ذكرهم جميعا.

مؤلفات في الاعتقاد تحت اسم السنة: وأما المصنفات في الاعتقاد تحت اسم "السنة" فهذا ما سنذكره فيما يلي مرتبا حسب تاريخ وفاة المؤلف: 1- "السنة" لابن أبي شيبة، أبي بكر، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبسي "235ههـ" وبعضهم يجعل وفاته سنة "225هـ". 2- "كتاب السنة" للإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إمام أهل السنة والجماعة "241هـ". 3- "كتاب السنة" للأثرم، أبي بكر، أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي، تلميذ الإمام أحمد "273هـ". 4- "السنة" لأبي علي, حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال, تلميذ الإمام أحمد بن حنبل "273هـ". 5- "السنة" لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب "السنن" "275هـ". 6- "كتاب السنة" لابن أبي عاصم، وهو الحافظ أبو بكر عمرو بن حزم بن أبي عاصم، الضحاك بن مخلد الشيباني "287هـ". 7- "كتاب السنة" لأبي عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل "290هـ". 8- "كتاب السنة" لأبي بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي "292هـ". 9- "كتاب السنة" لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال "311هـ". 10- "بيان السنة والجماعة" المعروف بعقيدة الطحاوي، للإمام أبي جعفر، أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي "321هـ". 11- "كتاب السنة" للعسال، أبي أحمد، محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصفهاني العسال "349هـ".

12- "السنة" لأبي القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب اللَّخْمي الطبراني "360هـ". 13- "كتاب السنة" لأبي الشيخ الأصبهاني الحَيَّاني "369هـ". 14- "كتاب السنة" لأبي جعفر، عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي, المعروف بابن شاهين "385هـ". 15- "كتاب السنة" لمحمد بن نصر المروزي "394هـ". 16- "السنة" لأبي عبد الله، محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني "395 أو 396هـ". 17- "كتاب السنن" أو "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" لأبي القاسم هبة الله بن حسن الرازي اللالكائي "418هـ". 18- "كتاب السنة" لأبي ذر، عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري الهروي "434هـ"1. 19- "الرسالة في السنة" لأبي عثمان الصابوني "449هـ", سماها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في "نقض التأسيس": "1/ 529". وهذه المصنفات أُلِّفت للحض على اتباع السنة والعمل بها وترك ما حدث بعد

_ 1 استفدت في هذه النبذة من كتب الفهارس ومقدمات الكتب المطبوعة المحققة. وانظر: مقدمة الدكتور علي سامي النشار لكتاب "عقائد السلف" ص5-7، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 5/ 24، 25، "الوصية الكبرى" له أيضا ص60-63 بتحقيقي، "نموذج من الأعمال الخيرية" ص258-260, "كشف الظنون": 2/ 1425، 1426.

الصدر الأول من البدع والضلالة والأهواء1. ولو أخذنا بعض ما وصلنا من هذه المؤلفات في "السنة" -ولنمثل بثلاثة منها، للإمام أحمد بن حنبل، ولابنه عبد الله، وابن أبي عاصم، وكلها مطبوعة- لوجدنا قاسما مشتركا في المسائل والأبحاث التي تشكل الركيزة فيها وقد ينفرد كتاب منها ببعض المسائل دون الآخرى، أو يتوسع فيها ببسط الأدلة من الأحاديث والآثار, بينما يختصر الآخرون أو يذكرون المسائل دون الأدلة. وفي بعضها قد نجد جملة من المسائل التي لا يرقى البحث فيها إلى درجة مسائل الاعتقاد. منهج المصنفين في السنة: والمنهج الذي سلكه المصنفون في السنة يكاد يكون منهجا متشابها، يتلخص في أنه يترجم للباب، ثم يسوق جملة من الأحاديث والآثار التي تتناسب مع العنوان2. وقد يروي هذه الأحاديث من طرق متعددة، وقد يتكلم بعضهم على الروايات وينقدها، وغالبا ما نجد العناوين وفيها إشارة إلى الرد على

_ 1 "نموذج من الأعمال الخيرية"، لمحمد منير الدمشقي ص259. ويقول الحافظ قوّام السنة الأصفهاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة" "1/ 84، 85": "وحين رأيت قوام الإسلام بالتمسك بالسنة، ورأيت البدعة قد كثرت, والوقيعة في أهل السنة قد فشت، ورأيت اتباع السنة عند قوم نقيصة، والخوض في الكلام درجة رفيعة، رأيت أن أملي كتابا في السنة، يعتمد عليه من قصد الاتباع وجانب الابتداع، وأبين فيه اعتقاد أئمة السلف وأهل السنة في الأمصار، والراسخين في العلم في الأقطار ليلزم المرء باتباع الأئمة الماضين، ويجانب طريقة المبتدعين، ويكون من صالحي الخلف لصالحي السلف". 2 تقدمت الإشارة إلى جملة الأبواب والمسائل التي بحثت في هذه الكتب، فيها نقلناه عن ابن أبي عاصم ص96، 97.

الفرق المخالفة، بل نجد ذلك صراحة أيضا. وأثناء الرد والمناقشة تتضح الفكرة التي عقد المصنف الباب من أجلها. ولم يكن -فيما يبدو- من منهجهم أن يتحروا جمع الأحاديث الصحيحة في المسألة، وإنما يجمعون الروايات التي وصلت إليهم في المسألة؛ ولهذا وقع في بعض هذه المصنفات، أو في كثير منها، بعض الأحاديث الضعيفة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: وقد يروي كثير من الناس في الصفات وسائر أبواب الاعتقادات وعامة أبواب الدين, أحاديث كثيرة، تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي قسمان: منها: ما يكون كلاما باطلا لا يجوز أن يقال، فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف أو بعض الناس، ويكون حقا أو مما يسوغ فيه الاجتهاد, أو مذهبا لقائله، فيعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها الشيخ أبو الفرج، عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري "486هـ", وجعلها محنة يفرق فيها بين السني والبدعي. وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين وجعل لها إسنادا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعلها من كلامه. وهذا يعلم من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى. وهذه المسائل، وإن كان غالبها موافقا لأصول السنة، ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع، مثل: أول نعمة أنعمها الله على عبده. فإن هذه المسألة فيها نزاع بين أهل السنة. والنزاع فيها لفظي؛ لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم؛ هل تسمى نعمة أم لا؟ وفيها أيضا أشياء مرجوحة.

فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب؛ فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة. فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام, ولمن يدعي السنة خصوصا1.

_ 1 "الوصية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص63، 64 بتحقيقي.

علم التوحيد

4- علم التوحيد: تعريف التوحيد في اللغة: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "6/ 90، 91": "وحد: الواو والحاء والدال، أصل واحد يدل على الانفراد، من ذلك: الوحدة، وهو واحد قبيلته، إذا لم يكن فيهم مثله. قال الشاعر: يا واحد العُرْب الذي ... ما في الأنام له نظير ولقيت القوم مَوْحَدَ مَوْحَدَ, ولقيته وحده. ولا يضاف إلا في قولهم: نسيجُ وحدِهِ، وعُيَيْرُ وحدِهِ ... والواحد: المنفرد...." وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات" ص514، 515: "الوحدة: الانفراد. والواحد في الحقيقة: هو الشيء الذي لا جزء له البتة. ثم يطلق على كل موجود، حتى إنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به ... فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه: الأول: ما كان واحدا في الجنس أو النوع، كقولنا: الإنسان والفرس واحد في الجنس، وزيد وعمرو واحد في النوع. الثاني: ما كان واحدا بالاتصال إما من حيث الخلقة، كقولك: شخص واحد، وإما من حيث الصناعة، كقولك: حرفة واحدة. الثالث: ما كان واحدا لعدم نظيره، كقولك: فلان واحد دهره، ونسيج وحده. الرابع: ما كان واحدا لامتناع التجزؤ فيه، كالهباءة.

الخامس: للمبدأ، إما لمبدأ العدد، كقولك: واحد، اثنان، وإما لمبدأ الخط، كقولك: النقطة الواحدة, والوحدة فيها كلها عارضة. وإذا وصف الله تعالى بـ "الواحد" فمعناه: هو الذي لا يصح عليه التجزؤ ولا التكثر. والواحد: المفرد، ويوصف به غير الله تعالى ... وأحد -مطلقا- لا يوصف به غير الله تعالى ... ". وفي "لسان العرب" لابن منظور، "3/ 450، 451": "قال ابن سيده: والله الأوحد والمتوحد وذو الوحدانية، ومن صفاته: الواحد الأحد. والفرق بينهما -كما قال أبو منصور الأزهري وغيره- أن "الأحد" بني لنفي ما يذكر معه من العدد, تقول: ما جاءني أحد. و"الواحد": اسم بني لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد؛ فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى ... ولا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى، فلا يقال: رجل أحد، كما يقال: رجل وَحَد، أي: فرد؛ لأن "أحدا" من صفات الله -عز وجل- التي استخلصها لنفسه ولا يشركه فيها شيء ... ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله عز وجل". والتوحيد في اللغة: الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد1. وقال قوام السنة الأصفهاني: "التوحيد على وزن التفعيل، وهو مصدر وحّدتُه توحيدا، كما تقول: كلمته تكليما، وهذا النوع من الفعل يأتي متعديا إلا أحرفا جاءت لازمة، هي قولهم: روّض الروض، إذا تم حسنة ونضارته، ودوّم الطائر؛ إذا حلّق في الهواء، وصرح

_ 1 "التعريفات" للجرجاني ص69.

الحق, أي: ظهر وانكشف، وبين الشيء بمعنى: تبين، وصوّح النبت: إذا هاج ويبس، وغلّس فلان: إذا جاء بغلس. ولهذا الفعل معنيان: أحدهما: تكثير الفعل وتكريره, والمبالغة فيه كقولهم: كسّرت الإناء وغلّقت الأبواب وفتّحتها. والوجه الثاني: وقوعه مرة واحدة كقوله: غدّيت فلانا، وعشيته، وكلمته. ومعنى وحدته: جعلته1 منفردا عما يشاركه أو يشبهه في ذاته وصفاته، والتشديد فيه للمبالغة، أي: بالغت في وصفه بذلك. وقيل: الواو فيه مبدلة من الهمزة، والعرب تبدل الهمزة من الواو، وتبدل الواو من الهمزة، كقولهم: وشاح وأشاح، وتقول العرب: أحِّدْهن لي وآحِدْهن لي، أي: اجعلهن لي أحد عشر، ويقال: جاءوا أُحَادَ أُحَادَ أي: واحد واحدا، فعلى هذا: الواو في "التوحيد" أصلها الهمزة. قال الهذلي: ليث الصريمة أُحْدَان الرجال له ... صيد، ومجتزئ بالليل هجّاس وتقول العرب: واحد، وأحد، ووحد، ووحيد، أي: منفرد، فالله تعالى واحد، أي: منفرد عن الأنداد والأشكال في جميع الأحوال. فقولهم: وحّدت الله, من باب عظمت الله، وكبرته، أي: علمته عظيما وكبيرا. فكذلك وحدته أي: علمته واحدا، منزها عن المثل في الذات والصفات. قال بعض العلماء: التوحيد: نفي التشبيه عن الله الواحد، وقيل: التوحيد نفي التشبيه عن ذات الموحد وصفاته، وقيل: التوحيد العلم بالموحِّد واحدا لا نظير له، فإذا ثبت هذا, فكل من لم يعرف الله هكذا فإنه غير موحد له"2.

_ 1 قال السفاريني في "لوامع الأنوار البهية" 1/ 57: "فمعنى وحّدت الله: نسبت إليه الوحدانية، لا جعلته واحدا، فإن وحدانية الله تعالى ذاتيه ليست بجعل جاعل". 2 "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة": 1/ 305، 306.

المعنى الاصطلاحي للتوحيد

المعنى الاصطلاحي للتوحيد: وبعد هذا التعريف اللغوي للتوحيد، نشير إلى المعنى الاصطلاحي الشرعي، فإن التوحيد هو أساس دعوة الإسلام, وهو دين جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام -على ما سيأتي معنا- وهو إفراد الله تعالى بالربوبية والطاعة أو العبادة، ويشمل ذلك أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات, وهي متلازمة مترابطة متكاملة، لا يصح إيمان المرء ولا توحيده ما لم يأت بها كاملة، فالله تعالى وحده المتفرد بالخلق والإحياء والرزق والإماتة والتدبير، وله صفات الكمال والعظمة والجلال، فهو المتفرد كذلك بالأمر والنهي والطاعة. وتطلق كلمة "التوحيد" أيضا: على العلم الذي يدرس الجانب العقائدي من الدين، وعندئذ يعرفونه بأنه: علم يبحث فيه عن وجود الله، وما يجب أن يثبت له من صفاته، وما يجوز أن يوصف به وما يجب أن يوصف به، وما يجب أن ينفى عنه، ويبحث عن الرسل؛ لإثبات رسالتهم وما يجب أن يكونوا عليه، وما يجوز أن ينسب إليهم، وما يمتنع أن يلحق بهم1. وأصل معنى التوحيد: اعتقاد أن الله واحد لا شريك له, وسمي هذا العلم به تسمية له بأهم أجزائه -فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل- وهو إثبات الوحدة لله في الذات والفعل في خلقه الأكوان، وأنه وحده مرجع كل كون ومنتهى كل قصد. وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما تشهد به آيات الكتاب العزيز2.

_ 1 "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده، ص8, وانظر: "لوامع الأنوار البهية": 1/ 57. 2 المصدر السابق نفسه.

دلالة كلمة التوحيد على العقيدة

دلالة كلمة التوحيد على العقيدة: ومن ثم أصبحت كلمة التوحيد، وهي شهادة "أن لا إله إلا الله" تشير إلى كل جوانب العقيدة ومسائلها؛ لأنه إذا حصل الإيمان بمضمونها على وجه صحيح استتبع ذلك -قطعا- الإيمان بسائر العقائد من إلهيات ونبوات وسمعيات؛ فإن الوحدانية تتضمن الاعتراف بالله بأنه المعبود بحق، وهو اعتراف ضمني بأنه جامع لكل كمال، منزَّه عن كل نقص، إذ لا يستحق العبادة -وهي نهاية التعظيم وغاية المحبة والخشية- إلا من كان كذلك. وإنما كانت العناية بذكر الوحدانية؛ لأنها كانت أهم مقاصد الرسل جميعا؛ لأنها هي وحدها العقيدة التي كفرها أكثر الناس وهجروها، فهم يعرفون الله تعالى بقدرته وعلمه وإرادته وأنه خالق السموات والأرض ... إلخ, ولكنهم يؤمنون به وهم مشركون يتخذون له أندادا من دونه يحبونهم كحبه ويخشونهم كخشيته، وسيأتي مزيد بيان لهذا في بيان أنواع التوحيد, إن شاء الله تعالى. وهي تدل أيضا على النبوات وما يتصل بها، فإن تكذيب الرسل هو عند التحقيق تكذيب لله تعالى وشرك به؛ لأنه لا يكذب الرسول إلا من أنكر معجزاته، ولا معنى لإنكار معجزاته إلا إنكار كونها من عند الله، وعندئذ يحصل الكفر؛ ولهذا حكم الله تعالى بالكفر على كل من يكفر برسول من الرسل فقال:

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151] . ثم إن تصديق الرسول في دعوى الرسالة يستلزم تصديقه في كل ما جاء به, فتدخل السمعيات وغيرها في التوحيد, فيكون التوحيد جماع الدين كله1. وقد أدخل بعض علماء الكلام في التوحيد ما ليس منه، فهم يريدون بلفظ التوحيد والواحد في اصطلاحهم: ما لا صفة له، ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يُرَى. وبعضهم يظن أن التوحيد يراد به مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، ويظنون أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا فقد فَنُوا في غاية التوحيد. وكثير منهم يقول: التوحيد له ثلاثة معانٍ، وهو أنه واحد في ذاته لا قسيم له؛ وواحد في صفاته لا شبيه له؛ وواحد في أفعاله لا شريك له. وهذا الذي تقدم عنهم في معنى التوحيد وما يتضمنه، فيه ما هو حق مما هو ثابت, وفيه ما هو باطل ومخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن التوحيد الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يتضمن شيئا من النفي الذي أثبتوه حين قالوا: ما لا صفة له ولا يعلم منه شيء دون شيء ... لأن التوحيد الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- تضمن إثبات الإلهية لله وحده، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، والأدلة على ذلك كثيرة متظاهرة. وكذلك فإن التوحيد الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليس مقتصرا على إثبات الربوبية لله تعالى, ولا على أنه واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، فهذا مما يكاد لا يخالف فيه أحد. بل يتضمن هذا، ويتضمن عبادة الله تعالى، فهو وحده المستحق للعبادة، فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه2.

_ 1 انظر: "المختار من كنوز السنة" ص109 و142-144. 2 انظر: "درء تعارض العقل والنقل": 1/ 224-228، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": 3/ 97 وما بعدها.

تطور استعمال كلمة التوحيد

تطور استعمال كلمة التوحيد: وقد تلحظ من هذا تعدد استعمال هذه الكلمة "التوحيد"، وكيف نقلت من معنى إلى آخر، وتحولت على يد بعض العلماء -في وقت غلب فيه الجدل والبعد عن روح الدين والالتزام الكامل به- إلى صناعة من الصناعات، غير ما أراده السلف من هذه الكلمة. ولذلك يشرح الإمام الغزالي هذا التبديل في معنى التوحيد فيقول: " ... وقد جعل الآن -في عصر الغزالي- عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف من الناس أنفسهم بـ: أهل العدل والتوحيد، وسمي المتكلمون العلماء بالتوحيد1، مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول، بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة. فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تسبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع؛ فلقد كان ذلك معلوما للكل. وكان العلم بالقرآن هو العلم كله، وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين، وإن فهموه لم يتصفوا به، وهو: أن يرى الأمور كلها من الله -عز وجل- رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله"2.

_ 1 وهو اسم قديم أطلقه المعتزلة على أنفسهم, واشتهروا به. 2 1 "إحياء علوم الدين" للغزالي: 1/ 33.

مؤلفات في علم التوحيد

مؤلفات في علم التوحيد: ولما أصبح "التوحيد" لقبا لهذا العلم، كتب عدد من العلماء فيه كتبا، نشير إلى بعضها: 1- "كتاب التوحيد" لأبي العباس أحمد بن عمر بن سُرَيْج البغدادي "306هـ". 2- "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل" التي وصف بها نفسه في تنزيله الذي أنزله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، للإمام ابن خزيمة، أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، صاحب "الصحيح" "ت 311هـ", وبحث في مسألتي "القضاء السابق والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق جل وعلا، مما وصف به نفسه في تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ... ". حيث يضع عنوانا مطولا للمسألة التي يبحثها وكأنه ملخص لها، ويسوق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة عليها، ويسوق الأحاديث بإسناده، مع تعليق موجز على بعض النصوص، والرد على المخالفين من الجهمية والمعطِّلة والقَدَرِية والمعتزلة. وقد طبع أكثر من مرة في الهند ومصر وبيروت، ثم حققه الدكتور

عبد العزيز الشهوان رسالة علمية في جامعة الإمام بالرياض، وطبع في مجلدين. 3- "كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله -عز وجل- وصفاته على الاتفاق والتفرد" للإمام الحافظ أبي عبد الله، محمد بن إسحاق بن منده "395هـ". وقد طبع بتحقيق الدكتور علي ناصر الفقيهي، في ثلاثة أجزاء. وقسم المؤلف فيه التوحيد إلى أربعة أقسام: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية -وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله- وتوحيد أسماء الله الحسنى ثم أتبعها بالقسم الرابع عن الصفات، "فيضع عنوانا للمسائل يشير إلى موضوعها ويسوق الآيات والأحاديث الدالة عليها"1، ومن خصائصه الاستشهاد الكثير بالآيات القرآنية على أنواع التوحيد ومسائله، مما يربط القارئ بكتاب الله تعالى، فيستمدّ منه التوحيد مباشرة، وهذا الكتاب كتاب جيد نفيس. 4- "الحجة في بيان المَحَجَّة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة" للحافظ قوام السنة أبي القاسم, إسماعيل بن محمد التيمي الأصبهاني "535هـ". والاسم المثبت للكتاب على غلافه "الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة" بينما قال هو في مقدمته: "وسميته كتاب: الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ... " ولهذا سلكناه مع الكتب التي وضعت تحت هذا العنوان، وسنسلكه كذلك مع كتب "العقيدة"، فيما سيأتي، وهو يبحث في المسائل الاعتقادية على منهج أهل السنة، يبين فيه اعتقاد أئمة السلف وأهل السنة، وقد جعله "14" بابا في التوحيد والصفات، والقرآن، ومسائل الإيمان، والرد على الجهمية، والوعد والوعيد، والقدر، والاستواء، وكلام الرب عز وجل، وفضائل الصحابة، والتمسك بالسنة واجتناب البدع ...

_ 1 انظر مقدمة المحقق للكتاب.

ومادة الكتاب هي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن الصحابة والتابعين، ولأنه متأخر بعد زمن التدوين الأول فقد استفاد ممن سبقه من العلماء ونقل عنهم، مع حسن تنظيم وتبويب1. وقد حُقق هذا الكتاب رسالة جامعية وطبع في مجلدين، أحدهما بتحقيق محمد بن ربيع بن هادي، والثاني بتحقيق محمد أبي رحيم، في الرياض "1411هـ". 5- "التمهيد لقواعد التوحيد" للإمام أبي المعين النسفي المكحولي, ميمون بن محمد "508هـ". 6- "تجريد التوحيد المفيد" للإمام تقي الدين، أحمد بن علي المقريزي "854هـ". وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، يجلو فيه صاحبه دعوة التوحيد، ويخلصها من شوائب البدع والخرافات التي قد تذهب بأصل التوحيد، مع مناقشة الشبهات، وبيان الطريق المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه الموحد، وقد طبع أكثر من طبعة. 7- "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي "1206هـ". وهو كتاب وحيد في بابه، جرى فيه مؤلفه على عنوان المسألة بـ "باب" ما يذكر فيه من العقيدة، ثم يورد من آيات التنزيل ما يشهد لها، ثم يتبع ذلك بذكر حديث صحيح أو أحاديث تؤيد ذلك، ويعزو الأحاديث إلى مخرّجيها من الكتب المعتمدة، ثم يستنبط من الآيات والأحاديث مسائل

_ 1 انظر: مقدمة الجزء الأول من الكتاب.

اعتقادية يجب الإيمان بها, والعمل بمقتضاها1. وجُلّ مباحث الكتاب في الدعوة إلى التوحيد وفضله، وبيان التوحيد، مع العناية بتوحيد الألوهية وتوحيد الصفات وما يناقضهما. وللكتاب شروح كثيرة من أجودها "تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ, و"فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ, ولكل منها طبعات كثيرة متعددة. 8- وعلى غراره كتاب "رسالة التوحيد" للعلامة الشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الشهيد "1246هـ"، نقله إلى العربية وعلّق عليه الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي. والكتاب في أصله كُتب لتقوية الإيمان ورد الإشراك في العلم والتصرف والعبادة والعادات. وقد صدر الكتاب -كما يقول الندوي- "عن قلب جريح متقطع لمشاهدة ما كان عليه المسلمون في عهد المؤلف من بعد عن التعاليم الإسلامية، وخضوع للوثنية الهندية, وتمسك بالعادات الجاهلية. وقد زاد في تأثيره وقبوله دموع عين باكية على المسلمين ودم زكي أريق في سبيل إحياء هذا الدين، وإدالته من الجاهلية، وتأسيس حكومة شرعية تقام على منهاج الكتاب والسنة"2. 9- "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد" للشيخ محمد بن علي الشوكاني، صاحب "نيل الأوطار"، وغيره من المؤلفات، "1250هـ". وهو جواب لسؤال سائل عن التوسل والاستغاثة بالأموات والتمرغ على القبور، وطلب قضاء الحاجة من الميت وغير ذلك، مما يتعلق بأهل القبر من الإحياء

_ 1 "نموذج من الأعمال الخيرية" ص286. 2 من مقدمة الأستاذ الندوي للكتاب.

فأجاب جوابا شافيا وفصل المقام وبسطه، وأتى بإيرادات كثيرة من الطرفين، وردّها بأفصح عبارة وأسهل لفظ, وتوسط في ذلك وأنصف، وجمع أطراف الكلام في ذلك بحيث لا تجده في غير هذا الكتاب مستوفيا كذلك1. وقد طبع للمرة الأولى في مطبعة المنار بتعليق الشيخ محمد رشيد رضا، ثم طبع بالمطبعة المنيرية وتتابعت بعد ذلك طبعاته. 10- "دلائل التوحيد" لعلَّامة الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي "1332هـ". وقد أقام كتابه هذا على البراهين الدالة على معرفة الله تعالى، باعث الرسل لإقامة الحجة على الخلق بمحكم آياته، والرد على الملحدين وإبطال شبهاتهم، ثم بيان آيات خاتم النبيين وكريم أخلاقه التي فضل بها العالمين. ولم يَأْلُ جهدا في تجويد أسلوبه وتجديد ترتيبه ليكون أقرب للإفادة, وأجذب للاستفادة2. 11- وتتابعت الكتابات المعاصرة عن التوحيد، بأساليب متعددة متباينة، وحسبنا أن نشير إلى كتابي الشيخ عبد المجيد الزنداني "توحيد الخالق" و"كتاب التوحيد" وكل منهما في ثلاثة أجزاء لطيفة. وقد راعى المؤلف أن يكون كتابه "متمشيا مع أحوال زماننا، وحرص على ضرب الأمثلة حتى يتحقق الهدف المنشود الذي طالما حثنا عليه القرآن، وشدد عليه العلماء في هذا الزمان، وذلك هو ربط الحقائق الدينية بأدلتها المبثوثة في الكون ... لذلك يجد القارئ فيه بعض حقائق علمية جديدة, وأمثلة توضحها مع استخدام وسائل الإيضاح المختلفة. وفيه بساطة في التعبير ووضوح في الفكرة وسهولة في البرهان؛ وذلك لتثبيت العقيدة في القلوب"3.

_ 1 "نموذج من الأعمال الخيرية" ص292. 2 انظر مقدمة الكتاب ص10، 11. 3 من مقدمة المؤلف للكتابين.

الشريعة

5- الشريعة: تعريف الشريعة في اللغة: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "3/ 262": "شرع: الشين والراء والعين أصل واحد، وهو شيء يُفْتَح في امتداد يكون فيه. من ذلك: الشريعة، وهي مورد الشاربة الماء. واشتق من ذلك: الشرعة في الدين, والشريعة. قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} [المائدة: 48] , وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] ". وقال ابن منظور في اللسان "مادة شرع" "8/ 176": "الشريعة والشِّرْعة: ما سَنَّ الله من الدين وأمر به، كالصوم والصلاة والحج والزكاة وسائر أعمال البر. مشتق من شاطئ البحر، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ} وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} ، وقيل في تفسيره: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق. وقيل: الشرعة والمنهاج جميعا: الطريق، والطريق هنا: الدين، ولكن اللفظ إذا اختلف أتى به بألفاظ يؤكد بها القصة والأمر ... وقال ابن عباس: "شرعة ومنهاجًا": سبيلا وسنة. وقال قتادة: "شرعة ومنهاجًا": الدين واحد والشريعة مختلفة ... ".

وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات" ص258: "شرع: الشرع: نهج الطريق الواضح، يقال: شرعت له طريقا، والشرع مصدر، ثم جعل اسما للطريق النهج, فقيل: شَرَع وشَرْع وشريعة. واستعير ذلك للطريقة الإلهية، قال تعالى: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . فذلك إشارة إلى أمرين: أحدهما: ما سخر الله تعالى عليه كل إنسان من طريق يتحراه، مما يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد، وذلك المشار إليه بقوله: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] . الثاني: ما قيض له من الدين وأمره به ليتحراه اختيارا مما تختلف فيه الشرائع, ويعترضه النسخ، ودل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] . وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} إشارة إلى الأصول التي تتساوى فيها الملل فلا يصح عليها النسخ، كمعرفة الله تعالى ونحو ذلك من نحو ما دل عليه قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . وفي "الكليات" لأبي البقاء الكَفَوِيّ "3/ 56": "الشريعة: اسم للأحكام الجزئية التي يتهذب بها المكلف معاشا ومعادا، سواء كانت منصوصة من الشارع أو راجعة إليه. والشرع كالشريعة: كل فعل أو ترك مخصوص من نبي من الأنبياء صريحا أو دلالة، فإطلاقه على الأصول الكلية مجاز، وإن كان شائعا، بخلاف الملل فإن إطلاقها على الفروع مجاز، وتطلق على الأصول حقيقة، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه وغير ذلك؛ ولهذا لا تتبدل بالنسخ ولا يختلف فيها الأنبياء، ولا نطلق على آحاد الأصول". وقال التهانوي في "كشاف اصطلاحات الفنون": الشريعة: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء -صلى الله عليهم وعلى نبينا وسلم- سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية وعملية، ودون لها علم الفقه، أو بكيفية الاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية، ودون لها علم الكلام. ويسمى الشرع أيضا بالدين والملة؛ فإن تلك الأحكام من حيث إنها تطاع دين، ومن حيث إنها تملى وتكتب ملة، ومن حيث إنها مشروعه شرع؛ فالتفاوت بينها بحسب الاعتبار لا بالذات، إلا أن الشريعة والملة تضافان إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وإلى الأمة فقط استعمالا، والدين يضاف إلى الله تعالى أيضا1. وقد يخص الشرع بالأحكام العملية الفرعية2.

_ 1 4/ 129، وانظر أيضا: "المنار في أصول الفقه" للنسفي, مع شرح ابن مالك عليه ص12. 2 انظر فيما سبق ص32.

إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحيا

إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحيًا ... إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحا: ومن هذه التعريفات والنصوص التي نقلناها عن أهل اللغة, وعمن كتبوا في المصطلحات، نتبين أن الشرعة والشرع والشريعة كلمات مترادفة، وأصلها واحد. وأن الشريعة تطلق على معانٍ متعددة: 1- فالشريعة هي كل ما أنزله تعالى على نبي من أنبيائه، وهي تنتظم الاعتقاد والأحكام العملية والاخلاق، فهي ما شرعه الله من الاعتقاد والعمل كما في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] . 2- وتطلق الشريعة كذلك على ما خص الله تعالى به كل نبي من الأحكام وما سنه لأمته، مما يختلف من دعوة نبي لآخر، من المناهج وتفصيل العبادات والمعاملات ... إلخ، وهنا نقول: إن الدين في أصله واحد والشرائع متعددة1، كما في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] . 3- وتطلق الشريعة أحيانا على ما شرعه الله لجميع الرسل من أصول الاعتقاد والبر والطاعة مما لا يختلف من دعوة نبي لآخر كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] . 4- وتطلق الشريعة بخاصة على "العقائد" التي يعتقدها أهل السنة من الإيمان مثل: اعتقادهم أن الإيمان قول وعمل، وأن الله موصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله خالق كل شيء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير, وأنهم لا يكفرون أهل القبلة بمجرد الذنوب، ويؤمنون بالشفاعة لأهل الكبائر, ونحو ذلك من عقود أهل السنة، فسموا أصول اعتقادهم شريعة ... وهذا المعنى الأخير للشريعة عليه مدار البحث هنا، وهو مقصودنا بهذا العنوان. "والشريعة في هذا كالسنة التي تقدم الكلام عليها، فقد يراد بها ما سنّه وشرعه من العقائد، وقد يراد بها ما سنه وشرعه من العمل، وقد يراد بها كلاهما"1.

_ 1 انظر: "الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى" ص35-41، "التوحيد مفتاح دعوة الرسل" ص25-34. 2 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 306, 307.

مؤلفات فلي الشريعة

مؤلفات فلي الشريعة ... مؤلفات في الشريعة: ومما كتب في اعتقاد أهل السنة تحت اسم "الشريعة": 1- "كتاب الشريعة" للإمام أبي بكر، محمد بن الحسن بن عبد الله الآجُرّي "360هـ", وقد أقامه مؤلفه على ثلاثة أسس: أولها: التحذير من التفرق في الدين، والحرص على الجماعة ... ثانيها: معرفة الله معرفة تثمر في القلب إجلال الله وإكباره، ليعطيه حقه من إخلاص العبادة بمنتهى الذل ومنتهى الحب، رغبة ورهبة ... ثالثها: معرفة الرسول معرفة تثمر في القلب حبه وتعظيمه على كل الخلق، وتقديم طاعته وهديه على كل أحد وهديه من الناس1. وقد ألمحنا فيما سبق إلى اتحاد المسائل التي تبحث في كتب السنة وكتب الشريعة، ولأن كتاب الشريعة للآجري جاء بعد كثير من كتب "السنة" فقد يمتاز ببحث بعض المسائل كما في الكلام على الوحي وكيفية نزوله على النبي -صلى الله عليه وسلم- والكلام على النبوة وما يتصل بها من المسائل. وقد طبع الكتاب للمرة الأولى بتحقيق الشيخ حامد الفقي بمصر سنة "1369هـ"، ثم كان موضوع رسالة علمية بجامعة أم القرى، بتحقيق الشيخ عبد الله الدميجي. 2- "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، ومجانبة الفرق المذمومة" للإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري "387هـ". ويقع في سبعة أجزاء، ففي الجزء الأول خمسة أبواب، بعد المقدمة، عن تأليف الكتاب ووجوب طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولزوم الجماعة والنهي عن الفرقة. وفي الجزء الثاني ثلاثة أبواب في الأمر بالتمسك بالسنة والجماعة، وذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة, ثم عدم السؤال عما لا يعني، والتحذير من التشدد والتعمق في المسائل. وفي الجزء الثالث ذم الخصومات والمراء في الدين, والتحذير من الطعن على الفقهاء لسبب الاختلاف, وأن ذلك وسيلة لنقض الإسلام ومحو شرائعه. وفي الجزء الخامس والسادس أبواب ثمانية عن الإيمان والإسلام وحكم تارك الصلاة والزكاة، والكلام على النفاق وعلامات المنافقين، وحكم مرتكب الذنب والخوف والرجاء. ويكمل أبحاث الإيمان في الجزء السابع ويختمه بباب عن المرجئة وما روي من الإنكار عليهم. وقد طبع من الكتاب مجلدان اثنان، بتحقيق د. رضا نعسان معطي.

_ 1 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 306, 307.

العقيدة

6- العقيدة: التعريف اللغوي: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "4/ 86، 87": "عقد: العين والقاف والدال أصل واحد يدل على شد وشدة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها. ومن ذلك: عقد البناء، والجمع: أعقاد وعقود ... وعقدت الحبل أعقده عقدا، وقد انعقد، وتلك هي العقدة.. وعاقدته مثل: عاهدته، وهو العقد والجمع: عقود اليمين، ومنه قول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . والعقد: عقد اليمين، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . وعقدة النكاح وكل شيء: وجوبه وإبرامه. والعقد في البيع: إيجابه ... وعقد قلبه على كذا فلا ينزع عنه. واعتقد الشيء: صلب، واعتقد الإخاء: ثبت ... "1. وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات" ص341: "العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء2، ثم يستعار ذلك للمعاني نحو: عقد البيع والعهد وغيرهما، فيقال: عاقدته وعقدته، وتعاقدنا وعقدت يمينه ... ". وقال الفيومي في "المصباح المنير" "2/ 421": "اعتقدت كذا: عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة: ما يدين الإنسان به. وله عقيدة حسنة: سالمة من الشك". ومن هذه النصوص نلاحظ أن مدار كلمة "عقد" على الوثوق والثبات والصلابة في الشيء. ومن هنا جاء تعريف العقيدة والاعتقاد، كما في "المعجم الوسيط":

_ 1 انظر مادة "عقد" في "لسان العرب": 3/ 296-300، "الصحاح": 2/ 510، 511، "أساس البلاغة": 2/ 131، 132، "تهذيب الأسماء واللغات": 3/ 27، 28, "الكليات": 1/ 241. 2 عقد البناء: ألصق بعض حجارته ببعض بما يمسكها، فأحكم إلصاقها.

"2/ 614" حيث قال: "العقيدة: الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده، والعقيدة في الدين: ما يقصد به الاعتقاد دون العمل، كعقيدة وجود الله وبعث الرسل، والجمع: عقائد". تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي: ومن هذا المعنى اللغوي أخذ تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي, فقال الشيخ حسن البنا -رحمه الله- في تعريف العقائد بصيغة الجمع: "العقائد: هي الأمور التي يجب أن يصدق بها قلبك، وتطمئن إليها نفسك، وتكون يقينا عندك، لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك"1. فهي إذن اعتقاد جازم مطابق للواقع لا يقبل شكا ولا ظنا، فما لم يصل العلم بالشيء إلى درجة اليقين الجازم لا يسمى عقيدة، وإذا كان الاعتقاد غير مطابق للواقع والحق الثابت ولا يقوم على دليل، فهو ليس عقيدة صحيحة سليمة، وإنما هو عقيدة فاسدة كاعتقاد النصارى بألوهية عيسى وبالتثليث. عناصر العقيدة, ومراحل تكوينها: والدراسة التحليلية للعقيدة التي ترادف لفظ "الإيمان" الذي سبق الحديث عنه، تشير إلى أن العقيدة الدينية "لا تعتمد على جانب واحد من جوانب الحياة: النفسية الوجدانية، والإرادية، والعقلية. ولكنها تتصل بها جميعا اتصالا وثيقا، ولا تكمل شخصية الفرد إلا إذا تضامنت شخصيته ونواحيه النفسية، وعملت كلها على تكوين عقيدته وباعدت بذلك بينه وبين كل تضارب أو صراع بين قواه المتعددة، وحل مكان ذلك الوئام والانسجام، وتم قبول العقل ورضا النفس واطمئنان

_ 1 "رسالة العقائد" للإمام الشهيد حسن البنا ص379 من مجموعة الرسائل.

القلب، وذلك هو كمال الشخصية وكمال العقيدة أيضا. وإذا كانت العقائد الدينية مرتبطة بالشخصية الإنسانية، وكانت متوجهة نحو العقل والوجدان والإرادة، لم تختلف في كيفية تكونها في النفس عن سائر الصفات النفسية الأخرى، التي تتكون منها الشخصية الإنسانية، فتتضامن الميول النفسية جميعها؛ من الشعور بالحاجة والضعف، وإحساس باللامحدود، ورغبة في كمال المعرفة وفي تحقيق الانسجام النفسي والانسجام الخارجي مع كل ما في البيئة الاجتماعية من معاني الإيحاء والتلقين والأمر والترغيب والترهيب في العمل على تكوين عقيدة من العقائد في النفوس، فتتكون كما تتكون سائر الصفات النفسية الأخرى، وتنمو وتبلغ ما قُدِّر لها من كمال وقوة، ثم تصبح موجها للمعتقد في حياته الفردية, وحياته بين الجماعة"1. وإذا كنا -فيما سبق آنفا- قد تعرفنا على معنى العقيدة والاعتقاد ومراحل تكونها في النفس، فمن المناسب أن نشير هنا إلى أن هذه الكلمة "العقيدة" أو "الاعتقاد" أصبحت اسم عَلَم على العلم الذي يدرس جوانب الإيمان والتوحيد التي سبقت الإشارة إليها، ووجدنا كل من يكتب في هذا الجانب يطلق على كتابه اسم العقيدة، فيقال مثلا: عقيدة الطحاوي، العقيدة النسفية، العقائد العضدية ... إلخ. وأصبحت هذه الكلمة مضافة إلى الإسلام عنوانا على المادة الدراسية في المعاهد والكليات والمدارس، فيقال: مادة العقيدة الإسلامية. مؤلفات في العقيدة: وفيما يلي أسماء بعض المؤلفات التي حملت هذا الاسم، بدءا بأقدمها وأسبقها:

_ 1 "لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها" للدكتور محمد أمين المصري ص118.

1- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، تأليف الشيخ الإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي "418هـ". وهذا هو الاسم الذي تجده مثبتا على غلاف الكتاب مخطوطا ومطبوعا، وقد يعرف أحيانا بكتاب "السنن" أو "شرح السنة" أو "أصول السنة" ... إلخ. ويقع الكتاب في ثمانية أجزاء مطبوعة، يشتمل على مقدمة ومجموعة كبيرة من الأبواب في الحث على التمسك بالسنة وبيان التوحيد، واعتقاد أهل السنة، ومباحث الإيمان، والرد على بعض الفرق، وعلامات الساعة والفضائل. وهو من أهم الكتب المصنفة في العقيدة، وقد استفاد منه من جاء بعده ونقل عنه1. 2- "عقيدة السلف أصحاب الحديث" للإمام أبي عثمان، إسماعيل الصابوني "449"، وهو مطبوع ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية" ثم طبع مستقلا في الكويت، بتحقيق بدر البدر. 3- "الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة" للإمام أبي بكر، أحمد بن الحسين البيهقي "458". وهو يشتمل على بيان ما يجب على المكلَّف اعتقاده والاعتراف به، مع الإشارة إلى أطراف أدلته على طريق الاختصار، وما ينبغي أن يكون شعاره، على سبيل الإيجاز2. وقد طبع الكتاب أكثر من مرة في الهند وفي مصر وفي بيروت. 4- "الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد" لإمام الحرمين أبي المعالي، عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني "478هـ", صاحب العقيدة النظامية

_ 1 انظر مقدمة الدكتور أحمد سعد حمدان للكتاب: 1/ 107 وما بعدها. 2 "الاعتقاد" للبيهقي ص4.

أيضا. وقد طبع بتحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وعلي عبد المنعم، بالقاهرة 1369هـ في مجلد واحد. 5- "الحجة في بيان المحَجَّة وشرع عقيدة أهل السنة" للإمام الحافظ قوّام السنة الأصبهاني "535هـ". وقد سبق التعريف بهذا الكتاب في فقرة "التوحيد"؛ لأن المؤلف نص على تسميته بـ "كتاب الحجة في بيان المحجة في شرح التوحيد"، ولكن طبع بالاسم الذي جاء في هذه الفقرة "وشرح عقيدة أهل السنة" أيضا. 6- "الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية" وشرحها "لوامع الأنوار البهية.." للعلامة الشيخ أحمد السفاريني 1118هـ. وهو كتاب حافل جليل يشتمل على مقدمة وعشرة أبواب, جمع فيه المؤلف أقوال السلف والخلف ومذاهب الفرق في مسائل الاعتقاد، وبيّن رجحان مذهب السلف على غيره مؤيدا ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم، فجاء كتابا حافلا بالرأي جامعا للمأثور، لا يكاد يستغني عنه طالب السعة والتحقيق في العقائد الإسلامية، ولا يستغني عنه بشيء من كتب العقائد التي اشتهرت عند بعض الطلبة مما وضع على طريقة المتكلمين1. وقد طبع الكتاب في مجلدين اثنين تزيد صفحاتهما عن التسعمائة صفحة، وعليه بعض التعليقات للشيخ عبد الرحمن أبي بطين والشيخ سليمان بن سحمان. ثم تتابعت الكتب والمؤلفات تحت هذا العنوان، ومنها مؤلفات كثيرة معاصرة مثل: "العقيدة في ضوء الكتاب والسنة" للدكتور عمر سليمان الأشقر، و"العقيدة في القرآن" للأستاذ محمد المبارك، وله أيضا: "نظام الإسلام, الجزء الأول في العقيدة", وكلاهما يتميز بالعمق والجدة والابتكار في الأسلوب والتجديد في طريقة العرض. ولشهرة هذا المصطلح أصبح يطلق كذلك على الكتب السابقة التي ألفت تحت عنوان السنة، فمثلا "العقيدة الطحاوية" كانت تسمى "بيان السنة والجماعة" وهكذا.

_ 1 من تقريظ الشيخ رشيد رضا للكتاب في مجلة المنار، والمنثور في آخر الجزء الأول من الكتاب. وقال ابن بدران في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" ص449: "وهو شرح مفيد، إلا أنه جرى فيه مسلكا وسطا بين أهل الأثر وطريقة المتأخرين. وسلك فيه غير مسلك التحقيق؛ وفي آخر النظم والشرح أشياء لم يرض بذكرها من سلف، ولم يجعلوها من الاعتقاد في شيء، كذكر المهدي وأمثال ذلك مما حقه أن يذكر في كتب الملاحم والمواعظ، لا في كتب الاعتقاد. وقد اختصر شيخ مشايخنا الشيخ حسن الشطي الحنبلي هذا الشرح، إلا أنه أخذ كلام السفاريني بلفظه، وحذف الأقوال والخلاف، فحق هذا المختصر أن ينسب للسفاريني لا له. وعلى كل, فهذا الشرح مفيد، وقد طبع واشتهر".

أصول الدين

7- أصول الدين: التعريف اللغوي: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "1/ 109": أصل: الهمزة والصاد واللام، ثلاثة أصول متباعد بعضها عن بعض، أحدها أساس الشيء, والثاني الحية، والثالث ما كان من النهار بعد العشي. فأما الأول: "فالأصل أصل الشيء ... " ثم ذكر بقية المعاني. وقال التهانوي في: "كشاف اصطلاحات الفنون" "1/ 122، 123": "الأصل -بفتح الأول وسكون الصاد- في اللغة: ما يبتنى عليه غيره من حيث إنه يبتنى عليه, وبقيد الحيثية هذه خرج أدلة الفقه مثلا من حيث إنها تبتنى على علم التوحيد، فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول ... ثم الابتناء أعم من الحسي والعقلي, فيشمل الكل". التعريف الاصطلاحي: وعند الفقهاء والأصوليين يطلق "الأصل" على معانٍ: أحدها: الدليل، يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. وثانيها: القاعدة الكلية التي تشتمل على جزئيات موضوعها، كقاعدة: لا ضرر ولا ضرار. وثالثها: الراجح، أي: الأولى والأحرى، يقال: الأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز. ورابعها: المستصحب، يقال: "تعارض الأصل والظاهر ... ". والأصول من حيث إنها مبنى وأساس لفرعها سميت قواعد، ومن حيث إنها مسالك واضحة إليها سميت مناهج, ومن حيث إنها علامات لها سميت أعلاما. والأصل في الدين: التوحيد، والأصل في الاعتقاد هو الإيمان بالمبدأ والمعاد ... 1. فإذا كان الأصل هو أساس الشيء أو ما يبتنى الشيء عليه وما يقوم عليه، فأصول الدين هي ما يقوم الدين عليه ويعتبر أصلا له. والدين الإسلامي يقوم على عقيدة التوحيد، ومن هنا سمي علم التوحيد أو العقيدة "علم أصول الدين" كما سماه بعضهم علم الأصول، أو علم الفقه الأكبر، ونحو ذلك من الأسماء المتقاربة، ومنهم من يجعل أصول الدين اسما لكل ما تتفق فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير،

_ 1 انظر: "الكليات" لأبي البقاء الكفوي: 1/ 188، 189.

سواء كان علميا أو عمليا، فيجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته ونحو ذلك من أصول الدين1. وقد عرّف بعض العلماء علم أصول الدين بأنه: "علم يقتدر معه على إثبات الحقائق الدينية, بإيراد الحجج لها، ودفع الشبه عنها"2. ملاحظتان: وإذا كان هذا التعريف منسجما مع ما يرمي إليه علماء الكلام غالبا، فينبغي أن نلاحظ هنا أمرين: أولهما: أن أصل الدين هو توحيد الله تعالى وعبادته وطاعته، وسمي هذا العلم بذلك لأن سائر أمور الدين كلها تبنى عليه. ثانيهما: أن بعض علماء الكلام أدخلوا في مسمى "أصول الدين" ما ليس من الدين حقيقة، ولا من أصوله، مثل الدلائل والمسائل الفاسدة التي أكثروا منها في كتبهم، وتجد أمثلة على هذا في نفي الصفات والقدر، ونحو ذلك من المسائل، كما تجد له أمثلة أخرى في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها، وما يتبع ذلك من المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل. وهذا كله، وأمثاله، لم يدع إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعله دليلا على الإقرار بالله الخالق ووحدانيته، ونبوة أنبيائه؛ ولذلك اعترف حذّاق علم الكلام بأن طريقتهم تلك ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا طريقة سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها

_ 1 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية": 19/ 134. 2 انظر: "أبجد العلوم" لصديق خان: 3/ 67، "مفتاح السعادة" لطاش كبرى زاده: 2/ 132.

محرمة عندهم، بل قال المحققون منهم: إنها طريقة باطلة، والالتزام بها يؤدي إلى لوازم باطلة معلومة الفساد في الشرع والعقل1. مؤلفات في أصول الدين: وهكذا أصبحت كلمة "أصول الدين" لقبا لعلم العقيدة، وأصبحت هذه المادة تدرس تحت هذا العنوان، وقد تُوُسِّع فيها فأصبحنا نجد كليات جامعية لأصول الدين، تعنى بدراسة العقيدة والقرآن وعلومه والحديث وعلومه، وكأنها هنا أخذت معنى أوسع وأشمل. ولعل أول من استخدم هذا المصطلح لعلم العقيدة -إن لم يشتهر وقتها- هو الإمام الشافعي رحمه الله، حيث قال في مفتتح كتابه "الفقه الأكبر": "هذا كتاب ذكرنا فيه ظواهر المسائل في أصول الدين التي لا بد للمكلف من معرفتها, والوقوف عليها". ثم وصلتنا كتب تحمل هذا الاسم، فيما يلي إلماعة إلى بعضها: 1- "الإبانة عن أصول الديانة" للإمام أبي الحسن الأشعري "329هـ". وهو كتاب متوسط الحجم يتضمن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، ويرد فيه على الفرق المخالفة كالمعتزلة والجهمية والرافضة، واستدل بأدلة قوية صحيحة ظاهرة من كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم2. وهو مطبوع متداول، وله طبعات عديدة يعوزها

_ 1 انظر: "درء تعارض العقل والنقل": 1/ 38-43، "مجموع الفتاوى": 3/ 303-308، "النبوات" ص38-44 لابن تيمية رحمه الله. وراجع فيما سبق ص109. 2 انظر: "نموذج من الأعمال الخيرية" لمحمد منير الدمشقي ص296.

التحقيق والعناية التي تليق بمكانته. 2- "الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة" لأبي عبد الله، عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري "387هـ". وهذا الكتاب يعرف باسم "الإبانة الصغرى" وتقدم الكلام على "الإبانة الكبرى" في فقرة الشريعة. 3- "أصول الدين" للإمام أبي منصور، عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي "429" ذكر فيه مؤلفه خمسة عشر أصلا من أصول الدين، وشرح كل أصل منها بخمس عشرة مسألة من مسائل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد، وما يليق بها من مسائل النبوات والمعجزات وشروط الإمامة والزعامة من الأولياء وأهل الكرامة، وأشار في كل مسألة منها إلى أصولها بالتحصيل دون التطويل؛ ليكون مجموعها للعالم تذكرة وللمتعلم تبصرة، وأشار فيها إلى نصرة الحق بدليل يكشف عنه، على الإيجاز من غير تطويل1. 4- وللإمام أبي عثمان، إسماعيل الصابوني "449هـ" كتاب سبق ذكره في العقيدة، يمكن أن نسلكه هنا لأنه قال في مقدمته: " ... سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولا في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين وعلماء المسلمين والسلف الصالحين ... فاستخرت الله وأثبتُّ في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار، رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار"2. وقد طبع هذا الكتاب ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، وطبع مستقلا في الكويت بتحقيق بدر البدر. 5- "الشامل في أصول الدين" لإمام الحرمين الجويني "478هـ" ويقع في خمس مجلدات، وتقدم أن له كتابا آخر باسم "الإرشاد" تقدم ذكره في "العقيدة". 6- "أصول الدين" لشمس الإسلام، علي بن محمد بن علي الجويني إلكيا الهراسي "504".

_ 1 انظر: "أصول الدين" للبغدادي ص1-3. 2 "عقيدة الصابوني" ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية": 1/ 106.

التصور الإسلامي

8- التصور الإسلامي: ألمحت فيما سبق إلى بعض العوامل والمؤثرات التي آلت بكتب العقيدة تحت مسمى "علم الكلام" إلى قليل أو كثير من الانحراف في المنهج وتعقيد في الأسلوب، مما جعلها تبتعد عن المنهج القرآني في مخاطبة النفوس والعقول لإنشاء العقيدة التي تؤثر في سلوك الإنسان وحياته، وكان لا بد من مواجهة هذه الآثار؛ فقام بعض المفكرين المعاصرين، باستجلاء الأساس الفكري العقائدي للإسلام وصياغته صياغة جديدة يرجى لها أن تكون مؤثرة؛ لأنها تربط المسلم بالمصدر الأساسي لهذه العقيدة, وهو "القرآن الكريم" والتطبيق العملي له وهو "السنة النبوية", فنشأ عندئذ البحث في "التصور الإسلامي ومقوماته". معنى التصور الإسلامي: والتصور الإسلامي هو: الفكرة العامة التي جاء بها الإسلام عن الوجود كله "الله، الكون، الحياة، الإنسان"، ومقومات هذا التصور هي: مجموعة الحقائق العقدية الأساسية التي تنشئ في عقل المسلم وقلبه ذلك التصور الخاص للوجود، وما وراءه من قدرة مبدعة وإرادة مدبرة، وما يقوم بين هذا الوجود وهذه الإرادة من صلات وارتباطات1.

_ 1 "مقومات التصور الإسلامي" للأستاذ سيد قطب ص41, ونشير هنا إلى أن سياسة التعليم في بعض البلاد العربية والإسلامية، والجامعات الإسلامية بدأت تهتم بدراسة العقيدة من هذا الجانب وتوليه اهتماما متميزا. انظر: "سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية" المواد "2، 3"، "منهج المرحلة الثانوية" ص12. وعن اهتمام جامعة الزيتونة في تونس بذلك انظر: "تفصيل النشأتين" للراغب الأصفهاني، مقدمة الدكتور عبد المجيد النجار ص96.

ظهور مصطلح التصور الإسلامي: 1- ولعل أول من استخدم هذا المصطلح "التصور الإسلامي" هو المفكر الإسلامي المعروف أبو الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، رحمه الله، فكتب في ذلك كتابه "الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها" وكتابه "نظام الحياة في الإسلام" وأقامهما على هذه الفكرة. 2- ثم أقام الأستاذ سيد قطب كتابه الرائد الممتع "العدالة الاجتماعية في الإسلام" على هذا الأساس, فكتب فيه فصلا عن نظرة الإسلام للوجود؛ ليكون قاعدة لبحث النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ووعد ببحث مفصل عن ذلك، وكان أن أنجز وعده، فصدر أولا "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" "القسم الأول: الخصائص" وبعد سنوات من استشهاده -رحمه الله- صدر القسم الثاني من الكتاب عن "مقومات التصور الإسلامي" في عام "1406هـ". ويحدد المؤلف -رحمه الله- منهجه في البحث فيقول: "منهجنا في البحث عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة -بعد الحياة في ظلال القرآن طويلا- وأن نستحضر -بقدر الإمكان- الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر، والملابسات الاعتقادية والاجتماعية والسياسية التي كانت البشرية تَتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدي. ثم

التيه الذي ضلّت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي! ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم أن لا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقا -لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية- من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته, نحاكم إليها نصوصه؛ أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة ... ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض حقائق "التصور الإسلامي"؛ اقتناعا منا بأن هنالك ارتباطا وثيقا بين طبيعة "الموضوع" وطبيعة "القالب", وأن الموضوع يتأثر بالقالب, وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه، إذا عرض في قالب، في طبيعته وفي تاريخه, عداء وجفوة وغربة عن طبيعته! الأمر المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي. والذي يدركه من تذوق حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآني! وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضا ... إننا لا نستحضر أمامنا انحرافا معينا من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الوقائع الإسلامي ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله، بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته", إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور -في ذاتها- كما جاء بها القرآن الكريم كاملة شاملة، متوازنة، متناسقة تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق هذه الفطرة وتوازنها. ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين؛ والاستغراق في دفعه، وفي صياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه ... منهج شديد الخطر وله معقباته في إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم ...

والانحراف انحراف على كل حال! "1. ولعله مما يحتم هذا المنهج, أن ندرك ثلاث حقائق هامة: الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلَّفات الحضارة الإغريقية واللاهوت المسيحي، وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة وتلوينه، لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلا مشوها مضطربا في لغة سقيمة، مما نشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح! الثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنم على سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة. الثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي, تلك التي أثارت ذلك الجدل منذ مقتل عثمان -رضي الله عنه- قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية، وبالأفهام والمفهومات انحرافا شديدا. فلما بدأت المباحث لتأييد وجهات النظر المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية، بحثا مغرضا في الغالب؛ ومن ثم لم تعد تلك المصادر -في ظل تلك الخلافات- تصلح أساسا للتفكير الإسلامي الخالص الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت, في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية ... "2. وهذا المنهج الذي سلكه المؤلف -رحمه الله- يجعل النص القرآني هو الأصل الذي يتولى تقرير الحقائق التي يتألف منها البحث، ويجعل عبارة المؤلف مجرد

_ 1 "خصائص التصور الإسلامي" مقتطفات من ص16-19. 2 "خصائص التصور الإسلامي" ص13، 14.

عامل مساعد يجعل النص القرآني مفهوما -بقدر الإمكان- للقارئ, فيعقد -بذلك- الألفة بين قارئ هذا البحث وبين القرآن ذاته.. فيتعود التعامل مع القرآن ذاته مباشرة، ويشعر أن في هذا القرآن غناء كاملا وشاملا في كل حقيقة من حقائق الوجود الأساسية1. ومهما قلت في هذا الكتاب الرائع الممتع، فلست ببالغ ما أريد، ولست موفّيه حقه، فحسبي هذه الإشارة إلى أهميته ومنهجه؛ ليكون ذلك دافعا للقارئ أن يعود إليه بالدراسة المتأنية العميقة، والبحث الدقيق، ليكون ذلك خطوة على طريق العمل بهذا التصور والتفاعل مع مقتضياته ومستلزماته. 3- وأما الأستاذ محمد المبارك -رحمه الله- فقد قدَّم كتابين في هذا المجال انطلاقا من الفكرة السابقة، أولهما: "العقيدة في القرآن" وهو بحث مبتكر في العقيدة، يعرض لها على أنها نظرة شاملة مترابطة الأجزاء، ويسلك في عرضها أسلوب العصر الحديث من حيث التعبير ومناهج البحث والاستدلال، بدلا من أن يسير في أعقاب المتكلمين ووفقا لطرائقهم في البحث، التي تأثروا فيها بنظريات ومفاهيم الفلسفة القديمة.. لا سيما بعد اتساع آفاق الكشف العلمي للكون أو الطبيعة2. ثم كتب أيضا الجزء الأول من "نظام الإسلام" -العقيدة والعبادة- نَهَجَ فيه المنهج نفسه، وهو أوسع من الكتاب الأول، حيث يعرض فيه لحقائق الوجود ويضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، فهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي التي تمد باقي أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها. وطريقة المؤلف في بحثه تعتمد على الأسس التالية:

_ 1 "مقومات التصور الإسلامي" ص38. 2 انظر: "العقيدة في القرآن" طبع دار الفكر في بيروت.

أولا: نصوص القرآن والسنة، وذلك بتتبع جميع الآيات والأحاديث التي تتصل بموضوع من الموضوعات، مراعيا في فهم الآيات تفسير الصحابة والصدر الأول دون التأويلات الشاذة. ثانيا: الاسترشاد بآراء السلف الأُوَل في فهم الإسلام, والاستئناس برأي من جاء بعدهم في مختلف العصور. ثالثا: الربط بين الأحكام الجزئية وجمع شتاتها واستخراج الأفكار العامة والقواعد الكلية التي تلتزمها، دون التزام التصنيفات والتقسيمات التي اعتمدها المؤلفون القدامى. رابعا: بذل الجهد في أن يكون تعليل الآراء وحكمة الأحكام مستخرجة من النصوص الأصلية نفسها، والبعد عن التعسف في التأويل والتعليل، والبعد عن الآراء الشاذة. خامسا: صياغة الأفكار صياغة تتناسب مع المخاطبين في هذا العصر من حيث طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع الحفاظ على المفاهيم الإسلامية دون انتقاص, أو تحريف1. 4- وهناك كُتَّاب آخرون أيضا عرضوا لمنهج في الكتابة العقدية جديد، ومن ذلك ما قام به الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه "فقه التدين, فهما وتنزيلا" الجزء الثاني، ومقدمته لكتاب "تفصيل النشأتين" للراغب الأصفهاني، وضع فيها بين أيدي الباحثين مخططا عاما لما يمكن أن يكون بنية عامة لمنظومة إسلامية في "الإنسان" تستمد مادتها من العقيدة الإسلامية2.

_ 1 "نظام الإسلام: العقيدة والعبادة"، ص "21-25". 2 انظر: "تفصيل النشأتين" تقديم المحقق ص9 وما بعدها. وقد أشار إلى جملة ممن كتب في موضوع "الإنسان" وعجبت من أنه لم يشر إلى أول من خص هذا الموضوع بكتاب رائد فريد، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، فلست أدري هل اطلع على "الخصائص" و"المقومات" أم لم يطلع عليهما؟ وقد صدرا منذ أمد، وتكررت طبعاتهما، وصدرت دراسات عنهما في المغرب العربي الذي يعيش فيه الدكتور النجار بعد دراسته في مصر.

مصطلحات وتعريفات

مصطلحات وتعريفات أولًا: أهل السنة والجماعة مدخل ... مصطلحات وتعريفات: يتردد في هذه الصفحات، وفي غيرها من كتب العقيدة الإسلامية، بعض الألفاظ والمصطلحات، ينبغي أن نحدد معناها، وأن نتعرف عليها؛ منعا للالتباس واختلاط المفاهيم. وسنشير فيما يلي إلى ثلاثة مصطلحات هي: أهل السنة والجماعة، والسلف، وأهل الحديث. أولا: أهل السنة والجماعة ويجمع هذا المصطلح وصفين اثنين لأصحابه، وهما: السنة والجماعة. وقد تقدم فيما سبق شرح معنى السنة في اللغة العربية وفي الاصطلاح الشرعي العام، وما يراد بها في كتب العقيدة1. ولذا نشير هنا فقط إلى معنى الجماعة، ومن ثَمَّ نجمع بين هذين الوصفين فيتضح لنا عندئذ معنى هذا المصطلح المركب منهما. الجماعة في اللغة: مأخوذة من الجمع، وهو ضمّ الشيء بتقريب بعضه من بعض. يقال: جمعته فاجتمع2. قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "1/ 479": "الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضامّ الشيء. يقال: جمعت الشيء جمعا. والجُمَّاع: الأُشَابة من قبائل شتى.. وقِدْر جِماع وجامعة؛ وهي القدر العظيمة ... ". والجميع: ضد المتفرق، والمجموع: الذي جمع من هنا وهنا، وإن لم يجعل كالشيء الواحد، وفلاة مجمِّعة: يجتمع القوم فيها ولا يتفرقون؛ خوف الضلال ونحوه، كأنها هي التي جمعتهم. وكلمة جامعة: كثيرة المعاني على إيجازها, وجمعها: جوامع3، كما في الحديث: "أُوتيتُ جوامع الكَلِم" 4. والجماعة: العدد الكثير من الناس ... وهي أيضا: طائفة من الناس, يجمعها غرض واحد5. والجماعة: هي الاجتماع، وضدها: الفُرقة.. وصار لفظ الجماعة اسما لنفس القوم المجتمعين6.

_ 1 انظر فيما سبق، ص90-101. 2 "مفردات القرآن" للراغب ص96. 3 "الصحاح" للجوهري: 3/ 1199، 1200، وانظر: "لسان العرب"، "القاموس المحيط", مادة "جمع". 4 قطعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم في "صحيحه"، كتاب المساجد برقم "523": 1/ 371. 5 "المعجم الوسيط": 1/ 135. 6 "مجموع فتاوى ابن تيمية": 3/ 157.

عناصر في تعريف الجماعة

عناصر في تعريف الجماعة: ومن هذه النصوص اللغوية وأمثالها نلاحظ أن الجماعة تتكون من جملة عناصر، وهي: 1- الضم والتقريب بين أناس من هنا وهناك، أي: من جهات شتى. 2- وفيها معنى العظمة والكثرة. 3- وأن الاجتماع وعدم التفرق يهدف إلى عدم الضلال والضياع. 4- وللجماعة الكثيرة هذه هدف وغرض واحد تلتقي عليه، فهي تسير على منهج واحد لتصل إلى غرضها وغايتها. ولعل هذه الصفات والأمور كلها لا يخرج عنها هذا المفهوم العام, والمعنى الذي يريده العلماء من هذا المصطلح "أهل السنة والجماعة". الأمر بلزوم الجماعة: وقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالجماعة والائتلاف, ونهى عن الفرقة والاختلاف, فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] ... إلخ. وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بملازمة الجماعة والتحذير من مفارقتها, كقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية" 1. وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد" 2. وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجماعة رحمة، والفرقة عذاب" 3 ... إلخ.

_ 1 رواه مسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ... برقم "1848": 3/ 1476. 2 أخرجه الترمذي في الفتن، باب في لزوم الجماعة: 6/ 185، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه، وصححه الحاكم: 1/ 114، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 12، وابن بطة: 1/ 285. 3 أخرجه الإمام أحمد: 4/ 278، وابن أبي عاصم: 1/ 45، وابن بطة في "الإبانة الكبرى": 1/ 287، قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 182: "رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني، ورجاله ثقات", وذكره الألباني في "الصحيحة": 2/ 276. وانظر في الأمر بلزوم الجماعة والتمسك بالسنة: "الإبانة الكبرى": 1/ 270 وما بعدها، و"السنة" لابن أبي عاصم: 1/ 39 وما بعدها، "شرح أصول الاعتقاد": 1/ 96-113، "مجمع الزوائد": 5/ 216-225.

معنى جماعة المسلمين

معنى جماعة المسلمين: واختلف العلماء في المراد بهذه الجماعة التي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأحاديث, وما في معناها بملازمتها. وقد أجمل الشاطبي -رحمه الله- ذلك في خمسة أقوال: الأول: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، فالسواد الأعظم هم الناجون من الفِرَق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق. وممن قال بهذا: أبو مسعود الأنصاري, وابن مسعود. فروي أنه لما قتل عثمان -رضي الله عنه- سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر. وقال ابن مسعود: عليكم بالسمع والطاعة؛ فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة. فعلى هذا القول: يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها. ومن سواهم داخلون في حكمهم؛ لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذّوا، وهم نهبة الشيطان، ويدخل في هؤلاء الخارجين عن الجماعة جميع أهل البدع؛ لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال.

والثاني: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية؛ لأن جماعة الله هي العلماء، جعلهم الله حجة على العالمين، وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة" 1، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع عند النوازل، وهي تبع لها. فمعنى قوله: "لن تجتمع أمتي": لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة. وممن قال بهذا: عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وجماعة من السلف، وهو رأي الأصوليين. فقد قيل لعبد الله بن المبارك: من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال: أبو بكر وعمر، فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد. فقيل: هؤلاء ماتوا! فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري جماعة "وهو محمد بن ميمون المروزي، سمع من أبي حنيفة، توفي سنة 168هـ". فعلى هذا القول: لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد؛ لأنه داخل في أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية, ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين.

_ 1 روي هذا الحديث من طرق، عن أبي مالك الأشعري وابن عمر وابن عباس وأنس وسمرة وأبي نضرة وأبي أمامة وأبي مسعود، بألفاظ كثيرة، عند أبي داود والترمذي والحكم وابن أبي عاصم في السنة. قال الزركشي بعد أن ساق رواياته كلها وطرقه: واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة، ولا تخلو من علة، وإنما أوردت منها ذلك ليتقوى بعضها ببعض، ومن شواهده ما في الصحيحين عن أنس قال: مُرَّ على النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت" ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: "وجبت" فقيل: يا رسول الله, لِمَ قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت؟ قال: "شهادة القوم، والمؤمنون شهداء الله في الأرض" وفي لفظ مسلم: "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار, أنتم شهداء الله في الأرض" ثلاثا. انظر: "المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر" للإمام بدر الدين الزركشي ص"57-62" بتحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي.

والثالث: أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص؛ فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا، وقد يقع من سواهم فيها. ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله" 1. وقوله: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" 2. فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر. وممن قال بهذا القول: عمر بن عبد العزيز، فقد روى ابن وهب عن مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده سننا، الأخد بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفها! من اهتدى بها مهتدُ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فقال مالك: فأعجبني عزم عمر على ذلك. فعلى هذا القول: لفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام: $"ما أنا عليه وأصحابي"3. فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنّوه.

_ 1 أخرجه مسلم في الإيمان, باب ذهاب الإيمان آخر الزمان برقم "148": 1/ 131. 2 أخرجه مسلم في الفتن, باب قرب الساعة برقم "2949": 4/ 2268. 3 عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" وفي لفظ: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة عن عدد من الصحابة بألفاظ مختلفة، فأخرجه أبو داود في كتاب السنة: 7/ 3، 4، والترمذي في الإيمان: =

فكل ما سنوه فهو سُنة من غير نظر فيه، بخلاف غيرهم، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر، ردا وقبولا، فأهل البدع إذًا غير داخلين في الجماعة قطعا، على هذا القول. والرابع: أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام, إذا اجتمعوا على أمر، فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام- أن لا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف، فواجب تعرّف الصواب فيما اختلفوا فيه. قال الشافعي: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب ولا سنة ولا قياس، وإنما تكون الغفلة في الفرقة1. وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني، وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول، وهو الأظهر. وفيه من المعنى ما في الأول: من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا، فهم -إذًا- الفرقة الناجية. والخامس: ما اختاره الإمام الطبري من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير. فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا

_ = 7/ 398، وابن ماجه في الفتن: 2/ 1321، والدارمي في السير: 2/ 241، وابن حبان برقم "1834" من "موارد الظمآن"، والحاكم: 1/ 128، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 7، والإمام أحمد في "المسند": 2/ 232، 3/ 120، 4/ 102. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني رقم "203، 204"، "الوصية الكبرى" ص"46"، وللشيخ سلمان العودة دراسة موسعة للحديث وطرقه في "صفة الغرباء" "20-51". 1 انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي ص476.

عليه من تقديمه عليهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم, فاضربوا عنقه كائنا من كان" 1. قال الطبري: فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة. قال: وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير، كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية، فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري، وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم، وهو السواد الأعظم. قال: وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فروي عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قال عمر -حين طُعن- لصهيب: صَلِّ بالناس ثلاثا وليدخل عليَّ عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، وليدخل ابن عمر في جانب البيت، وليس له من الأمر شيء، فقم يا صهيب على رءوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه السيف، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رءوسهما حتى يستوثقوا على رجل. قال: فالجماعة التي أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف، فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته، وقلة العدد المنفرد عنهم. قال: أما الخبر الذي ذكر فيه: "أن لا تجتمع الأمة على ضلالة" فمعناه: أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جمعهم عن العلم

_ 1 انظر: "صحيح مسلم"، كتاب الإمارة: 3/ 1480.

ويخطئوه، وذلك لا يكون في الأمة. وحاصله: أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة, وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم1. وما ننتهي إليه في معنى أهل السنة والجماعة: أنها الفرقة التي وعدها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنجاة من بين سائر الفرق. ومدار هذا الوصف على اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وموافقة ما جاء به من الاعتقاد والعبادة والهدي والسلوك، وملازمة جماعة المسلمين، وهو الحق الذي ينبغي التمسك به. ولذلك قال ابن أبي شامة، رحمه الله: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلا والمخالف كثيرا؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم"2. قال عمرو بن ميمون: قدم علينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقع حبه في قلبي، فلزمته حتى واريته في التراب بالشام، ثم لزمت أفقه الناس بعده: عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ثم ذُكر يوما عنده تأخير الصلاة عن وقتها، فقال: صلوها في بيوتكم فهي الفريضة, واجعلوا صلاتكم معهم نافلة. قال عمرو بن ميمون: فقلت لعبد الله بن مسعود: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدِّثون! قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصَلِّ مع الجماعة وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا, قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، إنما الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. وفي رواية: فقال ابن مسعود: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى. قال نعيم بن حماد: يعني: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ3.

_ 1 "الاعتصام": 2/ 260-265 باختصار يسير. وانظر: "فتح الباري": 13/ 37. 2 انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص19. 3 أخرجه بنحوه: اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد": 1/ 108، 109، وبهذا اللفظ نقله ابن أبي شامة من رواية البيهقي في "كتاب المدخل"، ولم أجده في القسم المطبوع منه. انظر: "الباعث" لابن أبي شامة ص19، 20، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 13/ 179.

تسمية أهل السنة والجماعة

تسمية أهل السنة والجماعة: وقد سمي أهل السنة والجماعة بهذا الاسم؛ لتمسكهم بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والعمل بها، واتباعهم لما جاء به، ولأنهم يعتصمون بالحق وما عليه جماعة المسلمين، فلا يفترقون في الدين. وبذلك يكونون على الجادة من الصراط المستقيم الذي هو دين الإسلام المحض الخالص، وهو ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو السنة والجماعة، فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض الخالص1. وأهل السنة والجماعة ليسوا محصورين في فئة معينة أو جماعة معينة، أو بلد أو زمن دون الآخر، إذ كل من اتصف بسمات وصفات أهل السنة وكان على منهجهم فهو داخل في دائرة أهل السنة والجماعة. وبهذا يلتقي مفهوم أهل السنة مع مفهوم السلف الآتي:

_ 1 انظر: "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص45، "مفهوم أهل السنة والجماعة" د. ناصر العقل ص77، 78، "صفة الغرباء" سليمان العودة ص125-127، "الفَرْق بين الفِرَق" للبغدادي ص318-361، "التبصير في الدين" للإسفراييني ص185-187.

ثانيا: السلف

ثانيا: السلف في الإطلاق اللغوي: قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" "3/ 95": "سلف: السين واللام والفاء، أصل يدل على تقدم وسبق. من ذلك: السلف الذين مضوا، والقوم السُّلاف: المتقدمون. والسُّلاف: السائل من عصير العنب قبل أن يعصر، والسُّلْفة: المعجَّل من الطعام قبل الغداء ... ". وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات" ص"239": "السلف: المتقدم، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56] ، أي: معتبرا متقدما، وقال تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ، أي: يتجافى عما تقدم من ذنبه.. ولفلان سلف كريم, أي: آباء متقدمون، جمعه: أسلاف وسلوف ... ". وقال الدامغاني في "الوجوه والنظائر لألفاظ القرآن" ص243: "السلف في القرآن على وجهين: فوجه منهما؛ السلف: العبرة والعظة، كقوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} [الزخرف: 56] . يعني: عظة لمن يأتي بعدهم. والوجه الثاني، السلف: ما تقدم من الزمن الأول، كقوله تعالى: {وَأَن

تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] ، أي: مضى من الزمن الأول". وفي الاصطلاح الشرعي: تطلق كلمة السلف بإطلاقين؛ أحدهما خاص والآخر عام: ففي الإطلاق الخاص عرّفه كل طائفة من العلماء بحسب مذهبهم، فقال علماء الحنفية: السلف: من أبي حنيفة إلى محمد بن الحسن "189هـ"، ويقابله الخَلَف: من محمد بن الحسن إلى شمس الأئمة الحلواني "448هـ". ومن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل يقول: السلف الإمام أحمد بن حنبل، ومن تقدمه من الصحابة والتابعين. وعلماء الشافعية والمالكية وعلماء الكلام، يقولون: السلف ما كان قبل الأربعمائة، والخلف ما كان بعد الأربعمائة1. وفي الإطلاق الشرعي العام, يراد بالسلف: كل من يُقَلَّد مذهبه في الدين ويُقتفَى أثره فيه، كالصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين2. ثم أصبح مع التطور التاريخي لظهور الفرق الإسلامية منحصرا في المدرسة السلفية التي حافظت على العقيدة والمنهج الإسلامي طبقا لفهم الأوائل الذين تلقوه جيلا بعد جيل. وأبرز سماتهم هو التمسك بمنهج النقل؛ ولهذا عرفوا في البداية بأنهم "أهل الحديث" للتمييز بينهم وبين من انسلخ عن هذا المنهج من الشيعة والمعتزلة والخوارج وغيرهم, كما يعرفون أيضا بأنهم "أهل الأثر". وهذه

_ 1 "نموذج من الأعمال الخيرية" ص10، 11، وانظر: "الكليات": 3/ 34. 2 انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون": 4/ 15، "الكليات": 3/ 34.

النسبة إلى الأثر، تعني: الحديث وطلبه واتباعه1. ومن هذه الإطلاقات لكلمة السلف نخلص إلى أن هذا اللفظ يشمل: الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة الذين يقتدى بهم، كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وكذلك سفيان الثوري, وابن عيينة, وحماد بن سلمة, وحماد بن زيد, وابني أبي شيبة, والبخاري, ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة ... وغيرهم من الأئمة الأجلاء الأعلام الذين شُهد لهم بالإمامة في الدين والورع والتقوى ظاهرا وباطنا، وتلقى الناس كلامهم بالقبول والعمل به خلفا عن سلف2 دون اعتبار لزمن معين، وعندئذ يتحدد مذهب السلف بما كان عليه الصحابة الكرام والتابعون وتابعوهم من الأئمة المذكورين3. ويخرج عن السلف كل من رُمي ببدعة أو اشتهر بلقب غير مرضي، أي: الفرق المخالفة للسنة ولمذهب الصحابة وما كانوا عليه، مثل: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة, والجبرية، والمعتزلة، والمشبهة أو المجسمة وسائر الفرق الضالة، فهؤلاء ليسوا على ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته، بل هم مخالفون لهم، ومخالفون لأهل السنة والجماعة من فقهاء الأمة وعلمائها الذين يقتدى بهم في الدين4. وكذلك: ليس من مذهب السلف -رحمهم الله- حمل الناس على اعتقاد لم يعتقده الرسول وأصحابه، ولا امتحان الناس بما لم يمتحنهم الله تعالى به، والعمل على الفتنة وتفريق صفوف الأمة.

_ 1 "قواعد المنهج السلفي" ص23. 2 انظر: "لوامع الأنوار البهية": 1/ 20 "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد" لابن بدران ص421, 422، "نموذج من الأعمال الخيرية"، ص11، 12، "الحجة في بيان المحجة": 2/ 473-476. 3 المراجع السابقة، وانظر: "السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" ص10، 11، "أهل السنة والجماعة، معالم الانطلاقة الكبرى" ص51، 52. 4 المراجع السابقة، و"الفرق بين الفرق" للبغدادي ص318-322.

وليس من مذهب السلف -وإن ادعاه قوم- أن يطلق إنسان لسانه بالطعن والشتم على الأئمة المتقدمين، ولا سيما الأئمة الأربعة، ويحط من قدرهم بنسبته إياهم إلى الجهل أو الخطأ أو تعمد التغيير في الأحكام، ويستدل على مدعاه بآية يأخذها على ظاهرها دون أن يفقه معناها، أو يستدل بحديث لا يدري قول الأئمة فيه، ويدعو الناس والعوام إلى الأخذ من القرآن أو الحديث من غير اتباع لقول أحد من الأئمة، ويقول: هذا كتاب الله وسنة رسول الله بين أيدينا، فأي حاجة بنا إلى تقليد فلان أو فلان، وهم رجال ونحن رجال! وهذا القول ليس بحق، أو هو حق أريد به باطل، بل هو محض باطل أراد به صاحبه تشكيك الناس أو الوصول إلى الشهرة بينهم، إذ ليس بوسع كل أحد أن يأخذ أي حكم يريده من القرآن أو السنة إلا بمراجعة ما ورد عن الأئمة في ذلك الحكم، فهم أقرب عهدا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر علما وإحاطة بما جاء عنه، وفي الآيات والأحاديث ما هو منسوخ، وما هو مقيَّد وما هو محمول على غيره، كما هو مذكور في علم الأصول. وليس من مذهب السلف أيضا: تأويل القرآن الكريم بالرأي الفاسد, دون النظر إلى ما ورد عن أئمة اللغة وما فسر به الصحابة وما ورد في الموضوع من آيات وأحاديث، وإلا فإنه يأخذ بعض الآيات والأحاديث، يضرب بعضها ببعض، أو يأخذ بعض الأدلة ويترك سائرها أو يترك المحكم من النصوص في القرآن والسنة، فيأخذ ما يتفق وعقله من المتشابه ويترك ما لا يتفق معه، أو ما لا يعرف وجهه ومعناه، أو يحمل نصوص الشرع على وفق هواه ومذهبه الذي ينتحله باطلا1. وهذا كله يشير إلى ما يقابل مذهب السلف، وهو مذهب الخَلَف، وهم المخالفون للسلف من علماء الكلام والمتفلسفة، الذين تركوا الكتاب والسنة في الاستدلال على العقيدة ومسائلها؛ ليتبعوا منهجا عقليا يعارضون به المنهج الشرعي، ويؤولون النصوص الشرعية التي يظنونها مخالفة للعقل حسب فهمهم لها.

_ 1 انظر في هذه المعاني السابقة: "نموذج من الأعمال الخيرية" ص12-17، "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص63، 64، "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم": 13-162، 163، "الاعتصام": 1/ 220، وما بعدها.

ثالثا: أهل الحديث

ثالثا: أهل الحديث الحديث في اللغة: ضد القديم، ويستعمل في كثير الكلام وقليله، وهو اسم من التحديث بمعنى الإخبار, ثم سمي به كل ما صدر عن النبي من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلْقي أو خُلُقي. وبعض العلماء يضيف إلى ذلك: ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي أو ما صدر عنهما. وعندئذ تصبح كلمة الحديث مرادفة للخبر عند علماء الحديث. وهو مرادف كذلك لكلمة "الأثر" عند بعض العلماء1. وتقدم -فيما سبق- أن الفرق بين السنة والحديث: أن الحديث كل واقعة نسبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كان فَعَلَها مرة واحدة في حياته الشريفة، أو رواها عنه شخص واحد. وأما السنة, فهي الطريقة المتواترة للعمل بالحديث, بل القرآن أيضا. فقد ورد -مثلا- في القرآن الكريم: الأمر بإقامة الصلاة، وبين فيه بعض تفاصيلها أيضا، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- صلى بموجب ذلك وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 2 واستمر على تلك الكيفية, وكذلك الصحابة والتابعون وسائر المسلمين. وهكذا الأمر في الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية. فالصورة العملية التي رسمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لألفاظ القرآن هي السنة، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن3.

_ 1 انظر: "الباعث الحثيث" لابن كثير ص17، "الكليات": 2/ 202، 203، "كشاف اصطلاحات الفنون": 2/ 13، 14، "قواعد التحديث" ص61-63، "منهج النقد في علوم الحديث" ص26-29. 2 خرجه البخاري عن مالك بن الحويرث، كتاب الأذان: 2/ 111, وفي الأدب: 10/ 438. 3"تحقيق معنى السنة" ص20-22.

تعريف أهل الحديث

تعريف أهل الحديث: فإذا تعرفنا على معنى الحديث، فإننا نستطيع أن نتعرف على "أهل الحديث"؛ وهم الذين سلكوا طريق الصالحين واتبعوا آثار السلف من الماضين، وكان لهم عناية خاصة بأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- جمعا وحفظا ورواية, وفهما وعملا في الظاهر والباطن. فكانوا بذلك ألزم الناس لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقدِّمون بين يديه، ولا يرفعون صوتهم فوق صوته بتقديم رأي أو هوى, أو استحداث بدعة. ومنهم: كل عامل فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن، وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم؛ لأنهم أخذوا دينهم وهديهم من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم ذلك اتفاقا في الدين وائتلافا، رغم بعد ديارهم واختلاف أزمانهم1 وكان المتقدمون يطلقون مصطلح "أهل الحديث" على المدرسة التي تقابل أهل الكلام، الذين عابهم السلف لما أدخلوه في الاعتقاد من مصطلحات وأفكار غريبة على المنهج الإسلامي، ولذلك اشتد النكير عليهم من علماء السنة. وهم أنفسهم -أي: علماء الكلام- كان يطلق عليهم "أهل الرأي"2؛ لأنهم يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة، ويعطون عقولهم سلطة الحكم على النصوص الشرعية. وهؤلاء هم أعداء السنن حقيقة, كما جاء وصفهم عن عمر رضي الله عنه.

_ 1 انظر: "معرفة علوم الحديث" ص2-4، "الحجة في بيان المحجة": 2/ 220-236, "شرف أصحاب الحديث" ص8-11، "فتاوى شيخ الإسلام": 4/ 91-95، "قواعد التحديث" ص60. 2 وإن كانت تطلق أيضا على مدرسة الكوفة الفقهية، التي يمثلها الحنفية فيما بعده، ولكن ليس المراد بهم عند المقابلة بأهل الحديث فقهاء الحنفية، وإنما يراد بهم المعتزلة وأهل الكلام. ويؤيد هذا أن مدرسة الكوفة والحجاز كلتيهما "الحنفية وأهل الحديث" تعتمدان على القرآن والحديث، وكذلك تقولان بالرأي بدرجة متقاربة وصور متشابهة، ويشهد له أيضا: أن ابن قتيبة -رحمه الله- وهو صاحب الهجوم الشديد على أهل الرأي، عد منهم في كتابه: "المعارف"؛ الأوزاعي، وسفيان الثوري، والإمام مالكا، وهؤلاء ليسوا من مدرسة الحنفية أو الرأي على ما هو المشهور. انظر: "الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث" ص21 وما بعدها، "المعارف" لابن قتيبة ص494-499.

إطلاق خاص

إطلاق خاص: ثم أصبحت كلمة "أهل الحديث" تطلق بمعنى أخص على فئة معينة, ممن يُعنَون بدراسة الحديث النبوي رواية ودراية، أو رواية فحسب، أو ممن ينتسبون إلى هذا الأمر ويجتمعون عليه نظرا، ولو لم يكن لهم نصيب يذكر من العلم بالحديث النبوي الشريف. وينبغي التنبيه إلى تغير المصطلحات بمرور الأزمنة، واختلاف مدلولاتها بين عصر وآخر عند كثير من الناس. وإذا كان الأئمة -يرحمهم الله- يطلقون على أهل الحديث -في الماضي- أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فإن اصطلاح أهل الحديث قد ضاقت دائرته عند الكثيرين حتى صار عَلَما على فئات من أهل الحديث، ولكنها ليست أهل الحديث كلهم. ولذلك لا يحسن إطلاق "الفرقة الناجية" على فئات محددة تتسمَّى بأهل الحديث، وإذا كانت هي -فعلا- من أهل الحديث، يل ينبغي إعادة هذا الاصطلاح إلى مفهومه الواسع الصحيح1. وإذا لاحظنا فيما سبق أن مفهوم "أهل السنة والجماعة" يلتقي مع مفهوم "السلف"، فإن مفهوم "أهل الحديث" أو "أهل الأثر" بالمعنى الواسع لا يخرج عنهما كذلك؛ ولذلك لم يكن مذهب السلف وأهل السنة مذهبا جديدا مبتدعا، بل هو المنهج الذي كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، وكذلك سائر الأئمة، وإنما تميزوا -فيما بعد- بهذا اللقب أو التسمية في مقابل أهل البدع والأهواء والفرق المخالفة، ومن هنا جاء الحديث عن عقيدة أهل السنة والجماعة. فإذا لم يكن ما يدعو للمقابلة والتميز لعدم وجود ما يناهضها، يعود الحديث عندئذ عن العقيدة الإسلامية، هكذا بعامة, والله الموفق.

_ 1 "صفة الغرباء" ص118.

وسطية أهل السنة والجماعة

وسطية أهل السنة والجماعة: ألمعنا -فيما سبق- إلى وجوب لزوم السنة والجماعة، وتعرفنا على معناهما، وعلى وجه تسمية الفرقة الناجية باسم "أهل السنة والجماعة"، مما لا نجد حاجة لإعادته هنا. ولذلك نكتفي بالإشارة إلى أن هذا الالتزام بالسنة والجماعة والاعتصام بهما هو من أعظم وأهم سمات الفرقة الناجية، وأما السمة الثانية التي تتبعها ونخصها بالذكر في هذه الفقرة فهي: الوسطية بين الفرق الأخرى. والوسطية تعني الاعتدال والتوازن بين أمرين, أو طرفين فيهما إفراط وتفريط أو غلو وتقصير. وهذه الوسطية إذن هي العدل والطريق الأوسط الذي تجتمع عنده الفضيلة. وأهل السنة والجماعة يتميزون بالوسطية والاعتدال بين الفرق الأخرى التي تقف على طرفي نقيض، فتتجه إحداهما لأقصى اليمين مثلا وتقف الأخرى في أقصى اليسار. وتظهر هذه الوسطية في أبواب الاعتقاد ومسائله بعامة، نجتزئ منها بجملة أمثلة تشير إلى سائرها1: أ- ففي أسماء الله الحسنى وصفاته العظمى؛ يؤمن أهل السنة والجماعة بكل ما وصف الله تعالى به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبجميع الأسماء الحسنى التي بلغت الغاية في الحسن والكمال والتنزيه، يؤمنون بذلك كله من غير تحريف لمعناها أو نفي لها، ومن غير تكييف ولا تمثيل، حيث لا يعينون كنه الصفة وكيفيتها مما استأثر الله تعالى بعلمه، ولا يمثلونها أو يشبهونها بصفات المخلوقين. وبذلك يكون أهل السنة والجماعة وسطا بين أهل التعطيل والنفي الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما وصف الله به نفسه، حتى

_ 1 انظر بالتفصيل: "الوصية الكبرى"، ص52-55، "شرح العقيدة الواسطية"، للهراس ص20-32، "التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية" ص191-204، "شرح العقيدة الطحاوية" ص216 وما بعدها، "467" وما بعدها.

يشبهوه بالعدم والموات, وبين أهل التمثيل والتشبيه الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. ب- وفي باب الخَلْق والأمر، يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله تعالى على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد ويقلّب قلوبهم، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق الأعيان والصفات والحركات. ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار فيما يعمله، ولا يقولون: إنه مجبور؛ لأن المجبور هو من أُكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره. وبذلك يكون أهل السنة والجماعة وسطا بين القدرية، الذين يكذبون بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين الجبرية المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] . جـ- وفي أسماء الإيمان والدين وأحكام أهلها من الوعد والوعيد؛ يقف أهل السنة والجماعة موقفا وسطا حيث يؤمنون أن أهل الكبائر من المسلمين أو فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الكامل الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ادّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. وبذلك يتوسطون بين الوعد والوعيد, ويؤمنون بالآيات كلها في هذا وذاك. فهم -إذن- وسط بين الوعيدية، الذين غلّبوا آيات الوعيد والتخويف, فحكموا على مرتكب الكبيرة بالخروج من الإيمان بالكلية كالخوارج، أو بالخروج من الإيمان

وعدم الدخول في الكفر كالمعتزلة القائلين بأنه في منزلة بين المنزلتين، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يرون أن مرتكب الكبيرة غير فاسق، وأنه لا يضر مع الإيمان أي ذنب، فهو مؤمن كامل الإيمان، وأن الأعمال الصالحة ليست من الدين، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية تغليبا لجانب الوعد وآياته، فكل من هذين الفريقين يؤمن بجانب ويهمل الآخر. د- وفي موقفهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- يحبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُفْرِطون في حب أحد منهم ويتجاوزون به الحد، ولا يتبرءون منهم، ولا يذكرونهم إلا بخبر، فإن حبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، وقد شهد الله تعالى لهم بالخير والفضل، وتواردت الأحاديث النبوية في ذلك، وفضلهم مأثور غير منكور. وبذلك يكونون وسطا بين الرافضة الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيا أو إلها، وبين الجافية من الخوارج الذين يعتقدون كفر علي وعثمان -رضي الله عنهما- ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي -رضي الله عنه- وإمامته. وكل من هاتين الفرقتين تجمع غلوا وتقصيرا في الوقت نفسه، فكل منهما يحب صحابيا ويغالي فيه ويعادي الآخرين ويبغضهم، فيجمعون بذلك بين الإفراط والتفريط. وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله، يقف أهل السنة والجماعة موقفا وسطا؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.

مصادر العقيدة

مصادر العقيدة مدخل ... مصادر العقيدة: تمهيد: يتعرف الإنسان على الموجودات من حوله، ويحكم عليها، ويعلمها علما يقينيا أو ظنيا، بطرق وأسباب؛ قد تكون من داخل نفس الإنسان، وقد تكون من خارجها؛ فإذا كانت من خارج النفس, فهي الخبر الصادق بدلالته على ما يخبر عنه، وإن كانت من داخل النفس فهي الحواس الظاهرة والباطنة، والنظر العقلي المتدبر بحدوده وضوابطه. وكذلك فطر الله تعالى الإنسان على معرفة أمور كثيرة يحتاج إليها في حياته، ومن أعظم هذه الأمور: المعرفة الفطرية المغروزة في نفسه عن الله تعالى ووحدانيته وقدرته، كما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا كانت الحواس هي وسيلتنا للتعرف على عالم الشهادة أو الطبيعة "الآفاق والأنفس"، وكذلك العقل وسيلة ثانية، فإن كلا منهما لا يستطيع أن يعمل في مجال عالم الغيب -والإيمان به من أركان العقيدة الإسلامية- ولذلك فإن المصدر الذي نستقي منه العقيدة, ينبغي أن يكون مصدرا صحيحا ثابتا موثوقا، لا يخطئ ولا ينحرف. وإذا كان العقل البشري محدودا وقاصرا، فإن الفطرة -وهي طريق صحيح ومصدر معتبر في ذلك- قد يطرأ عليها ما يغشِّيها ويحرفها عن صوابها، فتحتاج إلى ما يجلوها ويصحح مسارها ويمنعها من الانحراف، وذلك هو الوحي "القرآن والسنة" الذي تكفل الله تعالى بإنزاله هداية للناس ورحمة بهم1. وفي هذه الفقرة من البحث نعرض لمصادر العقيدة الإسلامية، مع بيان منزلة العقل ودوره، وأنه مؤيد لا يستقل بمعرفة أصول العقيدة على وجه التفصيل.

_ 1 انظر: "عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي" عثمان ضميرية، ص21-41.

أولا: القرآن الكريم

أولا: القرآن الكريم القرآن الكريم هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور البصائر والأبصار، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا كله معلوم من الدين علما ضروريا لا يحتاج إلى استدلال عليه1. وقد أوفى القرآن الكريم على الغاية في بيان العقيدة وتصحيحها في النفوس، على أتم وجه وأكمله، وبخاصة في السور المكية، إجمالا وتفصيلا. وكان أول ما أُنزل وحيا على رسول الله، هو سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق ... } وهي تتضمن أصول الدين والعقيدة من الأدلة العقلية والفطرية والشرعية على وجود الله تعالى وتوحيده، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثبات البعث. وفي سائر سور القرآن الكريم، نجد السورة الواحدة تجمع أركان العقيدة بأصول عامة تبين أركان الإيمان -وأعظمها الإيمان بالله تعالى- وما يتفرع عن هذه الأركان وينضم إليها، أو يكون من مقتضياتها ومستلزماتها، وتضع -كذلك- الإجابة الصحيحة الحاسمة على الأسئلة التي تفسر للإنسان أصل وجوده ونشأته، وغايته التي يسعى إليها، والمصير الذي ينتهي إليه بعد رحلته في هذه الحياة، وتحدد علاقته بالله تعالى وبالكون وبالحياة والأحياء من حوله. يقول الإمام الشاطبي، رحمه الله: "وغالب السور المكية تقرر ثلاثة معانٍ، أصلها معنى واحد، وهو الدعاء

_ 1 "الموافقات": 3/ 347.

ثانيا: السنة النبوية

ثانيا: السنة النبوية وإذا كان القرآن الكريم هو مصدر الدين، عقيدة وشريعة، فإن السنة النبوية مثل القرآن في ذلك؛ لأنها وحي من الله تعالى, فقد وصف -سبحانه- ما يصدر عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأنه وحي، فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . وعن حسان بن عطية، قال: "كان جبريل -عليه السلام- ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسنة, فيعلِّمه إياها كما يعلمه القرآن"1. وأخرج البيهقي في "المدخل" عن طاوس: "أن عنده كتابا من العقول "الديات"، وما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صدقة وعقول, فإنما نزل به الوحي"2. فجعل ما فرضه رسول الله، مما نزل به الوحي، مع أنه لم ينزل بلفظه في القرآن الكريم الذي هو وحي متلوّ.

_ 1 أخرجه الدارمي: 1/ 145، واللالكائي في "أصول الاعتقاد": 1/ 84، وابن بطة في "الإبانة": 1/ 255، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" ص563، والخطيب في "الفقيه والمتفقه": 1/ 99. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 13/ 291: "أخرجه البيهقي بسند صحيح". 2 انظر: "حجية السنة" ص337، وراجع كتاب "الإيمان" لابن تيمية ص37.

وذلك أن الوحي نوعان: أحدهما: وحي متلوّ، وهو القرآن المنزل على محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلفظه ومعناه، وهو المتعبَّد بتلاوته. والثاني: وحي غير متلوّ، وهو المرويّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المبيِّن عن الله عز وجل1. فقد قلَّد الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أمانة التبليغ والبيان, فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] . {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] . ومما يدل على أن السنة بمثابة القرآن في هذا: أن الله تعالى امتنّ على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس الكتاب والحكمة فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] . وقال تعالى, مخاطبا أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] . فقال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهن، سوى القرآن هو سنته؛ ولذلك قال: "ألا إني

_ 1 انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم: 1/ 87-93، "حجية السنة" ص334-341.

أوتيت الكتاب ومثله معه" 1. وقال الإمام الشافعي -رحمه الله- بعد أن ساق الآيات الكريمة التي يأمر الله تعالى فيها باتباع الكتاب والحكمة، ويمتن بهما علينا، قال: "ذكر الله تعالى الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال, والله أعلم؛ لأن القرآن ذُكِر وأُتبعته الحكمة، فلم يجز -والله أعلم- أن يقال: الحكمة ههنا إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتّم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: فَرْضٌ، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به، وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد ... "2. وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصول الدين والعقيدة أحسن بيان، ودل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله، ووحدانيته وصفاته، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية. بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية -وإن كان لا يُحتاج إليها، فإن كثيرا من الأمور يعرف بالخبر الصادق- ومع هذا, فإن الرسول بيّن الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين: السمعي "الشرعي", والعقلي3.

_ 1 أخرجه أبو داود: 7/ 7، 8، والترمذي: 7/ 426، وابن ماجه: 1/ 6، والإمام أحمد في "المسند": 4/ 313، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": 1/ 89. وصححه الألباني في "المشكاة" برقم "163. 2 "الرسالة"، للإمام الشافعي ص78، 79، وانظر: "أحكام القرآن للشافعي" جمعه البيهقي: 1/ 28-39. 3 "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 159، 160، وانظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 35، 36، "مدارج السالكين" لابن القيم 3/ 492.

وبذلك يتبين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نص على كل ما يعصم الأمة من المهالك نصا قاطعا للعذر، ولا يمكن أن يبين للناس أمور حياتهم وما يحتاجونه في الشريعة, ثم يترك الجانب الرئيسي وهو العقيدة. قال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله، وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما"1. وقيل لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كل شيء حتى الخراءة؟ فقال: أجل2. وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 3. في أحاديث كثيرة وآثار -غير هذه- تبين أن مسائل العقيدة من أول ما يعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته. وفي سنته ما يقطع الحجة، ويوضح المحجة، ويوفي على الغاية هداية وشفاء للصدور وبيانا للحق4. هذا, وقد سبقت الإشارة إلى أن السنة هي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويندرج فيها الأحاديث الحسنة التي لم تبلغ رتبة الصحيح؛ ولذلك ينبغي التوثق والتثبت من صحة الحديث وقبوله عند الاستشهاد به والاحتجاج في قضايا الاعتقاد؛ فإن العقيدة لا تبنى على الأحاديث الضعيفة.

_ 1 "مسند الإمام أحمد": 5/ 153, بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. 2 "صحيح مسلم"، كتاب الطهارة: 1/ 223. 3 أخرجه ابن ماجه: 1/ 4، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 26, وصححه الألباني. 4 انظر: "درء تعارض العقل والنقل": 1/ 72-75، "مجموع الفتاوى": 3/ 295، 296، "مختصر الصواعق المرسلة" 1/ 7-10.

العمل بها، فإن "جميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق"1، وإنما ينبغي -بعد ذلك- النظر في المنهج الصحيح للفهم والاستدلال وإعمال قواعد الاستنباط وضوابط الترجيح عند التعارض مثلا. وأما الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز الاحتجاج بها، بل ولا تجوز روايتها أصلا إلا لبيان حالها، وإنما ينبغي الإعراض عنها؛ لأن العقيدة لا تثبت بالأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة. وإن من أعظم أسباب الضلال والانحراف عن السنة والعقيدة الصحيحة, الاحتجاج بالأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة وبناء الاعتقاد عليها، وبخاصة فيما يتعلق بمباحث الألوهية والصفات ونحوها2.

_ 1 "شرح العقيدة الطحاوية" ص354-357. 2 انظر: "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص70-83.

الأدلة على صحة هذا المنهج في مصدرية العقيدة: وقد قامت الأدلة الشرعية "من الكتاب والسنة", والأدلة العقلية على صحة هذا المنهج، وعليه أجمع الصحابة وسلف الأمة، كما أيدته التجربة والواقع: فأولا: نطق بذلك القرآن الكريم، في آيات كثيرة تدل على ذلك: 1- قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] . فإذا أكمل الله تعالى الدين وأتم به النعمة، فإن هذا يقتضي أن لا يترك جانبا من جوانب العقيدة أو مسألة من مسائلها دون أن يأتي عليهما بالبيان. ولذلك كان القرآن كتاب هداية لأقوم طريق في العقيدة؛ لأنه يهدي إلى صراط مستقيم, وإلى سبل السلام: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا، وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا، وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66-68] . {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] . 2- وقد وصف الله تعالى الكتاب بأنه تبيان لكل شيء, فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] . وإذا كانت العقيدة من أهم ما ينبغي بيانه ومعرفته؛ فلا بد من أن تكون الآيات القرآنية مبينة لهذا أوضح بيان، إذ لا يقبل العقل أن تبين لنا هذه الآيات أحكام الفروع, ثم تترك الأصول الاعتقادية التي هي أساس لتلك الفروع. 3- وقد جاءت الآيات الكريمة تبين أن الله تعالى يبين للناس ما يكون سببا

لعصمتهم عن الضلال؛ وذلك يكون باتباع القرآن والسنة ومجانبة الظن وأهواء النفوس: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] . {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115] . {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 55] . في آيات كثيرة في كتاب الله تعالى تنطق بالحق، وتقيم الحجة والبرهان على أن القرآن الكريم هو كتاب العقيدة والإيمان. فليس وراءه مصدر إلا ما كان يخرج من مشكاته، وهو الحكمة أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم. 4- ولذلك أوجب الله تعالى على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر وينهى1، وقرن طاعة الرسول بطاعته -سبحانه- في آيات كثيرة من القرآن, فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] . وحث على الاستجابة لما يدعو إليه من الحياة الكريمة التي تتمثل في الاعتقاد الصحيح, وفي التمسك بالدين فقال:

_ 1 انظر: "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": 1/ 215-222، "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 19/ 82-92.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . وجعل طاعة الرسول طاعة لله تعالى، وعلامة على محبته: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . كما جعل مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- سببا للفتنة تصيب الإنسان, أو سببا لعذاب أليم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] . ويؤيد هذا أن رجلا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أُحْرِم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله. فأعاد عليه مرارا. قال: فإن زدتُ على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها؟ قال: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله1؟ بل, إن هذه المخالفة لأمر الرسول والتولي عن طاعته إنما هي من الكفر الذي ينبغي أن يحذره المسلم على نفسه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] .

_ 1 انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ص21، 22، "الإبانة": 1/ 26.

ثانيا: تواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم تقيم الأدلة على صحة هذا المنهج في العودة للقرآن والتمسك بما ثبت عنه، فقال عليه الصلاة والسلام؛ فيما رواه علي رضي الله عنه، قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتنة" فقلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن -إذ سمعته- حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم"1. ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما

_ 1 أخرجه الترمذي: 8/ 218-221، والدارمي: 2/ 435، والإمام أحمد: 2/ 88 "تحقيق الشيخ شاكر"، والبغوي في "التفسير": 1/ 39, وفي "شرح السنة": 4/ 438، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "7/ 165" للطبراني مختصرا. وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك. وقال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات, وإسناده مجهول" وقال ابن كثير في "فضائل القرآن" الملحق بالتفسير "4/ 582": " ... وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد". وقال ابن الوزير في "ترجيح أساليب القرآن" ص15: "وقد رواه السيد الإمام أبو طالب في "أماليه" بسند آخر من حديث معاذ بنحوه ... ولم يزل العلماء يتداولونه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول".

فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 1. وتواترت الأحاديث النبوية توجب العمل بالسنة والتمسك بها، وتبين أنها سبب النجاة، بما يدل دلالة قاطعة على أن المنهج الصحيح في استلهام العقيدة -مع سائر الأحكام- إنما يكون بالعودة إلى الصادق المصدوق، المبلغ عن ربه تبارك وتعالى. وما ورد من هذه الأحاديث أنواع كثيرة, يمكن إدخالها تحت أنواع ثلاثة2: النوع الأول: إخباره -وهو المعصوم من الكذب- بأنه قد أُوحي إليه القرآن وغيره، وأن ما بينه وشرعه من الأحكام، إنما هو بتشريع الله تعالى ومن عنده، وليس من عند النبي، وأنه لا يمكن فهم الأحكام من القرآن وحده، بل لا بد من الاستعانة بالسنة، وأن العمل بها عمل بالقرآن نفسه، وأن الأمة قد أمرها الله تعالى بالأخذ بقوله وطاعته واتباع سنته، وأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وأن الإيمان لا يتم إلا باتباع جميع ما جاء به. وهذا النوع من الأحاديث يعزّ على الحصر، وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها في مناسبات سابقة، كحديث: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" 3. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أطاعني

_ 1 "تفسير الطبري": 16/ 225 "طبع الحلبي"، "مصنف عبد الرزاق": 3/ 382. 2 "حجية السنة" ص308 وما بعدها، وانظر: "الإبانة" 1/ 223-270. 3 انظر فيما سبق ص165 تعليق 1.

فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ... " 1. والنوع الثاني: أمره -صلى الله عليه وسلم- بالتمسك بالسنة، وهو لا يأمر إلا بما أوجبه الله تعالى، ولا ينهى إلا عما حظره الله، كما في حديث العرباض بن سارية، وفيه: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" 2.. إلخ. والنوع الثالث: أمره -صلى الله عليه وسلم- باستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه، وذلك يستلزم حجية قوله صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 3. وقد تقدمت الإشارة إلى أن كتبا كثيرة في الاعتقاد تحت عنوان "السنة" أو "السنن", إنما ألفت للحث على السنة واتباعها والتمسك بها4.

_ 1 أخرجه البخاري: 6/ 11، ومسلم: 3/ 1466. 2 انظر تخريجه فيما سبق ص91 تعليق 2. 3 أخرجه البخاري: 6/ 496. 4 انظر فيما سبق ص98-101.

ثالثا: وعلى هذا المنهج سار الصحابة -رضوان الله عليهم فكانوا يتلقون من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أوحاه الله تعالى إليه: قرآنا ناطقا وسنة حادثة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيتعرفون -بذلك- على وحدانية الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى نبوته عليه الصلاة والسلام، وعلى المبدأ والمعاد، وكل ما يتصل بأمور العقيدة بخاصة والدين كله بعامة. فلم يكن عندهم ما يستدلون به على ذلك سوى كتاب الله تعالى، يتلقونه بالتسليم، فيفهمون معناه، ويلتزمون بما فيه، لا يتنازعون في شيء من ذلك، ولا يتعمقون في البحث الذي لا طائل تحته، وكانوا يرون الجدل في أمور العقيدة مؤديا إلى الانسلاخ من الدين. فلذلك أجمعت كلمتهم على أن القرآن فيه كل الغناء وفيه علم الأولين والآخرين، وأن من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه -كما قال ابن عمر رضي الله عنهما- وما ذاك إلا لأنه جامع لمعاني النبوة1.

_ 1 انظر: "الخطط المقريزية": 3/ 909، 910، "الموافقات" للشاطبي: 3/ 370، 371، "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" للشيخ مصطفى عبد الرازق ص269.

رابعا: وعلى هذا أيضا أجمعت كلمة علماء الإسلام بعد عصر الصحابة- من جميع الطوائف، فإن القرآن عندهم يفيد معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، ومنه تعلم المتكلمون "علماء الكلام" النظر والأدلة، ولكنهم غالوا في النظر، ولم يقتصروا على القدر النافع المذكور في كتاب الله تعالى. وجميع ما هو صحيح من الأدلة عند المتكلمين يمكن رده إلى القرآن الكريم, بل هو في القرآن الكريم؛ فجميع أدلتهم -مثلا- في وحدانية الله تعالى لا تخرج عن قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله. ولقد ألمحنا إلى شيء من هذا عند الحديث عن منهج الصحابة في التلقي. ولئن كانت أدلة المتكلمين والفلاسفة مقصورة الفائدة على طائفة من الناس الذين يتأثرون بالدليل العقلي المجرد الذي قد لا يدل دلالة قطعية على مدلوله إلا بتأمل كبير وتعمق وتكلف؛ فإن أدلة الكتاب والسنة أدلة قاطعة جلية، تسبق إلى الأفهام ببادي الرأي وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها وفهمها. وهي بذلك مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي. ولهذا كانت أدلة القرآن سائغة جلية. ألا ترى أن من قدر على ابتداء الخلق فهو على الإعادة أقدر؟ "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده, وهو أهون عليه" وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين، فكيف ينتظم جميع العالم؟ وأن من خلق علم ما خلق، كما قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . فهذه أدلة تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، ينتفع به الجميع بيسر وسهولة، فتؤدي إلى معرفة وقناعة، ثم إلى التزام وطاعة1. خامسا: فإذا تجاوزنا الدليل الشرعي والإجماع، وجدنا التجربة والواقع العملي شاهدين عدلين على صحة المنهج الذي سلف، في العودة إلى القرآن والسنة لنستمد منهما أصول العقيدة؛ إذ لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا2؛ ولذلك كان فيه الكفاية والغَنَاء. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إننا نعتقد -بالدراسة الطويلة- أن هذا القرآن فيه غناء كامل في بيان الحقائق التي يقوم عليها التصور الإسلامي، فلا يحتاج إلى إضافة من خارجه في هذا البيان "باعتبار أن السنة إنما هي تفصيل وبيان لما في القرآن" ونحب أن يتعود القارئ أن يلجأ إلى القرآن ليجد فيه تبيانا لكل شيء. ومن ثم فإن النصوص القرآنية هنا "في بحث موضوعات التصور الإسلامي" هي الموضوع ذاته، وليست عنصرا مساعدا

_ 1 "ترجيح أساليب القرآن" لابن الوزير، ص"15، 16، 22". 2 "الموافقات": 3/ 371.

كما اعتاد الناس أن يجدوها في كثير من البحوث الإسلامية ... "1. ولا أدل على صحة هذا القول من واقع أولئك الذين حاولوا أن يتلمسوا الأدلة العقلية على صحة الاعتقاد، فأطلقوا العنان لعقولهم في البحث والتفكير، بمعزل عن الوحي، متأثرين في ذلك بمنطق اليونان وفلسفتهم، ولكنهم عادوا بالخيبة والخسران، بعد أن بدّدوا جهدهم، وأضاعوا في البحث عمرهم، ثم وقفوا حائرين، لا يجدون دلالة إلا في كتاب الله الكريم، وفي سنة نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم. فهذا إمام الحرمين الجويني "ت 478هـ" وهو الأصولي الجدلي النظّار، يقول: "قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا، ثم خلَّيت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخِضَمّ، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه؛ كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد, والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطف بره -فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله- فالويل لابن الجويني"2. وأما حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي "ت 505هـ" الذي ابتدأ البحث في

_ 1 "مقومات التصور الإسلامي"، ص86 بتصرف يسير. 2 انظر: "طبقات الشافعية الكبرى"، لابن السبكي: 5/ 185، "سير أعلام النبلاء" للذهبي: 18/ 471. ومعنى قوله: "ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم ... " أنه أنزل المذاهب كلها في منزلة النظر والاعتبار، غير متعصب لواحد منها، بحيث لا يكون عنده ميل يقوده إلى مذهب معين من غير برهان، ثم توضَّح له الحق، وأنه الإسلام، فكان على هذه الملة عن اجتهاد وبصيرة لا عن تقليد. راجع: "الطبقات الكبرى" للسبكي: 5/ 186.

علم الكلام فحصّله، وطالع كتب المحققين من علمائه، وصنّف فيه ما أراد أن يصنّف، فينتهي إلى أن يقول عن هذا العلم: "وهذا العلم قليل النفع في حق من لا يسلِّم سوى الضروريات شيئا أصلا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا ... "1. وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة "الصحيحين"2. وبذلك عرف الحق وفاء إليه، فكان عاقبة أمره حسنا! وأما الفيلسوف القاضي، أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد "ت 520هـ"، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، فيقول في كتابه "تهافت التهافت"3: "لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء"4. وأما إمام المتكلمين، فخر الدين الرازي، الشهير بابن خطيب الري "604هـ" فيقول في وصيته التي أوصى بها تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني: " ... ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة

_ 1 "المنقذ من الضلال" للغزالي، ص81 نقلا عن "الحقيقة في نظر الغزالي", د. سليمان دنيا ص34. 2 "سير أعلام النبلاء": 19/ 325، 326. 3 "تهافت التهافت": 2/ 547، تحقيق د. سليمان دنيا. 4 فابن رشد يقرر: أنه لم يقل أحد من الفلاسفة في الإلهيات قولا يعتد به. وهذا يفيد أن مصدر العلم بها الدين، المصدر السابق، تعليق 1.

تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية ... ". ثم يعلن عُزُوفه عن علم الكلام الذي كتب فيه ما كتب, فيقول: "وأقول: ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما"1. وقال في كتابه "أقسام اللذات": نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووَبَال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال، فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتُها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] ، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] . ثم قال: "ومن جرّب مثل تجربتي, عرف مثل معرفتي"2.

_ 1 "طبقات الشافعية الكبرى": 8/ 90-91، وانظر: "سير أعلام النبلاء": 21/ 501. 2 "شرح العقيدة الطحاوية" ص208-209، والأبيات في "طبقات الشافعية": 8/ 96، و"وفيات الأعيان": 4/ 250.

وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لعمري لقد طُفْتُ المعاهد كلها ... وسيَّرتُ طَرْفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم1 وهذا العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي -مع توغّله في علم الكلام- يقول: تاه الأنام بأسرهم ... فاليوم صاحي القوم عَرْبد والله ما موسى ولا ... عيسى المسيح ولا محمد عرفوا، ولا جبريل وهو ... إلى محل القدس يصعد من كُنْه ذاتك غير أنـ ... ـك واحد في الذات سَرْمَد عرفوا إضافات ونفيـ ... ـا والحقيقة ليس توجد فليخسأ الحكماء عن ... حَرَم له الأملاك له سُجَّد من أنت يا رسطو ومن ... أفلاطُ مثلك يا مبلَّد ومن ابن سينا حيث قـ ... ـرر ما هذيتَ به وشيد هل أنتم إلا الفرا ... ش رأى السراج وقد توقّد فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رَشَدا لأبعد

ويقول أيضا: فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أَثَر فلَحَى الله الأولى زعموا ... أنك المعلوم بالنظر كذبوا, إن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر1 ولهذا وجدنا العلامة محمد بن إبراهيم الوزير -رحمه الله- يضع كتابا قائما برأسه في منهج القرآن في بيان العقيدة، ويوازن ذلك بمناهج المنطق اليوناني بما فيه من جفاف وتعقيد وتخليط، وسماه "ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان"، ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب كامل في نقض المنطق اليوناني بعنوان "نقض المنطق"2.

_ 1 انظر: "إيثار الحق على الخلق" لابن الوزير ص139. 2 وانظر بالتفصيل: "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" ص63-228, ففيه تفصيل لموقف الأصوليين والفقهاء من المنطق اليوناني "دون تزكية لكل ما في الكتاب, وخاصة مقدمة الطبعة الرابعة".

آثار هذا المنهج, وفوائده: وهذا المنهج في تلقّي العقيدة واستلهامها من القرآن والسنة، علاوة على أنه مقتضى الإيمان بالله، وبكتابه المنزل وبنبيه المرسل -الذي يبلِّغ عن ربه تبارك وتعالى- إننا نجني منه فوائد كثيرة، أهمها اثنتان: 1- أن هذا المنهج هو الذي يعصم عن الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وعن الاضطراب في فهم العقيدة، ويحفظ على الإنسان جهده، ويمنع عقله من التبدد والضياع، ونفسه من الهوى؛ لأنه يعود بالأمر كله إلى العليم الحكيم -سبحانه وتعالى- الذي تكفل بالهداية لهذا الإنسان. يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- وهو يتحدث عن خصيصة "الربانية" في التصور الإسلامي: " ... وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى ... فهو مناط الثقة في أنه التصور المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى.. هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات, أو التي تدخّل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة! وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبِّي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه, ويقوم عليه أقوم منهج للحياة وأشمله"1. 2- وهو المنهج الذي يجمع الأمة كلها، ويوحدها على كلمة واحدة وتصور واحد، ويعصمها من التفرق والشتات، بما ينشئ فيها من تصورات ثابتة، وبما يضع لها من موازين وقيم لا تتأثر بزمان معين ومكان محدد، وإنما هي الموازين والقيم الثابتة التي تتلقاها من الوحي, وتتكيف بها وتصبغ حياتها بمقتضاها، فلا تتوزّعها الأهواء ولا الأفكار البشرية الضالة، التي تتقلب فيها، فلا تستقر على

_ 1 "خصائص التصور الإسلامي"، ص53، 54.

قرار؛ لأنها لا تستقر على منهج واحد. وعندئذ تكون هذه الأمة -حقا- أمة واحدة كما أراد الله تعالى لها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] . {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . فهي الأمة الواحدة: عقيدة وفكرا ومنهجا وسلوكا1. وعندئذ تتحقق لها الريادة والشهادة على الأمم الأخرى، بما تملك من الحق والهدى الذي تتلقاه من الوحي الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم2.

_ 1 قال الإمام البغوي: "قوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} أي: ملتكم ودينكم وشريعتكم التي أنتم عليها {أُمَّةً وَاحِدَة} أي: دينا وحدا وهو الإسلام، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان. وأصل "الأمة" الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة؛ لاجتماع أهلها على مقصد واحد". انظر "معالم التنزيل" للبغوي: 5/ 353، 420. فيصح أن يكون المقصود بالأمة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يصح أن يقصد بها أمة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2 انظر ما قاله الإمام أبو المظفر السمعاني في هذا المعنى، ونقله الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة": 2/ 222، 385، والموصلي في "مختصر الصواعق المرسلة": 2/ 46 وما بعدها.

دور العقل ومكانته

دور العقل ومكانته: وبعد أن تعرفنا على المصدر الرئيسي للعقيدة الإسلامية "وهو الوحي"، نُلمع إلماعات سريعة إلى دور العقل ومكانته، ومجاله في الإسلام. العقل في اللغة: والعقل في اللغة العربية يطلق على القيد الذي يقيَّد به البعير؛ لئلا يندّ، وسميت الملكة التي يتميز بها الإنسان "عقلا"؛ تشبيها لها بالقيد، على عادة العرب في استعارة أسماء المُحَسَّات للأمور المعنوية. وتستخدم كلمة "عقل" ومشتقاتها في اللغة بمعانٍ متعددة أصلها واحد، وهو حُبْسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، أو الإمساك والاستمساك1. ونستطيع أن نخرج من الاستعمال اللغوي لكلمة "العقل" بملاحظات ونتائج, نوجز أهمها فيما يلي: 1- أن العقل ملكة معنوية، وليست شيئا حسيا، وبها يتميز الإنسان. 2- هذه الملكة تمنع صاحبها عما لا يليق وتزجره، فكأنها تقوم بعملية إيجابية وأخرى سلبية، وكلتاهما تُطلقان أحكاما قيمية على الفعل. 3- هذه الملكة كاشفة لصاحبها عما ينبغي أن يفعله، وعندئذ كأنه يتحصن بها. 4- وفيها جماع الأمر والرأي، وتدعو للتثبت في الأمور.

_ 1 انظر معاني العقل واستخدامه في اللغة: "الصحاح" للجوهري: 5/ 1769، "معجم مقاييس اللغة": 4/ 69-74، "لسان العرب": 11/ 458-466، "تعريفات الجرجاني" ص196-198، "الكليات" للكَفَويّ: 3/ 216-220.

5- العقول متفاوتة بحسب فطرة الله التي فطر الناس عليها، باتفاق العقلاء. إطلاقات كلمة "العقل": وقد عُنِي علماء الشريعة عند حديثهم عن التكليف ومقاصد الشريعة ومكارمها بالحديث عن العقل وأنواعه ومنازله وتنوع أسمائه بحسب ذلك؛ فهو يطلق على أمرين: 1- القوة الفطرية التي أودعها الله تعالى في الإنسان، وخلقه عليها متهيئا بسببها لقبول العلم، وهذا هو محل التكليف ومناط الأمر والنهي، وبه يكون التمييز والتدبير, وهو العقل الفطري الغريزي. 2- ويطلق كذلك على العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة الفطرية، وهذا هو العقل المستفاد، وإليه الإشارة في القرآن الكريم في كل موضع ذمّ الله تعالى فيه الكفار بعدم العقل1، كقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] . وقد عني علماء اللغة ببيان أسماء العقل وتنوعها بحسب مقاماته، مع بيان الفروق بينها في الاستعمال2. وليس من غرضنا هنا تقديم دراسة كاملة عن العقل، فحسبنا هذه الإشارات

_ 1 انظر بالتفصيل: "مفردات القرآن"، ص342، "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب أيضا، ص56، 57، "الحجة في بيان المحجة": 1/ 319، 320، "بصائر ذوي التمييز" للفيروزآبادي: 4/ 85، "أدب الدنيا والدين" للماوردي ص19-24. 2 انظر: "الذريعة" للراغب ص59-61، "الفروق اللغوية" للعسكري ص66، 67، "الكليات": 3/ 219، 220، 253، "تأملات في وسائل الإدراك" د. محمد الشرقاوي ص15 وما بعدها، وراجع كلمة: النُّهى، والحِجْر، والحِجَا، واللب، والفؤاد, والقلب في: "المفردات" للراغب، و"بصائر ذوي التمييز".

لنخلص بعدها إلى قيمة العقل, ومكانته في الإسلام. قيمة العقل في الإسلام: ينوِّه الإسلام تنويها كبيرا بالعقل، ويُعلي من مكانته وقيمته، ويحفل به وبوسائل الإدراك -بعامة- ونجد شاهدا على ذلك في الآيات القرآنية الكريمة التي تنزلت بشأنه. وينبئك عن هذا أن مشتقات كلمة "العقل" تكررت في القرآن الكريم حوالي سبعين مرة. وأما الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية وتحث على النظر والتفكر والتدبر والتبصر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وفي حوادث التاريخ، وأحكام التشريع، وتتوجه بالخطاب لأولي الألباب ... فقد بلغت من الكثرة حدا أعطى الإسلام ميزة بين كل المذاهب والشرائع. يقول الأستاذ عباس محمود العقاد: "والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه. ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه". "ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة. بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته". "فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما

يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة ... "1. فإذا تلمسنا الشواهد على ذلك في أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي تحث على العلم وتبيّن فضله ومكانته، وترسم منهج البحث والنظر، وتدعو للتبصر والفهم والفقه ... وجدناها تأخذ مساحة أوسع في كتب الحديث الشريف، وتجعل الإسلام -بحق- دين العلم والعقل كما أنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها. مكانة العقل في الإسلام: ونوجز فيما يلي الكلام على مكانة العقل في الإسلام، بخطوط سريعة وكلمات موجزة تشير إلى ما وراءها من اهتمام وعناية: فالعقل هو هبة الله العظمى ومنحته لهذا الإنسان، به أكرمه وميزه على سائر المخلوقات، فأعطاه المفتاح الذي يفتح به أبواب الملكوت ويدخل ساحة الإيمان بالله الذي سخّر للإنسان كل ما في السموات والأرض. ولذلك امتن الله تعالى على الناس بهذا العقل، وجعله موضوع المسئولية، فقال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] . {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . ولذلك جعل الله تعالى العقل مناط التكليف وسببا له، فالخطاب الشرعي لا يتوجه إلا للعاقل؛ لأن العقل أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال؛ ولذلك قال بعض السلف: "العقل حجة الله على جميع الخلق".

_ 1 "التفكير فريضة إسلامية" ص7، 8.

ومن هنا جاءت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- ترفع القلم -أي: التكليف والمؤاخذة1 - عمن فقدوا مناط التكليف وهو العقل، بسبب الجنون أو ما يأخذ حكمه، فقال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" 2. وفي لفظ آخر: "وعن المعتوه حتى يعقل" 3. والبحث في هذا نجده مفصلا عند علماء الأصول في مبحث الأهلية وعوارضها, أو في مبحث المحكوم عليه. ولذلك شرع الإسلام من الأحكام ما يحافظ فيها على العقل باعتباره واحدا من الضروريات الخمسة، التي أُنزلت الشرائع للمحافظة عليها، وهي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. فأوجب الإسلام العلم، وكل ما به قوام الحياة، وهي تعود على العقل بالحفظ، وحرم كل ما يُذهب العقل أو يزيله؛ كالخمر والمخدرات وسائر المسكرات؛ ولأنها تصيب العقل بآفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع ومصدر شر وأذى للناس. ويحث الإسلام العقل على العمل فيما خُلق له، وفي المجال الذي يستطيعه، فلا يجوز إهماله ولا تعطيله؛ فهو يحث على النظر والتدبر والتأمل والتفكر في آيات

_ 1 انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": 6/ 288-291، "عون المعبود": 12/ 72، 73. 2 أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان. انظر: "صحيح الجامع الصغير" للألباني، برقم "3512". 3 أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، وصححه الحاكم وابن خزيمة. المرجع السابق برقم "3514".

الله تعالى المقروءة, والمنظورة، في الأنفس والآفاق، وفي مجال عالم الشهادة. والآيات الكريمة في ذلك كثيرة تعزّ على الحصر. ويرسم الإسلام للعقل المنهج الصحيح للعمل والتفكير، ويرفع من أمامه العوائق والموانع التي تعطله عن وظيفته؛ كاتباع الظن والأوهام والخرافة، أو الخضوع لسيطرة العادات والتقاليد، أو تقليد الآباء والمشايخ والطغاة ... وبذلك يتحرر العقل حرية حقيقية كاملة، ويقوم بعملية التثبت والتبين قبل الإقدام أو الاعتقاد والتصديق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] . {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] . {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . ثم يحيل الإسلام على العقل -مع أدلة أخرى- في القضايا الكبرى الرئيسية؛ فهو يهدي -عند النظر الصحيح- إلى معرفة الله تعالى ووحدانيته، ويقيم الأدلة على صحة النبوة والبعث بعد الموت, فيكون إدراك هذه القضايا إدراكا كليا عاما وقبولها بالعقل1. وشواهد ذلك من القرآن والسنة وكلام العلماء كثيرة، لا يتسع المقام للإفاضة

_ 1 قال الإمام السمعاني: "إن الله تعالى أسّس دينه وبناه على الاتباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل". انظر "الحجة في بيان المحجة" للأصفهاني: 1/ 317.

فيها. فحسبنا هذه الإشارة نختم بها هذه الفقرة عن قيمة العقل, ومكانته في الإسلام1. دور العقل في العقيدة: وقد يدفع هذا القول بعض الناس ليظن أن هذه العناية بالعقل والإعلاء لمكانته تبيح لنا أن نجعل منه مصدرا نستقي منه العقيدة، أو نجعله حاكما عليها، يقبل منها ما يدركه، ويرفض ما لا يدركه أو ما لا يحيط به علما. وهذه قضية منهجية جدّ خطيرة، تحتاج إلى فضل بيان، توضع فيه الأمور في نصابها الصحيح دون إفراط ولا تفريط: "لو كان الله سبحانه، وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه الله تعالى للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم ... ". "ولكن لما علم الله -سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى -بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط- وقاصرة كذلك عن

_ 1 انظر بالتفصيل: "المقاصد العامة للشريعة"، ص344 وما بعدها. "مذاهب فكرية معاصرة" ص53 وما بعدها. "خصائص التصور الإسلامي" ص54 وما بعدها. "منهج المدرسة العقلية في التفسير" 1/ 29-39. "المدخل إلى الثقافة الإسلامية" ص226-230. "عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي"، ص26 وما بعدها.

رسم منهج للحياة الإنسانية، يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة. لما علم الله -سبحانه- هذا قضت حكمته ورحمته أن يبعث للناس بالرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 1 [الإسراء: 15] ". إذن ما هي وظيفة العقل البشري؟ وما هو دوره في العقيدة الإسلامية؟ يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله: "إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة "الوحي"، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموجبات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ومنهج النظر الصحيح، وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة. وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض, بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها, أي: المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص"2. ويؤكد هذا المعنى ويزيده وضوحا، فيقول: إن العقل البشري ليس هو الذي يصنع مقومات التصور الإسلامي -كما هو الحال في الفلسفة- إنما هو الذي "يتلقاها" من مصدرها الرباني، و"يدركها"

_ 1 "في ظلال القرآن"، المجلد الثاني ص806. وانظر: "الله في العقيدة الإسلامية"، للبنا رحمه الله، ص29-31. 2 "الظلال"، نفسه، ص807.

صحيحة، حين يتلقاها وهو متجرد من أية "مقررات" سابقة في هذا الباب -سواء من مقولاته الذاتية، أو من مقولات العقائد المحرفة، ولو كان لها أصل رباني- وعليه أن يتقيد فيما يتلقاه من ذلك المصدر الصحيح بالمدلول اللغوي أو الاصطلاحي للنص الذي وردت فيه هذه المقومات -بدون تأويل- ما دام النص محكما، وأن يصوغ من هذا المدلول مقرراته هو ومنهجه في النظر أيضا. فليس له أن يرفض هذا المدلول أو يؤوله -متى كان متعينا من النص- بحجة أنه غريب عليه أو صعب التصور عنده، أو أن منطقه لا يقره! فهو -العقل البشري- ليس حَكَما في صحة هذا المدلول أو عدم صحته -في عالم الحقيقة والواقع- وإنما هو حكم فقط في فهم دلالة النص على مدلوله -وفق المفهوم اللغوي أو الاصطلاحي للنص- وما دل عليه النص فهو صحيح، وهو الحقيقة، سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته أم لم يكن ... ويستوي في هذه القاعدة العقيدة والشريعة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وصدق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لو كان الدين بالرأي, لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" "أخرجه أبو داود". ومن ثم, فإن محاكمة التصور الإسلامي أو محاكمة مقوماته التي يقوم عليها -ومنها ما هو غيب، كالملائكة والجن والقدر، والقيامة، والجنة والنار- إلى العقل البشري ومقرراته الذاتية، منهج غير إسلامي. وهذا لا يعني أن التصور الإسلامي مناقض أو مصادم للعقل البشري. فإن مقرراته كلها نوعان: نوع الإدراك البشري قادر على تصوره -عند تلقيه من المصدر الرباني- ونوع هو غير قادر على إدراكه ولكن منطقة ذاته يسلم بأن طبيعته أكبر من حدود إدراكه، وأن "وجود" ما هو أكبر من حدود إدراكه داخل في قدرة الله

تعالى، وأن إخبار الله عن وجوده هو بذاته برهان هذا الوجود، برهان صحة الإخبار.. ومن ثم لا يقع التناقض أو التصادم أبدا، متى استقام العقل البشري والتزم حدوده! "وحيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا الطريق، طريق التلقي من المصدر الرباني بدون مقررات سابقة لها فيما يتلقى، والالتزام بمدلول النص متى كانت دلالته اللغوية أو الاصطلاحية محكمة.. نقول: حيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا الطريق، جاء بالخبط والتخليط الذي لم يستقم قط في تاريخ الفكر البشري.. يستوي في الخبط والتخليط تلك الجاهليات الوثنية التي انحرفت عما جاء به الرسل -صلوت الله وسلامه عليهم- والجاهليات اللاهوتية التي أدخلت على الأصل الرباني الإضافات والتأويلات التي اصطنعها العقل البشري -وفق مقولاته الذاتية- أو اقتبسها من الفلسفة, وهي من مقولات هذا العقل أصلا. والجاهليات الفلسفية التي استقل الفكر البشري بصنعها، أو أضاف إليها تأثرات من الديانات السماوية! "ولقد حدث في تاريخ الفكر والاعتقاد أن أخذ بعض "المعتقدين" لعقيدتهم من الفلسفة، وأن أخذ بعض "الفلاسفة" لفلسفتهم من العقيدة.. وكان من وراء هذا وذلك ظاهرة لم تتخلف قط ... إنه حيثما أخذت الفلسفة من العقيدة أفادت واهتدت إلى بعض جوانب الحقيقة. وحيثما أخذت العقيدة من الفلسفة خسرت وأصيبت بالتخليط والانحراف والتعقيد! ولا تبدو هذه الظاهرة واضحة كما تبدو في تلك الصورة الكابية المعقدة الكئيبة التي تسمى: "الفلسفة الإسلامية" أو في "علم الكلام".. البعيدة عن طبيعة

العلاقة بين العقل والوحي: ولعلنا على ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد العلاقة بين الوحي والعقل أو الصلة بينهما. وعلى هذا نفهم ما ورد عن تظاهر العقل والشرع، وعن التكامل بينهما كقولهم: "العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأُسّ والشرع كالبناء. ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس. وأيضا: فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر1 ... فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان ... والعقل بنفسه قليل الغناء، لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته، ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو مَعْدَلة في شيء شيء. وعلى الجملة: فالعقل لا يهتدي إلى تفاصيل الشرعيات، والشرع تارة يأتي بتقرير ما استقر عليه العقل، وتارة بتنبيه الغافل وإظهار الدليل، حتى يتنبه لحقائق المعرفة. وتارة بتذكير العاقل حتى يتذكر ما فقده، وتارة بالتعليم، وذلك في

_ 1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "العقل شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين, فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس" وإذا انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق كما يحصل للبهيمة" "مجموع الفتاوى" 3/ 338، 339.

الشرعيات وتفصيل أحوال المعاد. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة. ومن عدل عنه فقد ضل سواء السبيل"1. ويبقى أن نؤكد هنا -مرة أخرى- على أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين أحكام العقل الصريح والنصوص الشرعية الصحيحة -وفق المنهج الذي سلف في بيان حدود العقل- وهذه المسألة التي وضع لها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابه الضخم "درء تعارض العقل والنقل" أو "موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول". وما قد يظهر من خلاف ذلك، فينبغي عند ظهوره ألا نعارض نصوص الشرع بما قد نراه بعقولنا وآرائنا وأقيستنا؛ فإن العقول -كما رأينا- تتفاوت، وليس هناك العقل المطلق الكامل الذي نحاكم إليه هذه النصوص. كما أن العقل نفسه محدود بحدود الزمان والمكان والكيفية، وبحدود وظيفته، ولا يستطيع أن يحيط بغير المحدود الذي يحيط به الشرع أو الوحي. ولذلك قال الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". "وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو أن العقل مع النقل

_ 1 "تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين" ص140-142 باختصار, وهو بنصه في "معارج القدس في مدارج النفس" ص57-59, وراجع: "الحقيقة في نظر الغزالي" د. سليمان دنيا ص280، 281، "مدخل إلى العقيدة الإسلامية" ص151-152.

كالعامي المقلد مع العالم المجتهد. بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن العامي يمكنه أن يصير عالما، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا"1.

_ 1 "شرح العقيدة الطحاوية"، ص201، 202. وانظر: "الحجة في بيان المحجة": 1/ 317 وما بعدها، "فتاوى ابن تيمية": 5/ 28-30، 16/ 440، 463، 469, "مفتاح دار السعادة" لابن القيم: 2/ 112 وما بعدها، "الموافقات": 1/ 87، "مقدمة ابن خلدون": 2/ 825، "قواعد المنهج السلفي" د. مصطفى حلمي ص253-257، "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" د. يوسف العالم، ص344-350.

التزام العقيدة، والنهي عن البدع

التزام العقيدة، والنهي عن البدع: تمهيد وإحالة: إن النصوص الشرعية التي تقدمت في وجوب التزام الكتاب والسنة والاعتصام بهما -عند الحديث عن مصادر العقيدة- تستلزم من جهة أخرى الحذر من الأهواء والبدع المخالفة للشرع، تلك التي تغلق أبواب الرحمة، وتصدّ عن الهدى والسبيل، وتؤدي إلى الضلالة والفتنة، وتفرق الأمة الواحدة فتجعلها شيعا وأحزابا، مع ما ينتظر صاحبها من إثم عند الله تعالى، وحرمان لشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا. أدلة النهي عن البدع؛ والتحذير من الابتداع: وقد تضافرت النصوص الشرعية -قرآنا وسنة- على ذمّ البدع وبيان آثارها، وعلى هذا اجتمعت كلمة السلف من الأمة، كما أن النظر العقلي -أيضا- يؤيد هذا أو يزيده بيانا وتأكيدا. فاجتمع لنا من الأدلة ما ينهض للتنديد الشديد بالبدع والتحذير منها، مما نجعله في شعب ثلاث من النصوص وأخرى من الأدلة العقلية1. أولا: فمن القرآن الكريم، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] .

_ 1 انظر بالتفصيل: "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 46-140, فقد فصَّل القول في ذلك وبيَّنه أعظم بيان.

وهذه الآية من أعظم الشواهد على ذلك، فقد جاء تفسيرها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم الذين يجادلون في آيات الله بترك الآيات المحكمة واتباع المتشابه، وهذا يصدق على كل صاحب بدعة، ويدخل فيهم ما ذكره بعضهم كالخوارج وأتباع ابن سبأ، بل ويدخل فيهم كل المبتدعة من غير هذه الأمة حتى قال قتادة رحمه الله: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية، فلا أدري من هم؟ ثم قال: إن اليهودية لَبدعة، وإن النصرانية لبدعة, وإن الحرورية لبدعة، وإن السبئية لبدعة، ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي1. وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] . فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. و"السبل": هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الطريق المستقيم، وهم أهل البدع، كما جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- ما يفسر ذلك2، وعلى هذا قول مجاهد حيث فسرها بالبدع والشبهات.

_ 1 انظر: "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 53-65، "تفسير الطبري": 6/ 186-195، "تفسير البغوي": 2/ 9. 2 عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خَطَّ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطا ثم قال: $"هذا سبيل الله"، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: "هذه سبل, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآية. أخرجه الدارمي: 1/ 67، والحاكم: 2/ 318، وأخرجه الطبري: 12/ 230، والآجري ص10، واللالكائي: 1/ 80، 81، وابن أبي عاصم: 1/ 13، والإمام أحمد في "المسند": 1/ 435، والبغوي في "التفسير": 3/ 205, وفي "شرح السنة": 1/ 196، 197. وانظر: "مجمع الزوائد": 7/ 22، "تفسير ابن كثير": 2/ 191.

ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] . {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32] . فقد روي في تفسيرها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: "يا عائشة, إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة" 1. وكل من ابتدع بدعة في الدين فهو داخل في هذه الآية؛ لأنهم إذا ابتدعوا بدعة تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا، وقد تقرر هذا في آيات كثيرة، حسبنا منها ما ذكرناه.. ثانيا: ومن السنة أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تكاد تعز على الحصر، نذكر فيما يلي بعضا منها: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه, فهو ردّ" 2. وفي لفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا, فهو رد" 3.

_ 1 عزاه ابن كثير لابن مردويه وقال: "وهو غريب ولا يصح رفعه", ثم قال: "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا تفرق". "التفسير": 2/ 197. 2 أخرجه البخاري: 5/ 301، ومسلم: 3/ 1343. 3 أخرجه مسلم: 3/ 1344.

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" 1. وفي رواية: "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار" 2. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه, لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 3. وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون, ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله, كأنها موعظة مودع فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين, تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 4. ثالثا: أجمعت كلمة علماء الأمة منذ عهد الصحابة والتابعين: ومن بعدهم على التحذير من الابتداع في الدين، وذم المبتدعة، وبيان أخطار البدعة: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الناس! قد سُنت لكم السنن، وفُرضت لكم الفرائض, وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا يمينا وشمالا.

_ 1 أخرجه مسلم: 2/ 592. 2 أخرجه النسائي من حديث جابر نفسه: 3/ 188، 189. 3 أخرجه مسلم: 4/ 2060. 4 تقدم تخريجه فيما سبق ص93 وتعليق 2.

وعن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: يا معشر القراء استقيموا؛ فقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن أخذتم يمينا وشمالا فقد ضللتم ضلالا بعيدا. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: عليكم بالعلم, فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق. وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعمل به إلا عملت به. إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. وقد قال في خطبته لما تولى الخلافة: أيها الناس! إنما أنا متبع ولست بمبتدع. وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أنه قال: عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا ... وإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة. وانظروا أن يكون عملكم -إن كان اجتهادا واقتصادا- أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم. وفي عهد التابعين كذلك كثر التحذير من البدع، لما رأوها بدأت تذر قرنها وتنتشر، فقال الحسن البصري: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا -صلاة وصياما- إلا ازداد من الله بعدا. وعن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها، أحب إليَّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها. وعن الفضيل بن عياض: اتبع الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق

جـ- أن المبتدع معاند للشرع ومشاقّ له؛ لأن الشارع قد عين للعبد منهجا يسير عليه، ويلتزم به، فيما يفعله وما يجتنبه، وهو سبحانه الذي يعلم ما يصلح للعبد وما لا يصلح، والعبد لا يعلم ذلك حقيقة على وجه التفصيل: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 139] . {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14] . والمبتدع رادّ لذلك كله ومخالف له؛ لأنه يزعم أن ثم طرقا أخر غير ما عينه الشارع، فكأنه يزعم أنه يعلم ما يعلمه الشارع، بل قد يفهم من هذا أنه يزعم أنه علم ما لم يعلمه الشارع. وهذا إذا كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين. د- أن المبتدع قد جعل نفسه مضاهيا للشارع، ونظيرا له، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك ضلالة وإثما وخطرا! هـ- أن الابتداع اتباع للهوى؛ لأن العقل إن لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في اتباع الهوى من الضلال، والانحراف، وكل من لم يتبع هدى الله فهو متبع للهوى، واقع في الضلالة؛ ولذلك جاء التحذير، فقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . وما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن الكريم إلا في سياق الذم؛ لأنه مخالف للشرع، وسبب للضلال والانحراف؛ ولهذا نزه الله تعالى نبيه عن الضلالة والهوى، وماذا بعد الحق إلا الضلال1؟

_ 1 "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 46-53 مقتطفات بتصرف. وانظر: "وجوب لزوم جماعة المسلمين" تأليف جمال بن أحمد بادي ص189-201، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 210-218.

معنى البدعة والابتداع: والبدعة مأخوذة في اللغة من الابتداع، وهو اختراع الشيء وابتداؤه من غير مثال أو أصل سابق، ويقصد بها في الشرع: الطريقة المخترعة في الدين تشابه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه1. وإذا ذكرنا البدعة والابتداع في الدين، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان تلك البدع الكبرى التي جاءبها الغلاة والمنحرفون عن سبيل أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، ففي القديم نجد أصول البدع عند الخوارج، والرافضة، والقدرية، والجهمية, والمرجئة, والمشبهة2 ... وفي الحديث ظهرت بدع وفرق مبتدعة كالقاديانية والبهائية والبابية انسلخت من الدين جملة.

_ 2 انظر التعريف لغة واصطلاحا مع شرحه في: "معجم مقاييس اللغة": 1/ 209، 210، "لسان العرب": 8/ 6-8، "الاعتصام": 1/ 36-42، "المنثور في القواعد" 1/ 217، 218، "الإبداع في مضارّ الابتداع" ص25-32. 3 انظر: "الاعتصام": 2/ 220 وما بعدها، "مجموع فتاوى ابن تيمية": 3/ 350، 351، "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": 1/ 377 وما بعدها، "صفة الغرباء" ص53-55".

عوامل ومؤثرات في ظهور البدع: وقد تضافرت جملة من الأسباب, والعوامل الداخلية والخارجية كانت وراء ظهور البدع وانتشارها. فمن العوامل الداخلية: أ- الغلوّ: وهو مجاوزة الحدّ المشروع والتشدّد في الدين، وقد يكون الغلو غلوا في الأشخاص بتعظيمهم ورفع مكانتهم وإطرائهم بما يخرج عن حدود الشرع، وكان هذا سببا في ضلال الرافضة الذين غالوا في علي رضي الله عنه، والسبئية الذين قالوا له: أنت أنت "أي: أنت الله"، وكذلك غلو بعض المتصوفة في شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه، فيدعونهم من دون الله، ويصفونهم بما هو من خصائص الربوبية والألوهية. وقد يكون الغلو تشددا في الدين والعبادة، وتنطعا في فهمه والالتزام بأحكامه، كغلو الخوارج الذين كفّروا مخالفيهم من المسلمين غلوا منهم في فهم آيات الوعيد وأحاديثه، ومثل غلو بعض المتعبدين في عباداتهم وانقطاعهم عن الحياة العملية؛ تأثرا بالرهبانية التي ابتدعها النصارى. وقد يكون الغلو تشددا في التمسك ببعض المذاهب الفقهية ومعاداة للآخرين، تعصبا وجهالة. ولذلك جاء في القرآن الكريم التحذير من الغلو، فقال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا

بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء: 171] . {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين" 1. والأحاديث في ذلك كثيرة تنهى عن الغلو, وتبين آثاره2. ب- الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة: مما يروى منسوبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بالحديث والسنة، فيسمع الجاهل هذه الأخبار فيصدق بها؛ لأنها توافق ظنه وهواه. بل إن المبتدعة قد يقولون أنواعا من الكفر، لا يروون فيه حديثا أصلا. وتجد أمثلة لهذا فيما يقولونه في نزول الله تعالى عشية عرفة يصافح الركبان ويعانق المشاة، وأن النبي

_ 1 أخرجه النسائي: 5/ 268، 269، وابن ماجه برقم "3029"، وابن حبان ص"249" "من موارد الظمآن"، وابن خزيمة في "الصحيح": 4/ 274، وصححه الحاكم: 1/ 446، والبيهقي في "السنن": 5/ 127، وابن أبي عاصم في "السنة": 1/ 46، والإمام أحمد في "المسند": 1/ 215، 347. وانظر: "النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد" ص109. 2 انظر بالتفصيل: "الاعتصام": 1/ 258، 259، "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص"84" وما بعدها بتحقيقي، "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" ص305-318، واقرأ كتاب "الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو" تأليف محمد سرور زين العابدين. وعند دفع هذا الكتاب للطبع صدرت دراسة قيمة عن "الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة" تأليف عبد الرحمن بن معلى اللويحق، طبع مؤسسة الرسالة.

-صلى الله عليه وسلم- قد رأى ربه في الطواف أو وهو خارج من مكة ... وأمثال ذلك من الكذب والضلال. وهنا وقع في الضلال والانحراف طائفتان: إحداهما غالت في نفي الرؤية حتى نفت ما هو ثابت من رؤية المؤمنين ربهم -تبارك وتعالى- في الجنة، والأخرى غالت في الإثبات حتى وقعوا في الحلول والاتحاد. وكلاهما أُتي من قبل احتجاجه بأخبار مكذوبة, مع إعراضه عما هو ثابت في نصوص الشريعة من الكتاب والسنة1. جـ- اتباع الظن والهوى: والظن هو الشكوك التي تعرض للبشر والآراء التي يرتئونها مما لا يستندون فيه إلى دليل شرعي ثابت، فيجعلونها حقا ويقينا, وهي حَدْس وأوهام. واتباع الظن لا ينتهي بالإنسان إلا إلى الضلال والابتداع، وحال الناس في كل جاهلية من الجاهليات القديمة والحديثة شاهد على ذلك، فعندما يُعرِض الإنسان عن المصدر الصحيح الثابت المستيقن الذي يجده في الوحي يقع في الضلال؛ ولهذا حذر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- من اتباع الظن باتباع أصحابه، فقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] . ثم تأتي الآيات الكريمة تحذّر من اتباع الظن، وتذمّ من يفعل ذلك، وتضع الإنسان أمام المسئولية فتطالبه بالدليل والبرهان، وإلا فإن الإنسان يضرب في بيداء التيه والضلال:

_ 1 انظر: "الوصية الكبرى"، لابن تيمية ص70-82 بتحقيقي.

{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] . {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] . وفي الحديث: $"إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث ... "1. أما الهوى: فهو مَيَلَان النفس إلى ما تستلذّه من الشهوات من غير داعية الشرع2. وبذلك يهوي الإنسان في دركات الضلال، في الدين والدنيا؛ لأنه مخالف لطريق الهداية المستقيم الذي يرسمه له الوحي. واتباع الهوى مخالفة صريحة واضحة للمقصد الأساسي للشريعة، وذلك أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة وبيان الأحكام هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا. ولذلك جاءت النصوص الشرعية تحذر من اتباع الهوى وتبين آثاره، فقال الله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] . {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 21] .

_ 1 أخرجه البخاري: 10/ 484، ومسلم: 4/ 1985. 2 "التعريفات"، للجرجاني ص320. وانظر: "مفردات الراغب"، "بصائر ذوي التمييز" عند مادة "هوي"، "كشف الأسرار على أصول البزدوي": 1/ 7.

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... ثلاث مهلكات: هوى متبع، وشحّ مطاع، وإعجاب المرء بنفسه" 1. ولذلك كان يستعيذ بالله تعالى من منكرات الأهواء، فيقول: $"اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء"2. قال ابن تيمية رحمه الله: "وأضلّ الضلال: اتباع الظن والهوى، كما قال تعالى في حق من ذمّهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] . وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4] . فنزّهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم، فالضالّ هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه. وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه، فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى"3.

_ 1 أخرجه البزار، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية", والبيهقي في "شعب الإيمان". قال المنذري: "وهو مرويّ عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن, إن شاء الله تعالى". انظر: "الترغيب والترهيب": 1/ 162، "سلسلة الأحاديث الصحيحة": 4/ 414-416. 2 حديث صحيح أخرجه الترمذي في الدعوات: 1/ 50، وابن حبان ص601 "من موارد الظمآن"، وصححه الحاكم: 1/ 532 على شرط مسلم. 3 "الوصية الكبرى" ص69.

د- تحكيم العقل البشري وتقديمه على نصوص الشرع، أو تأويلها لتوافق العقول البشرية، وأحيانا إنكارها بحجة أنها مخالفة للعقل: وهذا من أعظم الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى ظهور البدع والانحرافات. فقد تقدم أن للعقول حدّا تنتهي إليه ومجالا تعمل فيه، فإذا جعلناها حاكمة على الشرع والوحي كان ذلك خلاف حكم العقل نفسه؛ لأنه ثبت أن الشرع حاكم على العقل بإطلاق لأنه معصوم لا يخطئ، أما العقل فليس معصوما، وهو يخطئ ويختلف من إنسان لآخر، فلا يصلح أن يكون حاكما على الشرع، ومن هنا فإن الذين جعلوا العقل حاكما على الشرع وقعوا في بدع كثيرة لما ردوا الأحاديث النبوية واعتبروها مخالفة للعقل وما هي -في حقيقة الأمر- مخالفة، ولكنها مخالفة للمعتاد الجاري فحسب. ومن البدع التي نشأت بسبب هذا العامل ما ذكره الشاطبي -رحمه الله- من إنكار المبتدعة للصراط والميزان، وعذاب القبر، وسؤال المَلَكَين، ورؤية الله في الآخرة، وإنكار الصفات, ونحو ذلك1. هـ- الزيادة والنقص في الدين: وهما أمران يرجع إليهما معظم البدع، فمن الزيادة في الدين أن يدخل فيه ما لم يكن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهد أصحابه -رضي الله عنهم- مثل القول بأنه: لا موجود إلا الله, كما هو قول الاتحادية، وأنه: لا فاعل ولا قادر إلا الله، وهو قول الجبرية. وأمثال ذلك من الغلو في الدين، ومن ذلك القول بأن لله تعالى صفة لم ترد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أنواع الزيادة في

_ 1 انظر: "الاعتصام": 2/ 318-337.

الدين: الكذب فيه عمدا، وقد يتأولون ذلك بأنهم يكذبون له لا عليه. وأما النقص في الدين؛ فيكون برد النصوص والظواهر، ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد كلامية, أو فلسفية لم يتفقوا عليها. وأفحش ذلك وأشهره مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الأسماء الحسنى كلها، أو نفيها عن الله، على سبيل التنزيه له عنها وتحقيق التوحيد بذلك, ودعوى أن إطلاقها عليه يقتضي التشبيه، وقد غالوا في ذلك وبالغوا حتى قالوا: إنه لا يقال: إنه موجود ولا معدوم، بل قالوا: إنه لا يعبر عنه بالحروف1 ... و الجهل بأدوات الفهم للنصوص الشرعية: وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم بلسان عربي، جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] . وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193-195] . ولذلك ينبغي أن يفهم القرآن الكريم -وكذلك السنة النبوية- على مقتضى الأسلوب العربي في الكلام، وإلا فإن المتكلم فيه والمفسر لأحكامه وآياته قد يقع في البدعة والانحراف، عندما يحرف الكلم عن مواضعه بفهمه المخالف لأساليب اللغة العربية وطرائقها؛ كقول الرافضة في قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] : إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد، ويعنون أن عليا في

_ 1 انظر: "إيثار الحق على الخلق"، ص84 وما بعدها.

السحاب، فلا يخرج من خرج من ولده حتى ينادي عليّ من السماء: اخرجوا مع فلان. هذا مع أن الآية كانت في إخوة يوسف -عليه السلام- كما هو معروف من السياق. وكذلك قول من قال: إن كل شيء فانٍ حتى ذات الباري -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا- ما عدا الوجه، بدليل قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قالوا، فإن للمفسرين فيه تأويلات، والمعنى: كل شيء هالك إلا هو.. وهناك أمثلة لهذا كثيرة ذكرها الشاطبي رحمه الله1. وأما العوامل والمؤثرات الخارجية التي أدت إلى ظهور البدع، فمن أهمها: أ- تأثير اللقاء المباشر بأهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس، وقد سبقت الإشارة إلى هذا اللقاء مع آثاره عند الكلام على نشأة علم العقيدة واستقلاله. وهنا نجد أمثلة كثيرة لتأثير هذا العامل؛ فالشيعة تأثروا كثيرا بفكر عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أراد أن يقوم بإفساد الدين الإسلامي من الداخل، كما حاول ذلك قبله شاءول مع ديانة عيسى وتم له ما أراد2.

_ 1 "الاعتصام": 2/ 293-304. 2 انظر: "مذاهب فكرية" ص9 وما بعدها، "العلمانية.." د. سفر الحوالي ص27 وما بعدها, "المسيحية: نشأتها وتطورها" تأليف شارل جنيبر، ترجمة د. عبد الحليم محمود، ففيها تفصيل لدور شاءول "بولس" في إفساد النصرانية.

والقدرية؛ أخذوا مقالتهم في إنكار القدر عند رجل نصراني اسمه "سنسويه"، ثم تلقاها عنه معبد الجهني. والجهمية -أتباع الجهم بن صفوان- أخذوا عن الجعد بن درهم الذي أخذ مقالته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم اليهودي1.. كما أن مؤثرات كثيرة في الفرق المنحرفة كانت بسبب المجوس وغيرهم. ب- تأثير الفكر اليوناني، عن طريق ترجمة كتب الفلسفة اليونانية، التي فتن بها المعتزلة وكانت سببا للقول ببدع كثيرة، وسببا لأنواع الفساد والاضطراب في المنهج وفي المقررات التي خرجوا بها في الجانب الفكري والعقائدي. وهذا التأثير واضح فيما نجده من مزج علم الكلام بمنطق أرسطو وغيره، مما تصدى لبيانه ونقضه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ممن يمثلون منهج الأصالة بالعودة إلى القرآن والسنة.

_ 1 انظر: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، مقدمة المحقق: 1/ 39-41, والمراجع المشار إليها، واقرأ عن ابن سبأ وأثره كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة", تأليف سليمان حمد العودة، "طبع دار طيبة بالرياض"، وانظر فيما سبق ص54-58.

التوحيد

التوحيد مدخل ... التوحيد: تمهيد: ألمحنا فيما سبق إلى أن التوحيد هو: اعتقاد أن الله تعالى واحد في ربوبيته، فلا رب سواه، وواحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة سواه، وواحد في أسمائه وصفاته، متفرد بصفات الكمال التي لا تنبغي إلا له، فلا شبيه له ولا نظير. التوحيد: فطرة وتاريخا وهذا التوحيد -بأوسع معانيه وبكل مقتضياته ومستلزماته- هو الذي فطر الله تعالى الخلق عليه. وقد نطق بذلك القرآن الكريم والسنة النبوية؛ ففيهما أن الله تعالى خلق الإنسان مؤمنا بربه، يتجه إليه -بفطرته- بالطاعة والعبادة، وأن غايته هي تحقيق العبودية والتوحيد1. وبذلك يكون الأصل في البشرية هو التوحيد، "لقد كانت قضية توحيد الله -سبحانه- وإفراده بالألوهية, والعبودية له وحده بلا شريك، والدينونة له بلا منازع؛ هي قضية الاعتقاد الأولى والحقيقية في جميع الرسالات السماوية على مدار العصور والقرون"2. الأدلة على ذلك: وقد قامت الأدلة الشرعية الصحيحة، والأدلة العقلية المنطقية الصريحة تؤيد هذا الواقع وتسنده وتؤكده. وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الأدلة:

_ 1 راجع فيما سبق ص15-19. 2 "مقومات التصور الإسلامي"، للأستاذ سيد قطب ص84 و99.

أولا: حكى الله تعالى في القرآن الكريم أن أبا البشرية الأول -آدم عليه السلام- وذريته كانوا على التوحيد، يتبعون منهجا إلهيا منزلا إليهم من ربهم تبارك وتعالى، فهم أول البشر، يدينون بالتوحيد الخالص، وبذلك يكون التوحيد سابقا للشرك، وليس تطورا عنه. ثم كلما انحرفت أمة من الأمم عن هذا التوحيد, بعث الله تعالى إليها رسولا يدعوها إلى التوحيد وعبادة الله وحده: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} إلى قوله: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 30-38] . وجاء الحديث عن هذا التوحيد والالتزام بمنهج الله تعالى وشرعه في سورة "الأعراف", وفي سورة "طه" بما لا مزيد عليه في الوضوح والبيان، يقرر أن البشرية الأولى كانت على التوحيد، لم تعرف الشرك والانحراف إلا بعد قرون، حينما انحرف القوم عن دين الله وتوحيده، فبعث الله تعالى لهم نوحا -عليه السلام- يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] . {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25-26] . وهي أيضا دعوة هود -عليه السلام- يوجهها إلى قومه عاد: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] .

وهي الكلمة التي ينبغي أن يلتقي عليها أتباع الرسل والأنبياء؛ لتكون دليل إسلامهم لله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس أولا إلى توحيد الله وعبادته؛ ولهذا قال لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده" وفي رواية: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" 1. وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة قاعدة عامة إجمالية، في دعوة كل الرسل -عليهم الصلاة والسلام- بعد أن حكاها تفصيلا عن كل منهم بطريقة استقرائية2 -كما رأينا- فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .

_ 1 أخرجه البخاري: 3/ 261، ومسلم 1/ 50، 51. 2 راجع سياق الآيات في سورة الأعراف وفي سورة هود, لتلحظ أن الكلمة التي تكررت على لسان جميع الرسل -عليهم السلام- هي "اعبدوا الله, ما لكم من إله غيره" وأن التوحيد يأخذ مساحة واسعة من الحياة ببيان مستلزماته ومقتضياته، ولتلحظ كذلك: تشابه موقف كل قوم من دعوة نبيهم, ثم النهاية التي يكتب الله تعالى فيها النصر لنبيه ودعوته ويدمر على الكافرين الظالمين.

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . ثانيا: وكلما كان الإنسان قريبا من النبع كان الماء أكثر صفاء ونقاء، وكلما ابتعد عن النبع وجد الماء أقل صفاء ونقاء؛ لما يطرأ عليه من الأذى وما يداخله من القذى، والشوائب التي تنصبّ فيه ... وهكذا كانت البشرية الأولى على الفطرة والتوحيد لقرب عهدها بربها تعالى، ثم اختلطت بعد ذلك الينابيع.. وتضافرت العوامل التي أدت إلى الانحراف عن التوحيد، فكان ظهور الشرك طارئا بعد ذلك التوحيد، وكان انحرافا عنه. ثالثا: لو كان هناك تطور حقا -كما يقولون- لكان من الطبيعي والمنطقي أن يكون هذا التطور من الوحدة إلى الكثرة؛ لأن الواقع يدل على ذلك، فأنت عندما تبدأ بالعدّ والحساب -مثلا- تبدأ بالواحد وتنتهي بما بعده من كثرة، وليس العكس. الرد على نظرية التطور في الأديان: ولعل هذه الإشارات السريعة فيها ما يكفي للرد على مزاعم أولئك النفر من الغربيين ومن تابعهم من المسلمين1، والذين يدرسون تاريخ الأديان ويزعمون أن البشرية لم تعرف عقيدة التوحيد إلا بعد أن تطورت ومرت بمراحل، فكانت تعرف الشرك وتعدد الآلهة أولا, ثم ترقّت من ذلك إلى التوحيد، متأثرين في ذلك بنظرية التطور في أصل الأنواع التي ابتدعها "دارون"، ثم نقلوا الفكرة ذاتها إلى الدين، فأصبحوا يقولون بالتطور فيه.

_ 1 كالأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية" وعبد الحميد زايد في كتابه "الشرق الخالد" حيث زعم أن التوحيد من اختراع العقل البشري, وأنه تطور من الوثنية ... وانظر ردا على ذلك في "أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ" د. جمال عبد الهادي ص40 وما بعدها.

وقد يظن بعض المسلمين أن في ذلك ترقيا للإنسان وتزكية للإسلام؛ لأنهم يزعمون أن البشرية لما كانت في حال من التأخر كانت تعبد آلهة متعددة، ولما ترقت وتقدمت أصبحت تعبد إلها واحدا، فنشأت ديانات التوحيد. يظنون ذلك ويدافعون عنه، مع أنه -كما رأينا- يناقض نصوص القرآن الكريم والسنة والنبوية, ويخالف الواقع والمنطق والعقل1. أنواع توحيد الرسل والأنبياء: وبعد أن انتهينا إلى أن جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قد بعثهم الله تعالى بدعوة التوحيد، فينبغي أن نؤكد هنا على أن التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه, نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. وهذا باعتبار ما يجب على الموحِّد؛ فأحيانا يطلب منه مجرد العلم والمعرفة, وأحيانا يطلب منه توجيه القصد والإرادة وإخلاص العبادة لله. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب -تبارك وتعالى- وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وعلوه فوق سمواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. وقد أفصح القرآن الكريم عن هذا النوع من التوحيد كل الإفصاح، كما في أول سورة "الحديد" و"طه" وآخر "الحشر" وأول سورة "السجدة" و"آل عمران" وسورة "الإخلاص" كلها، وغير ذلك من الآيات والسور.

_ 1 انظر بالتفصيل: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 20/ 106-112، 28/ 603-605، "في ظلال القرآن"، المجلد الثالث ص1304-1306، 1394، "مقومات التصور الإسلامي" ص84-100، "الدين" للدكتور محمد عبد الله دراز ص106 وما بعدها، "مدخل إلى الثقافة الإسلامية"، ص176-182، "العقيدة في الله"، ص243-252, "نشأة الدين" ص178 وما بعدها.

والنوع الثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، بإفراد الله تعالى بالعبادة قولا وقصدا وفعلا. وقد أفاض القرآن الكريم في بيان هذا النوع، كما في سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وسورة "آل عمران"، وأول سورة "يونس" وأوسطها وآخرها، وأول سورة "الأعراف" وآخرها، وجملة من سورة "الأنعام". وغالب سور القرآن الكريم، بل كل سورة فيه متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به, داعية إليه: 1- فإن القرآن الكريم، إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات. 2- وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، أو توحيد القصد والطلب. 3- وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته في أمره ونهيه، فذلك من حقوق التوحيد ومكمّلاته. 4- وإما خبر عن إكرام الله لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا، مع ما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء التوحيد. 5- وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحلّ بهم في الآخرة من العذاب، فهو خبر عن جزاء من خرج عن حكم التوحيد. وبهذا, فالقرآن الكريم كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وجزاء من انحرف عنه وخرج عن حكمه1.

_ 1 "مدارج السالكين"، 3/ 449، 450، "شرح الطحاوية" ص89، 90، "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" ص36-39، "دعوة التوحيد" 12.

أقسام التوحيد باعتبار متعلقاته: وأما تقسيم التوحيد باعتبار متعلقه، فهو يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: توحيد الربوبية. والثاني: توحيد الألوهية. والثالث: توحيد الأسماء والصفات. وهذه قسمة واقعية بيانية للتوحيد، فإن الكلام فيه إما أن يتعلق بالربوبية وتفرد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير، وإما أن يتعلق بالألوهية وتفرده سبحانه بذلك، فهو صاحب الأمر والنهي والحكم، وهو الذي ينبغي أن نتجه إليه بالطاعة والعبادة, وإما أن يتعلق بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- مما ينبغي له من الصفات العظمى, والأسماء الحسنى. وأصل هذا التقسيم نجده في كلام الأئمة من علماء السلف؛ كالطبري وابن منده وغيرهما. فهو ليس شيئا مخترعا مبتدعا كما يزعم بعضهم. العلاقة أو النسبة بين هذه الأقسام الثلاثة: وقبل أن نخصّص فقرة لكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة للتوحيد، نشير إلى العلاقة بينها: فإن توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو مقتضى توحيد الربوبية وكذلك توحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الربوبية هو المقدمة لتوحيد الألوهية والخطوة الأولى التي توصل إليها، وإلى هذا يشير قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22] . فالله سبحانه وتعالى يستحق العبادة وحده؛ لأنه هو الخالق وحده، وبذلك يتم الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية. وأما توحيد الألوهية، فهو متضمن لتوحيد الربوبية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا، لا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه ومالكه الذي لا رب له غيره، ولا مالك له سواه. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ} ... فجمع بين الاسمين: اسم الإله, واسم الرب"1. وأما توحيد الأسماء والصفات؛ فإنه شامل للنوعين السابقين، فهو يقوم على إفراده سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا التي لا تنبغي إلا له، ومن جملتها كونه ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته، وكونه إلها واحدا لا شريك له في إلهيته. فاسم الرب لا ينصرف عند الإطلاق إلا إليه، وكذلك اسم الجلالة "الله" لا يطلق إلا عليه وحده، فهو صاحب الربوبية المطلقة الشاملة وصاحب الإلهية على جميع خلقه. وبالجملة: فهذه الأنواع الثلاثة من التوحيد متكاملة متلازمة، يكمل بعضها بعضا، ولا ينفع أحدها بدون الآخريْنِ؛ ولذا فمن أتى بنوع واحد منها ولم يأت بالآخر، فإنه لم يأت به على الوجه المطلوب، وعندئذ لا ينتج أثره المطلوب2.

_ 1 "مجموع الفتاوى": 10/ 284. 2 "تيسير العزيز الحميد" ص33، "دعوة التوحيد"، د. محمد خليل الهراس، ص83-86.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية: تعريفه: وقد ألمحت آنفا إلى أن توحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى هو وحده رب كل شيء ومالكه، وهو خالق كل شيء، هو خالق العباد ورازقهم، وهو محييهم ومميتهم، وأنه سبحانه النافع الضار، المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، والأمر كله له -سبحانه- وبيده الخير كله، وهو على كل شيء قدير، ليس له في ذلك شريك, ويدخل في ذلك أيضا: الإيمان بالقدر. وقد سبق -فيما سلف- أن هذا التوحيد يستلزم توحيد الألوهية، فهو وحده لا يُدخِل صاحبه في الإسلام؛ ولذلك قاتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- المشركين مع أنهم كانوا يقرون بأن الله سبحانه -وحده- هو الخالق الرازق، المحيي والمميت، المتصرف بالأمر كله1. وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] . وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63] . {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] .

_ 1 انظر: "تطهير الاعتقاد" للمقريزي، ص29, 30.

فهم ينسبون الخلق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمر كله: من رزق وإنزال للمطر وغيره، ينسبونه كله لله سبحانه، ومع ذلك حكم الله تعالى عليهم بالكفر ودمغهم بالشرك، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] . أما إيمانهم بالله، الذي أثبته الله لهم في هذه الآية، فهو قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا، فهذا إيمان، مع إشراكهم في عبادتهم غيره. فهم يعرفون الله، ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره، وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات، كالحج والصدقة، والذبح والنذر، والدعاء وقت الاضطرار، ونحو ذلك ... ويدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] . وبعضهم كان يؤمن بالقدر، وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب، كما قال زهير بن أبي سلمى: يؤخَّر فيُوضع في كتاب فيُدَّخر ... ليوم الحساب أو يُعجَّل فيُنقَم وقال عنترة: يا عَبْلُ أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها؟ ومثل هذا يوجد في أشعارهم، فوجب على كل عاقل عقل عن الله تعالى، وفهم آياته، أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم، مع هذا الإقرار والمعرفة! وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة

الذي هو معنى: "لا إله إلا الله"1. وحتى أولئك الذين عبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله تعالى، لم يعتقدوا أن الأصنام مشاركة لله في الخلق، وإنما اعتقدوا أنها تماثيل قوم صالحين, من الأنبياء والصالحين، فهم يتوسلون بها إلى الله كما حصل لقوم نوح، الذين عبدوا ودا وسواعا ... {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] . فإن هذه الأسماء أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم ... ثم صارت هذه الأصنام بعينها مع غيرها، معبودة عند العرب الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وحتى أولئك الذين اعتقدوا بإلهين اثنين، كالثنوية مثلا، الذين قالوا بإله للنور وإله للظلمة، أو إله للخير وإله للشر، لم يكونوا يعتقدون تساوي هذه الآلهة، فإله النور عندهم خير من إله الظلمة، وهذا ليس مثل ذاك. ولا أظن عاقلا يوقن في قرارة نفسه بأن هناك خالقا أو مدبرا لهذا الكون غير الله سبحانه، أو أن هذا الكون لم يخلقه الله سبحانه؛ فإن الوحدة والتناسق في نظام هذا الكون دليل على وجود الله تعالى ووحدانيته2.

_ 1 انظر: "تيسير العزيز الحميد"، ص34، "تجريد التوحيد" ص14, "تطهير الاعتقاد" ص23، 24. 2 انظر: "التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان"، ص35-39.

وفي كل شيء له آية: ولذلك جاءت الآية القرآنية الكريمة توجّه أنظارنا إلى هذا الكون وتناسقه؛ لتبين لنا أن وراء هذا كله قدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل 59-64] . وقال الله تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] . ومن نور هذه المشكاة جاء حديث النبي ودعاؤه الذي يقول فيه: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" "أخرجه البخاري".

إطلاقات كلمة "رب": وتوحيد الربوبية لا يتنافى مع ما جاء من تسمية المالك للشيء المتصرف فيه: ربا له، كأن نقول: فلان رب الدار، أو: رب البيت.. فإن هذا يعني أنه هو صاحب هذا الشيء الذي جعل الله تعالى له حق التملك والتصرف في ذلك الشيء المملوك، وهو يصلحه وينمِّيه ويتعهده ويقوم برعايته، ولا يتنافى ذلك مع أن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شيء ومليكه. فهو إطلاق بمعنى خاص، لا بأس به في الشرع ولا العقل. الإلحاد جهالة وسفاهة: وإذا كان من البداهة والفطرة أن يقر الإنسان بوجود الله سبحانه وتعالى ووحدانيته -على ما أسلفنا- لأن كل الأدلة تدل على ذلك، فإنه من السخافة والضلالة والجهالة أن يغمض الإنسان عينه أو يجعل عليها غشاوة لئلا تبصر الحق وتهتدي إليه، أو أن يلغي عقله ويطمس على بصيرته ويخالف فطرته، فينكر وجود الله سبحانه، وينسب الخلق إلى ما أسماه بعضهم: الطبيعة أو التفاعل الذاتي أو المصادفة ... كما يفعل الملحدون وأضرابهم من السفهاء1. صور من الإخلال بتوحيد الربوبية: ولئن اضمحلَّت تلك الموجة الإلحادية -التي اتسعت دائرتها في أوروبا لظروف خاصة- فإننا لا نزال نجد في كثير من بقاع المسلمين صورا وألوانا من الإخلال بتوحيد الربوبية؛ نجده عند أولئك الذين يزعمون أو يظنون أن أحدا من البشر، كالأقطاب والأبدال.. عند الصوفية، لهم نوع من القدرة والتصرف في هذا الكون، أو أن هذا

_ 1 انظر: "التصور الإسلامي للكون والحياة"، فصل: حقيقة الكون.

الكون يُحفَظ بهم! أو أن الأولياء في قبورهم يستطيعون أن ينفعوا أحدا بشيء، كالشفاء من المرض، أو تيسير حاجة ما من حاجات الناس؛ ولذلك تراهم يطوفون حول قبورهم، ويدعونهم من دون الله أو مع الله، ويستغيثون بهم ويستجيرون، ويقدمون لهم النذور والقرابين..!! ولا يبعد عن هؤلاء أولئك الذين يخضعون خضوعا تاما لأشياخ الطرق الصوفية, ويكونون بين أيديهم كالميت بين يدي الغاسل!! فإنهم وإن كانوا يقولون: إن الله هو الخالق الرازق المدبر لهذا الكون المتصرف فيه، فواقع حالهم يشير إلى أنهم لم يَقْدِروا الله حق قدره، وأنهم يعظمون هؤلاء الأموات أو المشايخ أكثر مما يعظمون الله تعالى! فلْنحذر الوقوع في أي شائبة من شوائب الشرك، ولْنحافظ على هذه العقيدة نقية صافية، وليكن الله تعالى دائما -وحده- وجهتنا ومعبودنا، ولنقل مع أبي الأنبياء خليل الرحمن، إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية: ألا له الخلق والأمر: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] . ما أعظم قدرة الله سبحانه وتعالى! وما أجلى حكمته في هذا الخلق! إن هذا الوجود كله, اتجهت إليه إرادة الله تعالى فأوجدته, وأودعه الله سبحانه قوانينه التي بها يتحرك، والتي تتناسق حركة أجزائه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . وإذا كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى، فينبغي -بداهة- أن يكون الأمر كله لله أيضا، فإن الذي يخلق هو الذي يأمر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] . وبهذا يترتب توحيد الألوهية على توحيد الربوبية، كما أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية1. وقد ألمحنا -فيما سبق- لمحات حول توحيد الربوبية، فلْنتابع -على بركة الله تعالى وبتوفيق منه سبحانه- حديثا حول توحيد الألوهية، ويقال له أيضا: توحيد العبودية، وتوحيد الإرادة، وتوحيد القصد والطلب، وتوحيد العمل أيضا،

_ 1 راجع فيما سبق ص226، 227 عن التلازم بين أنواع التوحيد.

أو يقال: هو توحيد الله بأفعال المكلفين. تعريف توحيد الألوهية "العبودية": وتوحيد العبودية هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، بمعنى: أن يُعبَد الله سبحانه وتعالى وحده، ولا يُشرَك معه في عبادته أحد من خلقه؛ لأنه وحده المستحق لأن يعبد، وهو مبني على إخلاص العمل كله والتوجه به لله سبحانه وتعالى وحده دون سواه، سواء كان هذا العمل من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح. دعوة القرآن إليه: وهذا النوع من التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] . وأساس ذلك أن تعلم أن هناك ألوهية وعبودية، فالله سبحانه وتعالى هو الرب القوي القادر، الغني الواسع، العزيز الحكيم, الرازق المحيي المميت.. المتفرد بكل صفات الكمال، وهو الإله الحاكم المشرِّع، الذي ينبغي أن يتوجه إليه جميع الخلق بالعبادة، وأما الإنسان، فهو مخلوق لله سبحانه، وهو عاجز ضعيف، رغم كل ما منحه الله تعالى من المواهب والمَلَكات، وهو خاضع عابد بطبعه، إن لم يكن عابدا لله تعالى فإنه سيعبد غير الله, ويقع في عبودية غير الله تعالى، فهو إن لم يكن عبدا لله كان عبدا لغير الله. فالصلة بين العبد وربه تبارك وتعالى هي صلة العبودية بالربوبية، وتحقيق ذلك يكون بالتوجه إلى الله تعالى وحده بالأعمال والقصد، وهو توحيد الألوهية كما سبق بيانه1.

_ 1 انظر: "العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، "مقومات التصور الإسلامي" للأستاذ سيد قطب، فصل: ألوهية وعبودية.

أهمية هذا التوحيد، ودعوة الرسل إليه: وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، وجميع رسل الله تعالى -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا إلى أممهم بالدعوة إلى هذا التوحيد1. فقال الله تعالى, مخبرا عن نوح عليه السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25، 26] . وقال عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] . وتكررت هذه الكلمة، وهذه الدعوة، على لسان صالح وشعيب وسائر الأنبياء، والرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم ذكره الله تعالى قاعدة عامة في دعوة كل الرسل، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] .

_ 1 انظر: "تطهير الاعتقاد"، للصنعاني، ص20، 21، ص26-28، وفيما سيأتي ص 305-307، "الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى" عثمان ضميرية، ص11-21.

ثم أمر الله تعالى نبينا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بهذا، فقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 11، 12] . وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] . وعندما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي رواية: "أن يوحِّدوا الله" 1. ولأهمية هذا النوع من التوحيد، ولأنه هو لبّ دعوة الرسل, ولأن نزاع المشركين إنما كان في هذا النوع؛ لهذا كله كانت العناية به في القرآن الكريم، فما من سورة من سوره إلا وقد جاء فيها الحديث عن هذا التوحيد, نصا أو دلالة. منهج القرآن: وقد سلك القرآن الكريم في بيان حقيقة هذا التوحيد ولوازمه ومقتضياته مسالك شتى: فهو قد أمر به مباشرة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكما سيأتي أيضا. ثم ناقش شُبُهات المشركين وردّ عليهم ما ادعوه من الأسباب التي أوقعتهم في الشرك, وبيّن حقيقة الشرك الذي وقع فيه المشركون، وأنه هو شرك العبادة أو شرك الطاعة والاتباع، والتحليل والتحريم من دون الله تعالى ... ومن خلال هذه

_ 1 أخرجه البخاري في الزكاة: 3/ 357، ومسلم في الإيمان: 1/ 50.

المناقشات رسم القرآن الكريم الصورة الصحيحة الصادقة للتوحيد. ثم ذكر الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين طريق العبادة الصحيحة، التي ينبغي أن يكون المسلم عليها أو يقوم بها، ووجّه نظره إلى التفكر فيما بثّه سبحانه من آيات, ودلائل تقوده إلى الخضوع لله سبحانه. ثم ذكر سبحانه وتعالى في كتابه ما أعدّه لعباده المؤمنين من صور النعيم والثواب في الجنة لمن يحقق هذا التوحيد، وبالمقابل رسم صورة قاتمة للعذاب المهين الأليم لكل من يخالف هذا التوحيد. ولعلنا لا نستطيع في هذا المقام أكثر من الإشارة إلى هذا الذي ألمحنا إليه عن طريقة القرآن الكريم في بيان هذا التوحيد، وللتفصيل مكان آخر غير هذا. تحقيق هذا التوحيد: وأما تحقيق هذا التوحيد، فإنه يكون بالتوجه لله تعالى وحده، وإفراده بكل أنواع العبادة، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله، فينبغي أن يتجه بالعبادة كلها له وحده سبحانه، سواء كانت عبادة اعتقادية أو قلبية أو بدنية أو مالية، وأن تُخلَص كلها لله سبحانه وتعالى. وسيأتي الكلام على هذه الأنواع عند التفصيلات عن توحيد الألوهية، بمشيئة الله تعالى.

توحيد الأسماء والصفات

توحيد الأسماء والصفات: عجيب أمر هذا الإنسان! يتحدث عن الحكمة ويتشدَّق بها، ولكنه يبتعد عنها في واقعه وفكره، فقد قالوا: إن الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، وإن أول ما ينبغي أن يتبادر إلى الذهن في هذا المجال: أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الإنسان ووهبه جملة من المواهب والملكات والإمكانيات، وزوّده بأدوات العلم والمعرفة؛ لتساعده على تحقيق وظيفته وغايته في هذه الحياة، كما أراد الله سبحانه وتعالى. وكل أداة أو وسيلة ينبغي أن تستخدم فيما أُعدت له، وإلا فإن من يفعل غير ذلك يكون قد سَفِهَ نفسه وعقله. أرأيت إنسانا يستخدم عينه ليتعرف بها على رائحة شيء ما؟ أو يستخدم أنفه ليبصر ما أمامه من موجودات..؟ إنك لو رأيت من يفعل ذلك لحسبته مجنونا، وكذلك فإن لكل أداة من أدوات العلم والمعرفة مجالا تعمل فيه وطاقة محدودة لها تتناسب معها ومع قيمتها. للعقل دور محدود: ولذلك يخطئ كثير من الناس عندما يريدون أن يجعلوا عقولهم حَكَما في كل شيء، حتى فيما لا يستطيع العقل أن يعمل فيه أو يفكر؛ لأنه لو فعل ذلك لن يصل إلى شيء؛ لأنه لم يخلق لهذا الذي أقحمه صاحبه فيه، وما هو بقادر على أن يصل إلى ما يريد. فلو راح الإنسان يتعرف على عالم الغيب؛ بحقيقته وموجوداته وطبيعته ... فهل تراه يصل إلى شيء من العلم بعقله, مجردا عن الوحي؟

لو راح يفكر في ذات الله سبحانه وتعالى ليتعرف عليها أو يحيط بها، فهل يصل إلى الحق؟ إن العقل أعجز من أن يستطيع ذلك كله أو بعضه، وكل من حاول هذا ضرب في بيداء التيه والضياع، وضل عن سواء الطريق، ولم يعد إلا بالحيرة والخيبة والندم1. وقد تكفل سبحانه وتعالى، فعرّفنا بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى، عن طريق وحيه المنزل, ثم عن طريق رسله -عليهم الصلاة والسلام- لأنهم أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . ويبقى دور العقل هنا أن يتلقى النصوص الشرعية من الوحي؛ ليفهم ما تتضمنه هذه النصوص من معاني أسماء الرب سبحانه وصفاته. وبكلمة واحدة: "نحن قد نعرف الله عقلا، ولكننا لا نعرف صفاته إلا وحيا"2.

_ 1 انظر فيما سبق 179-183. 2 انظر: "دراسات في الفكر الإسلامي" لأستاذنا الفاضل الدكتور عدنان محمد زرزور حفظه الله، ص119. وينبغي أن نذكِّر بأن الكلام في هذا الموضع ينصبّ على المعرفة التفصيلية الدقيقة الصحيحة، وهذه لا تعرف إلا عن طريق الوحي. أما المعرفة الإجمالية العامة فيمكن أن يصل إليها الإنسان بعقله، فيعرف عقلا أن الله تعالى يتصف بصفات الكمال كالعلم والقدرة ... إلخ, ونجد شواهد كثيرة على ذلك في تصورات الفلاسفة القدامى عن الربوبية وصفات الرب تبارك وتعالى وكيفية الخلق وتعلق إرادة الله تعالى بذلك ... إلخ وكل من شدا شيئا من الفلسفة أو اطلع على مباحثها أيقن بذلك حق اليقين.

وإذا كان الرب -سبحانه وتعالى- أعلم بنفسه من خلقه وأصدق قيلا، ومنهجه أهدى سبيلا، وكان رسوله المبلغ عنه كذلك أعلم به، وبما يجب له، وبما يمتنع عليه، من كل أحد، وهو أقدر الناس على بيان ذلك، وأحرصهم على هداية الخلق إليه، فلا يجوز التعويل -إذن- في إثبات الصفات والأسماء لله سبحانه وتعالى، أو نفي ما يُنفى، على غير الكتاب والسنة. فالأدلة التي تثبت بها أسماء الله تعالى وصفاته، هي: كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الثابتة عنه، فلا تثبت أسماء الله تعالى وصفاته بغيرهما. الإيمان بالأسماء والصفات: وعلى هذا, فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه مع إثبات كمال ضده. وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه، فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه. وأما معناه، فيفصَّل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول، وأن أريد به باطل لا يليق بالله عز وجل وجب رده1. فإن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا، ولم يتركنا في معرفة شيء من أسمائه الحسنى وصفاته العظمى إلى شيء وراء ما دل عليه الكتاب والسنة، فمن رجع في شيء من ذلك إلى قضية عقل أو استحسان برأي أو إلهام أو كشف، أو غير ذلك، فقد قال على الله تعالى بغير علم، وضل عن سواء السبيل.

_ 1 انظر: "الرسالة التدمرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في مجموع الفتاوى: 3/ 1281. "القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى"، ص29-33.

طريقة إثبات الأسماء والصفات: ولذلك يؤمن المؤمن بكل ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل. وقد بين الله تعالى أن له أسماء حسنى، فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] . كما بين أن له صفات عليا, فقال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20] . وكل ما ثبت عن الله تعالى من الأسماء والصفات، فإنه لا يماثل فيه شيئا من خلقه، ولا يماثله شيء، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . وقال أيضا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] . وقال سبحانه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] . اتفاق في الاسم, لا في المسمَّى: وحتى لو اتفقت الصفات في أسمائها، فإن صفات الله تعالى تختلف عن صفات المخلوقين، فالاتفاق في الأسماء لا يقتضي الاتفاق في المسميات، فقد سمى الله تعالى نفسه حيا، عليما، قديرا، رءوفا، رحيما، عزيزا، حكيما، سميعا،

بصيرا، ملكا، مؤمنا، جبارا، متكبرا، وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء، كقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] . وكقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95] ... إلخ.. ومعلوم أنه لا يماثل السميعُ السميعَ، ولا الحيُّ الحيَّ. وصفات الله تعالى هي على ما يليق بجلاله وعظمته، فليس لأحد أن ينفي صفة منها بحجة أنه ينزه الله تعالى؛ لأنه -بزعمه- لو أثبت هذه الصفة لكان مشبها له بالمخلوقين، مع أنه يثبت له صفة أخرى غيرها، ولا يقول: إن هذه الصفة لله سبحانه وتعالى تشبه صفة المخلوقين، فالله سبحانه أخبر عن نفسه بصفات مدح فيها نفسه، فقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] . فهل لأحد أن ينفي شيئا من هذه الصفات, الدالة على الكمال والجلال؟ القول في الصفات كالقول في الذات: فاذكر -أيها المسلم- أن القول في صفات الله تعالى كالقول في ذات الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات. وإذا كانت نصوص الصفات في ظاهرها معلومة لنا باعتبار المعنى، فهي غير معلومة لنا باعتبار الكيفية التي هي عليها.

القول في بعض الصفات كالقول في بعض: وإذا عرفنا ذلك, فإننا ينبغي أن نعرف أصلا آخر وهو أن: القول في بعض الصفات كالقول في بعضٍ، فكما أننا يجب أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى عليم, حكيم، حي، قادر.. إلخ وهذه كلها صفات حقيقية، كذلك نؤمن بمحبة الله ورضاه، وغضبه وكراهته، حقيقة لا مجازا، فكما أن حياة الله تعالى لا تشبه حياة المخلوقين، وكما أن علم الله سبحانه وتعالى لا يشبه علم المخلوقين، فكذلك غضب الله ورضاه ... كل هذا لا يشبه غضب المخلوقين ورضاهم، فينبغي الإيمان بالصفات كلها على ما يليق بالله سبحانه وتعالى. والمؤمن أعقل من أن يتورَّط فيما ليس من شأنه، وأن يتعمق في بحث الكيفية. فينبغي أن يقطع الأمل في معرفة الكيفية. وما أصدق ما قال الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- حين سُئل عن الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"1! الخلاصة: فالوصية -أيها المسلم- أن تنزه الله تعالى عن مشابهة صفات المخلوقين، وأن تثبت لله تعالى من الأسماء ما سمى به نفسه، وأن تؤمن بما وصف به نفسه من الصفات، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تعلم أنك لن تحيط به سبحانه علما. قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .

_ 1 أخرجه البيهقي: "في الأسماء والصفات": 2/ 150، 151، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد: 2/ 398. وانظر: "فتح الباري": 13/ 406، 407.

إن لله تسعة وتسعين اسما: وبعد هذه اللمحات الموجزة السريعة عن توحيد الأسماء والصفات، نشير إلى الحديث الذي يخبر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عدد الأسماء الحسنى ويبشِّر من يحصيها بدخول الجنة، فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة" 1. والحديث يتضمن مسألتين: أولاهما: أن لله تعالى أسماء حسنى، بلغت الغاية من الحسن والكمال، وأن من أحصى منها تسعة وتسعين اسما دخل الجنة. وليس المراد بالحديث حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد, وليس فيه نفي ما عداها من الزيادة عليها، وإنما وقع التخصيص بالذكر لهذه الأسماء؛ لأنها أشهر الأسماء، وأبينها معاني وأظهرها، وذلك أن الصيغة ليست من صيغ الحصر والقصر، وجملة قوله عليه السلام: "إن لله تسعة وتسعين اسما" جملة واحدة، أو قضية واحدة لا قضيتان، ويكون تمام الكلام في خبر "إن" في قوله: "من أحصاها دخل الجنة"، فالمراد: الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء. فهو بمنزلة قولك: إن لفلان ألف درهم أعدها للصدقة. وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، وإنما دلالته: أن الذي أعده فلان من الدراهم للصدقة ألف درهم.

_ 1 أخرجه البخاري في التوحيد: 13/ 377, وفي الشروط والدعوات، ومسلم في الذكر والدعاء: 4/ 2062، وساق الترمذي في روايته للحديث عدة الأسماء، وكذلك ابن ماجه وابن حبان. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر: 11/ 214-220، "تلخيص الحبير": 4/ 172-174. قال البيهقي في "الأسماء والصفات" "1/ 32": ويحتمل أن يكون التفسير -أي: سياق الأسماء التسعة والتسعين في الحديث عند الترمذي وغيره- وقع من بعض الرواة.

والذي يدل على صحة هذا الفهم لمعنى الحديث, أمور: أ- حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه ... " 1. فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه فعرفه عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه, فلم يطلع عليه أحد من خلقه. وهذا يدل على عدم الحصر بالتسعة والتسعين. وبهذا المعنى جاءت أحاديث أخرى كحديث الشفاعة: "فيفتح عليّ من محامده بما لا أحسنه الآن" 2 وحديث: "لا أُحصي ثناء عليك, أنت كما أثنيت على نفسك" 3. ب- أن الروايات التي جاء فيها إحصاء الأسماء التسعة والتسعين متعددة، وفي

_ 1 أخرجه الإمام أحمد في "المسند": 1/ 391، 452، وصححه ابن حبان ص589 "من موارد الظمآن" والحاكم: 1/ 509 على شرط مسلم, وقال: "إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه.." وقال الذهبي: وأبو سلمة لا يدري من هو، ولا رواية له في الكتب الستة، وأخرجه أبو يعلى في "المسند" 5/ 136. 2 قطعة من حديث الشفاعة، أخرجه البخاري في الأنبياء: 6/ 264، 265، ومسلم في الإيمان 1/ 184، 185. 3 قطعة من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه مسلم في كتاب الصلاة: 1/ 352.

بعضها أسماء ليست في الأخرى, وعدتها تسعة وتسعون، فإذا ضمت الأسماء في كل رواية إلى ما زاد عليها في الروايات الأخرى, فإنها تزيد عن تسعة وتسعين اسما. جـ- أن أكثر هذه الأسماء التي وردت في الروايات صفات لله تعالى، وصفات الله لا تتناهى. والمسألة الثانية هي: إحصاء هذه الأسماء، وفي معنى الإحصاء المراد أوجه أربعة: أحدها: أنه بمعنى العد، يريد: أنه يعدها ليستوفيها حفظا فيدعو بها ربه، كقوله سبحانه: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] . والوجه الثاني: أن يكون الإحصاء بمعنى الطاقة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] . والوجه الثالث: أن يكون الإحصاء بمعنى العقل والمعرفة, فيكون معناه أن من عرفها وعقل معانيها وآمن بها, دخل الجنة. والوجه الرابع: أن يكون معنى الحديث: أن يقرأ القرآن حتى يختمه, فيستوفي هذه الأسماء كلها في أثناء التلاوة. فكأنه قال: من حفظ القرآن, وقرأه فقد استحق دخول الجنة. ولعل هذه الوجوه كلها مجتمعة هي المرادة بالإحصاء، فكأنها مراتب؛ المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها، والمرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها، والمرتبة الثالثة: دعاؤه سبحانه وتعالى بها، كما قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وهو مرتبتان: إحدهما: دعاء ثناء وعبادة، والثانية: دعاء طلب ومسألة.

فلا يثنى عليه سبحانه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وكذلك لا يسأل إلا بها، فيسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب, فيكون السائل متوسلا إليه سبحانه بذلك الاسم, ومتعبدا له به1. وعندئذ يكون المؤمن قد تعرف على الله تعالى معرفة صادقة من خلال معرفته للأسماء والصفات التي أخبرنا الله تعالى بها؛ كي نؤمن بها وكي نتعرف على الله من خلالها، وندعوه بها، ليكون لها أثرها في السلوك الفردي والاجتماعي، فعندما نتعرف على الله الخالق والرازق، لا نطلب الرزق إلا منه، وعندما نتعرف على الله العليم الحكيم نسلِّم له الأمر كله، وعندما نعرف أنه متفرد بالخلق والأمر, فإننا نخضع لأمره وحكمه، وعندما نتعرف عليه سميعا بصيرا تمتلئ نفوسنا تقوى وخشية له سبحانه ... وأما ما وراء ذلك من أبحاث الفلاسفة والمتكلمين عن الصفات وعلاقتها بالذات وكيفية قيامها بها ... إلخ هذا كله مما لا طائل تحته ولا فائدة ترجى منه، بل هو مزلّة أقدام ومضلّة أفهام، نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العظمى أن يثبتنا على الحق والهداية.

_ 1 انظر فيما سبق بالتفصيل: "شأن الدعاء" للخطابي ص24-30، "بدائع الفوائد" لابن القيم: 1/ 164-166، "درء تعارض العقل والنقل": 3/ 332، "فتح الباري": 11/ 214-228، "تلخيص الحبير" لابن حجر: 4/ 174، 175، "الأسماء والصفات" للبيهقي: 1/ 30-33، "شرح النووي على صحيح مسلم": 17/ 5، 6، "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" لابن علان: 3/ 199-203، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري: 9/ 482-489، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لملا علي القاري: 5/ 72، 73، "لوامع الأنوار البهية" للسفاريني: 1/ 127، "تفسير ابن كثير" 3/ 516، 517، "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" تأليف عبد الله الغنيمان: 1/ 218-220.

جوانب من توحيد الألوهية

جوانب من توحيد الألوهية أولًا: شهادة أن لا إله إلا الله مدخل ... جوانب من توحيد الألوهية: اولًا: معنى شهادة أن لا إله إلا الله الإسلام يقوم على عقيدة التوحيد: يقوم الإسلام على عقيدة التوحيد النقية الصافية، التي تمثلها هذه الشهادة، التي شهد الله تعالى بها لنفسه، كما شهد له بها الملائكة وأولو العلم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] . وهذه الشهادة ذات شقين عظيمين1؛ يمثل أولهما الخضوع لله تعالى والعبودية له، ويمثل الثاني هذا الخضوع، ويرسم المنهج الذي يسلكه المؤمن في عبادته لله سبحانه وتعالى, باتباع ما أنزل الله تعالى على رسوله ... هذه الشهادة هي: شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وهي عنوان دخول لمرء في دين الإسلام، وهي -بمقتضياتها وتوابعها ومستلزماتها- مفتاح الجنة في الآخرة، وهي عصمة لدم المرء وعِرْضه وماله في الدنيا. أهمية الشهادتين, وفضلهما: هذه الكلمة التي تنطلق بها ملايين الألسنة في كل صباح ومساء، تعلن الخضوع لله تعالى، وتعلن -على رءوس الأشهاد- الوفاء بالعهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم, مذ كانوا ذرية في ظهور آبائهم.

_ 1 نقول: "الشهادتان"؛ لأن كلمة التوحيد تتضمن الشهادة لله بالوحدانية، والشهادة لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة. ونقول: "الشهادة" بالإفراد؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله لا تتم إلا بشهادة أن محمدا رسول الله, والمعنى على كليهما واحد.

هذه الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، ولأجلها نُصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام بها سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، فهي منشأ الخلق والأمر، والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خُلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجواب الأولى: بتحقيق "لا إله إلا الله" معرفة وإقرارا وعملا. وجواب الثانية: بتحقيق "أن محمدا رسول الله" معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة1. ولما كانت هذه الشهادة، وهذه الكلمة، بهذه المثابة والمكانة، فمن الواجب أن نقف عندها لنتعرف على مدلولها الحقيقي، كما ترشد إليه الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وعلى مقتضياتها وشروطها ونواقضها. وسنفرد -إن شاء الله تعالى- على كل جانب من هذه الجوانب كلمة موجزة، تنبئ عن الفكرة الرئيسة فيها، وتقف معلما على طريق التوحيد الذي تدل عليه وترشد إليه ...

_ 1 انظر: "زاد المعاد": 1/ 34.

شهادة أن لا إله إلا الله: تمثل شهادة "أن لا إله إلا الله" الشق الأول من القاعدة التي يقوم عليها بناء هذا الدين، وقد أبدأ القرآن الكريم وأعاد في بيان حقيقة الألوهية، التي يجب أن يفرد الله تعالى بها، على لسان كل رسول من الرسل، عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] . {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] . {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 11، 12] . فالإله هو الذي تسكن إليه النفوس، وتستجير به، وتتّجه إليه لشدة شوقها، فتعبده وتخضع له. فالذي يتخذ كائنا ما وليا نصيرا وكاشفا عن السوء، وقاضيا لحاجته، ومستجيبا لدعائه، وقادرا على أن ينفعه ويضره، كل ذلك -بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية التي أوجدها الله سبحانه- يكون السبب لاعتقاده ذلك: ظنه أن له نوعا من أنواع السلطة على نظام هذا العالم. وكذلك: كل من يخاف أحدا ويتقيه، ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر، ومرضاته تجلب له المنفعة، لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه

من تصور أن له نوعا من السلطة على هذا الكون. ثم إن الذي يدعو غير الله، ويفزع إليه في حاجاته، بعد إيمانه بالله العلي الأعلى، لا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أن له شركا في ناحية من نواحي السلطة "حكم الله" والألوهية. وعلى غرار ذلك: من يتخذ حكم أحد من دون الله قانونا، ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة متبعة، فإنه أيضا يعترف بسلطته القاهرة. فخلاصة القول: إن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة "حكم الله" سواء كان يعتقدها الناس من حيث إن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث إن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها، وتابع لإرشادها، وأن أمرها -في حد ذاته- واجب الطاعة والإذعان1. دعوة إلى توحيد العبودية والألوهية: ولئن كان الجاهليون في كل عصر من عصورهم -إلا في عصر فسدت فيه الفطرة فارتكست, وارتدت إلى أسفل سافلين- يشهدون لله تعالى بالهيمنة على شئون العالم في الخلق والملك والإحياء والإماتة، وفي الرزق، وفي تصريف أمور الكون وتدبير ما فيه.. على حد ما اعترف به كفار مكة الذين واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين حكى الله عنهم ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ

_ 1 انظر: "المصطلحات الأربعة في القرآن" ص13-23.

بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61-63] . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] . لئن اعترف الجاهليون بذلك كله ... إن الدعوة ينبغي أن توجه إليهم لإفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ ليتحقق عندئذ التوحيد بأجلى معانيه، وعندئذ تكون البشرية على الدين الحق. "ولذلك لم يَدْعُها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الاعتقاد بوجود الله، ولكن دعاها إلى توحيد الله ... دعاها إلى الاعتقاد بأن الله -وحده- هو الإله والرب والقيوم، دعاها إلى عبادة الله وحده والتقدم إليه بالشعائر، ودعاها إلى التحاكم إلى شريعة الله وحده والدينونة له بالعبودية، وكانت هذه الدعوة، بمضموناتها هذه كاملة، هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله، التي هي الإسلام"1. مقتضيات توحيد الألوهية: ومن مقتضيات هذا التوحيد: إفراد الله سبحانه وتعالى بخصائص الألوهية في تصريف حياة البشر، كإفراده سبحانه بخصائص الألوهية في اعتقادهم وتصورهم، وفي ضمائرهم وشعائرهم على السواء:

_ 1 "مقومات التصور الإسلامي" ص107.

أ- وكما أن المسلم يعتقد ألا إله إلا الله، وألا معبود بحق إلا الله، وألا خالق إلا الله، وألا رازق إلا الله، وألا نافع ولا ضار إلا الله، وألا متصرف في شأنه -وفي شأن الكون كله- إلا الله ... فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله -وحده- بالطلب والرجاء، ويتوجه لله -وحده- بالخشية والتقوى ... ب- كذلك يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرِّع إلا الله، وأن لا منظم لحياة البشر إلا الله، سواء في علاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الإنسان. فيتلقى من الله -وحده- التوجيه والتشريع، ومنهج الحياة، ونظام المعيشة، وقواعد الارتباطات، وميزان القيم والاعتبارات.. سواء.. فالتوجه إلى الله تعالى -وحده- بالشعائر التعبدية، والطلب والرجاء والخشية، كالتلقي من الله وحده في التشريع والتوجيه ... كلاهما من مقتضيات التوحيد، كما هو في التصور الإسلامي، وكلاهما يصور المساحة التي تشملها حقيقة التوحيد في ضمير المسلم، وفي حياته على السواء1. شرك الطاعة والاتباع: ومن هنا كانت عبادة غير الله تعالى، بتقديم الشعائر التعبدية لغير الله؛ شركا، وطاعة غير الله شركا، واتباع منهج غير منهج الله شركا، وكان التحليل والتحريم بغير إذن من الله شركا، حذر الله تعالى منه، وبين عاقبته، ثم دعا إلى التوحيد الخالص: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا

_ 1 "خصائص التصور الإسلامي" ص223، 224. وانظر: "طريق الدعوة في ظلال القرآن" 2/ 77-199, "هل نحن مسلمون؟ " "مفاهيم ينبغي أن تصحح" ص147، 148, "دراسات قرآنية" ص61.

تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 35، 36] . فالذين أشركوا, وأقروا على أنفسهم بذلك، إنما وقعوا في الشرك بأمرين: عبدوا آلهة من دون الله، وحرموا من دون الله ما لم يأذن به الله. وهنا نستطيع أن نصوغ المعادلة التالية أخذا من منطوق الآية الكريمة: عبادة غير الله تعالى بتقديم الشعائر التعبدية = شرك. التحليل والتحريم من دون الله, أو اتباع الأولياء من دون الله = شرك. التحليل والتحريم من دون الله = عبادة لغير الله1. وهكذا. مفهوم شامل للتوحيد: يقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله: "وتوحيد الله ... وبالتعبير الاصطلاحي الفقهي.. شهادة أن لا إله إلا الله, وهي التي يدخل بها الإنسان في الإسلام، ويكتسب بها هذه الصفة، ويعصم بها

_ 1 راجع "الإيمان" لابن تيمية، ص64، وفيما سيأتي ص323-329.

دمه وماله في الإسلام, تعني هذه المعاني والمدلولات كلها مجتمعة -وقد سبق بيانها- ولا توجد شرعا إلا بعد توافر هذه المعاني والمدلولات مجتمعة.. تعني: إفراد الله سبحانه بالألوهية، وذلك بالاعتقاد في ألوهيته وحده، وبالتوجه إليه بالشعائر التعبدية وحده، وبالاعتراف له بحق الحاكمية في تنظيم الحياة البشرية بشريعته وحده.. وهذه المعاني والمدلولات كل منها كالآخر في إنشاء شهادة "أن لا إله إلا الله" وجعلها قائمة ابتداء، تدخل قائلها في الإسلام، وتعطيه صفة المسلم، وتعصم دمه وماله بالإسلام. فلا توجد هذه الشهادة ابتداء، ولا تعتبر قائمة شرعا، إلا حين يشهد الشاهد بهذه المدلولات والمعاني مجتمعة. فإن شهد ببعضها دون بعض، أو تصور أن شهادة أن لا إله إلا الله تعني بعضها دون بعض، فإن شهادة أن لا إله إلا الله، الصادرة منه، لا تعتبر قائمة؛ لأنها لا تقوم أصلا إلا باجتماع هذه المدلولات وقصدها من القائل في شهادته، والإقرار بها، والتعامل على أساسها ... "1. أمران يوضحان التوحيد: وتتضح هذه المعاني بأمرين: "الأول": أن تعرف أن الكفار، الذين قاتلهم رسول الله, وقتلهم, وأباح أموالهم، واستحل نساءهم، كانوا مقرين لله سبحانه بتوحيد الربوبية، وهو أنه: لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمور إلا الله وحده، وهذه مسألة عظيمة مهمة، وهي: أن تعرف أن الكفار شاهدون بهذا كله ومقرّون به، ومع هذا

_ 1 "مقومات التصور الإسلامي"، ص147. وانظر "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" 2/ 5، 120, "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" ص74 وما بعدها.

لم يُدخلهم ذلك في الإسلام، ولم يحرم دماءهم ولا أموالهم، وكانوا أيضا يتصدقون ويحجون ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل. ولكن "الأمر الثاني" هو الذي كفَّرهم، وأحل دماءهم وأموالهم، وهو: أنهم لم يشهدوا لله تعالى بتوحيد الألوهية، وهو أنه: لا يدعى ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، لا لِمَلَك مقرب ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغير الله فقد كفر، ومن ذبح لغيره فقد كفر, ومن نذر لغيره فقد كفر ... وأشباه ذلك. وتمام هذا: أن تعرف أن المشركين, الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يدعون الصالحين مثل: عيسى وعزير والملائكة وغيرهم من الأولياء, فكفروا بهذا مع إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق, المحيي المميت، المدبر. إذا عرفت هذا, عرفت معنى "لا إله إلا الله" وعرفت أن من دعا نبيا أو استغاث به أو بملك أو ولي من أولياء الله فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم1. نفي وإثبات: وكلمة التوحيد هذه، تقوم على قطبين اثنين: أحدهما موجب والآخر

_ 1 "الجامع الفريد" ص261 الرسالة الثالثة, تفسير كلمة التوحيد, وانظر فيه أيضا: "كشف الشبهات" والرسالة الخامسة من رسائل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: ص356 وما بعدها. "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" 2/ 16-32، 81-82، 93، "فتح المجيد" ص45 وما بعدها.

سالب1, أي: هي نفي وإثبات، تنفي أربعة أمور، وتثبت أربعة أمور: تنفي: الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب. وتثبت لله تعالى: القصد، والتعظيم، والمحبة، والخوف، والرجاء2. شهادة أن محمدا رسول الله: كانت تلكم بعض الإلماعات إلى الشطر الأول من كلمة التوحيد، وهنا لا بد من إلماعة أخرى إلى الشطر الثاني من هذه الكلمة العظيمة، التي يقوم عليها الإسلام، وهو "شهادة أن محمدا رسول الله". إذ لا تتم شهادة "أن لا إله إلا الله" إلا بشهادة "أن محمدا رسول الله" إذ لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، ولا طريق إلى معرفة ما يحبه ويكرهه إلا من جهة محمد -صلى الله عليه وسلم- المبلغ عن الله ما يحبه ويكرهه، باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، فصارت محبة الله مستلزمة لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصديقه ومتابعته؛ ولهذا قرن الله تعالى بين محبته ومحبة رسوله في مواضع كثيرة3، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

_ 1 قال الشاعر عبد الوهاب عزام: إنما التوحيد إيجاب وسلب ... فيهما للنفس عزم ومضاء "لا" و"إلا" قوة قاهرة ... فهما في القلب قطبا الكهرباء 2 "مجموعة الرسائل والمسائل": 4/ 99. 3 انظر: "كلمة الإخلاص" ص33، 34.

وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . كما قرن طاعته بطاعة رسوله في مواضع كثيرة أيضا، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] . {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] . وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" 1. مفهوم شهادة "أن محمدا رسول الله": فمفهوم شهادة "أن محمدا رسول الله": أنه هو الرسول المعتمد لتبليغ هذه الرسالة، وهو المبلغ عن ربه, الذي تنبغي طاعته مع طاعة الله. {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وأنه -صلى الله عليه وسلم- هو التطبيق العملي الحي لرسالة الله، فهو القدوة في كل عمل وتصرف، وهو قائد الجماعة المسلمة ومربّيها وأستاذها ومعلمها، والنور الذي تستضيء به في الظلمات2. منهج حياة: ونختم هذه الكلمة الموجزة عن معنى "لا إله إلا الله" ومكانتها ومقتضياتها بما

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان: 1/ 60، ومسلم في الإيمان, باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان: 1/ 66. 2 انظر: "هل نحن مسلمون؟ " ص11، 12.

قاله الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في "معالم في الطريق" بعنوان: "لا إله إلا الله منهج حياة". العبودية لله وحده هي شطر الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة "أن لا إله إلا الله"، والتلقي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كيفية هذه العبودية هو شطرها الثاني، المتمثل في شهادة: "أن محمدا رسول الله". والقلب المؤمن المسلم هو الذي تتمثل فيه هذه القاعدة بشطريها؛ لأن كل ما بعدهما من مقومات الإيمان، وأركان الإسلام، إنما هو مقتضى لها؛ فالإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكذلك الصلاة, والزكاة، والصيام، والحج، ثم الحدود والتعازير، والحل والحرمة، والمعاملات والتشريعات، والتوجيهات الإسلامية.. إنما تقوم كلها على قاعدة العبودية لله وحده، كما أن المرجع فيها كلها: هو ما بلغه لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه. والمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه تلك القاعدة ومقتضياتها جميعا؛ لأنه بغير تمثّل تلك القاعدة ومقتضياتها فيه لا يكون مسلما. ومن ثم تصبح شهادة "أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيرها، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة، كما أنها لا تكون حياة إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة، أو قامت على قاعدة أخرى معها، أو عدة قواعد أجنبية عنها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40] . {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] .

شروط كلمة التوحيد

شروط كلمة التوحيد: إن كلمة التوحيد التي سبق الحديث عن معناها، جعلها الله تعالى عنوان الدخول في الإسلام، وثمن الجنة ومفتاحها، كما جعلها سبب النجاة من النار ومغفرة الذنوب. وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعاني: 1- فمنها ما جعل الإتيان بالشهادتين سببا لدخول الجنة، وعدم احتجاب قائلها عنها، فإن النار لا يخلَّد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يُحجَب عنها إذا طُهِّر من ذنوبه بالنار: فعن عباة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" 1. وفي رواية: "أدخله الله الجنة, من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أبا هريرة, اذهب بنعليَّ هاتين -وأعطاه نعليه- فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله، مستيقنا بها قلبه، فبشِّرْه بالجنة" 2.

_ 1 أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء، باب قوله: قل يا أهل الكتاب 6/ 474.. ومسلم في الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان: 1/ 57، وانظر شرح الحديث في "المختار من كنوز السنة" ص105-115. 2 أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة: 1/ 60.

وعنه أيضا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكّ، فيحجب عن الجنة" 1. وفي رواية له أيضا: "إلا دخل الجنة". وعن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله, دخل الجنة" 2. وفي الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك, إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثا, ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر" قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر3. ومعنى هذا الحديث: أن الزنى والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أنه لا يعذَّب عليهما مع التوحيد4، ففي "مسند البزار" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا: "من قال: لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه" 5. 2- ومن الأحاديث ما جاء بيانا لتحريم دخول النار على من أتى

_ 1 أخرجه مسلم في الموضع نفسه. 2 أخرجه مسلم في الموضع السابق نفسه: 1/ 55. 3 أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الثياب البِيض 10/ 283، ومسلم في الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا, دخل الجنة: 1/ 95. 4 كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، ص12, وهذه التقسيمات مأخوذة منه. انظر "المختار من كنوز السنة" ص155-167. 5 أخرجه البزار والطبراني في الأوسط والصغير. قال الهيثمي في المجمع "1/ 17": "ورجاله رجال الصحيح". وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للألباني: 3/ 566-570.

بالشهادتين، وهذا كقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث معاذ رضي الله عنه: $"ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه, إلا حرّمه الله على النار"1. وفي حديث عتبان بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله" 2 إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة3. شرط النجاة: وقد يصاب بعض الناس بالغفلة عن حقيقة التوحيد وشرط النجاة، ويغترّ بكلمة يديرها على لسانه، دون أن يفقه معناها، يظنها مفتاحا للجنة، بمجرد نطقها باللسان، غافلا عن شروطها التي ينبغي أن تتحقق، ومقتضياتها التي ينبغي أن يعمل بها؛ لتكون مفتاحا صالحا لفتح أبواب الجنة الثمانية. وشهادة التوحيد هذه، سبب دخول الجنة, والنجاة من النار، ومقتضٍ لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع من الموانع؛ وهذا قول الحسن البصري ووهب بن منبه، رحمهما الله. فقد قيل للحسن البصري رحمه الله: إن أناسا يقولون: من قال: لا إله إلا الله

_ 1 أخرجه البخاري في العلم، باب من خصّ بالعلم قوما 1/ 226, ومسلم في الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاكّ: 1/ 61. 2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في الصلاة، باب المساجد في البيوت: 1/ 519، ومسلم في المساجد، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة: 1/ 455، 456. 3 انظر: "تهذيب مدارج السالكين" ص187.

دخل الجنة؟ فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة. وقال للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددتَ لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، منذ سبعين سنة، فقال الحسن: نعم العُدَّة، لكن لـ "لا إله إلا الله" شروطا، فإياك وقذف المحصنة! وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلا لم يفتح لك1. ويدل على صحة هذا القول: أ- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رتّب دخول الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص: فعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله, أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" 2. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلا قال: يا رسول الله, دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". فقال الرجل: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئا، ولا أنقص منه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سَرَّه أن ينظر إلى

_ 1 أخرجه البخاري تعليقا في الجنائز، باب من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله 3/ 109. وانظر: "المختار من كنوز السنة"، ص191-194، "شرح النووي على صحيح مسلم": 1/ 218-220. 2 أخرجه البخاري في الأدب، باب فضل صلة الرحم: 10/ 414، ومسلم في الإيمان، باب الإيمان الذي يدخل به الجنة: 1/ 42، 43.

رجل من أهل الجنة, فلينظر إلى هذا" 1. ب- وقد تواردت مع ذلك آيات وأحاديث تبين توقف دخول الجنة والنجاة من النار على فعل الفرائض واجتناب المحارم، فصارت تلك الأحاديث السابقة مفسِّرة مبيِّنة، وينبغي أن يؤخذ بالبيان وبالمبيَّن معا، ولا يجوز إعمال بعض النصوص والأدلة وإهمال سائرها2. جـ- ومن القواعد المقررة: أن المطلق يحمل على المقيد، فإذا جاءت نصوص مطلقة، وجاءت نصوص أخرى متحدة معها في الحكم والسبب، فإنه يحمل النص المطلق على المقيد. والأحاديث التي جاءت تبين أن دخول الجنة وتحريم النار معلق على شهادة "أن لا إله إلا الله"، هذه الأحاديث المطلقة جاءت أحاديث أخرى تقيدها، ففي بعضها: "من قال: لا إله إلا الله مخلصا ... "، وفي بعضها: "مستيقنا بها قلبه ... "، وفي بعضها: "يصدق لسانه ... " , وفي بعضها: "يقولها حقا من قلبه ... " ... إلخ. وكذلك علقت الأحاديث دخول الجنة على: "العلم بمعنى لا إله إلا الله" ونصوص أخرى تبين الثبات على هذه الكلمة، ونصوص أخرى تدل على وجوب الخضوع لمدلولها ... إلخ. ومما سبق كله استنبط العلماء -رحمهم الله تعالى- شروطا لا بد من توافرها، مع انتفاء الموانع، حتى تكون كلمة "لا إله إلا الله" مفتاحا للجنة، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح، ولا بد من أخذها مجتمعة، فإن شرطا منها لا يُغني عن سائر الشروط.

_ 1 أخرجه البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة، ومسلم في الإيمان، الموضع السابق. 2 انظر: "كلمة الإخلاص وتحقيق معناها" لابن رجب، ص13-22.

إشارات إلى شروط لا إله إلا الله: ولعل هذه الشروط تكون واضحة من الإشارات التي سنشير إليها في هذه العجالة، فاحرص عليها -أيها المسلم- وتحقق بها؛ لئلا تقف أمام باب الجنة فترد؛ لأنه لا يفتح لك! 1- إن لكل شيء حقيقة، ولكل كلمة معنى، فينبغي أولا: أن تعلم معنى كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" علما منافيا للجهل بها، في النفي والإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله تعالى وتُثبتها له سبحانه، فلا معبود بحق إلا الله، وقد سبق ذلك وافيا في بيان "كلمة التوحيد". ومن الأدلة على هذا الشرط, قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] . {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] . {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . وأخرج مسلم عن عثمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله, دخل الجنة". ويكتمل هذا الشرط بما يليه، وهو الشرط الثاني: 2- اليقين المنافي للشك: ومعنى ذلك أن تستيقن يقينا جازما بمدلول كلمة التوحيد؛ لأنها لا تقبل شكا، ولا ظنا، ولا ترددا, ولا ارتيابا، بل ينبغي أن تقوم على اليقين القاطع الجازم. فقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15] . فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين, بل لا بد من استيقان القلب، والبعد عن الشك، فإن لم يحصل هذا اليقين فهو النفاق، والمنافقون هم الذين ارتابت قلوبهم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] . وقد سبق آنفا حديثان في ذلك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وفيهما: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاك فيهما, إلا دخل الجنة" وفي رواية: "فيحجب عن الجنة" ... "من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله, مستيقنا بها قلبه ... ". 3- وإذا علمت، وتيقنت، فينبغي أن يكون لهذا العلم اليقيني أثره، فيتحقق الشرط الثالث، وهو: القبول لما اقتضته هذه الكلمة، بالقلب واللسان: فمن رد دعوة التوحيد ولم يقبلها كان كافرا، سواء كان ذلك الرد بسبب الكِبْر أو العناد أو الحسد، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين ردوها استكبارا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] . أما المؤمنون الذين قبلوا هذه الكلمة, وعملوا بمقتضاها فلهم النجاة عند الله تعالى؛ وعدا منه، لا يخلف الله وعده: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103] .

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . وحتى ميول الإنسان وما يهواه، ينبغي أن تكون من وراء ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتابعة له: $"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"1, وهذا هو تمام الانقياد وغايته! 5- الشرط الخامس: الصدق في قول كلمة التوحيد، صدقا منافيا للكذب والنفاق، حيث يجب أن يواطئ قلبه لسانه ويوافقه، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، ولكن لم يطابق هذا القول ما في قلوبهم، فصار قولهم كذبا ونفاقا مخالفا للإيمان، ونزلوا في الدرك الأسفل من النار: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] . {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8-10] . ... في آيات كثيرة, وسور بمجملها في القرآن الكريم تتحدث عنهم. وفي الصحيحين: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله.. صدقا من قلبه, إلا حرمه الله على النار"2 فاشترط الصدق من القلب، كما اشترطه في قوله لضمام بن

_ 1 أخرجه البغوي في "شرح السنة": 1/ 213، وقال النووي في "الأربعين النووية": حديث حسن صحيح، رويناه في "كتاب الحجة" بإسناد صحيح، والحجة كتاب للشيخ أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي. وانظر "جامع العلوم والحكم" ص364, 365. 2 انظر تخريجه فيما سبق ص267.

ثعلبة: "إن صدق ليدخلن الجنة" 1. 6- المحبة، وهي الشرط السادس، فيحب المؤمن هذه الكلمة، ويحب العمل بمقتضاها، ويحب أهلها العاملين بها، وإلا لم يتحقق الإيمان، ولم تكتب له النجاة، ومن أحب شيئا من دون الله فقد جعله لله ندا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه، وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- واقتفاء أثره وقبول هداه. وهذه كلها شروط في المحبة لا تتحقق إلا بها2، وهي مؤشر على حب الله للعبد بعد ذلك3. ومتى استقرت هذه الكلمة في النفس والقلب، فإنه لا يعدلها شيء، ولا يفضل عليها، فإن حبها يملأ القلب فلا يتسع لغيرها، وعندئذ يجد حلاوة الإيمان: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" 4. وحتى لو تحققت تلك الشروط السابقة كلها، ولكنها فقدت الروح فيها،

_ 1 أخرجه البخاري في الإيمان / 106، ومسلم في الإيمان: 1/ 40، 41. 2 "معارج القبول": 1/ 383. 3 انظر: "التصور الإسلامي للإنسان والكون" ص89, الطبعة الثانية، القاهرة. 4 أخرجه البخاري: 1/ 72، ومسلم: 1/ 66، كلاهما في كتاب الإيمان.

وفقدت سبب القبول عند الله، فإنها لا تنفع صاحبها ما لم يحقق سبب ذلك القبول، وهو الشرط السابع: 7- الإخلاص، ومعناه: صدق التوجه إلى الله تعالى، وتصفية العمل بصالح النية، عن كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه. وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، تؤكد هذا الشرط، وتجعله سببا لقبول الأعمال عند الله تعالى. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] . {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] . وفي حديث عتبان بن مالك, عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل" 1. والآيات والأحاديث في الإخلاص كثيرة جدا، فهو سبب القبول عند الله عز وجل، فلا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه, وموافقا لشرعه. 8- ومع هذه الشروط مجتمعة، لا بد من الإقامة على هذه الكلمة؛ ليختم للعبد بها ختاما حسنا، فإنما الأعمال بالخواتيم، ففي حديث مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: $"إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة". وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عند الشيخين: " ... فوالذي لا إله

_ 1 متفق عليه، وقد تقدم.

غيره, إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". وقد أمر الله تعالى بالإقامة على الإسلام والتوحيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] . وقد جاءت الأحاديث الشريفة تبين هذا المعنى: عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئا, دخل النار" وقلت أنا: "من مات لا يشرك بالله شيئا, دخل الجنة"1. وفي حديث أبي ذر: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله, ثم مات على ذلك, إلا دخل الجنة" 2. وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله, دخل الجنة". وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله, وجبت له الجنة". قال البيهقي: في هذين الحديثين شَرَطَ الوفاة على الإيمان, حتى يستحق دخول الجنان بوعد الله تعالى.

_ 1، 2 أخرجهما الشيخان, وتقدما في موضع سابق.

فاحرص -أيها المسلم- على كلمة التوحيد بشروطها تلك، واحذر من كل ما ينافيها، فإن ما ينافيها ويوقع في الشرك قد يكون أخفى من دبيب النمل1. وتلك الشروط السابقة، قد جمعها بعض العلماء في نَسَق واحد، فقال الشيخ حافظ الحكمي، رحمه الله: العلم واليقين والقبول ... والانقياد فادرِ ما أقول والصدق والإخلاص والمحبة ... وفقك الله لما أحبّه وقال ابن القيم -رحمه الله- في قصيدته النونية، مشيرا إلى أسنان هذا المفتاح الذي تفتح به أبواب الجنة، وهي العمل بشرائع الإسلام، وتحقيق تلك الشروط السابقة قال: هذا، وفتح الباب ليس بممكن ... إلا بمفتاح على أسنان مفتاحه بشهادة الإخلاص والتو ... حيد، تلك شهادة الإيمان أسنانه الأعمال، وهي شرائع الـ ... ـإسلام، والمفتاح بالأسنان لا تُلغِيَنْ هذا المثال فكم به ... من حل إشكال لذي العرفان!

_ 1 في هذه الشروط راجع: "معارج القبول" 1/ 378-386، "تيسير العزيز الحميد" ص69 وما بعدها، "فتح المجيد" ص91، "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية": 2/ 5، 6، 81.

نواقض لا إله إلا الله

نواقض لا إله إلا الله: ألمحنا فيما سبق إلى أن الشهادتين تعبِّران عن التوحيد، وهما عنوان على دخول المرء في الإسلام، وتترتب عليهما آثارهما في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا عصمة دم المرء وماله وعرضه، وفي الآخرة هما سبب لدخول الجنة والنجاة من النار إذا ختم له بهما. قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} . ولكن قد يطرأ على هذه الشهادة ما يبطلها وينقضها، وعندئذ يبطل مفعولها، فلا تترتب عليها تلك الآثار السابقة، فيكون المرء مرتدا عن الإسلام، أو يكون كافرا كفرا أصليا, إن وجدت النواقض ابتداء. ونواقض الإسلام والإيمان التي تُوقِع في الردة، أو تتحقق بها الردة، كثيرة، ويمكن أن تكون بأحد طرق ثلاثة: بالفعل أو الامتناع عن الفعل، وبالقول، وبالاعتقاد. وتفصيل هذا وبيانه في كتب الفقه الإسلامي في "باب الردة"1. ونجتزئ هنا ببيان أهم هذه النواقض حتى يحذرها المسلم؛ لتسلم له عقيدته، وليسلم له إيمانه. وسيأتي مزيد بيان لبعض الجوانب من الانحراف عن التوحيد، في فقرة لاحقة -إن شاء الله تعالى- وحسبنا هنا هذه النواقض العشرة التي يذكرها العلماء: 1- الشرك في عباة الله تعالى، بأي لون من ألوان الشرك الأكبر، الذي يخرج صاحبه من دائرة التوحيد ويخلّده في النار. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ

_ 1 انظر: "التشريع الجنائي الإسلامي"، 2/ 707, والمراجع المشار إليها هناك في عامة البحث، "كتاب الردة بين الأمس واليوم" لمحمد كاظم حبيب.

بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] . {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} [المائدة: 72] . 2- الكفر الأكبر الذي يخلّد صاحبه في النار؛ ويكون ذلك بإنكار الربوبية أو إنكار شيء من خصائصها، أو بإنكار الشريعة أو النبوة، أو ما علم من الدين بالضرورة، من مسائل الاعتقاد أو العبادات أو الحلال أو الحرام، من الفرائض أو السنن أو المباحات، أو بإنكار ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله، أو أن يجعل لأحد من الخلق شيئا من خصائص الربوبية. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 150، 151] . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] . 3- الاستكبار عن عبادة الله تعالى أو استنكافها، قال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 172، 173] .

{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] . 4- اتخاذ الوسطاء والشفعاء بين العبد وربه، فيدعوهم مع الله أو من دون الله، أو يسألهم الشفاعة، أو يتوكل عليهم. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] . 5- عدم تكفير المشركين والكفار، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذهبهم؛ لأن في ذلك رضى بالكفر، وشكا فيما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهذا الشك جعله الله تعالى كفرا، فقال حاكيا عن الكفار ومبينا حالهم: {قَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9] . 6- اعتقاد أن هديا غير هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه أو أفضل أو أكمل، أو أن يفضل حكم الطاغوت على حكم الإسلام، وكذلك اعتقاد أن أحدا يجوز له أن يحكم بغير شرع الله، أو أن يحكم بشيء من القوانين الوضعية التي ارتضاها البشر لأنفسهم بمعزل عن دين الله وشرعه، أو أن يحلل ويحرم من تلقاء نفسه؛ لأن في ذلك ادعاء لخاصية من خصائص الألوهية, وإنكارا لخبر الله تعالى بإكمال الدين وإتمام النعمة. قال الله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 60] . {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . ويدخل في هذا أيضا: اعتقاد أن أحدا من المكلفين يسعه الخروج عن الدين والشريعة الإسلامية, أو الهدي النبوي. 7- ومما يتصل بذلك: تكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شيء مما جاء به من عند الله تعالى مما قل أو كثر؛ لأن في ذلك تكذيبا لله تعالى الذي أرسله. قال الله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر: 25، 26] . وكذلك بُغْض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بغض شيء مما جاء به، حتى ولو كان يعمل به ويلتزمه، فإن البغض والكراهية له كفر بالله تعالى, وكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] . ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر الذي يناقض الإيمان. 8- الاستهزاء بالله تعالى، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو بكتابه الكريم، أو بالدين, أو بشعيرة من شعائره، أو الاستهزاء بالثواب والعقاب, أو الاستهزاء بالمؤمنين بسبب إيمانهم. قال الله تعالى عمن استهزأ بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القرّاء رضي الله عنهم:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66] . 9- موالاة المشركين ومناصرتهم ومودتهم ومعاونتهم على المسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] . 10- الإعراض عن دين الله تعالى، فلا يتعلّمه ولا يعمل به، إذ لا يمكن العمل به إلا بأن يعلمه، ولا معنى للعلم إلا العمل والالتزام، حتى يحقق بذلك مقتضى الإيمان1. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] . هذا، ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل المازح والجادّ والخائف، إلا المكره الذي رفع عنه الإثم2، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] . ثم إن هذه النواقض التي ذكرناها يمكن أن يرجع بعض منها إلى بعض، فتكون في العدد أقل مما ذكرنا، وقد يفصل فيها أكثر من هذا. وحسبنا في هذا المدخل أن ألممنا بها إلمامة سريعة تومئ إلى ما وراءها, وللتفصيل مجال آخر. ونسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وإيماننا.

_ 1 قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: " ... وهذا المُعْرِض هو الذي لا إرادة له في تعلم الدين، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه، وهو راضٍ بما عليه من الكفر بالله والإشراك به، لا يؤثر غيره ولا تطلب نفسه سواه". إرشاد الطالب ص11. 2 انظر في هذه النواقض: "مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: 1/ 385- 287، "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبد العزيز بن باز": 1/ 135-137, "مجموعة التوحيد" ص288-293. وتفصيل هذه النواقض في كتاب "تيسير العزيز الحميد" و"فتح المجيد" و"شرح الفقه الأكبر" لملا علي القاري، وهي في مواضع متفرقة من "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" و"الإعلام بقواطع الإسلام" لابن حجر الهيثمي، "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد". وراجع فيما سيأتي ص311 وما بعدها.

ثانيا: العبادة وأنواعها

ثانيا: العبادة وانواعها مفهوم العبادة وأنواعها: غاية وجود الإنسان: عندما ينظر المرء حوله يجد كل شيء في هذا الكون قد خلقه الله تعالى لحكمة كبرى وغاية يسعى إليها، وإلا كان وجوده عبثا، وقد تنزه الله سبحانه وتعالى عن العبث والباطل، فقال في كتابه الكريم: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [سورة ص: 27] . والمؤمن يناجي ربه تعالى قائلا, عندما يتفكر في خلق السموات والأرض: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . [آل عمران: 191] . والإنسان ليس بدعا بين هذه المخلوقات، فلا بد أن يحدد الغاية التي أُوجد من أجلها، وهو يسعى لها؛ كي تستقيم حياته من خلالها ويعرف سر وجوده: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22] . {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُون} [المؤمنون: 115] . وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه أخذ العهد على بني آدم أن يعترفوا له بالربوبية؛ ليخضعوا له بالعبادة، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] .

وكانت الكلمة التي تتكرر على لسان كل رسول لقومه عندما يدعوهم، هي الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] . وغدت العبادة غاية الوجود الإنساني كله، بل إن الجن كذلك غايتهم هي عبادة الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-85] . وبهذا النفي في أول الآية الكريمة والاستثناء في آخرها يحصر الله تعالى مهمة الإنس والجن ويقصرها على وظيفة واحدة, ومسئولية واحدة هي عبادة الله تعالى وحده، فليس لهم وراء ذلك وظيفة أو غاية، وما ينبغي أن يكون! فكيف يستطيع الإنسان أن يكون دائما في عبادة الله تعالى، فلا تنقضي لحظة من لحظات حياته -بعد التكليف- إلا وهو في عبادة؟ وكيف يستطيع أن يقوم بهذا التكليف الرباني؟ مفهوم صحيح شامل للعبادة من خلال النصوص: هنا نجد أنفسنا أمام فهم صحيح للعبادة كما أرادها الله تعالى، لا تقتصر على ركعات خاشعة يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم والليلة، ولا على أيام من العام يصومها المسلم طاعة لله سبحانه، ولا على جزء من المال يدفعه زكاة يطهر بها نفسه وماله، ولا على حج البيت الحرام عند الاستطاعة. فإن هذه العبادات كلها لا تستغرق من حياة الإنسان إلا جزءا يسيرا، فهل يترك سائر أيام حياته وساعاتها دون عبادة, فيخالف -عندئذ- أمر الله تعالى، وهو سبحانه لم يخلقه إلا للعبادة؟

إن المسلم يستطيع أن يجعل حياته كلها في الساعات الأربع والعشرين في اليوم والليلة عبادة لله تعالى وحده، إذ إن الإسلام قد أسبغ على جميع أعمال الإنسان صفة العبادة إذا قصد بهذه الأعمال وجه الله ومرضاته، وقام بها على الوجه المشروع الموافق للسنة، وكانت في سبيل تحقيق أهدافها المقصودة المشروعة. فالزارع والصانع والتاجر، والطبيب والمهندس والعامل، والموظف، والمعلم والتلميذ ... وغيرهم من أصحاب الأعمال تعتبر أعمالهم عبادة إذا قصد بها كل منهم نفع عباد الله، والاستغناء عن الحاجة إلى الناس، وإعالة العيال؛ تحقيقا لأمر الله سبحانه وتعالى وخضوعا له، والتزاما وتحقيقا لمقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى لمصالح الناس، وليقوموا جميعا بالحق والقسط. والقرآن الكريم، كتاب الله الخالد، لم يقصر وصف الصلاح -عندما أمرنا بالعمل الصالح- على العبادات المخصوصة, وهي أركان الإسلام وشعائره ومبانيه الأساسية، بل جعله شاملا لأعمال أخرى، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120, 121] ... والآيات في ذلك كثيرة تعز على الحصر. وفي الحديث الشريف يعدِّد النبي أنواعا من الطاعات، ويبين أجرها فيقول: "يصبح على كل سُلَامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" 1.

_ 1 أخرجه مسلم برقم "720": 1/ 499.

وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرنّ من المعروف شيئا, ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" 1. وقال أيضا: "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" 2. وقال: "الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة, فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" 3. وكل هذه الأعمال أبواب من الخير ينال المؤمن عليها الأجر, فهي صدقات، والصدقة عبادة يتقرب بها المرء إلى الله تعالى. وأكثر من هذا وأدل قوله عليه الصلاة والسلام: "وفي بُضع أحدكم صدقة" -أي: في جماعه لزوجته- قالوا: يا رسول الله, أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟! قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام, أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" 4. معنى العبادة: وبعد، فما أصدق وما أجمل ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو يتحدث عن العبادة وفروعها, حيث يقول:

_ 1 أخرجه مسلم برقم "2626": "4/ 2026". 2 أخرجه البخاري: 5/ 226 طبعة بولاق، ومسلم برقم "1009": "2/ 699" واللفظ له. 3 أخرجه البخاري: "1/ 48، 49", ومسلم برقم "35": "1/ 63". 4 قطعة من حديث رواه الإمام مسلم برقم "1006": "2/ 697، 698".

"العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك ... كله من العبادة". وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضى بقضائه والتوكل عليه, والرجاء لرحمته والخوف من عذابه ... هي من العبادة لله. وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق لها الخلق فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. شمول العبادة لكل جوانب الحياة: وعن هذا المعنى الواسع والمفهوم الشامل للعبادة في الإسلام، بما يشمل الشعائر والمعاملات وغيرها، يتحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- فيقول: إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و"معاملات" مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة "الفقه". ومع أنه كان المقصود به -في أول الأمر- مجرد التقسيم "الفني"، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه -مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور، تبعته -بعد فترة- آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات". بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات"! وهو انحراف

_ 1 انظر: "العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية ص38، 39.

بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي. ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة, أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولا وأخيرا. وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة ... وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج ... ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان ... والنشاط الإنساني لا يكون متصفا بهذا الوصف، محققا لهذه الغاية -التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني- إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله -سبحانه- بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة؛ لأنه خروج عن العبودية, أي: خروج من غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله، أي: خروج عن دين الله! وأنواع النشاط التي أطلق عليها "الفقهاء" اسم "العبادات", وخصوصا بهذه الصفة -على غير مفهوم التصور الإسلامي- حين تراجع مواضعها في القرآن تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها، وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملات" ... إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ومرتبطة في المنهج التوجيهي باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقا لمعنى

العبودية، ومعنى إفراد الله -سبحانه- بالألوهية. إن ذلك التقسيم -مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" -وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزاولون كل نشاط "المعاملات" وفق منهج آخر, لا يتلقونه من الله، ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله! وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة, أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين.. وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني. إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني -وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة، يقوم عليها بناء الحياة كله- بل إن أهميتها تتجلى كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله؛ وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءا من هذه العبادة، أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد الله -سبحانه- بالألوهية، والإقرار له وحده بالعبودية ... هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعلى حالاته التي ارتقى إليها: حالة تلقي الوحي من الله، وحالة الإسراء والمعراج أيضا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] . {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى

الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} 1 [الإسراء: 1] . ويتحدث الأستاذ المهتدي محمد أسد "ليوبولدفايس سابقا" في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" حديثا دقيقا عن الفرق بين التصور الإسلامي والتصورات الأخرى في هذا الشأن؛ وعن أثر ذلك التصور في الشعور بجدية الحياة وأهمية كل حركة فيها، باعتباره الوسيلة الوحيدة لبلوغ الإنسان أقصى درجات الكمال الإنساني في هذه الحياة الدنيا. فيقول في فصل بعنوان: "سبيل الإسلام": "يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر2.. إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلا، ولكنها تتناول "كل" حياة الإنسان العملية أيضا. وإذا كانت الغاية من حياتنا على العموم "عبادة الله" فيلزمنا حينئذ، ضرورة، أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها كلها على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها -حتى تلك التي تظهر تافهة- على أنها عبادات؛ وأن نأتيها بوعي، وعلى أنها تؤلف جزءا من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله.. تلك حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مَثَل أعلى بعيد. ولكن أليس من مقاصد هذا الدين أن تتحقق المثل العليا في الوجود الواقع؟ ". "إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل. إنه يعلمنا أولا أن عبادة الله الدائمة، والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها. ويعلمنا ثانيا أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلا ما دمنا نقسم حياتنا

_ 1 خصائص التصور الإسلامي، ص131، 132. 2 هو يقصد الأديان في صورتها التي صارت إليها, وإلا فإن دين الله كله واحد في أساسه، وفي اعتبار العبادة لله بمعنى العبودية له في كل شيء، وإفراده بالألوهية، والتوجه إليه بكل نشاط.

قسمين اثنين: حياتنا الروحية، وحياتنا المادية ... يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا، لتكون "كلا" واحدا متسقا.. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا". "هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه, هي فرق آخر بين الإسلام وسائر النظم الدينية المعروفة. ذلك أن الإسلام -على أنه تعليم- لا يكتفي بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلات المتعلقة بما وراء الطبيعة فيما بين المرء وخالقه فقط. ولكن يعرض أيضا -بمثل هذا التوكيد على الأقل- للصلات الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية.. إن الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صَدَفَة عادية فارغة، ولا على أنها طيف خيال للآخرة, التي هي إيجابية تامة في نفسها. والله تعالى واحد لا في ذاته فحسب, بل في الغاية إليه أيضا ... من أجل ذلك كان خلقه وحدة، ربما في جوهره، إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد". "وعبادة الله في أوسع معانيها -كما شرحنا آنفا- تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية.. هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال، في إطار حياته الدنيوية الفردية, ومن بين سائر النظم الدينية نرى الإسلام -وحده- يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا ... إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات "الجسدية"، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة الحلقات من "تناسخ الأرواح" على مراتب متدرجة -كما هي الحال في الهندوكية- ولا هو يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية وانفصام علاقاتها الشعورية من العالم.. كلا إن الإسلام يؤكد على إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو"1.

_ 1 الإسلام على مفترق الطرق ص21، 22 من الترجمة العربية, بتصرف يسير.

أنواع العبادة

أنواع العبادة: ومن هذا الشمول للعبادة نخلص إلى أن الله تعالى جعل العبادة أنواعا، وذلك بحسب جهتها، إن كانت ترجع للاعتقاد أو النطق أو البدن أو المال، وكلها ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى، وهي خمسة أنواع: 1- عبادات اعتقادية: وهذه أساسها أن تعتقد أن الله هو الرب الواحد الأحد، الذي ينفرد بالخلق والأمر، وبيده الضر والنفع، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا معبود بحق غيره. والدلائل على ذلك من كتاب الله تعالى كثير تعز على الحصر، وقد سبق بعضها. ومن ذلك أيضا: الاعتقاد والتصديق بما أخبر الله تعالى عنه من الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، والقضاء والقدر، في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} . [البقرة: 177] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} . [النساء: 136]

وذكر الله تعالى الإيمان بالقضاء والقدر في آيات كثيرة كقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] . 2- عبادات قلبية: وهي الأعمال القلبية التي لا يجوز أن يقصد بها إلا الله تعالى وحده، فمنها: المحبة، التي لا تصلح إلا لله تعالى وحده1، فيحب الله تعالى ويحب عباده الذين يحبونه سبحانه، ويحب دينه، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . ومنها التوكل: وهو الاعتماد على الله تعالى والاستسلام له وتفويض الأمر إليه, مع الأخذ بالأسباب، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] . ومنها: الخشية والخوف من إصابة مكروه أو ضُرّ، فلا يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته، وإن لم يباشره، وهو خوف السر2، قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وقال سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ

_ 1 وهي محبة العبودية، المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره سبحانه على غيره. انطر: "مدارج السالكين": 3/ 6 وما بعدها، 1/ 99، 100، "تيسير العزيز الحميد" ص468. 2 لا الخوف الطبيعي الغريزي، وهو لا يدخل في هذا الباب. انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص484-486.

يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] . ومنها: الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله، فمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلوبه من جهتهم، يقع في شرك أكبر، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] . ومنها الإنابة والتوبة، فينبغي على المؤمن أن يقبل على الله وأن يتوب إليه، قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] . وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] . 3- عبادات لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها، لم يحقن دمه ولا ماله. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا, واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها, وحسابهم على الله" 1. ومن نطق بكلمة التوحيد ولم يعتقدها بقلبه حقن ماله ودمه، وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين. ومنها: الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، سواء كان طلبا للشفاعة أو غيرها من المطالب. قال الله تعالى:

_ 1 أخرجه البخاري في الصلاة: 1/ 497.

{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] . ومنها: الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، حيث قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] . ... إلخ. 4- عبادات بدنية: كالصلاة والركوع والسجود؛ قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 77] . ومنها: الطواف بالبيت، حيث لا يجوز الطواف إلا به: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وسائر أنواع العبادات البدنية كالصوم والحج، والآيات في هذا كثيرة. ومنها: الجهاد في سبيل الله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] . والآيات والأحاديث في ذلك توحي بأهمية هذه الفريضة ومكانتها1.

_ 1 راجع في ذلك: "منهج الإسلام في الحرب والسلام" ص115-132.

5- عبادات مالية: كإخراج جزء من المال؛ امتثالا لما أمر الله تعالى به، وهي الزكاة. ومما يدخل في العبادة المالية أيضا: النذر، قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] . هذا، ولم نستقص الأمثلة لكل ما يدخل تحت هذه الأنواع الخمسة، فحسبنا هذه الإشارات السريعة، التي تومئ إلى ما وراءها من أمثلة1. فيا أيها المسلم: هذه هي سبيل النجاة، وطريق الفوز، فتمسك بها واحذر الشيطان ووسوسته، وحذارِ أن تستهين بأمر مما سبق فتحسبه هينا, وهو عند الله عظيم.

_ 1 انظر: "فتح الباري" لابن حجر: 1/ 52، 53، "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد" للصنعاني ص25، 26، "تيسير العزيز الحميد" ص20-24, وراجع تفصيلا شاملا لمراتب العبودية وتوزعها على جوارح الإنسان في "مدارج السالكين" لابن القيم -رحمه الله- 1/ 100، 101، 107-122.

أركان العبادة وأصولها

أركان العبادة وأصولها: وهذه العبادة التي أمر الله تعالى بها، ووصف بها صفوة خلقه، فأضافهم إلى نفسه تكريما وتشريفا فهم "عباد الرحمن" يخضعون له خضوعا مطلقا، ويتذللون بين يديه؛ حبا له، ورجاء لما عنده من الثواب، وخوفا من العقاب. هذه العبادة تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، فمن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له؛ كما يحب الرجل ولده وصديقه. ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم من كل شيء, بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله سبحانه وتعالى1. ومن هنا كانت العبادة تقوم على أركان ثلاثة؛ هي: المحبة, والرجاء، والخوف. 1- أما المحبة لله تعالى: فهي أصل دين الإسلام، وهي التي تحدد صلة العبد بربه تبارك وتعالى، "وهي نعمة لا يدركها إلا من ذاقها. وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه ... هو إنعام هائل عظيم وفضل غامر جزيل.

_ 1 "العبودية" لابن تيمية، رحمه الله، ص44.

والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب. فهو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور جميل"1. وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بهذه المعاني، فقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] . {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 2. وحب الله تعالى ليس مجرد دعوى باللسان، ولا هياما بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والسير على هداه وتحقيق منهجه في الحياة، وإن الإيمان ليس كلمات تقال ولا مشاعر تجيش، ولكنه طاعة الله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول3، قال الله تعالى:

_ 1 "في ظلال القرآن" لسيد قطب، رحمه الله: 2/ 918. 2 أخرجه البخاري: 1/ 72، ومسلم: 1/ 66 في كتاب الإيمان. 3 "في ظلال القرآن": 2/ 387. وانظر "الوسيط في تفسير القرآن" للواحدي: 1/ 136.

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] . يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية، بأنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في الصحيح أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1 ولهذا قال: "إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِب, إنما الشأن أن تُحَب. وقال الحسن البصري: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2. هذا، والأحاديث النبوية الكثيرة فيها إشارات لشروط هذه المحبة ومقتضياتها وأثرها ... ولكن بقي أن نشير هنا -تأكيدا لما سبق- إلى أن هذه المحبة ليست هي المحبة الطبيعية للشيء، ولا محبة الرحمة والإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ولا محبة الإلف والأُنس كمحبة الإخوة لبعضهم أو لمن يجمعهم عمل واحد أو صناعة واحدة ... وإنما هي المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله تعالى، ومتى أحب العبد بها غيره كانت شركا لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره -سبحانه- على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها أصلا بغير الله، وهي التي سوّى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها، حيث قال الله تعالى عنهم:

_ 1 أخرجه مسلم: 3/ 1343. 2 "تفسير ابن كثير" 2/ 25, طبعة الشعب.

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} 1 [البقرة: 165] . فعندما يتعلق قلب الإنسان بحب غير الله تعالى هذا اللون من الحب، يكون قد وقع في الشرك، كمن يحب الأصنام والطواغيت، والهوى والشهوة والقيم المادية والاجتماعية, فيخضع لها ويتخذها آلهة مع الله أو من دون الله. 2- الرجاء: ومحبة العبد لله تعالى تحمله على أن يرجو ما عند الله تعالى في الدار الآخرة من الأجر والثواب والرحمة، والاستبشار بجود الرب تبارك وتعالى، وفضله، والثقة به، فهو عندئذ يبذل الجهد ويقوم بالطاعة على نور من الله، يرجو ثوابه, أو يتوب إليه من ذنب، فهو يرجو مغفرته وعفوه، ويطمع في مزيد إحسانه، دون أن يوقعه ذلك في شيء من الأمن من مكر الله وعقوبته: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] . وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء، فكل محب راجٍ خائفٌ بالضرورة؛ فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. ويترقى في هذا الرجاء صُعُدا، فيرتقي من رجاء يبعث على الاجتهاد بالعبادة لما يؤمله من ثواب، إلى رجاء يبلغ فيه موقفا تصفو فيه الهمة بترك ما تستلذّه النفس وتميل إليه، بلزوم الأحكام الدينية، ثم يتطلع إلى رجاء لقاء الخالق سبحانه2. قال تعالى:

_ 1 انظر "العبودية" ص71 وما بعدها، "مدارج السالكين": 3/ 6-42، "تيسير العزيز الحميد" ص466-483. وراجع "إحياء علوم الدين": 4/ 293 وما بعدها للغزالي، "روضة المحبين" لابن القيم. 2 انظر: "مدارج السالكين": 2/ 35 وما بعدها, "شرح العقيدة الطحاوية" ص325، 326.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] . {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5] . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] . وفي صحيح مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاث، يقول: "لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" 1. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي" 2. وهذا الرجاء له أثره في نفس المؤمن, حيث يتطلع لما عند الله تعالى من ثواب، وما ادّخره الله لعباده المؤمنين من ألوان النعيم الحسي والمعنوي: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج: 23، 24] . وآيات النعيم في القرآن الكريم كثيرة, تجمع بين لونَي النعيم، وتسمو بروح الإنسان وهمته؛ ليسعى إليها بالطاعة والالتزام.

_ 1 أخرجه مسلم في كتاب الجنة: 4/ 2205. 2 أخرجه البخاري في التوحيد: 13/ 384، ومسلم في الذكر والدعاء: 4/ 2061.

3- الخوف: ويوازن الإسلام بين الخوف والرجاء، فلا يطغى جانب منهما على الآخر1، فكما أن المسلم يعبد ربه تبارك وتعالى؛ حبا له ورجاء لثوابه وطمعا في جنته، فإنه كذلك يعبده خوفا من عقابه وحذرا من ناره، دون أن يدفعه هذا الخوف إلى شيء من اليأس والقنوط: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] . والمسلم لا يخاف من غير الله تعالى أن يصيبه بما يشاء من مصيبة أو مرض أو فقر أو قتل أو نحو ذلك، بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة لمن يخاف منه بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، فهذا الخوف لا يجوز تعلقه أصلا بغير الله تعالى؛ لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله ندا يخافه فهو مشرك. قال الله تعالى: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 80، 81] . ثم تتوارد الآيات الكريمة تنزع عوامل الخوف من الخَلْق على الرزق، أو الخوف من الأذى أو النتائج المجهولة2 ...

_ 1 انظر: "منهج التربية الإسلامية" للأستاذ محمد قطب: 1/ 126-179 وخاصة فقرة "الخوف والرجاء". واقرأ في "خصائص التصور الإسلامي" مبحث "التوازن". 2 انظر: "منهج التربية الإسلامية": 1/ 129-132.

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31] . {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] . {عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] . وكذلك يخاف المؤمن وعيد الله الذي توعد به العصاة، فيكون ذلك الخوف طريقا إلى الجنة ونعيمها: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] . {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . وإذا كان النعيم معنويا وماديا، فإن العقاب -كذلك- وما نخاف منه أو ما يخوفنا الله تعالى به من العذاب يشمل النوعين كذلك: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19-22] . بين الخوف والرجاء: ونختم هذه الفقرة بكلمات للعلَّامة ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في أركان العبادة ومكانة الخوف والرجاء والتوازن بينهما بعامة, مع تغليب أحدهما أحيانا حسب حال الإنسان، حيث يقول:

"القلب في سيره إلى الله -عز وجل- بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فُقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبّوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف ... وقال بعض السلف: أكمل الأحوال: اعتدال الرجاء والخوف، وغَلَبَة الحب، فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه"1. وهذا المعنى هو ما أشار إليه الحديث الشريف: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة؛ فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار" 2.

_ 1 "مدارج السالكين": 1/ 517 بتصرف يسير، واقرأ فيه بالتفصيل من ص511-517"، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز الحنفي ص325، 326، "تيسير العزيز الحميد" ص483-495، "إيثار الحق على الخلق" لابن الوزير ص354-365, "الإبانة الكبرى" لابن بطة: 2/ 756-759، "فتح الباري" لابن حجر: 11/ 300-302. وانظر ما كتبه السبكي في "الفتاوى": 2/ 555-560. 2 أخرجه البخاري في الرقاق، باب الرجاء مع الخوف: 11/ 301.

دعوة الرسل إلى توحيد العبادة

دعوة الرسل إلى توحيد العبادة ... دعوة الرسل -عليهم السلام- إلى توحيد العبادة: بعث الله تعالى جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- يدعون العباد إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، فلم يبعثهم للدعوة إلى مجرد الإيمان بالله وأنه خالقهم، إذ هم مقرّون بذلك تناسقا مع الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها. ولم تكن قضية وجود الله في يوم من الأيام هي القضية التي يقف الناس عندها، إلا في فترات قليلة ولظروف خاصة عند بعض الأوروبيين الذين عُرف عنهم الإلحاد, وحاولوا أن يجدوا له فلسفة خاصة؛ تبريرا لانحرافهم وفساد فطرتهم. ولذلك حكى الله تعالى عن الأقوام السابقين تعجّبهم من دعوة الأنبياء إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] . أي: لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا؟ فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنه لا يُعبد, بل أقروا بأنه يُعبد، وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره وأشركوا معه سواه واتخذوا معه أندادا، كما قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] . وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: "لبيك لا شريك لك, إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعهم عند قولهم: "لا شريك لك" ويقول:

"قد أفردوه جل جلاله، لو تركوا قولهم: إلا شريكا هو لك" 1. فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به. قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] . {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص: 64] . {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195] . فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب بالنذور لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى, وتشفع لهم. فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل, وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة؛ وقد كانوا مقرّين بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده. ومن هنا نعرف أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هو توحيد العبادة؛ ولذا تقول لهم الرسل: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} , {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ... وأمر الله عباده أن يقولوا: "إياك نعبد", ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبا، منهيا عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}

_ 1 انظر: صحيح مسلم: 2/ 843.

و {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} كما عرف من لغة العرب أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره, ولا تتقوا غيره. فإفراد الله تعالى بالعبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له. والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، وجميع أنواع العبادات لا تكون إلا لله تعالى وحده1.

_ 1 "تطهير الاعتقاد" للصنعاني ص26-28 بتصرف يسير. وانظر: "العبودية" لابن تيمية ص39، 40، 82-84, "مدارج السالكين" لابن القيم: 1/ 101-104، "تيسير العزيز الحميد" ص39 وما بعدها، "معارج القبول" للشيخ حافظ حكمي: 2/ 393-407, "مقومات التصور الإسلامي"، لسيد قطب ص86-98، "مفاهيم ينبغي أن تصحح" للأستاذ محمد قطب ص23-32.

الانحراف عن التوحيد

الانحراف عن التوحيد: تمهيد: ألمحنا في أكثر من موضع: أن الله تعالى قد خلق الإنسان على فطرة التوحيد والإسلام متهيئا لقبول الدين، فلو ترك على فطرته لاستمر على لزومها؛ لأن هذا الدين هو دين الفطرة السليمة، وإنما يعدل عنه من يعدل عنه إلى غيره لآفة النشوء والتقليد، فلو سلم من هذه الآفات لم يعتقد غيره1. فهذه الفطرة قد تنحرف عن الخط المستقيم, وعن الهدي الرباني، عندما تتضافر جملة من عوامل الانحراف, ويأخذ هذا الانحراف صورا ثلاثا هي: الشرك، والكفر، والنفاق. وسنقف لكل واحد من هذه الانحرافات فقرة نوضح فيها معناه وأنواعه؛ لنخلص بعد ذلك إلى الفرق بينها ونسبة كل منها إلى الآخر. أولا: الشرك تعريفه في اللغة: "الشين والراء والكاف؛ أصلان, أحدهما يدل على مقارنة وخلاف انفراد ... وهو أن يكون الشيء بين اثنين، لا ينفرد به أحدهما. يقال: شاركت فلانا في الشيء؛ إذا صرت شريكه. وأشركت فلانا؛ إذا جعلته شريكا لك"2.

_ 1 انظر: "تفسير البغوي": 6/ 270 والمراجع المشار إليها في حاشيته، "معالم السنن" للخطابي: 7/ 83-88. 2 "معجم مقاييس اللغة": 3/ 365, والنقاط في النص تشير إلى كلام محذوف عن الأصل الثاني اختصارا.

وقال الحرالي: "الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره"1. وقال الجوهري: "الشرك: الكفر. وقد أشرك فلان بالله، فهو مشرك ومشركيّ بمعنى واحد"2. وقال ابن منظور: "أشرك بالله: جعل له شريكا في ملكه -تعالى الله عن ذلك- والشرك: أن يجعل لله شريكا في ربوبيته -تعالى الله عن الشركاء والأنداد- والاسم الشرك. وإنما دخلت التاء في قوله: "لا تشرك بالله" لأن معناه: لا تعدل به غيره فتجعله شريكا له ... ومن عدل به شيئا من خلقه فهو كافر مشرك؛ لأن الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا نديد"3. وفي الاصطلاح الشرعي: يطلق لفظ الشرك على نوعين؛ أحدهما إثبات شريك لله تعالى وهو الشرك الأكبر. والثاني: مراعاة غير الله في بعض الأمور، وهو الشرك الأصغر4. أ- الشرك الأكبر: وهو أن يتخذ مع الله تعالى، أو من دونه، إلها آخر، يعبده بنوع من أنواع العبادة، فيسوي بين الله تعالى وبين الأنداد. وهذا أعظم الشرك والظلم، ولا يغفره الله لصاحبه إن مات عليه؛ لأنه يناقض أصل التوحيد، ويخرج صاحبه عن الملة ويحبط عمله ويخلّده في النار5.

_ 1 "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي, مادة شرك "مخطوط بدار الكتب المصرية". 2 "الصحاح" للجوهري: 4/ 1593، 1594. 3 "لسان العرب": 10/ 449، 450. 4 انظر: "مفردات القرآن" ص259، 260، "بصائر ذوي التمييز": 3/ 313-315. 5 انظر: "مدارج السالكين: 1/ 339-344، "شرح القصيدة النونية" للهراس: 1/ 134 وما بعدها "معارج القبول" للشيخ حافظ حكمي، 2/ 475-485.

وأصل هذا الشرك ومنشؤه: هو تسوية غير الله بالله تعالى، أو هو تشبيه غير الله بالله سبحانه وتعالى في صفة من الصفات التي يختص بها، من صفات العظمة والكمال، مما لم يعهد في جنس الإنسان. وذلك أن الذي يعبد كائنا ما فيدعوه من دون الله -أو مع الله- لا يفعل ذلك إلا لاعتقاده أن عنده صفة يستحق من أجلها الدعاء، فهو يسمع دعاءه ويستجيب له. ومن يطلب الشفاعة من غير الله تعالى؛ يعتقد أن الشافع يملك شيئا مع الله؛ فلذلك يطلب منه، وكأنه -كذلك- يشبِّه الله تعالى بالمخلوقات، حيث يرى أن بعض أموره في الدنيا تقضى بوساطة من صاحب مكانة، فيظن أن الله تعالى كذلك يحتاج إلى وساطة, سبحانه وتعالى. ومن يخاف كائنا من الكائنات، إنما يخاف منه لاعتقاده أنه يقدر على أن يجلب له نفعا أو يدفع عنه ضرا, وهذا مما اختص الله تعالى به. ومن يتخذ حكم أحد من البشر شرعا وقانونا، ويتلقى أوامره ونواهيه شريعة واجبة الاتباع، إنما يفعل ذلك لاعتقاده أن هذا الحاكم له سلطة الأمر والنهي الواجبة الاتباع, كسلطة الله تعالى على خلقه ... وهكذا1. ولئن كان الشرك في القديم -غالبا- يتخذ صورة واحدة, وهي الخضوع للأصنام أو الطواف حولها، والسجود لها، والذبح عندها.. فإن عبادة الأصنام ليست إلا لونا واحدا من ألوان الشرك وأنواعه، فمنهم من كان يحلل ويحرم من تلقاء نفسه، أو يزعم أن له سلطة التحليل والتحريم، فيمنع أنواعا من التصرفات أو

_ 1 انظر: حجة الله البالغة للدهلوي: 1/ 124-126، "المصطلحات الأربعة في القرآن" للمودودي ص14، 15.

المآكل أو غيرها، ومنهم من كان يعبد الجن، ومنهم من كان يعبد الملائكة، ومنهم من كان يعبد الكواكب والنجوم، كما حكى الله تعالى عنهم في مواضع من كتابه الكريم1. ولئن كانت الأصنام -فيما سبق من عصور الجاهلية- تظهر بصورة مادية محسة، يتخذونها من خشب أو ذهب أو فضة على صورة إنسان، وقد تتخذ من حجر فتسمى عندئذ وثنا2، لئن كان كذلك، فإن الأصنام قد تظهر في عصور أخرى بصور عديدة ومظاهر شتى؛ قد تكون مذهبا من المذاهب الفكرية الجاهلية كالديمقراطية أو الوطنية أو القومية ... وقد تكون مذهبا اقتصاديا كالرأسمالية والاشتراكية ... وقد تكون أهواء وشهوات يخضع لها الناس، فلا يهوون شيئا إلا عبدوه3، وقد حكى الله تعالى ذلك عن أقوام فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] . {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] . {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] . وقد تكون الأصنام مجموعة من القيم الاجتماعية, أو القيم المادية التي تسيطر على الناس فيخضعون لها، ويتحركون بحركتها، فتكون لهم دينا ومذهبا:

_ 1 انظر: "خصائص التصور الإسلامي" ص39-41, "ماذا خسر العالم؟ " للندوي ص62-64 وبتوسع: "بلوغ الأرب" للآلوسي. 2 انظر: "كتاب الأصنام" لابن السائب الكلبي، ص33. 3 انظر: "تفسير البغوي": 6/ 85، "تفسير ابن كثير": 6/ 122، 7/ 253.

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16] . {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18] . "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش" 1. ونجد لهذه الأصنام من القيم المادية مُثُلا كثيرة في الحياة الأوروبية المعاصرة -ومن ورائها في حياة من تشبه بهم المسلمين- نشير إليها بمقتطفات عن المستشرق الأوروبي "ليوبولدفايس" من مفكري الحضارة الغربية، وممن عاش في ظلها، ثم أدركته هداية الله فأسلم وتسمى باسم "محمد أسد"، يقول في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق": "إن الاتجاه الديني مبنيّ دائما على الاعتقاد بأن هناك قانونا أدبيا مطلقا شاملا، وأننا نحن البشر مجبرون على أن نخضع أنفسنا لمقتضياته. ولكن المدنية الغربية الحديثة لا تقر الحاجة إلى خضوع ما إلا لمقتضيات اقتصادية أو اجتماعية أو قومية. إن معبودها الحقيقي ليس من نوع روحاني، ولكن الرفاهية، وإن فلسفتها الحقيقية المعاصرة إنما تجد قوة التعبير عن نفسها من طريق الرغبة في القوة، وكلا هذين موروث عن المدنية الرومانية القديمة". " ... وهكذا أصبح المال إلها جديدا في الغرب يعبد من دون الله، وقامت في

_ 1 أخرجه البخاري في الجهاد: 6/ 81، وفي الرقاق: 11/ 253.

عواصم أوروبا أسواق المال والبورصة، مثل ريجنت ستريت في لندن ووول ستريت في نيويورك. ثم جعل كهان هذا الإله الجديد يستغلون الناس بكل سبيل, يجمعون من شعوب الأرض دريهماتهم القليلة ليخزنوها ملايين في صناديقهم الحديدية. ولما زاد شَرَههم إلى المال أخذوا يثيرون الحروب بين الأمم ثم يبيعون المتحاربين كلهم سلاحا، لا يهمهم من مات، ولا يهمهم من قتل، ولا من خربت أرضه ودياره، ولا من جاع أو عطش أو عري أو ظل جاهلا، ما داموا يجمعون المال في صناديقهم ليزيدوا به نفوذهم السياسي والعسكري في العالم، ثم ليستخدموا هذا النفوذ من جديد في سبيل قناطير جديدة من الأموال، وهكذا دواليك". "إن الأوروبي العادي -سواء كان ديمقراطيا أم فاشيا, رأسماليا أم بلشفيا، صانعا أم مفكرا- يعرف دينا إيجابيا واحدا هو التعبد للرقي المادي، أي: الاعتقاد بأن ليس في الحياة هدف آخر سوى جعل هذه الحياة نفسها أيسر فأيسر". "إن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع العظيمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية وباحات الرقص وأماكن توليد الكهرباء. وأما كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسون وكواكب السينما وقادة الصناعات وأبطال الطيران ... "1. أنواع الشرك الأكبر: وفيما يلي إيجاز لبعض أنواع الشرك الأكبر: 1- شرك الدعاء: ومعنى الدعاء: سؤال العبد ربه تبارك وتعالى العناية، واستمداده إياه المعونة. وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية

_ 1 "الإسلام على مفترق الطرق" مقتطفات من ص35-48, ترجمة الدكتور عمر فروخ، وبعض المقتطفات عن المترجم نفسه.

واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله -عز وجل- وإضافة الجود والكرم إليه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" 1. ومعناه: أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، بل هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة؛ لدلالته على الإقبال على الله -عز وجل- والإعراض عما سواه2. والدعاء يشمل دعاء العبادة والثناء، ودعاء المسألة والطلب؛ ويراد بهما في القرآن الكريم هذا تارة، وهذا تارة، ويراد بهما مجموعهما، وهما متلازمان. فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر، إذ الذي يدعى لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ودعاء العبادة والثناء: هو ما يقصد به العبد ثناء على الله تعالى بما هو أهله, تذللا له، وانكسارا بين يديه, سبحانه وتعالى. ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة متضمّن لدعاء العبادة، وهما متلازمان لا بد من اجتماعهما، ولا يكفي أحدهما عن الآخر3. فإذا توجه الإنسان بواحد من هذين النوعين لأحد غير الله تعالى، كأن يدعو

_ 1 أخرجه أبو داود: 2/ 141، والترمذي: 9/ 311، 312، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "كتاب التفسير": 2/ 253، وابن ماجه: 2/ 1258، والطيالسي ص108, وصححه الحاكم: 1/ 490، ووافقه الذهبي، وابن حبان برقم "2396" "من موارد الظمآن"، والإمام أحمد: 4/ 267، وابن أبي شيبة: 10/ 200, وانظر: "فتح الباري": 11/ 94، "الفتوحات الربانية" لابن علان: 7/ 191. 2 انظر: "شأن الدعاء" للخطابي ص4, 5، "الفتوحات الربانية": 7/ 192. 3 "فتاوى شيخ الإسلام": 1/ 243، 244، 8/ 109، "بدائع الفوائد" لابن القيم: 3/ 2-5.

ميتا أو غائبا، أو أن يقول للميت أو الغائب: ادع الله لي ... فهذا كله لون من ألوان الشرك، حتى ولو كان ينطق بالشهادتين ويصلي ويصوم، إذ شرط الإسلام -مع التلفظ بالشهادتين- أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله، فما أتى بهما حقيقة، فمجرد التلفظ لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما1. ولهذا تواردت الآيات القرآنية الكريمة في النهي عن دعاء غير الله تعالى، كقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس: 106، 107] . {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] . أما الله تعالى وحده فهو الذي يستجيب الدعاء؛ ولذا فهو وحده الذي يستحق الدعاء والثناء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] . {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] . والإنسان بفطرته، حتى ولو كان من أكثر الناس كفرا وإلحادا، لا يملك في وقت الشدة والاضطرار إلا أن يرفع يديه للسماء ويدعو: يا رب:

_ 1 انظر: "مجموع الفتاوى": 1/ 313، 350-358، 27/ 72-87، "تيسير العزيز الحميد" ص219-233, وفيه نقول عن علماء المذاهب الأربعة في تحريم الدعاء لغير الله تعالى، "ضوابط التكفير" تأليف عبد الله القرني، ص114-123.

{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] . 2- شرك العبادة والتقرب: والصورة الواضحة الجلية لهذا النوع من الشرك هي ما كان معروفا من عبادة الأصنام والأوثان وإعطائها بعض خصائص الألوهية؛ ولذلك كانوا يطوفون حولها ويتمسَّحون بها، ويذبحون لها وينذرون، كي تقربهم إلى الله تعالى مكانة ومنزلة، وكأنهم يعتقدون أن الله تعالى بحاجة إلى هذه الواسطة، يستمدون بها من الله رزقا أو عطاء أو شفاعة أو قضاء حاجة من الحاجات: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] . "فهؤلاء كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السموات والأرض، ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق بالعبادة، وفي إخلاص الدين كله لله بلا شريك، وإنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه, ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها، ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة -وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة- ليست عبادة لها في ذاتها، وإنما هي زلفى وقربى لله؛ كي تشفع لهم عنده في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا. وهو انحراف عن الفطرة واستقامتها إلى هذا التعقيد والتخريف, فلا الملائكة بنات الله، ولا الأصنام تماثيل الملائكة، ولا الله -سبحانه وتعالى- يرضى بهذا الانحراف، ولا هم يقبل فيهم شفاعة، ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق.

.. وإنا لنرى اليوم في كل مكان عبادة للقديسين والأولياء والمشايخ حول الأضرحة تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة -أو تماثيل الملائكة- تقربا إلى الله بزعمهم، وطلبا للشفاعة عنده ... وهم يكذبون على الله بأن هذه العبادة تشفع لهم عنده. وهم يكفرون بهذه العبادة, ويخالفون فيها عن أمر الله الواضح الصريح"1. ونرى صورة أخرى لذلك عند أولئك الذين يخشون -في دخيلة أنفسهم- غضبة الذين يعظمونهم من ولاة وشيوخ وعظماء، ولا يخشون غضبة الله، والذين يعتقدون فيمن يعظمونهم أنهم أقرب ضرا ونفعا من الله، سواء كانوا ملوكا وعلماء ورؤساء2! 3- شرك الشفاعة: وهذا اللون من الشرك نتيجة لازمة لشرك التقرب، فالذي يعبد الأصنام والأولياء إنما يفعل هذا -كذلك- كي تشفع له عند الله تعالى في التجاوز عن الذنوب والجرائم3، وفي تحقيق الآمال والوصول إلى الرغبات؛ ظنا منه أن الأصنام أو الأولياء أو غيرهم يملك هذه الشفاعة, ويستحق أن تستجاب شفاعته وطلبه من الله تعالى! ومن يفعل ذلك فما قدر الله حق قدره؛ لأنه -سبحانه وتعالى- غنيّ عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه ومحتاج لا يملك نفعا ولا ضرا. ولذلك كان هذا العمل شركا, تعالى الله عنه:

_ 1 "في ظلال القرآن" المجلد الخامس ص3037، وانظر: "تفسير ابن كثير": 7/ 75. 2 "مقرر التوحيد" 2/ 28، 29، وزارة المعارف، الرياض. 3 "النهاية في غريب الحديث والأثر"، لابن الأثير: 2/ 485، وانظر: "مجموع الفتاوى": 1/ 124.

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] . {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] . ولهذا نفى الله تعالى نفيا قاطعا أن يكون ذلك طريقا صحيحا للتقرب إليه، وبيّن أن هذا اللون من الشفاعة منفيّ غير مقبول عنده سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] . {أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] . {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] . وإذا كانت تلك شفاعة شركية غير مقبولة، فإن هناك شفاعة شرعية جعلها الله تعالى لمن يشاء ويرضى عنه فيشفع. وإلى هذه الشفاعة أشارت الآيات القرآنية الكريمة، وشرطت لها شروطا ثلاثة1: 1- أن تكون الشفاعة في شيء يقدر عليه الشافع. فالميت والغائب لا يملك أحد منهما شيئا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] .

_ 1 انظر بالتفصيل: "مجموع الفتاوى": 1/ 86، 87، 113-125، 179-181، 14/ 299-345, ومواضع أخرى في "تيسير العزيز الحميد" ص273 وما بعدها "الشفاعة" تأليف مقبل بن هادي ص12, 13، "ضوابط التكفير" ص108-114.

2- أن يكون المشفوع له مسلما يرضى الله تعالى الشفاعة له، فلا شفاعة للكافرين: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] . {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . 3- أن يأذن الله للشافع بأن يشفع, وأن يقول صوابا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] . {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] . {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] . وقد ادخر الله تعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنواعا من الشفاعة يوم القيامة، تنال -إن شاء الله- من مات من أمته لا يشرك بالله شيئا, حسبنا هنا الإشارة إليها1, ونسأل الله سبحانه أن يشفِّع فينا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. ولا يغيبنّ عن البال أن الكلام السابق في الشفاعة غير المشروعة لا يدخل فيه الشفاعة في أمور الدنيا المباحة مما يجوز أن يشفع فيه الإنسان، كأن يسعى في أمر فيترتب عليه خير لمن يشفع له. ففي الحديث الصحيح: "اشفعوا تُؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما شاء" 2.

_ 1 انظر التفصيل والأحاديث الواردة في الشفاعة في: "جامع الأصول" لابن الأثير: 11/ 475-490، "شرح العقيدة الطحاوية" "229-239"، "الشفاعة" للوادعي ص17 وما بعدها. 2 أخرجه البخاري في التوحيد: 13/ 448، ومسلم في البر: 4/ 2026.

4- شرك الطاعة والاتباع: تقدم فيما سبق أن توحيد الألوهية مترتب على توحيد الربوبية، فإن الله سبحانه وتعالى هو وحده خالق الكون ومالكه، وهو الذي يسيّره ويصرف شئونه، فينبغي كذلك أن يكون متفردا بالحكم، أمرا ونهيا، تحليلا وتحريما، وينبغي على البشر أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله، ويحكموا به، وأن يطيعوه سبحانه في كل ما حكم به، فإن ذلك مقتضى العبادة وأصلها ومعناها وحقيقتها. ولذلك اتفق العلماء على أن الحاكم هو الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد يستحق أن ينفذ حكمه على الخلق إلا من كان له الخلق والأمر -سبحانه وتعالى- "فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الله الخالق, فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا، لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن: الواجب طاعة الله تعالى, وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته"1. وقد أوسع هذا المعنى شرحا العز بن عبد السلام -رحمه الله- في "قواعد الأحكام" حيث قال في "قاعدة: فيمن تجب طاعته, ومن تجوز طاعته، ومن لا تجوز طاعته":

_ 1 "المستصفى" للغزالي: 1/ 83. وهذا موضع اتفاق كما سبق، ويبحثه علماء الأصول تحت عنوان: الحاكم. انظر: "الإحكام" للآمدي: 1/ 76، "مسلَّم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت": 1/ 25، "شرح الكوكب المنير": 1/ 484، "مباحث الحكم عند الأصوليين"، ص162، 163, "المشروعية الإسلامية العليا" "28-37".

"لا طاعة لأحد من المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء، والأئمة والقضاة، والولاة، والآباء والأمهات والسادات والأزواج، والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات. ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل؛ لما فيها من المفسدة الموبقة في الدارين أو في إحداهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه، فلا إثم على مطيعه. وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا، بل دفعا لمفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بُضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه، فهل له فعله، نظرا إلى رأي الآمر، أو يمتنع نظرا إلى رأي المأمور؟ فيه خلاف, وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به. فإذا كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة. وكذلك لا طاعة لجَهَلَة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع". "وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه وما من ضير إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض؛ إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله. وكذلك لا حكم إلا له.. {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} " 1. وقد تواردت النصوص القرآنية الكريمة مؤيدة لهذا المنطق السليم، فهي تلزم البشر باتباع ما جاء من عند الله تعالى، وتحرم عليهم تحريما قاطعا اتباع ما يخالفه: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] .

_ 1 "قواعد الأحكام": 1/ 157، 158, وبعض الألفاظ مصححة من النسخة الخطية، وهو تحت الطبع بتحقيقي, إن شاء الله تعالى.

{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] . {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] . وقد أقسم الله تعالى بنفسه على أن أحدا لن يؤمن حتى يحكم بما جاء به الرسول في كل أمر، وأن ينتفي عن صدره الحرج والضيق من قضاء الرسول وحكمه، وأن يسلم وينقاد: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] . {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] . وغير ذلك من الآيات والنصوص القاطعة التي توجب الحكم بما أنزل الله، وتحكم بالكفر والفسق والظلم على كل من يخالف حكم الله تعالى1. ولذلك كان كل من أطاع مخلوقا في تحريم الحلال أو تحليل الحرام مشركا شرك الطاعة والانقياد أو الاتباع، وقد حكم الله تعالى على اليهود والنصارى بالشرك؛ لاتباعهم الأحبار والرهبان واتخاذهم أربابا من دون الله، فقال:

_ 1 انظر بالتفصيل: "الإسلام وأوضاعنا السياسية"، لعبد القادر عودة رحمة الله ص51-55، "الحكم بغير ما أنزل الله وصلته بالعقيدة" ص15 وما بعدها, وفيه عدد كبير من المراجع والمصادر. 2 انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام": 1/ 97، 98، 14/ 328، "تيسير العزيز الحميد" ص543.

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] . وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- بيانا واضحا ماهية العبادة التي وقع فيها هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفسّرها بأنهم أطاعوهم في معصية الله، واستحلوا ما أحلوه لهم من الحرام، وحرموا ما حرموه عليهم من الحلال، واستنصحوا الرجال, ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك! " قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة" فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: فقلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" 1. فقد كان عدي -رضي الله عنه- يظن أن العبادة هي التقرب إلى الأحبار والرهبان بالركوع والسجود والذبح والنذر ونحو ذلك، فقال: إنا لسنا نعبدهم. فصحح له النبي -صلى الله عليه وسلم- مفهوم العبادة بأنها طاعة الأحبار والرهبان في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم، وبذلك جعلوا أنفسهم أربابا من دون الله، ومن أطاعهم في ذلك كان عابدا لهم من دون الله2.

_ 1 أخرجه الطبري من طرق: 14/ 210، 211، واختصره الترمذي: 8/ 492-494. وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه البغوي في "التفسير": 4/ 39، والبيهقي في "السنن": 10/ 116، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" ص437، وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي: 4/ 174، "الكافي الشاف" لابن حجر ص75. 2 انظر: "تيسير العزيز الحميد" ص551، "مفاهيم ينبغي أن تصحح"، ص110، 111", واقرأ الفصل بكامله عن مفهوم "لا إله إلا الله".

وهذا أيضا ما فسر به الآية حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- عندما سُئل عنها فقال: أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم, ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا أحله الله حرموه، فتلك كانت ربوبيتهم. وقال: انطلَقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما، وإلى حرام الله فجعلوه حلالا، فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم, ولو قالوا لهم: "اعبدونا" لم يفعلوا1. والصورة الواضحة أو المثال القريب لهذا اللون من الشرك, هو التحاكم إلى القوانين الوضعية التي ارتضاها البشر لأنفسهم بمعزل عن دين الله وشريعته2. وهذا اللون من الشرك هو الذي يعم وجه الأرض اليوم؛ فأما الأرض غير الإسلامية فقد حوت كل صنوف الكفر والشرك، ومن أبرزها شرك الطاعة في التحليل والتحريم بغير ما أنزل الله، واتخاذ الأرباب المختلفة من دون الله. وأما الأرض الإسلامية فقد وقع من أهلها في هذا النوع من الشرك كل من رضي بشريعة غير شريعة الله، مجلوبة من الشرق أو الغرب, وكل من رفع راية للتجمع أو للجهاد غير راية الإسلام، من قومية أو وطنية أو علمانية أو غيرها من الرايات التي لم يأذن بها الله. وهؤلاء وهؤلاء يقيمون أربابا -وإن كانت غير محسوسة- ويعبدونها من دون الله.

_ 1 "تفسير الطبري" 14/ 211, 212. 2 انظر بالتفصيل: "مجموع الفتاوى": 3/ 267، "تفسير ابن كثير": 3/ 122, 123، "عمدة التفسير": 4/ 146 وما بعدها، "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، "الحكم بغير ما أنزل الله وصلته بالعقيدة".

فالذي ينادي بالقومية أو الوطنية ويتخذ ذلك ذريعة لإقامة وطن لا تحكم فيه شريعة الله, هو في الواقع يتخذ القومية أو الوطنية ربا يعبده من دون الله، سواء في ذلك من يقيم هذه الراية ومن يرضى بها؛ لأن الأول يصدر باسمها تشريعات تحل وتحرم بغير ما أنزل الله، والآخر يتلقى منها ويطيعها ولا يتوجه بالتلقي والطاعة إلى الله. والذي ينادي بوجوب إفطار العمال في رمضان لأن الصيام يضر بالإنتاج المادي، يتخذ الإنتاج المادي في الحقيقة ربا يعبده من دون الله؛ لأنه يطيعه مخالفا أمر الله. والذي ينادي بخروج المرأة سافرة متبرجة مخالطة للرجال باسم التقدم والرقي وباسم التحرر، يتخذ التقدم والرقي والتحرر في الحقيقة أربابا معبودة من دون الله؛ لأنه يحل باسمها ما حرم الله، ويطيعها من دون الله. والذي يدعو إلى إبطال شريعة الله أو تبديل الأحكام الإسلامية التي تصون الأخلاق والأعراض لكي نبدو في نظر الغرب متحضرين غير متخلفين، يتخذ الغرب وتقاليده أربابا معبودة من دون الله، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ لأن الغرب وتقاليده أثقل في حسه من أوامر الله، وأولى بالاتباع والطاعة من أوامر الله! وهكذا نجد صورا متعددة من شرك الطاعة والاتباع تعمّ حياة الناس اليوم دون أن يتبينوا ما هم واقعون فيه من الشرك، مع أن كتاب الله وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضحة حاسمة في هذا الأمر: أن العبادة هي التلقي من الله في كل شأن من شئون الحياة. وكما نتلقى من الله شعائر التعبد، فنعبده -سبحانه وتعالى- بما تعبَّدنا به من صلاة وصيام وزكاة وحج، كذلك نتلقى منه أمور حلالنا وحرامنا، أي: الشريعة التي تحكم أمور حياتنا في الصغيرة وفي الكبيرة سواء؛ لأن الله تعبدنا بتنفيذ

شريعته كما تعبدنا بالصلاة والصوم والزكاة والحج، وكلها سواء، واعتبر التوجه في هذه أو تلك لغير الله شركا، وقال عن الذين يفعلون ذلك: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] . وقد أمرنا الله بمفاصلة الواقعين في الشرك: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . لذلك ينبغي علينا أن نتبين طريقنا جيدا في وسط هذا الشرك الذي يعم اليوم وجه الأرض، وأن نجتهد ونتحرى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وألا نتخذ أربابا -محسوسة أو غير محسوسة- نتوجه لها بالعبادة من دون الله1.

_ 1 مقرر "التوحيد" للأستاذ محمد قطب: 2/ 34-36، طبعة وزارة المعارف, الرياض.

5- شرك المحبة والنصرة أو الولاء: إن من مقتضيات التوحيد وأصول العبادة أن نفرد الله تعالى بالمحبة الخاصة التي لا تصلح إلا له، وهي "حب طاعته، والانقياد لأمره"1، وهي محبة العبودية التي تستلزم الذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة لله تعالى وإيثاره على غيره. فإذا توجه الإنسان بهذه المحبة لغير الله تعالى كان مشركا شرك المحبة. ومن هنا جاء التقريع للمشركين الذين جعلوا لله تعالى أندادا ونظراء يحبونهم كحبه, ويعبدونهم معه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] . ولأن الإسلام يربط بين المسلمين برباط الأُخوّة الإيمانية حيث يلتقون كلهم على عقيدة التوحيد، فإن المسلم ينبغي أن يحب المسلم لإسلامه وإيمانه، وبذلك يكتمل عنده الإيمان ويجد حلاوته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله, وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان" 2. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان -إن كثرت صلاته وصيامه- حتى يكون كذلك"3.

_ 1 "الوسيط في تفسير القرآن"، للواحدي: 1/ 136. 2 أخرجه أبو داود: 7/ 51، والإمام أحمد: 3/ 348، والبغوي في "شرح السنة": 13/ 54, وصححه الحاكم: 2/ 164. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم "380"، "مرقاة المفاتيح" للقاري: 1/ 107، "مجمع الزوائد": 1/ 190. 3 "المصنف" لابن أبي شيبة: 13/ 368، "الزهد" لابن المبارك ص120.

فإذا كانت هذه المحبة لأعداء الله، كانت كفرا وشركا وموالاة للكافرين ونصرة لهم، وهذا نقض للميثاق ولكلمة التوحيد وخروج على مقتضيات الإيمان, وسنجتزئ ببعض الآيات القرآنية الكريمة التي تقرر ذلك تقريرا واضحا حاسما: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] . وسيأتي -إن شاء الله تعالى- مزيد بيان في فقرة خاصة عن "الولاء والبراء". ب- الشرك الأصغر: أما الشرك الأصغر، فهو مراعاة غير الله تعالى معه في بعض الأمور1، فهو شرك عملي، وسمي "أصغر" مقارنة بالشرك الأكبر. وهذا الشرك يتنافى مع كمال التوحيد، فلا يُخرِج صاحبه من الإيمان، ولكنه معصية من أكبر المعاصي؛ لما فيه من تسوية غير الله تعالى بالله في هيئة العمل. ومن الأمثلة عليه:

_ 1 "المفردات" للراغب الأصفهاني ص260.

الرياء اليسير، وهو أن يفعل الشيء يقصد به رؤية الخلق وملاحظتهم له، فلا يكون عمله خالصا لله تعالى، وهذا يحبط العمل الذي يرافقه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وموافقا لشرعه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] . وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" 1. والحلف بغير الله؛ لأن في ذلك تعظيما للمحلوف به, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله؛ فقد أشرك" وفي لفظ: "فقد كفر" 2. ومنه الشرك في الألفاظ، كقول الرجل: "ما شاء الله وشئت" و"هذا من الله ومنك" و"أنا بالله وبك" و"ما لي إلا الله وأنت" ... وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده3. وهذا الشرك قد يكون خفيا دقيقا لا يتبينه كثير من الناس، فينبغي ملاحظته وعدم التساهل فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" 4. والشرك الأصغر له أنواع كثيرة ليس هذا مجال بيانها، كما أن الوسائل المنافية للتوحيد أو كماله، كالتوسل، والبناء على القبور، والغلوّ في الأشخاص وتقديسهم، واتخاذ التماثيل, ورفع الصور وتعظيمها, والاحتفالات والأعياد البدعية، كل هذه الوسائل نجدها مفصلة مع أدلتها وأقوال العلماء فيها في مظانها5.

_ 1 أخرجه مسلم: 4/ 2289. قال النووي رحمه الله: "ومعناه: أنا أغنى عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئا ل ي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير. والمراد: أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه, ويأثم به" "شرح النووي على مسلم": 18/ 116. 2 أخرجه أبو داود: 4/ 357، والترمذي: 5/ 135, 136، والحاكم: 1/ 18، والبيهقي: 10/ 29. وانظر: "تلخيص الحبير" لابن حجر: 4/ 168. 3 "مدارج السالكين": 1/ 344. 1 أخرجه الإمام أحمد: 4/ 403، وأبو يعلى: 1/ 60، 61، والمروزي في "مسند أبي بكر" ص53 وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف, وللحديث شواهد يصح بها. انظر تعليق الشيخ الأرناءوط على "مسند المروزي" ص53، 54. 2 ومن ذلك كتاب "التوحيد" للشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشروحه، ومن أكثرها فائدة وأعظمها: "تيسير العزيز الحميد" و"فتح المجيد"، ففيهما الغَنَاء والكفاية.

ثانيا: الكفر تعريفه في اللغة: هو الجحود, وأصله من الكَفْر وهو الستر والتغطية؛ يقال: كفرت الشيء: إذا غطيته. ومنه قيل لليل: كافر؛ لأنه يستر الأشياء بظلمته, وسمي الزارع كافرا لأنه يستر الحب بالتراب. ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] يريد بالكفار: الزراع. سماهم بذلك؛ لأنهم إذا ألقوا البذر في الأرض كفروه، أي: غطوه وستروه، فكأن الكافر ساتر للحق، أو ساتر لنعم الله عز وجل. وليس الكافر اسما لليل أو الزارع، ولكنه وصف لهما، كما قال الشاعر: فتذكرا ثَقَلا رَثِيدا، بعدما ... ألقت ذُكَاء يمينها في كافر1

_ 1 البيت لثعلبة بن صعير المازني. والضمير في قوله: "فتذكرا" للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون. ورَثَد المتاع فهو مرثود ورثيد: وضع بعضا فوق بعض ونضده. وعنى بذلك بيض النعام، وهي تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس. وألقت يمينها في كافر: بدأت بالمغيب. انظر تعليق الشيخ محمود شاكر على "تفسير الطبري": 1/ 255، "لسان العرب": 5/ 147.

والكُفْر: ضد الإيمان، سمي بذلك لأنه تغطية وستر للحق. وكذلك كفران النعمة: جحودها وسترها، وهو ضد الشكر. ويقال: كفر بالله، يكفر كفرا، وكفورا، وكفرانا. ويقال: أكفر فلانا: دعاه كافرا. وتستعمل كلمة "الكفر" في الدين أكثر من استعمالها في كفران النعمة، و"الكفران" في جحود النعمة، و"الكفور" فيها جميعا. و"الكافر" -عند الإطلاق- متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة، أو يجحدها جميعها1. وفي الاصطلاح الشرعي: الكفر: خلاف الإيمان وضده2, أو هو: "رد الحق بعد معرفته. ومعنى هذا: أن الذي يرد الحق جهلا، أو يفعل شيئا من الكفر جاهلا ظانا أنه من الإسلام، وأنه فعل ما لا يضاد الإيمان, فليس بكافر، حتى تقوم الحجة عليه ويعلم الحق فيرده ... وكذلك لا يكون كافرا من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا

_ 1 انظر هذه المعاني اللغوية في: "الزاهر" للأزهري ص379، "معجم مقاييس اللغة": 5/ 9، "لسان العرب": 5/ 144، "الكليات" للكفوي 4/ 112، "تفسير الطبري": 1/ 255، "تفسير البغوي": 1/ 64، "المصباح المنير" للفيومي: 2/ 535، مفردات غريب القرآن للأصفهاني ص434، "غريب القرآن" لابن قتيبة: 1/ 13، 14 من كتاب "القرطين" لابن مطرف الكناني, "التوقيف على مهمات التعاريف" للمناوي، مادة "كفر" "مخطوط"، "المُغْرِب" للمطرّزي: 2/ 224-226. 2 "كشاف اصطلاحات الفنون": 5/ 1251, "طبعة الهند".

رسول الله، ثم يفعل مناقضا للإيمان، جاهلا به غير عالم أنه مخرج له من الإيمان, فإن علم ورَدّ وكابر وجحد فقد كفر"1. وأصل الكفر في الدين هو التكذيب المتعمد لشيء من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحد من رسله -عليهم الصلاة والسلام- أو لشيء مما جاءوا به، إذا كان ذلك الأمر المكذب به معلوما من الدين بالضرورة "وهو ما ظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة في حكمه بالنصوص الواردة فيه، كوجوب الصلاة وتحريم الخمر والزنا, وسمي ضروريا؛ لأن كل واحد يعلم أن هذا الأمر من الدين". ولا خلاف في أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر، إذا كان مكلفا مختارا، غير مختل العقل، ولا مكره. وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم من الدين بالضرورة للجميع، وتستّر باسم "التأويل" فيما لا يمكن تأويله؛ كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع ... وإنما يقع الإشكال في تكفير من قام بأركان الإسلام الخمسة المنصوص على إسلام من قام بها، إذا خالف المعلوم ضرورة للبعض أو الأكثر ... وعلمنا من قرائن أحواله أنه ما قصد التكذيب، أو التبس علينا ذلك في حقه، وأظهر التدين والتصديق بجميع الأنبياء والكتب الربانية ... ولذلك لا يجوز أن يسرع الإنسان إلى التكفير، فقد جاءت النصوص الشرعية الكثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية تحذر من ذلك بوجوه متعددة2.

_ 1 "الحد الفاصل بين الإيمان والكفر" ص64. 2 "إيثار الحق على الخلق"، لابن الوزير، ص376-405 بتصرف، وانظر: "جامع الفصولين"، لابن قاضي سماونة: 2/ 297-315, "مراتب الإجماع" لابن حزم ص167-177، "التشريع الجنائي الإسلامي"، لعبد القادر عودة: 2/ 707- 719, وفيه إشارة إلى مراجع كثيرة في فقه المذاهب، "الغلو في الدين وأثره في حياة المسلمين المعاصرة"، تأليف عبد الرحمن بن معلى المطيري ص261-263.

والكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر1. أ- فالكفر الأكبر: ما يضادّ الإيمان من كل وجه، ويخرج صاحبه عن الدين والملة, ويوجب له الخلود في النار. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6] . ويسمى هذا النوع من الكفر -كذلك- الكفر الاعتقادي، وهو الذي يأتي في النصوص الشرعية مقابلا للإيمان، فيكون ضده. وإذا أطلق لفظ "الكفر" فإنه ينصرف إلى هذا النوع، وهو الكفر الأكبر الذي يحبط العمل، ولا يغفره الله لصاحبه إذا مات عليه. أنواع الكفر الأكبر: ويتنوع هذا الكفر إلى ستة أنواع؛ من لقي الله بواحد منها لم يغفر له، وهي2: 1- كفر الإنكار: وهو أن ينكر بقلبه ولسانه، بأن لا يعرف الله أصلا ولا يعترف به، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد. قال الله عز وجل:

_ 1 انظر: "تعظيم قدر الصلاة": 2/ 527، "شرح العقيدة الطحاوية" ص323، "مدارج السالكين": 1/ 335. 2 انظر: "الزاهر"، ص380, 381، "تفسير البغوي": 1/ 64, "الأشباه والنظائر" لمقاتل بن سليمان، ص95-97, "مدارج السالكين": 1/ 337-339، "الصلاة" لابن القيم ص55-58، "الكليات" للكفوي: 4/ 114.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . أي: كفروا بتوحيد الله وأنكروا معرفته, وبإنكار وجود الله يصبح الرجل ملحدا1. 2- كفر الجحود: وهو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر ولا يعترف بلسانه، فهو كفر جاحد، مثل كفر اليهود، حيث جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكتموا أمره ووجود صفته في كتبهم, فقال الله تعالى عنهم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] . قال ابن القيم رحمه الله: "وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص. فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول. والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام، أو تحريم محرَّم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به عمدا، أو تقديما لقول

_ 1 يقول أبو هلال العسكري في "الفروق اللغوية" ص189: "الفرق بين الكفر والإلحاد: أن الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب، فمنها الشرك بالله, ومنها جحد النبوة ... والإلحاد: اسم خُصّ به اعتقاد نفي القديم "الله" مع إظهار الإسلام, وليس ذلك كفر الإلحاد، ألا ترى أن اليهودي لا يسمى ملحدا، وإن كان كافرا, وكذلك النصراني ... ".

من خالفه عليه لغرض من الأغراض. وأما جحد ذلك جهلا، أو تأويلا يعذر فيه صاحبه, فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرِّقوه ويَذَروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا"1. 3- كفر العناد، وهو أن يعرف الله بقلبه ويعترف ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل الإيمان أو يدين به، فهو كفر إباء واستكبار، مثل كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله، ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار. ومن هذا: كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقَدْ إليه، إباء واستكبارا، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه, إذ قالوا: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] . وهو كفر أبي طالب أيضا، فإنه صدّقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحميّة وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر، وقال: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذارُ مسبَّة ... لوجدتني سَمْحا بذاك مبينا ومن الأمثلة الظاهرة على الكفر بالامتناع والعناد في عصرنا الحاضر: الامتناع عن الحكم بالشريعة الإسلامية، وتطبيق القوانين الوضعية بدلا منها.

_ 1 "مدارج السالكين": 1/ 338، 339.

والأصل في الإسلام: أن الحكم بما أنزل الله واجب، وأن الحكم بغير ما أنزل الله محرم، ونصوص القرآن الكريم صريحة قاطعة في هذه المسألة. فالله -جل شأنه- يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] . ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] . ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] . ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . ويقول: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] ... ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له الطاعة، وأن كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين، ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أيا كانت. ومن المتفق عليه: أن من يستحدث من المسلمين أحكاما غير ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدُق عليهم ما وصفهم به الله تعالى من الكفر

والظلم والفسق، كلٌّ بحسب حاله؛ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا؛ لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه، فهو كافر قطعا، ومن لم يحكم به لعلة أخرى غير الجحود والنكران فهو ظالم، إن كان في حكمه مضيعا لحق أو تاركا لعدل أو مساواة، وإلا فهو فاسق. ومن المتفق عليه: أن من رَدَّ شيئا من أوامر الله أو أوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو خارج عن الإسلام، سواء رده من جهة الشك أو من جهة ترك القبول، أو الامتناع عن التسليم. ولقد حكم الصحابة بارتداد مانعي الزكاة، واعتبروهم كفارا خارجين عن الإسلام؛ لأن الله حكم بأن من لم يسلم بما جاء به الرسول -ولم يسلم بقضائه وحكمه- فليس من أهل الإيمان، قال جل شأنه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] 1. 4- وأما كفر الشك؛ فإنه لا يجزم فيه بصدق الرسول ولا يكذبه، بل يشك في أمره. وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها. وأما مع التفاته إليها ونظره

_ 1 "التشريع الجنائي الإسلامي"، لعبد القادر عودة رحمه الله: 2/ 708-710, وأشار إلى: "أحكام القرآن" للجصاص: 2/ 214، "إعلام الموقعين" لابن القيم: 1/ 57، 58، "روح المعاني" للآلوسي: 6/ 140، "تفسير الطبري": 6/ 119، "تفسير القرطبي": 6/ 100، "تفسير المنار": 6/ 405، "التشريع الجنائي": 1/ 225، 227. وانظر: "عمدة التفسير" عن الحافظ ابن كثير, للشيخ أحمد شاكر: 4/ 156-158، تعليق الأستاذ محمود شاكر على "تفسير الطبري": 10/ 348، 349، "تفسير البغوي": 3/ 61-64، "أضواء البيان" للشنقيطي: 4/ 90-92، "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم, ص4 وما بعدها.

فيها, فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق واضحة جلية، كدلالة الشمس على النهار. 5- وأما كفر الإعراض: فأن يُعرض بسمعه وقلبه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة, إن كنت صادقا فأنت أجلّ في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك". 6- وأما كفر النفاق, فهو أن يظهر بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التكذيب, فهذا هو النفاق الأكبر. وسيأتي في فقرة لاحقة بيان لأقسامه إن شاء الله. هذا، وتقدم أن مأخذ التكفير تكذيب الشارع، وليس مخالفته مطلقا. ومن ينكر رسالة النبي مثلا كافر لا مشرك، ومن أخلّ بالاعتقاد وحده فهو منافق، وبالإقرار بالحق فهو كافر، وبالعمل بمقتضاه فهو فاسق، ومن عبد مع الله غيره فهو مشرك 1. الكفر الأصغر: وإن كان الكفر الأكبر كفرا بأصل الإيمان والتوحيد، فإن الكفر الأصغر هو مخالفة لحكم من أحكام الشريعة، ومعصية عملية لا تُخرج عن أصل الإيمان، وإنما توجب لصاحبها الوعيد بالنار دون الخلود فيها، وسميت كفرا؛ لأنها من خصال الكفر2.

_ 1 "الكليات": 4/ 114، وانظر فيما سيأتي ص358. 2 انظر: "فتح الباري" لابن حجر: 1/ 83, 84، "شرح النووي على صحيح مسلم": 2/ 49، 50، "مدارج السالكين": 1/ 335، 336.

وهذا النوع من الكفر يسميه بعض العلماء: الكفر العملي، الذي يقابل الكفر الاعتقادي، وهو أيضا: كفر النعمة، فهو كفر مقيَّد بأحدهما وليس كفرا مطلقا. "وقد سمى الله تعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه, مؤمنا بما عمل وكافرا بما ترك العمل به، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84، 85] . فأخبر -سبحانه- أنهم أقرّوا بميثاقه الذي أمرهم به، والتزموه. وهذا يدل على تصديقهم به ... ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقا وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب. ثم أخبر أنهم يفدون من أُسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب, فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق، كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي. وأعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا في قوله: "سباب المسلم فسوق, وقتاله كفر" 1. ففرّق بين قتاله وسبابه, وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به، والآخر كفرا،

_ 1 أخرجه البخاري في الإيمان: 1/ 110، ومسلم: 1/ 81.

ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي. وهذا الكفر لا يُخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية, كما لم يخرج الزاني والسارق وشارب الخمر من الملة، وإن زال عنه اسم الإيمان"1. وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى، تسمي بعض الأعمال أو المعاصي كفرا، وأن صاحبها لا يكفر بارتكابها, بل يكفر بالشرك أو الكفر الأكبر، كقوله2 عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" 3. "لا ترغبوا عن آبائكم, فمن رغب عن أبيه فقد كفر" 4. "اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب, والنياحة على الميت" 5. ثالثا: النفاق تعريفه في اللغة: النون والفاء والقاف أصلان صحيحان في لغة العرب، يدل أحدهما على انقطاع شيء وذهابه، ويدل الآخر على إخفاء شيء وإغماضه, ومتى حُصِّل الكلام فيهما تقاربا.

_ 1 "كتاب الصلاة" لابن القيم، ص55، 56 بتصرف يسير. وانظر: "مدارج السالكين": 1/ 335-337. 2 انظر نماذج أخرى لهذه الأحاديث مع شرحها وتوجيهها في: "فتح الباري": 1/ 83-87، "شرح النووي على مسلم": 2/ 41-63، "الإيمان" لأبي عبيد القاسم بن سلَّام ص84-98، "الإبانة" لابن بطة: 2/ 723-755. 3 أخرجه البخاري: 1/ 110، ومسلم: 1/ 81. 4 أخرجه البخاري: 12/ 54، ومسلم: 1/ 81. 5 أخرجه مسلم: 1/ 82.

ومن الأصل الثاني، يقال: النَّفَق، وهو سَرَب في الأرض له مَخْلَص إلى مكان آخر. والنافقاء: موضع يرقِّقه اليربوع من جحره، فإذا أُتي من قِبَل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وخرج. ومنها اشتقاق النفاق؛ لأن صاحبه يكتم خلاف ما يُظهر, فكأن الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء. ويمكن: أن الأصل في هذا الباب واحد، وهو الخروج. ونافَقَ في الدين: ستر كفره وأظهر إيمانه. ونافق اليربوع: أخذ في نافقائه. وسمي المنافق منافقا؛ لأنه يستر كفره ويغيِّبه، فشبِّه بالذي يدخل النفق، وهو السَّرَب، فيستتر به، أو لأنه نافق كاليربوع، فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء. وهكذا يفعل المنافق، يدخل في الإسلام ثم يخرج منه على غير الوجه الذي دخل فيه1. وقد تكرر في القرآن الكريم والحديث الشريف ذكر "النفاق" وما تصرف منه اسما وفعلا, وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به, وإن كان أصله معروفا في اللغة العربية. في الاصطلاح الشرعي: والنفاق: هو الدخول في الدين والإيمان من باب أو وجه "وهو التلفظ بالشهادتين" والخروج عنه من باب أو وجه آخر. وعلى ذلك نبّه الله تعالى بقوله عن

_ 1 انظر: "معجم مقاييس اللغة": 5/ 454، 455، "ترتيب القاموس المحيط": 4/ 419، "لسان العرب": 10/ 358، 359، "الصحاح" للجوهري: 4/ 1560، "غريب الحديث" لأبي عبيد: 3/ 13، "النهاية" لابن الأثير: 5/ 98، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 71، 72.

المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون من الدين والشرع، ولا يطلق اسم النفاق على من يظهر شيئا, ويخفي غيره إلا الكفر والإيمان. والمنافق هو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه1. فالمنافق كالضب أَلِف المراوغة والخداع، فالضب يدخل جحره من باب واضح ثم يهرب إذا شعر بالخطر من باب خفي آخر تتعذر رؤيته. وكذلك يفعل المنافق؛ يدخل في الإسلام من باب ظاهر، فينطق بالشهادتين، ويصلي مع الناس ... ثم يخرج من الإسلام من باب آخر من الصعب مشاهدته، ولو شاهده الناس عند نقضه للإيمان وخروجه عن الإسلام لأُقيم عليه حد الردة2. أنواع النفاق: وهذا النفاق نوعان: نفاق أكبر، وهو نفاق الاعتقاد, ونفاق أصغر، وهو النفاق العملي، وفيما يلي إيجاز لهذين النوعين: 1- النفاق الأكبر، أو نفاق الاعتقاد: وهو -كما سبق- أن يُظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فيعصم بذلك دمه وماله وعِرْضه، فيتخلص من القتل والعذاب العاجل، ويصبح ظاهرا في عِدَاد المسلمين ويُحسَب منهم، وهو في حقيقة أمره باطنا منسلخٌ من الدين كله مكذبٌ به، لا يؤمن بالله ولا بكلامه الذي أنزله على رسوله، فليس معه من الإيمان شيء, كالمنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا النفاق يوجب لصاحبه الخلود في النار، بل هو في الدرك

_ 1 انظر: "مفردات القرآن" للراغب ص502، "لسان العرب"، الموضع السابق، "الفروق اللغوية" "189". 2 انظر: "مساجد الضرار بين القديم والحديث" كتبه محمد سرور زين العابدين، ضمن "كتاب النفاق" للشيخ الدوسري ص107.

الأسفل منها، وهو أعظم كفرا من صاحب الكفر الواضح المستبين1. قال الله تعالى مبينًا مصير المنافقين, وعقوبتهم في الآخرة: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] . {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] . وليس من غرضنا هنا أن نقف طويلا عند ظهور حركة النفاق في المدينة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- دون مكة المكرمة، والأسباب التي أدت إلى ذلك، ولا بيان المواقف الكيدية والمؤامرات التي قام المنافقون بها، وحسبنا فقط الإشارة إلى أن خطورتهم قد بلغت غايتها، وأنها أشد من خطورة الكافرين الواضحين الذين أفصحوا عن عداوتهم وكفرهم وجاهروا بذلك؛ ولذلك جاءت الآيات القرآنية الكريمة ترسم صورة واضحة لهم من خلال صفاتهم ومواقفهم، وما تكاد سورة مدنية تخلو من الإشارة إليهم والحديث عنهم2. وفي زمننا هذا خلق كثير من الناس، يقتفون أثر المنافقين -الذين عرفهم العهد النبوي, وكان على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- فهم على نهجهم في

_ 1 "مدارج السالكين": 1/ 347، "تفسير ابن كثير": 1/ 72، 73، "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166، "الإيمان" لابن تيمية: 50، 51، "شرح السنة": 1/ 76. 2 انظر بالتفصيل أبحاثا مهمة في: "مدارج السالكين": 1/ 347-359، "النفاق: آثاره ومفاهيمه" للشيخ عبد الرحمن الدوسري ص9 وما بعدها، "سيرة الرسول" لدروزة، 2/ 73-120، وفي تفسير ابن كثير -رحمه الله- وقفات رائعة عند الآيات المتعلقة بالنفاق والمنافقين، و"في ظلال القرآن" في مواضع كثيرة يكشف عنها: "مفتاح كنوز في ظلال القرآن" ص425-427، "أصول الدعوة" لزيدان ص382-390.

سلوكهم وأقوالهم وعقائدهم. ومن أبرز هذه النماذج المعاصرة: الباطنيون الذين يبطنون شيئا ويظهرون شيئا آخر ... وأتباع الأحزاب والمنظمات الجاهلية التي تنادي بتحكيم غير شريعة الله؛ كالشيوعية والرأسمالية، والقومية والعلمانية ... والملأ من أعوان الطواغيت الذين هم من كبار المسئولين والمستشارين والمساعدين، فلا قيمة للطاغوت لولا الملأ، فبهم يستبدّ ويبطش، وبهم يفرض على المسلمين غير شريعة الله، وبهم يوالي أعداء الله ويبيح المحرمات، وبهم يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف1 ... وإذا كان الأمر بهذه الخطورة، فهل نستطيع اليوم أن نحكم على إنسان بعينه بهذا النفاق؟ يقول الإمام الخطابي رحمه الله: "كان رسول الله لا يواجه المنافقين بصريح القول، ولا يسميهم بأسمائهم، فيقول: فلان منافق، وإنما يشير إليهم بالأمارة المعلومة على سبيل التورية عن التصريح. وكان حذيفة بن اليمان يقول: إن النفاق إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما كان بعد زمانه كفر ... أو يقول: ولكنه الكفر بعد الإيمان2. ومعنى هذا القول: أن المنافقين في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكونوا قد أسلموا، إنما كانوا يظهرون الإسلام رياء ونفاقا، ويسرون الكفر عقدا وضميرا. فأما اليوم وقد شاع الإسلام واستفاض، وتوالد الناس عليه، فتوارثوه قرنا بعد قرن, فمن نافق منهم بأن يظهر الإسلام ويبطن خلافه فهو مرتدّ؛ لأن نفاقه كفر أحدثه بعد قبول الدين، وإنما كان المنافق في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقيما على كفره

_ 1 "مساجد الضرار بين القديم والحديث" ص119-121 باختصار. 2 أخرجه البخاري: 13/ 69.

الأول، فلم يتشابها"1. وإنما اختلف الحكم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به, ولا يترك لمصلحة التألف لعدم الاحتياج إلى ذلك2. 2- النفاق الأصغر، أو النفاق العملي: وهو ترك المحافظة على أمور الدين سرا، ومراعاتها علنا، فيشبه في هذا النفاق الأكبر، إذ فيه مخالفة القول للواقع ولكنه ليس في الاعتقاد؛ ولذلك لا يتنافى مع أصل التوحيد والإيمان ولا يخرج صاحبه عن الدين، وإن كان يستحق الوعيد كسائر المعاصي. وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا النوع في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" 3. "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" 4. فهذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، ولكنه ليس على كفرهم أو اعتقادهم، بل على عملهم، فهو

_ 1 "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166-168 تحقيق د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود. 2 "فتح الباري" لابن حجر: 13/ 74. 3 أخرجه البخاري في الإيمان: 1/ 89, ومسلم في الإيمان: 1/ 78. 4 البخاري, ومسلم في الموضع السابق نفسه.

نفاق عمل؛ لأن نفاق التكذيب إنما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد عهده إنما هو كفر أو إيمان1. وقد يجتمع نفاق العمل مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمُل، فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى المؤمن عن تلك الصفات التي سبقت، فإذا كملت في العبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقا خالصا2. النسبة بين الشرك والكفر: وبعد أن بيّنّا معنى الشرك والكفر والنفاق، يمكن أن نحدد العلاقة أو النسبة بين هذه الألفاظ الثلاثة عند استعمالها جميعها في سياق واحد، وعند انفراد كل منها عن الآخر: يطلق الله تعالى على المشركين اسم الكفر ويصفهم به، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] . {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] .

_ 1 انظر: "أعلام الحديث" للخطابي: 1/ 166، "شرح السنة" للبغوي: 1/ 76، 77, "الإبانة الكبرى" لابن بطة: 2/ 685-704، "شرح النووي على صحيح مسلم": 2/ 46-48, "فتح الباري": 1/ 90, 91, "مدارج السالكين": 1/ 347, "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للقاري: 1/ 125-128، "سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي": 7/ 385، 386. 2 "كتاب الصلاة"، لابن القيم ص59.

{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] . {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] . كما يطلق على الكفار من أهل الكتاب وغيرهم اسم الشرك ويصفهم به، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] . {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31، 32] . فالذين فرقوا دينهم هم اليهود والنصارى الكفار1. وقد تواتر النقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يسمي كل من كان كافرا بـ "المشرك"، وقد كان في الكفار من لا يُثبت إلها أصلا، أو كان شاكا في وجود. وكان فيهم -عند البعثة- من ينكر البعث والقيامة، وكان فيهم عابدو الأوثان. وعابدو الأوثان لم يكونوا يقولون في أوثانهم: إنهم شركاء لله في الخلق والتدبير -كما سبق في أكثر من موضع- وبذلك يثبت وقوع اسم الشرك على الكافر

_ 1 انظر: "تفسير الطبري": 21/ 42، "تفسير البغوي": 6/ 271، "المحرر الوجيز": 12/ 259، "الدر المنثور": 6/ 271.

من جهة الإطلاق الشرعي، فوجب اندراج كل كافر تحت اسم المشرك1. وقد تقدم في الاستعمال اللغوي -كذلك- أن كل كافر هو في الحقيقة مشرك، واليهود والنصارى يندرجون تحت اسم "المشركين"؛ لأنهم أشركوا فقالوا: عيسى ابن الله. ولذلك روي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أي شرك أعظم ممن يقول: عيسى هو الله أو ولد الله؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا2. وباستقراء استعمالات الكلمات الثلاث: "الكفر والشرك والنفاق" في القرآن الكريم اسما أو وصفا، نجد أن كل لفظ منها قد يرد مفردا مستقلا في السياق، وقد يرد مقترنا بالآخر. وهنا نجد أن هذه الألفاظ إذا اجتمعت في سياق واحد دل كل منها على معنى غير ما يدل عليه الآخر، وإذا انفردت دخل في كل لفظ معنى اللفظ الآخر. فلفظ الكفر: إذا ذكر مفردا في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] . {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] . {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 136] .

_ 1 انظر: "تفسير الفخر الرازي": 6/ 61-63، "كشاف اصطلاحات الفنون": 4/ 147، 148. 2 انظر: "أحكام القرآن"، لابن العربي: 1/ 157، "الكليات" للكفوي: 3/ 70، 71.

فهذه النصوص كلها وأمثالها يدخل فيها المنافقون الذين هم في الباطن كفار، ليس معهم من الإيمان شيء، كما يدخل فيها الكفار المظهرون للكفر، بل المنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم1. ويدخل فيه أيضا المشركون، الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى، كالوثنيين، كما في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . فقد نهى عن التمسك بعصمة الكافرة، ولم يكونوا متزوجين حينئذ إلا بمشركة وثنية. ولفظ المشرك، يذكر مفردا كما في قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] . والأكثر من العلماء يذهبون إلى أن الشرك يتناول الكفار من أهل الكتاب أيضا، فكل من جحد رسالته -صلى الله عليه وسلم- فهو مشرك. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . فقد دلت الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى -في الجملة- فلو كان كفر اليهود والنصارى ليس بشرك، لوجب أن يغفر الله تعالى لهم -في الجملة- وذلك باطل2. وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .

_ 1 "الإيمان" لابن تيمية ص49، 50. 2 "تفسير الفخر الرازي": 6/ 61.

وأكثر الفقهاء يحملونه على الكفار جميعا1. ثم قد يقرن لفظ الكفر بالنفاق في مواضع كثيرة في القرآن الكريم, كما في أول سورة البقرة، حيث ذكر الله تعالى آيتين في صفات الكافرين وبضع عشرة آية في صفات المنافقين "الآيات: 6-20". وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] . {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 68] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] ، [التحريم: 9] . ويقرن الكفر والشرك في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] . {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1] . ويقرن لفظ المشركين أيضا بأهل الكتاب فقط، كما في الآيتين السابقتين ونحوهما من الآيات الكريمة. وقد يقرن بالملل الخمس2، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ

_ 1 "مفردات القرآن" للراغب ص260. 2 "الإيمان" لابن تيمية ص52، 53.

هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] . وعندئذ ينصرف لفظ المشرك إلى من ليس له كتاب من المجوس والوثنيين من العرب، ولفظ أهل الكتاب إلى اليهود والنصارى، وهكذا يجتمع الكل في وصف الكفر ثم يخصّهم التقسيم بأسماء معينة لكل منهم1. والخلاصة فيما سبق: أن هذه الألفاظ إذا جاءت مفردة, يدخل في كل لفظ منها معنى اللفظ الآخر، وإذا جاءت في سياق واحد يختص كلٌّ منها بمعناه. ولذلك وضع بعض العلماء تقسيما للكفر, يشمل الأصناف التالية: إن الكافر إن أظهر الإيمان فهو المنافق. وإن أظهر كفره بعد الإيمان فهو المرتد. وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك. وإن تدين ببعض الأديان والكتب المنسوخة فهو الكتابي. وإن ذهب إلى قِدَم الدهر وإسناد الحوادث إليه فهو الدهري. وإن كان لا يثبت وجود الباري سبحانه فهو المعطِّل أو الملحد. وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ينطق بعقائد هي كفر بالاتفاق فهو زنديق2.

_ 1 انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي: 1/ 157. 2 انظر: "كشاف اصطلاحات الفنون"، للتهانوي: 5/ 1251، 1252، وراجع: "الفروق اللغوية"، للعسكري ص190، 191, ففيه تفصيل للفرق بين الكفر والشرك والإلحاد في الاستعمال اللغوي والشرعي.

عقيدة الولاء والبراء

عقيدة الولاء والبراء مدخل ... عقيدة الولاء والبراء: تمهيد: يعقد الإسلام آصرة الأُخوَّة الإيمانية بين أفراده الذين يؤمنون به ويلتقون عليه، فيجعل منهم أمة واحدة، تلتقي على العقيدة والإيمان، دون التفات إلى الجنس الذي ينحدرون منه، أو البلد الذي ينتسبون إليه، أو الزمن الذي يعيشون فيه، أو المصالح المادية التي قد يلتقي عليها بعض الناس، فقال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] . وقرر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الأصل الكبير في أول ميثاق لدولة الإسلام في المدينة بعد الهجرة، وجعله واقعا عمليا بين "المؤمنين والمسلمين ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.. أنهم أمة واحدة دون الناس، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، وأن ذمة المؤمنين واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس"1. وما ذاك إلا لأنهم جميعا إخوة متحابون ينضوون تحت راية التوحيد "لا إله إلا الله" التي تظلّهم جميعا فتجعلهم أمة واحدة، تتمسك بأوثق عرا الإيمان، وهو الحب في الله والبغض في الله. ومن مقتضيات هذا التوحيد والإخاء: عقد الولاء بين المؤمنين والبراء من الكفار والمشركين1. إذ لا يتم الولاء للمؤمنين إلا بالبراءة من المشركين، فهما متلازمان.

_ 1 مقتطفات من كتابه -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة بعد الهجرة. انظر نص هذا الكتاب بالتفصيل وتخريج فقراته في: "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" ص57-64.

الولاء والبراء في النصوص الشرعية

الولاء والبراء في النصوص الشرعية: لقد قرر الله تعالى مبدأ الولاية بين المؤمنين، وجعل بعضهم أولياء بعض، يتناصرون ويتعاضدون ويتحابون، فقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] . وذلك لأن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة، وتجمّع المسلمين شيء طبيعي في مواجهة التجمع الذي يقوم على أساس معارضة الإسلام, ومحاربة المسلمين. والخروج على هذا التجمع الإسلامي يعتبر ثغرة في الإيمان ونقصا ينبغي تداركه، هذا إذا كان الخروج بمعنى عدم الاستجابة للتعاون مع المؤمنين، أما إذا وصل الخروج على التجمع الإسلامي إلى موالاة الأعداء، فذلك خروج على قانون الإسلام، أو ارتداد عن الإسلام. ولذلك تنزلت النصوص القرآنية الكريمة، وتواردت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذر المسلمين أشد التحذير من موالاة أعداء الله الكافرين، وتوجب الموالاة للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وقد أبدأ القرآن الكريم في ذلك وأعاد في مواضع كثيرة ومناسبات شتى، فأنت لا تجد موضوعا نال من الاهتمام -بعد

_ 1 عن صلة الولاء والبراء بكلمة التوحيد، وهل هي من مقتضياتها ولوازمها أو من معناها؟ انظر: "مجموعة التوحيد" ص50، 51، "الإيمان" محمد نعيم ياسين ص221, "الولاء والبراء" ص40-45، "الموالاة والمعاداة": 1/ 131-138.

العناية بالتوحيد- كما تجد في هذه القاعدة الكبيرة, والأصل العظيم: "الولاء والبراء". وسنجتزئ هنا ببعض هذه النصوص، وهي بوضوحها ونصاعتها تبين هذه الحقيقة الكبرى وتجعلها أوضح من الشمس في رابعة النهار؛ ولذلك ينبغي الوقوف عندها والنظر في مدلولاتها ومراميها1: فمن الآيات القرآنية: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 51-53] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ

_ 1 يحسن مراجعة تفسير الآيات في "تفسير الطبري"، و"تفسير ابن كثير"، و"في ظلال القرآن".

بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 1، 2] . وما كانت صلة النسب والقرابة -مهما كانت قريبة- سببا للمودة بين المؤمنين والكفار، ولا سبيلا للولاء لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] . {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] . ولذلك تبرأ إبراهيم -عليه السلام- من أبيه وقومه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26، 27] . ومن ثَمَّ جعل الله تعالى فيه أسوة حسنة، ينبغي أن نتأسى بها؛ ولاء للمؤمنين وبراءة من الكافرين وبغضا لما يعبدون من دون الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] .

ولهذا المعنى نفسه قطع الله تعالى الصلة بين نوح -عليه السلام- وبين ابنه الكافر: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45، 46] . وكذلك قطع الصلة بين نوح وزوجته, وبين لوط وزوجته ... إلخ. ومن الأحاديث النبوية: وأما الأحاديث النبوية التي تقرر هذا المبدأ وما يقتضيه ويستلزمه, فمنها: "أوثق عرا الإيمان: الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل" 1. "من أحب في الله, وأبغض في الله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان" 2. "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 3. "الشرك أخفى من دبيب الذَّرِّ على الصَّفَا في الليلة الظلماء. وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وتبغض على شيء من العدل. وهل الدين إلا الحب في الله البغض في الله؟ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} "1. وغيرها من الأحاديث والآثار في هذا المعنى كثير، حسبنا منها تلك الجملة ففيها القناعة والكفاية2، لنعرض بعدها مفهوم الولاء والبراء أخذا من هذه النصوص الشرعية, واستنادا إلى معانيها عند علماء اللغة.

_ 1 حديث صحيح أخرجه أبو داود الطيالسي، والحاكم، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط". انظر: "صحيح الجامع الصغير" برقم "2539"، "سلسلة الأحاديث الصحيحة" برقم "1728". 2 أخرجه أبو داود: 7/ 15، والإمام أحمد: 3/ 440، والبغوي في "شرح السنة": 13/ 54، وصححه الحاكم: 2/ 64. 3 أخرجه البخاري 1/ 72، ومسلم: 1/ 66 في كتاب الإيمان.

مفهوم الولاء والبراء

مفهوم الولاء والبراء: الولاء في اللغة: الواو واللام والياء, أصل صحيح يدل على قُرْب؛ وذلك أن الولاء والتوالي: أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما. ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان, ومن حيث النسبة, ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة، ومن حيث الولاية. والموالاة: أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح، ويكون له في أحدهما هوى, فيواليه أو يحابيه. والوَلِيّ والمَوْلَى: يُستعملان في المعاني السابقة، وكل منهما يقال في معنى الفاعل "أي: المُوالي" وفي معنى المفعول "أي: الموالَى". وكذلك يطلق كل منهما على معانٍ، وهو في كل منها حقيقة؛ فهو يطلق على المعتِق والمعتَق، والمتصرف في الأمور، والصاحب والحليف، والناصر والمحبوب، والمطيع والتابع، والمالك والسيد.. فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه السياق الوارد فيه. والوليّ: ضد العدوّ، وكل من يليك أو يقابلك فهو وليّ, وكل من وَلِيَ أمرَ آخر فهو وليّه. والولاية: النصرة، وقد نفاها الله بين المؤمنين والكافرين في غير آية، وجعل بين الكافرين والشياطين موالاة في الدنيا، ونفى بينهم الموالاة في الآخرة. والولاء: الملك, والقرب, والقرابة, والنصرة, والمحبة. ووالى فلانا: أحبه، وتولّاه: اتخذه وليا. فإذا عُدِّي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع، منه: ولّيت وجهي كذا: أقبلت به عليه. وإذا عُدِّي بـ "عن" لفظا أو تقديرا، اقتضى معنى الإعراض وترك قربه1.

_ 1 صححه الحاكم في "المستدرك": 2/ 291، وتعقّبه الذهبي فقال: عبد الأعلى بن أعين ليس بثقة. 2 انظر هذه الأحاديث والآثار في: "مجموعة التوحيد" ص118-121، "الموالاة والمعاداة": 1/ 110-122. 3 انظر في المعاني: "معجم مقاييس اللغة": 6/ 141، "لسان العرب": 15/ 406-414، "الكلّيّات" للكَفَوِيّ: 4/ 300، 5/ 4، 43، "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني "533, 534"، "النهاية في غريب الحديث والأثر": 5/ 227-230، "الصحاح" للجوهري: 6/ 2528-2531.

مفهوم الولاء في الشرع

مفهوم الولاء في الشرع: ومن تلك المعاني اللغوية للولاء وما يتصل بها، ومن مراجعة النصوص القرآنية والحديثية وأقوال علماء السلف؛ يمكن أن نخرج بمفهوم عامّ للولاء يقوم على النصرة والتحالف والحب والطاعة وإلقاء مقاليد الأمور لمن يكون له الولاء. فإذا كان ذلك للمؤمنين: مودة لهم ونصرة لهم على أعدائهم ... فهي الموالاة الشرعية التي أوجبها الله تعالى, وجعلها رابطة بين المؤمنين, حيث قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55، 56] . وإن كانت هذه الموالاة للكافرين والمشركين والطواغيت, فهي الخروج على الإسلام والمحادّة لله ولرسوله، ينهى الله تعالى عنها، ويحذِّر فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] . يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: " ... والولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى ... تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم، فبعيد جدا أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر الذي كان يلتبس على المسلمين أمره، فيحسبون أنه جائز لهم، بحكم ما كان واقعا من تشابك المصالح والأواصر، ومن قيام هذه الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة، حتى نهاهم الله عنه، وأمر بإبطاله، بعدما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة ... وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية، وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام، فقال الله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} ... وطبي عي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين؛ فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال، إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون، فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم.. وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال، بعدما كان قائما

بينهم أول العهد في المدينة"1. ويرشدك إلى هذا المعنى: أن صدر سورة الممتحنة، الذي نزل في حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- وفيه نهى الله تعالى عن موالاة أعدائه, إنما كان نهيا عن مناصرة الكفار بإلقاء شيء من أسرار النبي -صلى الله عليه وسلم- وإفشائه، بحكم ما كان بين حاطب وبين القوم، فأراد أن يتخذ عندهم يدا. فقد كان حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضا، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفا لعثمان -رضي الله عنه- فلما عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة، لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتجهيز لغزوهم، وقال: "اللهم عَمِّ عليهم خبرنا" فعمد حاطب، فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوهم؛ ليتخذ بذلك عندهم يدا، فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله، استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة من أخذ الكتاب منها منها, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب, ما هذا "؟ قال: لا تعجل عليَّ! إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت -إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه صَدَقكم" , فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر, فقال: اعملوا ما شئتم, فقد غفرت لكم"، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1.

_ 1 "في ظلال القرآن": المجلد الثاني ص909، وانظر "مجموعة التوحيد" ص114، 115، "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية": 3/ 10، "الإيمان" د. محمد نعيم ياسين، ص228، 229، "الولاء والبراء في الإسلام"، ص90، "الموالاة والمعاداة": 1/ 27-50.

البراء في اللغة: الباء والراء والهمزة: أصلان إليهما ترجع فروع الباب؛ أحدهما: الخَلْق، يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم بَرْءا. والبارئ: الله جل ثناؤه. والأصل الآخر: التباعد عن الشيء ومزايلته. من ذلك: البُرْء، وهو السلامة من السُّقْم، يقال: بَرِئت وبَرَأت, قال تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ، وفي غير موضع من القرآن الكريم: {إِنِّي بَرِيءٌ} والمصدر: البراء2. وقال الراغب الأصفهاني: "أصل البَرْء والبَرَاء والتبرِّي: التفصِّي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: بَرَأْت من المرض3, وبرأت من فلان، وتبرّأت وأبرأته من كذا، وبَرَأته، ورجل بريء، وقوم برآء وبريئون...."4. وقال ابن الأعرابي: البريء: المتفصي من القبائح، المتنحي عن الباطل والكذب، البعيد من التهم، النقي القلب من الشرك. وقال أيضا: يقال: برئ إذا تخلص، وبرئ: إذا تنزه وتباعد, وبرئ: إذا أعذر وأنذر. ومنه قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: إعذار وإنذار.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه. وانظر روايات القصة وألفاظها، في "تفسير ابن كثير": 8/ 108-111، طبعة الشعب. 2 "معجم مقاييس اللغة": 1/ 236, 237. 3 في "المصباح المنير" للفيومي "1/ 47": "بَرَأَ" من المرض "يَبْرَأ" من بابَيْ نفَع وتعِب. 4 "مفردات القرآن" للراغب ص45.

البراء في اللغة

البراء في اللغة: الباء والراء والهمزة: أصلان إليهما ترجع فروع الباب؛ أحدهما: الخَلْق، يقال: برأ الله الخلق يبرؤهم بَرْءا. والبارئ: الله جل ثناؤه. والأصل الآخر: التباعد عن الشيء ومزايلته. من ذلك: البُرْء، وهو السلامة من السُّقْم، يقال: بَرِئت وبَرَأت, قال تعالى: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} ، وفي غير موضع من القرآن الكريم: {إِنِّي بَرِيءٌ} والمصدر: البراء2. وقال الراغب الأصفهاني: "أصل البَرْء والبَرَاء والتبرِّي: التفصِّي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: بَرَأْت من المرض3, وبرأت من فلان، وتبرّأت وأبرأته من كذا، وبَرَأته، ورجل بريء، وقوم برآء وبريئون...."4. وقال ابن الأعرابي: البريء: المتفصي من القبائح، المتنحي عن الباطل والكذب، البعيد من التهم، النقي القلب من الشرك. وقال أيضا: يقال: برئ إذا تخلص، وبرئ: إذا تنزه وتباعد, وبرئ: إذا أعذر وأنذر. ومنه قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: إعذار وإنذار. وفي حديث أبي هريرة لما دعاه عمر إلى العمل فأبى، فقال عمر: إن يوسف قد سأل العمل, فقال: "إن يوسف مني بريء, وأنا منه براء" أي: بريء عن مساواته في الحكم وأن أُقاس به، ولم يرد براءة الولاية والمحبة؛ لأنه مأمور بالإيمان به, والبراء والبريء سواءٌ5.

_ 1 أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه. وانظر روايات القصة وألفاظها، في "تفسير ابن كثير": 8/ 108-111، طبعة الشعب. 2 "معجم مقاييس اللغة": 1/ 236, 237. 3 في "المصباح المنير" للفيومي "1/ 47": "بَرَأَ" من المرض "يَبْرَأ" من بابَيْ نفَع وتعِب. 4 "مفردات القرآن" للراغب ص45. 5 "لسان العرب": 1/ 33 وما بعدها.

مفهوم البراء في الشرع

مفهوم البراء في الشرع: وهذه المعاني اللغوية كلها ملحوظة في المعنى الشرعي للبراء، الذي هو البعد عن الكفار ومودتهم، والتخلص من قبائحهم وباطلهم، والإنذار لهم، ومقاطعتهم وبغضهم قلبيا, وبغض ما هم عليه من الكفر والقبائح. فمن يتبرأ من الكفار والمشركين إنما يتبرأ من القبيح والباطل والمكروه ويبتعد عنه، وبذلك يبرأ من تهمة الكفر التي تحصل بإلقاء المودة لهم، وفي ذلك إنذار لهم وإعذار، فما كانت البراءة والعداوة إلا بعد هذا الإنذار والإعذار. مقتضيات البراءة من الكفار: وهذا البراء من الكفار, وما هم عليه يقتضي أن نتنبه إلى جملة أمور حتى تتم مجانبة دين الكفار والبراءة منهم1: 1- ترك اتباع أهوائهم ومتابعتهم في أي أمر من أمورهم، فإن هذه المتابعة لهم إنما تكون بترك الشريعة أو بعضها، وإنه لكفر بالشريعة أن نتركها متابعة لهوى المشركين والكفار، بأي حجة وتحت أي عنوان، وهم لا يرضون من المؤمن إلا أن

_ 1 "بيان النجاة والفكاك"، ص268-272 ضمن "مجموعة التوحيد"، "تيسير العزيز الحميد" ص446-483.

يتبع ملتهم ودينهم وذلك ردة ينبغي الحذر منها؛ ولهذا جاءت الآيات القرآنية تحذر أشد التحذير من هذا الاتباع: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] . {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] . {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37] . 2- النهي عن التلقي عن الكفار في الرأي والمشورة، وطاعتهم فيما قد يشيرون به أو يأمرون، فإن الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين, فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100، 101] . فإن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم، تحمل ابتداء معاني الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أُنشئت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعدا في طريق النماء. وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب.

هذا من جانب المسلمين؛ فأما من الجانب الآخر، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها. فهذه العقيدة هي سبيل النجاة وخط الدفاع ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة. والأعداء يعرفون هذا جيدا، يعرفونه قديما وحديثا، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة, ومن قوة كذلك وعُدَّة. وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسّون لها ماكرين، وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحدهم، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أو ممن ينتسبون -زورا- للإسلام جنودا مجندة لتنخر في جسم هذه العقيدة من الداخل، ولتصد الناس عنها, ولتزيِّن لهم مناهج غير منهجها, وأوضاعا غير أوضاعها، وقيادة غير قيادتها. فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعا واتباعا، فهم -ولا شك- سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرّقهم، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال1. ومن ثم جاءت التحذيرات الحاسمة كهذه التحذيرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149] . {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1] .

_ 1 "في ظلال القرآن": 1/ 438، 439.

3- ترك الركون إلى الكفرة والظالمين، فقد نهى الله تعالى تعالى عن ذلك فقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . [هود: 113] فإن الركون إلى الكفرة والظالمين والطواغيت، والاطمئنان إليهم والاستناد إليهم يعني إقرارهم على المنكر الأكبر الذي يزاولونه فيقهرون العباد ويعبدونهم لغير الله.. ويعني مشاركتهم في هذا المنكر الكبير. ولذلك استحق هذا الجزاء وهذا التخويف. ولذلك كان من فضل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين من بعد -أن ثبته على الحق والدعوة، لئلا يركن إلى الظالمين ومحاولاتهم في الإغراء والمساومة والمداهنة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} . [الإسراء: 74، 75] 4- ترك مودة أعداء الله ومحبتهم، ومفاصلتهم مفاصلة كاملة، حتى ولو كانوا من أقرب الناس نسبا وقرابة؛ فلا يجتمع في قلب مؤمن: إيمان بالله ومودة لأعدائه: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} . [المجادلة: 22] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} . [الممتحنة: 1]

5- ترك التشبه بالكفار في أفعالهم الظاهرة -فيما هو من خصائصهم- لأنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن, كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا في بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في بلدهما لم يكونا متعارفين؛ وذلك لأن الاشتراك في نوع وصف اختصاص به عن بلد الغربة.. فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فإن المشابهة في الأمور الدينية تفضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد1. ولذلك جاء التحذير الشديد من التشبّه بالكفار؛ لئلا يكون ذلك سببا للمودة القلبية لهم، ولئلا يسقط الحاجز النفسي بين المؤمن وبين الكفار، ولئلا تتميّع شخصية الأمة المسلمة المتميزة، فتصبح تابعة لغيرها مقلدة لها، والتقليد جسر للضعف والانحلال، وسبب للسقوط والهلاك، ومسخ لمكانة المقلد، فإنه لا يقلد إلا قرد أو ببغاء2.. وهذا التحذير من التشبه بالكفار ومتابعة سبيلهم وطريقهم تشير إليه أحاديث نبوية كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لتتبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم, شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ 1. "من تشبَّه بقوم فهو منهم" 2. "ليس منا من تشبَّه بغيرنا" 3.

_ 1 لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتاب كامل خصصه لهذا الموضوع هو "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وفيه دراسة موسعة للتشبه بالكفار وأثره على الأمة وحكمه. وقد طبع أكثر من مرة, وطبع محققا رسالة علمية للدكتور/ ناصر عبد الكريم العقل, وهذه الفقرة الموجزة مقتبسة منه. 2 انظر ما كتبه العلامة ابن خلدون في "المقدمة" عن أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب: 1/ 258، 259، وتحليل الأستاذ محمد أسد للتقليد وأثره في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" ص79-86. 2 أخرجه البخاري: 6/ 495، 13/ 300، ومسلم: 4/ 2054. 3 أخرجه أبو داود: 6/ 34، والإمام أحمد في "المسند": 2/ 50، 92، وعبد بن حميد في "المنتخب" ص267, وابن أبي شيبة في "المصنف": 5/ 313، 322، والطحاوي في "مشكل الآثار": 1/ 88، والطبراني في "الأوسط": 9/ 151، والخطيب في "الفقيه والمتفقه": 2/ 73. وذكره ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": 1/ 236, وقال: "هذا إسناد جيد"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل": 5/ 109. وانظر: "نصب الراية": 4/ 229-230. 4 أخرجه الترمذي: 7/ 472، وعزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط, "مجمع الزوائد": 8/ 38. قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ضعيف, وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه" فهو صحيح موقوفا.

الفرق بين التسامح والبر وبين المودة للكفار

الفرق بين التسامح والبر وبين المودة للكفار: 5- ترك التشبه بالكفار في أفعالهم الظاهرة -فيما هو من خصائصهم- لأنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن, كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا في بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في بلدهما لم يكونا متعارفين؛ وذلك لأن الاشتراك في نوع وصف اختصاص به عن بلد الغربة.. فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فإن المشابهة في الأمور الدينية تفضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد1. ولذلك جاء التحذير الشديد من التشبّه بالكفار؛ لئلا يكون ذلك سببا للمودة القلبية لهم، ولئلا يسقط الحاجز النفسي بين المؤمن وبين الكفار، ولئلا تتميّع شخصية الأمة المسلمة المتميزة، فتصبح تابعة لغيرها مقلدة لها، والتقليد جسر للضعف والانحلال، وسبب للسقوط والهلاك، ومسخ لمكانة المقلد، فإنه لا يقلد إلا قرد أو ببغاء2.. وهذا التحذير من التشبه بالكفار ومتابعة سبيلهم وطريقهم تشير إليه أحاديث نبوية كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لتتبِعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم, شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ 1. "من تشبَّه بقوم فهو منهم" 2. "ليس منا من تشبَّه بغيرنا" 3.

_ 1 لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتاب كامل خصصه لهذا الموضوع هو "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" وفيه دراسة موسعة للتشبه بالكفار وأثره على الأمة وحكمه. وقد طبع أكثر من مرة, وطبع محققا رسالة علمية للدكتور/ ناصر عبد الكريم العقل, وهذه الفقرة الموجزة مقتبسة منه. 2 انظر ما كتبه العلامة ابن خلدون في "المقدمة" عن أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب: 1/ 258، 259، وتحليل الأستاذ محمد أسد للتقليد وأثره في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" ص79-86. أخرجه البخاري: 6/ 495، 13/ 300، ومسلم: 4/ 2054. 3 أخرجه أبو داود: 6/ 34، والإمام أحمد في "المسند": 2/ 50، 92، وعبد بن حميد في "المنتخب" ص267, وابن أبي شيبة في "المصنف": 5/ 313، 322، والطحاوي في "مشكل الآثار": 1/ 88، والطبراني في "الأوسط": 9/ 151، والخطيب في "الفقيه والمتفقه": 2/ 73. وذكره ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": 1/ 236, وقال: "هذا إسناد جيد"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل": 5/ 109. وانظر: "نصب الراية": 4/ 229-230. 4 أخرجه الترمذي: 7/ 472، وعزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط, "مجمع الزوائد": 8/ 38. قال الترمذي: "هذا حديث إسناده ضعيف, وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه" فهو صحيح موقوفا.

الفرق بين التسامح والبر, وبين المودة للكفار: وإن الإسلام، إن أعطى أهل الذمة في الدولة الإسلامية حقوقهم كاملة، ولم يُكرههم على اعتناق الإسلام، وأمر ببرهم من الناحية المادية والمعاملة والتسامح معهم, ووصلهم بقسط من أموالنا على وجه البر والصلة، حتى ولو كانوا مخالفين لنا في الدين من جميع أصناف الملل والأديان، كما قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . إلا أن هناك فرقا بين هذا التسامح والبر والإحسان, وبين إلقاء المودة إليهم

واتخاذهم أولياء من دون المؤمنين، ولا يجوز أن يلتبس أحدهما بالآخر1. وسر الفرق في ذلك: "أن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله وذمة دين الإسلام. وحكى ابن حزم في "مراتب الإجماع" أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه, وجب علينا أن نخرج لقتالهم ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يدل ظاهره على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع وصار من قبيل ما نهي عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} . ويتضح ذلك بالمَثَل: فتمكينهم من الولايات والتصرف في الأمور الموجبة لظهور العلم والغلبة منهم وسلطان المطالبة والرئاسة والسيادة وعلو المنزلة.. وذلك كله منهي عنه؛ لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله ودينه وأهله. وأما ما أمر به الإسلام من برهم من غير مودة باطنية: فالرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة بهم، لا على سبيل الخوف والذلة، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم، وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم ... فجميع ما نفعله معهم من ذلك ينبغي أن يكون من هذا القبيل، لا على وجه العزة والتعظيم لهم. وينبغي أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا, وأنهم من أشد العصاة لربنا عز وجل. وبالجملة: فإن برهم والإحسان إليهم مأمور به، وودهم وتوليهم منهيّ عنه، فهما قاعدتان: إحداهما محرمة، والأخرى مأمور بها"1.

_ 1 في جواز هذه الصلة والبر لغير المقاتلين, راجع تفسير الآية الكريمة في: "تفسير الطبري": 28/ 63، 64, "تفسير البغوي": 8/ 95، 96، "أحكام القرآن" للجصاص 5/ 327، "أحكام القرآن" لابن العربي: 4/ 1785، 1786. 2 "الفروق" للقرافي: 3/ 14-16 باختصار. وانظر: "الإسلام في مواجهة التحديات" للمودودي ص39-63، "منهج الإسلام في الحرب والسلام" عثمان جمعة ضميرية ص59-82 وفيه إشارة إلى مراجع كثيرة.

موقف الكفار من الإسلام والمسلمين

موقف الكفار من الإسلام والمسلمين: وهذا التسامح والبر من جانب الإسلام، يقابله من جانب اليهود والنصارى كل ما يمكن أن يتفتق عنه العقل البشري من المكائد والمؤامرات، وكل ما يمكن من الجحود والحرب التي لا تهدأ بكل أنواعها وألوانها2؛ ولذلك يجمل بنا هنا أن نعرض بإيجاز شديد لموقف أهل الكتاب "اليهود والنصارى" من الإسلام والمسلمين ليتميز الموقفان، ولتظهر ولاية الكفار بعضهم لبعض, مهما اختلفت مللهم, وتباينت نِحَلهم، وتعددت راياتهم.. فهم يناصبون الإسلام العداء، ولن يهدأ لهم

_ 1 يمكن الإشارة هنا إلى بعض الدراسات في ذلك مثل: "التبشير والاستعمار" للدكتور عمر فروخ ومصطفى الخالدي, "الغارة على العالم الإسلامي" ترجمة محب الدين الخطيب، "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام" للشيخ محمد محمود الصواف، "المؤامرة على الإسلام" للأستاذ أنور الجندي, وستأتي أيضا أسماء دراسات أخرى في مناسباتها.

بال حتى يردّوا المسلمين عن دينهم إن استطاعوا. ونستلهم ذلك من تقريرات الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أولا، ثم من الواقع التاريخي ثانيا. قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105] . {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100] . ويتفق موقف أهل الكتاب هذا مع موقف المشركين تجاه الإسلام والمسلمين، قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] . {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] . والواقع التاريخي شاهد صادق على أن تلك هي أهدافهم النهائية، ولنأخذ أمثلة سريعة موجزة تشير إلى ذلك: فاليهود -عليهم لعائن الله تترى إلى يوم القيامة- استقبلوا الإسلام ورسوله -صلى الله عليه وسلم- شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه ودينا يعرفون أنه الحق، استقبلوه بالفتن والدسائس والأكاذيب والشبهات ... وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم. وفي تاريخنا الحديث: يكفي أن نعلم أنهم هم وراء كل كارثة حلت

بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وأنهم وراء كل محاولة لسحق الحركات الإسلامية في كل مكان، بأشخاصهم وذواتهم، أو عن طريق عملائهم وصنائعهم.. وهم أصحاب الدَّوْر الخبيث في تكوين الفرق الضالة المنحرفة عن الإسلام والدعوة لها.... وهم هم أصحاب العدوان الأثيم على ديار المسلمين المقدسة التي بارك الله تعالى حولها ... ولو رحنا نستقصي الأمثلة والشواهد على ذلك لاستغرق هذا مجلدات، وخرج بنا عما أردناه في هذا المدخل1. ترى: هل يتنبَّه الغافلون والمخدوعون؟ وهل يسكت الأدعياء المأجورون؟ وهل يرعوِي المضللون فيكفّون عن التزوير والتزييف في التاريخ, وعن الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين وللأمانة وللرسالة؟ ذلكم هو شأن اليهود، أما إخوانهم في الضلال والغي، وأولياؤهم في الكفر "النصارى", فإن موقفهم لا يقل إصرارا على العدوان والحرب من موقف اليهود؛ فما إن ظهر الإسلام حتى تناسى الرومان النصارى عداواتهم مع الفرس وعادوا إلى أضاليلهم ليواجهوا المسلمين مواجهة عنيفة شديدة. فالنصارى أصحاب العداوات والحروب للإسلام منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ غزوة مؤتة، ومن ثم كانت الحملات والهجمات الصليبية على ديار المسلمين.. وكانت الخيانة والتجسس على بلاد المسلمين والتعاون مع التتار الوثنيين، ومكاتبة قوات الاحتلال الصليبي والتعاون معها، ويكفي أن نذكر ما حدث في بلاد المسلمين على أيدي هؤلاء النصارى ... في زنجبار, وفي الحبشة، وفي الفلبين، وفي قبرص، وفي لبنان، وفي أوغندا، وفي البوسنة والهرسك أخيرا ... يكفي أن نذكر ذلك؛ لنعلم مدى العداوة للإسلام والمسلمين, ومدى الكيد والتآمر والحقد. واليوم -كذلك- يتعاون أهل الكتاب مع الملحدين في المعسكر الشيوعي ليواجهوا الإسلام والمسملين، وليضربوا كل حركة إسلامية صادقة. فهم يتناسون كل خلاف يمكن أن يقوم بينهم إذا ما واجهوا الإسلام والمسلمين، فهم دائما "بعضهم أولياء بعض"، وهم متعاونون ضدنا، متآمرون علينا، فلا يزال هذا هو موقفهم في الماضي وفي الحاضر، ففي الماضي: تعاونهم مع التتار الوثنيين، وفي الحاضر تعاونهم مع الملحدين. فقد نشرت مجلة "الشئون الخارجية" سنة 1985 "FOREING AFFAIRS" مقالا خطيرا كتبه ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق, جاء فيه: "russia and america should join hands to fight the rising tide of islamic fundamentalism". "وترجمة هذه العبارة: روسيا وأمريكا يجب أن تعقدا تعاونا حاسما لضرب الصحوة الإسلامية"1. والأمثلة بعد ذلك كثيرة كثيرة, تعزّ على الحصر2.

_ 1 انظر بالتفصيل: "خطر اليهودية العالمية" لعبد الله التل، وله أيضا: "الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام"، "الخطر اليهودي"، ترجمة محمد خليفة التونسي، "الماسونية ذلك المجهول" لصابر طعيمة. 1 عن كتاب: "الحروب الصليبية، بدؤها مع مطلع الإسلام واستمرارها حتى الآن"، د. أحمد شلبي ص20, والكتاب بكامله عرض للهجمات الصليبية الغربية على العالم الإسلامي عبر العصور. 3 انظر: "منهج الإسلام في الحرب والسلام" ص50، 51, والمراجع المشار إليها هناك، واقرأ كتاب: "العالم الإسلامي والمكائد الدولية خلال القرن الرابع عشر الهجري" للأستاذ فتحي يكن، "والعالم الإسلامي ومحاولة السيطرة عليه" للأستاذ محمود شاكر.

من مظاهر الولاء للكفار

من مظاهر الولاء للكفار: ولئن كانت كل صور المودة والولاء للكفار بتلك المثابة من التحريم، ولئن كانت ولايتهم تعني التناصر معهم والتحالف بكل صوره وأشكاله، فإن ذلك يتخذ في عصرنا الحاضر صورا شتى، نجد لها أمثلة في أولئك القوم الذين هم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويزعمون أنهم على ديننا ... ولكنهم صنيعة من صنائع الكفار، صنعهم المستعمر الكافر على عينه، ورباهم تربية غربية خالصة -في التفكير والسلوك- فكانوا أنموذجا لطليعة التغريب وأمثلة للغزو الفكري، وأداة للتقريب بين المستعمر الغربي والمسلمين؛ لتمييع موقف المفاصلة وكسر الحاجز النفسي بين المسلمين والكفار، وإضعاف عقيدة الولاء والبراء في نفوس المسلمين حتى تسهل السيطرة عليهم، وحتى يتم القضاء على منابع العزة ومصادر القوة في نفوسهم1. ونجد هذا الذي أشرنا إليه في مجالات كثيرة، نجده في مجالات التربية والتعليم عند أولئك النفر الذين يريدون لهذه الأمة أن تخضع لمناهج الغرب الحديثة في التربية والثقافة2. وتجده في وسائل الإعلام المتنوعة -مسموعة ومرئية ومقروءة- التي تسبح بحمد الحضارة الغربية وتمجدها، وتمجد أهلها ودعاتها3. وتجده في النشاط المحموم لترجمة أفكار الغرب ونقلها إلينا بغثها وسمينها، وفي نشر أفكار المستشرقين والاعتماد على كتبهم ومناهجهم، بل والتلقي عنهم واعتناق أفكارهم وترويج

_ 1 انظر: "الظلال" المجلد الثاني ص908-912، "النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار" للورداني ص11-17 من مقدمة المحقق. 2 انظر: "نحو تربية إسلامية" للسيد أبي الحسن الندوي، ومقاله عن: "أهمية نظام التربية والتعليم" بمجلة حضارة الإسلام، دمشق. 3 اقرأ للأستاذ يوسف العظم: "الإعلام العربي ورحلة الضياع".

شبهاتهم1. كما تجده في نشر المذاهب العلمانية اللادينية والأفكار الجاهلية، وفي تقليد الكفار والسير على منهجهم في توافه الأمور وساقطها، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه!

_ 1 انظر بالتفصيل: "الولاء والبراء في الإسلام" ص381-422.

خصائص العقيدة الإسلامية

خصائص العقيدة الإسلامية التوفيقية ... خصائص العقيدة الإسلامية: وبعد أن ألمعنا إلى بعض الجوانب من هذه العقيدة، التي هدانا الله تعالى إليها وأكرمنا بها -بما نظنه متناسبا مع هذا المدخل- أصبح بإمكاننا أن نستخلص منها أهم ما تختص به من الصفات أو القابليات التي تميزها عن غيرها من العقائد والمذاهب، وترسم معالمها وتحدّد كيانها المستقل، مع الإشارة السريعة إلى شيء من الآثار التي تترتب على هذه الخصائص1. ونجتزئ هنا بأهم هذه الخصائص، إذ يمكن أن نرد إليها سائر الخصائص الأخرى: 1- التوقيفية: فهي عقيدة يوقف بها عند الحدود التي حددها وبينها وبلغها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مجال فيها لزيادة أو نقصان أو تعديل أو تبديل؛ ذلك أن العقيدة الإسلامية ربانية المصدر، موحًى بها من عند الله تعالى، فلا تستمد أصولها من غير الوحي "الكتاب والسنة" على ما أشرنا إليه في فقرة سابقة عن "مصادر العقيدة". وهذه الخاصية للعقيدة الإسلامية تميزها عن غيرها من المعتقدات الوثنية التي تُنشئها المشاعر والأخيلة والأوهام والتصورات البشرية من تلقاء نفسها. كما أنها تميزها عن العقائد السماوية في صورتها الأخيرة التي آلت إليها على يد الأتباع بما أضافوه إليها، وبما حذفوه منها، وبما غيروا فيها وبدلوا، حسب ما أملته عليهم

_ 1 ومعرفة هذه الخصائص وتحديدها أمر ضروري لأمور كثيرة، وقد كتب الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- كتابا كاملا في هذه الخصائص، هو القسم الأول من كتابه الممتع الفريد "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" انظر مقدمته ص5، 6.

أهواؤهم وشهواتهم ورغباتهم الذاتية ومصالحهم البشرية، فتحولت تلك الديانات والعقائد إلى ديانات وثنية1. وينص المصدر الإلهي الذي جاءنا بهذا التصور "العقيدة" -وهو القرآن الكريم- على أنه كله من عند الله, هبة للإنسان من لدنه، ورحمة له من عنده، وأن الفكر البشري -ممثلا ابتداء في فكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو فكر الرسل كلهم، باعتبار أنهم جميعا أُرسلوا بهذا التصور في أصله- لم يشارك في إنشائه، وإنما تلقاه تلقيا؛ ليهتدي به ويهدي, وأن الهداية عطية من الله كذلك، يشرح لها الصدور, وأن وظيفة الرسول -أي رسول- في شأن هذا التصور، هي مجرد النقل الدقيق، والتبليغ الأمين؛ وعدم خلط الوحي الذي يوحى إليه من عند الله بأي تفكير بشري, أو كما يسميه الله بالهوى! أما هداية القلوب به، وشرح الصدور له، فأمر خارج عن اختصاص الرسول؛ ومرده إلى الله وحده في النهاية2: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53] . {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4] . {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56] . وهذه الخاصية لها أثرها الفريد في عصمة الأمة عن الخطأ والزلل والانحراف، وعن الاضطراب في فهم العقيدة؛ وذلك لأنها ترجع إلى مصدر موثوق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وهو الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه3. كما أنها ضمانة لتوحيد كلمة الأمة على منهج واحد وتصور واحد، عندما تلتقي على هذا الوحي الإلهي بما فيه من موازين لا تضطرب, ولا تتأرجح, ولا تتأثر بالهوى والدوافع الذاتية.

_ 1 اقرأ تفصيلا لذلك في "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية"، للشيخ محمد طاهر التنير, "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية، "إظهار الحق" لرحمة الله العثماني، "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ " للندوي, "مذاهب فكرية معاصرة" للأستاذ محمد قطب, "العلمانية" د. سفر الحوالي. 2 "خصائص التصور الإسلامي" ص52. 3 ومن نعمة الله تعالى على البشرية أن تكفل بحفظ القرآن الكريم؛ لأنه آخر كتاب سماوي، فليس بعده تاب ولا بعد محمد -صلى الله عليه وسلم- نبي أو رسول، فاقتضى ذلك حفظ الكتاب، وقد تكفل الله تعالى بذلك وهيأ الأسباب؛ فكان الوحي ينزل مفرّقا، ويأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابته، وكان الصحابة يستظهرونه، وقد مكّن الله تعالى لهذه الأمة التي حملته ونشرته في ربوع العالمين, فبقي ظاهرا محفوظا بالسند المتواتر. انظر: "الموافقات": 2/ 58-61، "الإحكام" لابن حزم: 4/ 453، "الثبات والشمول" د. عابد السفياني ص"116-121".

الغيبية

2 - الغيبية: تقوم العقيدة الإسلامية على الإيمان بأصول لا تخضع للحس المباشر أو غير المباشر، وإنما تقع في مجال عالم الغيب، وهو العالم الذي غاب عن حواسنا ولا تقتضيه بداهة العقول. فالإيمان بالله -سبحانه وتعالى- هو إيمان بالغيب؛ لأن ذات الله تعالى غيب بالقياس إلى البشر, والإيمان بالآخرة وما يتصل به، هو كذلك إيمان بالغيب، والإيمان بالملائكة إيمان بالغيب والإيمان بالقدر ... كل هذا غيب يؤمن به المؤمن الذي يريد الهداية: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} [البقرة: 2، 3] . والإيمان بالغيب نزعة فطرية فطر الله تعالى الإنسان عليها، لا ينكرها إلا جاحد قاصر العقل والعلم. ولذلك فإن التنكر لعلم الغيب من قِبَل الماديين، يبدو في مفهوم العلم الحديث نفسه جهلا وضلالا وبعدا عن العلم والحق؛ لأن العلم المادي لا يستطيع أن يحكم على عالم الغيب؛ لأنه خارج عن مجاله، فلا يجوز علميا إنكار شيء لأجل أنه مغيَّب عنا أو غير مُحَس، أو لأنه غير قابل للتفسير، وكم من الأمور التي يتلقاها الناس بعامة والعلماء بخاصة، يتلقونها بالتسليم وهم لم يروها ولم يحسوها1. ولذلك فإن كل ما تدعو إليه العقيدة الإسلامية وتقوم عليه من هذه الأمور الغيبية غير متناقضة مع العقل، وليس عنده وسيلة لإنكارها والتكذيب بوجودها، وليس فيها شيء يضطر الإنسان إلى رفضه والتخلي عنه بعد بلوغه أي مرحلة من مراحل الارتقاء العقلي والعلمي. بل الذي يقتضيه العقل على خلاف ذلك: أنها هي الصواب الذي لا يشوبه الخطأ ... أما الإيمان والتصديق بهذه الأمور الغيبية "المغيبات" فهما مرتهنان بطمأنينة الضمير وشهادة الوجدان. وكل ما للعقل من الدخل في شأنهما هو أن الأمور التي يكون التصديق بها مخالفا للعقل, فإن صراعا يقوم في شأنها بين العقل والوجدان, ولا يكون إيمان الإنسان بها إلا ضعيفا. وأما

_ 1 انظر: "عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي" ص57-64.

الأمور التي لا يكون التصديق بها مخالفا للقياس العقلي, أو التي يساعد العقل على التصديق بها، فإن الضمير يزداد طمأنينة في شأنها، وذلك مما يقوي الإيمان ويزيده أصالة ورسوخا1. ولذلك فإن الطريق لمعرفة عالم الغيب والتصديق به إنما يكون عن طريق الخبر الصادق الذي يأتينا عن طريق الوحي، كما يكون عن طريق الآثار التي تدل عليه، والفطرة السليمة تتلقى معرفة ذلك بالتسليم والتصديق2. وهذه الخاصية للعقيدة الإسلامية تميزها عن المذاهب الفكرية المادية التي تتنكر للغيب ولا تؤمن إلا بما تقع عليه الحواس، ويخضع للتجربة الحسية، على ما ذهب إليه المذهب الوضعي التجريبي الذي عُرف به الفيلسوف الأسكتلندي "هيوم" والذي نشأت عنه الفلسفة الوضعية3. كما أن "ماكس مولر" أيضا يذهب إلى أنه لا شيء يتحقق في عقيدة الإنسان ما لم يكن قد أتى من قبل عن طريق حواسه4. وبذلك يكون الإنسان الأوروبي، "وكل مذهب مادي كذلك" قد سجن نفسه بطريقة تحكمية في حدود حواسه اءلخمس، منذ عهد النهضة الأوروبية5. كما أن هذه الخاصية للعقيدة الإسلامية لها آثارها الضخمة في حياة الإنسان، فالإيمان بالغيب ارتقاء بالإنسان إلى المستوى الذي يليق بإنسانيته ويميزه عن المخلوقات التي لا تدرك إلا ما تدركه بحواسها. وهو -كذلك- سبيل للتقدم العلمي وسعة الأفق في النظر والفكر، وفيه ضمانة أكيدة لاستقامة نفس المؤمن ونظافة سلوكه، عندما يشعر برقابة الله تعالى عليه، وأنه -سبحانه- يعلم السر وأخفى، فهو يعبد الله كأنه يراه، فيرتقي إلى مرتبة "الإحسان". ومن هنا كانت الأحكام الدينية ضابطا لسلوك الإنسان المؤمن، وطريقا لتنمية الوازع الداخلي "الوجدان" وهذا ما تفتقده المذاهب والقوانين البشرية التي لا تستطيع أن تضبط سوى الأمور الظاهرية. ولعل في هذا إشارة إلى الحكمة من ربط الأحكام التشريعية بتقوى الله تعالى, وبالخوف من عقابه.

_ 1 "الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادئها" للمودودي ص116, 117. 2 "عالم الغيب والشهادة" ص37. 3 انظر عن هذا المذهب ومناقشته: "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي ص233-237، "الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان" د. محمد عبد الله دراز ص84-86، "العلمانية: نشأتها وتطورها" د. سفر الحوالي ص377-380. 4 "نشأة الدين" ص70، 71. 5 "تأملات في سلوك الإنسان" تأليف ألكسيس كاريل، ترجمة د. محمد القصاص ص162.

الشمول

3- الشمول: وهذه الخاصية نجدها بارزة واضحة في الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا دينا، فهو دين شامل كامل، لم يترك جانبا من جوانب الحياة الفردية والاجتماعية إلا وقد نظّمه تنظيما دقيقا شاملا لجميع النواحي، يبتعد به عن النظرة التجزيئية القاصرة التي ترى فيها الأشياء أجزاء وتفاريق لجوانب موزعة من شيء أصله متكامل مترابط. ولذلك فإن العقيدة الإسلامية -كأثر لهذا الشمول العام في الإسلام- عقيدة شاملة فيما تقوم عليه من أركان الإيمان وقواعده وما يتفرع عن ذلك، وشاملة في نظرتها للوجود كله، تعرفنا على الله والكون والحياة والإنسان معرفة صحيحة شاملة. وتتمثل خاصية الشمول هذه في صور شتى1: إحدى هذه الصور وأكبرها: رد هذا الوجود كله ... بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل انبثاقة فيه، وكل تحور وكل تغير وكل تطور، والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه ... إلى إرادة الذات الإلهية المطلقة المشيئة، المبدعة لهذا الكون ولكل شيء فيه ... بقدر خاص وبمجرد توجه الإرادة ... وآيات القرآن الكريم كلها شاهد ناطق بذلك. وصورة أخرى من صور خاصية الشمول تبدو في الحديث عن حقيقة العبودية وخصائصها وصفاتها، ممثلة في عبودية الكون والحياة والإنسان، فيبين طبيعتها ونشأتها وأحوالها وعلاقتها فيما بينها، ثم علاقتها بالحقيقة الإلهية الكبرى. ويربط بين مجموع تلك الحقائق من جميع جوانبها، في تصور واحد منطقي فطري، يتعامل مع بديهة الإنسان وفكره ووجدانه، ومع مجموع الكينونة البشرية في يسر وسهولة. وهذا أمر بيّن في كتاب الله تعالى والآيات فيه كثيرة. وصورة ثالثة من صور الشمول في العقيدة الإسلامية: أن الحديث عن تلك الحقائق الكلية السابقة، إنما يأتي في القرآن الكريم بأسلوب يخاطب فيه الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها. ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، وتتوجه إليها بكل شيء ... لأنها خالقة كل شيء ومالكة كل شيء ومدبرة كل شيء. وعندئذ تتجمع هذه الكينونة شعورا وسلوكا وتصورا واستجابة ... في شأن العقيدة والمنهج وفي شأن الاستمداد والتلقي، وشأن الموت والحياة، وشأن السعي والحركة، وشأن الدنيا والآخرة.

_ 1 عن: "خصائص التصور الإسلامي" للأستاذ سيد قطب -رحمه الله- ص110 وما بعدها، باختصار.

وأثر هذه الخاصية البارزة في العقيدة: أن هذا الشمول فوق أنه مريح للفطرة البشرية؛ لأنه يواجهها بمثل طبيعتها الموحدة؛ ولا يكلفها عنتا، ولا يفرقها مِزَقا.. هو في الوقت ذاته يعصمها من الاتجاه لغير الله في أي شأن وأي لحظة؛ أو قبول أية سيطرة تستعلي عليها بغير سلطان الله، وفي حدود منهج الله وشريعته في أي جانب من جوانب الحياة, فليس الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده في أمر "العبادات" الفردية؛ ولا في أمر الآخرة -وحدهما- بل الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده، في الدنيا والآخرة, في السموات والأرض, في عالم الغيب والشهادة, في العمل والصلاة.. وفي كل نَفَس، وكل حركة، وكل خالجة، وكل خطوة، وكل اتجاه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .

التكامل

4- التكامل: وإذا كان هذا الدين قد بلغ ذروة الكمال والتمام والشمول، فإن العقيدة كذلك عقيدة تتميز بالتكامل، فهو كمال متكامل، تتجمع فيها كل الأجزاء وتترابط ترابطا دقيقا يأخذ بعضها بحُجَز بعض لتشكل كلا موحدا متناسقا، لا يقبل التجزئة والانفصام. ولذلك فإن الأحكام فيها تؤخذ "كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببيِّنها ... إلى ما سوى ذلك من مناحيها"1. ونجد للتكامل في العقيدة صورا شتى: فأركان الإيمان كلها مترابطة ارتباطا وثيقا، يكمل كل منها الآخر ويرتبط به، بحيث لو حصل إخلال بواحد منها أو إنكار له، كان تأثيره على سائرها واضحا، بل إن هذه الأركان تتجمع وتتضامّ حول الركن الرئيسي وهو الإيمان بالله تعالى. ومن هنا تأتي أركان الإيمان كلها في سياق واحد يحقق صفة الإيمان لصاحبها، وتأتي النصوص القرآنية كذلك لتؤكد على الارتباط بين الإيمان بالله والإيمان بالملائكة، وتقرن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر، وتجعل الإيمان بالرسل أمرا لا يتجزأ، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعا، بل قد كفر بالله تعالى؛ لأنهم جميعا جاءوا من عند الله -سبحانه وتعالى- برسالة واحدة، وقد قرر الله تعالى ذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم. وصورة أخرى لهذا الترابط نجدها في الصلة بين العقيدة أو الإيمان من جانب والعبادات والمعاملات وسائر الأحكام الشرعية العملية والخلقية. وتمتزج فيها الأحكام التشريعية بالأحكام الأخلاقية النابعة من الإيمان بالله تعالى وخشيته وتقواه. وصورة ثالثة لهذا الترابط والتكامل في العقيدة نراها في تكامل الفكر والعمل أو الإيمان والعمل حيث أصبحا "شيئين يكمل بعضهما بعضا، ويقوي بعضهما بعضا, أو هما جانبان لشيء واحد، إذ رسوخ الفكرة الإسلامية يدفع للعمل بمقتضاها، والمواظبة على العمل بمقتضى الفكرة الإسلامية, يدعمها ويزيدها رسوخا. "ثم إن الاتصال بوحي السماء يجعل للفكرة الدينية في جملتها مصدرين يمدّانِها بالغذاء والنماء، وهما العقل والقلب. ومن أجل ذلك سميت الفكرة الإسلامية إيمانا وعقيدة، واعتبر العمل خاصتها اللازمة لها"2. ولهذه الخاصية آثار تظهر في التناسق مع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان بما فيه من تكامل في أصل الخلقة يجد الطمأنينة والراحة النفسية في هذا التوافق والتكامل في العقيدة وآثارها, وبذلك ينزع الإسلام من نفس الإنسان عوامل القلق والاضطراب. كما أن هذه الخاصية توحِّد اتجاه الإنسان وحركته بما تقوم به من "التوفيق التام بين الوجهتين: الروحية والمادية في الحياة الإنسانية. وإنك لترى هاتين الوجهتين في تعاليم الإسلام تتفقان في أنهما لا تدعان تناقضا أساسيا بين حياة الإنسان الجسدية وحياته الأدبية فحسب، ولكن تلازمهما هذا وعدم افتراقهما فعلًا أمر يؤكده الإسلام، إذ يراه الأساس الطبيعي للحياة"3.

_ 1 "التفكير الفلسفي الإسلامي" د. سليمان دنيا ص247، 248. 2 "الاعتصام" للشاطبي: 1/ 245. 3 "الإسلام على مفترق الطرق" لمحمد أسد ص22.

التوازن

5- التوازن: ومع هذا التكامل وذاك الشمول، نجد خاصية أخرى بارزة في العقيدة الإسلامية، تتصل بواحدة من أهم السمات العامة للإسلام وهي الوسطية والاعتدال، تلكم هي خاصية التوازن بين الأمور المتقابلة، فيقع كل أمر أو جانب على قدر معين باعتدال موزون, بحكمة ربانية "تضبط فيها النسب بين جوانب الحياة وقيمها؛ فالمال واللذة، والعمل والعقل، والمعرفة والقوة، والعبادة والقرابة، والقومية والإنسانية؛ قيم من قيم الحياة، والإسلام جعل لكل منها موضعا في نظام الحياة ونسبة محدودة لا تتجاوزها حتى لا تطغى قيمة على قيمة"1. وبهذه الخاصية يتميز الإسلام عن سائر الأديان والمذاهب أجمعها، حيث تضخِّم جانبا وتُعنَى به على حساب الجوانب الأخرى، وإما أن يكون ذلك ابتداء، وإما أن يكون ردة فعل أو معالجة لخطأ سابق.

_ 1 "الفكر الإسلامي الحديث" للأستاذ محمد المبارك ص65.

وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أمثلة على وسطية الإسلام هذه بين الأديان، في الموقف من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- بين جفاء اليهود وغلوّ النصارى، وفي شرائع دين الله تعالى بين اليهود الذين حرّموا على الله أن ينسخ ما يشاء أو يحكم ما يشاء, وبين النصارى الذين جوزوا ذلك لعلمائهم، وكذلك في وسطية الإسلام بينهما فيما يتعلق بالحلال والحرام, وفيما يتصل بأسماء الله وصفاته1. والمذاهب المادية تُعْنَى بجانب المادة وتهمل الروح، أو تُعْنَى بالفرد وتهمل مصلحة الجماعة، وتقوم مذاهب أخرى لتُعلي من شأن الروح على حساب القيم الأخرى، أو لتغليب مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد الذي تعتبره كما مهملا, لا قيمة له بمفرده. والصور التي تأتي شاهدا على هذا التوازن تعز على الحصر، فإن كل ما في الإسلام وكل ما في العقيدة الإسلامية ناطق بهذا التوازن الدقيق، حسبنا هنا الإشارة إلى أهم الموازنات التي عرض لها الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في "خصائص التصور الإسلامي"2، ومن ذلك: التوازن بين ما يتلقاه الإنسان عن طريق الوحي وبين ما يتلقاه عن طريق وسائل الإدراك البشري، والتوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية، والتوازن بين المشيئة الإلهية الطليقة ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، والتوازن في مصادر المعرفة بين الوحي والعقل.. وبين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب.. وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين القيم المادية والقيم المعنوية. وهذه الخاصية لها أثرها الكبير في عصمة هذه الأمة عن الغلو والإفراط وعن النقص والتفريط، وعن التأرجح بين المذاهب والأفكار القاصرة، والأخطاء الناتجة عن الوقوع في الانحراف بكل قيمة عن مكانتها اللائقة بها.

_ 1 انظر: "الوصية الكبرى" لابن تيمية ص47-52. 2 "الخصائص" ص136 وما بعدها. وراجع "منهج التربية الإسلامية" الأستاذ محمد قطب 1/ 126-180.

المراجع والمصادر

المراجع والمصادر: المراجع والمصادر "مرتبة على الحروف الهجائية، دون اعتبار للألف واللام في أول الاسم": "أ": 1- الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري. مطابع الجامعة الإسلامية بالمدينة. 2- الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لابن بطة العكبري. تحقيق د. رضا معطي. الرياض. 3- أبجد العلوم، لصديق خان. وزارة الثقافة بدمشق 1978م. 4- الإبداع في مضار الابتداع، للشيخ علي محفوظ. دار الإصلاح بالسعودية. 5- أبو حنيفة: حياته وفقهه وآراؤه، للشيخ محمد أبي زهرة. دار الفكر العربي. 6- الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث، د. عبد المجيد محمود. مكتبة الخانجي. 7- أحكام القرآن، للشافعي، جمعه البيهقي. تحقيق د. عبد الغني محمد عبد الخالق. 8- أحكام القرآن، للرازي الجصّاص. دار المصحف بالقاهرة. 9- أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي. تحقيق البجاوي. مطبعة الحلبي. 10- أحكام أهل الذمة، لابن القيم. تحقيق د. صبحي الصالح. دار العلم للملايين. 11- الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي. مؤسسة الحلبي بمصر. 12- الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم. مطبعة الإمام بالقاهرة. 13- إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي. مطبعة الحلبي. 14- أدب الدنيا والدين، للماوردي، تحقيق مصطفى السقا. مطبعة الحلبي. 15- إرشاد الطالب إلى أهم المطالب، لابن سحمان. مطبعة المنار. 16- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للشيخ الألباني. المكتب الإسلامي. 17- أساس البلاغة، للزمخشري. دار الكتب المصرية. 18- الإسلام على مفترق الطرق، تأليف محمد أسد، ترجمة عمر فروخ، دار العلم للملايين. 19- الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة، للمودودي. دار القلم بالكويت.

20- الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر عودة. دار الكتاب العربي مصر. 21- الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى، عثمان جمعة ضميرية. دار الفاروق بالطائف. 22- الأسماء والصفات، للبيهقي مكتبة السوادي + طبعة دار الكتاب العربي, بيروت. 23- الأشباه والنظائر في القرآن الكريم، لمقاتل بن سليمان. تحقيق د. عبد الله شحاتة. 24- الأصنام، لابن الكلبي، تحقيق الأستاذ أحمد زكي. الدار القومية، القاهرة. 25- أصول البزدوي، مع شرحه كشف الأسرار للبخاري. دار الكتاب العربي، بيروت. 26- أصول الدعوة، د. عبد الكريم زيدان. مؤسسة الرسالة. 27- أصول الدين، لعبد القاهر البغدادي، بيروت، مصور عن طبعة تركيا. 28- أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، المطابع الأهلية بالرياض. 29- إظهار الحق، للشيخ -رحمه الله- العثماني الكيرانوي. طبع الشئون الدينية بقطر. 30- الاعتصام، للشاطبي، بتحقيق محمد رشيد رضا. 31- الاعتقاد، للبيهقي. مكتبة السلام العالمية، القاهرة. 32- أعلام الحديث، للخطابي، تحقيق د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن. مكة المكرمة. 33- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم, تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، 1374هـ. 34- الإعلام بما في دين اليهود والنصارى من الأوهام, للقرطبي، تحقيق أحمد حجازي السقا. 35- اقتضاء الصراط المستقيم, لابن تيمية، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل. 36- إمتاع الأسماع، للمقريزي، تحقيق محمود شاكر. طبع قطر. 37- أهل السنة والجماعة، معالم الانطلاقة، محمد المصري, دار طيبة بالرياض. 38- إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير، دار الكتب العلمية، بيروت. 39- الإيمان، لابن منده، تحقيق د. علي ناصر الفقيهي. 40- الإيمان، لابن أبي شيبة. تحقيق الألباني، دار الأرقم, الكويت. 41- الإيمان، لأبي عبيد. تحقيق الألباني، دار الأرقم, الكويت. 42- الإيمان، لابن تيمية، طبع المكتب الإسلامي. 43- الإيمان، محمد نعيم ياسين، مكتب الفلاح، الكويت.

"ب، ت، ث": 44- الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر. مكتبة التراث. 45- الباعث على إنكار البدع والحوادث، لابن أبي شامة. مكتبة النهضة بمكة المكرمة. 46- بدائع الفوائد، لابن القيم. بيروت عن الطبعة المنيرية. 47- البداية والنهاية، لابن كثير، مكتبة المعارف بالرياض. 48- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي، تحقيق محمد علي النجار، القاهرة. 49- بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية، مطابع الحكومة بمكة المكرمة. 50- تأملات في سلوك الإنسان، د. ألكسيس كاريل، ترجمة محمد القصاص, مكتبة مصر بالقاهرة. 51- تأملات في وسائل الإدراك، د. عبد الله الشرقاوي، عالم الكتب بالرياض. 52- تاريخ الأدب العربي, تأليف بروكلمان، ترجمة عبد الحليم النجار. دار المعارف. 53- تاريخ الخلفاء، للسيوطي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 54- التبصير في الدين، للإسفراييني، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب، بيروت. 55- تجديد الفكر الديني في الإسلام، تأليف محمد إقبال، ترجمة عباس محمود. مطبعة لجنة التأليف. 56- تجريد التوحيد, للمقريزي. مكتبة القاهرة. 57- تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار، للكنوي، تحقيق عبد الفتاح أبي غدة. 58- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري. المكتبة السلفية بالمدينة. 59- تحقيق معنى السنة، السيد سليمان الندوي. المطبعة السلفية بالقاهرة. 60- تحكيم القوانين، الشيخ محمد بن إبراهيم. طبع الكويت. 61- تدوين السنة النبوية، د. محمد مطر الزهراني، مكتبة الصديق بالطائف. 62- التربية الإسلامية في ظلال القرآن، جمع وإعداد: عبد الله ياسين. دار الأرقم. عمان. 63- ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان، لابن الوزير. دار الكتب العلمية. 64- الترغيب والترهيب, للحافظ المنذري، تحقيق مصطفى عمارة، طبعة الشئون الدينية، قطر. 65- التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، دار التراث القاهرة.

66- التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، عثمان جمعة ضميرية، دار الكلمة الطيبة. 67- تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، للصنعاني، تقديم د. محمد عبد المنعم خفاجي. 68- تعريف عام بدين الإسلام، علي الطنطاوي. مؤسسة الرسالة. 69- التعريفات للجرجاني، تحقيق إبراهيم الإبياري. بيروت. 70- تعظيم قدر الصلاة، لمحمد بن نصر المروزي، مكتبة الدار بالمدينة. 71- تفسير القرآن العظيم، لابن كثير. مطبعة الشعب + مكتبة الرياض. 72- تفسير البغوي، تحقيق عثمان جمعة، ومحمد النمر, وسليمان الحرش. دار طيبة بالرياض. 73- تفسير الطبري، تحقيق محمود شاكر، وطبعة الحلبي. 74- تفسير الفخر الرازي، المسمى التفسير الكبير، بيروت، عن الطبعة المنيرية. 75- تفسير القرطبي، مصور عن طبعة دار الكتب بالقاهرة. 76- تفسير المنار، محمد رشيد رضا. مطبعة المنار. 77- تفسير النسائي، تحقيق صبري الشافعي، مؤسسة الكتب الثقافية. 78- تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، للراغب الأصفهاني، تحقيق د. عبد المجيد النجار. 79- التفكير فريضة إسلامية، عباس محمود العقاد. دار الكتاب العربي. 80- التفكير الفلسفي الإسلامي، د. سليمان دنيا. مكتبة الخانجي. 81- التفكير الفلسفي في الإسلام، د. عبد الحليم محمود. مكتبة الأنجلو المصرية، ط 3. 82- تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر، الشركة الفنية للطباعة. 83- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، للشيخ مصطفى عبد الرازق، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر. 84- التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية، للشيخ عبد العزيز الرشيد، دار الأصفهاني بجدة. 85- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، للملطي، إعداد وتقديم فتحي جابر، 1991م. 86- تهافت التهافت، للغزالي. تحقيق د. سليمان دنيا. دار المعارف. 87- تهذيب الأسماء واللغات، للنووي. مصور عن الطبعة المنيرية. 88- تهذيب اللغة، للأزهري. الدار القومية للكتاب بالقاهرة. 89- تهذيب سنن أبي داود، للمنذري، مطبوع مع معالم السنن وتهذيب ابن القيم. مطبعة أنصار السنة. 90- تهذيب مدارج السالكين، عبد المنعم علي العزي. دولة الإمارات.

91- التوحيد، لابن منده، تحقيق د. علي ناصر الفقيهي، الجامعة الإسلامية بالمدينة. 92- التوحيد وإثبات صفات الرب، لابن خزيمة، المطبعة المنيرية. 93- التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مطبوع مع تيسير العزيز الحميد. 94- التوحيد، تأليف عبد المجيد الزنداني. دار السلام بالقاهرة. 95- التوحيد مفتاح دعوة الرسل، عثمان جمعة ضميرية، مكتبة الصديق، الطائف. 96- التوضيح لمتن التنقيح، للتفتازاني، مطبعة محمد علي صبيح بالقاهرة. 97- التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي. مخطوط بدار الكتب المصرية. 98- الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية. د. عابد السفياني، دار المنارة بمكة المكرمة. "ج, ح, خ": 99- جامع الأصول، لابن الأثير الجزري، تحقيق الشيخ عبد القادر الأرناءوط. مكتبة الحلواني بدمشق. 100- جامع العلوم والحكم، لابن رجب الحنبلي, مطبعة الحلبي. 101- الجامع الفريد، مجموعة رسائل لأئمة الدعوة، مطابع الصفا بمكة المكرمة. 102- جامع الفصولين، لابن قاضي سماونة. طبعة بولاق. 103- جامع بيان العلم، لابن عبد البر، دار الكتب الإسلامية, القاهرة. 104- الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، د. محمد البهي. دار الكتاب العربي, القاهرة. 105- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لابن تيمية. مؤسسة المدني بمصر. 106- الحاكم بأمر الله الفاطمي، د. محمد عبد الله عنان. مطبعة لجنة التأليف والترجمة. 107- حجة الله البالغة، ولي الله الدهلوي، تحقيق سيد سابق. 108- الحجة في بيان المحجة، للأصبهاني، تحقيق محمد أبي رحيم، محمد ربيع، دار الراية بالرياض. 109- حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 110- الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، عبد الرحمن عبد الخالق، دار القلم، الكويت. 111- الحروب الصليبية، بدؤها مع مطالع الإسلام واستمرارها حتى الآن. د. أحمد شلبي، مكتبة النهضة بمصر.

112- الحضارة الإسلامية، أسسها ومبادئها، أبو الأعلى المودودي. الدار العربية، بيروت. 113- الحقيقة في نظر الغزالي، د. سليمان دنيا. دار المعارف بمصر. 114- الحكم بغير ما أنزل الله وصلته بالعقيدة، طبعة المكتاب. 115- خصائص التصور الإسلامي، سيد قطب، دار الشروق. 116- الخطط المقريزية، مصور عن طبعة بولاق، دار العرفان، لبنان. 117- خلاف الأمة في العبادات، لابن تيمية, تحقيق عثمان جمعة ضميرية، مكتبة الفاروق بالطائف. 118- خلافة الإنسان في الأرض. د. عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي. "د, ز": 119- دائرة المعارف الإسلامية لمجموعة من المستشرقين, الترجمة العربية، طبعة الشعب. 120- درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم. جامعة الإمام. 121- دراسات إسلامية، د. محمد عبد الله دراز. دار القلم. الكويت. 122- دراسات في الحديث النبوي، د. محمد مصطفى الأعظمي، ط 3، شركة الطباعة العربية بالرياض. 123- دراسات في الفكر الإسلامي، د. عدنان محمد زرزور. مكتبة الفلاح. 124- دراسات قرآنية، محمد قطب، دار الشروق. 125- دعوة التوحيد، محمد خليل هراس، مكتبة ابن تيمية. 126- دلائل التوحيد، للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، مكتبة الثقافة بالقاهرة. 127- دليل الفالحين شرح رياض الصالحين، لابن علان. دار الفكر. بيروت. 128- الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم, الكويت. 129- الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني، القاهرة. 130- الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، لأبي حامد الغزالي، مجمع البحوث الإسلامية 1394هـ. 131- الرد على الجهمية والزنادقة، للإمام أحمد بن حنبل، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية. 132- الردة بين الأمس واليوم، محمد كاظم حبيب، طبعة كراتشي.

133- الرسالة، للإمام الشافعي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر. دار التراث. 134- رسالة التوحيد، للشيخ محمد عبده, بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 135- رسالة التوحيد، إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي الشهيد, ترجمة أبي الحسن الندوي. المكتبة اليحيوية بالهند. 136- الرسالة التدمرية، لابن تيمية، المكتب الإسلامي. 137- روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، للآلوسي، مصور عن الطبعة المنيرية. 138- الروض الأُنُف شرح سيرة ابن هشام، للسهيلي، المطبعة الجمالية بمصر. 139- زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم, تحقيق الأرناءوط، مؤسسة الرسالة. 140- الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري، تحقيق محمد جبر الألفي، وزارة الأوقاف بالكويت. "س, ش": 141- سلسلة الأحاديث الصحيحة، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي. 142- سلسلة الأحاديث الضعيفة، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ومكتبة المعارف. 143- السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب د. علي عبد الحليم محمود. مكتبات عكاظ بجدة. 144- السنة، للإمام عبد الله ابن الإمام أحمد. تحقيق د. محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم. 145- السنة لابن أبي عاصم. تحقيق الألباني. المكتب الإسلامي. 146- السنة قبل التدوين د. محمد عجاج الخطيب. مكتبة وهبة. 147- السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي د. مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي. 148- سنن أبي داود = تهذيب سنن أبي داود. 149- سنن الترمذي = تحفة الأحوذي. 150- سنن النسائي، بعناية عبد الفتاح أبي غدة. مكتب المطبوعات الإسلامية. 151- سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة الحلبي. 152- سنن الدارمي، تحقيق محمد أحمد دهمان. بيروت.

153- سير أعلام النبلاء للذهبي، تحقيق بإشراف الأرناءوط، مؤسسة الرسالة. 154- سيرة ابن هشام = الروض الأنف. 155- سيرة الرسول "صور مقتبسة من القرآن"، محمد عزة دروزة، طبعة الشئون الدينية بقطر. 156- شأن الدعاء، للخطابي، تحقيق أحمد القاق, دار المأمون بدمشق. 157- شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للالكائي، تحقيق د. أحمد سعد حمدان، دار طيبة. 158- شرح السنة، للبغوي، تحقيق شعيب الأرناءوط. 159- شرح الفقه الأكبر، لملا علي القاري، دار الكتب العلمية. 160- شرح العقائد النسفية، للنسفي مع شرح التفتازاني. طبع الأستانة. 161- شرح العقيدة الطحاوية, لابن أبي العز الحنفي، المكتب الإسلامي. 162- شرح القصيدة النونية، محمد خليل هراس. دار الكتب العلمية. 163- شرح الكوكب المنير، لابن النجار، تحقيق د. محمد الزحيلي، د. نزيه حماد. جامعة أم القرى. 164- شرح صحيح مسلم، للنووي، مصورة عن طبعة محمد عبد اللطيف بمصر. 165- شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، للغنيمان، مكتبة لينة بمصر. 166- الشريعة، للآجري، تحقيق محمد حامد الفقي. طبعة أنصار السنة. 167- شفاء الغليل، لابن القيم، مطبعة المدني بمصر. 168- الشفاعة، مقبل بن هادي، دار الأرقم بالكويت. "ص, ظ": 169- الصحاح، للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين. 170- صحيح ابن حبان = موارد الظمآن. 171- صحيح ابن خزيمة، تحقيق الأعظمي، المكتب الإسلامي. 172- صحيح سنن ابن ماجه، للألباني، مكتب التربية لدول الخليج. 173- صحيح البخاري مع فتح الباري, لابن حجر, المطبعة السلفية. 174- صحيح الجامع الصغير، للألباني, المكتب الإسلامي. 175- صفة الغرباء، سلمان العودة، دار ابن الجوزي. 176- الصلاة، ابن القيم, تحقيق تيسير زعيتر. الطبعة الأولى 1401هـ.

177- طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي. تحقيق عبد الفتاح الحلو. مطبعة الحلبي. 178- طريق الدعوة في ظلال القرآن، جمع أحمد فائز الحمصي، مؤسسة الرسالة. 179- ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة، تأليف عبد الله بن محمد القرني، الطبعة الأولى 1413، مؤسسة الرسالة. "ع, غ": 180- عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي، عثمان جمعة ضميرية. مكتبة السوادي بجدة. 181- العبادة في الإسلام, د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت. 182- عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة. سليمان العودة، دار طيبة، الرياض. 183- العبودية، لابن تيمية، تقديم الأستاذ عبد الرحمن الباني. 184- العقائد, الشيخ حسن البنا، ضمن مجموعة رسائل الإمام الشهيد، طبعة الدار الإسلامية. 185- عقائد السلف، لمجموعة من الأئمة، تحقيق د. علي سامي النشار. 186- العقائد النسفية مع حاشية التفتازاني, وعليه تعليقات الخيالي. طبع تركيا. 187- العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، محمد الطاهر التنير، الطبعة الثانية، الكويت. 188- العقيدة في الله، د. عمر سليمان الأشقر. مكتبة الفلاح بالكويت. 189- عقيدة الصابوني، أو عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان الصابوني، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، بيروت 1970م. 190- عقيدة المسلم، محمد الغزالي، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر. 191- العقيدة في القرآن، محمد المبارك. دار الفكر. دمشق. 192- العلمانية: نشأتها وتطورها، د. سفر الحوالي. دار مكة للطباعة. نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى. 193- علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، دار القلم، الكويت. 194- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، أحمد محمد شاكر. دار المعارف بمصر. 195- عمدة القاري شرح البخاري، للعيني، تصوير دار الفكر، بيروت عن طبعة مصر. 196- عون المعبود شرح سنن أبي داود، للمباركفوري، المكتبة السلفية بالمدينة. 197- غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام، مصور عن طبعة حيدر آباد. الهند.

198- غريب الحديث، للخطابي، تحقيق عبد الكريم العزباوي، جامعة أم القرى. 199- غريب القرآن، لابن قتيبة. مطبوع ضمن "القرطين" لابن مطرف الكناني. 200- الغلو في الدين، عبد الرحمن بن معلى المطيري. مؤسسة الرسالة. 201- فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم. مطابع الحكومة بمكة، 1399هـ. 202- فتح الباري شرح البخاري, لابن حجر, عن الطبعة السلفية، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث. 203- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. تحقيق الأرناءوط. 204- الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية، لابن علان الصديقي، دار إحياء التراث العربي. 205- الفَرْق بين الفِرَق، للبغدادي، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. 206- الفروق، للقرافي، دار المعرفة، بيروت. 207- الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، عني به حسام الدين القدسي. 208- الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم. تحقيق عبد الرحمن عميرة. مكتبات عكاظ. 209- فضائل القرآن، لابن كثير. مطبوع بآخر التفسير، مكتبة الرياض الحديثة. 210- فقه السيرة، محمد الغزالي، خرّج أحاديثها الشيخ الألباني. 211- الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، بتصحيح إسماعيل الأنصاري، دار الإفتاء بالرياض. 212- الفكر الإسلامي في مواجهة الأفكار الغربية، محمد المبارك، دار الفكر. بيروت. 213- الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، د. محمد البهي. مكتبة وهبة بالقاهرة. 214- الفوائد، لابن القيم، دار النفائس، بيروت. 215- الفهرست، لابن النديم، دار المعرفة، بيروت. 216- في العقيدة الإسلامية بين السلفية والمعتزلة، د. محمود خفاجي، الطبعة الأولى. 217- فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، دار المعرفة، بيروت. 218- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق. 219- في فقه التدين، د. عبد المجيد النجار. سلسلة كتاب الأمة، قطر.

220- في مجال العقيدة: عرض وتحليل، غازي التوبة. مؤسسة الرسالة. "ق": 221- القرطين، لابن مطرف الكناني، جمع فيه بين غريب القرآن ومشكل القرآن لابن قتيبة. مكتبة الخانجي. 22- قضايا العصر على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة، محمد سرور زين العابدين, دار الأرقم. 223- قضية نسب الفاطميين، د. عبد الحليم عويس. الطبعة الأولى. القاهرة. 224- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبد السلام، مكتبة الكليات الأزهرية. 225- قواعد التحديث، جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية، بيروت. 226- قواعد المنهج السلفي، د. مصطفى حلمي، دار الدعوة بالإسكندرية. 227- القواعد المثلى في أسماء الله الحسنى وصفاته العظمى، الشيخ محمد صالح العثيمين، دار الأرقم. "ك, ل": 228- الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف، لابن حجر، مطبوع مع الكشاف للزمخشري. 229- كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي، المؤسسة المصرية العامة للكتاب + طبعة الهند. 230- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. حاجي خليفة، مكتبة المثنى، بيروت. 231- كلمة الإخلاص، لابن رجب الحنبلي، تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي. 232- الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق مصطفى درويش، دمشق. 233- كيف نتعامل مع السنة النبوية؟ يوسف القرضاوي، دار الوفاء بمصر. 234- لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت. 235- لمحات في أصول التربية الإسلامية، د. محمد أمين المصري, دار الفكر. 236- لوامع الأنوار البهية، للسفاريني، المكتب الإسلامي.

"م": 237- مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. 328- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي. مطابع الأصفهاني بجدة. 239- مباحث الحكم عند الأصوليين د. محمد سلام مدكور، مطبعة لجنة البيان العربي. 240- مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، د. ناصر عبد الكريم العقل. دار الوطن للنشر. 241- مبادئ الإسلام، لأبي الأعلى المودودي. الدار السعودية بجدة. 242- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مصور عن طبعة حسام الدين القدسي. 243- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن عاصم، طبعة المغرب. 244- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ عبد الله بن باز، أشرف على جمعه وطبعه د. محمد بن سعد الشويعر، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء. 245- مجموعة التوحيد، مجموعة رسائل لابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما، طبعة دار الفكر، بيروت. 246- مجموعة الرسائل المنيرية، لمجموعة من العلماء جمعها محمد منير الدمشقي. تصوير أمين دمج، بيروت. 247- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد حميد الله، الطبعة الثانية، دار النفائس، بيروت. 248- مجموعة الرسائل والمسائل النجدية, مطابع المنار بالقاهرة. 249- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية، تحقيق عبد الله الأنصاري وآخرين. قطر. 250- المختار من كنوز السنة، د. محمد عبد الله دراز، الشئون الدينية بقطر. 251- مختصر الصواعق المرسلة، للموصلي. تصوير مكتبة الرياض الحديثة. 252- مداخل إلى العقيدة الإسلامية، د. يحيى هاشم فرغل، طبعة أولى 1985م. 253- مدارج السالكين لابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة. 254- مدخل إلى الثقافة الإسلامية، د. محمد رشاد سالم. دار القلم, الكويت. 255- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، لابن بدران، تحقيق د. عبد الله التركي. مؤسسة الرسالة. 256- مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية, د. عبد الكريم زيدان، دار عمر بن الخطاب

بالإسكندرية. 257- المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي بالقاهرة. 258- مذاهب فكرية معاصرة، محمد قطب، دار الشروق. 259- مراتب الإجماع لابن حزم، ومعه نقد مراتب الإجماع لابن تيمية، مصور عن طبعة القدسي، بيروت, دار الكتب العلمية. 260- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري، المكتبة الإمرادية بملتان. 261- مساجد الضرار بين القديم والحديث، محمد سرور زين العابدين، مع كتاب "النفاق" للدوسري. 262- المستدرك على الصحيحين، للحاكم، تصوير دار المعرفة عن طبعة الهند. 263- مسند أبي بكر للمروزي، تحقيق شعيب الأرناءوط. 264- مسند أبي يعلى، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار القبلة بجدة. 265- مسند الإمام أحمد بن حنبل، تصوير المكتب الإسلامي عن طبعة بولاق + تحقيق أحمد شاكر. 266- مسند الطيالسي، لأبي داود الطيالسي، دار المعرفة عن طبعة الهند. 267- المشروعية الإسلامية العليا، الدكتور علي محمد جريشة، مكتبة وهبة 1396هـ. 268- مشكاة المصابيح، للخطيب التبريزي. تحقيق الألباني. 269- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي، دار المعارف بمصر. 270- المصطلحات الأربعة في القرآن، للمودودي، دار القلم، الكويت. 271- المصنف، للإمام عبد الرزاق الصنعاني، المجلس العلمي، المكتب الإسلامي. 272- المصنف، لابن أبي شيبة، تحقيق عامر الأعظمي، الدار السلفية بالهند. 273- معارج القبول، للشيخ حافظ حكمي، مكتبة ابن القيم بالدمام. 274- المعارف، لابن قتيبة. تحقيق ثروت عكاشة. دار المعارف بمصر. 275- معالم التنزيل = تفسير البغوي. 276- معالم السنن, للخطابي، شرح سنن أبي داود = تهذيب السنن. 277- المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر، للزركشي، تحقيق عبد المجيد السلفي، دار الأرقم. 278- المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين، مجمع اللغة العربية بمصر. 279- معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، تحقيق د. نور الدين عتر. دار الفكر.

280- المُغْرِب في ترتيب المعرب للمطرزي، تحقيق محمود فاخوري، مكتبة أسامة بن زيد بحلب، سورية. 281- مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق. 282- مفتاح السعادة، طاش كبرى زاده. دار الكتب العلمية. 283- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ابن القيم، دار الفكر. 284- مفردات القرآن للراغب الأصفهاني. تحقيق سيد كيلاني. مطبعة الحلبي. 285- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية, د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 286- مقالات الإسلاميين, لأبي الحسن الأشعري، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية. 287- مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب اللبناني، 1981م. 288- مقرر علم التوحيد للأستاذ محمد قطب. وزارة المعارف. الرياض. 289- مقومات التصور الإسلامي، للأستاذ سيد قطب، دار الشروق. 290- المنار في أصول الفقه، للنسفي، طبعة تركيا. 291- مناهج البحث عند مفكري الإسلام، د. علي سامي النشار، دار المعارف بالقاهرة. 292- المنتخب من مسند عبد بن حميد، تحقيق صبحي السامرائي، مكتبة السنة بالقاهرة، 1408هـ. 293- منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، سليمان بن سحمان، مطبعة المنار. 294- منهاج السنة النبوية، ابن تيمية. تحقيق د. محمد رشاد سالم. جامعة الإمام بالرياض. 295- منهج الإسلام في الحرب والسلام، عثمان جمعة ضميرية. دار الأرقم, الكويت. 296- منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، دار الشروق. 297- منهج السلف في العقيدة الإسلامية، د. حمدي عبد العال. دار القلم. الكويت. 298- منهج لدراسة الأسماء والصفات، محمد الأمين الشنقيطي. الجامعة الإسلامية بالمدينة. 299- منهج النقد في علوم الحديث، د. نور الدين عتر. دار الفكر بدمشق. 300- منهج المدرسة العقلية في التفسير، د. فهد عبد الرحمن الرومي. مؤسسة الرسالة. 301- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، للهيثمي، تحقيق محمد عبد الرحمن حمزة، دار

الكتب العلمية. 302- الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي. تحقيق عبد الله دراز. المكتبة التجارية. 303- الموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، محماس بن جلعود، الطبعة الأولى، 1407هـ. 304- موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، مصطفى صبري، دار إحياء التراث العربي، بيروت. "ن, و": 305- النبوات، لابن تيمية، مكتبة الرياض الحديثة. 306- النجاة والفكاك من موالاة أهل الإشراك، الشيخ سليمان بن سحمان، ضمن مجموعة التوحيد، الرياض. 307- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، د. علي سامي النشار. دار المعارف بمصر. 308- نشأة الدين، د. علي سامي النشار. مكتبة الخانجي بمصر. 309- نظام الإسلام, العقيدة والعبادة, محمد المبارك, دار الشروق بجدة. 310- نظم الدرر في شرح الفقه الأكبر، القاضي عبيد الله. المجلس العلمي بكراتشي, باكستان. 311- النفاق، عبد الرحمن الدوسري، دار الأرقم، الكويت. 312- نموذج من الأعمال الخيرية، محمد منير الدمشقي، الطبعة الثانية، مكتبة الشافعي بالرياض. 313- النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، تحقيق د. محمود الطناحي. 314- النهج السديد بتخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد، جاسم الدوسري، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي, الكويت. 315- النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار للشيخ مصطفى الورداني، تحقيق طه العلواني، مكتبة المنهل, جدة. 316- هل نحن مسلمون؟ محمد قطب. دار الشروق. 317- وجاء دور المجوس، د. محمد عبد الله الغريب. 318- وجوب لزوم جماعة المسلمين، جمال بن بادي، دار الوطن بالرياض. 319- الوجوه والنظائر للدامغاني, تحقيق محمد سيد الأهل، بيروت.

320- الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، الطبعة التاسعة. المكتب الإسلامي. 321- الوسيط في تفسير القرآن، للواحدي. تحقيق محمد أبي العزم, المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. 322- الوصية الكبرى، لابن تيمية، تحقيق عثمان ضميرية، محمد النمر. مكتبة الصديق بالطائف. 323- وفيات الأعيان، لابن خلكان. تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت. 324- الولاء والبراء في الإسلام، د. محمد سعيد القحطاني، دار طيبة بالرياض. استدراك: 325- أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة، د. محمد عبد الرحمن الخميس، دار الصميعي بالرياض، 1416هـ. 326- إكفار الملحدين في ضروريات الدين، لمحمد أنور شاه الكشميري، كراتشي 1388هـ. 327- الإيمان وأثره في الحياة، د. يوسف القرضاوي، الدار السعودية بجدة. 328- دلائل النبوة, للبيهقي, دار الكتب العلمية, بيروت. 329- رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، دار الوطن بالرياض. 330- المعجم الفلسفي, إصدار مجمع اللغة العربية بالقاهرة. 331- المبسوط، للسرخسي، دار المعرفة، بيروت.

باب الفهارس

باب: الفهارس فهرس الأحاديث النبوية: الصفحة طرف الحديث 348 آية المنافق ثلاث 326 أتيت رسول الله وفي عنقي صليب 343 اثنتان في الناس هما بهم كفر 322 اشفعوا تؤجروا 348 أربع من كن فيه كان منافقا 262 و267 أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله 17 ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم 171 ألا إنها ستكون فتنة 164 و172 ألا إني أوتيت الكتاب 299 اللهم أنت ربي 326 أليس يحرمون ما أحل الله 200 أما بعد: فإن خير الحديث 294 أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا 304 إن الله خلق الرحمة يوم خلقها 263 إن الله حرم على النار من قال 143 إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة 264 إن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني 270 إن صدق ليدخلن الجنة 243، 299 إن لله تسعة وتسعين اسما 332 أنا أغنى الشركاء عن الشرك 219 إنك تأتي قوما أهل كتاب 31 إنه لا خير في دين لا صلاة فيه 17 إني خلقت عبادي حنفاء كلهم 140 أوتيت جوامع الكلم

الصفحة طرف الحديث 361 أوثق عرا الإيمان 173 أوصيكم بتقوى الله 208 إياكم والظن 206 إياكم والغلو في الدين 286 الإيمان بضع وسبعون شعبة 173 بلغوا عني ولو آية 61 بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ 28 بينما نحن عند رسول الله ذات يوم 52 بينما نحن عند رسول الله وهو يقسم 40 بينما نحن قعود على شراب لنا 166 تركتكم على البيضاء 171 تضمن الله لمن قرأ القرآن 305 تعس عبد الدينار 259، 270 ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان 209 ثلاث مهلكات 29 جاء وفد ثقيف إلى النبي 141 الجماعة رحمة 244 حديث الشفاعة 61 خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر 198 خط لنا رسول الله خطا 52 دعه فإن له أصحابا 187 رفع القلم عن ثلاثة 242 سباب المسلم فسوق 333 الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب 153 صلوا كما رأيتموني أصلي 91 عليكم بسنتي وسنة الخلفاء 326 فتلك عبادتهم إياهم 22 فضلت على الأنبياء بست 244 فيفتح علي من محامده

الصفحة طرف الحديث 264 قال رجل: يا رسول الله دلني على عمل 18 كان بين آدم ونوح عشرة قرون 163 كان جبريل ينزل على النبي بالسنة 365 كان حاطب بن أبي بلتعة رجلا من المهاجرين 347 كان رسول الله لا يواجه المنافقين 171 كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم 286 كل سلامى من الناس عليه صدقة 200 كل محدثة بدعة 21 كم عدد الأنبياء؟ 144 لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس 244 لا أحصي ثناء عليك 286 لا تحقرن من المعروف شيئا 243 لا ترغبوا عن آبائكم 54 لا تعذبوا بعذاب الله 29 لا يقوم بدين الله إلا من حاطه 301 لا يؤمن أحدكم إلا وهو يحسن 269 لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه 371 لتتبعن سنن من كان قبلكم 166 لقد توفي رسول الله وما من طائر 372 ليس منا من تشبه بغيرنا 266 من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله 244 ما قال عبد قط إذا أصابه هم 262 و269 ما من عبد قال: لا إله إلا الله 16 ما من مولود إلا يولد على الفطرة 268 مثل ما بعثني الله به من الهدى 22 مثلي ومثل الأنبياء من قبلي 301 يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي 330 و361 من أحب في الله 199 من أحدث في أمرنا ما ليس منه

الصفحة طرف الحديث 141 من أراد بحبوحة الجنة 172 من أطاعني فقد أطاع الله 146 من تشبه بقوم فهو منهم 146 من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم 332 من حلف بغير الله فقد أشرك 141 من خرج من الطاعة 200 من دعا إلى هدى 264 من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة 90 من سن في الإسلام سنة 261 من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا 199 من عمل عملا ليس عليه أمرنا 264 من قال: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة 263 ما من عبد يشهد 262 من قال: لا إله إلا الله نفعته يوما 272 من كان آخر كلامه لا إله إلا الله 272 من مات لا يشرك بالله 286 وفي بضع أحدكم صدقة 261 يا أبا هريرة اذهب بنعليّ 18 يا رسول الله, أنبيا كان آدم ... ؟ 264 يا رسول الله, دلني على عمل 21 يا رسول الله, كم عدد الأنبياء 29 يا عمر, أتدري من السائل 285 يصبح على كل سلامى 301 يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي

فهرس الأبحاث

فهرس الأبحاث: الصفحة الموضوع أتقديم بقلم الدكتور عبد الله عبد الكريم العبادي 3 تقاريظ 9 مقدمة 13 تمهيد عام 15 - خلافة وهداية 16 - طريقان للهداية: الفطرة والوحي 20 - حاجة البشرية إلى الرسالة 22 - الرسالة الخاتمة 25 الإسلام عقيدة وشريعة 27 - الصحابة يتلقون الدين منهجا كاملا 31 - علم العقيدة وعلم الشريعة 33 - الصلة بين العقيدة والشريعة 35 - ضرورة ومحاذير 37 - أهمية العقيدة وأثرها 43 علم العقيدة: عوامل النشأة، وتطور التدوين 45 - منهج الصحابة في تلقي العقيدة 49 أولا: عوامل نشأة علم العقيدة 49 - العوامل الداخلية 49 1- تدوين الأحاديث على الأبواب 51 2- الرد على المخالفين 52 3- مواجهة البدع والانحرافات "نشوء الفرق" 58 4- اختلاف طبيعة منهج التلقي

63 العوامل الخارجية 63 1- احتكاك المسلمين باليهود 64 2- احتكاك المسلمين بالنصارى 65 3- ترجمة كتب الفلسفة 66 4- المذاهب الغنوصية 67 - نتائج وملاحظات 67 1- نشأة علم العقيدة استجابة لضرورة 67 2- وجوب الالتفات إلى التحديات المعاصرة 68 3- الانحراف في علم الكلام والفلسفة 71 ثانيا: التطور التاريخي لتدوين العقيدة 73 - إجمال وبيان 75 1- الفقه الأكبر 75 - تعريف الفقه في اللغة 77 تطور استعمال كلمة الفقه 78 أول من استخدم مصطلح الفقه الأكبر 82 الفقه الأكبر للإمام الشافعي 84 2- الإيمان 84 - تعريف الإيمان في اللغة 86 - تعريف الإيمان في الاصطلاح الشرعي 88 - المؤلفات في الإيمان 90 3- السنة 90 - تعريف السنة في اللغة 91 - تعريف السنة في الاصطلاح الشرعي

93 - تنبيهان.... "تعليق" 93 - السنة بمعنى الاعتقاد 95 - انتشار اصطلاح السنة 96 - مؤلفات في الاعتقاد تحت اسم السنة 99 - منهج المصنفين في السنة 102 4- علم التوحيد 102 - تعريف التوحيد في اللغة 105 - المعنى الاصطلاحي للتوحيد 106 - دلالة كلمة التوحيد على العقيدة 107 - مباحث ليست من علم التوحيد 108 - تطور استعمال كلمة التوحيد 109 - مؤلفات في علم التوحيد 114 5- الشريعة 114 - تعريف الشريعة في اللغة 116 - إطلاقات كلمة الشريعة اصطلاحا 118 - مؤلفات في الشريعة 119 6- العقيدة 119 - التعريف اللغوي 121 - تعريف العقيدة في الاصطلاح الشرعي 121 - عناصر العقيدة ومراحل تكوينها 122 - مؤلفات في العقيدة 125 7- أصول الدين 125 - التعريف اللغوي

126 - التعريف الاصطلاحي 127 - ملاحظتان: التوحيد أصل الدين، ما ليس من أصول الدين 128 - مؤلفات في أصول الدين 130 8- التصور الإسلامي 131 - ظهور مصطلح التصور الإسلامي 131 - منهج الأستاذ سيد قطب في التصور 134 - منهج الأستاذ محمد المبارك 137 عموميات 139 - أولا: أهل السنة والجماعة 140 - عناصر في تعريف الجماعة 141 - الأمر بلزوم الجماعة 142 - معنى جماعة المسلمين 148 - تسمية أهل السنة والجماعة 149 ثانيا: السلف 149 - في الإطلاق اللغوي 150 - في الإطلاق الشرعي 153 - ثالثا: أهل الحديث 153 - الحديث في اللغة 154 - تعريف أهل الحديث 155 - إطلاق خاص 156 - وسطية أهل السنة والجماعة 160 مصادر العقيدة 161 - تمهيد 161 - أولا: القرآن الكريم

161 القرآن المصدر الرئيسي للدين 161 عناية القرآن بالعقيدة 162 وسائل تقرير العقيدة القرآن 163 - ثانيا: السنة النبوية 167 الاحتجاج بالصحيح دون الضعيف والموضوع 167 - الأدلة على صحة هذا المنهج في مصدرية العقيدة 167 أولا: من القرآن الكريم 171 ثانيا: من السنة 173 ثالثا: إجماع الصحابة 174 رابعا: إجماع العلماء بعد عهد الصحابة 175 خامسا: التجربة والواقع 180 - آثار هذا المنهج وفوائده 183 دورالعقل ومكانته 183 - العقل في اللغة 183 - ملاحظات ونتائج 184 - إطلاقات كلمة العقل 185 - قيمة العقل في الإسلام 186 - مكانة العقل في الإسلام 189 - دور العقل في العقيدة 194 - العلاقة بين العقل والوحي 197 - التزام العقيدة، والنهي عن البدع 197 - تمهيد وإحالة 197 - أدلة النهي عن البدع، والتحذير من الابتداع 204 - معنى البدعة والابتداع

205 - عوامل ومؤثرات في ظهور البدع 205 - من العوامل الداخلية 212 - العوامل والمؤثرات الخارجية 214 التوحيد 216 - التوحيد فطرة وتاريخا 220 - الرد على نظرية التطور في الأديان 221 - أنواع توحيد الرسل والأنبياء 223 - أقسام التوحيد باعتبار متعلقاته 226 توحيد الربوبية 226 - تعريفه 226 - توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية 229 - وفي كل شيء له آية 230 - إطلاقات كلمة رب 230 - الإلحاد جهالة وسفاهة 230 - صورة من الإخلال بتوحيد الربوبية 232 توحيد الألوهية 232 - تفرد الله بالخلق والأمر 233 - تعريف توحيد الألوهية 233 - دعوة القرآن إليه 234 - أهميته ودعوة الرسل إليه 235 - منهج القرآن في الدعوة إليه 236 - تحقيق هذا التوحيد 237 توحيد الأسماء والصفات

237 - دور العقل في الأسماء والصفات 237 - مصدر معرفة الأسماء والصفات 239 - الإيمان بالأسماء والصفات 240 - طريقة إثبات الأسماء والصفات 240 - اتفاق في الاسم, لا في المسمى 241 - القول في الصفات كالقول في الذات 242 - القول في بعض الصفات كالقول في بعض 243 - إن لله تسعة وتسعين اسما: هل الأسماء محصورة بـ 99 اسما؟ 243 - معنى إحصاء الأسماء الحسنى 246 - أثر الإيمان بالأسماء والصفات 247 جوانب من توحيد الألوهية 249 - أولا: معنى شهادة أن لا إله إلا الله 249 الإسلام يقوم على عقيدة التوحيد 249 - أهمية الشهادتين وفضلهما 251 - شهادة أن لا إله إلا الله 251 - معنى الإله 251 - دعوة إلى توحيد الألوهية 253 - مقتضيات توحيد الألوهية 254 - شرك الطاعة والاتباع 255 - مفهوم شامل للتوحيد 256 - أمران يوضحان التوحيد 257 - نفي وإثبات

258 - شهادة أن محمدا رسول الله 259 - مفهوم شهادة أن محمدا رسول الله 259 - منهج حياة 261 شروط كلمة التوحيد 261 - الإتيان بالشهادتين سبب دخول الجنة 262 - وسبب لتحريم دخول النار 263 - شروط النجاة 263 - هل يكفي النطق بالشهادتين؟ 266 - ثمانية شروط لكلمة التوحيد 274 نواقض لا إله إلا الله 274 - إذا طرأ ما ينقض كلمة التوحيد, بطل أثرها 274 - عشرة نواقض لكلمة التوحيد 283 ثانيا: العبادة وأنواعها مفهوم العبادة في الإسلام 283 غاية وجود الإنسان 284 المفهوم الصحيح الشامل للعبادة 286 معنى العبادة 287 شمول العبادة لكل جوانب الحياة 292 أنواع العبادة 292 - عبادات اعتقادية 293 - عبادات قلبية 294 - عبادات لفظية 295 - عبادات بدنية

296 - عبادات مالية 297 أركان العبادة وأصولها 297 - المحبة 300 - الرجاء 302 - الخوف 303 - بين الخوف والرجاء 305 دعوة الرسل إلى توحيد العبادة 305 - التوحيد مفتاح دعوة الرسل 306 - موقف الجاهليين من التوحيد 306 - الرسل يدعون إلى توحيد العبادة 309 الانحراف عن التوحيد 311 - تمهيد 311 أولا: الشرك: تعريفه في اللغة والاصطلاح 312 أ- الشرك الأكبر: تعريفه، أصله ومنشؤه 313 - الشرك في القديم، صور جديدة للأصنام 316 - أنواع الشرك الأكبر 316 1- شرك الدعاء 319 2- شرك العبادة والتقرب 320 3- شرك الشفاعة 323 4- شر ك الطاعة والاتباع 326 - صور لشرك الطاعة والاتباع 330 5- شرك المحبة والنصرة

331 ب- الشرك الأصغر: تعريفه 331 - ألوان من الشرك الأصغر 333 ثانيا: الكفر 333 - تعريفه في اللغة 334 - تعريفه في الاصطلاح الشرعي 335 - أصل الكفر 336 أ- الكفر الأكبر، وأنواعه 336 1- كفر الإنكار 337 2- كفر الجحود 338 3- كفر العناد 340 4- كفر الشك 341 5- كفر الإعراض 341 6- كفر النفاق 341 ب- الكفر الأصغر: تعريفه 342 - أنواعه ودليله 343 ثالثا: النفاق 343 - تعريفه في اللغة 344 - في الاصطلاح الشرعي 345 - النفاق الأكبر: تعريفه 346 - خطورته 347 - هل يحكم بالنفاق على أحد معين؟ 348 ب- النفاق الأصغر

349 - النسبة بين الكفر والشرك والنفاق 355 عقيدة الولاء والبراء 357 - تمهيد 358 - الولاء والبراء في النصوص الشرعية 362 - مفهوم الولاء في اللغة 363 - مفهوم الولاء في الشرع 366 - البراء في اللغة 367 - مفهوم البراء في الشرع 367 - مقتضيات البراءة من الكفار 372 - الفرق بين التسامح والبر, وبين المودة للكفار 374 - موقف الكفار من الإسلام والمسلمين 377 - من مظاهر الولاء للكفار 381 خصائص العقيدة الإسلامية 383 1- التوقيفية 385 2- الغيبية 388 3- الشمول 390 4- التكامل 392 5- التوازن 395 المراجع والمصادر 411 فهر س الأحاديث 416 فهرس الأبحاث

كتب للمؤلف: 1- منهج الإسلام في الحرب والسلام, دار الأرقم بالكويت. 2- التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان, دار الكلمة الطيبة بالقاهرة. 3- عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي, مكتبة السوادي بجدة. 4- إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام, مكتبة السوادي بجدة. 5- التوحيد مفتاح دعوة الرسول, مكتبة الصديق بالطائف. 6- الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى, مكتبة الفاروق بالطائف. 7- دعوة كريمة, مكتبة الفاروق بالطائف. 8- مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية, مكتبة السوادي بجدة. 9- تفسير البغوي "1-8" تحقيق بالاشتراك, دار طيبة بالرياض. 10- تزيين العبارة لتحسين الإشارة، تحقيق, مكتبة الفاروق. 11- خلاف الأمة في العبادات لابن تيمية، تحقيق, مكتبة الفاروق. 12- إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام للكنوي, تحقيق, مكتبة السوادي. 13- الوصية الكبرى، لابن تيمية, تحقيق بالاشتراك, مكتبة الفاروق. 14- محاضرات في المعاملات المالية. 15- فصول من فقه العبادات. تحت الطبع: 1- حجة الله البالغة للدهلوي "تحقيق وتخريج". 2- شرح الفقه الأكبر، لملا علي القارئ "تحقيق". 3- قواعد الأحكام لعز بن عبد السلام "تحقيق بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور نزيه حماد". 4- إدراك الركعة بإدراك الركوع "طبعة ثالثة مزيدة". 5- تربية المراهق في الإسلام. 6- الحوار الإسلامي المسيحي: "الجذور التاريخية والعقائدية لفكرة التقارب بين الأديان". 7- وثائق ونصوص في الحوار الإسلامي المسيحي. 8- معجم المصطلحات في العقيدة الإسلامية. 9- أحكام القرآن, لأبي بكر الجصاص "تحقيق".

§1/1