مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه

عدنان زرزور

المقدمة

المقدّمة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا؛ أحمده تعالى حق حمده، وأستعينه وأستهدي به وأستغفره وأتوب إليه. وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وخيرته من خلقه، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، ونهض إلى تحكيم شريعته .. إلى يوم الدين. وبعد: فإن هذه الأبواب والفصول التي حملت هذا العنوان (مدخل إلى تفسير القرآن وعلومه) تأتي تلبية لحاجة طلبة الجامعة الذين يتأهبون لدراسة تفسير القرآن، والدخول إلى رحابه وآفاقه، ورحاب سائر أنواع علوم القرآن وتلبيته كذلك لحاجة ز ملائهم الذين لا بد أن يشدو طرفا من العلم بكتاب ربهم قبل أن ينصرفوا إلى التخصص الجامعي في حقل من حقول الدراسات الإنسانية والاجماعية. ويلحق بهؤلاء الطلبة وينضاف إليهم سائر الدارسين والباحثين الذين لا غنى لهم عن الإلمام بشيء من تاريخ القرآن الكريم، والوقوف على طرف من آفاقه ومعانيه وأسرار إعجازه! ولهذا، فقد دارت- هذه الفصول والأبواب- حول محورين: الأول: تاريخ القرآن الكريم، أو ما أسميناه- هنا وفي كتب لنا سابقة- قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه؛ تأكيدا على هذه التسمية، وترجيحا على سابقتها الذي ما يزال في النفس منها شيء! نظرا لكونها تسمية مطلقة- أو مفتوحة! - هكذا:

تاريخ القرآن! فهذا الإطلاق موهم أو ليس بدقيق على أقل تقدير. والمحور الثاني: إعجاز القرآن ومعالم التفسير المعاصر؛ بوصف هذه المعالم هي التي سيتم معها التعامل، أو هي المطلوبة في هذه المرحلة من مراحل الدراسة، من جهة، ومراحل تفسير القرآن وفهمه و «العقل» عنه، من جهة أخرى. وجاء الحديث في هذين المحورين تقديرا منّا بأن (المدخل) يؤدي مهمته وينهض بأداء وظيفته حين يشتمل على (تاريخ) العلم- أي علم- وحين يتضمن في الوقت نفسه مقدمات تعين الدارس على فهم هذا العلم، أو التعامل معه على نحو أفضل. وأرجو أن يكون المحوران السابقان قد أدّيا هذه المهمة؛ بحيث يتمكن دارس هذا الكتاب من التعامل مع كتب التفسير وعلوم القرآن على النحو المذكور، وبحيث يهيئ له عند تلاوته للقرآن الكريم، والتأمل في آياته، الفرصة لفهم بعض جوانبه، وتذوق بعض نقاط إعجازه وبلاغته التي تبهر العقول، وتأخذ بالألباب. هذا، وقد أضفت إلى هذين المحورين حديثا موجزا- لا بد منه- عن القرآن الكريم واللغة العربية، أشرت فيه إلى طرف من خصائص اللسان العربي، والسبب الذي من أجله نزل القرآن في العرب وبلغتهم، وبعث النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه من بين ظهرانيهم. بالإضافة إلى الحديث عن أثر القرآن- في المقابل- في اللغة العربية، وما منحها من السمو والتشريف، وكتب لها من الثبات والخلود. وغني عن البيان أن تفسير القرآن الكريم وفهم إعجازه مؤسس على هذه اللغة الإنسانية ومنطلق منها. وأشير أخيرا إلى أن فصول هذا الكتاب- وقد نشر معظمها في وقت سابق- لم تخل من إضافة- حسنة إن شاء الله- أو من تجديد وإعادة صياغة مرة أخرى. وآمل أن أتابع، بعون الله تعالى وتوفيقه، كتابة جزء أو مؤلّف آخر يتضمن سائر علوم القرآن، وبشيء من التوسع والتعمق إن شاء الله تعالى.

أدعو الله تعالى أن ينفع بهذا العمل، وأن يكتب له القبول، وأن يمنّ عليّ بالمثوبة العفو والعافية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10). الدّكتور عدنان محمّد زرزور أستاذ ورئيس قسم التفسير والحديث بجامعة قطر الجمعة: 25 من المحرم الحرام 1416 23 حزيران «يونيو» 1995

الباب الأول القرآن الكريم واللغة العربية

الباب الأوّل القرآن الكريم واللغة العربية * الفصل الأول: لغة القرآن الكريم. * الفصل الثاني: أثر القرآن الكريم في اللغة العربية. * الفصل الثالث: أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية.

الفصل الأول لغة القرآن الكريم

الفصل الأول لغة القرآن الكريم أولا- اللسان العربي: إن اختيار لغة العرب لينزل بها آخر كتب الله تعالى للإنسان، على تعدد لغات البشر واختلاف ألسنتهم، يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان، وبخاصة إذا ذكرنا أن إعجاز القرآن أو معجزة النبيّ الكبرى- صلوات الله وسلامه عليه- جاءت متعلقة بهذا البيان ومتصلة به، بل كانت في حقيقة الأمر من جنسه، لأن الإعجاز الذي جاء في القرآن الكريم مقرونا بالتحدي أو ثمرة له- كما سنشرح ذلك في مبحث الإعجاز القادم- كان بيانيا صرفا، على الراجح من أقوال العلماء والباحثين. ومما يدل على هذه الفضيلة البيانية، أو الميزة البيانية، ويشير إليها على أقل تقدير أن من استقام لسانه بالعربية- كما هو ملاحظ ومشاهد- استقام بكل لغة أو لسان آخر، ولا عكس. أي أن من نشأ على العربية ورضع لبانها، وتفتق لسانه بحروفها وكلماتها وتراكيبها ... بمعنى أن هذه الحروف والكلمات والتراكيب كانت هي السابقة إلى لسانه وشفتيه نشأة وتعليما؛ فإن في وسعه أن يتقن في المستقبل ... في سن الحداثة والصبا، أو في سنّ المراهقة والبلوغ ... وربما بعد ذلك أيضا، أي لغة أخرى، وسوف يبلغ بهذه اللغة- مع إجادة التعليم والتعلّم- مبلغ أهلها من حيث الإبانة والنطق؛ بحيث يصعب فصله عنهم أو تمييزه بينهم من

خلال الحديث والكلام. ولكن العكس غير صحيح في سائر الألسنة واللغات، ولسوف يبقى في لسان من نشأ على غير العربية، بقيّة من لكنة تحول بينه وبين إجادة نطق جميع حروف العربية وكلماتها وعبارتها ... أو بين نطقها على نحو تام، أو سليم. ويعود السبب في ذلك، على الأرجح، إلى الاستخدام الأمثل للمدرج الصوتي أو لجهاز النطق الإنساني في لغة العرب، والذي توزعت عليه حروف هذه اللغة على أتم صور التوزيع وأشملها وأدقها إذا ما قيست هذه الحروف بسائر اللغات، أو بحروف هذه اللغات وأبجدياتها! يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في معرض حديثه عن اللغة العربية بوصفها لغة شاعرة- أي لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية- وبيان أن هذه «الخاصة في اللغة العربية ظاهرة من تركيب حروفها، على حدة، إلى تركيب مفرداتها، على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد» يقول- رحمه الله-: «إن جهاز النطق الإنساني أداة موسيقية وافية لم تحسن استخدامها على أوفاها أمة من الأمم القديمة أو الحديثة كما استخدمتها الأمة العربية، لأنها انتفعت بجميع مخارجها الصوتية في تقسيم حروفها، ولم تهمل بعضها وتكرر بعضها الآخر بالتخفيف تارة، والتثقيل تارة، كما فعل المتكلّمون بسائر اللغات المعروفة، ومنها الهندية الجرمانية والساميّة والطورانية» (¬1). ويقول العقاد: إن حروف الهجاء أو الأبجدية العربية ليست أوفر عددا من الأبجديات في هذه اللغات جميعها- أي اللغات الهندية الجرمانية، واللغات الطورانية، واللغات السامية- «فإن اللغة الروسية- مثلا- تبلغ عدة حروفها خمسة وثلاثين حرفا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها. ولكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية، لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة ¬

_ (¬1) اللغة الشاعرة للعقاد، ص 11، المكتبة العصرية، بيروت.

إنما هو حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك افتنانا في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان ... وبمثل هذا الاختلاف في الضغط، أو الاختلاف في الحركة، يمكن أن تبلغ حروف الأبجدية خمسين أو ستين، ولا تدل على تنويع مفيد لمخارج النطق الإنساني على حسب الملكة الموسيقية الكامنة في استعداده» (¬1). «وتظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس ولا تتكرر بمجرد الضغط عليها، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد! وعلى هذه الصورة تمتاز اللغة العربية بحروف لا توجد في اللغات الأخرى كالضاد والظاء والعين والقاف والحاء والطاء، أو توجد في غيرها أحيانا ولكنها ملتبسة مترددة لا تضبط بعلامة واحدة». وقد جاء في عرض كلام العقاد، وهو يتحدث عن شاعرية هذه اللغة من هذا الجانب وحده- جانب الأبجدية أو تقسيم الحروف- وصفها بأنها لغة إنسانية ناطقة! نظرا لهذا الاستخدام الأمثل لجهاز النطق في الإنسان، فلا توجد في العربية أداة صوتية ناقصة تحسّ بها أبجدية هذه اللغة! «إذ ليس في حروف الأبجديات الأخرى حرف واحد يحوج العربي إلى افتتاح نطق جديد لم يستخدمه. وكل ما هنالك أنه قد يحوجه إلى الضغط الآلي على بعض الحروف المعهودة، وهو ضغط يدل على العجز عن تنويع الأصوات واستخدام أجهزة الحياة الناطقة على أحسن الوجوه، وأقربها إلى التنويع والتفصيل» (¬2). ¬

_ (¬1) اللغة الشاعرة، ص 9. (¬2) المصدر السابق، ص 10.

ولا يتّسع المجال هنا لتلخيص كل ما قاله الأستاذ العقاد فيما يمكن تسميته بعبقرية الحرف العربي أو دلالة الحروف على السليقة الشاعرة في اللغة العربية ... فضلا عما قدمه- رحمه الله- بعد ذلك في باب: المفردات، والإعراب، والعروض، وأوزان الشعر، والمجاز، وما أسماه: الفصاحة العلمية ... إلخ. ويكفي أنه قال في (الكلمات) إن ظهور السليقة الشاعرة فيها كظهورها في (الحروف) المتفرقة أو أظهر «لأنها تضيف الموسيقية في القواعد، والموسيقية في المعاني، إلى الموسيقية الملحوظة في مجرد النطق أو السماع بغير معنى يتم به التخاطب بين المتكلمين» ... «وحسبنا أن نلاحظ في تركيب المفردات من الحروف أنّ الوزن هو قوام التفرقة بين أقسام الكلام في اللغة العربية، وأن اللغات السامية التي تشارك هذه اللغة في قواعد الاشتقاق لم تبلغ مبلغها في ضبط المشتقات بالموازين التي تسري على جميع أجزائها، وتوفّق أحسن التوفيق المستطاع بين مبانيها ومعانيها. فالفرق بين: ينظر، وناظر، ومنظور، ونظير، ونظائر، ونظارة، ومناظرة، ومنظار، ومنظر، ومنتظر، وما يتفرع عليها، هو فرق بين أفعال وأسماء وصفات وأفراد وجموع. وهو كله قائم على الفرق بين وزن ووزن، أو قياس صوتي وقياس مثله يتوقف على اختلاف الحركات والنبرات، أي على اختلاف النغمة الموسيقية في الأداء». «وعلى غير هذا النسق تجري أوزان الكلمات في اللغات الأخرى، وأولها لغات النحت على التخصيص، فإن الكلمات فيها قد تجري على وزن واحد بغير دلالة على اتفاق في المعنى، ولا في تقسيم الأسماء، والأفعال والحروف، ولولا هذه المشابهة العرضيّة بين بعض كلماتها لكان فيها من الأوزان عداد ما فيها من الكلمات!» (¬1). ¬

_ (¬1) اللغة الشاعرة، ص 12. ويضيف العقاد: «إن كلمات: آن وبان وتان وثان وجان وذان وران وفان ومان» توجد في اللغة الإنجليزية اتفاقا ومنها الحروف والأفعال والأسماء،-

وتكفينا هذه الإشارات القليلة لإدراك طرف من أسباب وصف اللسان العربي- في القرآن الكريم- بأنه (مبين) وأسباب مقابلته في الوقت نفسه باللسان الأعجمي، الذي ينطبق على سائر الألسنة الأخرى؛ قال تعالى في سورة النحل: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) [الآية 103]. وقال في سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [الآيات 192 - 195]. كما تكفينا هذه الإشارات لمعرفة السبب الذي نزل القرآن الكريم من أجله بلغة العرب؛ فاللسان العربي المبين أو بوصفه لسانا مبينا، هو أوفر الألسنة التي وزّعها الله تعالى على الشعوب والأقوام حظا لينزل به كتاب الله تعالى المعجز بلفظه ومعناه جميعا؛ قال تعالى في سورة الأحقاف: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) [الآية 12]. واللغة الشاعرة بحروفها ومفرداتها وإعرابها ... إلخ هي أوفر لغات الأرض حظا لينزل بها هذا الكتاب الخالد ... والذي أراد الله سبحانه أن يفوق- بإعجازه وشاعرية لغته- الشعر في وجازته وتأثيره، ولحنه وموسيقاه! فالتعبير القرآني كما هو معلوم ليس فيه قافية الشعر الموحدة، ولا تفعيلاته التامة، ولكن القرآن الكريم قابل للتلاوة ترتيلا وتجويدا، وعلى النحو الذي يتسع للألحان والأوزان، ففاق بذلك الشعر، وكان نثرا من نوع فريد ... حتى كان قابلا للحفظ عن ظهر قلب خلال شهور، وربما خلال أسابيع، ولا يدانيه في ذلك أي خطبة بليغة من خطب فصحاء العرب، ولا أي نص من نصوص «النثر» الرفيعة في تاريخ الأدب العربي. ¬

_ فليس بين أوزانها ومعانيها ارتباط على الإطلاق كالارتباط القياسي الذي يوجد في أوزان اللغة العربية التي اطردت على قياس واحد».

ثانيا - العرب والقرآن:

فإذا أضفنا إلى ذلك- بهذه المناسبة- الإشارة إلى «النظم» القرآني المتفرّد، أو إلى بناء هذا النص الإلهي في جمله وآياته وسوره- أو ما يمكن تسميته بروحه التركيبية- جاز لنا أن نقول كذلك: إن من استقام لسانه بهذا الكتاب المعجز، استقام بأي نص من لغة العرب وآدابها في الجاهلية والإسلام، ولا عكس. وقد يكون التدليل على هذا الأمر بحاجة إلى دراسات نظرية وتطبيقية موسّعة. ولكن القدر الذي يمكننا الإشارة إليه في هذه العجالة: أن بلاغة هذه اللغة وشاعريتها الظاهرة في حروفها ومفرداتها وقواعدها وعباراتها- والتي تحدث عنها العقاد- تبلغ ذروتها أو درجتها «الإعجازية» في آدابها أو في جملها وتراكيبها في هذا الكتاب الكريم الخالد، فضلا عن الأثر البيّن للتلاوة والتجويد في تطويع الألسنة على بليغ القول وتنمية مهارات اللسان، والإمداد بثروة هائلة من العبارات والمعاني الدقيقة التي لا تقتصر على العالم دون الجاهل، ولا على الكبير دون الصغير. والله تعالى أعلم. ثانيا- العرب والقرآن: لقد نزل القرآن الكريم في العرب وبلغتهم، وبعث النبيّ العربي القرشي الهاشمي- صلوات الله وسلامه عليه- بين ظهرانيهم، وأطلّ العرب بهذا الكتاب الكريم على العالم رسالة إنسانية ورحمة للعالمين ... دورهم فيه دور التبليغ والهداية والجهاد، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، لا دور المدلّ بعصبية أو عنصرية، بل دور التكليف الأشد والجهاد الأفضل، لأن المزايا الإنسانية تكليف وأعباء لا متع وأزياء! قال الله تعالى في سورة الزخرف مخاطبا نبيّه الكريم عليه الصلاة والسلام: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) [الآيتان 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى- 43 - (أي خذ القرآن المنزل على قلبك فإنه هو الحق، وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم،

الموصل إلى جنات النعيم، والخير الدائم المقيم) وقال في معنى الآية الثانية- 44 - (أن القرآن شرف للنبيّ ولقومه ... من حيث إنه نزل بلغتهم، فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه) (¬1). قلت: إن الله تعالى لم ينوع بين الأمم والشعوب، ولم يميز بعضها عن بعض بميزات عقلية أو أدبية أو عملية إلا لتكمل البشرية بعضها بعضا لا ليفخر بعضها بذلك على بعض، لأن الفخر بمثل هذه الأمور الفطرية التي لا حيلة للإنسان في كسبها أو دفعها- كاللون أو الجنس- لا يعدو أن يكون طورا من أطوار الطفولة أو المراهقة، أو مرحلة من المراحل السابقة للرشد الإنساني! ولقد كان يجب على الإنسانية أن تتجاوز تلك المراحل من حين نزل قول الله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا [الحجرات: 13] لأن هذه الآية الكريمة تشير بعد ذلك إلى ميزان التفاضل الحقيقي، وأنه ينبع من الأعمال الكسبية، ومن الإرادة الحرة، والعزيمة النافذة، فيقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13]. أي إن ميزان التفاضل لا ينبع من تلك الخصائص التي امتاز بها شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، لأن ذلك التفاضل أريد به التأكيد على وحدة المجتمع الإنساني وتعارفه، لا تناكره واختلافه! ... كما أن لكل فضيلة ضريبتها أو تبعاتها وتكاليفها الخاصة بها، أو التي تتناسب مع حجمها وطبيعتها! قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل» (¬2). ونحن لا نشك في أن خلاصة الفضائل الإنسانية، أو مكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم بوصفه كتاب الإنسانية الأخير الذي نزل به الوحي الأمين ... ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، ص 128، دار المعرفة، لبنان. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد حسن. وابن ماجة والحاكم- وقال: على شرط مسلم- بزيادة: «لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر ... » إلخ الحديث بعد قوله: «ثم الصالحون». فيض القدير للمناوي: 1/ 519 - 520.

تمثل منها عند العرب في جزيرتهم، فطرة واستعدادا ما لم تملك مثله أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، أو قبيلة من القبائل. أقول: فطرة واستعدادا، تمييزا لهذه الأهلية من حيث الفطرة والاستعداد، عن واقع العرب وسلوكهم وممارساتهم في الجاهلية. فالعرب أصلح شعوب الأرض قاطبة لنزول القرآن فيهم وبلغتهم، وللنهوض بحمل أعباء رسالة الإسلام الإنسانية؛ فطرة واستعدادا، ومواهب وملكات، لا واقعا وسلوكا وممارسات ... في لحظة تاريخية غلبت عليها الحروب والمنازعات، أو سرت إليها بعض الأخطاء والنقائص في الاقتصاد والاجتماع وسائر شئون الحياة ... ومن هنا جاء قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير الناس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه» - رواه الإمام مسلم- وهذا أيضا ما دلّ عليه دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد- «اللهم أعزّ الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب» فإن الدعاء لأحدهما على هذا النحو يدل على إمكانية ترقي كل منهما، بناء على موهبته واستعداده، في المعارج التي ارتقى إليها عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يوم أسلم، والمكانة التي تبوأها في التاريخ الإسلامي والإنساني، في حين تورات مواهب عمرو بن هشام- أبي جهل- التي لم تكن بأقل من مواهب ابن الخطاب، وراء رمال الجزيرة، قتلتها العداوة، ودفنها الصلف والجحود! وإن شئت قلت: ضاعت تلك المواهب، أو تلك الفطرة وذلك الاستعداد ... حين لم تتصل بالإسلام، أو حين كفر صاحبها بمحمد والقرآن! وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في سياق حديثه عن الخصائص العقلية والبيانية، وسائر الخصائص الأخرى التي فضّل بها العرب ... إلى نحو هذا التفريق الذي قدمناه، فقال: «وسبب هذا الفضل- والله أعلم- ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم

وأخلاقهم وأعمالهم ... وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح. «والعلم له مبدأ: وهو قوة العقل الّذي هو الحفظ والفهم. وتمام: هو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني ... «وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق، وهي الغرائز المخلوقة في النفس، وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة. لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطّلة عن فعله. ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبيّ، ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة. إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب، وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم، أو من الحروب. «فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى، الذي ما جعل الله في الأرض، ولا يجعل منه أعظم قدرا، وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم، ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية، التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدي الله الذى أنزل على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدي العظيم بتلك الفطرة الجيدة، فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم، بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج، وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار، جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله» (¬1). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) تحقيق محمد حامد الفقي ص 160 - 162 المطبعة السلفية.

أشار ابن تيمية رحمه الله في هذا الكلام الناصع إلى مزية اللسان العربي على كل لسان- المسألة التي عرضنا لها في النقطة السابقة- كما أشار إلى مدى المواءمة والتوافق بين الكمال بالقوة أو الكامن في فطرة العرب، وكمال القرآن- والشريعة- الذي أنزله الله تعالى فيهم، أو بعبارة أخرى: مدى المواءمة والتوافق بين العرب ورسالة الإسلام. أو بين مواهب العرب وخصائص الإسلام. ونحن لا نشك في أن نزول القرآن ورسالة الإسلام في العرب، واختيار خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام منهم، كان بسبب ما تمتعوا به من الصفات النفسية والذهنية، وما عرفوا به من الفضائل الحميدة، والصفات الكريمة، كالصبر والصدق والكرم والشجاعة والأمانة وصلة الرحم والدفاع عن المظلوم والوفاء بالوعد ... إلخ فضلا عن تأثرهم الشديد بالكلام وما ينطوي عليه من أسباب البلاغة والبيان. وعلينا أن نلاحظ هنا، شرحا لهذه النقطة، وتعقيبا على تفريقنا المشار إليه بين المواهب والفطرة والاستعداد- أو الكمال بالقوة المخلوقة في العرب بحسب عبارة شيخ الإسلام- (والواقع) الذي كان عليه القوم عند بعثة النبيّ ونزول القرآن .. علينا أن نلاحظ أن جزءا كبيرا من هذا (الواقع) السّيّئ أو الفاسد إن لم يكن الجزء الأكبر والأهم، كانت دوافعه نبيلة، ومقاصده حسنة! وإنما لحقه الخطأ والفساد من اختيار الطرق والوسائل، أو من المغالاة التي قد توقع صاحبها في أسوأ مما كان يحذر؛ كوأد البنات خشية العار على سبيل المثال. ومن المعلوم أن من أسوأ أعمال العرب في الجاهلية: معاقرة الخمر، ولعب الميسر والقمار. وإنما حملهم على هاتين الخلّتين: الجود والكرم، والرحمة بالفقراء والمساكين. أما الخمر فقد أطنب الشعراء في مدحها لأنها تعلّم الخروج عن المال، وتعوّد على البذل والسخاء، وأما المسير فكان الفائز أو الرابح لا يأخذ من الإبل التي جرت عليها المقامرة شيئا! بل يجعل لحومها للفقراء والمساكين. وهذه هي المنافع التي

تعود على (الناس) من الخمر والميسر، والتي أشارت إليها الآية الكريمة، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ... [البقرة: 219]. وقد سمّى العلّامة الهندي عبد الحميد الفراهي- الملقّب بالمعلّم- أوضاع العرب الفاسدة التي كانوا عليها في الجاهلية «سيئات»، وذهب في تعليل دوافعها النبيلة، ومقاصدها الأخلاقية الحسنة، إلى حد القول: إن هذه السيئات نبعت من الخيرات، قال رحمه الله: «فإن العرب على علّاتها كانت على سذاجة الفطرة، وحب المعالي؛ من الجود وصلة الرحم، والغيرة، والشكر، لا سيما شرفاؤهم وخيارهم، حتى إن سيئاتهم نبعت من الخيرات، فمعاقرتهم للخمر ومقامرتهم للميسر، جاءت من الجود. وحروبهم: من أداء حق المقتول. والغضب: للقسط. وظلمهم: من إباء النفس عن الدنيّة، ولذلك رحموا الضعفاء والأرامل، ولم يقتلوا في الحروب الإماء ولا الأطفال، ولم يرهقوا المنهزمين. وإنما بقوا على الفقر وسوء العيش: لإبائهم عن الطاعة لملك يجمع أمرهم، إلا من لا يتكبر عليهم، ويعدل بينهم، ويكون كأحدهم؛ كما كان الشيخان- في الإسلام- وذوو أمرهم في الجاهلية. فأملكهم وأقهرهم: أعدلهم! كما كان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، فلم يرد إلّا أن يقهرهم بكمال عدله» (¬1). وقبل أن نختم هذه الفقرة، نشير إلى ما قاله النبيّ الكريم نفسه- صلوات الله وسلامه عليه- في أخلاق العرب في الجاهلية .. فقد جاء في حديث مطوّل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعلي، مرّ حين كان يعرض نفسه على القبائل في ¬

_ (¬1) نقلا عن الأخ الزميل الدكتور: أحمد حسن فرحات: مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، التي تصدرها جامعة الكويت، ص 11 السنة السادسة، العدد الثالث عشر، رمضان 1409 هـ.

موسم الحجّ «على بني شيبان بن ثعلبة في مجلس عليهم السكينة والوقار» فتقدم أبو بكر فسلّم، قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير. وعرّفهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مفروق- وهو من سادتهم-: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وإلى أن تؤوني وتنصروني .. وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:* قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) [سورة الأنعام، الآية 151]. فقال مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [سورة النحل، الآية 90]. فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والله لقد أفك قوم كذّبوك وظاهروا عليك ... وقال هانئ بن قبيصة- وهو صاحب دينهم-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنّي أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلّة في الرأي، وقلّة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة من العجلة! ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر ... وقال المثنى بن حارثة- وهو صاحب حربهم-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ... وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى- وقد نزلوا بين أنهاره ومياه العرب- أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعوننا إليه مما تكرهه الملوك! فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا ...

«فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الردّ إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ... » الحديث. «ثم نهض النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد أبي بكر، فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم» (¬1). قلت: والناظر في هذا الحديث، أو هذا الحوار بنصّه في كتب السيرة- وقد طوينا بعض جوانبه المطوّلة- لا يصعب عليه أن يهتدي إلى ما كان عليه أمر القوم، أو هذا الحي من أحياء العرب من نظام وشورى، وإنزال الناس منازلهم ومعرفة لكل ذي حق واختصاص حقّه وقدره، إلى جانب ما تمتعوا به من أدب وحسن استقبال، وأناة وبصر بالسياسة وعواقب الأمور، وحفظ للمواثيق والعهود ... فوق ما عرفوا به جميعا من الشجاعة ونصرة المظلوم، وما انطوى عليه لسانهم من بلاغة وبيان، وقدرة فائقة على الخلوص وحسن التعبير! ... خلاصة وتعقيب: وأخيرا: فإن الخلاصة التي يمكن أن ننتهي إليها من خلال هذا العرض الموجز للنقطتين السالفتين: أن هذا الاختيار الإلهي للعرب- قوما ولسانا- لينزل القرآن الكريم بلغتهم، وليكلّفوا بحمل أعباء رسالته إلى العالمين ... يتساوق أو ينسجم تماما مع الطابع الإنساني، العام والخالد، لهذه الرسالة. بل إن هذا ¬

_ (¬1) الروض الأنف للفقيه المحدّث أبي القاسم السهيلي 2/ 181 - 182 طبعة الإمبابي بمصر 1972. وانظر الطبعة الأخرى بتحقيق عبد الرحمن الوكيل 4/ 61. والحديث أخرجه الحاكم وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر الزرقاني في شرحه على المواهب 1/ 309.

الاختيار في الواقع يومئ إلى هذا الطابع الإنساني- لا القومي- ويدل عليه! لأننا حين أنعمنا النظر في لغة العرب وجدنا أنفسنا أمام لغة إنسانية، كما وصفها العقاد بحق. وحين نظرنا في جماع الفضائل الإنسانية التي جاء بها القرآن، من جهة. وحقيقة البواعث الأخلاقية وجملة الملكات والخصائص النفسية والعقلية .. التي تؤهل أصحابها للنهوض بتبعات التكليف بأحكام الإسلام على نحو شامل ومتوازن، من جهة أخرى، وجدنا أنفسنا أمام جيل العرب كذلك ... والله أعلم حيث يجعل رسالته.

الفصل الثاني أثر القرآن الكريم في اللغة العربية

الفصل الثاني أثر القرآن الكريم في اللغة العربية يبدو وهذا الأثر من وجهتين: تاريخية، وموضوعية. أولا- أثره من الوجهة التاريخية: يمكن تلخيص هذا الأثر الذي تركه القرآن الكريم في اللغة العربية- من هذه الوجهة- بأنه كان لها قوة دافعة، من جهة. وقوة واقية أو حامية، من جهة أخرى. (أ) القوة الدافعة: ونعني بالقوة الدافعة: أن القرآن الكريم كان لهذه اللغة قوة هائلة دفعت بها خارج حدودها، أو خارج نطاق الجزيرة العربية، فقد عرّب القرآن العراق والشام، ومصر وسائر بلاد إفريقية الشمالية، مع حركة الفتح العربي الإسلامي، أو مع المدّ الإسلامي الأول زمن الخلفاء الراشدين، وملوك بني أمية. يقول شيخ الباحثين في قضايا العروبة والقومية: إنه يجب «أن لا يغرب عن البال أن العرب قبل الإسلام كانوا قليلين، كما أن مواطنهم كانت محدودة نسبيا، فإن البلاد التي تستحق النعت بالعربية كانت منحصرة في الجزيرة العربية، وبحافات بعض البلاد المجاورة لها، وأما حدود العروبة إلى سائر أنحاء العالم العربي الحالي، فقد تم بفضل الفتوحات العربية التي سارت تحت راية الإسلام.

فإن معظم أقسام العراق والشام، وجميع أنحاء إفريقية الشمالية- من مصر والسودان إلى المغرب الأقصى- كانت غير عربية، ولم تستعرب إلا بعد الإسلام». وليس معنى ذلك أن العرب بقوا منطوين على أنفسهم في جزيرتهم على كرّ الأزمان، بل إنهم كانوا ينزحون من الجزيرة إلى تلك البلاد المجاورة، إلا أن قبائلهم التي نزحت قبل حمل رسالة القرآن «كانت تفقد صلاتها مع موطنها الأصلي، وتتعرض إلى سلسلة من الأحداث والتطورات التي تنسيها ماضيها، وتؤدي إلى اندماجها بسكان البلاد التي تستوطنها». ويضيف ساطع الحصري- صاحب الاتجاه العلماني المعروف- قائلا: «ولكن الموجة البشرية التي تدفقت من الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام، (قلت: أو التي رفعت راية الإسلام، ومشت في ركاب الفتح الإسلامي، للهداية والتحرير) قد امتازت عن سابقاتها من هذه الوجوه امتيازا هاما جدا، إنها لم تفقد صلتها بمنبعها الأصلي، بل ظلت وثيقة الاتصال به من الوجهتين المادية والمعنوية، وفضلا عن ذلك: استطاعت أن تنشر لغتها في مواطنها الجديدة، وانتهت إلى تعريب سكان أقطار واسعة من البلاد المفتوحة تعريبا تاما» (¬1). هذا هو دور القوة الدافعة الذي تم بفضل القرآن الكريم، والذي يمكن تلخيصه بنشر اللغة العربية وتوسيع آفاقها. يضاف إلى ذلك أن القرآن الكريم ترك أثرا واضحا في لغات الشعوب الإسلامية التي آمنت بالقرآن، ولكن لم يكتب لها أن يتعرب لسانها، كالفارسية والتركية. وأثرا آخر أكثر وضوحا في اللغات التي شاركت لغة القرآن في صنعها بين ¬

_ (¬1) ساطع الحصري: ما هي القومية؟ ص 206 الطبعة الثانية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1985 م.

- حول تخلف حركة التعريب عن انتشار الإسلام:

ظهرانيهم، كالأوردية على سبيل المثال. بالإضافة إلى إصابة هذه الشعوب جميعا قدرا لا بد منه من اللغة العربية، وهو القدر الذي تقيم به بعض سور القرآن الكريم لأداء الصلاة والعبادة وبعض القراءات والأحكام الدينية الأخرى. وإن من أهم الأمور التي يجب اعتبارها في هذا الموطن أن القرآن الكريم قد تعبّد المسلمون بتلاوته وألفاظه وحروفه. لأن التحدي- كما سنرى في تعريف القرآن- قد وقع بلفظه ومعناه، ولهذا لم يكن القارئ لترجمته قارئا للقرآن، وعلى هذا: لا يترتب على تلاوته هذه أي أثر من آثار الثواب الذي وعد به النبيّ صلى الله عليه وسلم قارئ القرآن، وهو أن له بكل حرف عشر حسنات- كما جاء في الحديث- قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬1) ومعنى ذلك أننا نملك معادلتين اثنتين، تنص الأولى على ثواب قارئ القرآن وتحض المسلمين- كل المسلمين- على تلاوته وتدبره. وتنص الثانية على أن الترجمة لا تعتبر قرآنا، كما أجمع على ذلك العلماء في جميع العصور. وبهذا يغدو التعريب بالقرآن وتحت رايته جزءا لا يتجزأ من رسالة الإسلام. - حول تخلف حركة التعريب عن انتشار الإسلام: إن لتخلف حركة التعريب عن انتشار الإسلام في بعض المواطن أسبابا تاريخية وموضوعية لا مجال هنا للإفاضة في الحديث عنها، ولكن في وسعنا أن نشير إلى أن انتشار الإسلام الذي تم في جزائر الهند الشرقية ووصل إلى أقاصي أندونيسيا قد تم بجهود أفراد من التجار الذين كانوا يرحلون من جنوب الجزيرة العربية بحرا بالسفن الشراعية، وإن هؤلاء مع بعض الدعاة القلائل كانوا قادرين على دعوة الناس إلى الإسلام بعملهم وقولهم، ولكنهم لم يكونوا يملكون القدرة على تحويل الناس عن لغة معاملتهم وخطابهم ... هذا بالإضافة إلى ما تم في هذه ¬

_ (¬1) رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه.

البلاد- مثلا- من تعريب شامل في معاهد العلم الديني والدراسات الإسلامية بعد ذلك. وقل مثل ذلك أو قريبا منه في انتشار الإسلام في إفريقية جنوب الصحراء. كما أن انتشار الإسلام في بعض المراحل تم على أيدي المغول وعلى أيدي السلجوقيين والعثمانيين، بعيد حملهم لرسالة القرآن، وقبل أن يتعلموا هم لسانه العربي المبين! أما البلاد التي دخلها القرآن في زمن الفتوح الأولى، فإن اللغة العربية لم تنحسر عنها، والمثال الرئيسي هنا هو بلاد فارس، إلا بعد بضعة قرون على التحقيق، وبعد الحركات الشعوبية والانفصالية التي قادها حكام طامحون وقاوموا في تيارها ما يستطيعون مقاومته من عوامل الاستعراب ... على أن التعبير هنا بالانحسار لا يبدو أنه تعبير دقيق، فإن هذا لم يتم في أي عصر من العصور. يقول الدكتور طه حسين: «وما كاد العرب بعد الفتوح يدخلون في بلاد فارس ويستقرون فيها حتى تعلم الفرس هذه اللغة الجديدة، وغلبت على ألسنة كثير منهم وأقلامهم، وما أكثر الفرس الذين شاركوا في إنشاء علوم اللغة العربية وتدوينها، وما أكثر الفرس الذين استأثروا ببعض هذه العلوم حتى أصبحوا كأنهم أصحابها، وكلنا يعلم أيضا استئثار الفرس بتدوين علوم البلاغة العربية». ويضيف الدكتور طه: «ومع أن الفرس قد أحبوا لغتهم الفارسية ونظموا فيها الشعر منذ أواسط القرن الرابع للهجرة فقد ظلت اللغة العربية لغة العلم والفلسفة عندهم إلى أواخر القرون الوسطى (!!) وانظر إلى كتب ابن سينا والتفتازاني والسيد الجرجاني والطوسي وغيرهم. وكل هذا بفضل القرآن الكريم، فبفضله انتشر الإسلام» (¬1). ¬

_ (¬1) من المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين رحمه الله لكتاب: القرآن الكريم واللغة العربية، للشيخ أحمد حسن الباقوري. طبع دار المعارف.

ولا يحسن إنهاء هذا الحديث الموجز عن القوة الدافعة التي أصابتها اللغة العربية بفضل القرآن الكريم، قبل الإشارة إلى أنه لا يصح تفسير هذا المد الهائل الذي أصابته اللغة العربية بغير عوامل جلال القرآن ورسالته، وعامل حب هذه اللغة وتفضيلها على اللغات المحلية الخاصة السابقة لدخول أصحابها في الإسلام، ولهذا فإن من فساد الرأي ما ذهب إليه بعض المغرضين من أن اللغة العربية اعتمدت في انتشارها على السلطة الحاكمة، أو السلطة الغازية، لأن هذه المنطقة غزيت قبل الإسلام وأيّدت لغة الغازي بالسلطة السياسية، لكن الشعوب المغلوبة رفضتها متشبثة بتراثها ولغتها، وبقيت متشبثة بها حتى دخول الإسلام، ثم تم هذا التخلّي بعد ذلك في ظل القرآن، وغير بعيد في الوقت نفسه عن قوانين علم الاجتماع، تقول الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن: «ولم يكن موقف الشعوب من لغة القرآن أن فرّطت في ألسنتها فجأة، أو أكرهت على التخلي عنها بحد السيف، كما ذهب المؤرخ (فيليب حتى) في تاريخه الكبير، ولا صدرت قوانين ملزمة به من الدولة، وإنما مر الصراع اللغوي في مراحله الطبيعية التي تحكمها سنن الاجتماع، فبدأ بمرحلة عزلة تفاوتت بين قطر وآخر باختلاف طبيعة الإقليم قربا وبعدا، وميراثه الفكري والحضاري ومسلكه الصوتي واللغوي ... » ثم تقرر أن هذه «المرحلة اللغوية لم تطل، والقرآن الكريم هناك يفتح للعربية قلوب من أسلموا» (¬1). وتقول في التعقيب على انتصار العربية على اللغات الأجنبية المفروضة على المنطقة- الرومانية واليونانية والفارسية والبيزنطية- ثم في مواجهتها للّغات الوطنية: «وكان من المتصور أن تجمع هذه الشعوب بين العربية لغة دين، وبين لغاتها القومية التي صانتها طويلا ضد الغزو، لغة حياة، ولكن لم يمض جيل أو جيلان ¬

_ (¬1) كتاب: لغتنا والحياة، للدكتورة بنت الشاطئ.

(ب) القوة الواقية:

حتى كانت العربية اللسان المشترك لشعوب أمة واحدة، هجرت إليها ألسنتها القومية دون أن يجبرها أحد على ذلك، كما لم يكرهها مكره على أن تتخلى عن عقائدها وأديانها لتعتنق الإسلام، بل تركت لغة العرب تخوض معركتها مع لغات الشعوب الداخلة في الإسلام» (¬1). (ب) القوة الواقية: أما «القوة الواقية» أو دور حفظ اللغة العربية وتحصينها، الذي تم بفضل «وجود» القرآن الكريم فهو أخطر دور يمكن أن يؤديه كتاب للغة من اللغات، هذا إن وجد كتاب آخر- سماوي أو وضعي- أدّى قريبا من مثل هذا الدور أو عشره في لغة من لغات الأرض! وغني عن البيان أن مثل هذا الكتاب- أيا كان مصدره- ليس له وجود. لقد وقف القرآن، وخصوصا في الزمن الذي انقسمت فيه الدولة العربية الإسلامية إلى مدن ودويلات، حائلا وسدا دون سريان اللهجات المحلية وانتشارها، ولولا هذا الكتاب الكريم الذي صانه الله تعالى عن التحريف والتبديل، وتكفّل بحفظه إلى يوم الدين، لما كان نصيب اللغة العربية من التجزؤ والانقسام بأقل منه في اللغة اللاتينية وما آلت إليه اليوم ... وبفضل هذا الكتاب الخالد بقيت الوحدة اللسانية- والفكرية- قائمة بين شعوب الأقطار العربية، وبفضله كذلك نقرأ اليوم أدب العربية من عصر الجاهلية إلى العصر الحديث ... في مدة ستة عشر قرنا من الزمان! (¬2). ¬

_ (¬1) لغتنا والحياة .. (¬2) هذا هو منشأ هذه الظاهرة الفريدة، بل لو قدر الله تعالى لرجل مات من ألف عام أن يسمع اليوم المتحدثين بالعربية لعرفها وما أنكرها. وربما علل بعضهم ما أشرنا إليه من عدم تعرّض العربية لخطر التفكك والانحلال بأن ذلك يعود إلى عناية علماء الإسلام بضبط لغتهم، وذلك من أجل المحافظة على القرآن الكريم. وهذا عندنا وارد بدون شك ولا-

يقول ساطع الحصري: «ومما يجب أن لا يغرب عن البال أن اللغة العربية، بعد أن أصبحت لغة الجميع في هذه البلاد الشاسعة (المشار إليها في الفقرة السابقة) تعرضت إلى محن خطيرة، مدة قرون طويلة، بسبب ما طرأ على العالم العربي من التفكك السياسي، والجمود الفكري والاجتماعي، والانحطاط الثقافي، لأن كل ذلك كان من شأنه أن يؤدي إلى انحلال الروابط المادية والمعنوية بين مختلف الأقطار العربية، ويفسح مجالا واسعا لتغلب العامية، ويطلق العنان للهجات المحلية. ولذلك أصبحت اللغة العربية معرضة لخطر التفكك التام، والتفرع إلى لغات عديدة يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا، لا يترك مجالا لتفاهم المتكلمين بها ... وذلك مثلما حدث للغة اللاتينية» (¬1). ثم يقول: «ولكن القرآن وقف سدا منيعا أمام هذه الأخطار الجسيمة، وحال دون استشراء هذا التفكك، وذلك لكونه عربيا، ولكون الديانة الإسلامية تفرض على جميع المسلمين والمسلمات حفظ طائفة من آياته، وتلاوتها كل يوم عدة مرات خلال الصلوات». ونستطيع أن نقول في التعقيب على هذا الموضوع- بكلمة عابرة-: إن الدعوات المشبوهة إلى العامية- التي أرّخت لها بدقة الدكتورة نفوسة زكريا في كتابها: تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر (¬2) - سيكون نصيبها الفشل المحقق، لا نقول هذا رجما بالغيب، ولكن بالنظر إلى التاريخ الذي تحدثنا عنه ¬

_ يعارض ما قدمناه، ولكن ذلك الضبط لم يكن في وسعه حماية اللغة العربية من تلك الأخطار لولا وجود القرآن الكريم نفسه. ومعنى ذلك أن القرآن الكريم كان «باعثا» على ذلك الضبط، و «حافظا» لهذه اللغة. (¬1) ما هي القومية؟ ص 207 ويضيف الحصري: «وغني عن البيان أنه لو حدث ذلك، لأدّى حتما إلى انشطار الأمة العربية إلى أمم مختلفة، ولما بقي على البسيطة شيء يستحق التسمية باسم القومية العربية». (¬2) طبع منشأة المعارف بالإسكندرية.

قبل قليل، والذي أثبت استعصاء اللغة العربية الفصيحة على الاضمحلال والتفكك والزوال، ما دام القرآن موجودا يعلن خلود لغته خلوده،، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)، وصدق الله العظيم. إن التكفل الإلهي بحفظ القرآن الكريم- بوصف الإسلام الدين الخاتم إلى يوم الدين- يتضمن تلقائيا، أو في طياته تكفلا بحفظ اللغة العربية من التحلل والتفكك والزوال ... فبقاء القرآن يعني بقاء لغته الشريفة! أن اللغة العربية لن يأتي عليها زمان- من وقت نزول القرآن إلى يوم الدين- تصبح فيه لغة ميتة أو تاريخية ... أو بحيث يصبح فهمها والتعامل معها- فضلا عن استخدامها- لا يقوى عليه إلا الخاصة، أو يحتاج إلى ترجمان! ولسوف تبقى العربية مع ذلك التكفل الإلهي لسان الملايين ... وبخاصة إذا تذكرنا أيضا قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [سورة القمر، الآية 17]. وعلى الرغم من اعتقادنا الجازم بأن مسألة انتصار اللغة العربية الفصيحة على سائر اللهجات و «العاميّات» في البلاد العربية، مسألة محسومة، ولا تحتاج منا إلى جهد يذكر! فإننا ننظر إلى دعوة بعضهم- اليوم وبعد الاستعمار اللغوي الثقافي الطويل في الجزائر وغيرها- إلى الكتابة بالعامية- كسعيد عقل ولويس عوض وضربائهما- على أنها دعوات مشبوهة، هدفها الأخير قطع الأمة العربية الإسلامية عن ماضيها وتراثها وتاريخها، لتبدأ- على زعمهم- من الصفر، ولتتمزّق من ثم إلى شعوب متباينة وأمم شتى! وكأن أصحاب هذه الدعوى- بالنظر إلى ما قدمناه من فضل القرآن الكريم ويده الطولى على العربية، بل ما منحه إياها من الشرف والرفعة والسموّ والقداسة- إن صح التعبير- يقومون بحركة التفاف وتطويق حول القرآن الكريم نفسه، وحول الثقافة العربية والفكر الإسلامي على وجه العموم؛ علّهم ينجحون حيث أخفق الكثير من محترفي الاستشراق والتبشير: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [سورة الأنفال، الآية 30].

ثانيا - الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية:

ثانيا- الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية: أما الأثر الخاص أو الموضوعي الذي تركه القرآن الكريم في اللغة العربية، فأكبر من أن تتسع له هذه الصفحات أو المقدمات. وبحسبنا أن نشير إلى ما نقله السيوطي في التدليل على أن القرآن الكريم كان السبب المباشر في نشأة معظم علوم العربية والعلوم الإسلامية، وكيف أن العلماء تفرغوا على خدمته والعناية به في علوم كثيرة أنشئوها لذلك ... وما زالت هذه العلوم تنمو وتتفرع حتى قامت على سوقها في القرن الرابع الهجري الذي يعتبر أزهى عصور التأليف في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. وربما كان موضوع العلوم التي نشأت راجعة إلى القرآن الكريم، أو نشأت في سبيل خدمته وتيسير فهمه أدخل في الأثر التاريخي السابق، أو أدخل في باب الثقافة التي سنتحدث عنها في فقرة ثالثة. ولكننا على كل حال نذكّر هنا بالآثار الموضوعية- المباشرة والمحدودة- التالية: 1 - توحد لهجات العرب: كان للعرب قبل نزول القرآن الكريم لهجات كثيرة متباينة تربو على العشرين (¬1) - منها الرديء المستنكر؛ ومنها الفصيح المقبول- نتيجة لاختلاف الأقاليم وظروف الحياة البدوية والحضرية ونحو ذلك، ¬

_ (¬1) انظر الكتيب الخاص بهذه اللهجات بعنوان «لهجات العرب» للعلامة المحقق أحمد تيمور باشا رحمه الله. المكتبة الثقافية بمصر، العدد 290. وقد عدّ من هذه اللهجات: القطعة: كقوله يا بلحكم، بدل: يا أبا الحكم- فيقطع كلامه-. وهي لثغة في بني طيّئ. والعجعجة: إبدال الياء- جميعا- جيما في الوقف، نحو تميمج- في تميمي. وهي في قضاعة وناس من بني سعد. والعنعنة: إبدال العين من الهمزة. وتنسب إلى تميم، قال ذو الرمة: أعن ترسمت من خرقاء منزلة. أراد: أأن. والكشكشة: إبدال الشين من كاف الخطاب. والتلتلة: كسر أول حرف المضارعة. والطمطمانية: ما يشبه كلام العجم، والطمطمة: إبدال اللام ميما. والتضجع: إمالة الحرف إلى الكسر. والفحفحة: جعل الحاء عينا ... إلخ.

ولكنها على ذلك متقاربة في أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، ولم تكن المغايرة بينها تخرجها- على كل حال- عن اعتبارها في الأصل لغة واحدة ذات قوانين تطرد في جميعها، ما عدا لغة حمير فإنها تخالف لغة مضر خلافا ظاهرا، ولا توافقها في أكثر أوضاعها ومقاييسها (¬1). وإلى جانب هذا الاختلاف من حيث هيئة النطق وما إليه مما يسمى باللهجة؛ فقد كان هنالك اختلاف لغوي آخر من حيث معاني الكلمات، على نحو ما ذكر السيوطي في كتابه «المزهر» وأكده ببعض القصص، على بعد بعضها وغرابته!! وعلى أية حال فقد قضى القرآن الكريم حين نزل بلغة قريش على هذا التناكر والاختلاف، وجمع العرب على هذه اللهجة- أو اللغة- على المدى البعيد، وقد قيل في لغة قريش: إنها كانت أفصح اللغات وأعذبها لأنها صقلت بحياة الحضر، وبكثرة الاختلاط بالقبائل العربية، نظرا لمكانة قريش الدينية والتجارية في جزيرة العرب، وقد كانت هذه اللغة يومئذ أوسع اللغات انتشارا في الجزيرة، وكان الناس يقبلون عليها ويستريحون إليها أكثر من غيرها. ويوجز الشيخ العلامة محمد الخضر حسين أسباب تفضيل لغة قريش عن سائر لغات العرب، واعتبارها أفصح هذه اللغات، بوجهين: أحدهما: بعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ولهذا لم يحتجّ أهل الصناعة العربية إلا بلسانهم أو ما كان قريبا منه، ولم يعتمدوا لغات القبائل التي ¬

_ (¬1) اللغة العربية (لغة مضر أو عرب الشمال في نجد) هي إحدى اللغات الأعرابية التي يقال لها خطأ: «اللغات السامية». وإذا نظرنا في تمام القاموس العربي وفي كمال الصرف والنحو، وجب أن نعدّ اللغة العربية أمّا للغات الأعرابية جمعاء. وهذه اللغات هي: العربية والحميرية والعبرية والآرامية والبابلية وأخواتها. وسماها الدكتور فروخ أعرابية، لأنها كلها نشأت في شبه جزيرة العرب. راجع كتاب: عبقرية اللغة العربية للأستاذ الدكتور عمر فروخ رحمه الله، ص 7 دار الكتاب العربي- لبنان 1981.

تجاور غيرها من الأمم، كلغة لخم وجذام وقضاعة وغسان، ولم يخالفهم في شرطهم هذا إلا أبو عبد الله بن مالك، فنقل في كتبه لغة لخم وقضاعة وغيرهم ممن يسكن أطراف الحجاز. ثانيهما: أن العرب كانوا يفدون عليهم في موسم الحج ويقيمون عندهم قريبا من خمسين يوما، فيتخيرون من لغات أولئك الوفود ما تعادلت حروفه وخف وقعه على الأسماع، ويرفضون كل ما يثقل على الذوق ولا يجد في السمع مساغا (¬1). فإذا ذكرنا الجامعة التي أقامها القرآن للعرب، وتوحيدهم الذي تم على يديه، ذكرنا فضله في الذهاب بالجانب الأعظم من تناكر اللغات واختلاف اللهجات، وهم يقرءونه بلغة قريش في الاعتبار الأول. 2 - أثر القرآن في ألفاظ العربية ومعانيها: أما التأثير الذي أحدثه القرآن في ألفاظ العربية ومعانيها فهو تأثير هائل، أو هو ثورة كبرى في الواقع. وهذا الموضوع جدير بأن يفرد ببحث جاد دقيق، وبحسبنا في هذا التقديم السريع أن نقول: إذا كانت اللغة صورة لحياة الأمة وبيئتها ومعارفها، ووعاء لأفكارها وثقافتها؛ فإن تأثير القرآن الكريم في كل ذلك بالنسبة للعرب كان هائلا ... لقد تأثرت ألفاظ اللغة العربية تأثرا مباشرا من حيث تهذيبها وترقيق حواشيها- والقرآن ينقل العرب من حال إلى حال، من البداوة إلى الحضارة، ومن الجزيرة إلى الأمصار- ومن حيث هذا الحشد من الألفاظ المشتركة والاصطلاحية والألفاظ الإسلامية الجديدة. أما الألفاظ الاصطلاحية فيراد بها تلك التي خرجت عن دلالتها الأولى إلى الدلالة عن معان جديدة- اصطلاحية- لم تكن معروفة وموجودة عند العرب، فقد اقتضى القرآن- فوق الحياة الجديدة ونظام الدولة وما يتصل بذلك- علوما ¬

_ (¬1) دراسات في العربية وتاريخها ص 128 طبع دار الفتح بدمشق.

شرعية ولغوية وكلامية وطبيعية ... وفي كل علم مصطلحاته وتعريفاته ... حتى لقد قام بعض المصنّفين بوضع معاجم خاصة لتلك المصطلحات العلمية مثل كتاب «التعريفات» للجرجاني و «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي ... قال ابن فارس: «كان العرب في جاهليتهم على إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر، بزيادات زيدت، وشرائع شرعت، وشرائط شرطت، فعفّى الآخر الأول، وشغل القوم- بعد المغاورات والتجارب وتطلّب الأرباح والكدح للمعاش في رحلة الشتاء والصيف، وبعد الإغرام بالصيد والمعاقرة والمياسرة- بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبالتفقه في دين الله عزّ وجلّ، وحفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام. فصار الذي نشأ عليه آباؤهم ونشئوا عليه كأن لم يكن! وحتى تكلموا في دقائق الفقه وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة وتأويل الوحي بما دوّن وحفظ حتى الآن». وبعد أن ذكر ابن فارس طائفة من العلوم الشرعية ومصطلحاتها التي جدت على لغة العرب، قال: «فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عما ألفوه ونشئوا عليه وغذوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه». ثم عرض لبعض التعريفات أو الألفاظ الإسلامية التي جاءت على وفق المعاني اللغوية، وما أضافته إليها وقيدته، وقال: «فالوجه في هذا إذا سئل الإنسان عنه أن يقول: في الصلاة اسمان لغوي وشرعي، ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاء الإسلام به. وهو قياس ما تركنا ذكره من سائر العلوم ... » (¬1). ¬

_ (¬1) الصاحبي 44 - 47 المكتبة السلفية 1910.

قلت: هذا كلام قيم، وإن كان الأمر أبعد من مسألة الاصطلاحات والتعريفات، لأنه ينطلق من أن القرآن الكريم كان المحور الذي نشأت حوله جميع معارف العرب التي جدّت في حياتهم بعد الإسلام، حتى صح لنا ما أشرنا إليه في مناسبة سابقة من أن القرآن الكريم يشكل المصدر الأول للثقافة العربية الإسلامية- وملاذها الأخير- هذه الثقافة الغنية الواسعة التي اشتملت على علوم القرآن والحديث، والأدب واللغة والسيرة والفلسفة والفقه والأصول ... والتي اتسعت لها لغة العرب بعد نزول القرآن الكريم. ولعل هذا يختصر علينا طريق المتابعة في الأغراض والمعاني التي تركها القرآن في اللغة العربية؛ لأن الألفاظ في الواقع ليست أكثر من وعاء للمعاني والأغراض الجديدة، ولكن كما أثّر القرآن في معاني اللغة من حيث ما جاء به من اشتراع جديد، كان له أثر في ظهور معان جديدة. «فقد تناول أيضا معانيهم التي كانوا يتعاورونها بينهم فتصرّف فيها وهذّبها، وزاد بها أو نقص منها ووضعها مواضع تناسبها، بحيث أصبحت تلائم كل الأذواق في كل العصور، بعد أن كان فيها ما لا يسمح لها بالبقاء إلا في عصر جاهليّ له ذوق خاص». هذا وقد تأثرت معاني اللغة العربية أيضا من خروجها الجديد إلى الممالك المتحضرة تنتزع منها معاني وأخيلة هي وليدة الحضارة وربيبة المدنية، بل هي تراث أمم مختلفة ونتاج لغات متعددة. وقد لخص العلّامة الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله- تأثير الإسلام في اللغة العربية- من هذه الجهة- بقوله: «طلع الإسلام على العرب وفي هدايته من المعاني ما لم يكونوا يعلمون، بل في هدايته ما لم تف اللغة يومئذ بالدلالة عليه، فعبر عن هذه المعاني بألفاظ ازدادت بها اللغة نماء.

«ومن الجليّ أن القرآن الكريم والحديث النبويّ قد سلكا في البلاغة مذاهب ينقطع دونها كل بليغ. ثم إن فتح الممالك الكبيرة كبلاد الفرس والروم زاد مجال اللغة بسطة بما نقل إليها من المعاني العلمية أو المدنية». ثم قال: «ففضل الإسلام على اللغة العربية يظهر في غزارة مادتها، وبراعة أساليبها، واتساع مذاهب بيانها، وكثرة الأغراض التي يتسابق إليها فرسان الخطابة والكتابة» (¬1). ¬

_ (¬1) دراسات في العربية وتاريخها، مصدر سابق.

الفصل الثالث أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية

الفصل الثالث أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية وإتماما لموضوع القرآن الكريم واللغة العربية، نعرض هنا بإشارة عابرة إلى «الواقع» الحضاري- والثقافي- الذي أحدثه القرآن الكريم واتسعت له لغة العرب على نحو مثير للدهشة والإعجاب؛ لأننا نخشى أن يفهم من حديثنا السابق أن اللغة العربية تغيرت مع الثقافة الإسلامية أو الثقافة التي جاء بها القرآن الكريم بإضافة- أو حذف- كلمات تناسب الكلمات التي أدخلت أو أهملت ... وأن الأمر وقف عند هذا الحد! ولو كان الأمر كذلك لما كانت اللغة أكثر من «قاموس» بأسماء الأشياء!! ولكن الواقع غير ذلك: «فاللغة هي عبارة عن نظام من الرموز ذات المعنى تعبر عن التنظيم الكامل لحياة وتفكير حضارة من الحضارات» (¬1) وإذا كانت «الثقافة» تتضمن أكثر من اللغة، كالتقاليد والمؤسسات والقوانين والآداب والفنون، والمهن والمهارات وكل ما صنعه الإنسان، فإن اللغة تحتل من بين جميع هذه المظاهر مكانا فريدا بوصفها «مرآة الثقافة كلها» لأن كل ما يصنعه الإنسان يحمل اسما، فقوانينه ومؤسساته ودياناته لها تعبيراتها اللفظية، والأشياء التي تكون في الطبيعة تظهر أيضا في اللغة، ولكن من وجهة نظر ثقافة معينة على الدوام. ولهذا فإن اللغات لا تختلف فقط في الكلمات التي تعبر عن معان مشتركة، ولكنها ¬

_ (¬1) فيليب هـ. فينكس: فلسفة التربية، ترجمة الدكتور لبيب النجيحي ص 649 دار النهضة العربية- القاهرة 1965.

تختلف أساسا في الطرق المختلفة للتفكير، أو في مجموعة المعاني التي يعبر عنها خلال اللغة، فلكل ثقافة مفاهيمها الخاصة بالحياة والعالم، وتنعكس هذه المفاهيم على طبيعة لغتها. يقول الأستاذ العلّامة فيليب هـ. فينكس: «ومن خلال اللغة يسهم الفرد في المعاني الحيوية للثقافة. والسبب الأساسي لتعلم اللغات الأجنبية أن يستطيع الفرد فهم الثقافات التي تمثلها هذه اللغات فهما حقيقيا ومن الداخل. فدراسة اللغة اللاتينية لا تستهدف تدريب العقل ولا مساعدة الفرد على فهم أفضل للّغة الإنكليزية فحسب ... ولكن الهدف الأساسي من هذه الدراسة أن تقدم للفرد معنى الحضارة الرومانية، ذلك الكلّ المعقد الغريب من التقاليد والقوانين والمفاهيم التي أتاحت لقرون عديدة بعض الأساس للأمن والوحدة لشعوب عديدة يائسة. ودراسة اللغة اليونانية القديمة تربط الفرد ربطا وثيقا بحضارة تقوم على تأمل فلسفي عميق، وتتميز بالمسرحية والتاريخ، وبديمقراطية سياسية ذاتية، وبخلق فني جبار ... إلخ» (¬1). والذي نود تقريره هنا: هو القول بأن دراسة اللغة العربية تقدم للفرد معنى الحضارة الإسلامية، وتربطنا ربطا وثيقا بهذه الحضارة التي تقوم على مبدأ الإيمان العميق بالإله الواحد جل وعلا، وتنبني على قواعد من التوازن والشمول والإيجابية، وتدور على مبررات إنسانية قوامها روح المساواة بين الأفراد وبين الأمم والشعوب. فإذا علمنا أن هذه المبررات وتلك القواعد إنما جاء بها القرآن الكريم، وأضفنا إلى ذلك ما قدمناه في الأثر الموضوعي السابق، أدركنا معنى صدور الحضارة العربية والفكر الإسلامي عن القرآن، واستطعنا من خلال ذلك: التقدم لإيراد بعض الأمور الشارحة والموضحة لهذه الحقيقة الكبيرة: ¬

_ (¬1) فلسفة التربية ص 652.

لقد مرت البشرية- كما يلاحظ الكثيرون من مؤرخي الحضارات، وكما أكّده المفكر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله- بأكبر تجربتين حضاريتين في التاريخ: التجربة الرومانية، والتجربة الإسلامية. وقد كانت الحضارة الأولى متجلية بالروح الإمبراطورية التي تقسم الإنسان أو الناس إلى مواطن روماني يتمتع بكامل الحقوق، وإلى غير مواطن مسلوب من جميع الحقوق وعلى هذا الأساس حكمت وقنّنت وعالجت ومنحت، وهي وإن أخفقت في معالجة مشكلات الإنسان قديما، فقد أتيح لها أن تبدو في صورة جديدة تتمثل في الحضارة الغربية المعاصرة التي أخذت من تلك الحضارة الرومانية روحها الاستعمارية، وتشرّبت مبادئها، وكثيرا من نظراتها الجوهرية؛ بعد أن تخطّت الحضارة الإسلامية التي جاءت في أعقاب الحضارة الرومانية وزاحمتها، وأزاحتها عن مقعد السيادة على مسرح التاريخ! وتهمنا هنا الإشارة إلى أن الروح الاستعمارية في هذه الحضارة الأوروبية مساوية للروح الإمبراطورية التي عاشت عليها الحضارة الرومانية القديمة. في حين أن روح الحضارة الإسلامية، أو المبرر الذي عاشت عليه هذه الحضارة يتمثل في روح المساواة التي جاء بها القرآن الكريم ونطق بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأكدها في آخر خطبه الجامعة في حجة الوداع « ... كلكم لآدم وآدم من تراب ... لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أبيض فضل إلّا بالتقوى». يضاف إلى ذلك أن النظرة إلى الوجود المتمثلة في مبدأ الإيمان بالله الواحد القهار- وما يتبع ذلك وينبني عليه من النظر إلى الكون والحياة والإنسان- هي التي أعطت للحضارة الإسلامية طابعها الخاص، وجعلتها- من قبل- قادرة على أن تهضم وتتمثل- ولا تذوب بالطبع- في تيار العقائد والمذاهب التي كانت سائدة في «بيئة» الحضارة الإسلامية. وهي البيئة التي شهدت في الواقع أعرق الحضارات القديمة في بلاد الشام والرافدين ووادي النيل وبلاد فارس ... ولا مجال هنا للإفاضة في هذه الجوانب المتشعبة من البحث، ولكن نكتفي

بالتذكير بأن القرآن الكريم الذي انبثقت منه روح هذه الحضارة؛ يشكل في نفس الوقت وبدرجة واحدة كذلك مصدر الثقافة الإسلامية الأول وملاذها الأخير. ولا نقوم هنا بتحليل عناصر «الثقافة» ولكننا نذكر بأن تصنيف هذه العناصر وتقديم بعضها على بعض (¬1) - وهو الذي يميز ثقافة عن ثقافة أخرى- يعود إلى الدين، أو ينطلق من القيم الدينية التي جاء بها القرآن الكريم، مع تسليمنا بما ذهب إليه الفيلسوف الناقد «ت. س. إليوت» من القول بالأصل الديني لكل الحضارات والثقافات، والذي بنى عليه قوله بوحدة الثقافة الأوروبية المعاصرة- على الرغم من تعدد اللغات والمذاهب والقوميات- وقوله بتلاشي هذه الثقافة حين تفقد أصلها الديني (¬2). ¬

_ (¬1) انظر كتاب «مشكلة الثقافة» للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله. (¬2) راجع كتاب «ملاحظات نحو تعريف الثقافة» لإليوت ترجمة الأستاذ الدكتور شكري عياد. وقارنه بما كتبه الأستاذ مالك بن نبي في كتابه «شروط النهضة» وتحليله لعناصر الحضارة (إنسان+ تراب+ وقت) ودور العقيدة الدينية (كعامل مركب) لهذه الحضارة. وانظر بسطا لهذا الموضوع في كتابنا: القومية والعلمانية. الفقرة الخاصة بموقف العلمانية من العقيدة الدينية. والفقرة التي تتحدث عن أثر المسيحية في الثقافة الأوروبية: ص 127 - 137، مؤسسة الرسالة، بيروت.

الباب الثاني قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه

الباب الثاني قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه * الفصل الأول: القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة. * الفصل الثاني: الوحي أو مصدر القرآن الكريم. * الفصل الثالث: نزول القرآن والحكمة من تنجيمه. * الفصل الرابع: جمع القرآن وتدوينه. * الفصل الخامس: الآيات والسور وترتيبهما.

الفصل الأول القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة

الفصل الأول القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة أولا- تعريف القرآن والفرق بينه وبين الحديث: 1 - هذه الكلمة «قرآن» لغة على وزن فعلان: لفظ مشتق من القرء، بمعنى الجمع؛ يقال: قرأ الشيء قرءا وقرآنا: جمعه وضم بعضه على بعض، ومنه قرأت الماء في الحوض: جمعته. قالوا: وسمي القرآن الكريم قرآنا لأنه جمع القصص والأمر والنهي، والوعد والوعيد، أو لأنه جمع الآيات والسور. وقيل: إن هذا اللفظ- قرآن- مشتق من القرائن التي يصدّق بعضها بعضا، أو يشابه بعضها بعضا. وقالوا: وكذلك حال الآيات والسور في القرآن الكريم. وقال اللحياني وجماعة من أهل اللغة: قرآن: مصدر كغفران، سمي به «المقروء» أي المتلوّ؛ تسمية للمفعول بالمصدر. ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) [سورة القيامة: 17 - 18] أي قراءته، والمراد: جبريل عليه السلام. ومنه كذلك قول حسّان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان- رضي الله عنهما-: ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا أي: قراءة. ويقال: قرأ الرجل، إذا تلا، يقرأ قرآنا وقراءة. وبغض النظر عن أصل اشتقاق هذا اللفظ، على دقة ما ذهب إليه اللحياني

وترجيحنا له؛ فإن «القرآن» بهذا اللفظ المعرّف صار علما شخصيا على «الكتاب» المعجز الموحى به من الله سبحانه، والمنزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله الخاتم؛ سمي به هذا الكتاب كما سميت «التوراة» التي نزلت على موسى، و «الإنجيل» الذي نزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام. قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء، الآية 9]. حتى قيل إن بعض العلماء، منهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، عدّ هذا اللفظ المعرّف كما قلنا- القرآن- اسم علم غير مشتق، خاص بكلام الله تعالى المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. 2 - أما ما ذكره العلماء من تعريف «القرآن» - اصطلاحا- بالأجناس والفصول، لتمييزه عما عداه مما قد يشاركه في الاسم- ولو توهما- ذلك أن سائر كتب الله تعالى، والأحاديث القدسية، وبعض الأحاديث النبوية، تشارك القرآن في كونها وحيا إلهيا، فربما ظن أنها تشاركه في اسم القرآن أيضا، فأرادوا بيان اختصاص الاسم به، ببيان صفاته التي امتاز بها عن تلك الأنواع؛ فقال أكثرهم في تعريفه: «هو الكلام المعجز، المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتر، المتعبد بتلاوته». وأوجزه بعضهم بقوله: القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته». وقد قيل في تحليل هذا التعريف الأخير: إن «الكلام» جنس شامل لكل كلام، وإضافته إلى «الله تعالى» تميزه من كلام من سواه، سواء أكان من الإنس أم غيرهم. «المنزّل»: مخرج للكلام الإلهي الذي استأثر به في نفسه، أو ألقاه إلى

ملائكته ليعملوا به لا لينزلوه على أحد من البشر؛ إذ ليس كل كلامه تعالى منزلا، بل الذي أنزل منه قليل من كثير، قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) [سورة الكهف، الآية 109]. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [سورة لقمان، الآية 27]. وتقييد المنزّل بكونه على «محمد صلى الله عليه وسلم» لإخراج ما أنزل على الأنبياء من قبله، كالتوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والزبور المنزل على داود، والصحف المنزلة على إبراهيم، عليهم السلام. أما قيد «المتعبّد بتلاوته» - أي المأمور بقراءته في الصلاة وغيرها على وجه العبادة- فلإخراج ما لم نؤمر بتلاوته من ذلك، كالقراءات المنقولة إلينا بطريق الآحاد، وكالأحاديث القدسية، وهي المسندة إلى الله عزّ وجلّ (¬1)، إن قلنا إنها منزلة من عند الله بألفاظها. 3 - أما الأحاديث النبوية فإنها بحسب ما حوته من المعاني تقسم إلى قسمين: قسم توفيقي، استنبطه النبيّ بفهمه ونظره في كلام الله تعالى، أو بتأمله في حقائق الكون. وهذا القسم ليس من كلام الله تعالى. وقسم توقيفي، تلقى الرسول مضمونه من الوحي فبيّنه للناس بكلامه، وهذا القسم وإن كان ما فيه من العلوم منسوبا إلى معلمه وملهمه سبحانه، لكنه- من حيث هو كلام- حريّ بأن ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الكلام إنما ينسب إلى ¬

_ (¬1) الحديث القدسي هو الذي يرويه النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه من كلام الله. «قال رسول الله: قال الله تعالى، أو قال رسول الله فيما يرويه عن ربه»، وقد نقلت إلينا الأحاديث القدسية على النحو الذي تم فيه نقل الأحاديث النبوية.

واضعه وقائله الذي ألّفه على نحو خاص، ولو كان ما فيه من المعنى قد تواردت عليه الخواطر وتلقاه الآخر عن الأول. فالحديث النبوي إذا خارج بقسميه من القيد الأول «وهو كون الكلام كلام الله» في هذا التعريف (¬1). وكذلك الحديث القدسي إن قلنا إنه منزل بمعناه فقط. وهذا هو أظهر القولين فيه. لأنه لو كان منزّلا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني؛ إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منزلين من عند الله تعالى، فكان من لوازم ذلك المحافظة على نصوصه، وإجزاء قراءته في الصلاة، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعا، وعدم جواز مسّه للمحدث. ولا قائل بذلك كله. وأيضا فإن القرآن لما كان مقصودا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته، احتيج لإنزال لفظه- ولهذا فإن ترجمته لا تعتبر قرآنا- والحديث القدسي لم ينزل للتحدي ولا للتعبد، بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه، فالقول بإنزال لفظه قول بشيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهم إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة «يقول الله تبارك وتعالى كذا» (¬2). لكن القرائن التي ذكرناها آنفا كافية في فسح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية فإنك تقول حينما تنثر بيتا من الشعر «يقول الشاعر كذا» وتقول حينما تفسر آية من كتاب الله بكلام من عندك: «يقول الله تعالى كذا» وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى ¬

_ (¬1) النبأ العظيم ص 10 - 11، للأستاذ المحقق الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله. وانظر فيه تفصيلات أخرى في تحديد معنى القرآن. (¬2) المصدر السابق ص 11.

وفرعون وغيرهم مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم (¬1). والله تعالى أعلم. 4 - ملاحظة هامة حول هذه الفروق: وتذكّرنا هذه الفروق بين القرآن الكريم وأنواع الحديث النبوي، بضرورة القول إن لدينا اليوم، وبعد هذه القرون التي مرت على بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، المصادر التالية المستقلة، أو المفصول بعضها عن بعض، وإن هذا الفصل والتمييز يعد من أبرز خصائص الأمة الإسلامية. ومن أهم مزايا الإسلام ومصادر الثقافة الإسلامية: (أ) لدينا أولا: القرآن الكريم، بوصفه كلام الله تعالى المنزل أو الموحى به بلفظه ومعناه، أو بوصفه النص الإلهي المبرّأ من التحريف والتبديل. (ب) ولدينا إلى جانبه: كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أقواله وأحاديثه الشريفة، التي لم تختلط بحرف واحد منها بالقرآن الكريم. سواء أكانت أحاديث قدسية أم عادية- مع التنويه بهذه الدقة في التمييز بين هذين النوعين- علما بأن نسبة الأحاديث القدسية ضئيلة إذا ما قيست بسائر أحاديث النبيّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه-. وبغض النظر عن طبيعة موضوعاتها، ودرجة توثيقها عند المحدّثين. (ج) وعندنا كذلك: الصورة الكاملة لأعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم وحياته اليومية، الخاصة والعامة في السلم والحرب. وقد تضمّنتها كتب (السيرة النبوية) التي يمكن وصفها باختصار بأنها: تاريخ حياة النبيّ عليه الصلاة والسلام. (د) ويوجد إلى جانب هذه المصادر الثلاثة: القرآن والحديث والسيرة، مصادر خاصة بحياة الصحابة- رضوان الله عليهم-، وبطبقاتهم كذلك. (هـ) ولدينا أخيرا كتب التاريخ العام: أو كتب التاريخ .. على اختلاف طرائقها في التأليف. ¬

_ (¬1) النبأ العظيم ص 11 مطبعة السعادة، مصر 1389 هـ- 1969.

ثانيا - مقارنة سريعة مع هذه الكتب السماوية:

وليس هنالك أدنى خلط أو تداخل بين القرآن والسنّة القولية، أو بين القرآن والسيرة وتاريخ الأصحاب- عليهم الرحمة والرضوان-. بل إن من الملاحظ- كما سنشير إلى ذلك عند الكلام على الوحي- أن القرآن الكريم نادرا ما يتحدث عن تاريخ «محمد» - صلّى الله عليه وعلى آله- الإنسان، وعن آلامه العظمى، أو مسرّاته التي لم ترد فيه قط!! ونستطيع أن نؤكد بعد ذلك أن هذا التمييز المطلق الذي نملكه الآن، والذي حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تأكيده حين نهى عن كتابة القرآن والحديث في صحيفة واحدة، تفتقر إليه الديانات والكتب السماوية السابقة التي يختلط فيها النص الإلهي المنزل أو الموحى به، حتى إنه لا يبين ... بأقوال النبيّ ومواعظه وأخباره وسيرته مع أصحابه ومع الناس. والتي وردت فيها صفحات مطوّلة، أو (أسفار) كثيرة في الأدب والتاريخ! ثانيا- مقارنة سريعة مع هذه الكتب السماوية: ويكفينا عند المقارنة، من أجل تأكيد هذه الملاحظة: أن نعرّف فقط بالتوراة والإنجيل، لنقف على مدى الخلط الذي آل إليه (الوحي) أو الكتاب الذي نزل على موسى وعيسى- على نبيّنا وعليهما الصلاة والسلام-. ولكن لا بد من الإشارة إلى (الزيادات) أو الملحقات التي أضيفت إلى هذين الكتابين- فضلا عن التحريف والتبديل الذي لحق بهما- لأن هذه الزيادات تبرز بدورها، أو تؤكد مدى ضياع النص الإلهي الموحى به، ومدى الإغراق الذي أصابه في خضم هذه الزيادات والملحقات التي غلبت على (الأصل)! ومدى الخلط الذي حصل في مصادر الدين والتشريع في تاريخ اليهودية والمسيحية ... حيث جمعت هذه المصادر على صعيد واحد بين الوحي المنزل، وخطب الأنبياء وأحاديثهم وأمثالهم ومواعظهم، وسيرتهم وحياتهم، وأعمال الرسل، وحياة الحواريين أو الأصحاب، وحياة الملوك، وتاريخ بني إسرائيل!

يطلق اسم أو مصطلح (أهل الكتاب) في القرآن الكريم على اليهود والنصارى. وغني عن البيان أن سيدنا عيسى بن مريم- عليه السلام- بعث في بني إسرائيل خاصة، وهو لذلك أحد أنبيائهم؛ قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف، الآية 6]. وقال تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [سورة آل عمران، الآيتان 48 - 49]. وجاء في الإنجيل: «لم أرسل إلّا إلى خراف بني إسرائيل الضالّة» (¬1). وهكذا، فإن الشريعة اليهودية، أو الحقبة الإسرائيلية السابقة على عيسى .. نجدها ممتدة في النصرانية ومستمرة معها (¬2). ومن هنا يبدو المصطلح القرآني: «أهل الكتاب» واضحا ومعجزا في جمع اليهود والنصارى في كتاب واحد، أو على كتاب واحد، علما بأن مصطلح «الكتاب» أو كلمة: كتاب، وحدها ... تطلق في القرآن على جميع كتب الله تعالى المنزلة؛ إشارة كذلك إلى تصديق هذه الكتب بعضها بعضا، وأنه لا تناقض بينها ولا اختلاف! ولهذا جاء القرآن الكريم مصدّقا لما بين يديه من «الكتاب» ومهيمنا عليه ... وقد انفرد بحق الهيمنة على سائر الكتب السابقة، أو انفرد بحق الحكم والتصويب، بوصفه الكتاب الأخير الذي تكفّل الله تعالى بحفظه من التحريف إلى يوم الدين. ¬

_ (¬1) الكتاب المقدس: إنجيل متّى، الإصحاح 15. (¬2) ما تزال «التقاليد الثقافية اليهودية المسيحية للحضارة الأوروبية» توصف بهذين الوصفين مجتمعين، على حدّ قول بعض الساسة الأوروبيين المعاصرين. وتشكل روح حضارة القوم ونسيج مجتمعاتهم.

قال الله تعالى في سورة المائدة: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [الآية 48]. إن (الكتاب المقدس - THE BIBLE الواحد- لدى النصارى يشمل توراة موسى وإنجيل عيسى- عليهما السلام-. أو يشمل: (أ) التوراة وسائر الأسفار المقدسة التي ألحقت بها وأضيفت إليها في الحقبة اليهودية أو الموسوية ... أو قبل مجيء المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام-. وسميت جميعها بالعهد القديم. (ب) الأناجيل الأربعة ورسائل الرسل في العهد المسيحي. وسميت بالعهد الجديد. وواضح من هذه التسمية: العهد القديم والعهد الجديد، أنها من عمل العصور المسيحية؛ تفريقا بين العهد- أو الميثاق- الذي جاء به موسى- عليه السلام-، أو انحدر إليهم من عهده. والعهد أو الميثاق الجديد من عهد عيسى (¬1). ولا يتسع المجال هنا لتفصيل القول في أسفار العهد القديم، وفي الأناجيل الأربعة وأعمال الرسل، والمشكلات التي تثيرها هذه الأسفار والأناجيل، أو التي يثيرها النظر في تاريخ (الكتاب المقدس) على وجه العموم، وتاريخ تكوّن أو تشكّل العقيدة المسيحية- عقيدة التثليث- على وجه الخصوص: لأن هذا كله موضعه الكتب المتخصصة في تاريخ الأديان. وكل ما قصدنا إليه في هذا السياق: بيان أن الخلط والتحريف قد لحق ¬

_ (¬1) راجع: الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، للأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي رحمه الله ص 12 - 13، دار نهضة مصر، القاهرة 1971.

العهد القديم: تعريف وملاحظات:

بالوحي أو التنزيل عند اليهود والنصارى، وأن الحيف الشديد قد لحق بالتوراة والإنجيل حتى كاد أن يعصف بهما، بل عصف بهما على الحقيقة! كل ذلك من أجل الوقوف على جانب أو طرف من المزيّة الإسلامية في حفظ القرآن الكريم من التحريف والتبديل، إلى جانب عدم الخلط بينه وسائر النصوص النبوية والمصادر الأخرى في تاريخ الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي. ونكتفي لبيان ذلك بالملاحظات التالية على كل من العهد القديم والعهد الجديد: العهد القديم: تعريف وملاحظات: 1 - يتألف العهد القديم من تسعة وثلاثين سفرا، موزعة على الأسفار التالية: (أ) الأسفار الناموسية أو الموسوية، وعددها خمسة أسفار وهي: سفر التكوين وسفر الخروج وسفر التثنية وسفر اللاويين (الأحبار) وسفر العدد «وتشتمل هذه الأسفار الخمسة على التوراة في نظر اليهود» ولهذا أطلق عليها لفظ «الناموسية» أي الموحى بها بطريق الناموس الذي نزل على موسى- عليه السلام-. (ب) الأسفار التاريخية، وهي اثنا عشر سفرا تعرض لتاريخ بني إسرائيل بعد استيلائهم على بلاد الكنعانيين، وبعد استقرارهم في فلسطين، وتفصل تاريخ قضاتهم وملوكهم وأيامهم والحوادث البارزة في شئونهم. (ج) الأسفار الشعرية أو أسفار الأناشيد، وعددها خمسة أسفار ... وهي سفر أيوب، ومزامير داود، وأمثال سليمان، والجامعة من كلام سليمان، ونشيد الإنشاد. وواضح من تسمية هذه الأسفار، ومن مضامينها، أنها كتبت بلغة شعرية، وأنها أناشيد ومواعظ. مع الإشارة إلى ما تضمّنه نشيد الإنشاد من انحلال خلقي يضارع شعر المجون!!

(د) أسفار الأنبياء، وعددها سبعة عشر سفرا، وهي أسفار أشعياء، وأرمياء، ومراثي أرمياء، وحزقيال، ودانيال ... إلخ. 2 - أهم هذه الأسفار: الأسفار الناموسية الخمسة الأولى، لأنها هي التي ينسبها اليهود إلى موسى، ويعتقدون أنها بوحي من الله وأنها تتضمن التوراة- أما بعد سائر الأسفار عن أن تكون وحيا فأوضح من أن يشار إليه- يقول الدكتور علي عبد الواحد وافي في أسفار التوراة هذه: «لقد ظهر للمحدثين من الباحثين من ملاحظة اللغات والأساليب التي كتبت بها هذه الأسفار، وما تشتمل عليه من موضوعات وأحكام وتشاريع، والبيئات الاجتماعية والسياسية التي تنعكس فيها، ظهر لهم من ملاحظة هذا كله أنها قد ألفت في عصور لاحقة لعصر موسى بأمد غير قصير- وعصر موسى يقع على الأرجح حوالي القرن الرابع عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد- وأن معظم سفري التكوين والخروج قد ألف حوالي القرن التاسع قبل العدد واللاويين قد ألّفا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد ... وأن جميعها مكتوبة بأقلام اليهود، وتتمثل فيها عقائد وشرائع مختلفة تعكس الأفكار والنظم المتعددة التي كانت سائدة لديهم في مختلف أدوار تاريخهم الطويل ... فهي إذن تختلف كل الاختلاف عن التوراة التي يذكر القرآن الكريم أنها كتاب سماوي مقدس أنزله الله تعالى على موسى (¬1)، وإلى هذا يشير القرآن الكريم، يقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) [سورة البقرة، الآية 79]. 3 - صورت التوراة المزعومة هذه- وخاصة في سفري التكوين والخروج- الذات الإلهية بصورة مجسّمة، وشبّهت الله سبحانه بخلقه- حتى قال علماؤنا: إن التشبيه من دين اليهود- بل لقد وصف الله تعالى- في هذه ¬

_ (¬1) الأسفار المقدسة في الأديان السابقة للإسلام، ص 16.

التوراة! - بالضعف، والكذب، والغفلة، والندم، والتعب (¬1)!! وأنه يجري عليه البداء (¬2)، وسائر ما يجري على الناس بوجه عام، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وورد ما هو أسوأ من ذلك في سفر التكوين بحق أنبياء الله ورسله! فوصف نوح- عليه السلام- بأنه شريب خمر، وقالوا في إبراهيم- عليه السلام- إنه تاجر بعرض زوجته من أجل متاع دنيوي، وجاء في سفر التكوين أيضا أن لوطا شرب الخمر، وزنى بابنتيه، فأنجبتا منه مؤاب وعمون ... في قصة مختلقة تقشعر منها الأبدان (¬3)! ... إلخ. إن هذا وأمثاله يبرز مدى التحريف الرهيب الذي عصف بالعهد القديم وبالكتاب المقدس ... كما قلنا، فأخرجه عن الوحي والقداسة، والصدق والحق ... بل أخرجه كذلك عن العقل والذوق والأدب!. ¬

_ (¬1) انظر قصة صراع يعقوب مع الله! وكيف أنه كان قويا على ربه، حتى سماه إسرائيل (وهذا أحد معاني هذه الكلمة في العبرية) في سفر التكوين، الإصحاح 32 الفقرات 24 - 32. وراجع الكتاب المشار إليه سابقا للدكتور وافي: الأسفار المقدسة، ص 32. وانظر ما ورد في سفر التكوين أيضا من أن الله سبحانه بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع! وكان يوم سبت فباركه وحرّم فيه العمل. الفقرات الأولى من الإصحاح الثاني. وانظر الفقرات 21 - 22 من الإصحاح 13. والفقرات 16 - 20 من الإصحاح 19 .... (¬2) انظر الفقرات الأولى من مطلع سفر التكوين. والبداء- بفتح الباء- معناه أن تبدو لله تعالى الأمور كأنه كان لا يعلمها قبل أن تقع، أو كأنها لم تقع لأنها كانت في علمه الذي أحاط بكل شيء، سبحانه وتعالى. وقد حكم علماؤنا بكفر من يقول بجواز البداء على الله تعالى. (¬3) الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين. وانظر في اتهام سيدنا إبراهيم- عليه السلام- الإصحاح الثاني عشر الفقرات 10 - 19. وفي اتهام نوح- عليه السلام- الإصحاح التاسع، الفقرات 20 - 27.

العهد الجديد: تعريف وملاحظات:

العهد الجديد: تعريف وملاحظات: تتألف أسفار العهد الجديد من ثلاث مجموعات، وسفرين. أما المجموعات فهي: مجموعة الأناجيل، وعددها أربعة، ومجموعة رسائل بولس، وعددها أربعة عشرة رسالة. ومجموعة الرسائل الكاثوليكية، وعددها سبع رسائل. وأما السفران فهما: سفر «أعمال الرسل» للوقا، وسفر «رؤيا يوحنا» أو «الأبوكاليبس» ليوحنا. وأبرز هذه المجموعات: الأناجيل الأربعة، لا لأنها تستأثر بنحو ما يقرب من نصف صفحات العهد الجديد .. بل لأنها هي التي يظن بأن لها علاقة بالوحي، أو ب (الإنجيل) الذي نزل على سيدنا عيسى بن مريم، والذي تحدث عنه القرآن الكريم. بالإضافة إلى أنّ هذه الأناجيل تحتل في النصرانية مكان القطب والعماد، يقول العلّامة الشيخ محمد أبو زهرة- رحمه الله-: «وإذا كانت شخصية المسيح وما أحاطوها به من أفكار هي شعار المسيحية؛ فإن هذه الأناجيل هي المشتملة على أخبار تلك الشخصية، من وقت الحمل إلى وقت صلبه في اعتقادهم، وقيامته من قبره بعد ثلاث ليال، ثم رفعه بعد أربعين ليلة، وهي بهذا تشتمل على عقيدة ألوهية المسيح في زعمهم، والصلب والفداء، أي أنها تشتمل على لبّ المسيحية في نظرهم بعد المسيح ومعناها» (¬1): (أ) إنجيل متّى، أما إنجيل متّى فمؤلفه هو الرسول متى، أحد الحواريين الاثنى عشر- والكنيسة تسمي هؤلاء الحواريين أو التلاميذ رسلا- وإنجيله هو أقدم الأناجيل، إذ يرجع تأليفه إلى سنة 60 م على الأرجح. وقد كتب بالعبرية، ولكنه لم يعرف إلا باليونانية، ولا يعلم من الذي قام بترجمته إلى هذه اللغة. (ب) أما إنجيل مرقص، فمؤلفه هو القديس مرقص- وهذا لقبه، واسمه يوحنا- ¬

_ (¬1) محاضرات في النصرانية، لأستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى، ص 46.

أحد التلاميذ السبعين. وقد ألفه باليونانية حوالي سنة 63 أو 65 على أرجح الأقوال. ويروي ابن البطريق، أحد المؤرخين المسيحيين الشرقيين، أن الذي كتب هذا الإنجيل هو بطرس نفسه، رئيس الحواريين، ونسبه إلى تلميذه مرقص! (ج) وإنجيل لوقا، مؤلفه القديس لوقا. وقد ألّفه على أرجح الأقوال في العصر نفسه الذي ألّف فيه مرقص إنجيله، أي حوالي سنة 63 أو 65، وألفه باللغة اليونانية. «وقد اختلف الباحثون في شخصية كاتبه، وفي صناعته، وفي القوم الذين كتب لهم، وفي تاريخ تأليفه. ولم يتفقوا إلا على أنه ليس من تلاميذ المسيح، ولا تلاميذ تلاميذه، وإلا على أنه كتب باليونانية» (¬1). (د) أما إنجيل يوحنا، فينسب إلى الرسول يوحنا بن زبدي- أحد الحواريين الاثنى عشر- وألّفه على الأرجح باللغة اليونانية، وكان تأليفه له حوالي سنة 90 بعد الميلاد على أرجح الأقوال «فهو لذلك أحدث الأناجيل جميعا إذ تفصله عنها مرحلة زمنية كبيرة تبلغ زهاء ثلاثين عاما»، ويعد هذا الإنجيل في الوقت نفسه أخطر هذه الأناجيل لأن بعض فقراته تضمّنت ذكرا صريحا لألوهية المسيح! وقد كان هذا الاعتقاد هو الباعث على «تأليف» هذا الإنجيل، لأن بعض الناس- كما تقول الكنيسة- قد سادت عندهم فكرة أن المسيح ليس بإله! وأن كثيرين من فرق الشرق كانت تقرر تلك الحقيقة، فطلب إلى يوحنا أن يكتب إنجيلا يتضمن بيان هذه الألوهية، فكتب هذا الإنجيل! (¬2). ¬

_ (¬1) محاضرات في النصرانية، ص 57. وانظر حول هذه الأناجيل جميعا: أبو زهرة رحمه الله، ص 46 - 66، والدكتور وافي: الأسفار المقدسة: 76 فما بعدها. (¬2) أبو زهرة، المصدر السابق، ص 61.

ثالثا - النتائج والملاحظات:

وقد ارتاب في صحة نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري بعض الفرق المسيحية القديمة في أواخر القرن الثاني الميلادي، وكثير من الباحثين في المسيحية من قدامى ومحدثين. ومن هؤلاء: العلماء الذين أشرفوا على تحرير المسائل المسيحية في دائرة المعارف البريطانية، فقد قالوا: «إنه لا مرية في أن مؤلف إنجيل يوحنا شخص آخر غير يوحنا بن زبدي الحواري المشهور» ومن هؤلاء العلماء المحدثين كذلك: مؤلفو دائرة المعارف الفرنسية المشهورة باسم: «لاروس القرن العشرين» فقد ذكروا أنه «ينسب ليوحنا هذا: الإنجيل، وأربعة أسفار أخرى من العهد الجديد- ثلاث من الرسائل الكاثوليكية ورؤيا يوحنا- ولكن البحوث الحديثة في مسائل الأديان لا تسلّم بصحة هذه النسبة» (¬1). ثالثا- النتائج والملاحظات: 1 - يدل هذا العرض الموجز على أن هذه الأناجيل لم تنزل على المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام- ولم توح إليه .. وغني عن البيان أنه- عليه السلام- أوحي إليه بإنجيل واحد .. علما بأن مؤرخي النصرانية مجمعون على أن الأناجيل- في تاريخ المسيحية- كثرت كثرة عظيمة! وحين أرادت الكنيسة في أوائل القرن الرابع الميلادي أن تحافظ على الأناجيل الصحيحة أو الصادقة- في نظرها- اختارت هذه الأناجيل الأربعة من بين عشرات الأناجيل! 2 - وليست هذه الأناجيل كذلك من «إملاء» المسيح، حتى تكون عند أصحابها بمنزلة السنّة عندنا نحن المسلمين- على سبيل المثال- بل هي أقرب ما تكون إلى سيرة المسيح وتاريخ حياته، كتبها بعض حواريّيه وسواهم على النحو الذي تذكّروه- بعد ثلاثين عاما من رفعه- عليه الصلاة والسلام- أو على النحو الذي سمعوه .. مع ما أشرنا إليه في حديثنا السابق عن هذه الأناجيل من أنواع ¬

_ (¬1) الدكتور وافي، ص 78 - 79.

الجهالة التي اكتنفتها، من حيث المؤلف، والزمن، واللغة، والمترجم، وتاريخ الترجمة ... وأخيرا: الشك في صحة النسبة من الأصل، كما رأينا في إنجيل يوحنا الأخير. وهذا هو السبب في أن القصص شغلت أكبر حيز من كل إنجيل من هذه الأناجيل ... وبخاصة قصة مريم وحملها بالمسيح، وولادته، وما أحاط بها من عجائب وغرائب، وما كان يحدث من أمور خارقة للعادة، وكيف دعا إلى دينه، واجتبى إليه الحواريين ... إلى جانب الحديث عن «صلبه»! - على زعمهم- وقيامه ... إلخ. والعجيب- بهذه المناسبة- أن توصف مريم- عليها السلام- في بعض فقرات إنجيل متّى بأنها كانت مخطوبة ليوسف النجار قبل أن تحمل بالمسيح- عليه السلام-، وفي فقرات أخرى من الإنجيل نفسه بأنها كانت زوجة له!! (¬1). 3 - على الرغم من اتفاق هذه الأناجيل الأربعة في جوهر القصص والعقيدة والتشريع والأخلاق والزواج- مع الاختلاف المشار إليه في إنجيل يوحنا- «فإنها تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، ويبدو خلافها هذا حتى في القصص نفسه» وقد كتب الإمام ابن حزم- رحمه الله- في بيان وجوه الخلاف بين هذه الأناجيل، وما تشتمل عليه من «أكاذيب ومتناقضات ودلائل دامغة على التحريف» وفعل ذلك أيضا بعض العلماء والباحثين المعاصرين من مسلمين وأوروبيين (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الفقرات 16 - 21 من الإصحاح الأول من إنجيل متّى. وراجع الأسفار المقدسة، للدكتور وافي رحمه الله ص 79. (¬2) راجع الأسفار المقدسة، ص 79 - 86، والفصل لابن حزم 2/ 1 - 70 وكتاب إظهار الحق لمؤلّفه رحمة الله الهندي الذي أحصى من الخلافات بين الأناجيل أكثر من مائة موضع. طبع إدارة الشئون الدينية بدولة قطر.

رابعا - أسماء أخرى للقرآن، ولون آخر من ألوان الحفظ:

رابعا- أسماء أخرى للقرآن، ولون آخر من ألوان الحفظ: نعود بعد هذا الحديث، أو هذه الإلمامة السريعة عن الكتب السماوية السابقة، والتي كان لا بد منها لبيان حقيقة المزية الإسلامية، أو للوقوف على طرف من هذه المزية التي تفرد بها القرآن الكريم في تاريخ النبوات والكتب السماوية. نعود لتأكيد هذه المزية- مزية الحفظ والخلود- التي ذهب بها القرآن في هذا التاريخ، نفاذا للتكفل الإلهي ووعد الله سبحانه الذي لا يتخلّف ... وذلك من خلال الإشارة إلى بعض أسماء القرآن الكريم التي سمّى الله تعالى بها كتابه. ودلالة هذه الأسماء على أعلى درجات الحفظ والتوثيق التي هيأها الله سبحانه وتعالى لكتابه الكريم، والتي سنقف على دلالتها وتطبيقاتها في المبحث الخاص- القادم- بجمع القرآن وتدوينه. سمّى الله تعالى القرآن الكريم بأسماء أخرى كثيرة من أشهرها: الذّكر، والتنزيل، والكتاب، والفرقان. وقد ورد اسم «الكتاب» في عدد من الآيات القرآنية الكريمة، قال الله تعالى في أول سورة البقرة: الم (1). ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ. وقال تعالى في أول سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) وقال تعالى: طسم (1). تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ- سورة الشعراء-. و «الفرقان» مصدر أطلق على القرآن فصار علما عليه، كما يقول بعض العلماء؛ قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) [الآية الأولى من سورة الفرقان]. والراجح أن هذا المصدر استعمل بمعنى اسم الفاعل، أي أنه كلام فارق بين الحق والباطل. وقد قيل في تعليل تسمية القرآن «قرآنا» و «كتابا» أن التسمية الأولى روعي فيها كونه متلوا بالألسن، كما روعي في التسمية الثانية- الكتاب- كونه مدونا

بالأقلام، فكلا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه. قال الأستاذ العلّامة الدكتور محمد عبد الله دراز- رحمه الله-: «وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، وأعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا ... فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر». قال الدكتور دراز: «وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيّها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفّل بحفظه حيث يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [سورة الحجر، الآية 9]. ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس. فقال تعالى: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [سورة المائدة، الآية 44] أي بما طلب إليهم حفظه. والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه من الكتب ومهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، وكان سادا مسدّها ولم يكن شيء منها ليسد مسدّه، فقضى الله أن يبقى حجة إلى قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرا يسّر له أسبابه، وهو الحكيم العليم» (¬1). ونشير أخيرا إلى ما ذكره بعض العلماء من معاني «الذّكر» الذي سمى الله تعالى به كتابه الكريم في آيات كثيرة. ¬

_ (¬1) النبأ العظيم 8 - 9.

قال ابن عطية- رحمه الله-: «وأما الذّكر فسمّي به- القرآن- لأنه ذكّر به الناس آخرتهم وإلههم وما كانوا في غفلة عنه، فهو ذكر لهم. وقيل: سمّي بذلك لأن فيه ذكر الأمم الماضية والأنبياء. وقيل سمي بذلك لأنه ذكر وشرف لمحمد وقومه وسائر العلماء به» (¬1). ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز 1/ 69، طبع قطر.

الفصل الثاني الوحي أو مصدر القرآن الكريم

الفصل الثاني الوحي أو مصدر القرآن الكريم قلنا في الفقرة السابقة في تعريف القرآن، إنه كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ... وهذا يقتضينا أن نعرض بعد ذلك، لزاما واختصارا، لإثبات أنه من كلام الله تعالى ... غير أن الأدلة هنا واسعة ومتشعبة ومترامية الأطراف ... بل إن أطرافها لا تحصى فقط بمناهج الدارسين والباحثين، على اختلاف أساليبهم ووسائلهم وتنوع ثقافتهم ومعارفهم، ... في القديم والحديث، حتى ينضاف إليها رحابة الموضوعات القرآنية ذاتها وسعة آفاقها ... وفهمها المتجدد الذي لا يبلى، والذي يحمل في كل يوم دليلا آخر على مصدر القرآن الكريم، وأنه تنزيل من رب العالمين. ولهذا، فقد رأيت أن أعرض لهذا الموضوع من زاويتين اثنتين: الأولى ظاهرة الوحي، وهي الظاهرة التي جرت العادة بعدم إغفالها في كتب علوم القرآن، أو في أي مدخل للتفسير وعلومه. والثانية: حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كدليل على ذلك المصدر، وأن الدور الأساسي للنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن هو «الحكاية والتبليغ». ونذكّر هنا- على أية حال- بأن هاتين النقطتين أو الزاويتين ليستا أكثر من مدخل إلى هذا البحث وإشراف على ساحته. وأن كثيرا من موضوعاتنا القادمة، وبخاصة موضوع الإعجاز، والخصائص الأدبية والأسلوبية وطريقة القرآن في

أولا - ظاهرة الوحي:

خطاب الإنسان، ستحمل لنا المزيد من الأدلة، وتصب في نهاية المطاف في هذا البحر المحيط. أولا- ظاهرة الوحي: (أ) مقدمة عن عالم الغيب: تمثل ظاهرة الوحي مبدأ اتصال عالم الغيب بعالم الشهادة- بحسب المصطلح القرآني عن الطبيعة وماوراء الطبيعة- كما يمثل الوحي، مصدر المعرفة الإنسانية عن عالم الغيب، في حين يشكل العقل- والحواس- مصدر هذه المعرفة عن عالم الشهادة. والأمر الجوهري الذي لا غنى لنا عن الإشارة إليه هنا بين يدي الكلام على ظاهرة الوحي أن الإيمان بعالم الغيب ليس خارجا عن نطاق القدرة العقلية، فضلا عن أن يكون فيه مناقضة لهذا العقل أو خروج عن قوانينه الفطرية. إن في وسع العقل- بوصفه صاحب الدور الأول في إدراك عالم الشهادة (¬1) - أن يستدل بعالم الشهادة على عالم الغيب، أو على رأس الإيمان بعالم الغيب، وهو الإيمان بالله تعالى، ولا يكون العقل بذلك قد سلم بسر باطل أو عقيدة مستحيلة. نذكر هنا من القوانين التي تحكم عالم الشهادة، والتي جعلها الفيلسوف الشهير «كانت» من جملة قوى العقل وقوانينه الفطرية، قانون السببية أو العليّة الذي يملي فيه العقل البحث عن المؤثر عند حدوث الأثر، وعن الصانع عند رؤية المصنوع. إن هذا القانون، كما يتناول الظواهر الجزئية في الكون فيطلب لكل معلول علة، ولكل مسبّب سببا، يتناول من باب أولى مجموع الكون ككل، فيتطلب بالبداهة نفسها علة وسببا لوجوده. وممارسة هذا القانون- قانون العلية- وتطبيقه على الكون ككل، وطلب علة له بجملته واقع في دائرة القدرة العقلية بدون ¬

_ (¬1) الحواس هي منافذ للمعرفة، والعقل هو الذي يقف وراءها فيجعل من إحساساتها إدراكات أو معارف حقيقة، بمعنى أنه ينقلها من الغرائز والانعكاسات التي يشترك فيها سائر الحيوانات التي تملك مثل تلك الحواس.

شك، لأن عالم الحس كما يشمل المحسوسات الجزئية فإنه يشمل المحسوس العام الأعظم وهو العالم .. بل إن العقل «مضطر» إلى هذا الطلب ... صعدا من طلبه علة لكل شيء جزئي محسوس (¬1). يضاف إلى ذلك أن العقل الإنساني نفسه لا يقنع بكل ما جمعته البشرية من علوم وفنون ومتع بدنية وعقلية فيستغني بها عن طلب تفسير لهذا الكون، أو عن دوره هو فيه ومصيره من بعده؟! وسوف يبقى أمام هذا العقل في طرفي الوجود، وهما المبدأ والمصير، أو المصدر والغاية، شيء لا تفسره المعارف العلمية بوجه من الوجوه. نعود من هذا إلى القول إن التسليم بعالم الغيب ليس خارجا عن نطاق العقل، بل إن العقل نفسه يدل على ساحة هذا العالم، كل ما في الأمر أنه يعجز عن اقتحامها أو معرفة كنهها بوسائل عالم الشهادة- العقل والحواس-. وهنا يأتي دور الوحي الذي يعرّف الإنسان بحقيقة هذا العالم، ويقفه على طبيعة الصفات الإلهية، ويرسم له طريق الحياة الأمثل ... إلى غير ذلك من موضوعات الوحي. فاعجب بعد ذلك لمن يقدم على إنكار عالم الغيب أو ماوراء الطبيعة بحجة عدم دخوله تحت سلطان الحسّ والمشاهدة!! وإذا تركنا الحديث عن الوعي بوجود الله تعالى- أساس الإيمان بعالم الغيب- وأن هذا الوعي يخالط كل نفس إنسانية، ¬

_ (¬1) يمكن القول هنا باختصار: إن وجود الكون يحتاج إلى تعليل، وحركته وارتباط أجزائه واقتران أسبابه بمسبباته وانتظام قوانينه وسننه يحتاج إلى تفسير. وهل يصدق العقل أن القوة التي تدفع كل جزء في الكون في وجهتها، وكل حادثة في خط سيرها بحيث يتكون من المجموع كلّ متناسق متكامل في عالم الجماد وفي عالم النبات وفي عالم الأحياء ... إلخ، هل يصدق العقل أن هذه القوة قوة ذاتية عمياء! ألا يثير موضوع «الخلق» من عدم نظر الإنسان إلى التفكير والاعتبار، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ انظر كتاب «نظام الإسلام» لأستاذنا محمد المبارك رحمه الله: الجزء الأول، ص 45 فما بعدها.

(ب) معنى الوحي وصوره:

فإن عدم تمكن العقل من الوقوف على كنه عالم الغيب، أو حقيقة الذات الإلهية، لا يضعف من شأنه أو دوره في عالم الشهادة، ولكنه يضعه في موضعه قادرا على تيسير الحياة لا تصوير الوجود، كما يقول برجسون، ويطامن من كبريائه حين يعلم أن هذه الوسيلة- العقل نفسه- لم تدرك حقيقة ذاتها بعد. والله تعالى أعلم. (ب) معنى الوحي وصوره: أصل الوحي لغة: الإشارة السريعة، وقيل: إنه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوحى إليه بحيث يخفى على غيره. وقد روعي في إعلام الله تعالى لأنبيائه- بأي صورة من الصور- المعنيان الأصليان لهذه المادة اللغوية (وحي) وهما: الخفاء والسرعة! ولهذا قيل في تعريف الوحي شرعا: «عرفان يجده الشخص من نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله تعالى، بواسطة أو بغير واسطة، والأول بصوت يسمعه أو بدون صوت» (¬1). وقد حددت الآية القرآنية التالية ثلاث صور للوحي، أو لهذا الإعلام الإلهي، قال تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) [سورة الشورى، الآية 51]. وهذه الصور هي: 1 - إلقاء المعنى في قلب النبيّ، أو إلقاء الله تعالى ما يريد إعلامه أو وحيه مباشرة في قلب النبيّ الكريم، من غير واسطة الكلام أو توسط ملك الوحي. وهذه الصورة كما هو واضح هي أكثر صور الوحي- أو الإعلام- خفاء وسرعة! ولهذا أطلقت الآية اسم «الوحي» عليها، على الرغم من أن الصورتين التاليتين فيهما إعلام خفي وسريع، إلا أن الأولى منها يدخل فيها الكلام المسموع، وتتم الأخرى عن طريق ملك الوحي جبريل- عليه السلام-. ¬

_ (¬1) الوحي المحمدي للشيخ رشيد رضا رحمه الله، ص 34.

2 - الكلام من وراء حجاب، أي أن يكلّمه الله تعالى بكلام يسمعه ولا يرى المتكلم سبحانه، والحجاب هنا راجع لمكان الكلام كما هو واضح. وقد كلّم الله تعالى موسى- عليه السلام- من وراء الشجرة- الحجاب- كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) [سورة القصص، الآية 30]. وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) [سورة النساء، الآية 164]. 3 - تكليم النبيّ بواسطة ملك الوحي، وهو جبريل- عليه السلام-. غير أن جبريل كان ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأسلوبين أو على شكلين: الأول: أن يأتيه ملك الوحي في مثل صلصلة الجرس. والثاني: أن يتمثل له الملك رجلا فيكلّمه فيعي عنه ما يقول، أخرج البخاري عن عائشة- رضي الله عنها-: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا!». وقد تمّ الوحي بالقرآن الكريم، بلفظه ومعناه جميعا، على الأسلوب الأول، أو الكيفية الأولى .. والتي هي أكثر صور الوحي شيوعا، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) [سورة الشعراء، الآيات 193 - 194]. وقال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة البقرة، الآية 97]. وفي هذه الكيفية أو الصورة كان يهبط جبريل بصورته النورانية أو الملائكية (أي الغيبية) فلا يرى. وكان النبيّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- يجد فيها

جهدا ومشقة بالغة! وما كان خبر السماء يهبط به أمين الوحي جبريل فيصل عالم الغيب بعالم الشهادة إلا أمرا بالغ الخطر عظيم الشأن ... هيأ الله تعالى له نبيّه وأعدّه لاستقباله؛ مصداقا لقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام، الآية 124]! وإن كان في وسعنا أن نقول: إن الجانب الروحي أو الغيبي كان هو مناط هذا الاتصال في شخص النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ سواء أقلنا إن النبيّ مهيأ لمثل هذا الاتصال على الدوام وبدون ارتفاع أو ارتقاء روحي خاص في حالة نزول الوحي .. أم قلنا بمثل هذا الارتقاء أو الدخول في صورة ملائكية أو غيبية .. في حالة نزول الوحي حتى يتمكن النبيّ الكريم من التلقي عن عالم الغيب ومن أمين السماء! كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء والباحثين .. ونحن نرى أننا لسنا بحاجة إلى كل هذه الفروض في الوقت الذي حددت فيه الآيات السابقة محل النزول أو مناطه، وهو قلب النبيّ الكريم: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) [سورة الشعراء، الآيات 193 - 194]. وقال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة البقرة، الآية 97]. وفي الوقت الذي صوّر فيه النبيّ نفسه- عليه الصلاة والسلام- صوت الوحي في هذه الحالة بأنه مثل صلصلة الجرس ... إيذانا ببدء الوحي، أو إشارة إلى أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يسمع أصواتا سريعة ومتوالية من عالم الغيب، فيستغرق في انقطاع روحي، أو روحانية غيبية يجد معها من شدة الوحي ووطأته ما يجعل راحلته تبرك به إلى الأرض وقد كان راكبها! وقد جاءه الوحي مرة وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت أن ترضّها! وصدق الله العظيم حين خاطب نبيّه في سورة المزمّل- وهي من أوائل ما نزل عليه من القرآن-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه

ثانيا - مع المتخرصين في تفسير ظاهرة الوحي:

الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه دويّ النحل، ولكنهم لا يميزون كلاما ولا يفهمون حديثا ... أما النبيّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يلبث أن تسري عنه تلك الشدة، وينجلي عنه الوحي حتى يجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته يتلوه على الناس قرآنا وذكرا للعالمين .. «فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال»! .. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثانيا- مع المتخرصين في تفسير ظاهرة الوحي: ونقف هنا، بكلمة عابرة، أمام تخرصات من زعم أن الوحي على هذه الصورة ضرب من الحالات المرضية التي كانت تعرض لمحمد صلى الله عليه وسلم أو أنها في أحسن أحوالها ضرب من الكشف الذاتي أو الإلهام الخاص، قالوا: إن محمدا لم يزل يفكر حتى تكونت في نفسه، بطريقة الكشف التدريجي المستمر، عقيدة رآها كفيلة بالقضاء على الوثنية! فأذاعها بين الناس ... وندع الرد على هذا الاحتمال الثاني إلى الفقرة التالية، من خلال بيان مضامين القرآن، وأن العقيدة والمعارف التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تتأتى بالطريقة المبهمة التي أشاروا إليها، مكتفين هنا بالرد السريع على الزعم الأول، الذي ذكره مع الأسف غير واحد من المستشرقين، والذي استعاروه هذه المرة من فروض علماء النفس أو عيادة الأمراض النفسية، في تاريخ تهجمهم الطويل على مقام النبيّ الكريم- عليه صلوات الله وسلامه-، وإنكارهم المستمر لنبوته؛ فنقول: ألا ما أعجب أن يصدر عن «حالة مرضيّة» أو غير سويّة،- من أي داء مزعوم كانت! - مثل هذا الكلام المعجز، وأن ينفصل هذا الكلام من جنس كلام النبيّ- وهو الحديث النبوي- بوجوه كثيرة تفضله صار بها معجزا على مدى الدهور والعصور! وحتى استحال على جميع الإنس والجنّ- ولذكر الجنّ هنا

دلالة هامة لأنهم من عالم الغيب- أن يأتوا بسورة من مثله، ولا يصعب على بعض الناس أن يحاكي أسلوب النبيّ نفسه، في أحاديثه التي كان يقولها في غير تلك الحالات- المرضية! - فيضع على لسانه حديثا أو أحاديث ربما ظننا أنها من كلامه صلى الله عليه وسلم لولا قواعد المحدّثين في قبول الروايات التي أبانت عن هذه النسبة الكاذبة .. ويبقى القرآن الكريم الذي جاء من طريق الوحي لا يقبل أي كلمة غريبة أو جملة مقحمة، فضلا عن انعدام القدرة على محاكاته في أي سورة من سوره كما هو معلوم. وهكذا وجد عندنا سيل أو ركام من الأحاديث الموضوعة، نفاها المحدّثون بتلك القواعد التي أصّلوها، والعلم الذي استحدثوه- علم مصطلح الحديث- ولكن أحدا لم يحتج، ولن يحتاج أبدا، إلى استخدام تلك القواعد لكي ينفي عن القرآن ما زعم بعض الأعاجم أنه منه .. من نص مفقود أو سورة مجهولة بل إن الإعلان عن مثل هذه السورة، أو الجهر بها .. سوف يفضح- لدى أي قارئ للقرآن أيا كانت درجة ثقافته- مدى مفارقتها للقرآن وبعدها عنه! وفي جميع الأحوال: لن تكون مثل هذه السورة المزعومة أكثر من كلمات وجمل وعبارات (مسروقة) من النص القرآني نفسه، ولكنها تفتقر في صياغتها إلى أناقة الأسلوب القرآني، ونظمه وإعجازه .. وسوف تختلّ بأفواه قارئي القرآن، وتعتلّ بآذان سامعيه! ولهذا لن يتم الإعلان عنها، أو المجاهرة بها، فضلا عن التحدي .. في يوم من الأيام! ولهذا لم يكن من باب الطرائف- عندنا- أن نستدل بالأحاديث الموضوعة على الوحي وإعجاز القرآن ... وربّ ضارة نافعة. وعلينا أن نذكر هنا، أو بهذه المناسبة، أن الواجب العلمي بات يقتضينا الترفع عن الوقوف أمام هذه الفروض والخزعبلات التي انطلقت عند المستشرقين وضربائهم من عقد تاريخية مستحكمة، ومحاولات دائبة لصرف الناس عن الإسلام، أو لإقامة حواجز تحول دون تأثر أقوامهم به. على أن في وسعنا أن نؤكد النقطة التي ذكرناها أو اكتفينا بها قبل قليل- لأن

في الفقرة التالية مزيدا من البيان- من خلال الحديث الصحيح الذي أخرجه الشيخان حول بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه، وهو التعبد، الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال أقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال اقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ! فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3). فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الرّوع، فقال لخديجة: وأخبرها الخبر، «لقد خشيت على نفسي»! فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ... الحديث». إن في هذا الحديث دليلا على صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم مع نفسه وعلى صدقه مع ربه، وأن أمر السماء فجأه وهو بغار حراء، فرجف فؤاده وانطلق يقول لخديجة: «لقد خشيت على نفسي»! فلم يكن صلى الله عليه وسلم في حالة من حالات الإشراق الروحي! أو حديث النفس، أو فيض الخاطر! ولو كان ينتظر مثل ذلك لما خشيه حين وجده أو اتفق له أو وقع فيه!! وصدق الله العظيم الذي خاطبه في محكم التنزيل بقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) [سورة القصص، الآية 86].

ثالثا - صدق ظاهرة الوحي:

ثالثا- صدق ظاهرة الوحي: نكتفي في تأكيد هذه الظاهرة، بالحديث عن جانبين اثنين تنطوي تحتهما جوانب فرعية كثيرة لا مجال هنا للإفاضة فيها، والخروج بها إلى دائرة دلائل النبوة، وهي دائرة واسعة كتب فيها الكثير في القديم والحديث: الجانب الأول- رحابة الموضوعات القرآنية: إن أدنى مقارنة بين شمول الموضوعات القرآنية وتنوعها، وبين حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لا تدع مجالا للشك في أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا واسطة لعلم غيبي مطلق! ولقد جاءت الآية القرآنية الكريمة تشير إلى هذا الشمول والتنوع بقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام، الآية 38]. وجاءت الآية الأخرى تخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) [سورة العنكبوت، الآية 48]. وتأمره الآية الثالثة أن يقول: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) [سورة يونس، الآية 16]. إن جميع معارف عصر نزول القرآن- لا معارف النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعارف بيئته- ومعارف عصور لا حقة لا تمثل شيئا من شمول المعارف القرآنية وتنوعها وعمقها. بل تصحيحها وتقويمها لتلك المعارف الإنسانية حتى ما كان منها سابقا لعصر نزول القرآن! فإن لم يكن هذا وحيا فأيّ شيء يكون؟ يقول الأستاذ مالك بن نبيّ- رحمه الله-: «إن العبقرية الإنسانية تحمل بالضرورة طابع الأرض حيث يخضع كل شيء لقانون الزمان والمكان! بينما يتخطى القرآن دائما نطاق هذا القانون ليشير من خلال رحابة موضوعاته إلى أن الذات المحمدية لم تكن إلا واسطة لعلم غيبي مطلق»!

قلت: ألم يتخط القرآن هذا القانون في الحديث عن الماضي وعن الحاضر وعن المستقبل! ونزلت فيه هذه الآية في حراسة هذا الحديث وفي التحدي بصدقه وصحته إلى يوم الدين، قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [سورة فصلت، الآية 41]. لأن معنى الآية أن القرآن مبرّأ من أن يلحقه خطأ وخلل وباطل؛ لا من جهة ما أشار إلى وقوعه قبل عصر نزول القرآن، ولا من جهة ما دلّ على وقوعه بعد ذلك العصر! (أ) قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) [سورة القصص، الآيات 43 - 46]. وقال تعالى في سورة آل عمران في بدء العرض القرآني لقصة مريم- عليها السلام-: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) [الآية 44]. إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن ماضي الإنسانية البعيد، وجاء فيها إسهاب وتتبع لكثير من الدقائق والتفاصيل، وبخاصة في قصص كثير من الأنبياء كإبراهيم ويوسف وموسى- عليهم السلام-، تحمل دلالة واضحة على أن القرآن وحي يوحى! خصوصا إذا لاحظنا أن دراسات المؤرخين المعاصرين ووثائقهم وأحافيرهم لم تنته- ولا يمكن لها ذلك- إلى أي أمر يناقض القرآن ويخالفه بحال! (ب) وقل مثل ذلك في وقوع ما أخبر القرآن بوقوعه في المستقبل! قال

تعالى في مطلع سورة الروم: الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ. وقال تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [سورة القمر، الآية 45]. (ج) أما تخطي القرآن ذلك القانون في الحديث عن الحاضر- أو وقت النزول- فالآيات والمواقف فيه كثيرة أيضا، وبحسبنا هنا أن نسأل: من الذي يملك أن يقول في أبي لهب: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) فيحكم عليه- في موقف مشهور من مواقف السيرة النبوية- أنه سيبقى على كفره ولن يدخل في الإسلام؟! وقد دخل فيه فيما بعد من كان في مثل عداوته لهذا الدين وحربه عليه! وقد كان في وسع أبي لهب، ولو بحيلة كاذبة أو نفاق مستور، أن يقول إنه آمن أو دخل في الإسلام، فيدل الناس بذلك- لو كان أمر القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الوحي لم يكن ظاهرة صحيحة وصادقة- على تقوّل النبيّ على عالم الغيب وعلى خطئه- وحاشاه من ذلك كله! - حين حكم على أبي لهب بالبقاء على الكفر، وبورود النار يوم القيامة! أم إنه الله العليم الخبير الذي أنزل الفرقان، ويعلم ما في النفوس والعقول، والذي بيده مفاتيح الهداية والإيمان، هو الذي أخبر عن أبي لهب، وكان الأمر كما أخبر سبحانه ... طيلة عصر التنزيل. أو مدة حياة أبي لهب؟! وقل مثل ذلك في قوله تعالى في شأن الوليد بن المغيرة: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ... [سورة المدثر] وغير ذلك من هذه المواقف الكثيرة في كتاب الله العزيز. وغني عن البيان: أن نشير بعد ذلك إلى رحابة الموضوعات القرآنية، التي بلغت حد الدلالة اليقينية القاطعة أن القرآن وحي يوحى، في الأبواب التي أكدتها العلوم التجريبية والمعارف الإنسانية في هذا العصر، حتى دعاها بعضهم إعجازا، أو أدخلها في حد إعجاز القرآن ... فصار الحديث عن الإعجاز العلمي، والإعجاز التشريعي ... إلى جانب الإعجاز الغيبي، والإعجاز البياني ... وفي وسع أي دارس اليوم أن يعود إلى ما كتبه في ذلك كله المختصون في علم الأجنّة،

الجانب الثاني - أحوال النبي مع هذه الظاهرة:

وعلوم الطب، وعلم الفلك، وعلم النبات، وعلوم الجغرافية، وعلوم البحار، وعلم الإنسان، وعلم الأخلاق ... في الكتب والمؤلفات، وفي الندوات والمؤتمرات، ليعلم معنى رحابة الموضوعات القرآنية، ومعنى معارف القرآن التي سبقت العصور ... وكيف أن محمد بن عبد الله- الصادق المصدوق- صلوات الله وسلامه عليه-، إنما كان واسطة لعلم غيبي مطلق! وأن الذّكر الذي قرأه على العالمين، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين. الجانب الثاني- أحوال النبيّ مع هذه الظاهرة: أما الجانب الثاني الذي نؤكد من خلاله على صدق ظاهرة الوحي- وأنه لم يكن ظاهرة مرضية أو من حديث النفس أو إشراق الذات!! - فهو أحوال النبيّ مع هذه الظاهرة: (أ) فكم مرة أبطأ عنه الوحي هو في انتظار له ليفتي في أمر أو يجيب في مسألة، حتى أرجف المشركون بهذا الإبطاء والانقطاع، وحتى قال قائلهم: لقد قلى محمدا ربه! فنزل قول الله تبارك وتعالى: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) الآيات. (ب) وكم مرة نزل عليه الوحي، وهو بحسب أحوال الإنسان العادية- ودع عنك فروض علماء النفس أو الصحة النفسية! - على غير استعداد .. حتى عدّ العلماء من علوم القرآن، أو من أنواع القرآن- بحسب حالات نزوله على النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحضري، والسفري، والنهاري، والليلي، والصيفي، والشتائي، والفراشي، والنومي ... » إلى آخر هذه الأنواع. أقول: ومتى كان يكتب- أو يملي من ذاكرته! - المريض والنائم ... أو العائد من قتال الأعداء وقد أثخنته الجراح أو بلغ به التعب كل مبلغ؟ ثم كيف يتأتى له أن يأتي في جميع هذه الأحوال بنسق واحد من الكلام هو النسق المعجز المعهود في سائر أحواله بدون استثناء!

وفي وسعنا أن نفهم هذه النقطة في ضوء سائر النقاط التي نوردها في هذا الجانب. أو بعبارة أخرى: علينا أن نلاحظ اجتماع هذه النقاط- وغيرها كثير- في الموقف الواحد، والحالة الواحدة. (ج) وكم مرة نزل عليه الوحي بغير ما يحبه ويميل إليه .. وربّما خطّأه تارة، وتلقاه بشيء من العتاب أو التحذير تارة أخرى! قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) [سورة التحريم، الآية 1]. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) [سورة التوبة، الآية 43]. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [سورة الأحزاب، الآية 37]. ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) [سورة الأنفال، الآيات 67 - 68]. وقال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) [سورة الزمر، الآية 65]. وقال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [سورة الحاقة، الآيات 44 - 47]. وعزّ وجه النبيّ الكريم، وتنزّه مقامه عن أن يتقوّل على الله ... وهو الذي لم يكن يكذب على الناس، ولكنه الإعلام الإلهي القاطع في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم متلق عن الله لا متقول عليه! (د) يضاف إلى ذلك- كما هو واضح من هذه الآيات- أن القرآن الكريم يتحدث عن محمد صلى الله عليه وسلم بصيغة المخاطب، أو الغائب، ويناديه بوصف النبوة

والرسالة، ويأمره من باب التعليم والإرشاد والتثبيت (¬1). قال تعالى:* يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... [سورة المائدة، الآية 67]. يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) [سورة المزمل، الآيات 1 - 2] إلخ السورة. إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) [سورة المنافقون، الآية 1]. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) [سورة آل عمران، الآية 164]. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) [سورة الكهف، الآية 1]. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [سورة الفتح، الآيتان 28 - 29]. وقال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) [سورة الكهف، الآية 28]. والآيات في هذا كثيرة جدا كما هو معلوم، بل إن طبيعة النص القرآني، أو طبيعة بناء هذا النص قائمة على هذا الوضوح المطلق بين مقام الألوهية ومقام ¬

_ (¬1) راجع: نظام الإسلام، العقيدة والعبادة، لأستاذنا محمد المبارك رحمه الله. طبع دار الفكر بدمشق.

النبوة، وعلى أن كل مقام سوى مقام الخالق جلّ وعلا، داخل في باب العبودية لله، والخضوع لربوبيته ... وإن كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء الكرام يتقدمون هذا الركب بوصفهم العباد المصطفين الأخيار. كما يدل النص القرآني كله، وبوضوح كامل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم في مقام التلقي عن الله تعالى. (هـ) وأخيرا، فإننا قد نهتدي بقليل من التأمل إلى ملاحظة عدم انفعال القرآن بالأغراض التي ينفعل لها الأنبياء، فضلا عن سائر الناس، كما لا تعرض للذات الإلهية، التي يلمحها القارئ من خلاله، الحالات النفسية التي تعرض لهم! فلقد اغتمّ النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- على سبيل المثال- وأصابه الحزن والألم بسبب إعراض قومه عن الهداية وإصرارهم على تنكب طريق الوحدانية ... حتى خاطبه الله تعالى بقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [سورة فاطر، الآية 8]. وبقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) [سورة الكهف، الآية 6]. ولكننا إذا عدنا إلى استعراض مزاعم المشركين والكفار في الله سبحانه وتعالى، ورأينا عبادة بعضهم للأصنام، وآخرين للعجل، وغيرهم للكواكب أو للشمس والقمر! إلى جانب ما رموا به أنبياء الله ورسله، وقالوا في ملائكته .. وتأملنا في الوقت ذاته ردود القرآن على هذه المفتريات، وتفنيده لهذه المزاعم والترهات .. لرأينا في ذلك كله قوة إلهية تؤثر ولا تتأثر! وذاتا علوية «تصف لك الحقائق خيرها وشرها، في عزة من لا ينفعه خير، واقتدار من لا يضره شر» (¬1) سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) راجع كتاب النبأ العظيم ص 120 للعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله.

ومن هنا، فإن في وسعنا أن نقول في خاتمة المطاف؛ تلخيصا لهذا الجانب كله (أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم مع ظاهرة الوحي) وتعقيبا عليه: إن أية دراسة نفسية تحليلية لموضوع القرآن الكريم تدلّنا على مصدره، وعلى صدق ظاهرة الوحي. وأكتفي هنا بذكر شاهد واحد من مئات الأدلة والشواهد التي يمكن أن ترد أو تلاحظ في هذا الباب: جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه الحافظ البزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «وقف على حمزة بن عبد المطلب- رضي الله عنه- حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع لقلبه منه، فنظر إليه وقد مثّل به فقال: «رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولا للرحم، فعولا للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع- أو كلمة نحوها- أما والله على ذلك لأمثّلنّ بسبعين كمثلتك، فنزل جبريل- عليه السلام- على محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) [سورة النحل: 126 - 128]؟ الرسول- عليه الصلاة والسلام- يقف على جثة عمه حمزة وقد مثّلت بها هند ... إنه لم يفقده أسدا هصورا يذود عن دين الله وعن نبيّ الإسلام فحسب .. بل فقده في هذا اليوم على هذه الهيئة التي تنمّ عن غدر قاتله وحقد من مثّلت به، فبقرت بطنه ولاكت كبده!! فضاق بالنبيّ صدره، وملكه الحزن والألم. فقال: «لأمثلنّ بسبعين كمثلتك» - ورأس حمزة لا تعدله سبعون من رءوس القوم، وهم الذين بدءوا العدوان أول مرة!! -. هذا قول النبيّ الذي يعبّر عن شعوره في ذلك الموقف الغائظ الموجع ...

إن هذا الشعور لم يفارقه صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه الآيات السابقة ترده إلى درجة العدل، ثم تصعد به في مقام الإحسان درجات بعضها فوق بعض بما يتناسب مع مقام النبوة الرفيع: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128). من كان يظن أن هذا الكلام يصدر عن قائل الكلام الأول في هذا الموقف فليعد على نفسيته «المريضة» هو بالمداواة والتهذيب، أو على رأيه الجاهل هذا بالتغيير والتبديل، إن هذه الآيات الكريمة لا تعبر عن نقلة ومفارقة بعيدة في عالم الحسّ والشعور ... فقط، ولكنها تتضمن فوق ذلك براعة التلطّف بالنبيّ، والانتقال به من درجة إلى أخرى فوقها على أدق ما يكون العلم بأعماق النفس ودرجات الشعور: فضمان حق النبيّ في عقاب عدوه أول ما يحفظ له ويخاطب به في هذا الموقف الذي لم ينظر النبيّ إلى منظر أوجع لقلبه منه!! ثم ترشده الآيات بعد ذلك إلى أن صبره خير وأفضل، وجاء الإرشاد هنا بهذه العبارات والإشارات المأنوسة: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ... ولم تلتفت إليه في صيغة المخاطب إلا مرة واحدة صَبَرْتُمْ ثم ذكرت أن الصبر خير للصابرين (ولم تقل: فهو خير لكم) إشارة إلى وجود الصابرين وكثرتهم كذلك ... وإلى أن من حق النبيّ الكريم- أو واجبه كذلك- أن يكون منهم، بل أن يكون في مقدمتهم وعلى رأسهم صلى الله عليه وسلم. ثم ترتفع الآيات درجة أخرى حين «تأمره» - عليه الصلاة والسلام- بالصبر، بعد أن هيأته الإشارة السابقة ليكون منهم ورشّحته إلى ذلك، ولكنها

ترشده مرة أخرى- في ختامها- إلى أن ضمان ذلك الترشيح وهذا الأمر، إنما يكون بالله عزّ وجلّ: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ زيادة في الاحتياط لما ذهب، وتمهيدا للأمر التالي الذي سيأتي! وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ... إن هذه الدرجة تريد أن تستلّ من نفسه عوامل الحزن وأسباب الألم والضيق، بعد أن صرفته العبارات السابقة عن إرادة الانتقام حين أمرته بالصبر وأرشدته إلى أسبابه. أما الآية الأخيرة فقد جمعت بين الطرفين في وقت واحد: التقوى والإحسان .. أو العدل والإحسان، ومسحت من نفس النبيّ بقايا الأحزان حين وعدته بأن الله تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون!! هذه خواطر سريعة وموجزة إلى درجة الإخلال .. لكنها كافية لبيان المقام الذي كانت تتنزل منه مثل هذه الآيات: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) [سورة يوسف، الآية 111]. وقال تعالى في سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4). وصدق الله العظيم.

الفصل الثالث نزول القرآن والحكمة من تنجيمه

الفصل الثالث نزول القرآن والحكمة من تنجيمه أولا- الوحي والتنزيل: عبّر القرآن الكريم عن كونه وحيا إلهيا، إما بمادة (الوحي) ذاتها. أو بمادة (النزول) وما يتصل بها ويشتق منها. وغالبا ما يأتي التعبير بالوحي في سياق الحديث عن نزول القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو مخاطبته به، أو وصوله إليه. أو- باختصار- في سياق العلاقة بين النبيّ والقرآن على وجه العموم. وغالبا ما يأتي التعبير عن القرآن الكريم بالنزول في سياق الحديث عن القرآن بوصفه حقيقة موضوعية (أنزله) الذي يعلم السّر في السماوات والأرض. أو لبيان أطراف التنزيل: الموحي به سبحانه، وأمين الوحي النازل بالقرآن: جبريل عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي (نزل) عليه القرآن. وقد جاء التعبير بهذه المادة- النزول- وما تصرّف منها تنويها بشرف القرآن، وعلوّ مكانته ومقامه؛ مصداقا لقوله تعالى في فاتحة سورة الزخرف: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) [الآيات 1 - 4]. والذي نحب أن نؤكد عليه هنا هو أن الذي نزل به جبريل- عليه السلام-

هو القرآن الكريم باعتبار أنه الألفاظ المعجزة أو الكلام العربي المعجز من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس (¬1)، وأنه كلام الله تعالى وحده، لا دخل لجبريل ولا لمحمد- عليه السلام- في إنشائه وترتيبه، فمهمة جبريل- عليه السلام- الحكاية للرسول والإيحاء إليه، وليس للنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن سوى وعيه وحفظه، ثم حكايته وتبليغه، ثم بيانه وتفسيره والعمل بمقتضاه. قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) [سورة النمل، الآية 6]. وقال: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [سورة الأعراف، الآية 203]. ¬

_ (¬1) يرى بعض العلماء أن في قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ما يشير إلى أن تنزلات القرآن كانت إلى اللوح المحفوظ، وأنه تنزل إليه جملة لا مفرقا، لأن أسرار تنجيم القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحققها في هذا التنزيل، ويقولون أيضا إن هنا لك تنزلا ثانيا إلى السماء الدنيا، بدليل قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فيستدلون بهذه الآيات مجتمعة على نزوله جملة في ليلة القدر من شهر رمضان، لأن نزوله الثالث على النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مفرقا في ثلاث وعشرين سنة كما هو معلوم. ويتعين الذهاب إلى هذا التفسير إذا ثبتت التنزلات الثلاثة بالأحاديث الصحيحة، أو يقال في مثل هذه الحال: إن هذا التفسير وارد بدليل تلك الأحاديث، لأن هذه الآيات تحتمل وجها آخر من وجوه التفسير. وقد لا يفهم من الآية الأولى التي استدل بها على التنزيل الأول إلى اللوح المحفوظ أكثر من أن القرآن الكريم عند الله ثابت، قوله هو المرجع الأخير في كل يتناوله من الأمور، وأن كل ما قضاه الله عزّ وجلّ من قرآن وغيره هو في هذا اللوح، الذي لا يدرك البشر طبيعته، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه، كما أن الآيات الأخرى التي استدل بها على التنزل الثاني تفيد أن ليلة القدر من رمضان كانت بدء نزول القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلم أي أن القرآن ابتدئ تنزيله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفة من سائر الأزمان. والله تعالى أعلم. راجع الإتقان للسيوطي 1/ 116 - 120. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث 1985 القاهرة.

وقال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) [سورة يونس، الآية 15]. وإذا كانت هذه النصوص في شأن إيحاء المعاني، فإن الآيات التالية دالة على أن الوحي كان باللفظ أيضا- كما أشرنا إلى طرف من ذلك في موضوع الوحي- قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [سورة الأعلى: الآية 87]. وقال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) [سورة القيامة، الآيات 16 - 19]. وقال تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) [سورة العلق، الآية 1]. وقال عزّ من قائل: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) [سورة المزمل، الآية 4]. والإقراء، وتحريك اللسان، والترتيل ... إنما هي من عوارض الألفاظ لا المعاني كما هو معلوم. وقد قال بعض العلماء في تفسير الآيات السابقة من سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) ... الآيات؛ إن سبب نزولها أن الرسول كان إذا نزل القرآن عجل بتحريك لسانه به، أي بقراءته، حبا له، أو حتى يحفظه ولا ينساه، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمره بالاستماع إلى جبريل، وطمأنه بأن عليه- سبحانه- جمعه له في صدره حتى يحفظه، وقراءته عليه حتى يعيه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ أي قرأه الملك عليك بأمرنا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي أتبع قراءته بقراءتك. «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قرأ» (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 1/ 4. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه إذا-

ثانيا - مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل:

أما إضافته تعالى القرآن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أو إلى جبريل، فلبيان أنه ليس بسحر كما زعم بعضهم، ولكنه كلام رَسُولٌ* مرسل به من رب العالمين، أو كلام مرسل رسول كريم، على مجاز الحذف، قال الله تعالى في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) [الآيات 38 - 43]. وقال تعالى في سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) [الآية 19]. ثانيا- مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل: 1 - كانت مدة نزول القرآن الكريم ثلاثا وعشرين سنة؛ لأن مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم في مكة كان ثلاث عشرة سنة اتفاقا، ومقامه في المدينة عشر سنوات على أشهر الروايات. وقد تتابع نزول القرآن خلال هذه المدة الطويلة، فكانت تنزل السورة مرة، وتنزل الآية أو الآيات مرة أخرى، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ضعوا هذه الآية في موضع كذا من سورة كذا، كما سنرى عند الكلام على تأليف القرآن- جمعه- على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى تم نزول هذا الكتاب الكريم قبيل وفاة النبيّ- عليه الصلاة والسلام-. 2 - وكان أول ما نزل من القرآن قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) (¬1). ¬

_ أنزل عليه القرآن يخشى أن يتفلّت منه، فقيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ: أن نجمعه في صدرك. وَقُرْآنَهُ: أن تقرأه .. الحديث: البخاري 6/ 76. (¬1) نشير هنا إلى أن المناخ العقلي الذي أشاعه القرآن الكريم والشروط النفسية والاجتماعية التي أوجدها، والتي كانت السبب في الاكتشاف والتقدم العلمي في الإسلام، كما سنشير في مبحث التفسير العلمي للقرآن في الباب الرابع، بدأت مع بداية الوحي.-

يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة الذي أشرنا إليه عند الكلام على الوحي وصوره في البحث السابق. غير أنه قد روى الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أو (اقرأ باسم ربك الذي خلق). فقال أحدثكم ما حدّثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي (¬1)، فإذا هو جبريل، فأخذتني رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثروني، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ ... »). ولكن هذه الرواية تشير في الواقع إلى أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي، بدليل ما رواه الشيخان أيضا من حديث جابر نفسه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني ¬

_ يقول الأستاذ مالك بن نبي: «بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنه على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .... اقْرَأْ ... هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم. إن الحروف هي حقا أداة النقل للروح، لكل رسالة، لكل بلاغ، فهي الحامل والرمز لكل معلومة من المعلومات، فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الإسلامي قيمتها منذ اللحظة الأولى في كلمة اقْرَأْ. «إن الحرف ينقل ويبلغ الروح، وفي نفس الوقت يحفظه من الضياع، وسيحفظ أولا وقبل كل شيء القرآن نفسه، ذلك الكتاب الذي لم يتغير فيه حرف واحد منذ أربعة عشر قرنا، على خلاف كل الكتب الأخرى ... » كتاب «إنتاج المستشرقين» للأستاذ مالك بن نبي رحمه الله ص 32. (¬1) زاد في رواية: فنوديت فنظرت أمامي وخلفي، وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء.

بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثيت (¬1) حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ... إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. قال: فحمي الوحي وتتابع». فكأن جابر بن عبد الله حدث بالحديث الأول قبل ما سمعه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من نزول الملك عليه بسورة «اقرأ». 3 - أما آخر ما نزل من القرآن، فهو قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ كما نقل ذلك عن ابن عباس. وفي رواية للبخاري عن ابن عباس أيضا أن آخر آية نزلت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وعن سعيد بن المسيب «أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدا بالعرش آية الدّين وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ- إلى قوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- وهي أطول آية في القرآن، وقال السيوطي- رحمه الله-: إن هذه الآراء الثلاثة يمكن الجمع بينها، لأن هذه الآية نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصاحف (¬2) لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وإن كان من الراجح أن آخر ما نزل بإطلاق هو قول تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. لأن بعض الروايات تنص على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توفى بعد نزول هذه الآية بتسع ليال فقط (¬3). على أن الزركشي في البرهان عدد بضع روايات في آخر ما نزل، كما بلغ بها بعضهم إلى عشرة أقوال، ليس من بينها كلها آية سورة المائدة التي اشتهرت عند ¬

_ (¬1) جثيت على وزن فرحت: ثقل جسمي عن القيام. (¬2) آية الدّين رقمها في سورة البقرة (282)، وآية وَاتَّقُوا يَوْماً ... إلى قوله لا يُظْلَمُونَ) رقمها 281. (¬3) انظر البرهان للزركشي 1/ 209 - 210.

ثالثا - الحكمة من تنجيم القرآن:

بعضهم، أخذا من موضوعها، وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وذلك لأن هذه الآية نزلت في يوم عرفة من حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، وقد عاش النبيّ- صلوات الله عليه- بعدها واحدا وثمانين يوما، في حين لم يكن بين وفاته- عليه السلام- وبين نزول آية: وَاتَّقُوا يَوْماً ... سوى تسع ليال فقط! وإكمال الدين في الآية المذكورة يراد منه- كما قال بعض المفسرين- إقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه، حتى حجّه المسلمون لا يخالطهم المشركون. يؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال: «كان المشركون والمسلمون يحجّون جميعا، فلما نزلت سورة براءة نفي المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين» فكان ذلك تمام النعمة. والله تعالى أعلم. ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن: لتنجيم القرآن- أي لنزوله مفرقا على دفعات، وفي هذه المدة الطويلة التي أشرنا إليها- فوائد وحكم كثيرة، بعضها يتصل بشخص النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضها الآخر يتصل بالمجتمع الإسلامي الوليد الذي كانت تتنزل عليه الآيات .. وبعض هذه الحكم يتصل بالنص القرآني نفسه؛ ونجمل هنا القول في هذه الحكم بما يلي: 1 - تثبيت فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإمداده بأسباب القوة والمجابهة أمام حملات المشركين ودسائس المنافقين، فتجديد الوحي يوما بعد يوم وحالا بعد حال، يمثل لونا من ألوان الرعاية الإلهية التي تمده بأسباب الثبات والمضي فيما اختاره الله له، ولهذا فإن المشركين عند ما اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما هي الحال في الكتب السابقة، رد عليهم سبحانه بما في هذا التنجيم من حكمة، فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [سورة الفرقان، الآيات 32 - 33]. كم هي الشدائد التي عرضت للرسول الكريم .. والتي حملتها الأيام المتلاحقة في أوضاع ومناسبات شتى .. والوحي الإلهي يهوّن من تلك الشدائد والأوهاق، ويرسم لها أجلا وقدرا مقدورا: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) [سورة فصلت، الآية 13]. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [سورة القمر، الآية 45]. ويقول تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) [سورة هود، الآية 120]. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [سورة الطور، الآية 48]. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) [سورة الكهف: الآية 6]. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [سورة فاطر، الآية 8]. الآيات التي تعزّي الرسول الكريم والتي تأمره بالصبر والمصابرة كثيرة في كتاب الله، ولكن يبقى مبدأ تجديد اتصال الوحي به، ومتابعة نزوله، يحمل معنى تثبيت فؤاده بإطلاق، كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة السابقة في سورة الفرقان. وتحمل الآية الثانية السابقة: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ... الإشارة إلى أن من أهم صور هذا التثبيت: الرد على مزاعم المشركين وشبههم واعتراضاتهم، قال ابن كثير في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بحجة ولا شبهة، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي: ولا يقولون قولا يعارضون به الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم. وقال ابن عباس في تفسير «المثل» ما يلتمسون به عيب القرآن والرسول، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي: إلا نزل

جبريل من الله تعالى بجوابهم. قال: «وما هذا إلا اعتناء وكبير وشرف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عزّ وجلّ بالقرآن صباحا ومساء، وليلا ونهارا، وسفرا وحضرا» (¬1). 2 - تسهيل حفظه على الرسول والمؤمنين، كلون من ألوان الحفظ الذي تكفل الله تعالى به: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [سورة الحجر، الآية 9]. فقد اختار الله تعالى تنزيله على هذا الوجه ليسهل على الناس حفظه، ولهذا جمع بين الأمرين في هذه الآية فقال تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. وإذا كان الله تعالى قد تكفل لرسوله بحفظه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [سورة الأعلى، الآية 6]. فإن أفراد المسلمين كانوا بحاجة إلى أن يعطوا فرصة تمكنهم من حفظه في الصدور، وهو الحفظ الأول والأهم بوصفهم أمّة أميّة كما هو معلوم. 3 - يمكن القول: إن من حكم هذا التنجيم، بصورة عامة، رسم صورة المجتمع الآخر، أو الفئات الثانية من منافقين ومشركين ... وفضح أساليبهم ونواياهم، ومفاجأتهم بحقيقة ما يقولون ويبيّتون ويمكرون. قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) [سورة التوبة، الآية 64]. وتظهر أهمية هذه الفائدة بالمقارنة بالحكمة الرابعة التالية: 4 - ومن أهم هذه الحكم: تربية الأمة الناشئة وإعدادها لبنة لبنة، وآية آية ... بحيث تم بناء هذه الأمة في نهاية المطاف من خلال نصوص القرآن ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 3/ 317. قال الطبري: «ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من الحق بما نبطل به ما جاءوا به، وأحسن منه تفسيرا» جامع البيان 19/ 11.

الكريم. فإذا ذكرنا أن ولادة هذه الأمة كانت من خلال تلك النصوص، فلنذكر أن ذلك لم يتم في يوم وليلة؛ بل تم خلال ما يقرب من ربع قرن كان القرآن الكريم فيها ينزل منجّما فيربّيها ويعدّها وينشئها .. بل يرسم للإنسانية على الدوام خطوات الصورة المثلى للبناء في الحاضر والمستقبل على حد سواء؛ يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله-: «لقد جاء هذا القرآن ليربّي أمة وينشئ مجتمعا، ويقيم نظاما. والتربية تحتاج إلى زمن، وإلى تأثير وانفعال بالكلمة، وإلى حركة تترجم التأثير والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحولا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يوما بعد يوم بطرف من هذا المنهج وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا، وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح بالتالي أكثر استعدادا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها». وقد تم هذا الإعداد الذي اقترن به عند المسلمين القول بالعمل بوسائل متعددة، وأمور كثيرة تحتاج ملاحقتها إلى دراسات خاصة. ونشير هنا إلى نقطتين اثنتين: (أ) التربية من خلال الواقع، وربط الأمور بأسبابها ومسبباتها، وهذا أدعى إلى بيان مدى الواقعية في هذا الدين، وأن أحكامه أحكام عملية لا نظرية. وأدعى- من وجه آخر- إلى الفهم والتذكر والمسارعة في التنفيذ؛ قال تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [سورة البقرة، الآية 219]. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) [سورة الإسراء، الآية 85]. وهذه امرأة ترفع إلى الرسول شكواها بأن زوجها ظاهر منها؛ فينزل قول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ... [الآيات في صدر سورة المجادلة].

وفي مناسبة أخرى يخاطب الله تعالى المؤمنين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [سورة الممتحنة، الآية 1]. وقصة الإفك التي تشير إلى حدث اجتماعي- أو ظاهرة في بعض الأحيان- تعالج في الوقت المناسب، وبعد أن يتخذ كل واحد من الناس موقفا أو يفتي برأي!! لتتعلم المجتمعات الإنسانية على مدى الدهر طريقة المعالجة، والموقف الواجب الاتباع: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ [سورة النور، الآية 11]. ولعل مما يشير إلى هذه الحكمة أو النقطة قول الله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [سورة الإسراء، الآية 106]. (ب) التدرج في التشريع، وذلك في الأمور المتمكنة من الأفراد وفي المجتمع بحيث يحتاج اجتثاثها أو التعفية على آثارها إلى وقت يقصر أو يطول؛ أي إن تخلي المجتمع عن مفاسده وشروره تم بواسطة هذا التدرج، وبعمق لم يشهد له التاريخ أو الواقع مثيلا. وكأن العملية التربوية المشار إليها في الفقرة السابقة وهي العمل الإيجابي، كانت تتم في خط مواز لهذه الناحية السلبية، أو لعلها كانت تأتي على أعقابها في بعض الأحيان، على مبدأ (التخلية ثم التحلية). ومن أمثلة هذا التدرج المشهورة تحريم الخمر الذي تم على هذه المراحل: نزل أولا قوله تعالى:* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [سورة البقرة، الآية 219]. فوصفت هذه الآية حالة الخمر والميسر، وأن الإثم فيهما أكبر من النفع (¬1)، ولكنّها لم تصرّح بتحريمهما أو طلب الكفّ عنهما. فإذا أضفنا إلى ذلك أنها افتتحت بقوله تعالى: ¬

_ (¬1) انظر إشارتنا السابقة إلى هذه الآية في الفقرة الثانية (العرب والقرآن) من الفصل الأول.

يَسْئَلُونَكَ ... أدركنا أهمية ذلك الوصف في تهيئة النفوس للتحريم، لأن الأمر صار موضع سؤال المجتمع وحديثه. ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [سورة النساء، الآية 43] فحرّمت هذه الآية عليهم أن يصلّوا وهم في حالة السكر، فكأنها وقتت تحريم شرب الخمر بوقت ليس بالقصير، لأن أوقات الصلاة متقاربة لا يذهب خلالها أثر السكر، فامتنعوا عن شربها سحابة النهار، حتى إذا صلوا العشاء الآخر قارف الخمر من أراد، وكأنهم في هذه المرحلة الثانية أعطوا الفرصة لتقوية العزيمة والإرادة على الكف والمنع المطلق- في الوقت الذي كان فيه الجانب التربوي الإيجابي يبنى باستمرار كما قلنا-. ثم نزل أخيرا قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) [سورة المائدة، الآيتان 90 - 91] .. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ قالوا: يا رب انتهينا، وتركوا الخمر، وقاموا إلى ما في دورهم منها فأهرقوه في طرقات المدينة .... من أراد أن يقف على أثر هذا التدرج في التشريع، أو هذه الحكمة من فوائد نزول القرآن منجما بوجه عام، فليقارن فعل المجتمع الإسلامي هذا بفعل المجتمع الأمريكي يوم صدر عندهم «قانون المنع» المشهور، والذي رد عليه الناس بمضاعفة الشرب، ومن الأنواع الرديئة، أضعافا مضاعفة .. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عائشة قالت: «إنما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (¬1). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 101 باب تأليف القرآن.

5 - وأخيرا، لعل من أهم حكم تنجيم القرآن: الدلالة على إعجازه وإثبات مصدره. ففي نزول القرآن خلال هذه المدة الطويلة، وكلما نزلت آية أو آيات قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا» وربما نزلت الآيات التي توضع في آخر السورة قبل الآيات التي توضع في أولها أو مقدماتها، وربما لم يكتمل بناء بعض السور- المفتوحة- إلا خلال سنوات ... ثم يكون القرآن الكريم بعد ذلك متسقا هذا الاتساق المعجز، منسّق الآيات والسور، محكم السرد، دقيق السبك، قوي الأسلوب ... إن في ذلك جميعه ما يشير بوضوح إلى مصدر هذا الكتاب الكريم وأنه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) [سورة النساء، الآية 82]. لأن الرسول الكريم الذي كان يأمرهم بوضع الآيات عند ما تنزل في موضع كذا من سورة كذا بشر لا يدري ما ستجيء به الأيام، وكيف سيتم بناء هذه السور ومتى يتم في المستقبل؟ والاختلاف المشار إليه في الآية الكريمة يكون من وجهين رئيسيين: الأول: من حيث النظم والأسلوب والبيان الذي لم يختلف في القرآن أو يتخلف في موطن من المواطن، وذلك على طريقة الأدباء في الاختلاف أيا كان حظهم من التفوق، ومع تفرغهم للعمل الأدبي الواحد في زمن معين أو فترات متقاربة لا يمكن أن تصل إلى ربع قرن!! ومع التقديم والتأخير، واختلاف المناسبات والأحوال!! التي تم فيها وعليها نزول القرآن الكريم. وهذا كما أشرنا دليل الإعجاز. أما الاختلاف الثاني: فهو اختلاف المعاني والمضامين، فإذا لم تختلف هذه المعاني عند أحد طيلة حياته، فهل يمكن أن تتلاءم أو تتكاتف على أداء طريقة واحدة أو معنى منسجم عند ما يضمّ الكلام بعضه إلى بعض في سنوات طوال؟

رابعا - إضافة وتعليق:

الحديث النبوي نفسه الذي لم ينطق فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هوى أو بما يتعارض، هل يمكن أن يؤلّف الآن على ذلك النحو الذي تألف- اجتمع- عليه القرآن! يقول العلامة الدكتور دراز- رحمه الله-: «خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضا متباينة، أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك، وحاول أن تجيء بها سردا لتجعل منها حديثا واحدا من غير أن تزيد بينها شيئا أو تنقص شيئا. ثم انظر: كيف تتناكر وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل» (¬1). ويقول أيضا: «اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد، وما أكثرها في القرآن فهي جمهرته، وتنقل بفكرك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بدأت؟ وكيف ختمت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها؟ ووطّأت أولاها لأخراها؟ وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى، ولسوف تحسب أن السبع الطوال من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها قد نزلت نجوما» (¬2). رابعا- إضافة وتعليق: ويمكننا أن نضيف إلى هذه الحكم والأسباب: النقاط التالية، نوردها على نحو موجز لأنها مرتبطة عندنا بملاحظات وأفكار- ومنطلقات- أخرى يحتاج بيانها أو بسط القول فيها إلى صفحات مطوّلة، ومناسبات ثقافية ¬

_ (¬1) النبأ العظيم ص 140. (¬2) المصدر السابق، ص 149.

(أ) توثيق وقائع السيرة النبوية والدلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين:

أخرى (¬1). وهي المناسبات التي أومأت عندنا إلى هذه النقاط: (أ) توثيق وقائع السيرة النبوية والدلالة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين: إن هذا النزول المنجم هيأ الفرصة لضمّ سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سائر قصص الأنبياء والمرسلين، وحياة الأمم السابقين، وأحداث التاريخ الكبرى منذ آدم ونوح. وهي الأحداث التي ختمت بأعظم وقائع التاريخ الإنساني، وهي واقعة بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن. لقد ارتقى القرآن الكريم بالسيرة النبوية، النبراس والمثل الذي يحتذى إلى يوم الدين، ووقائع الجماعة الإسلامية الأولى في عهديها المكي والمدني، إلى مقام التواتر والتوثيق الإلهي، ولم يدع هذه الوقائع وتلك السيرة وحدها، دون أحداث التاريخ والأمم والأنبياء السابقين، إلى الرواة والقصّاص والمؤرّخين، بالغا ما بلغت عدالتهم أو درجة ضبطهم وتوثيقهم. إن التوثيق الذي منحه القرآن الكريم لحياة الأنبياء السابقين وقصصهم مع أقوامهم لم يبخل به عن سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين. ولولا النزول المنجم للقرآن لما أدركنا كيف كان سيتم ذلك! بل إن هذا التنجيم لم يتسع لأحداث السيرة النبوية ومعالمها الكبرى .. كطريق من طرق التوثيق ارتقى بها إلى درجة التواتر .. فحسب، بل بوصفها كذلك قاعدة التاريخ الإسلامي وطليعته التي تقدمت (عمل) جيل التنزيل، أو التي تفاعل معها هذا الجيل نفسه. وفحوى ذلك أن هذا التنجيم اتّسع للحديث عن السلوك والأعمال، أو عن التطبيق والتنفيذ- كما سيتضح بعد قليل- وإن شئت قلت: اتّسع للحديث عن السنن النفسية والاجتماعية من خلال نفاذها ووقوعها في ¬

_ (¬1) راجع بحثنا: التاريخ بين ثقافتين: حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، العدد الثامن 1990 م.

(ب) تصويب حركة التطبيق والتنفيذ:

المجتمع الإسلامي طيلة حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ومدّة نزول القرآن! أي من خلال البعد العملي أو التطبيقي لهذه السنن. في الوقت الذي أشار القرآن الكريم إلى هذا الوقوع أو النفاذ في مواطن (تاريخية) أخرى كثيرة من خلال (قصص الأنبياء) وتاريخ الأمم السابقة على الأمة الإسلامية؛ والتي كانت تأتي بدورها في السياق الملائم عبر هذا النزول المنجّم. لا غرو إذن أن تنزل سائر كتب الله تعالى على الأنبياء السابقين جملة واحدة، وأن ينفرد القرآن الكريم بنزوله منجما خلال ما يوازي بناء جيل طليعي واحد من أجيال التاريخ. وربما أمكننا القول- من الوجهة المقابلة، أو في الوقت ذاته- إن هذا النزول المنجّم يحمل في ذاته الدلالة على أن القرآن الكريم خاتمة الكتب السماوية، لأنه حين اتسع بهذا النزول لضم سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حياة الأنبياء السابقين الذين نزلت كتبهم مرة واحدة! أدركنا أنه لا كتاب بعد القرآن يهيمن أو يوثّق! وأدركنا معنى كونه خاتمة الكتب وأن محمد بن عبد الله خاتم النبيين، صلّى الله عليه وعليهم أجمعين. (ب) تصويب حركة التطبيق والتنفيذ: أو الدلالة على مواطن الخطأ ووجوه التقصير في تنفيذ الأحكام والتشريعات. وفي هذا تأكيد بالغ الأهمية على ضرورة استجابة (الواقع) للوحي أو النص استجابة تامّة غير منقوصة ... ومن ثم لتقديم الصورة (الواقعية) المثلى لهذه الحركة عبر عصور التاريخ. أو التي يجب أن تحتذى عبر هذه العصور .. بعد أن قدم جيل التنزيل- وإن شئت قلت جيل التنجيم الذي قام بالتطبيق وجرى عليه المراجعة والتصويب- النموذج الأفضل، والمثال الذي يحتذى! لقد نزل القرآن الكريم تباعا، أو موقفا في إثر موقف، يسجّل على هذا الجيل النقص والخطأ، ويدلّهم على مواطن الضعف، ويقفهم رأي العين أو في (الواقع) الذي عاشوه

وعاينوه على سنن الاجتماع الإنساني في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والهزيمة والنصر ... لا ليعلّمهم ويدرّبهم على تغيير الواقع الفاسد أو المغلوط، باتجاه (الواقع) المطلوب أو المرغوب فيه فحسب، بل ليدرّبهم فوق ذلك على أن الواقع المؤلم أو المكروه والذي أفرزه مبدأ صائب أو الذي جاء في أعقابه وانبنى عليه، لا يجوز له أن يشكل مبررا لتجاوز المبدأ أو للعودة عليه بالتحوير والتبديل! كما حصل يوم أحد على سبيل المثال؛ لقد نزل في هذا اليوم آيات كثيرة كما هو معلوم، منها- في هذا الجانب الثاني وحده- قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) [سورة آل عمران، الآية 3]. فقد أمرت هذه الآية الكريمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتزام مبدأ الشورى على الرغم من أن الهزيمة جاءت في أعقاب شورى النبيّ لأصحابه، وبسبب غير مباشر منها (¬1)! ولكن هذه الهزيمة لا يجوز لها أن تبرر تجاوز هذا المبدأ أو هذا التشريع، أو الانتقاص منه، فضلا عن تكريس نقيضه!! بحجة (الواقع) الذي أفرزه أو انبنى عليه. والعجيب بعد هذا أن يتوهم بعض الدارسين أن (الوحي) كان استجابة (للواقع)!! اعتمادا على أن بعض آيات التشريع أو الأحكام جاءت بسبب نزول معين. وعلى الرغم من أننا سوف نتناول الرد على هذا الزعم في مبحث سبب النزول؛ فإن حديثنا قبل قليل عن «التربية من خلال الواقع» - الحكمة الرابعة السابقة من حكم تنجيم القرآن- قد يكون مشمولا بهذا الوهم أو الزعم؛ الأمر الذي يفرض علينا إيجاز القول في نقضه هنا ببعض النقاط: 1 - إن معظم آيات القرآن الكريم نزلت ابتداء، أي بدون سبب نزول خاص أو معين. ويدخل في ذلك الجانب الاعتقادي كله، أو آيات الإيمان ¬

_ (¬1) انظر «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، ص 532 - 533 (المجلد الأول) الطبعة الرابعة، دار الشروق 1977.

والاعتقاد. ويتصل بهذه الآيات أو بهذا الجانب في القرآن الكريم سائر آيات العهد المكي بموضوعاتها الرحبة والمتعددة: (الكون والطبيعة- الإنسان- التاريخ). وبعض آيات هذا الجانب نزلت فهدمت (الواقع) القائم، وعفت على آثاره أو أقامت على أنقاضه بناء شامخا يأوي إليه (الإنسان) في جميع العصور. كما أن بعضها الآخر (أسّست) معارف جديدة ليست مرتبطة (بواقع) معين! سواء أكان واقع عصر النزول أم غيره! (مظاهر خلق الطبيعة، وتسخير السنن، وخلق الإنسان، وحياة الأنبياء، وتاريخ الأمم والحضارات ... إلخ) وفي كلا هاتين الحالتين فإن من سوء الفهم والقصد معا، أن يقال: «إن الوحي نزل حسب متطلبات الواقع أو كما يقول علماء الأصول: طبقا لأسباب النزول وتبعا لإمكانيات تقبله! ... » (¬1) أو أن يقال: إن الواقع إذا اشتد اشتد الوحي، وإن تراخى تراخى الوحي معه! 2 - الآيات التي كان لها سبب نزول خاص لا تعدو أن تكون بعضا أو طرفا من آيات الأحكام، أو الجانب التشريعي في القرآن الكريم؛ علما بأن آيات هذا الجانب جميعها لا تزيد في القرآن عن مائتي آية! وحين تصفحنا الروايات التي وردت في أسباب النزول، وجدنا أن ما يعتد به منها عند المحدّثين أقل من القليل! مع الإشارة إلى ضرورة ملاحظة ما ليس من هذا الباب .. أو تحديد المراد بسبب النزول والتدقيق في فهم عبارات المفسرين حوله، من أجل الوقوف على ما يمكن عدّه من هذا الباب، وإخراج ما ليس منه. وقد اتفق علماء التفسير وعلوم القرآن على أن سبب النزول يراد به «ما نزلت الآية أو الآيات مبيّنة لحكمه أيام وقوعه»، وهذا هو المعبّر عنه «بالواقع» في العبارة السابقة! 3 - هذا القدر نفسه يمكن عده- كما قلنا- أمثلة أو شواهد على مدى ¬

_ (¬1) حسن حنفي: قضايا معاصرة 1/ 92 وانظر مناقشة لهذه القضية، وردا علميا ضافيا في مبحث: التراث والتجديد للزميل الفاضل الأستاذ الدكتور أحمد محمد الطيب، حولية كلية الشريعة بجامعة قطر، العدد الحادي عشر 1993 م.

(الواقعية) في هذه الأحكام والتشريعات، بمعنى نفي الطوباوية عنها، أو نفي المثالية التي ليست أكثر من رؤيا في عالم الخيال، أو رسما على الورق أو في الفراغ، كما فعل بعض الفلاسفة على سبيل المثال. وحين يتأمل المرء هذا القدر يجد أنه قام على بيان أحوال نابعة من طبيعة الإنسان، أو «مفصّلة عليه»، إن صح التعبير، بغض النظر عن ملابسات الزمان والمكان والأشخاص، أي أنه قدم نماذج إنسانية، وصورة ما يجب أن تكون عليه هذه النماذج إلى يوم الدين. ومن هنا جاءت عبارة الأصوليين المشهورة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي وسعنا أن نفهم سبب النزول- في ضوء هذه الملاحظات- على أنه المناسبة التي استدعت ظهور الحكم، ووضعه موضع التطبيق، أي بداية توقيت العمل به ... في نسق هدم أوضاع الجاهلية، وبناء أحكام الإسلام في النفس والمجتمع ... يوما بعد يوم، أو طيلة عصر التنزيل. وغني عن البيان أن أحداث السيرة ووقائع الجماعة الإسلامية الأولى- التي أشرنا إليها في النقطة الأولى السابقة- ليست داخلة في نطاق أسباب النزول بهذا المفهوم، أو بمفهوم (الواقع) الذي قيل فيه ما قيل! لأنها قضية تسجيلية في المقام الأول، أقرب ما تكون إلى حديث القرآن الكريم عن تاريخ الأنبياء والأمم السابقين. وحين تناولت الآيات الكريمة من هذه الأحداث والوقائع جوانب أخرى متصلة بالواقع، بالمعنى المشار إليه أو المتحدث عنه، لم يأت هذا التناول استجابة للواقع أو تبريرا له، ولكنه جاء- كما قلنا في هذه النقطة- تصحيحا وتقويما لحركة التطبيق والتنفيذ. بل يمكن القول إن أحداث السيرة بوصفها جزءا من (التاريخ) واكبت الوحي ومشت في ركابه طيلة عصر التنزيل الذي نتحدث عنه كدليل على أن (الوحي) أو الثقافة بمعناها الشامل هي التي صنعت التاريخ وليس العكس. ولا يتسع المقام هنا لبسط القول في هذه النقطة التي توضح العلاقة بين

(ج) وأخيرا:

الثقافة والتاريخ، أو بين النظرية- إن صح التعبير- والتاريخ على الصعيد الإسلامي، والتي لم تقتصر على هذه الفكرة القائلة: إن الثقافة (النظرية أو الوحي) هي التي صنعت التاريخ (¬1)، بل التي أضفنا إليها ما قلناه قبل قليل من أن (التاريخ) واكب- أيضا- الوحي ومشى في ركابه طيلة عصر التنزيل- أو التنجيم- من أجل تصحيح وقائعه، أو تصويب حركة التطبيق والتنفيذ! فكيف يقال بعد هذا: إن الواقع هو المتحكم في الوحي؛ إن اشتد اشتد الوحي، وإن تراخى تراخى الوحي معه؟ إن هذا القول مأخوذ أو منتزع في الحقيقة من الثقافات الوضعية! لأن الثقافة الأوروبية التي قابلنا بينها وبين ثقافتنا الإسلامية- في مناسبة أخرى (¬2) - هي التي صنعت التاريخ، وليس العكس، على نحو ما عليه الحال في الثقافة الإسلامية، ومن ثم فإن جعل (الواقع) هو الحاكم على الوحي، يشير إلى التسوية بين القرآن والثقافات الوضعية، وربما أشار كذلك إلى إنكار أن يكون القرآن وحيا إلهيا، من غير هذا اللف والدوران! ولا ندري- في مثال الشورى الذي تحدثنا عنه-لماذا لم (ينزل) الوحي- أو (يأتي) بعبارة أصرح- ناعيا عليها أو منتقصا من قدرها، بحجة (واقع) الهزيمة الذي أفرزته! (ج) وأخيرا: فإن في وسعنا أن نضيف إلى حكم تنجيم القرآن الكريم حكمة أخرى، أو أن نؤكد- بعبارة أدق- الحكمة الخامسة السابقة، وهي إثبات مصدر القرآن، وأنه تنزيل من حكيم حميد ... لا بدليل اتساق القرآن وعدم اختلافه في الأسلوب والمضمون، على الرغم من نزوله واستكمال بنائه خلال فترة النزول الطويلة هذه، ولكن- هذه المرة- بدليل وقوع الأحداث والبشائر على النحو الذي تحدث عنه القرآن وأشار إليه طيلة عصر التنزيل، أو بدليل انقضاء مدة النزول أو التنجيم على ¬

_ (¬1) راجع بحثنا المشار إليه: التاريخ بين ثقافتين. (¬2) المصدر السابق.

هذه الأحداث والبشائر، وعلى سائر وعود القرآن وإيعاداته من غير خلف أو اختلاف. ألم ينزل القرآن الكريم يقول في شأن أبي لهب: سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ فبقي أبو لهب على كفره فيما استقبل من فترة نزول القرآن حتى وافاه الأجل! وقد كان في وسعه سياسة أو نفاقا أن يقول إنه دخل في الإسلام فكيف يحكم عليه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيبقى على كفره، وأنه سوف يرد النار يوم القيامة. أم إنه الوحي والعلم الإلهي القاطع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ أليس في مثل هذا الحكم على المستقبل، هنا وفي قوله تعالى في شأن الوليد بن المغيرة: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ! ما يشير إلى أن هذا كله من شأن من بيده مفاتيح الهداية والإيمان، وأزمّة الأفئدة والعقول، جل شأنه؟ وإذا نظرنا إلى مثل هذه المواقف في ضوء مسألة (الواقع) التي أشرنا إليها في الحكمة السابقة، فهل يمكن القول: إن هذا الحكم كان استجابة للواقع؟ ومن الذي استجاب لهذا الواقع: (الوحي) أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما الوحي فقد نزل بحكم الله تعالى القاطع! وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن من وجهة نظر السياسة والواقع، أي من جهة حرصه على إيمان قومه، أو طمعه في إيمانهم أيا كانت درجة عداوتهم له ولما جاء به .. لم يكن مستعدا من هذه الوجهة، ولا من الوجهة النفسية- وقد بدأ بإعلان دعوته على جبل الصفا- أن يواجه أبا لهب بمثل هذا الموقف أو الإعلان المخيف! ونذكّر في ختام هذه النقطة بأن جزءا كبيرا من حديثنا السابق عن (صدق ظاهرة الوحي) يمكن أن يدخل ضمن هذه الحكمة من حكم التنجيم، أو يلحق بها. والله تعالى أعلم.

الفصل الرابع جمع القرآن وتدوينه

الفصل الرّابع جمع القرآن وتدوينه حديثنا هنا عن «حفظ القرآن وكتابته» ز من النبيّ صلى الله عليه وسلم و «جمعه» - في مصحف واحد- أيام أبي بكر- رضي الله عنه-، ثم «نسخ» المصاحف على عهد عثمان- رضي الله عنه-. وإن كانت هذه الأعمال الثلاثة يطلق عليها جميعا، في كثير من الأحيان، لفظ «الجمع»، لكنه يطلق ويراد به مرة «الحفظ» وأخرى: «الكتابة والتدوين، والجمع في مصحف واحد»! وإذا كان حفظ القرآن- بمعنى جمعه في الصدور- و «كتابته» على الأوراق المختلفة المتفرقة قد تم في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن «جمعه» - بمعنى جمع أوراقه المكتوبة في مصحف واحد- قد تم في عهد الخليفة الصّدّيق. ثم «نسخ» من هذا المصحف عدة نسخ بعثت إلى الأمصار زمن عثمان- رضي الله عنهما-. نذكر هذا في مطلع هذا الفصل حتى تتنبه إلى الوهم- أو الخلط- الذي وقع فيه الدكتور «آرثر جيفري» (¬1) حين قال في مقدمته لكتاب «المصاحف»: ¬

_ (¬1) جيفري من أكثرهم أوهاما، وأضعفهم في فهم النصوص. وأخطاؤه التي وقفنا عليها في نشره لكتاب «مقدمتان في علوم القرآن» تدل على جهله بالعربية، وعلى رسوخ قدمه في الجرأة على التحريف والتصحيف.

«الرأي الشائع في أن القرآن الكريم كتب في عهد النبيّ- عليه السلام- لا يقبله المستشرقون، لأنه يخالف ما جاء في أحاديث أخرى، أنه قبض صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن في شيء»! ولا وجه لأدنى خلط بين «كتابة» القرآن في عهد النبيّ الكريم، وما جاء في بعض الآثار الأخرى «أن النبيّ قبض ولم يجمع القرآن في شيء»! أي في شيء خاص به من مصحف أو سجلّ أو كتاب!! فإن كانت هذه العبارة موهمة عنده، أو محتملة في ذاتها!، فإن «جيفري» قد قرأ في الكتاب الذي حققه بيده- وأعني كتاب «مقدمتان في علوم القرآن» - روايات «تصرح» «بكتابة» القرآن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبلفظ «الجمع» كذلك، جاء فيها: «أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ما نزلت آية إلا وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يكتب له، أن يضعها في موضع كذا من سورة كذا» (¬1). لكن الحسن فيما أشار إليه «جيفري» أنه اعتمد في رأيه، أو عدم قبوله لما نقول، على «أحاديث أخرى» أي أنه حصر الخلاف في ميدانه الطبيعي، وهو تحقيق الآثار والأخبار التاريخية، أو فهم هذه الآثار والأخبار، بغض النظر عن مثل هذا الفهم السقيم، ومع الإشارة إلى أن جمهور المستشرقين- كما سنشير في هذا الفصل- يسلّم بصحة نقل القرآن- هذه الوثيقة التاريخية- بعد أن تم حفظه في وقت مبكّر منذ نزوله إلى أن تم توزيع المصاحف على الأمصار الإسلامية في عهد الخليفة الثالث- رضي الله عنه-. يؤكد هذا أن موضوع «حفظ» القرآن في صدور المئات من الحفّاظ لا ينازع فيه أحد. وقبل أن نبدأ الكلام عن حفظ القرآن الكريم وكتابته في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بوصف ذلك أولى خطوات التوثيق ومراحل الجمع، وأول الخطوات الدالة على ¬

_ (¬1) مقدمتان في علوم القرآن، نشر جيفري ص 27.

أولا - حفظ القرآن وكتابته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

قطعية النص القرآني وتواتره، نذكّر بالكلمات التي ختمنا بها موضوع تعريف القرآن، عند ما قلنا إن تسمية القرآن: قرآنا وكتابا، تؤكد أن من حقه أن يكون مصونا وموثقا من طريق الحفظ والكتابة جميعا. أولا- حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أ) الحفظ والجمع في الصدور: 1 - كان سيد الحفاظ وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي «فرق» الله عليه القرآن ليقرأه على الناس «على مكث»، والذي تكفل له بحفظه وجمعه في صدوره، فقال تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) [سورة القيامة، الآيات 16 - 17]. وقد كان سبيل حفظه ممهدا أمام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمام الصحابة كذلك، واعتمادهم في الأصل إنما هو على الذاكرة دون الكتابة، بوصفهم أمة أميّة لهم كل خصائص الفطرة النقية، والذكاء الأصيل، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) [سورة الجمعة، الآية 2]. هذا إلى جانب ما عرف عنهم- في الصحراء- من صفاء الذهن وجودة القريحة. بل إن حفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجري عليه لون من ألوان الزيادة في الاطمئنان والتثبت؛- ولعله الوجه الذي نراه من وجوه التكفّل الإلهي له بحفظه وجمعه في صدره حتى لا يضيع منه شيء- وذلك بأن يقرأه النبيّ على جبريل في كل عام مرة؛ أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن،

فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (¬1) .. حتى إذا دنا حضور أجل النبيّ صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين؛ جاء في البخاري عن عائشة- رضي الله عنها- عن فاطمة بنت النبيّ- عليها السلام- «أسرّ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضني بالقرآن كلّ سنة، وإنّه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي» (¬2). وأخرج البخاري أيضا من حديث أبي هريرة قال: «كان جبريل يعرض على النبيّ القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرّتين في العام الذي قبض، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض» (¬3). 2 - ثم يأتي دور الصحابة الذين كانوا يتسابقون في حفظ القرآن واستظهاره، يهجرون من أجل تلاوته في الأسحار نومهم وراحتهم، حتى ليمر الشخص ببيوت الصحابة في غسق الدّجى يسمع فيه دويا كدويّ النحل بالقرآن، فكان شغفهم بالقرآن عظيما جدا؛ روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن، حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار». وأقل ما يقال في هذا الشغف الهائل أنه- فيما وراء التلقي للفهم والعمل والتطبيق- من أجل قراءة القرآن في النوافل والفرائض، والتقرب إلى الله تعالى بتلاوته. إلى جانب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على العناية بالتنزيل، ويبعث إلى من كان منهم بعيدا من يقرئهم ويعلمهم، كما بعث مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل هجرته- عليه السلام-، يعلّمانهم الإسلام ويقرءانهم القرآن، وكما أرسل معاذ بن جبل إلى مكة بعد الهجرة للتحفيظ والإقراء. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 101 - 102. (¬2) المصدر السابق 6/ 101. (¬3) المصدر السابق 6/ 102.

قال عبادة بن الصامت- رضي الله عنه-: «كان الرجل إذا هاجر دفعه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا». وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ القرآن في شهر. قلت: إني أجد قوة. قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» (¬1). وكانت النتيجة لكل هذا أن عدد الحفاظ من الصحابة كان كبيرا، ويكفي أن نعلم أنه قتل منهم يوم بئر معونة ويوم اليمامة، أربعون ومائة، قال القرطبي: قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة- وما أدراك ما يوم بئر معونة- مثل هذا العدد! غير أن الذين اشتهروا من الصحابة بحفظ القرآن: الخلفاء الأربعة، وطلحة، وسعد، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وحفصة. كما حفظه من الأنصار في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، وكثيرون غيرهم. ويمكن القول إن حفظهم للقرآن بهذه الأعداد الكبيرة يمثل لونا من ألوان «التوثيق»، إلى جانب أن بعضهم ربما قرأ أو عرض ما يحفظه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري من حديث عبد الله بن مسعود- وقد جعله النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدا من أربعة أمر بأن يؤخذ عنهم القرآن (¬2) - قال: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب- وفي رواية: أشتهي- أن ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 114 وانظر فيه كذلك الرواية الأخرى المطوّلة، ص 113، وراجع: جامع الأصول لابن الجزري 2/ 471 - 473 تحقيق عبد القادر الأرناءوط، طبع دمشق 1389. (¬2) صحيح البخاري 6/ 102، وفيه: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبيّ بن كعب. وانظر جامع الأصول لابن الأثير الجزري 2/ 507.

(ب) الكتابة والتدوين:

أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) قال لي: كفّ أو أمسك، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان! (¬1): (ب) الكتابة والتدوين: هذا في موضوع حفظ القرآن- بمعنى جمعه في الصدور- في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإذا انتقلنا إلى «الكتابة» والتدوين نجد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اتخذ كتّابا للوحي، أمرهم بكتابة كل ما ينزل من القرآن، منهم الخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وثابت بن قيس، وغيرهم. فكانوا يكتبونه فيما يسهل عليهم من العسب واللخاف والرّقاع والأكتاف والأقتاب وقطع الأديم (¬2)، قال زيد بن ثابت: «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع» وقال بعد أن أمر بجمع القرآن: (فتتّبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال) (¬3). وفي هذا دلالة على أن الشطر الأعظم من القرآن الكريم كان مكتوبا على الورق وسائر انواع الرقاع. وفوق ذلك فقد نهاهم الرسول الكريم عن أن يكتبوا شيئا غير القرآن، فقال صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري- «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» (¬4) وذلك- فيما يبدو- حتى تتوفر جهودهم وهممهم ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 113، 114. (¬2) العسب، بضم العين والسين، جمع عسيب: وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض. واللخاف، بكسر اللام، جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء، وهو الحجر الأبيض الرقيق. والرقاع جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو من ورق أو كاغد. والأكتاف جمع كتف، وهم عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف. والأقتاب: جمع قتب- بفتحتين- وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه. (¬3) صحيح البخاري 6/ 98. (¬4) - صحيح مسلم بشرح النووي 18/ 129.

ثانيا - جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -:

على حفظ القرآن في المقام الأول، وإن كان كثير من العلماء يرى العلة في هذا النهي خشية اختلاط القرآن بالحديث، وربما كان من صواب الرأي أن يقال إن هذا الاختلاط- لو رخص لهم النبيّ بكتابة أحاديثه الشريفة- مأمون من أدنى نظر بين الأسلوبين، إلا أن يكون النهي عن جمعهما في صحيفة واحدة إن أمن صاحبها اللبس- لمكان معرفته وتفريقه- في السورة الكاملة أو الآيات الكثيرة، فلعلّه لا يأمنه في آية، كان ينزل بها الوحي، أو إن أمن هو كل ذلك، فقد لا يأمن على من تقع هذه الصحيفة في يده في وقت لا حق! وبخاصة إذا كان الذي كتب مع الآية تأويلها. يؤكد ما أشرنا إليه من توافر الجهود الرئيسة أو الكبرى- زيادة في التوثيق- أن الحديث لا يخشى عليه مثل هذا الضياع والرسول بين ظهرانيهم، وفرصة الإعادة وتجدد مناسبة القول مفتوحة، وفي وسع من أراد السؤال أن يسأل. ولهذا- وهذا استطراد لا بد منه- لا نجد أي فرصة لاستغراب كثرة رواية أبي هريرة مثلا مع تأخر إسلامه، بل لعل الشطر الأكبر من الأحاديث النبوية قالها النبيّ الكريم أو أثرت عنه بعد الهجرة؛ والوحي الإلهي يلقي على عاتقه مع آيات التشريع وتوسع الحياة الاجتماعية أضعاف ما خصّه من الدور مع الآيات المكية التي كانت تدور في معظمها حول قضايا العقيدة وقصص الأنبياء والأمم السابقين. والنقاط التي يمكننا أن نفصّل فيها تفسيرنا السابق لموضوع النهي كثيرة، ونكتفي هنا بالقول: إن هذا النهي على كل حال يمثل لونا آخر من ألوان التوثيق في الكتابة يحسن التنويه به والإشارة إليه. ثانيا- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصدّيق- رضي الله عنه-: يحدثنا زيد بن ثابت كاتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري- فيقول: «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (¬1) فإذا عمر بن الخطاب ¬

_ (¬1) أي بعد مقتل من قتل في وقعة اليمامة، وهي الموقعة التي دارت بين المسلمين والمرتدين- من أتباع مسيلمة الكذاب- والتي استشهد فيها من القرّاء سبعون رجلا كما أشرنا إلى-

عنده، قال أبو بكر- رضي الله عنه-: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ (¬1) يوم القيامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه- فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن- قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني، حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللّخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حتى خاتمة براءة، [الآيتان 128 - 129]، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما» (¬2). ¬

_ ذلك، وكان منهم سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه الذي تقدم لحمل الراية بعد أن استشهد زيد بن الخطاب رضي الله عنه ووقعت الراية! فقال المسلمون: يا سالم! إنا نخاف أن نؤتى من قبلك. فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي! فلما انكشف المسلمون قال سالم: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحفر لنفسه حفرة وقام فيها- ومعه راية المهاجرين- فقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه وأرضاه. وحين انكشف المسلمون في هذه الوقعة الشديدة ثلاث مرات أهابوا بحملة القرآن أن يتقدموا الصفوف، ففعلوا حتى استحرّ القتل فيهم. راجع مجمع الزوائد للهيثمي 9/ 322 والاستيعاب لابن عبد البر 1/ 194. وقيل: إن عدد من قتل من القرّاء في هذا اليوم سبعمائة! القرطبي: 1/ 50. (¬1) أي اشتد. (¬2) - صحيح البخاري 6/ 98 - 99.

1 - يدل هذا النص على أن الباعث على الجمع الذي تم في عهد الصّدّيق وكان بإشارة من ابن الخطاب- رضي الله عنهما- هو الخوف من أن «يذهب كثير من القرآن». ولم يفهم «جيفري» - الذي علمت خبره- من هذا الخوف أنه تحرّ في الصيانة والحفظ، ولكنه فهم أن القرآن لم يكن مكتوبا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلا لماذا يخاف عمر من استشهاد الحفاظ؟! وندع ما أشرنا إليه من أن القرآن الكريم «كتب» على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لنقول: إن ذهاب الحفاظ في المواطن أمر يخاف منه في الغد القريب أو البعيد، لأن طريقة أداء المكتوب لا يتأتى إلا عن طريق التلقين والرواية، وذهاب الذين حفظوا القرآن أيام النبيّ صلى الله عليه وسلم يعوق طريقة الأداء. بل إن ذهاب هؤلاء الحفاظ أمر يخشاه عقل حازم ونظر نافذ كعقل عمر بن الخطاب ونظره و «وثائقيته» المشهورة ... يخشاه من حيث هو، ويخشاه كذلك لأن القرآن كما قلنا لا بد فيه من الكتابة والحفظ جميعا! يؤكد هذا: المنهج الذي رسمه أبو بكر لزيد بن ثابت في هذا الجمع. 2 - يتلخص منهج الجمع، كما رسم لزيد وأمر بتنفيذه، في وجوب الاعتماد على مصدرين: أولهما: ما كتب بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم. وثانيهما: ما كان محفوظا في صدور الرجال. قال زيد: «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال» وفي الحديث الآخر الذي أخرجه ابن أبي داود من طريق عبد الرحمن بن حاطب قال: «قدم عمر، فقال: من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فليأت به- قال: وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب- وكان زيد لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان» قال السخاوي: المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شارك عمر زيد بن ثابت في موضوع الجمع، بإشارة من أبي بكر، وكانا يطلبان على الحفظ كذلك شهادة شاهدين، جاء في حديث منقطع رجاله ثقات أن

أبا بكر قال لعمر وزيد: «اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه» وقد فسّر بعض العلماء هذين الشاهدين: بالحفظ والكتابة. ومعنى ذلك: الاكتفاء بشاهد واحد على الكتابة، ومثله على الحفظ! ولو صح هذا التفسير المخالف لما ذهب إليه جمهور العلماء- سواء صح الحديث السابق أم لم يصح- لما كان هنا لك من داع ليخص زيد بن ثابت- في رواية البخاري السابقة- آخر سورة «براءة» بالذكر! إن كان لا يتطلب على «الكتابة» أكثر من شاهد واحد! ومن نافلة القول أن نشير إلى أن قوله: «لم أجدها مع أحد غيره» لا يجوز تفسيره بأنه لم يجدها «محفوظة»!! لأنه كان- رضي الله عنه- يبحث عن آية «يحفظها» هو! قال الزركشي: «وقول زيد: لم أجدها إلا مع أبي خزيمة، ليس فيه إثبات القرآن بخبر الواحد، لأن زيدا كان سمعها وعلم موضعها في سورة التوبة بتعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذلك غيره من الصحابة ... » قال: «وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم». وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: «ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة» (¬1). بل إن من الواضح أن طلب مثل هؤلاء الشهود لا يراد به أكثر من مجرد الاستظهار والاستيثاق وتسهيل عمل زيد بن ثابت ... لأن الأصل هو في الحفظ المتواتر من قبل جمهور الصحابة- رضوان الله عليهم- ... وهذا معنى تخوّف الفاروق الذي لم يفهمه «جيفري» مرة أخرى! ولهذا فإن التواتر هنا في نقل القرآن الكريم لا يمكن في الشاهدين أو في الأربعة شهود، حتى نقول مع بعض العلماء: إن الاستظهار المتواتر لآخر سورة براءة من قبل الصحابة قام مقام الشاهد الآخر على أنه كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) ... لأن هذا عكس ما يجب قوله في هذا ¬

_ (¬1) فتح الباري 9/ 12. (¬2) انظر كتاب «علوم القرآن» للأستاذ الدكتور صبحي الصالح رحمه الله.

المقام، لأن التواتر إنما يكمن حقيقة في موافقة هذا المكتوب في الصحف، بشهادة أي عدد كان، لما كان يحفظه الصحابة في صدورهم- بل إن الكتابة ليست شرطا في التواتر أصلا- حيث تلقوا عمل أبي بكر بالقبول، وتمت عليه موافقتهم .. فكأن جمع المتفرق- «فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال» - كان سبيلا ليعارض بالمجتمع «ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا يغيب عن جمع القرآن أحد عنده منه شيء، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف، ولا يشكّوا في أنه جمع عن ملأ منهم» (¬1) كما قال الزركشي- رحمه الله-. هذا الجمع العلني والإعلامي، في مجتمع فضل وعلم ودين، هو الذي قال فيه علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله» (¬2). 3 - وأخيرا، فإن من أبرز ما تضمنه حديث زيد السابق (¬3) أن الصحف التي جمع فيها القرآن- بين لوحين أو أجزاء متفرقة- كانت عند أبي بكر الخليفة- رضي الله عنه-، ثم آلت إلى سيدنا عمر من بعده، ثم صارت إلى حفصة بنت عمر أمير المؤمنين، ولم توضع عند عثمان لأن عمر- رضي الله عنهما- ترك الخلافة شورى من بعده في ستة فلا يحسن دفع هذه الصحف إلى واحد منهم، ولعله لو فعل ذلك لفهم على أنه من أمارات الترجيح! يضاف إلى ذلك أن حفصة- رضوان الله عليها- هي زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين، وكانت متمكنة من ¬

_ (¬1) راجع البرهان للزركشي 1/ 234 تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله. (¬2) أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» بإسناد حسن. (¬3) من هذه الأمور: الثقة المطلقة بزيد من قبل أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، هذه الثقة التي لم يؤكدها أنه كاتب للوحي، فحسب، حتى دل عليها بمكانه في الورع والتقى- لخشيته في الأمر- إلى جانب ما اتصف به رضي الله عنه من الحزم والعقل، والتحري والضبط جميعا.

ثالثا - نسخ المصاحف على عهد عثمان - رضي الله عنه -:

القراءة والكتابة، فضلا عن حفظها للقرآن الكريم عن ظهر قلب، فبقيت هذه الصحف عندها إلى أن طلبها منها الخليفة عثمان بن عفان، كما سنرى في الفقرة التالية: ثالثا- نسخ المصاحف على عهد عثمان- رضي الله عنه-: 1 - كان الجمع الذي تم في عهد الصدّيق، إذن، جمعا عاما، أو جمعا «رسميا» قام به الخليفة، وشارك فيه جمهور الصحابة أو جماعة المسلمين: الحافظ بحفظه والكاتب بكتابته. إلا أن هذا الجمع لم يرد له أبو بكر- رضي الله عنه- أن يكون «قاضيا» على الصحف الخاصة التي جمع فيها بعض الصحابة القرآن لأنفسهم، كما فعل عبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري والمقداد بن عمرو وأبيّ بن كعب وعلي بن أبي طالب- وكان غالب هذا الجمع يتمثل في تسجيلهم لما كانوا يسمعونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرآن- لأن همّ أبي بكر وعمر كان مصروفا لمبدأ الجمع الموثق الذي يتم على ملأ من الحفاظ وعامة المسلمين، والذي كان من أركانه بعض أصحاب هذه الصحف أو المصاحف؛ ولهذا فإن هذه الصحف لم تختلف عن المصحف السابق إلا في ترتيب السور من ناحية، وفي بعض القراءات التفسيرية والقراءات ذات الطابع اللهجي من ناحية أخرى (¬1)، لأنهم إنما كانوا يدونون هذه الصحف لأنفسهم، وتأكيدا أو تطبيقا لمبدأ نزول القرآن على سبعة أحرف، كما سنشير إلى ذلك في بحث قادم. وقد علّل صاحب كتاب المباني اختلافهم في ترتيب السور «بأن الواحد منهم إذا حفظ سورة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتبها ثم خرج في سرية فنزل في وقت تغيّبه سورة، فإن كان إذا رجع فأخذ في حفظ ما ينزل بعد رجوعه وكتابته فيتتبع ما ¬

_ (¬1) انظر دراسة مطولة لهذه المصاحف في كتاب «تاريخ القرآن» للدكتور عبد الصبور شاهين ص 125 - 189 وانظر كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل» للإمام ابن حزم 2/ 76 - 80.

فاته على حسب ما يستهل له، فيقع فيما يكتبه تقديم وتأخير من هذا الوجه». قال: «وليس يقدح في الثقة بالقرآن أن كانت السور متفرقة على غير ولاء، بعد أن كانت معروفة عند عامّتهم، محفوظة عن أن يزاد فيها أو ينقص، كما أنه ليس يقدح في قصائد زهير والأعشى وغيرهما من الشعراء أن تكون قصائدهم متفرقة، ثم تجمع بين دفتين فتقدم قصيدة وتؤخر أخرى» (¬1). أما الاختلاف بالزيادة والنقص- فيما وراء الأحرف السبعة- أو بعبارة أدق: الاختلاف بالنقص، فلم يكن له وجود، ومن ظن ذلك فقد غفل عن النقطة التي أشرنا إليها، وهي أن هذه الصحف صحف خاصة، وربما دوّن صاحبها على صحيفة من الصحف دعاء أو حديثا وهو يأمن أنه ليس من القرآن، أو ترك تدوين سورة يعلم أنها من القرآن ... فمصحف ابن مسعود- على سبيل المثال- زعم بعضهم أنه كان يخلو من سورة الحمد! قال ابن قتيبة: «وكيف يظن به ذلك وهو- أي ابن مسعود من أشد الصحابة عناية بالقرآن؟ ولكن ذهب فيما يظن أهل النظر إلى أن القرآن إنما جمع وكتب بين اللوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد- فاتحة الكتاب- ... فلما أمن عليها العلّة التي من أجلها كتب المصحف ترك كتابتها وهو يعلم أنها من القرآن» (¬2). غير أن تعدد المصاحف بجوار مصحف أبي بكر، وانتشار القراء في الأمصار، تسبب في تعدد القراءات، واختلاف القراء. فكانت الحلقة الثالثة أو المرحلة الأخيرة من مراحل جمع القرآن الكريم، أو من مراحل توثيقه ونشره، قام بها عثمان بن عفان- رضي الله عنه-. وفي ذلك يروي لنا البخاري الخبر التالي: ¬

_ (¬1) «مقدمتان في علوم القرآن» ص 32 - 33. (¬2) تأويل مشكل القرآن ص 47 تحقيق وشرح السيد أحمد صقر رحمه الله.

«عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة. فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق» (¬1). وتوضح بعض الروايات الأخرى عند أبي داود وفي كتابي (البرهان) و (الإتقان) أن الاختلاف في القراءة الذي لاحظه حذيفة، والذي ظهر عند اجتماع الجيوش الإسلامية الوافدة من الأقاليم- سورية والعراق- يعود إلى أن أهل الشام كانوا يتبعون قراءة «أبيّ بن كعب» والعراقيين يتبعون قراءة ابن مسعود .. وبعضهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري، فقال بعضهم لبعض: «قراءتنا خير من قراءتكم ... » (¬2) وهذا أمر يفزع من مثله، وإن دلّ على شيء- فيما وراء ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 99. قال القرطبي، معقبا على هذه الرواية: «وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلّة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت في القراءات المشهورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم واطّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه وكان رأيا سديدا موفّقا، رحمة الله عليه وعليهم أجمعين» 1/ 52. (¬2) انظر البرهان 1/ 139 والإتقان 1/ 102 - 103 وانظر كتاب مدخل إلى القرآن الكريم للدكتور دراز ص 38.

الاختلاف في القراءة الذي يسمح به نزول القرآن على سبعة أحرف- فإنما يدل على أن شيئا من الطابع الفردي أو الشخصي قد أسبغ على مصحف أبي بكر على الرغم من العناية التي بذلت في جمعه (¬1) وإن الذي ساعد على ذلك- فيما يبدو لنا- بقاؤه محفوظا بعناية عند الخليفتين الأولين، إلى جانب طبيعة المكانة المتكافئة أو المتقاربة التي يحتلها الصحابة عموما، والتي لا تجعل من الخليفة رجلا متميزا في المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت. ولهذا فإن الواجب الآن، بعد الاختلاف الذي أشار إليه حذيفة، يقتضي إعطاء مصحف أبي بكر فرصة النشر والتعميم على الأقاليم الإسلامية، وجعله وثيقة للناس كافة. وهذا ما فعله عثمان بن عفان كما تدل على ذلك الروايات الكثيرة، وكما أقره عليه الصحابة- رضوان الله عليهم- عند ما قالوا له: نعم ما رأيت (¬2). 3 - تشير رواية البخاري السابقة إلى أن اللجنة التي انتدبت للقيام بهذا العمل كانت مؤلفة من أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ، ثلاثة من قريش، وواحد من الأنصار وهو زيد بن ثابت. وجاء في بعض الروايات أن الذين انتدبوا للقيام بهذا العمل أكثر من هذا العدد (¬3)، ويبدو أن اللجنة التي «كلّفت» من قبل الخليفة تتألف من أربعة، إلا أن اجتماع الصحابة على العمل واشتراكهم في الإقرار بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على هذا النحو- الذي نجده الآن في المصاحف- وتثبّت الجماعة في ذلك .. هو الذي أوهم كثرة العدد في اللجنة الرسمية التي أنيط بها العمل المذكور؛ أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن قلابة أن عثمان بن عفان- وقد راعه اختلافهم- قال: يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماما، فكتبوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارءوا ¬

_ (¬1) انظر الدكتور دراز، المصدر السابق. (¬2) «مقدمتان في علوم القرآن» ص 44، والإتقان 1/ 103. (¬3) الإتقان 1/ 103.

في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله فلانا، فيرسل إليه وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيقال له: كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا؟ فيقول: كذا وكذا، فيكتبونها وقد تركوا لذلك مكانا. وفي رواية أخرى أن عثمان، بعد أن أحضروا الصحف التي كانت في بيت حفصة «كان يتعاهدهم، فكانوا إذا ادّرءوا في شيء أخّروه. قال: فظننت إنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله (¬1). وتشير هذه الرواية، مع سابقتها: كيف أقرأك رسول الله؟ إلى أن الخلاف كان في الحرف، أو في وجه القراءة، على التحقيق. بالإضافة إلى الخلاف في طريقة الرسم والكتابة، كما دلّت عليه رواية البحاري. 4 - وقد استهدف عثمان- رضي الله عنه- من عمله في نشر القرآن وتعميمه أمرين أساسيين: الأول: منع التماري في القرآن والشجار بين المسلمين بشأن القراءات المختلفة، لأن المصاحف العثمانية أضفت الصفة الشرعية على القراءات المختلفة التي كانت تدخل في إطار النص المدون، ولها أصول نبويّ مجمع عليه. الثاني: حماية النص القرآني ذاته من أي تحريف، نتيجة إدخال «بعض العبارات المختلف عليها نوعا ما، أو أي شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم بحسن نية» (¬2). ومن هنا يمكن لنا أن نتبين قاعدة اللجنة العثمانية في جمع القرآن على النحو التالي: ¬

_ (¬1) راجع الإتقان 1/ 104. (¬2) «مدخل إلى القرآن الكريم» للدكتور دراز ص 3.

رابعا - قاعدة عثمان في الجمع ومزايا المصاحف العثمانية:

رابعا- قاعدة عثمان في الجمع ومزايا المصاحف العثمانية: 1 - كتابة القرآن بلغة قريش لأنه إنما نزل بلسانهم، وهكذا احتفظت كلمة «تابوت» التي كانت تكتب «تابوه» في المدينة بشكلها المكي. أخرج البخاري والترمذي، قال ابن شهاب: اختلفوا يومئذ في (التابوت) فقال زيد: (التابوة) وقال ابن الزبير وسعيد بن العاص (التابوت) فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال اكتبوه (التابوت) فإنه بلسان قريش (¬1). قال ابن عطية: قرأه زيد بالهاء، والقرشيون بالتاء، فأثبتوه بالتاء (¬2). 2 - جرّدت المصاحف العثمانية من كل ما ليس قرآنا، كالشروح والتفاسير التي كان يكتبها بعض الصحابة في مصاحفهم مثل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة، الآية 198] فقد كتبها ابن مسعود: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم (في موسم الحج) (¬3) وقرأ غيره «وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة- صالحة- غصبا» بزيادة كلمة «صالحة» بطريق الشرح والتفسير، أو للإشارة إلى سبب النزول أو أخذا منه، لأنهم- كما قدمنا- كانوا يكتبون هذه المصاحف لأنفسهم، ويدونون عليها بعض التفاسير؛ لأنهم محققون لما تلقوه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرآنا، فهم آمنون من الالتباس. 3 - كانت هذه المصاحف خالية من الإعجام أو النقط والشكل، مما فسح ¬

_ (¬1) جامع الأصول لابن الأثير الجزري 2/ 506. (¬2) القرطبي 1/ 54. (¬3) أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثّموا أن يتّجروا في المواسم، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج. قرأها ابن عباس هكذا.

المجال لقراءة القرآن بأي من الحروف السبعة التي نزل عليها، وبذلك لم يسقط عثمان- رضي الله عنه- شيئا من قراءات القرآن، ولم يمنع أحدا من القراءة بأي حرف شاء ما دامت هذه الحروف كلها منقولة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يقول: «فأيّ ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا» كما سنوضح ذلك في بحث الأحرف السبعة. (أ) فإن كان في الكلمة الواحدة أكثر من قراءة، وكان رسمها يقرأ بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل، وبجميع القراءات، رسمت في جميع المصاحف برسم واحد، نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات، الآية 6]. فقد كانت تكتب «فسوا» وتصلح أن تقرأ «فتثبتوا» وهي قراءة أخرى. وكذلك كلمة «ننشزها» من قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [سورة البقرة، الآية 259] فإنّ تجرّدها من النقط والشكل يجعلها صالحة لأن تقرأ «ننشرها» وهي قراءة معروفة أيضا. فإن قيل إن الرسم العثمان الخالي من الشكل والنقط، يتيح المجال للكثير من الألفاظ القرآنية أن تقرأ بأكثر من وجه واحد، فهل تجوز القراءة بهذه الوجوه؟ قلنا إن الأمثلة المذكورة التي صلح الرسم فيها للقراءتين المذكورتين إنما جاز القراءة فيهما لورود الدليل القاطع على صحة القراءة بهما؛ إما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما، أو لأن أحد الصحابة قرأ بأحدهما بحضوره فأقرّه النبيّ ولم ينهه عن ذلك. أما ما وراء ذلك فلا تجوز القراءة فيه بغير الوجه الواحد المروي بطريق التواتر. ولذلك اعتبرت قراءة «شاذة» كل ما وجد عليها دليل آحادي غير متواتر ولو صلح الرسم للقراءة بها، كقراءة: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع لفظ الجلالة ونصب كلمة «العلماء» فهي قراءة شاذة، لأن القراءة المروية عن الثقات؛ بنصب لفظ الجلالة ورفع العلماء.

(ب) أما إذا كان اللفظ القرآني الذي جاء فيه أكثر من رواية متواترة يتعذر رسمه في الخط محتملا لجميع الوجوه- بدون إعجام- فإنهم كانوا يرسمونه في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة- أو حرف- وفي بعض آخر برسم يدلّ على قراءة أخرى، كقراءة «وصّى» بالتضعيف، و «أوصى» بالهمز، الواردتين في قوله تعالى: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [سورة البقرة، الآية 132]. وغني عن البيان أنهم لم يكونوا يكتبون بالرسمين في مصحف واحد! حتى لا يظن أن الثاني تصحيح للأول- على سبيل المثال- خصوصا إذا كتب أولهما في الأصل، والآخر في الحاشية، أو أن الأول أصل، والثاني فرع أو جائز أو محتمل، فيرجح أحدهما على الآخر بدون مرجح. أو حتى لا يتوهم متوهم أن اللفظ نزل مكررا بالوجهين في قراءة واحدة. ونقول هنا تعقيبا على هذه الفقرة (ج) بنقطتيها هاتين: إن المصاحف العثمانية التي كتبت على هذا النحو، وأضحت معتمد القرّاء في البلاد التي وجّه إليها عثمان بهذه المصاحف .. كانت وراء اختيارات القرّاء من الأحرف التي نزل عليها القرآن الكريم، أو السبب في التزامهم برسم المصحف الذي وصل إلى مصرهم؛ قال القرطبي: إن عثمان- رضي الله عنه- «وجّه للعراق والشام ومصر بأمهات، فاتخذها قرّاء الأمصار معتمد اختياراتهم، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النحو الذي بلغه. وما وجد بين هؤلاء القرّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم وينقصها بعضهم، فذلك لأن كلا منهم اعتمد على ما بلغه في مصحفه ورواه؛ إذ كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض النسخ، ولم يكتبها في بعض؛ إشعارا بأن كل ذلك صحيح، وأن القراءة بكل منها جائزة» (¬1). وأخيرا، فإن عثمان- رضي الله عنه- كلّف اللجنة بنسخ عدد من ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 1/ 54 وانظر مناهل العرفان 1/ 252.

خامسا - حرق الصحف والمصاحف الأخرى: (شبهات ورد):

المصاحف بعث بها إلى عدد من الأمصار في الدولة الإسلامية، قال بعض العلماء: إنها سبع نسخ، ورجح الأكثرون أنها كانت خمس نسخ؛ أخرج ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات قال: «أرسل عثمان أربعة مصاحف، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف، فوقع عند رجل من مراد، فبقي حتى كتبت مصحفي منه» وقال ابن أبي داود: «وسمعت أبا حامد السجستاني يقول: كتب سبعة مصاحف. فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى الكوفة ... وحبس بالمدينة واحدا» (¬1). خامسا- حرق الصحف والمصاحف الأخرى: (شبهات وردّ): ثم أمر سيدنا عثمان بعد ذلك بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرّق لأن الأمر لم يعد يحتمل التهاون أو التأخير بعد ما نجم من خلاف، وبعد ما تمّ من التحرّي والضبط في نسخ مصحف أبي بكر- رضي الله عنه-، أو الصحف التي كانت لدى السيدة حفصة- رضي الله عنها-. ولهذا فقد استجاب أصحاب «المصاحف» السابقة لأمر الخليفة وقاموا بحرق مصاحفهم سوى عبد الله بن مسعود الذي لم يكتف بالرفض .. حتى حرّض الآخرين- وقد أزعجه استجابتهم فيما يبدو- على الرفض! وبخاصة حين وصلت نسخة الكوفة من مصاحف عثمان السابقة. أخرج ابن أبي داود في «المصاحف» والترمذي مرسلا من حديث الزهري «أن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصحف، ويتولّاها رجل، والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! - يريد زيد بن ثابت- يا أهل العراق اكتموا المصاحف التي عند كم وغلّوها، فإن الله يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية 161] فاتقوا الله ¬

_ (¬1) كتاب المصاحف، ص 34.

بالمصاحف. قال الزهري: فبلغني أن ذلك كره من مقالة ابن مسعود: رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1). قلت: ولعبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أن يغضب لعدم مشاركته، أو لعدم استدعائه للمشاركة في هذا العمل التاريخي المشرّف، ولكن ما كان لغضبه أن يصل إلى حد التعريض بزيد بن ثابت الذي كان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأمر لا يجمل التعريض بمثله؛ علما بأن بعض العلماء يقول: إن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله؛ إذ وعاه كله ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ- ووعاه معه على هذا النحو: أبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وحفصة، وعائشة ... وآخرون- في حين أن ابن مسعود حفظ منه في حياة رسول الله نيّفا وسبعين سورة، ثم تعلّم الباقي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم (¬2). يضاف إلى ذلك أن زيدا- رضي الله عنه- لم يشتهر عنه اختيار قراءة بعينها- أو الانحياز لها- كما فعل ابن مسعود، علما بأن الأمر الآن أو في هذه المرحلة: أمر تقعيد الأحرف، وحسم الاختلاف في القراءة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عمل اللجنة نسخ أو استنساخ، وليست جمعا جديدا للقرآن، كما قد توهم بعض الروايات الضعيفة! (¬3) ومعنى ذلك أن الدواعي لتكليف ابن مسعود في هذا العمل، أو لانتظار حضوره من الكوفة إلى المدينة .. لم تكن قائمة! قال الحافظ ابن حجر: «والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة، وعبد الله بن مسعود بالكوفة. ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر. وأيضا فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر .. وكان الذي ¬

_ (¬1) جامع الأصول في أحاديث الرسول، لابن الأثير الجزري 2/ 506 - 507 والمصاحف ص 14. ومعنى: غلّوها: اكتموها واخفوها، وأصله من الغلّ بمعنى الخيانة. (¬2) انظر تفصيلا لهذه النقطة التي ذكرها ابن الأنباري، في تفسير القرطبي 1/ 53. (¬3) راجع المرشد الوجيز لأبي شامة، ص 65 فما بعدها.

نسخ ذلك هو زيد بن ثابت، وكان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولوية ليست لغيره» هو وسائر أعضاء اللجنة من قرّاء المدينة- رضي الله عنهم أجمعين-. وعلى أية حال، فإن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- بعد أن سكت عنه الغضب، أو بعد أن ذهبت حدّة المفاجأة، وربما بعد أن اطلع على عمل اللجنة من خلال مصحف الكوفة- فيما نرجح- قام بإحراق مصحفه، وأقر بما قام به الخليفة الراشد- رضي الله عنه-. وقد أشار إلى ذلك صاحب كتاب «المصاحف» في فقرة خاصة عقدها تحت عنوان: «رضا عبد الله بن مسعود لجمع عثمان- رضي الله عنه- في المصاحف». أما ما يزعمه الغلاة من الشيعة أن عثمان حرص على حرق المصاحف ليخفي التبديل الذي أحدثه في النص القرآني! فأهون من أن يلتفت إليه، بعد كلّ ما قدمناه عن كتابة القرآن وحفظه، وعن المنهج الذي اتّبع في جمعه ونسخه! ونكتفي- فقط- بالقول: إن عثمان رضي الله عنه لو فعل شيئا من ذلك- سواء أكان متعلقا بسيدنا علي- رضي الله عنه-، على وجه الخصوص، أم بغيره- لراجعه حفظة القرآن! اللهم إلا إذا زعم هؤلاء أن هؤلاء الحفظة من المهاجرين والأنصار، من بقي منهم في المدينة، ومن تفرق منهم في سائر الأمصار .. تواطئوا جميعا على ذلك!! والأسئلة التي تطرح نفسها أمام هذا البهتان: لم يفعلون ذلك؟ وكيف؟ ولماذا لم يؤثر عن علي- رضي الله عنه- إنكار أو اعتراض؟ ولمن شاء، من العقلاء، أو من أصحاب الأهواء، أن يصدّق أن الصحابة الذين لم يشفع عندهم تكرار البسملة في صدر ثلاث عشرة ومائة سورة من القرآن الكريم .. أن يصدّروا بها السورة الوحيدة الباقية- سورة التوبة- لأنهم لم يسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بها هذه السورة! أقول: لمن شاء أن يصدق أن هؤلاء الذين بلغ بهم الالتزام والتدقيق هذا المبلغ يحرّفون القرآن، أو يتلاعبون فيه بالزيادة والنقصان! أيّ سخف هذا؟ بل أي جهل وزندقة وإلحاد!

ومن الجدير بالذكر أن ابن مسعود، في كل ما نقل عنه في اعتراضه أو ثورته السابقة، لم يعترض إلا على إلزامه بالأحرف أو القراءات التي تضمّنها مصحف عثمان، وهو- أي ابن مسعود- الذي قرأ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم! كما كان يقول (¬1)، ولم يعترض حتى على ترتيب هذا المصحف! وبحسبنا في هذه العجالة أن نقول: إن من سهل عليه أن يطعن في جميع الصحابة والمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لزعم قامت الأدلة على نقيضه من القرآن نفسه، الذي أثنى الله تعالى فيه على صحابة نبيّه الكرام في أكثر من موضع، سهل عليه أن يقول ما شاء؛ يقول الدكتور محمد عبد الله دراز- رحمه الله-: «ونظرا لغيرة المسلمين الأوائل ... يستحيل علينا أن نعلّل قبول الكافّة لمصحف عثمان دون منازعة أو معارضة بأنه راجع إلى انقياد غير متبصّر من جانبهم! ولقد قرر «نولدكه» أن ذلك يعد أقوى دليل على أن النص القرآني «على أحسن صورة من الكمال والمطابقة» (¬2). وينقل عن «لوبلوا» قوله: «إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر». وكان «وموير» قد أعلن ذلك قبله إذ قال: «إن المصحف الذي جمعه- نسخه- عثمان قد تواتر إلينا بدون أي تحريف. ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة .. فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا ¬

_ (¬1) قال عبد الله بن مسعود: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين وسبعين سورة- أو ثلاثا وسبعين سورة- وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قال أبو إسحاق: وتعلّم عبد الله بقية القرآن من مجمّع بن خارجة الأنصاري. القرطبي 1/ 58. (¬2) الدكتور دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 39، دار القرآن الكريم- بيروت.

الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا ... » (¬1). هذا، وقد عبّر أحد علماء الشيعة الإمامية أو الجعفرية- شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي- عن هذا المعنى فقال: «إن اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم هو كل ما تحتويه دفتا المصاحف المتداول بين الناس. وعدد السور المتعارف عليه هو 114 سورة، أما عندنا فسورتا الضحى والشرح تكونان سورة واحدة، وكذلك سورتا الفيل وقريش، وأيضا سورتا الأنفال والتوبة. أما من ينسب إلينا الاعتقاد في أن القرآن أكثر من هذا فهو كاذب» (¬2). بل إن هذا الفرق في طريقة تقسيم السور وترقيمها فرق نظري عند هؤلاء العلماء لأن نسخهم في الواقع لا تختلف عن النسخ المتداولة عند المسلمين من أهل السنّة فيما نعلم. ويكفي إن زعم لك زاعم أن لديه «سورة مجهولة» أو نصا مفقودا، أن تلاحظ- فقط- الفرق بين التراكم الركيك من العبارات، والكلمات ¬

_ (¬1) مدخل إلى القرآن الكريم، ص 39. (¬2) المصدر السابق. قلت: وهذا واضح في الحكم على علمائهم الآخرين الذين قالوا بخلاف ذلك، أو زعموا أن تحريفا قد أصاب القرآن. أما طبعاتهم للقرآن الكريم التي رمز فيها بأعلى الصفحات إلى أحد هذه الكلمات: (خوب، وسط، بد) والتي تعني بالعربية: جيد، وسط، رديء. فإننا لم نطلع عليها. وقد أشار بعض الباحثين إلى أن هذه الرموز ربما كانت للخيرة والفأل. وذكر أنه لديه نسخة طبعت في طهران، وهي بخط التعليق كتبها سيد حسين ميرخاني، تقع في 406 صفحات. وأنه قد أحصى فيها تلك الرموز أو الإشارات، فوجد الرديء يقارب نصف صفحات المصحف (194) صفحة. والجيد (خوب) قد بلغ (154) صفحة. والوسط بلغ (44) صفحة. وأن (14) صفحة خالية من أي إشارة؛ قال: «ولعل (الخيرة) تعاد إذا ظهرت الصفحة الخالية من الإشارة» وذكر أن من سور القسم الثالث (بد) سورة الفتح وسورة الحجرات ... إلخ. انظر الصفحات 117 - 131 من كتاب: الخمينية تأليف وليد الأعظمي. دار عمار- الأردن 1408 هـ.

المسروقة من القرآن نفسه، وبين أناقة الأسلوب القرآني وتناسقه!! ومن هنا فإن مثل هذه المزاعم لم توجد إلا بعد مضي بضعة قرون على عصر نزول القرآن الكريم. حين بعد الناس عن سليقة اللغة وأسباب البيان بوجه عام. ولم تجد مثل هذه المزاعم رواجا إلا عند نفر من الأعاجم بوجه خاص، وبعد أن قاوموا- لأسباب إثنية وعقائدية- عوامل الاستعراب في القرنين الرابع والخامس الهجريين. وقد فات أصحاب هذه المزاعم أن سيّدنا عليا لا يرضى بهذا الاختلاق- وحاشاه من ذلك- بل أرادوا الطعن في نهاية المطاف بعلي بن أبي طالب نفسه- كرّم الله وجهه ورضي الله عنه-، وأرادوا مخالفته ومناقضته ومناقضة الإسلام والقرآن جميعا ... روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: «سمعت علي بن أبي طالب- كرّم الله وجهه- يقول: يا معشر الناس اتقوا الله وإياكم والغلوّ في عثمان وقولكم حرّاق مصاحف! فو الله ما حرقها إلا عن ملأ منّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم». وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل ما فعل» (¬1). ومعنى ذلك أن الدواعي لفعل عثمان ذي النّورين رضي الله عنه كانت قائمة، وأن ما فعله لم يتم في الخفاء، ولكن بعلم الصحابة ومشورتهم، ولو كان علي يعلم أن في شيء من ذلك إسقاطا أو تجاوزا لما تجاوز هو عنه! ... ولئن جاز عليه- وحاشاه من ذلك- أن يتجاوزه وهو في صف المعارضة، كما تصوّره بعض الروايات، فإن من غير الجائز أن يشتغل وهو خليفة لمدة تقرب من ست سنوات بمقاتلة من خالفوه في السياسة عن تصحيح القرآن ومقاتلة الذين رضوا بتحريفه وتبديله! بل إنه كان يتلوه على هذا الوجه ويؤمّ الناس فيه بالصلاة. وصدق الله ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي 1/ 240 ومقدمتان في علوم القرآن ص 46، وتفسير القرطبي 1/ 53، ومناهل العرفان 1/ 155.

سادسا - رسم المصحف أو الرسم العثماني:

العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وكذب الزائغون والمرجفون! وأخيرا، فإننا لا نشك- بهذه المناسبة- في أن الذين ينسبون القرآن إلى التحريف والتبديل، وإلى الزيادة والنقصان، يخرجون إلى ساحة الكفر لتكذيبهم بهذا التكفل الإلهي الذي حفظه من ذلك! ولأن معنى قوله تعالى: أُحْكِمَتْ آياتُهُ «منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضوها بمثلها» كما قال بعض العلماء (¬1) والله تعالى أعلم. سادسا- رسم المصحف أو الرسم العثماني: يراد بالرسم: رسم الحروف الهجائية التي تدل على الكلام، ويراد بالرسم العثماني: رسم القرآن بالطريقة التي تمت على عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان- رضي الله عنه-، وهي الطريقة التي اتبعتها اللجنة الرباعية المتقدمة التي وكل إليها أمر استنساخ مصاحف الأمصار. وإذا كان الأصل في المكتوب- كما يقال- أن يوافق المنطوق تمام الموافقة من غير تعديل ولا تغيير، فإن المصاحف العثمانية لم تجر على هذا الأصل تماما فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها غير موافق لأداء النطق، بحسب بعض قواعد خاصة في الخط والهجاء. وتعود هذه القواعد الخاصة جميعا إلى الحذف والزيادة والبدل والوصل والفصل، وما فيه قراءتان فيكتب على إحداهما (¬2) مما أسهم في شرحه وضرب الشواهد القرآنية عليه، كثير من العلماء منهم السيوطي في الإتقان، والزركشي في البرهان الذي أفاض في ذلك تحت عنوان «اختلاف رسم الكلمات في المصحف والحكمة فيه» (¬3) إلى جانب العلماء الآخرين الذين أفردوا هذا الفن ¬

_ (¬1) راجع القرطبي 1/ 84. (¬2) انظر مفتاح السعادة 2/ 229. (¬3) الزركشي في البرهان 1/ 280، وانظر مناهل العرفان 1/ 362.

بالتأليف، منهم أبو عمرو الداني في كتابه «المقنع» وأبو العباس المراكشي في كتابه «عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل» وغيرهما. وقد بقي هذا الرسم العثماني سنّة متبعة إلى يوم الناس هذا، لا يغير ولا يبدل، وإلى ذلك ذهب علماء المسلمين على مدى العصور، فكرهوا أو حرّموا تغييره تبعا لتغير رسوم الهجاء باختلاف الزمان والمكان؛ وزيادة في الحيطة والخشية والحذر من أي تغيير يعود أو يصيب النص القرآني ولو في ناحية شكلية محضة؛ سئل الإمام مالك: «هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا .. إلا على الكتبة الأولى» وقال الإمام أحمد بن حنبل: «يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك». أما صور اختلاف الرسم العثماني عن «الرسم الإملائي» فكثيرة، ذكر ابن قتيبة أن من أشهرها حذف ألف التثنية: قال «رجلن» - قال رجلان- وكتابة: «الصلاة، والزكاة، والحياة» بالواو: الصلاة، والزكوة، والحيوة. وكتابة «الربو» - الربا- بالواو. كما كتبوا «فمال الذين كفروا» بلام منفردة. وكتبوا «أو لا أذبحنّه» بزيادة ألف، وكذلك «ولا أوضعوا خلالكم» بزيادة ألف بعد لام ألف. قال ابن قتيبة: «وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه» ونحن- في هذه العجالة- أولى بهذا القول من ابن قتيبة رحمه الله. والذي يمكن أن نختم به هذه الفقرة، تأكيدا لما ذهب إليه العامة من كراهية تغيير هذا الرسم، أن الذي رفضه العلماء خلال العصور هو: إخضاع الرسم العثماني للتغيير بحسب تطور قواعد الرسم والإملاء، لا ترك ذلك الرسم مخالفا لهذه القواعد ... لأن المصاحف العثمانية لم تكتب في الأصل بغير الرسم والإملاء الذي كان قائما وقت تدوينها، أو التي وضعت عند تدوين المصاحف (¬1)؛ فدعوى ¬

_ (¬1) قال القرطبي: «وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدهر» 1/ 54.

مخالفة الرسم العثماني لقواعد الإملاء ... هكذا بإطلاق، أمر غير صحيح. أما كراهية إخضاع هذا الرسم للتطوير والتعديل الذي يطرأ مع الأيام فقد علمت سببه، وهو لذلك أمر يجب تأييده ... ولا تخلو لغة من اللغات الحية اليوم من حروف تكتب ولا تلفظ، أو من حروف تكتب على وجه وتلفظ- في بعض الكلمات- على وجه آخر ... إلخ، وهي أمور يصيبها التلميذ عن طريق التعلم ... والقرآن عماد العربية وكتابها ... والأمر في لغته التعليم، وفي القرآن الكريم نفسه المشافهة والتلقي كما قلنا في أكثر من مرة. أما الدعوة إلى تغيير هذا الرسم تحت شعار المعاصرة والتسهيل فأعجب ما فيها- وعجائبها كثيرة لا مجال هنا للإفاضة فيها وفي الرد عليها وتقويمها- أن تكون في عصر الوسائل التعليمية المتنوعة الكثيرة والمتقدمة! وقد حفظ القرآن، وتعمم رسمه، وبقي اللسان العربي وقواعد الإملاء .. وقواعد النحو طيلة هذه القرون الخمسة عشر! وبدون تلك الوسائل التعليمية الحديثة ... فهل يستقيم عند دعاة المعاصرة هذه- لا مطلق المعاصرة بالطبع- أن يقال فيهم وفي أبناء جيلهم ما لا نرتضيه لهم من الكسل والضعف وغير ذلك.

الفصل الخامس الآيات والسور وترتيبهما

الفصل الخامس الآيات والسور وترتيبهما أولا- تعريف الآية والسورة: 1 - تطلق «الآية» في اللغة على عدة معان، منها: المعجزة، والجماعة، والعلامة الظاهرة، والعبرة. وتجمع على: آي وآيات وآياء. أما في المصطلح، أو في القرآن الكريم، فهي عبارة عن طائفة من القرآن منقطعة عمّا قبلها وعمّا بعدها، لها مبدأ ومقطع. ومندرجة في سورة. وتعرف توقيفا على الأرجح. وقد سميت الآية من القرآن- أو هذه الطائفة منه- آية، لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله. فهي بائنة من أختها ومنفردة! ولهذا كان الوقوف على رءوس الآي سنّة متّبعة. وقيل: لما كانت الجملة التامة من القرآن علامة على صدق الآتي بها، وعلى عجز المتحدّى بها .. سمّيت آية. وقد رجّح كثير من العلماء هذا التعليل (¬1). وفي الآيات الطويل والقصير، وأقصرها كلمة واحدة، كقوله تعالى: وَالْفَجْرِ وَالضُّحى في فاتحة هاتين السورتين. ومُدْهامَّتانِ (64) [سورة الرحمن، الآية 64]. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز 1/ 71 وتفسير القرطبي 1/ 66.

ثانيا - عدد السور وأسماؤها واختلاف مقاديرها:

وأطول آية في كتاب الله تعالى: آية المداينة، أو آية الدّين، وهي الآية 282 من سورة البقرة، وأولها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... وتزيد كلماتها على عشرين ومائة كلمة. وعدد آيات القرآن الكريم ستة آلاف ومائتا آية ونيّف. 2 - أما «السورة» بدون همز- وهو المشهور- وتجمع على: سور، كغرفة وغرف، فمعناها: المنزل المرتفع، ومنه سور المدينة. أو المنزلة الرفيعة، ومنه قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب أي منزلة رفيعة على سائر الملوك. وقد قيل في القطعة من القرآن المشتملة على آي ذوات فاتحة وخاتمة- وأقلها ثلاث آيات- سورة لأنها تحيط بالآيات التي تضمها إحاطة السّور، أو لارتفاعها وشرفها. وقد قيل: إنها سميت بذلك لتمامها وكمالها؛ من قول العرب للناقة التامّة: سورة. ولعل هذا أقرب الآراء. ثانيا- عدد السور وأسماؤها واختلاف مقاديرها: وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا، فأقصر سورة هي الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، وأطول سورة فيه البقرة وهي ست وثمانون ومائتا آية، ومعظم آياتها من الآيات الطوال. وتبلغ عدد سور القرآن أربعة عشر ومائة سورة يقسمها العلماء إلى أربعة أقسام لكل منها اسم معين، وهي الطّوال والمئين والمثاني والمفصّل. فالطّوال: سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام

والأعراف، وأخيرا يونس أو «الأنفال وبراءة» معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة. والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها. والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات، وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية لأنها تثنّى- تكرّر وتعاد- أكثر من الطوال والمئين. والمفصّل: هو أواخر القرآن، وصحّح النووي أن أوّله «الحجرات»، وسمّي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأواسط وقصار، فطواله من أول «الحجرات» إلى سورة «البروج»، وأوسطه من سورة «الطارق» إلى سورة «لم يكن»، وقصاره من سورة «إذا زلزلت» إلى آخر القرآن (¬1). وأخيرا فإن لكل سورة من سور القرآن اسما واحدا، وهو الأعم الأغلب، وقد يكون لها اسمان، كسورة «البقرة» يقال لها: فسطاس القرآن، لعظمها وبهائها، و «النحل» تسمى سورة النعم، لما عدد الله فيها من النعم على عباده ... وسورة «حم عسق» وتسمى الشورى، وسورة «محمد» صلى الله عليه وسلم وتسمى القتال، وسورة «فاطر» وتسمى سورة الملائكة. وسورة «الإسراء» وتسمى سورة بني إسرائيل. وقد يكون لها ثلاثة أسماء أو أكثر كسورة «غافر» والطّول والمؤمن لقوله تعالى فيها: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ وكسورة «الفاتحة» التي تسمى أيضا بأم الكتاب، والسبع المثاني، وأم القرآن. وقد كره بعضهم هذه التسميات بطريق الإضافة، وذهب إلى أن يقال في ذلك: السورة التي يذكر فيها البقرة أو آل عمران ... إلخ، والدليل على صحة التسميات السابقة: الصحيح من المأثور. وقد روى الإمام البخاري في ذلك أحاديث كثيرة، أوردها تحت هذا العنوان: «باب من لم ير بأسا أن يقول: سورة ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي 1/ 269.

ثالثا - ترتيب الآيات والسور:

البقرة وسورة كذا وكذا» وأولها عند أبي مسعود الأنصاري قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه» (¬1). ثالثا- ترتيب الآيات والسور: (أ) ترتيب الآيات: «الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك» كما قال السيوطي (¬2). وقد قال زيد بن ثابت، في الحديث الذي أخرجه البخاري «كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع». وعن ابن عباس، في الحديث الذي أخرجه أحمد، وأصحاب السنن قال: «قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني وإلى «براءة» وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت «الأنفال» من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت «براءة» من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتها في السبع الطوال». وأخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوّبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع ¬

_ (¬1) صحيح البخاري 6/ 111 وانظر سائر أحاديث الباب. (¬2) الإتقان 1/ 104 وقال الزركشي: «وأما ما يتعلق بترتيبه- القرآن- فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها» البرهان 1/ 256.

(ب) ترتيب السور:

هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة:* إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [سورة النحل، الآية 90]. ولقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السور القرآنية على مسمع من الصحابة مرتبة الآيات على نحو وجودها في الرقاع، وفي المصاحف بعد ذلك، كقراءته لسورة «الروم» في صلاة الفجر، وسورة «هل أتى على الإنسان» في صبح يوم الجمعة، وقراءته سورة «الجمعة» وسورة «المنافقين» أو سورتا «الأعلى» و «الغاشية» في صلاة الجمعة. وروى الإمام مسلم من حديث حذيفة قال: «صليت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح «البقرة» فقلت: يركع عند المائة ثم مضى فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى ثم افتتح «النساء» فقرأها ... الحديث». وهنالك أحاديث في فضائل السور، وأحاديث أخرى في تحديد بعض الآيات من بعض السور، كخواتيم سورة البقرة، أو العشر الأوائل من سورة الكهف، أو العشر الأواخر منها ... مما يدل على تأليفها على هذا النحو (¬1). والذي يبدو لنا أن موضوع التوقيف في ترتيب الآيات في السورة الواحدة مما لا يتصور فيه خلاف، بعد هذا، ولأن مسألة «النظم» القرآني التي تشكل أبرز دلائل الإعجاز في القرآن- كما سنرى- تعود إلى ذلك الترتيب، مما يدل على أنه من عمل الوحي يقينا، والله أعلم. (ب) ترتيب السور: أما ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه فقد ذهب جمهور العلماء إلى أنه توقيفي كترتيب الآيات سواء بسواء، قال أبو جعفر النحاس: «المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، ¬

_ (¬1) انظر الإتقان 1/ 103 - 105، وجامع الأصول 8/ 469 فما بعدها.

وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصّل، قال أبو جعفر: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد» (¬1) وروى ابن أبي شيبة في مصنفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع المفصّل في ركعة، وأنه قرأ بالسبع الطوال في ركعة. وروى البخاري من حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: «سمعت ابن مسعود يقول في: بني إسرائيل- الإسراء- والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: إنهنّ من العتاق الأول، وهنّ من تلادي» (¬2) فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. ويؤكد أصحاب هذا الرأي ما ذهبوا إليه بأن المناسبات بين السور لا تقل عن النظم ووجه ارتباط الآيات بعضها ببعض في السورة الواحدة. وقد درج على بيان تلك المناسبات بعض المفسرين، وكانوا يطلبونها بين آخر السورة وأول السورة التي تليها، أو بين أول هذه السورة وجملة السورة السابقة في بعض الأحيان (¬3). قال الزركشي: «لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم: أحدها بحسب الحروف، كما في الحواميم. وثانيها: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى، وأول البقرة. وثالثها: للوزن في اللفظ، كآخر «تبّت» وأول الإخلاص. ورابعها: لمشابهة جملة السورة مثل: (والضحى) و (ألم نشرح) ... » (¬4). وقد عبر عن هذا الموقف كذلك ابن الأنباري، ودافع عنه، ولخّص فيه القول على النحو التالي: قال: «إن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرّق على النبيّ صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 108. (¬2) صحيح البخاري 6/ 101. (¬3) انظر كتابنا الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن ص 373 - 380. (¬4) البرهان للزركشي 1/ 260.

لمستخبر يسأل. ويوقف جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية؛ فاتّساق السور كاتّساق الآيات والحروف، فكلّه عن محمد خاتم النبيين- عليه السلام- عن رب العالمين، فمن أخّر سورة مقدّمة، أو قدّم أخرى مؤخرة، فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيّر الحروف والكلمات» (¬1). ويورد السيوطي القول إن جمهور العلماء، منهم الإمام مالك، على أن ترتيب السور اجتهادي من فعل الصحابة، بدليل اختلاف مصاحفهم في هذا الترتيب، فمصحف علي بن أبي طالب على النزول «اقرأ، المدثّر، نون، المزمّل، تبّت، التكوير ... » ومصحف عبد الله بن مسعود: «البقرة، النساء، آل عمران ... ». ولكن هذا الإطلاق فيما يورده السيوطي- جمهور العلماء! - يتعارض بشكل حاد مع الروايات الصحيحة الدالّة على أن سورا قرآنية كثيرة كانت مرتبة على هذا النحو زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. أما ترتيب الصحابة لمصاحفهم فلم يكن أكثر من اختيار وقتي، أو مطلق جمع للقرآن، ولهذا فإنهم لم يلتزموا الدفاع عنه، بل وجدناهم قد التزموا وأقرّوا بالترتيب الذي أقرته اللجنة العثمانية التي تحدثنا عنها. وقال بعض العلماء: إن اختلاف مصاحفهم- أبيّ وعلي وعبد الله- كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك (¬2). والذي يبدو لنا من مجموع الروايات والآراء حول هذا الموضوع أن معظم سور القرآن الكريم كانت مرتبة على هذا النحو في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن العدد الأقل. أو عددا قليلا لعلّه لا يتعدى سورتين أو ثلاثا أو بضع سور- على أبعد تقدير- قد رتب على يد الصحابة- رضوان الله عليهم-. قال الإمام البيهقي: ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 1/ 60. (¬2) المصدر السابق.

رابعا - حكم مخالفة ترتيب المصحف:

«كان القرآن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة، لحديث عثمان السابق». وحين أوهم كلام لابن عطية أن هذا القدر الذي رتبه الصحابة أكثر من هذا ... استدرك عليه بعض العلماء المحققين؛ قال ابن عطية- رحمه الله-: «وظاهر الآثار أن السبع الطّوال، والحواميم، والمفصل، كان مرتبا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رتّب وقت الكتب» (¬1). قال أبو جعفر النحاس: «الآثار تشهد بأكثر مما نصّ عليه ابن عطية، ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف». رابعا- حكم مخالفة ترتيب المصحف: إن هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف، مبدوءا بسورة الفاتحة، ومختتما بسورة الناس ... قد تم كما رأينا في العهد النبوي وفي الصدر الأول من الإسلام، ومضت الأمة على الالتزام بالعمل به هذه القرون المتطاولة من الزمان ... فصار العمل به والوقوف عنده لازما لا يجوز التحوّل عنه أو المصير إلى غيره، بل لا يجوز ذلك حتى لو كان مستند هذا الترتيب اجتهاد الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين-. لا يجوز إذن طبع المصحف، أو «تأليف سوره في الرسم والخط خاصة» (¬2) بحسب عبارة بعض العلماء، على غير هذا الترتيب. أما تلاوة القرآن في الصلاة، وتعليم سوره في المساجد أو دور العلم ... فيجوز فيهما مخالفة هذا الترتيب؛ قال أبو الحسن بن بطّال: «ولا يعلم أن أحدا قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة، وفي قراءة القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج قبل الكهف! ألا ترى قول عائشة- رضي الله عنها- للذي سألها: ¬

_ (¬1) المحرر الوجيز لابن عطية 1/ 54 طبع قطر. (¬2) راجع القرطبي 1/ 61.

لا يضرّك أيّة قرأت قبل، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها». ويضيف أبو الحسن قائلا: «وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب! فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة- الواحدة- منكوسة، ويبتدئ من آخرها إلى أولها، لأن ذلك حرام محظور ... وفيه إفساد للسورة ومخالفة لما قصد بها» (¬1). أما ترتيب سور القرآن بحسب النزول، لا للتدوين في المصاحف، ولكن في كتب التفسير، أو بغرض التفسير فقد ذهب إلى جوازه بعض العلماء. وإن كنا نرى أنه غير مستساغ لأن فيه خدشا «لصورة» الإجماع السابق، وقد لا يكون كذلك ممكنا بغير قدر من التجاوز، لأن السورة من القرآن لم تكن تنزل دائما مرة واحدة، أو لم تكن تنزل آية أو آيات من سورة ثانية إلا بعد أن يكتمل بناء السورة السابقة، فالترتيب بحسب النزول لا يمكن وصفه بالدقة .. إلى جانب ما فيه من تضخيم مرحليّة البناء، وتضييق ساحة النص القرآني الذي أراد الله تعالى له أن يكون عاما شاملا، يعين تنجيمه وأسباب نزوله على مزيد من الفهم، لا على الانغلاق في حدود البيئة أو الزمان، ولهذا فإننا نكره العبارات القائلة: المكّي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني: ما وقع خطابا لأهل المدينة ... ونحو ذلك من العبارات والمواقف التي ملئت بها كتب التفسير!! ولعل هذا أن يكون أحد الأسباب الحاسمة في ترجيح رأي من يقول إن ترتيب السور جميعها كان بتوقيف. حيث تعاقبت السور المكية والمدنية في المصحف. أو تبادلت هذا التعاقب، بل الذي بدئ فيه بأربع سور مدنية طوال تتألف من قرابة ثمانمائة آية .. لم يتقدمها من الآيات المكية سوى سورة الفاتحة، التي تمثل خلاصة العهد المكي، وتتألف من سبع آيات قصار، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) القرطبي 1/ 61.

الباب الثالث إعجاز القرآن

الباب الثالث إعجاز القرآن * الفصل الأول: الإعجاز: وقوعه ومعناه. * الفصل الثاني: آراء ونظريات حول الإعجاز. * الفصل الثالث: الفاصلة القرآنية.

الفصل الأول الإعجاز: وقوعه ومعناه

الفصل الأول الإعجاز: وقوعه ومعناه أولا- مدخل وتمهيد: للحديث عن «إعجاز القرآن» جانبان بارزان: الجانب التاريخي، والجانب الموضوعي. ونعني بالجانب التاريخي: تلك المقدمات والوقائع الدالة على وقوع التحدّي بالقرآن في التاريخ- وبخاصة في زمن النزول- ومعنى هذا التحدّي، ومعنى لزومه في أعناق العالمين إلى يوم الدين. كل ذلك من خلال الوقائع التاريخية الثابتة ذاتها. أما الجانب الثاني، وهو الجانب الموضوعي، فنريد به الوجه- أو الوجوه- التي صار بها القرآن معجزا حتى انفصل من جنس كلام العرب أجمعين، وحتى لزمهم هم وسائر العالمين ذلك العجز المشار إليه. ونعرض في هذا الجانب لأهم النظريات التي قيلت في تفسير هذا الإعجاز. والحديث عن الجانب التاريخي واسع ومتشعب، وبخاصة إذا لزمنا طريقة المتكلمين في التذكير بجملة أخرى من المقدمات التي تعلم ضرورة- أي تعلم من طريق العلم الضروري الذي لا يمكن أن يتطرق إليه الشك- مثل الكلام على ظهور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية، وما كان من أمر دعوته العالمين إلى الإيمان بنبوّته، وأنّ دينه خاتمة الرسالات، وما كان من شأنه مع قومه في الدعوة والسلم والحرب ... إلخ، ثم الانتقال التفصيلي بعد ذلك إلى وقائع التحدّي،

ووقائع الإيمان الكثيرة من خلال سماع هذا القرآن ... ثم الحديث عن معجزة القرآن، ومحلها من سائر معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم ... إلخ. ولكننا آثرنا هنا أن نعرض لطرف واحد من هذه الجوانب- وأكثرها مسلّم أو معروف- وهو الجانب التاريخي المباشر، وبالقدر الذي يصلح مدخلا وتمهيدا كاشفا للحديث عن الجانب الموضوعي الذي سنتولى الحديث عنه في الفصل القادم. ونقدم هنا للحديث عن هذين الجانبين بملاحظتين هامتين: الأولى: أن القرآن الكريم هو معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم الكبرى أو الرئيسة، ودليله على النبوّة، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى، وأن هذه المعجزة يقابلها في معجزات الأنبياء السابقين- أي في دليلهم على نبوّتهم- تلك الأمور الناقضة للعادة، والمخالفة للمألوف من سنن الكون والطبيعة. وعلى الرغم من أن المعجزة على هذا النحو ليست أمرا مناقضا للعقل، لأن التلازم الموجود في واقع الطبيعة بين الأسباب والنتائج، أو بين الأسباب والمسببات ليس تلازما عقليا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية أو المنطقية أو الرياضية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، أي تلازم «التجربة» ليس غير! أقول: على الرغم من ذلك فإن من خصائص النبيّ ومن خصائص رسالته صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى هيأ له معجزة عقلية علمية بيانية يدركها الإنسان أو يزداد علما بآفاقها وميادينها بمقدار إمعانه في العقل والفهم، وبمقدار ما يقف عليه من قوانين الكون وسنن الطبيعة .. لا بمقدار ما يتم أمامه من تجاوز لهذه القوانين، أو تعطيل لتلك السنن! إن هذا التعطيل- في معجزات الأنبياء السابقين- كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم- عليه السلام-، أو قلب العصا حيّة لموسى- عليه السلام- على سبيل المثال، يحمل الإشارة إلى أن الله تعالى الذي وضع هذه السنن في الطبيعة، هو الذي يقف عملها لنبيّ من الأنبياء .. ليدل الناس على أنه رسوله، وأنه صادق في دعواه التبليغ عن ربّه عزّ وجلّ .. مقدّر هذه السنن .. وواضع هذه القوانين! وغني

عن البيان أن نشير بهذه المناسبة إلى أن هذه السنن التي وضعت من أجل أن يتعامل معها الإنسان، ويسخر من خلالها الكون لمنفعته، من وجه، ويرى فيها- من وجه آخر- آية الحكمة والدلالة على الخلق والإبداع. لا يمكن لها أن تحكم على واضعها ومقدرها بطبيعة الحال! فالله تعالى وضعها للأنام، وحين يبطل عملها في موقف من المواقف فمن أجل مصلحة الأنام كذلك! الملاحظة الثانية: أما الملاحظة الثانية فهي مبنية على هذه الملاحظة الأولى، ومنطلقة منها، وهي أن اختلاف الكلاميين والبلاغيين وسائر العلماء والدارسين على وجه العموم في تفسير الإعجاز، أو في تعيين الوجه الذي صار به القرآن معجزا حتى استحال على الثّقلين جميعا أن يأتوا بسورة مثله ... لا ينفي وقوع الإعجاز وثبوته، أو يقلل من شأن القضية؛ بل على العكس من ذلك تماما لأنه يضعنا أمام الملاحظة السابقة، أو أمام ما نسميه عادة «البعد التاريخي للقرآن» فإذا كان القرآن يخاطب الناس أو يخاطب به الناس في جميع العصور؛ فمن الراجح أن جيلا من الأجيال، أو عصرا من العصور لا يستقل بتقديم نظرية أو رأي يفسر به إعجاز القرآن من كل وجه .. نقدم هذه الملاحظة الآن مع تسليمنا بأن الإعجاز الذي وقع به التحدّي إنما كان وجها بيانيا أو بلاغيا صرفا، كما سنوضح ذلك في الفصل التالي. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن هذه الملاحظة هي التي ستفسر لنا أن شعورنا- مع بعدنا النسبي عن السليقة العربية- بحقيقة الإعجاز ونحن نقرأ القرآن أو نستمع إليه أكبر من أن تفسره، أو تتسع لتفسيره جميع النظريات والآراء التي قيلت في هذا الباب على أهمية بعضها البالغ في الأخذ بيدنا نحو تفهم المزيد من أسباب ذلك الإعجاز الضارب في التاريخ .. والخالد كذلك في المستقبل. ونذكر بهذه المناسبة بأن أبا بكر الباقلاني صاحب الكتاب القيم في «إعجاز القرآن» - على ما في كتابه من جوانب قد نعرض لنقد بعضها فيما بعد- كان يخامره ذلك الشعور فيما يبدو، حين قدم في كتابه طائفة من أبلغ ما وصل إلينا من

ثانيا - الإعجاز حقيقة تاريخية:

كلام العرب، بما في ذلك بعض خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه، وخطب سيدنا على بن أبي طالب- كرّم الله وجهه-، وخطب أخرى لسائر أرباب الفصاحة والبيان في الجاهلية والإسلام .. ليضع بين يديك فيما يبدو- أي الباقلاني- الموقف العملي، أو الدرس التطبيقي الذي تحسه أنت وتعيشه- كما يقال- والذي يثبت لك انفصال كلام الله عن سائر أنواع الكلام بوجوه من البيان صار بها معجزا ... وإن قصّر بالكاتب علمه وقلمه عن إدراك هذه الوجوه، أو عن نقلها والتعبير عنها ... هذا في كتاب الباقلاني جانب إيجابي فيما نقدر، نحب بهذه المناسبة أن ننوّه به ونلفت النظر إليه. ثانيا- الإعجاز حقيقة تاريخية: قال الجاحظ: «بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدّة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار: الهوى والحميّة دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف، فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج بالقرآن، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه- إن كان كاذبا- بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيا! فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوا مفتريات!! فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر ... ولو تكلّفه (أي لو استطاعه) لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض. فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستقامة لغتهم، وسهولة

ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه، من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والعقل بطبقات. ولهم القصيد العجيب، والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة، والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع، والمزدوج، واللفظ المنثور. ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن ظهر عجز أدناهم، فمحال- أكرمك الله- أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط في الأمر الظاهر، والخطأ المكشوف البين، مع التقريع بالنقص، والتوقيف على العجز، وهم أشد الخلق أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم وقد احتاجوا إليه، والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة!! وكما أنه محال أن يطيقوه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه، وهم يبذلون أكثر منه» اه. نقلنا لك هذا النص بطوله من كلام هذا الإمام من أئمة الفكر والبيان في أدب العرب، لأنه يلخص جميع المقدمات التاريخية التي كنا نود الحديث عنها، ويغني فيها ما تغنيه المطوّلات. إلى جانب ما أشار إليه من نقاط كثيرة أخرى يصعب بسط الكلام فيها في مثل هذه الفصول الموجزة. وبحسبنا هنا أن نشير إلى تأثير القرآن الكريم في العرب كأنه السحر، ولكنه ليس بالسحر «فشتان بين السحر في تخييله، وبين القرآن في اشتماله على الحق الذي لا خداع فيه ولا تخييل» (¬1) كما يقول الشيخ الزفزاف رحمه الله، وكان ذلك فيهم منذ اللحظة الأولى لنزول القرآن، سواء منهم من شرح الله صدره للإسلام، ومن جعل على بصره غشاوة. قال صاحب ¬

_ (¬1) التعريف بالقرآن والحديث، للأستاذ الشيخ محمد الزفزاف.

التصوير الفني في القرآن: «وإذا تجاوزنا عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم وحدها هي داعيتهم إلى الإيمان في أول الأمر، كزوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وابن عمه علي، ومولاه زيد، وأمثالهم، فإنا نجد القرآن كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا أوائل الدعوة، يوم لم يكن لمحمد صلى الله عليه وسلم حول ولا طول، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة. وقصة إيمان عمر بن الخطاب، وتولي الوليد بن المغيرة نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتولّي، وكلتاهما تكشف عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى، وتبيّنان في اتجاهين مختلفين عن مدى هذا السحر القاهر الذي يستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون» (¬1). بل بلغ من تأثير القرآن فيهم أنهم خافوا على من يعرف بليغ القول من قومهم أن يسلموا لسماع القرآن، فقالوا لهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) [سورة فصلت، الآية 26]. إنها طريقة في النصر والغلب طريفة وسابقة: والغوا فيه!! .. أي لا تمكنوا الناس من سماع القرآن، وذلك بما تحدثونه، عند قراءة النبيّ له، من صخب وتشويش وضوضاء! روى البيهقي في دلائل النبوة أن أبا جهل بن هشام، وأبا سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق كانوا يتواصون ألا يستمعوا لهذا القرآن، ويحذرون الناس أن يميلوا إلى سحره! ولكنهم تحت تأثير لا يستطيعون مقاومته كانوا يتسلّلون تحت جنح الظلام إلى حيث يستمعون إلى النبيّ وهو يقرأه في الكعبة .. فإذا انصرفوا بعد القراءة تلاقوا في الطريق فأخذوا يتلاومون ويتعاهدون ألا يعودوا .. وذلك خوفا من أن يقتدي بهم الملأ من قريش .. وفي الليلة الثالثة اجتمعوا وتلاقوا مستنكرين، فلما كان الصباح ذهب الأخنس بن شريق إلى أبي سفيان فقال له: أخبرني أبا حنظلة عما سمعت من بيان محمد! فقال: لقد سمعت أشياء أعرفها ¬

_ (¬1) «التصوير الفني في القرآن» لسيد قطب رحمه الله، ص 11.

وأعرف ما يراد منها! فقال الأخنس: وأنا كذلك. ثم انصرف إلى أبي جهل ليسأله عما سأله أبا سفيان، فقال أبو جهل في غيظ: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف! أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا! حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟! والله لا نسمع إليه ولا نصدقه! لو كان هؤلاء لا يستشعرون روعة القرآن، أو لا يدركون سحره وتأثيره لما تعاهدوا على اجتنابه ثم اندفعوا إلى الاستماع إليه، ثم بم نعلل- كما يقول بعض النقاد- «حرص الأخنس على سؤال أبي سفيان وأبي جهل عن أثر القرآن في نفسيهما، وقد حرصا على الاستماع إليه حرص الكاره الغضوب لا المعجب الودود؟ أما أبو سفيان فقد أجمل وأبهم! وأما أبو جهل فقد انفجر حنقا يكشف عن نفسه الستار الخادع إذ يعلن أن المسألة ليست مسألة الوحي، ولكنها مسألة المنافسة بين بني عبد مناف وبني مخزوم». ولهذا لم يكن قولهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [سورة الشعراء، الآية 26]. وقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) [سورة الفرقان، الآية 5]. أو قولهم: قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) [سورة الأنفال، الآية 31] ... لم يكن هذا إلا تعبيرا عن الجحود، والعناد والمكابرة، واللجاج في الباطل «كالذي ينكر ضوء الشمس وقد بهرت عينيه لعلة تدفعه إلى البهتان» لأننا لا ندري لماذا لم يقولوا مثله؟! ولهذا لم يعارضوه حين فاجأهم التحدّي في سورة يونس: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) [الآية 38]! والمعنى هنا كما قال الجاحظ: هاتوا مفتريات! أو حين نزل عليهم بعد ذلك في سورة الإسراء: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ

الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الآية 88]. أما تولي الوليد بن المغيرة الذي أشرنا إليه آنفا، فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام يصلي في المسجد، وأخذ يقرأ القرآن، والوليد بن المغيرة قريب منه يستمع قراءته، فلما فطن النبيّ لاستماعه أعاد القراءة. قال: فكأنه رقّ له، فانطلق إلى مجلس قومه بني مخزوم. فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه! وقعد إليه حزينا وكلّمه بما أحماه، وما زال به حتى أتى مجلس قومه، فقال: تزعمون أن محمدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهّن؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرا- وفي رواية: والله ما في قريش رجل أعلم بالشعر أو رجزه أو قصيده مني، ولا والله ما يشبه الذي يقول محمد شيئا من هذا الشعر أو ذلك الرجز- وتزعمون أنه كذاب، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في ذلك كله: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟! ... ففكّر وقدّر، ثم قال: ما هو إلا سحر يؤثر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فارتج النادي فرحا، وتفرقوا معجبين بقوله (¬1). وهذا هو ما أشار إليه سبحانه بقوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) [سورة المدثر، الآيات 18 - 24]. يقول بعض الأدباء النقاد في التعقيب على قصة الوليد هذه: «هذا هو ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطي 2/ 117 وسيرة ابن هشام 1/ 283.

ثالثا - معنى الإعجاز، أو الإعجاز الذي وقع به التحدي:

الوليد بن المغيرة، فكر فقدر ثم ذهب إلى أن القرآن سحر يؤثر، وظن أن نسبة السحر إلى محمد كافية أن تصد الناس عنه، ولكن غيره من ذوي الرصانة النقدية ينظرون في القرآن كما نظر الوليد، وهم على عدائهم للدعوة المحمّدية، يتفقون مع الوليد على أن القرآن ليس شعرا أو رجزا أو قصيدا، ويزيدون فيخالفونه فيما زعم من السحر، لأنهم من بيئة تعرف السحر والكهانة حق المعرفة، ولا ترى فيما يصدع به محمد من الآيات مشابها لما يأتي به السحرة من الرقى والعزائم، فقرآنه بمنزلة معجزة من البيان لا يجوز لعاقل يحترم تفكيره أن ينسبه إلى رقى السحرة وعزائم الكهنة» اه. ثالثا- معنى الإعجاز، أو الإعجاز الذي وقع به التحدّي: هذا الإعجاز ما وجهه، وما حقيقته، وبم صار القرآن مباينا لكلام العرب؟ هل صار مباينا لهذا الكلام من وجه بياني صرف؟ أم بخصائص موضوعية تتصل بالأمور الغيبية والتشريعية الأخرى التي جاء بها القرآن الكريم، والتي لم يكن في وسع أحد- كائنا من كان- أن يأتي بها في بلد كمكة، وظرف كالظرف الذي وجد فيه محمد- عليه الصلاة والسلام-. إن الدراسات النفسية التحليلية والاجتماعية كما قلنا في مبحث الوحي، اتفقتا على مصدر القرآن وعلى صحة النبوّة، وأن نسبة القرآن إلى الله تعالى ليس ادّعاء أو محض افتراء، ولكن هل في ذلك دليل على إعجاز القرآن الذي نحن بصدده؟ هذه النقطة الهامة- قبل الحديث عن أوجه الإعجاز البيانية، والإعجاز الموضوعي- كما يسمى تجوّزا- قد جلّاها تجلية رائعة الأستاذ الكبير محمود شاكر، فذكر هنا حقيقتين هامتين يحسن نقلهما هنا بقلمه قبل الخوض في هذا الموضوع وبيان آراء العلماء فيه:

قال الأستاذ محمود شاكر: «ولا مناص لمتكلم في إعجاز القرآن من أن يتبين حقيقتين عظيمتين قبل النظر في هذه المسألة، وأن يفصل بينهما فصلا ظاهرا لا يلتبس، وأن يميز أوضح التمييز بين الوجوه المشتركة التي تكون بينهما: أولاهما: أن (إعجاز القرآن) كما يدل عليه لفظه وتاريخه هو دليل النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، وعلى أنه رسول من الله يوحى إليه هذا القرآن. وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعرف «إعجاز القرآن» من الوجه الذي عرفه منه سائر من آمن به من قومه من العرب، وأن التحدّي الذي تضمنته آيات التحدّي من نحو قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) [سورة هود، الآيات 13 - 14]. وقوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [سورة الإسراء، الآية 88]. إنما هو تحد بلفظ القرآن ونظمه وبيانه لا بشيء خارج عن ذلك، فما هو بتحد بالإخبار بالغيب المكنون، ولا بالغيب الذي يأتي تصديقه بعد دهر من تنزيله، ولا بعلم ما لا يدركه علم المخاطبين به من العرب، ولا بشيء من المعاني مما لا يتصل بالنظم والبيان. ثانيتهما: أن إثبات دليل النبوة، وتصديق دليل الوحي، وأن القرآن تنزيل من عند الله كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من كتب الله سبحانه، لا يكون منها شيء يدل على أن القرآن معجز، ولا أظن أن قائلا يستطيع أن يقول: إن التوراة والإنجيل والزبور كتب معجزة، بالمعنى المعروف في شأن إعجاز القرآن من أجل أنها كتب منزلة من عند الله. ومن البيّن أن العرب قد طولبوا بأن يعرفوا دليل نبوّة رسول الله، ودليل صدق الوحي الذي يأتيه، بمجرد سماع القرآن نفسه، لا بما يجادلهم به حتى يلزمهم الحجة في توحيد الله، أو تصديق نبوّته، ولا بمعجزة

كمعجزات إخوانه من الأنبياء مما آمن على مثله البشر. وقد بيّن الله في غير آية من كتابه أن سماع القرآن يقتضيهم إدراك مباينته لكلامهم وأنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام رب العالمين، وبهذا جاء الأمر في قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) [سورة التوبة، الآية 6]. فالقرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهانا على إعجاز القرآن، والخلط بين هاتين الحقيقتين، وإهمال الفصل بينهما في التطبيق والنظر، وفي دراسة «إعجاز القرآن» قد أفضى إلى تخليط شديد في الدراسة قديما وحديثا، بل أدى هذا الخلط إلى تأخر «علم إعجاز القرآن» و «علم البلاغة» عن الغاية التي كان ينبغي أن ينتهيا إليها (¬1). يتبين من خلال هاتين الملاحظتين، ومن خلال الموقف الذي عرضناه في السابق- موقف العرب من القرآن- ومن خلال مطالبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لعشيرته وقومه أن يؤمنوا بدعوته ورسالته ويقرّوا له بصدق نبوّته بدليل واحد هو هذا الذي يتلوه عليهم من قرآن يقرؤه، يتبين من كل هذا: المعنى المراد بإعجاز القرآن. وهو أن القرآن يحمل في بيانه الدليل الكافي على أنه ليس من كلام البشر إذ لا معنى للمطالبة بالإقرار بمجرد التلاوة، إلا أن هذا المقروء عليهم كان هو في نفسه آية فيها أوضح الدليل على أنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، ولا من كلام بشر مثله. ثم لا معنى لهذه المطالبة البتة إلّا أن يكون في طاقة هؤلاء السامعين أن يميزوا تمييزا واضحا بين الكلام الذي هو من نحو كلام البشر، والكلام الذي ليس من نحو كلامهم، كما يقول الأستاذ شاكر. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر المقدمة القيمة التي صدّر بها الأستاذ محمود شاكر كتاب «الظاهرة القرآنية» للأستاذ مالك بن نبيّ رحمه الله.

الفصل الثاني آراء ونظريات حول الإعجاز

الفصل الثاني آراء ونظريات حول الإعجاز قامت حول إعجاز القرآن دراسات كثيرة قديمة وحديثة، وذهب المفسرون وعلماء البلاغة في تفسير هذا الإعجاز مذاهب شتى. وإذا كان من البين عندنا أن الإعجاز الذي وقع به التحدّي- وهو المراد من الإعجاز عند الإطلاق بالطبع- كان وجهه بيانيا صرفا، على نحو ما هدتنا إليه الملاحظات السابقة. وعلى الرغم من تسليم الكثيرين بهذا الرأي إلّا أن بعضهم لا يمتنع من الحديث عن «الإعجاز الغيبي» - بمعنى ما أشار إليه القرآن من أمور على أنها ستقع في المستقبل، وكان كما أخبر- وعن «الإعجاز العلمي» أي ما أشار إليه القرآن من علوم ومعارف كونية، وعن «الإعجاز التشريعي» ... إلخ، موردا كلمة «الإعجاز» في غير إطارها التاريخي السابق، وهذا ما دعانا إلى التقييد المشار إليه، بوصفه لونا من ألوان الاحتياط، وبيان «المجال» الحقيقي للإعجاز، فقلنا: الإعجاز الذي وقع به التحدّي. ونكتفي هنا بالكلام على أهم النظريات التي قيلت في تفسير هذا الإعجاز البياني أو الإعجاز الذي وقع به التحدّي، أو على أهم الخطوط البارزة في تلك النظريات. ونبدأ بالإشارة إلى فكرة أو شبهة ظاهرة الفساد خرجت من كل معايير التحدّي السابق، وهي نظرية الصرفة!

أولا - فكرة الصرفة:

أولا- فكرة الصرفة: ذهب أبو إسحاق النظام- وكان من رءوس المتكلمين على مذهب المعتزلة أو على نهجهم وطرائقهم في التفكير- إلى القول بأن إعجاز القرآن كان بالصرفة، أي إن الله سبحانه قد صرف بلغاء العرب عن معارضة القرآن، مع قدرتهم على تلك المعارضة، أو: إنه صرفهم وكان ذلك مقدورا لهم!! كما عبّر عن ذلك بعضهم: قال النظّام: «إن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوة، بل هو كسائر الكتب المنزلة لبيان الأحكام من الحلال والحرام، والعرب إنما لم يعارضوه لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك، وسلب علومهم به». وينطوي هذا القول- الذي تكفل المعتزلة أنفسهم بنقضه على صاحبه، كما رأينا عند القاضي عبد الجبار وغيره (¬1) - على أمرين: الأول: التخليط بين النقطتين السابقتين اللتين سبقت تجليتهما، فالمعجزة هنا تكمن في إثبات الله تعالى أن هذا القرآن من كلامه. بدليل أنه صرفهم عن معارضته في وقت كان ذلك مقدورا لهم! أي إن المعجز هو المنع أو المانع!! الأمر الثاني: أن هذا الرأي ليس من باب الطعن على الكتاب الكريم، أو من باب الإلحاد فيه والزيغ عنه، لأن هذا الرأي قد يكون آكد في باب الإيمان والتسليم (¬2) بأن القرآن كلام الله ... ولكنه من باب العجمة وشبهها في ميدان تذوق البلاغة والبيان، أو من باب التفلسف الذي يريد صاحبه إراحة نفسه من عناء البحث، وإجالة الفكر. ولهذا فإن أحدا من علماء البلاغة لم يتابع النظام، وكان أول من خالفه في ذلك تلميذه الجاحظ، وإنما تابعه بعض من أخذ من الفلسفة وعلم الكلام بسبب! قال الإمام الباقلاني: «على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من ¬

_ (¬1) انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبد الجبار 16/ 323. (¬2) أي: لولا ما ينطوي عليه من الفساد في ذاته.

جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على نظمه البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب. على أنه لو كان صرفوا لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنهم لم يتحدوا، ولم تلزمهم حجته، فلما لم يوجد في كلام من قبله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان ... » (¬1). وقد لخص السيوطي ردودهم على هذه الفرية، أو الزعم، بقوله: «وهذا قول فاسد بدليل قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ... الآية، فإنها تدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره. والإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله. وأيضا فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدّي، وخلو القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية، ولا معجزة له باقية سوى القرآن. ... ولو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون بالمنع معجزا، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه» (¬2). ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقرص 41 - 42 الطبعة الأولى- دار المعارف. (¬2) الإتقان للسيوطي 2/ 118.

ثانيا - النظم القرآني:

ثانيا- النظم القرآني: لعل نظرية النظم القرآني، أو هذه الفكرة العميقة، والتي تتابع على تجليتها وإعطائها هذا البعد أو المعنى الناصع غير واحد من العلماء حتى استوت على سوقها عند الإمام عبد القاهر الجرجاني .. لعل هذه الفكرة أو النظرية أبرز ما قدمه القدماء من دراسات حول إعجاز القرآن، ولعل أحدا لم يقع قبل الجاحظ- رحمه الله- على هذه اللفظة ذاتها- نظم القرآن- سواء تردد مفهومها في أذهان هؤلاء الذين سبقوه أو فيما أثر عنهم أم لا. وقد ألفت كتب متعددة تحمل هذا العنوان، بعد كتاب الجاحظ الذي وصفه هو في بعض كتبه، بما يشوق، ويحمل على الأسى أنه لم يصل إلينا (¬1)، مثل كتب أبي بكر السجستاني المتوفى سنة 316، وأبي زيد البلخي المتوفى سنة 322، وأبي بكر أحمد بن علي (المعروف بابن الإخشيد) المتوفى سنة 326. ولم يصل إلينا من جميع هذه الكتب، أو الرسائل شيء مع الأسف ... ثم نجد أبا سليمان الخطابي المتوفى سنة 388 يتحدث عن هذا الموضوع فيقول: «وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباطها بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله ثم يقول: «وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه. ولا ¬

_ (¬1) راجع المقدمة القيمة التي صدّر بها الأستاذ المحقق السيد أحمد صقر رحمه الله كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر الباقلاني ص 9 فما بعدها.

(أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني:

ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل في نعوتها وصفاتها» (¬1). ثم يقول بعد كلام طويل: «وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان». (أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني: ثم جاء الإمام عبد القاهر (المتوفى سنة 471 أو 474) فقطع شوطا بعيدا وهاما في إدراك الإعجاز، من خلال كتابه القيّم: «دلائل الإعجاز» الذي أعطى فيه لفكرة النظم القرآني صورتها الزاهية- ولعلها أزهى الصور في تاريخ الإعجاز- بل الذي أراد أن يؤسس فيه علما جديدا استدركه على من سبقه من الأئمة الذين كتبوا في «البلاغة» وفي «إعجاز القرآن» كما يلاحظ الأستاذ محمود شاكر- مدّ الله في عمره-. على الرغم من أن عمله- كما يقول الأستاذ شاكر- «كان مشوبا بحميّة جارفة لا تعرف الأناة في التبويب والتقسيم والتصنيف. وكأنّه كان في عجلة من أمره، وكأنّ منازعا كان ينازعه عند كل فكرة يريد أن يجلّيها ببراعته وذكائه وسرعة لمحه، وبقوة حجّته ومضاء رأيه» (¬2). وليس في وسعنا، ولا من مهمتنا في هذه العجالة، أن نلخص نظرية الإمام عبد القاهر هذه في النظم القرآني- وقد بسط فيها القول ودافع عنها في مئات الصفحات- وقد يكون بعض جوانبها، النظرية والتطبيقية، بحاجة إلى شرح لا إلى اختصار. ولهذا، فإننا سوف نكتفي بتقديم «تعريف» لهذه النظرية، أقرب ما يكون ¬

_ (¬1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 24. (¬2) من مقدمة الأستاذ الكبير محمود شاكر لكتاب: دلائل الإعجاز، وقد قرأه وعلّق عليه، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة 1404 هـ.

إلى «تعريفات» العلوم! على النحو الذي كتبه عبد القاهر بقلمه- رحمه الله-. بالإضافة إلى تقديم طرف من نقده لبعض الآراء والأفكار الأخرى، بالقدر الذي يعين على إدراك ما يعنيه عبد القاهر بالنظم القرآني، وعلى وضعه في موضعه، وتقديره حق قدره! يبدأ عبد القاهر، أو ينطلق من أمر مسلّم لا يتصور فيه خلاف، وهو أن الإعجاز، أو الوصف الذي صار به القرآن معجزا «ينبغي أن يكون وصفا قد تجدّد بالقرآن، وأمرا لم يوجد في غيره، ولم يعرف قبل نزوله» (¬1). ثم ينفي أن يكون هذا الوصف في «الكلمات المفردة» أو في «ترتيب الحركات والسكنات» أو في «المقاطع والفواصل»، أو في «الاستعارة»؛ تمهيدا لبيان أن الإعجاز، أو هذا الوصف، قائم في «النظم القرآني»: 1 - أما الكلمات المفردة فأوضاع اللغة، وهي لذلك ملك للجميع، ينطق بها البلغاء وغيرهم! وينكر الإمام عبد القاهر أن تكون هذه الكلمات قد حدث في «مذاقة حروفها وأصدائها» - بحسب عبارته- أو في معانيها جميعا وصف أو وضع لم يكن لها قبل نزول القرآن. يقول عبد القاهر: «لا يجوز أن يكون- الإعجاز أو الوصف المعجز- في الكلم المفردة، لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال، وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة، قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن، وتكون قد اختصّت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوّة في القرآن، لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن» (¬2). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 386. (¬2) المصدر السابق ص 386.

ويقول أيضا: «ولا يجوز أن تكون في «معاني الكلم المفردة» التي هي لها بوضع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدّد في معنى «الحمد» و «الرب» ومعنى «العالمين» و «الملك» و «اليوم» و «الدين» وهكذا، وصف لم يكن قبل نزول القرآن. وهذا ما لو كان هاهنا شيء أبعد من المحال وأشنع لكان إيّاه» (¬1). 2 - وكذلك لا يمكن أن يكون هذا الوصف- المعجز- في «ترتيب الحركات والسكنات» في الجمل والآيات القرآنية «حتى كأنهم تحدّوا إلى أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة كلمات القرآن» (¬2) كما يقول عبد القاهر! لأن مسيلمة وغيره قد تعاطوه في بعض حماقاتهم التي عارضوا فيها القرآن، فلم ينتهوا إلى شيء .. سوى الدلالة على إعجاز القرآن، وسخافة ما جاءوا به! 3 - أما «المقاطع والفواصل» فليست «أكثر من التعويل على مراعاة الوزن، وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر» قال عبد القاهر: «وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو، فلو لم يكن التحدّي إلا في «فصول» من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي، لم يعوزهم ذلك، ولم يتعذّر عليهم» (¬3) أي أن العرب الذين جاءوا بروائع القصيد، عجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، والفواصل هنا، كالقوافي هناك! 4 - وأخيرا، يستبعد عبد القاهر أن يكون الإعجاز في الاستعارة والمجاز، لأن ذلك يؤدي إلى ن يكون الإعجاز في بعض القرآن دون بعض، والقرآن معجز كله! قال عبد القاهر: «فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عدّدناه، لم يبق إلا أن يكون في النظم» و «الاستعارة». قال: «ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز وأن يقصر عليها؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السّور الطوال مخصوصة، وإذا امتنع ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 386. (¬2) نفس المصدر ص 387. (¬3) المصدر السابق، نفس الصفحة.

(ب) تعريف النظم القرآني:

ذلك فيها ... ثبت أنه في النظم والتأليف ... » (¬1). (ب) تعريف النظم القرآني: والآن، ما تعريف النظم القرآني، وماذا يريد منه هذا الإمام الحصيف؟ عرّف عبد القاهر «النظم» في مواضع كثيرة من كتابه، فقال: «ليس النظم شيئا غير توخّي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم» (¬2) وقال أيضا: «ليس النظم شيئا غير توخّي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتب المعاني أولا في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك» (¬3) وقال: «اعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه «علم النحو» وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت لك، فلا تخلّ بشيء منها» (¬4) ... إلخ. لقد اتسع كتاب «دلائل الإعجاز» كما قلنا لشرح هذه الفكرة والدفاع عنها، بكل ما يتطلبه ذلك من الموازنة والنقد والترجيح، والأمثلة والشواهد ... استمع إليه يقول في النص التالي، شارحا وموازنا: «واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه الشك، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب من تلك. هذا ما لا يجهله عاقل، ولا يخفى على أحد من الناس. «وإذا كان كذلك، فبنا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها، ما معناه وما محصوله؟ وإذا نظرنا في ذلك، علمنا أن ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 250. (¬2) المصدر السابق ص 392. (¬3) المصدر السابق ص 454. (¬4) نفس المصدر ص 81.

لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلا لفعل أو مفعولا، أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبرا عن الآخر، أو تتبع الاسم اسما على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيدا له، أو بدلا منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون صفة أو حالا أو تمييزا، أو تتوخّى في كلام هو لإثبات معنى، أن يصير نفيا أو استفهاما أو تمنّيا، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطا في الآخر، فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا المعنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمّنت معنى ذلك الحرف. وعلى هذا القياس» (¬1). هذه هي خلاصة ما يعنيه عبد القاهر بمسألة النظم. وفي وسع الدارس لكتابه أن يلاحظ كيف خرّج عليها، وناقش وانتقد من خلالها، جميع النقاط السابقة- وسواها- التي أنكر عبد القاهر أن تكون مناط الإعجاز. ونسوق- فيما يلي- نقده أو تخريجه لمسألة الألفاظ أو الكلم المفردة، أولا من باب الشرح والتمثيل، وثانيا: لأنه أتبعه بشاهد قرآني جلّى من خلاله «النظم النحوي» الذي قعّده أو تحدث عنه في هذه الخلاصة. يقول عبد القاهر: «إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجرّدة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة المعنى التي تليها ... » (¬2). «وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافه: قلقة، ونابية، ومستكرهة، إلا وغرضهم أن يعبّروا بالتمكّن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما، وبالقلق والنّبوّ عن سوء التلاؤم ... » (¬3). ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 55. (¬2) المصدر السابق ص 46. (¬3) المصدر السابق ص 45.

ثم قدم الدليل على ذلك من قوله تعالى في سورة هود: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [الآية 44] فقال: «إن شككت، فتأمّل: هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدّت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل ابْلَعِي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء ب «يا» دون «أي» نحو «يا أيتها الأرض» ثم إضافة الماء إلى الكاف، دون أن يقال ابلعي الماء، ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها، ثم أن قيل وَغِيضَ الْماءُ فجعل الفعل على صيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم إضمار السفينة قبل الذّكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة قِيلَ في الخاتمة ب قِيلَ في الفاتحة؟ أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصوّرها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتّساق العجيب» (¬1). ويوضح عبد القاهر أن رفضه للاستعارة والمجاز، وللأبواب السابقة أن تكون مناط الإعجاز، لا يعني أكثر من إنكارها مفردة، أو خارج نطاق «النظم ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 45 - 46.

النحوي» بمعنى أنه يقرّها ويعنى بها، ويتتبع أثرها- في الإعجاز- بوصفها جزءا من مقتضيات النظم ذاته قال- رحمه الله-: «فإن قيل: إن النظم يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك لا مساغ له! قال: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني، التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وضروب المجاز من بعدها، من مقتضيات والنظم، وعنه يحدث، وبه يكون، لأنه لا يتصوّر أن يدخل شيء منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخّ فيما بينها حكم من أحكام النحو، فلا يتصور أن يكون هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد ألّف مع غيره! أفلا ترى أنه إن قدّر في «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [سورة مريم، الآية 4] ألا يكون «الرأس» فاعلا له، ويكون «شيبا» منصوبا على التمييز، لم يتصوّر أن يكون مستعارا؟ وهكذا السبيل في نظائر الاستعارة فاعرف ذلك» (¬1). يقول بعض الأدباء النقّاد (¬2): «فأنت تراه قد قدّر مكان الاستعارة القرآنية وما هو بسبيلها من الصور الأدبية من دلائل الإعجاز، وإن رجع بها في ذكاء قادر إلى قضية النظم النحوي، ولكنه أغفل إغفالا تاما مكانة اللفظ ومكان المقطع والفاصلة، مدعيا أن شيئا من ذلك لا قيمة له ما لم يراع النظام النحوي في تركيبه، وفي ذلك بعض الغلوّ الذي ندفعه بما نملك من رأي، وشاهدنا على ذلك أن عبد القاهر حين تحدث عن الآية الكريمة: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) [سورة هود، الآية 44] جعل مبدأ العظمة في أن ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز ص 393. (¬2) الأستاذ الدكتور محمد رجب بيومي في كتابه: البيان القرآني.

نوديت الأرض وكان النداء ب «يا»، ثم بإضافة الكاف إلى الماء، ثم بنداء السماء وأمرها بما يخصها، ثم بمجيء الفعل «غيض» على صيغة «فعل» الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر، ثم تأكيد ذلك بقوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ثم مقابلة «قيل» في الخاتمة ب «قيل» في الفاتحة: أجل، جعل الجرجاني ما سماه بمبدإ العظمة فيما أسلف من القول. وعلى قياسه نستطيع أن نقول: وقيل يا أرض اشربي ماءك ويا سماء امنعي، وأزيل الماء ونفّذ الأمر واستقرت على الجودي وقيل هلاكا للقوم الظالمين. فيتحقق بذلك كل ما جعله الجرجاني مبدأ العظمة وحده، ويوازي القول دون نقص». ولكن مهلا، فإن اختيار لفظ البلع دون الشرب، وكلمة اقلعي دون امنعي، وفعل قضي المبني للمجهول، دون «نفذ» المبني للمجهول أيضا، واستوت على الجودي، دون استقرت. كلّ ذلك مما يرتفع بالآية إلى الإعجاز، وهو في صميمه راجع فيما يرجع إليه إلى اللفظ دون الإسناد. «وما نقوله في ذلك نقوله في المقاطع والفواصل، وإن شئت فانظر مثلا قول الله عزّ وجلّ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) [سورة المدثّر، الآيات 11 - 15] وحاول أن تقرأه على هذه الصورة: «ذرني ومن خلقت وحيدا، وجعلت به مالا مبسوطا، وبنين حاضرين، ومهدت له تمهيدا، ثم يطمع أن أكثر» فإنك إذا فعلت ذلك لم تخرج عن قضية النظم النحوي كما عناه عبد القاهر، ولكنك تغفل أثر المقطع والفاصلة، فتهبط بالكلام من مستوى إلى مستوى، وذلك ما كان ينبغي أن يلتفت إليه هذا الدارس الحصيف، وما أحراه أن يدخل اختيار اللفظ وجمال المقطع في ترتيب النظم بحيلة فكرية كما أدخل الاستعارة من قبل» (¬1). ¬

_ (¬1) البيان القرآني ص 64.

ثالثا - التصوير الفني:

ثالثا- التصوير الفني: وعلينا أن نشير هنا إلى لونين آخرين من ألوان الإعجاز أو البيان القرآني التي ترفد نظرية عبد القاهر، وهما: التصوير الفني، والجانب الصوتي والنغم القرآني- أو ما دعاه الرافعي ب «النظم الموسيقى». أما التصوير الفني فإن أول من تحدث عنه الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- في كتابه القيم الذي خصّه بهذا الموضوع «التصوير الفني في القرآن». وفي ذلك يقول الأستاذ الدكتور صبحي الصالح رحمه الله تعالى: «وقد نحا سيد قطب في دراسته للقرآن منحى آخر، فلم تكن مفردات القرآن وحدها شاغلة له بموسيقاها، ولا تراكيب القرآن مستأثرة باهتمامه بتناسقها وترابطها، وإنما كان نظره مركزا في الأداة المفضلة للتعبير في كتاب الله، ولقد وجدها في التصوير، وراح يتحدث عنها بأسلوب شعري يستهوي النفوس، ويهديها بحق إلى جمال القرآن». قال سيد قطب: «التصوير هو الأداة المفضّلة في أسلوب القرآن، فهو يعبّر بالصورة الحسية المتخيّلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة مجسّمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة. فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل؛ فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر،

وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة فتنمّ عن الأحاسيس المضمرة. «إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة!». ثم يقول:- وهذا هو الأمر الذي ربط به سيد فكرته بقضية الإعجاز- «فإذا ذكرنا أن الأداة التي تصوّر المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخّص النموذج الإنساني أو الحادث المرئي، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصوّر، ولا شخوص تعبّر أدركنا موضع الإعجاز في تعبير القرآن» (¬1). وقد تحدث سيد قطب- رحمه الله- عن آفاق هذا التصوير الفني في القرآن، فذكر «أنه تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالإيقاع ... » (¬2) وقال: «وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصورة، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان»، ووصف هذا التصوير بأنه «تصوير حي منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة. تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات. فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة» (¬3). ونكتفي هنا ببعض النماذج على مسائل التصوير البارزة، أو الموضحة لهذه القاعدة الهامة: ¬

_ (¬1) التصوير الفني في القرآن- دار المعارف- ص 33. (¬2) المرجع السابق ص 102. (¬3) المرجع السابق ص 32.

(أ) من المعاني الذهنية، التي أخرجت في صورة حسية قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) [سورة الأعراف، الآية 40]. والمعنى الذهني الذي تقرره الآية هو أن الكفار لن ينالوا القبول عند الله، وأنه يستحيل عليهم دخول الجنة! ولكن هذا المعنى المجرد يعرض بهذا الأسلوب التصويري ... فيدعك «ترسم بخيالك» صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سمّ الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم «الجمل» خاصة في هذا المقام، ويدع للحسّ أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة في أعماق النفس» (¬1). (ب) وتأمّل هذا الشاهد في تصوير الحالات النفسية والمعنوية: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) [سورة الأنعام، الآية 71]. حيث «تبرز صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوته الشياطين في الأرض- ولفظ الاستهواء لفظ مصوّر لمدلوله- ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه، فيكون راحة ذي القصد الموحد، ولو في طريق الضلال! ولكن هناك من الجانب الآخر إخوان له يدعونه إلى الهدى، وينادونه: «ائتنا» وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء «حيران» موزع القلب، لا يدري أي الفريقين يجيب، ولا أي الطريقين يسلك، فهو قائم هناك شاخص متلفّت» (¬2). ¬

_ (¬1) التصوير الفني ص 32. (¬2) المصدر السابق ص 38.

1 - التخييل الحسي والتجسيم:

(ج) وأخيرا، هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة، حيث كان للتصوير فيها نصيب وافر. قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) [سورة إبراهيم، الآيات 42 - 43]. أربع صور متتابعة متواكبة، أو أربعة مشاهد لموقف واحد، يتلو بعضها بعضا في الاستعراض، فتتم بها صورة شاخصة في الخيال، هي صورة فريدة للفزع والخجل، والرهبة والاستسلام، يجلّلها ظلّ كئيب ساهم يكمد الأنفاس! (¬1). هذا وقد تحدث سيد- رحمه الله- بعد ذلك في أبرز فصول كتابه عن «التخييل الحسّي والتجسيم» وعن «التناسق الفني» وعن «القصة القرآنية» نظرا لغناها الواسع في مسألة النماذج الإنسانية والطبيعة البشرية التي أخرجت في القرآن الكريم على تلك الحالة من التصوير الدقيق. ونورد فيما يلي طرفا من بعض هذه الفصول، يشير إلى مدى إسهامها في موضوع الإعجاز: 1 - التخييل الحسّي والتجسيم: أما ما أطلق عليه: التخييل الحسّي والتجسيم، بوصفه القاعدة الأساسية التي قام عليها التصوير الفني ... أو بوصفهما «الظاهرتين البارزتين في هذا التصوير» فإن التشبيه بمحسوس- وهو عماد تشبيهات القرآن- يمثل أبرز هذا التجسيم، غير أن سيد قطب لا يقصر التجسيم على التشبيه بمحسوس، وإنما يعني به «لونا جديدا هو تجسيم المعنويات، لا على وجه التشبيه والتمثيل، بل على التصيير والتحويل» (¬2). قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ ¬

_ (¬1) التصوير الفني ص 49. (¬2) المصدر السابق ص 64.

حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) [سورة غافر، الآية 18]. فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر من شدة الضيق! وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ [سورة النساء، الآية 90] أي ضاقت صدورهم من الحيرة والحرج بين أن يقاتلوكم انتصارا لقومهم، أو يقاتلوا قومهم انتصارا لكم. ومنه التعبير عن عدم الهداية والانتفاع بالسماع بأن هناك حواجز مادية- مجسّمة- تفصل بينهم وبين الهدى والسماع: جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [سورة الكهف، الآية 57]. وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [سورة، محمد، الآية 24]. وقال عزّ من قائل: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) [سورة يس، الآيتان 8 - 9]. ومعنى: أكنّة: أغطية. والوقر: الصمم، وأصله: الثقل، والمقمحون: المرفوعو الرأس اضطرارا. وانظر إلى الشواهد التالية التي اجتمع فيها التخييل والتجسيم حيث صورت الآيات الأمور المعنوية جسما محسوسا، وخيّلت حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير. قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وقال تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. وقال تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. وقال: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.

2 - التناسق الفني:

«فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه، وكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها، وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة، تلقى بينهم فتبقى إلى يوم القيامة، وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين. وكأنما للذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين» (¬1). 2 - التناسق الفني: أما التناسق الفني فهو الذي يبلغ الذورة في تصوير القرآن ... وفي بيان القرآن، فإننا نشير هنا إلى طرف من خطوطه العامة: (أ) فهنالك التناسق الناشئ عن المقابلات الدقيقة بين الصور التي ترسمها التعبيرات «والتقابل: طريقة من طرق التصوير، وطريقة من طرق التلحين، كما يقول سيد قطب» من ذلك هاتان الصورتان اللتان يعرضهما لإماتة الأحياء، وإحياء الموتى في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) [سورة السجدة، الآيتان 26 - 27]. «ففي ومضة عين نقلهم من القرى المهلكة الداثرة بعد الحياة والعمران، إلى الأرض الممرعة بعد الموت والإجداب. هذه المقابلة تكاد تطّرد في صور النعيم والعذاب في الآخرة». وهنالك أيضا المقابلة النفسية بين الكافرين والمؤمنين، والتقابل بين صورة حاضرة الآن، وأخرى ماضية في سابق العهد والأوان: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) [سورة النحل، الآية 4]. وقال تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) ¬

_ (¬1) التصوير الفني ص 67.

لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) [سورة الواقعة، الآيات 41 - 46]. فالسّموم والحميم، والظل الذي ليس له من الظل إلا اسمه لأنه «من يحموم» «لا بارد ولا كريم» ... صورة هذا الشظف تقابل صورة الترف: «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين»! يقول سيد قطب- رحمه الله- بعد ذلك في التعقيب على هذه الآية- وهو تعقيب جدير بالتدبّر والتأمّل ... والإفادة منه في فهم نصوص وصور قرآنية أخرى كثيرة في كتاب الله عزّ وجلّ- يقول: «وهنا موضع تأمل لطيف في هذا التصوير وفيما يماثله: فهؤلاء المتحدّث عنهم يعيشون في الدنيا الحاضرة، وصورة الترف هي الصورة القريبة، أما ما ينتظرهم من السموم والحميم والشظف فهو الصورة البعيدة. ولكن التصوير هنا لفرط حيويته يخيل للقارئ أن الدنيا طويت، وأنهم الآن هناك، وأن صورة الترف قد طويت كذلك، وصورة الشظف قد عرضت. وأنهم يذكّرون في وسط السموم والحميم بأنهم «كانوا قبل ذلك مترفين»! ... وذلك من قوة الإحياء حتى لينسى المشاهد أن هذا مثل يضرب، ويحسّ بأنه حاضر يشهد!» (¬1). (ب) وهنالك تناسق بين أجزاء الصورة القرآنية المعروضة، من حيث ما يسمّى بوحدة الرسم، أي عدم التنافر بين جزئيات الصورة، ثم توزيع تلك الأجزاء على الرقعة بنسب معيّنة يزحم بعضها بعضا، ولا يطغى في ذلك بعضها على بعض، ويأتي أخيرا دور اللون الذي ترسم به، والتدرج في الظلال بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة والموضوع (¬2). ¬

_ (¬1) التصوير الفني ص 79. (¬2) راجع للتوسع في هذا اللون كتاب التصوير الفني ص 90 فما بعدها.

يقول الأستاذ سيد- رحمه الله-: «خذ سورة من السور القصيرة التي ربما يحسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان ... خذ سورة الفلق. فما الجو المراد إطلاقه فيها؟ إنه جو التعويذة، بما فيه من خفاء وهيمنة وغموض وإبهام، فاسمع: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5). فما الفلق الذي يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر ... لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام سيأتي. يعوذ برب الفجر «من شر ما خلق» هكذا بالتنكير، وب «ما» الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم، و «من شر غاسق إذا وقب»: الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء ويمسي مرهوبا مخوفا. «ومن شر النفاثات في العقد» وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا في الظلام. «ومن شر حاسد إذا حسد» والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض كذلك مرهوب. الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء، فلم خصصه هنا «برب الفلق»؟ لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان من المتبادر أن يعوذ من الظلام بربّ النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكّم هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد، و «الفلق» يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور، تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور. ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد؟.

هي من ناحية «الفلق والغاسق» مشهدان من مشاهد الطبيعة، ومن ناحية «النفاثات في العقد» و «حاسد إذا حسد» مخلوقان آدميان. وهي من ناحية: «الفلق» و «الغاسق» مشهدان متقابلان في الزمان. ومن ناحية: «النفاثات» و «الحاسد» جنسان متقابلان في الإنسان. وهذه الأجزاء موزعة على الرقعة توزيعا متناسقا، متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق، ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفّها الغموض والظلام، والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان» (¬1). وتأمل هنا- بلمحة خاطفة- وحدة الصورة، أو اللوحة القرآنية، التي رسمت في الآيات التالية من سورة الرعد بخطوطها العريضة: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) [الآية 2]. ثم قال تعالى في الآية التالية- وما تزال تعرض تلك الخطوط العريضة فحسب. ولكن لاحظ كيف ينزل الخط التصويري إلى الأرض-: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) [الآية 3]. وتأمل على سبيل التذكير: الخطوط المتقابلة في هذه الصورة: الرواسي والأنهار ... وزوجان اثنان من كل الثمرات ... والتي رسمت على الرقعة الممتدة: «وهو الذي مدّ الأرض ... » إلخ الآية الكريمة. أما الآية الثالثة من السورة فقد صورت «لقطة» من صورة الأرض هذه ... فيها خطوط أكثر تفصيلا ... وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ... [الآية 4]. ¬

_ (¬1) التصوير الفني ص 90.

ولاحظ في هذه اللوحة التناسق في اللون والشكل، وأثر ذلك في ملء فراغات اللوحة كما يقال: بين جنّات الكروم المعروشة ... والزرع المنبسط، والنخيل السامق!! ... (¬1) وانظر أخيرا إلى هذه اللوحة الطبيعية التي رسمت ببضع لمسات عريضة، قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) [سورة الغاشية، الآيات 17 - 20]. إنها لوحة قاعدتاها: السماء والأرض: اتجاهان أفقيان. بينهما في الاتجاه الرأسي: الجبال والجمال ... أبرز الأشكال والأحجام على الأرض في عالم الجماد وعالم الحيوان ... والجمل هو الحيوان المناسب في الاتجاه الرأسي على كل حال ... بالإضافة إلى أنه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء والجبال!! ... وانظر كذلك هذه الدعوة إلى النظر والتأمل كيف بدأت بالإبل ... تلك المخلوقات البارزة على الأرض التي يقف عليها الإنسان، ثم انتقلت به من تلك النقطة الرأسية إلى السماء في اتجاه الصعود إلى فوق ... ثم كيف نزل ذلك الخط التصويري بالناظر المتأمل من السماء إلى الجبال إلى الأرض ... حيث مواقع أقدامه، مرة أخرى (¬2). وفي سورة الغاشية لوحات بلغ فيها التناسق الفني هذا أوجه كذلك ... وفي وسع القارئ أن يقف في كتاب التصوير الفني وفي الظلال على ألوان أخرى من التناسق ... وبخاصة ذلك التناسق الذي تستقل برسمه كلمة واحدة ¬

_ (¬1) راجع: في ظلال القرآن ص 2044 فما بعدها. ط دار الشروق 1397 هـ. (¬2) التصوير الفني في القرآن لسيد رحمه الله، وانظر تفسيره في ظلال القرآن ص 3898 فما بعدها.

في بعض الأحيان ... والتناسق الناشئ عن المدة المقررة لبقاء المشهد أو الصورة معروضة على الأنظار في النفس والخيال ... علّنا ندرك الأبعاد الكاملة، أو شيئا غير قليل من هذه الكلمة التي ختم بها الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- بحثه الدقيق والواسع في التناسق والتصوير عند ما قال: «وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق من التناسق والاتّساق: فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل، إلى لفظ معبّر، إلى تعبير مصوّر، إلى تصوير مشخّص، إلى تخييل مجسّم، إلى موسيقى منغّمة، إلى اتساق في الأجزاء، إلى تناسق في الإطار، إلى توافق في الموسيقى، إلى تفنّن في الإخراج. وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقق الإعجاز». يقول الأستاذ الدكتور صبحي الصالح: «ولعل الغاية التي انتهى إليها سيد قطب من فهم الأسلوب القرآني أن تكون أصدق ترجمة لمفهومنا الحديث لإعجاز القرآن لأنها تساعد جيلنا الجديد على استرواح الجمال الفني الخالص في كتاب الله، وتمكن الدارسين من استخلاص ذلك بأنفسهم، والاستمتاع به بوجدانهم وشعورهم» (¬1). قلت: ولعل الأمر الذي انتهى إليه سيد في شأن الإعجاز بالتصوير- إن صح هذا التعبير- يوضح بعض جوانب نظرية عبد القاهر الجرجاني، ويضيف إليها؛ لا أنه يليغها ويعفّي عليها (¬2) .. كما أن هذه الملاحظات الدقيقة بشأن دور الألفاظ في مسألة التصوير لعلها أن تكون قد انتهت إلى سيد، حيث أوضحها ووضعها في ¬

_ (¬1) مباحث في علوم القرآن- الطبعة الثانية: مطبعة جامعة دمشق ص 368. (¬2) أشار سيد قطب رحمه الله إلى أن عبد القاهر بلغ غاية التوفيق المقدر لباحث في عصره، وأنه كان على وشك إدراك الناحية التصويرية والتخييلية في أسلوب القرآن «ولقد كان النبع منه على ضربة معول فلم يضربها!» التصوير الفني لسيد قطب، مرجع سابق ص 29.

رابعا - النظم الموسيقى:

موضعها، من الدراسة العميقة- والمتكلفة في بعض الأحيان- التي قدّمها الرافعي في كتابه الذي خصّه بالحديث عن القرآن والبلاغة النبوية. وهي الدراسة التي سنعرض لفكرتها الرئيسة من خلال هذا المظهر الأخير، أو النظرية التي نعرض لها الآن في مسألة إعجاز القرآن، وهي: النظم الموسيقى، أو إعجاز النظم الموسيقى، كما دعاه الرافعي نفسه. رابعا- النظم الموسيقى: انطلق الرافعي في حديثه عن الإعجاز من الحروف وأصواتها، ثم من الحركة الصرفية واللغوية للألفاظ القرآنية المشتملة على تلك الحروف .. حتى ليمكن القول: إن عماد حديثه عن إعجاز النظم الموسيقى يعتمد بالدرجة الأولى على الألفاظ، وعلى الجانب الصوتي منها على وجه الخصوص .. يقول الرافعي- بعد تمهيد كاشف-: «وحسبك بهذا اعتبارا في إعجاز النظم الموسيقى في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه؛ لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرار ... » (¬1). ويقول بعد ذلك: «ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيّئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقى، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت ¬

_ (¬1) تاريخ آداب العرب للرافعي 2/ 225.

لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقى، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة» (¬1). ثم يضرب لذلك أمثلة يوضح بها ما ذهب إليه، فيقول: «من ذلك لفظة «النّذر» جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا، فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوّه عن اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام؛ فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) [سورة القمر، الآية 36]. فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمّله، وتذوّق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد»، وفي الطاء من «بطشتنا»، وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تماروا»، مع الفصل بالمدّ كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمّة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها؛ كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردّد نظرك في الراء من «تماروا» فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء «النّذر» حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون «أنذرهم» وفي ميمها، وللغنّة الأخرى التي سبقت الذال في «النّذر». ثم يعقّب على هذه الآية بقوله: «وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في ¬

_ (¬1) تاريخ آداب العرب 2/ 239.

نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدم في النظر وأحكمته الرويّة وراضه اللسان، وليس منها إلا متخيّر مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات» (¬1). وقد يكون في حديثنا القادم عن الفاصلة القرآنية، والسجع القرآني، ما يوضح بعض الجوانب التي قصد إليها الرافعي في حديثه، أو في كتابه الذي يأخذ بعضه برقاب بعض، وإن كان- هو- لم يفته أن يشير بالطبع إلى هذه الفواصل، ويجعلها من جملة الأمور التي أعطت للنظم الموسيقى أبعاده الأخيرة؛ قال: «وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا، يلائم نوع الصوت، والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب»!. ولهذا كان النص القرآني قابلا للتلاوة، على طريقة الترتيل، وعلى طريقة الألحان والأوزان، ولم تكن قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم قابلة لذلك (¬2). وقد ردّ الأستاذ قطب هذه الظاهرة إلى أن القرآن الكريم جمع بين مزايا النثر والشعر جميعا، «فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة، والتفعيلات التامة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل، والتقفية التي تغني عن القوافي، وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرناها، فشأى النثر والنظم جميعا» (¬3). وقد تحدث الاستاذ الدكتور صبحي الصالح عن هذه الموسيقى الداخلية، ¬

_ (¬1) تاريخ آداب العرب 2/ 240. (¬2) انظر تفصيل هذه النقطة في المصدر السابق 2/ 225. (¬3) التصوير الفني في القرآن ص 86.

ورأى فيها- في ضوء ما قدّمه الرافعي كذلك فيما يبدو- لونا من ألوان الإعجاز سمّاه: «الإعجاز في نغم القرآن» وقال فيه: «إن هذا القرآن- في كل سورة منه وآية، وفي كل مقطع منه وفقرة، وفي كل مشهد منه وقصة، وفي كل مطلع منه وختام- يمتاز بأسلوب إيقاعي غني بالموسيقى مملوء نغما، حتى ليكون من الخطأ الشديد في هذا الباب أن نفاضل فيه بين سورة وأخرى، أو نوازن بين مقطع ومقطع، لكننا حين نومئ إلى تفرد سورة منه بنسق خاص إنما نقرر ظاهرة أسلوبية بارزة نؤيدها بالدليل، وندعمها بالشاهد؛ مؤكدين أن القرآن نسيج واحد في بلاغته وسحر بيانه، إلا أنه متنوع تنوع موسيقى الوجود في أنغامه وألحانه» (¬1)! وقد لاحظ الدكتور الصالح أن هذه الموسيقى الداخلية تنبعث في القرآن حتى من اللفظة الواحدة، فضلا عن الآية التي تتناسق في جوها الكلمات، أو في السورة التي تنسجم حول فكرتها جميع الآيات. فاللفظة المفردة «تكاد تستقل- بجرسها ونغمها- بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهيا أو شاحبا، وفيها الظل شفيفا أو كثيفا ... فحين تتسمع همس السين المكررة تكاد تستشف نعومة ظلها، مثلما تستريح إلى خفة وقعها في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) [سورة التكوير، الآيات 15 - 18]. بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع لاهثا مكروبا صوت الدال المنذرة المتوعدة، مسبوقة بالياء المشبعة المديدة في لفظة «تحيد» بدلا من تنحرف أو تبتعد في قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) [سورة ق، الآية 19]. وتقرأ قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل ¬

_ (¬1) مباحث في علوم القرآن ص 385.

عمران، الآية 185]. فلا ترى في المعجم كلمة غير «زحزح» تصور مشهد الإبعاد والتنحية بكل ما يقع في هذا المشهد من أصوات، وما يصاحبه من ذعر الذي يمر بحسيس النار ويسمعه ويكاد يصلاه! ولا أحسبك إلا مستشعرا عنف لفظ الكبكبة في قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) [سورة الشعراء، الآيتان 94 - 95] حتى لتكاد تتصور أولئك المجرمين يكبون على وجوههم أو على مناخرهم، ويلقون إلقاء المهملين، فلا يقيم أحد لهم وزنا» (¬1)! أما الحديث عن هذا الإعجاز في النغم والموسيقى الداخلية في الآية الواحدة أو السورة الكاملة فيمكن أن يعرض له عند الحديث عن الفاصلة والسجع وبعض الملامح الفنية الخاصة عند شرح الآيات وتفسير النصوص. وأخيرا فقد لخص بعض الباحثين ما قيل حول الإعجاز، أو النظم الموسيقى، بوصفه واحدة من مزايا أسلوب القرآن بوجه عام، وبغض النظر عن القدر الذي يفسره من قضية الإعجاز الكبرى أو الأساسية؛ لخصه بأنه يتجلى في: نظام القرآن الصوتي، وجماله اللغوي. (أ) أما نظام القرآن الصوتي، فقد عنى به: «اتساق القرآن الكريم، وائتلافه في حركاته وسكناته، ومدّاته وغنّاته، واتصالاته وسكتاته، اتساقا عجيبا. وائتلافا رائعا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس، بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور. وبيان ذلك أن من ألقي إلى سمعه مجموعة القرآن الصوتية الساذجة المؤلفة من تلك المدّات والغنّات، والحركات والسكنات، والاتصالات والسكتات ... يشعر من نفسه حتى لو كان أعجميا لا يعرف العربية- بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع ¬

_ (¬1) مباحث في علوم القرآن ص 387.

خامسا - تعقيب عام: البيان .. والإنسان:

الموسيقى وترنيم الشعر، لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها ... ولأن الشعر تتحد منه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا، وإذا طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل، بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل، لأنه ينتقل فيه دائما بين ألحان متنوعة، وأنغام متجددة! ... » (¬1). (ب) جمال القرآن اللغوي: قال الزرقاني: «ونريد بجمال القرآن اللغوي: تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته، ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم» فإذا علمنا أن حروف الهجاء في لغة العرب موزعة بين حروف الإخفاء وحروف الإظهار والحروف المهموسة والحروف الجهرية، وحروف المد، وحروف الاستعلاء، وحروف القلقلة، وحروف التفخيم والترقيق، إلى آخر هذه التقسيمات المعروفة في فقه اللغة وفي علم التجويد ... أدركنا طرفا من جمال القرآن اللغوي حين رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات «وحين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة، الجامعة بين اللين والشدة، والخشونة والرقة، والجهر والخفية، على وجه دقيق محكم ... امتزجت فيه جزالة البداوة برقة الحضارة، وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة» (¬2). خامسا- تعقيب عام: البيان .. والإنسان: وقد يقال في خاتمة المطاف: إن قضية الإعجاز البياني تضعنا أمام مشكلتين رئيستين، واجهت عصورا قبلنا، كما تواجهنا نحن اليوم. وهما: كيف يتم فهم هذه القضية أمام انحدار السليقة العربية، أو أمام اختلافنا عن جيل التنزيل بوجه عام ¬

_ (¬1) مناهل العرفان للزرقاني 2/ 309 - 310 دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 1980. (¬2) المصدر السابق 2/ 312.

في باب اللغة والبيان، والمشكلة الثانية: كيف يؤمن غير العرب، والإسلام عام لجميع الناس؟ والذين يتحدثون عن هاتين المشكلتين اليوم يريدون إلجاءنا إلى الكلام عما يسمونه «الإعجاز العلمي» أو «الإعجاز التشريعي»، وهي الأنواع التي تحل اليوم- في قضية الدعوة إلى القرآن بالقرآن- مشكلة العرب والعجم جميعا!. ونحن لم ننكر أن تكون مضامين القرآن من أهم وسائل تعميمه والدعوة إليه. وأن تكون براهين أو دلائل على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم حميد. ولكن أنكرنا أن تكون مناط الإعجاز الذي وقع به التحدّي، ومن شاء أن يسمّيها «إعجازا» من باب التجوّز فليفعل، على ما يعود من عمله هذا على القضية الأساسية من بعد وإساءة، أو خلط وتمييع، ولو عن غير قصد. (أ) أما المشكلة الأولى فقد أجاب عنها بعض العلماء السابقين بأن هذا الإعجاز إذا كان لزم الأوائل- وهم من هم في باب البلاغة والفصاحة والبيان- فلأن يلزم سائر الأجيال من بعدهم من باب أولى! ونحن نخشى أن يكون في هذا الرأي لون من ألوان الخدش لمسألة البعد التاريخي للقرآن التي أشرنا إليها في موضع سابق من هذا البحث. ولكن نذكّر بأن «حقيقة» الإعجاز واقعة على كل حال، وإن عجزت بعض الأجيال عن إدراك سببه أو وجهه. ونحن نقول من وجه آخر- ونرجو ألا يكون في ذلك حيف أو تجاوز-: إن جيلنا اليوم قد يكون أقدر من أجيال سابقة كثيرة على إدراك بعض مناحي الإعجاز- أي البلاغي- وما بين يدينا اليوم من تراث نقدي وأدبي، في لغة العرب وسائر لغات العالم، ينهض بنا إلى هذا المقام، أو يقوم على الأقل مقام تلك السليقة المطبوعة والبيان الموروث ... فنظرية النظم- التي ألمحنا إلى فحواها، أو إلى فكرتها الأساسية- لم تكن إلا في عصر التصنيف، أو في العصر الذي استوت فيه العلوم والمعارف الأدبية على سوقها. كما أن الحديث اليوم عن

التصوير والنظم اللغوي أو الموسيقى كان من بعض وجوهه صدى لتيارات أدبية ونقدية مترجمة أو منقولة ... ولعلنا نملك أن نقول: إن التراث النقدي والأدبي الذي نملكه الآن، ونملك من خلاله أن نقوم النصوص الأدبية ... يفوق ما كان عليه الوليد بن المغيرة وغيره ممن بهرهم القرآن .. فآمن بعضهم .. ولج في العداوة والمكابرة والبغضاء بعضهم الآخر ... ولن ينقطع هذا الخيط على كل حال، والتحدّي بالقرآن قائم إلى يوم الدين. ولكن يبقى علينا أن نضع المسألة في إطارها الصحيح. كما أريد لها أن تكون، ولهذا فلسفته التي سنعرض لها بعد قليل. (ب) أما مشكلة غير العرب .. فلا أدري هل ينتظر بعض الناس أن ينزل القرآن بكل لغات الأرض! ما كان منها، وما سيكون إلى يوم الدين؟ وهل يتساوق هذا مع طبيعة الأشياء، ومع طبيعة الإيمان الذي أراده الله تعالى من الإنسان؟ أليس في لغات العالم لغة هي مثال اللغات ينزل بها كتاب الله تعالى إلى الإنسان. وشعب هو، من حيث الفطرة والموهبة والاستعداد هو مثال الشعوب ينهض بحمل أعباء هذه الرسالة ويذيعها في العالمين؟ البحث هنا واسع، وقد أشرنا إلى طرف منه في الفصل الأول من فصول هذا الكتاب. ولكن لنقل: يسع العجم ما وسع العرب، كما قال علماؤنا الأوائل. ولنقل: إن بعض وجوه الإعجاز- أي البياني- تلزم حتى غير العرب. ولنقل إن من حق- أو واجب- جميع الناس أن تعمّهم «اللغة المثال» ما دام القرآن الكريم نازلا بلغة واحدة من لغات الأرض ... إلخ، ولقد قلنا أكثر من مرة: إن في وسعنا أن نقيم الدليل لهؤلاء على أن هذا الكتاب الخالد هو كلام الله ... من وجوه كثيرة على كل حال. ولكن علينا أن نبقي الإعجاز الذي وقع به التحدّي في إطاره الصحيح لا نخرج به عنه. ولنذكر في نهاية المطاف ما سبق لنا أن قلناه: «إن الكلام والبيان هو ما امتاز به الإنسان ... فجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم

«بيانية» للإشارة إلى أن هذه الرسالة هي رسالة الإنسان ... حيث كان الإنسان، وفي أي زمان وجد! ... «بل جعل دليل هذه المعجزة «الناطقة» شيئا زائدا في هذا البيان، بلغ حد التحدّي أن يأتي أحد بسورة منه، فلم يستطع ذلك أحد، ولن يستطيع ذلك أحد، إشارة أيضا إلى فضيلة «البيان» التي قد يتفاضل بها «الناطقون» على قدر تفاوتهم في رقة المشاعر، ورهافة الحس، وحساسية الوجدان ... ما دامت هذه الرسالة الإنسانية ستخاطب في الإنسان جميع ملكاته وإحساساته ومشاعره ... «ولعل في ابتداء نزول القرآن الكريم بقوله تعالى (اقرأ) ما يشير إلى هذه «الطبيعة الإنسانية» لآخر رسالات الله تعالى إلى الإنسان: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) [سورة العلق، الآيات 1 - 5]. بل لعل في تخصيص الإنسان بالبيان في قوله تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) [سورة الرحمن، الآيات 1 - 4]؛ ما يؤكد جميع هذه المعاني، ويوحي بها كذلك؛ فبالبيان يمتاز الإنسان من سائر المخلوقات .. وبميزة البيان تمتاز رسالة الإسلام، وإن شئت قلت: رسالة الإنسان من سائر الرسالات. ولم يكن البيان- بمعناه الأدق من «المنطق» كما توحي بذلك بعض الآيات القرآنية الأخرى- وقفا على لغة من اللغات، أو أمة من الأمم ... ولكن اختيار لغة العرب لينزل بها القرآن .. وليحمل بها إلى العالم رسالة الإنسان، يشير إلى فضيلة بيانية جامعة امتاز بها اللسان العربي على كل لسان. ولأمر ما أسلم من أسلم من العرب بهذا البيان المعجز، وقال فيه من فصحاء العرب المشركين ما قال ... ولأمر ما يخشع أمام تلاوته من غير المسلمين والعرب من لم يسمع حرفا واحدا من لغة العرب في غابر الأزمان» (¬1). ¬

_ (¬1) البيان النبوي للمؤلف ص 20 - 21. مكتبة دار الفتح بدمشق 1393 هـ.

الفصل الثالث الفاصلة القرآنية

الفصل الثالث الفاصلة القرآنية لعلك لاحظت أن الجانب الصوتي- أو النظم الموسيقى- الذي جعله الرافعي مناط الإعجاز كما رأيت، بحاجة إلى مزيد من البيان. ويأتي الحديث هنا عن الفاصلة القرآنية (¬1) ليقدم شعاعا آخر يوضح هذا الجانب بالقدر الذي تتسع له هذه الصفحات. وتمثل الفاصلة القرآنية- كما سنرى- التزاما بصيغ وحروف وكلمات روعيت في بناء الكثير من الجمل والآيات القرآنية. ويضاف هذا الالتزام إلى سائر ضروب الالتزام الأخرى المعهودة في القرآن الكريم، مثل السجع، وتكرار القصص والمتشابه اللفظي، وبعض وجوه الأحرف السبعة ... إلخ، والقرآن الكريم يتحدى مجاراته بسورة منه مع كل هذا التنويع، وتعدد طرق العرض، ومع إعفاء الثقلين جميعا الذين تحداهم القرآن من كل هذه الضروب والألوان! أو بعبارة أدق: مع عدم إلزامهم بما التزم به القرآن في هذه الأبواب .. بل في باب الحقائق والمضامين التي جاء بها القرآن الكريم، قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [سورة هود، الآية 13]. ¬

_ (¬1) يضاف إليها، أو يقترن بها الحديث عن «السجع» القرآني بطبيعة الحال. ولكننا رأينا الاقتصار في هذه الصفحات على الفاصلة، مكتفين ببعض الإشارات التي ترد في طياتها عن السجع.

أولا - تعريف الفاصلة:

فإذا أثبتنا في هذه الصفحات، أو ثبت لنا أن الفاصلة القرآنية لم تقم- كالسجع وغيره كذلك- على اعتبارات شكلية! بل على العكس من ذلك ... حيث أسهمت في إحكام المبنى والمعنى جميعا، بل أسهمت في تفسير معنى «الإحكام» الذي وصف الله تعالى به كتابه الكريم في قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) [سورة هود، الآية 1]. إذا أثبتنا ذلك علمنا مدى أهمية الحديث عن الفاصلة والسجع، ومدى صلتهما بقضية الإعجاز الكبرى. أولا- تعريف الفاصلة: قال الزركشي: «هي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر، وقرينة السجع» وقال الداني: «هي كلمة آخر الجملة» (¬1). والفرق بين التعريفين أن الأول ربط الفاصلة برءوس الآي، بينما ربطها الثاني بنهاية الجملة ولو لم تكن رأس آية. ولعل هذا هو ما قصد إلى بيانه أبو عمرو الداني حين فرّق بين الفواصل ورءوس الآي، فقال في الفاصلة: هي الكلام المنفصل من بعده. «والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس، وكذلك الفواصل يكنّ رءوس آي وغيرها. وكلّ رأس آية فاصلة، وليس كلّ فاصلة رأس آية؛ فالفاصلة تعمّ النوعين، وتجمع الضربين». وعلى الرغم من هذا التفريق الواضح الذي ذهب إليه الإمام الداني؛ فإن من الملاحظ أن الذي يجري عليه معظم الدارسين والمدرّسين عند شرح النصوص القرآنية يقوم على تعريف الفاصلة بأنها الكلمة التي تختم بها الآية من القرآن. وهذا القدر على كل حال يجب ألا يكون فيه خلاف؛ وبخاصة إذا رجّحنا أن الفاصلة مأخوذة- كما يرى كثير من العلماء- من قوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) [سورة فصلت، الآية 3]. ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 53 تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم رحمه الله.

قال الزركشي: «وتسمّى فواصل لأنه ينفصل عندها الكلامان؛ وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها» (¬1). ولهذا لا يشترط في الفاصلة الموافقة في الإعراب لما قبلها- على تقدير عدم الوقوف- لأن الوقوف على رءوس الآي سنّة متّبعة؛ ولهذا صرح العلماء بأن «مبنى الفواصل على الوقف: ولهذا شاع مقابلة المرفوع بالمجرور والعكس، وكذا المفتوح والمنصوب غير المنوّن، ومنه قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) مع تقدم قوله: عَذابٌ واصِبٌ (9) وشِهابٌ ثاقِبٌ (10) (¬2) وكذا: بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وأَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) (¬3). ومع هذا، فإننا- في قضية تعريف الفاصلة- ندع الباب مفتوحا لدراسة أنواع من الفواصل- الأخرى- التي أشار إليها الداني، ونكتفي هنا بذكر بعض الشواهد القرآنية الموضحة في الوقت الذي نخصص فيه سائر هذا الفصل للكلام على الفاصلة- الكلمة- التي تختم بها الآية من القرآن. يقول تعالى في سورة «يس» - السورة 36 - وقد اخترنا جميع هذه الشواهد من هذه السورة: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) [الآيتان 6 - 7]. آباؤهم- أكثرهم. غافلون- لا يؤمنون. وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) ثم قال تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [الآيات 74 - 76]. نصرهم- قولهم ... ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 54. (¬2) انظر الآيات 9، 10، 11 من سورة الصافات (37). (¬3) انظر الآيتين 11، 12 من سورة القمر (54).

ثانيا - دورها وموقعها:

وقال تعالى:- في الآيتين التاليتين: 77 - 78 - : أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78). وفي هذا، وشبهه من ضروب الفواصل الأخرى التي يمكن ملاحظتها في الآيات القرآنية، ما يدل على شدّة التحام أجزاء الكلام، وما توحي به آيات التنزيل من ضروب «الإيقاع» الخفية والظاهرة والمتماثلة والمتقاربة. وتدخل هنا قضية «الوقف والابتداء» - أو القطع والائتناف- كذلك، كواحدة من الأدلة على وقوع الفاصلة في الجملة، وليس في الآية فحسب، وبخاصة في الوقف اللازم، كما لاحظت في بعض الشواهد السابقة؛ حيث يجب الوقف على كلمة «قولهم» في الآية 76 من السورة المذكورة. ثانيا- دورها وموقعها: إذا أردنا جلاء الدور الذي تؤديه «الكلمة» التي تختم بها الآية من القرآن- وهو أوضح لنا بطبيعة الحال من سائر الكلمات الأخرى التي قد لا تقلّ عنها أثرا في بناء الآية القرآنية، كما لاحظت من محاولة الرافعي التي أشرنا إليها- فلا بدّ لنا من الإشارة السريعة إلى البناء المجمل لهذه الآية: إنّ أدق ما يوصف به هذا البناء بأنه «محكم» وهو الوصف الذي جاء في القرآن الكريم نفسه: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فالآية القرآنية بناء قد أحكمت لبناته أوثق الإحكام، لا تحس فيها بكلمة تضيق بمكانها، أو تنبو عن وضعها ... «وتأتي الفاصلة هنا متمكّنة في مكانها، مستقرة في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافرة ولا قلقة! يتعلّق معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما، بحيث لو طرحت اختلّ واضطرب الفهم» (¬1). ¬

_ (¬1) البرهان للزركشي 1/ 79.

أي إن الفاصلة تقوم بدورها في «إحكام» بناء الآية في الشكل والمضمون، أو في المبنى والمعنى على حد سواء؛ لأن منهج الآية في التقديم والتأخير، والحذف والزيادة، والفصل والوصل، لا يقوم على اعتبارات شكلية محضة، بل يتبع كذلك المعنى فيسهم في «إحكامه» أيضا على أوثق وجوه الإحكام. وهذا هو ما أشار إليه الزمخشري في «كشافه» القديم (¬1). أما الإحكام اللفظي، أو النظم الموسيقى فإن دور الفاصلة فيه شديد الوضوح .. حتى إن هذه الفواصل أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وحروف المدّ واللين .. وتلك هي الحروف الطبيعية في الموسيقى نفسها؛ قال سيبويه- رحمه الله-: «أما إذا ترنّموا- أي العرب- فإنهم يلحقون الألف والواو والياء؛ ما ينوّن وما لا ينوّن؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت». قال: «وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنّم: وناس من بني تميم يبدلون مكان المدة النون» (¬2). أما «إحكام» المعنى فيجب النظر فيه في سياق الآية أو الآيات ذاتها. ونحن هنا نقطع بأن إحكام المعنى هنا قرين إحكام اللفظ، حتى ولو لاحظنا أن «إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل» - بحسب تعبير الزركشي- كان بتأخير ما أصله أن يقدّم، أو إفراد ما أصله أن يجمع، أو جمع ما أصله أن يفرد، أو تثنية ما أصله أن يفرد ... إلى آخر هذه الأسباب التي عددها الزركشي في باب إيقاع المناسبة هذا!! لأننا لا نفهم هذا «الأصل» الذي يشير إليه- ولا ندري كيف صار أصلا- إلا من زاوية ذلك الإحكام الدقيق في المبنى والمعنى جميعا ... والذي لم تسهم فيه الفاصلة فحسب، بل توّجته وأوضحته وجلّته تمام الجلاء! وقبل أن أورد لك بعض ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 72. (¬2) الكتاب 2/ 298.

الشواهد التي توضح ما نقول، أورد لك من باب «إيقاع المناسبة» ذاك بعض الشواهد: (أ) قال تعالى:* ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) [سورة الكهف، الآية 51]: والفواصل السابقة: «موعدا، أحدا، بدلا» ... - قال ابن سيده: أي أعضادا، وإنما أفرد ليعدل رءوس الآي بالإفراد. والعضد: المعين. ولا ننقض هذا القول بما في كلمة «أعضادا» من نبوّ وثقل؛ لأن هذا ليس هو موضوع الرد الأساسي؛ ولكن إذا كانت «عضدا» هي الأليق من هذه الجهة، ومن جهة الالتحام مع سائر الفواصل ... فإنها كذلك هي الأحكم من حيث المعنى؛ لأن المضلّين جميعا هم من الهوان والعجز في الموضع الذي يستغني الخلاق العليم عن معونتهم .. واحدهم في ذلك كجميعهم، وجميعهم كواحدهم .. ولهذا «العدول» - ولا أدري لم كان عدولا، ولم كان الجمع هو الأصل- أسباب وفوائد أخرى على كل حال. (ب) وقال تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) [سورة إبراهيم، الآية 31]: والفواصل السابقة: «البوار، النار». قال الزركشي: «فإن المراد: «ولا خلّة» بدليل الآية الأخرى، لكن جمعه لأجل مناسبة رءوس الآي»!! والآية الأخرى التي يشير إليها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) [سورة البقرة، الآية 254]. ونحن ننفي أن يكون (المراد: ولا خلّة) بل المراد: ولا خلال!! لأن ورودها بصيغة المفرد في آية لا يعني ضرورة أن تأتي بهذه الصيغة في آية أخرى .. بل لعل

العكس أقرب إلى الصواب؛ وذلك في ضوء ما أشرنا إليه في المتشابه اللفظي وفي صدر هذا الفصل. وفي وسعنا أن نثبت هنا- بتعليق عابر- أن «الأصل» في آية سورة إبراهيم «ولا خلال» - والحديث هنا: من حيث المعنى، بالطبع- وفي آية سورة البقرة: «ولا خلّة». والخلّة هي المودة والصداقة، فآية الجمع- ولا خلال- جاءت في سياق الأمر بإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله، سرا، وعلانية ... قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا تنفع فيه المودّات والصّداقات ... وبعض الناس كما هو معلوم يتهاون بأمر الصلاة في الدنيا خجلا أو مراعاة لبعض هذه الصداقات .. وبعضهم ينفق مما رزقه الله على حال دون حال من السر أو العلانية بحسب الأغراض والنيات، أو بحسب الظروف والأحوال .. كل هذا- وغيره كثير- يناسبه: «ولا خلال» تنفع هنا أو هناك!. أما الآية الثانية فقد وردت في سياق واحد هو الأمر بالإنفاق، أو مجرد الأمر بالإنفاق مما «رزقناكم» دون ذكر كذلك لحالتي السر والعلن، فقد يكون ناسبه لذلك الإفراد .. ثم إن هذه «الخلّة» قد عطف عليها بالشفاعة .. فعاد «الجمع» الذي تحدث عنه الزركشي .. لأن الشفاعة أعلى من المودّة والصداقة .. وهذا على مذهب من يرى في مثل هاتين الآيتين أن الجمع هو الأصل، على عكس ما أشار إليه الزركشي! .. ولا «أصل» هنا أو هناك سوى مراعاة النظم، وملاحظة الدور الذي أدّته الفاصلة في المكان الذي جاءت فيه من حيث إحكام المبنى والمعنى جميعا. (ج) وأختم لك هذه الأمثلة بشاهد ثالث لا أعلّق عليه بشيء ... وإنما أدع فيه المناقشة والرد- على إيجازه- لابن قتيبة- رحمه الله-، قال تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) [سورة الرحمن، الآية 64]. قال الفرّاء: «هذا باب مذهب العرب في تثنية البقعة الواحدة وجمعها»،

كقوله: «ديار لها بالرّقمتين» وقوله: «بطن المكّتين». قال: «وأشير بذلك إلى نواحيها (¬1)، أو للإشعار بأن لها وجهين، وأنك إذا وصلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت في الناحيتين ما يملأ عينيك قرّة، وصدرك مسرّة». ثم قال: «وإنما ثنّاهما هنا لأجل الفاصلة؛ رعاية للتي بعدها على هذا الوزن. والقوافي تحتمل في الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام». قال الزركشي (¬2): «وأنكر ذلك ابن قتيبة عليه، وأغلظ- قلت: وحقّ له ذلك- وقال: «إنما يجوز في رءوس الآية زيادة هاء السكت أو الألف، أو حذف همزة (¬3)، فأما أن يكون الله وعد جنّتين فنجعلهما جنّة واحدة من أجل رءوس الآي فمعاذ الله! وكيف هذا وهو يصفهما بصفات الاثنين، قال: ذَواتا أَفْنانٍ (48) ثم قال فيهما: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50). ثم قال ابن قتيبة في تعقيب أخير لطيف: «ولو أن قائلا قال في خزنة النار: إنهم عشرون! وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية؛ ما كان هذا القول إلا كقول الفرّاء!!». وإذا كان في هذه الشواهد- التي جاءت في سياق الرد والتصويب- ما يوضح دور الفاصلة الهائل في إحكام المبنى والمعنى جميعا، بما يغني عن مزيد من العرض، في سياق الإثبات وإقامة الدليل، إلا أننا نورد هنا شاهدا، أو شاهدين؛ مكتفين بالإشارة إلى أن الطريقة السابقة التي نقلها أو لجأ إليها الزركشي قد هدتنا إلى جوانب إيجابية واسعة في هذا الباب نرجو أن نفصل فيها القول في مناسبة أخرى إن شاء الله تعالى: ¬

_ (¬1) يعني مكة المكرمة. (¬2) البرهان 1/ 65. (¬3) أي فيما يجوز مثله في سائر الكلام.

(أ) قال الله تعالى في سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) ... الآيات. نزلت هذه الآيات الكريمة في عتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وقد جاءه يطلب سماع القرآن، وأن يعلّمه النبيّ شيئا مما علّمه الله سبحانه ... وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولا بنفر من كبار قريش يعرض عليهم الإسلام، يطمع في دخولهم فيه، وما يتبع ذلك من هداية من وراءهم ... فعبس صلى الله عليه وسلم في وجه عبد الله وأعرض عنه؛ فنزلت الآيات مبيّنة أن ميزان الله هو الميزان، وأنه ليس للنبيّ الكريم أن يعرض عن رجل هو في ميزان الله فوق أولئك الرؤساء والزعماء، أصحاب الجاه الواسع، والمكانة العالية، والثراء العريض .. حتى ولو كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولا معهم بأمر يخصّ الدعوة والإسلام لا بأمر شخصي أو له علاقة بالنبيّ نفسه- عليه الصلاة والسلام- ... ونقف أولا عند الفاصلتين الأولى والثانية. إن دور هاتين الفاصلتين من حيث إحكام اللفظ، والنسق والموسيقى مع سائر الفواصل الأخرى واضح لا يحتاج إلى تعليل .. ولكن نقول: إن وراء هذا الإحكام إحكاما آخر كذلك من حيث المعنى والفحوى: فكلمة «تولّى» صوّرت إعراض النبيّ النفسي أو الداخلي إذا ما قارنتها بكلمة «عبس» التي صورت حالة النبيّ صلى الله عليه وسلم التي ارتسمت على وجهه الشريف. ومعنى ذلك أن هاتين الكلمتين استقلتا بتصوير حالة الإعراض التي ألمّت بالنبيّ الكريم من حيث الظاهر والباطن ... واذكر مع هذا أن العبوس الذي صوّرته «عدسة» الآيات القرآنية عن الوجه الشريف لم يره عبد الله الذي عبس النبيّ في وجهه لأنه كان أعمى!! واذكر كذلك أن «التولي» الذي سجّلته الآية أو الكلمة القرآنية، والذي تعجز عن تسجيله العدسات وسائر أدوات الالتقاط والتصوير ... هو حالة نفسية داخلية .. وأنها لا يراها البصير .. فقد يكون أحدنا مقبلا على

الآخر بحديثه من حيث الظاهر ولكنه معرض عنه من الداخل أو من الناحية النفسية الشعورية لأي سبب من الأسباب. أقول: العبوس لم يره الأعمى، والتولّي قد لا يراه البصير، ثم كانت المقابلة الهائلة والتلخيص الدقيق بكلمتين اثنتين: عبس وتولى. ولا داعي للإشارة بعد ذلك إلى أن تقديم «عبس» على «تولّى» أو تأخير الثانية عن الأولى، هو الأصل من حيث ترتيب المعاني من حيث الظهور والخفاء .. وأنه هو الذي أسهم كذلك في بناء الفواصل على النسق الذي رأيت ... يضاف إلى ذلك أن الذي هيأ ومكّن لهذه الفاصلة التي رأيت هو مجيء الآيتين الأولى والثانية بصيغة الغائب، أو الشخص الثالث كما يقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) ولم يقل الله سبحانه وتعالى: «عبست وتوليت»! ولو حصل ذلك لكان مفسدا لأمر الفاصلة والنظم الموسيقى؛ ولكان فيه كذلك إيحاش لقلب النبيّ الكريم حين يفاجأ بصيغة الخطاب تلك .. أو لكانت نبرة العتاب أقسى من أن يخاطب بها الله سبحانه نبيّه الكريم أو يبتدئه بها- عليه الصلاة والسلام- ... وهذا كما هو واضح: من حيث المعنى، أو من حيث أدق المعاني النفسية والشعورية ... ولولا أن الكلام في الآيات الكريمة استوى إلى وضعه الأصلي- الخطاب- في الآية الثالثة: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) لما علمنا ابتداء أن الآيات نزلت في شأن النبيّ الكريم- عليه صلوات الله وسلامه- مع بعض الصحابة في واقعة بعينها. ونشير أخيرا إلى أن الفاصلة في الآية الثانية، وهي كلمة «الأعمى» جاءت بوصف الصحابي دون اسمه؛ كأنها تومئ أو تشير إلى سبب الإعراض عنه، أو تحمل في مدلولها العام والقريب إشارة إلى أن هذه العاهة يجب ألا تحمل أحدا إلى يوم الدين أن يعرض عن أعمى في أي موقف قريب أو مماثل! وفي هذا إخراج للنص القرآني من أن تراد به حالة «تاريخية» خاصة .. وقد فهم منها بعض

المفسّرين أنها تحمل- في إشارة أخرى- اعتذارا عن عبد الله بن أمّ مكتوم الذي اقتحم على النبيّ مجلسه مع القوم! وهذا كلّه من حيث المعنى، أما من حيث دور هذه الكلمة في بناء الفواصل مع كلمة «تولّى» ثم مع سائر فواصل الآيات الكريمة «يزّكّى، الذّكرى، استغنى ... » فأوضح من أن يشار إليه ... ونكتفي بالحديث عن هاتين الفاصلتين، تاركين الكلام في سائرها إلى موضعه من باب التفسير إن شاء الله. وإذا أردت أن تتابع بنفسك نمطا من هذا القبيل- في ضوء ما تقف عليه من كتب التفسير- فإني أحيطك علما بأن في وسعك أن تكتب في كلمتي «يسعى، يخشى» قريبا مما كتبت لك؛ لأن سعي الأعمى في طرقات المدينة صوّر حالته الجسمية، وهو أمر ليس بالقليل في ميزان الله، ولأن كلمة «يخشى» صوّرت حالته الإيمانية الداخلية التي دفعته إلى ذلك السعي الذي لا يستوي فيه مع البصير!! وسبحان ذلك المقام الذي كانت تتنزّل منه هذه الآيات البيّنات ... (ب) الشاهد الثاني: قال الله تعالى في سورة الحاقة في وصف القرآن الكريم: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ، قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) [الآيتان 41 - 42]. ونقف هنا، سريعا، أمام الفاصلة موضوع البحث، وهي الكلمة التي تختم بها الآية، دون الفاصلة الأخرى الواضحة في هاتين الآيتين .. جاءت فاصلة الآية الأولى: «تؤمنون» وفاصلة الآية الثانية «تذكّرون» فتم بهما التنويع والتلوين في النغم والنظم الموسيقى، وكانت الآية الأولى يناسبها من حيث المعنى أن تختم بما ختمت به لأن انفصال القرآن ومخالفته لنظم الشعر أمر واضح بيّن؛ فمن نسب القرآن إلى الشعر فقد قال ما قال كفرا وعنادا خالصا ... أو: لم يحمله على ذلك القول إلا الكفر والعناد، فناسب ذلك أن تختم الآية بقوله: «قليلا ما تؤمنون»!! أما

(أ) اختلاف الفواصل في آيات متماثلة:

مخالفة القرآن الكريم لسجع الكهان، وكلاهما نثر، وفي القرآن الكريم عدد غير قليل من الآيات المسجوعة ... فليست من الوضوح لكل أحد كمخالفة الشعر ... وقد لا تظهر لبعض الناس إلا بتدبّر القرآن والوقوف على أسباب بلاغته وفصاحته .. ومخالفة أسلوبه لكلام الكهان، فختمت الآية الثانية لذلك بقوله: «قليلا ما تذكّرون»!. (أ) اختلاف الفواصل في آيات متماثلة: وأخيرا، فإننا تأكيدا لما ذكرناه في هذه الفقرة من أن «إحكام» المعنى الذي تؤدّيه الفاصلة القرآنية يجب البحث عنه في سياق الآية أو الآيات .. نختم الكلام هنا بشاهد قرآني اختلفت فيه الفواصل القرآنية في آيات متماثلة، وهو ما أسماه الزركشي: «اختلاف الفاصلتين في موضع، والمحدّث عنه واحد»: قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) [سورة إبراهيم، الآية 34]. ثم قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) [سورة النحل، الآية 18]. قال ابن المنيّر المالكي: «كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها، وأنا معطيها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفّارا. ولي عند إعطائها وصفان، وهما أنّي غفور رحيم؛ أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء». وهذا حسن، كما قال الزركشي، ولكن السؤال محل البحث: لماذا خصّت آية سورة النحل بوصف المنعم، وآية سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه؟ قال الزركشي: «والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه؛ فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي

(ب) التصدير والتوشيح:

الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) [سورة إبراهيم، الآية 32 - 34]. «وأمّا آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى، وإثبات ألوهيته؛ وتحقيق صفاته؛ فناسب ذكر وصفه سبحانه» (راجع الآيات من أول سورة النحل). قال: «فتأمل هذه التراكيب، ما أرقاها في درجة البلاغة»! (¬1). (ب) التصدير والتوشيح: وقد تحدث علماء البلاغة عما يكون في الآية مما يشير إلى الفاصلة ويمهد لها .. ويسمون ذلك تصديرا وتوشيحا. أما التصدير فهو أن تكون الكلمة أو «اللفظة» قد تقدمت «مادّتها» في الآية- ويسمّونه-: ردّ العجز على الصّدر- كقوله تعالى: قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) [سورة طه، الآية 61] ومعنى: يسحتكم: يستأصلكم بالإهلاك. وكقوله تعالى: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) [سورة التوبة، الآية 70]. وقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) [سورة الأنعام، الآية 31]. وفي ذلك وشبهه ما يدل على التحام الفاصلة بالآية التحاما تاما كما هو واضح: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) [سورة الأنعام، الآية 10]. ويلاحظ هنا بعض المفسّرين والبلاغيين أن الآية القرآنية تهيّئ في بعض الأحيان لفاصلة بعينها .. ولكن سرعان ما تجد الآية قد ختمت بغيرها .. لا في ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 86.

ثالثا - لمحة عن أنواع الفاصلة:

سبيل مراعاة سائر الفواصل السابقة واللاحقة في النص القرآني، ليتم له بذلك موسيقاه الخاصة ... لا في سبيل ذلك فحسب، ولكن في سبيل إحكام المعنى كذلك، أو بعبارة أخرى: يأتي القرآن الكريم بغير تلك الفاصلة إيثارا لما هو ألصق بالمعنى، وأشد وفاء بالمراد، قال الله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) [سورة البقرة، الآية 67]. فقد يقع في النفس أن تأتي الفاصلة يستعيذ فيها موسى- عليه السلام- من أن يكون من المستهزئين .. ولكن عدل إلى مادة «الجهل» إشارة إلى أن الاستهزاء بالناس جهل وسفه لا يليق أن يصدر من صاحب خلق ودين، بالإضافة إلى أن الفواصل السابقة هي: «الخاسرين، خاسئين، للمتقين ... ». أما التوشيح فهو أن يكون «معنى» الآية مشيرا إلى هذه الفاصلة؛ كقوله تعالى:* إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) [سورة آل عمران، الآية 33]. «فإن معنى اصطفاء المذكورين يعلم منه الفاصلة؛ إذ المذكورون نوع من جنس العالمين» (¬1). ومثّلوا له كذلك بقوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) [سورة يس، الآية 37]. ثالثا- لمحة عن أنواع الفاصلة: تبيّن لك من خلال الشواهد التي عرضنا لها في هذا الفصل مدى إسهامها في النظم الموسيقى في القرآن. وقد يشتد هذا التقارب الموسيقى في الفواصل، حتى تتحد الفاصلتان- أو الفواصل- في الوزن والقافية، كما في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 95.

وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) [سورة الطور، الآيات 1 - 4]. وقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) [سورة الغاشية، الآيتان 13 - 14]. وقوله تعالى في ختامها: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [سورة الغاشية، الآيتان 25 - 62]. وقد تختلفان في الوزن، ولكنهما تتفقان في حروف السجع، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) [سورة نوح، الآيتان 13 - 14]. وقد تتساوى الفاصلتان في الوزن دون التقفية كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) [سورة الغاشية، الآيتان 15 - 16]. وقوله تعالى: وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) [سورة الصافات، الآيتان 117 - 118]. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) [سورة المعارج، الآيات 15 - 18]. وهذا النوع في القرآن كثير، وفي المفصّل خاصة في قصاره (¬1). وأخيرا، قد تختلفان وزنا وقافية، ولكنهما تتقاربان كقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [سورة الفاتحة، الآيتان 3 - 4]. وقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) [سورة ق، الآيات 1 - 2]. وهذا لا يسمّى سجعا لأن السجع ما تماثلت حروفه. ويمكن أن نعود بهذه الأنواع إلى قسمين: ما تماثلت حروفه في المقاطع، أي ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 77.

رابعا - بين الفاصلة والسجع والشعر:

الفواصل المتفقة في الحرف الأخير، وتسمى: متماثلة. والقسم الثاني: ما عداها وتدعى متقاربة، وهي التي تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل. ولا تخرج الفواصل عن هذين النوعين. هذا، وقد تتفق الفاصلتان لا في الحرف الأخير فحسب، ولكن في حرف قبله أو أكثر .. حيث يبلغ النظم الموسيقى وسائر ضروب الإيقاع قمة السلاسة واللين والجمال؛ على عكس ما تراه في السجع المتكلّف عند الأدباء والكتّاب. مثال التزام حرف- أي قبل الحرف الأخير- قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [سورة الشرح، الآيات 1 - 4]. وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [سورة الضحى، الآيتان 9 - 10]. ومثال ما اتفقا في حرفين قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) [سورة القيامة، الآيتان 27 - 28]. وقوله تعالى: وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) [سورة الطور، الآيتان 1 - 2]. وفيها أيضا: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) [سورة الطور، الآيتان 7 - 8]. ومثال التزام ثلاثة أحرف: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) [سورة الأعراف، الآيات 201 - 202]. رابعا- بين الفاصلة والسجع والشعر: يظهر من هذا أن الفواصل تفترق عن الأسجاع عند ما تكون هذه الفواصل متقاربة أو متماثلة. أما الفواصل المتماثلة فكلها مسجوعة بالطبع، ولهذا قال ابن

سنان في تعريف الأسجاع إنها «حروف متماثلة في مقاطع الفواصل» قال: «وأظن أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا: رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المرويّ عن الكهنة وغيرهم!». ونحن لا نرى مانعا من تسمية ما تماثلت حروفه سجعا على كل حال. وإذا كانت الفاصلة في الآية كالقافية في الشعر، فقد رأينا كذلك بعض ما تختلف فيه الفاصلة عن القافية؛ حينما تتقارب الفواصل ولا تتماثل. ولكن القوافي في واقع الأمر فواصل لأنها تفصل آخر الكلام، وخصت فواصل الشعر باسم القوافي لأن الشاعر يقفوها، أي يتّبعها في شعره لا يخرج عنها. قال الزركشي: «ويمتنع استعمال القافية في كلام الله تعالى لأن الشرع لما سلب عنه اسم الشعر وجب سلب القافية عنه لأنها منه، وخاصة به في الاصطلاح. وكما يمتنع استعمال القافية في القرآن؛ لا تطلق الفاصلة في الشعر لأنها صفة لكتاب الله لا تتعداه» (¬1). والأمر البلاغي، أو النقدي، الذي تفترق فيه الفاصلة القرآنية من القافية الشعرية أن من المعيب في الشعر أن تتكرر القافية قبل سبعة أبيات، وليس ذلك بعيب في الفاصلة؛ اقرأ إن شئت قوله تعالى في آخر سورة مريم: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [سورة مريم، الآيات 88 - 95] وانظر الآيات الثلاث المتبقية من السورة الكريمة. ولكن يجب البحث عن سرّ هذا التكرار في سياق الآيات ذاتها التي تكررت ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 58.

فيها هذه الفاصلة ... وقد حاولنا ذلك في بعض المواطن القرآنية ... والذي يمكن قوله في الشاهد السابق- على سبيل المثال- أن هذا التكرار جاء في معرض الرد على هذه الدعوى الكاذبة، فناسبها أن تردّ هي عينها ... وبحروفها، دون أدنى زيادة أو نقصان، إلى جانب ما تحمله من دلالة أخرى واضحة كذلك، وهي التي مهّد لها بقوله: «وما ينبغي» وهي أن مقام الألوهية أعلى من أن ينفعل لمثل هذه الفرية الكاذبة، وهذا التطاول الأرعن ... فلم تزد الآية الكريمة على أن ردّت عليهم قولهم- كما هو- بقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي ... وهذا هو طابع الكبرياء والعظمة الذي يطالعه القارئ لكتاب الله، يتراءى له أو يقف عليه في هذا السياق القرآني، جليا دقيقا، من خلال هذا التكرار للفاصلة القرآنية! وأخيرا: تحسن الإشارة هنا إلى مجيء بعض الفواصل المفردة، وبخاصة في نهاية بعض السور القرآنية، وإن كانت قد وردت كذلك في ثنايا بعض السور- وكل هذا مما يجعلها مغايرة للسجع والشعر-. وحينما تنتهي السورة بفاصلة منفردة تكون لها كالمقطع- أو اللحن- الأخير. ويمكن لنا هنا أن نتذكر ما قدمناه، في الطرف المقابل، من الدلالة الفنية- أو الموسيقية- والدور الاستهلالي لفواتح السور. قال تعالى في ختام سورة الضحى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) [سورة الضحى، الآيات 9 - 11]. وقال تعالى في ختام سورة العلق: كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) [سورة العلق، الآيات 15 - 19]. ولهذه الفواصل كذلك دلالات أخرى لا مجال للإفاضة فيها، ولمن شاء أن يطلبها في سياق الآيات كما هو معلوم. ونقول مثل ذلك في الفواصل المفردة التي توسطت بعض السور- راجع سورة عبس، وسورتي البلد والانشقاق- والتي تشير

في بعض الأحيان إلى الموضوع الرئيس الذي تدور حوله السورة، أو إلى أمر بارز يجدر بالقارئ ألا يدغمه في سائر ألحان النص الأخرى المتقاربة أو المتماثلة- وهذا الأمر كما لاحظنا يحمل طابع التفرد على وجه العموم بغض النظر عن مكان ورود هذه الفاصلة- وغالبا ما يكون «فاصلا» بين نوعين من أنواع فواصل النص وألحانه ... غير مقطوع الصلة باللحن الأول .. وممهدا في الوقت ذاته للحن الثاني الذي يليه ... والله تعالى أعلم.

الباب الرابع لمحة عن نشأة التفسير وتطوره

الباب الرّابع لمحة عن نشأة التفسير وتطوّره * الفصل الأول: حول نشأة التفسير. * الفصل الثاني: معالم التفسير البياني. * الفصل الثالث: التفسير «العلمي» لآيات الكون والطبيعة. * الفصل الرابع: تعريف بظلال القرآن. * الفصل الخامس: من ألوان التفسير المعاصر.

الفصل الأول حول نشأة التفسير

الفصل الأول حول نشأة التفسير نزل القرآن بلغة العرب، وعلى أساليبهم في الكلام، قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [سورة يوسف، الآية 2]. وقال تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) [سورة الشعراء، الآية 195]. والآيات التي تتحدث عن «لغة» القرآن وتؤكد أنها «عربية» كثيرة. وما يذكره بعض المفسرين من «القسطاس» و «سجيل» وكلمات أخرى من أنها رومية أو حبشية، فالمراد أن لغة العرب وافقت فيها لغة الروم- ولهذا كانوا يقولون في شرح هذه الكلمات: معناها في الفارسية أو الحبشية كذا- أو أن العرب أخذت هذه الكلمات وهضمتها وأجرت عليها قوانينها، فكأنّ الحديث إنما هو عن «أصل» هذه الكلمات- على طريقة جميع اللغات الأخرى- لا عن أنها غير عربية، وأن القرآن فيه ما ليس بعربي؛ قال الطبري: «ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من القرآن إنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطيّة أو نحو ذلك: إنما اتفق فيه توارد اللغات؛ فتكلّمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد». والمعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتلو عليهم هذه الآيات، فلو كان فيه لغة غريبة لردوا عليه! والذي يؤكد أن هذه الكلمات كانت العرب قد أخذتها في الجاهلية فعرّبتها أنّ لأكثرها تصرفا واشتقاقا، على القانون العربي.

أولا - بين التفسير والتأويل:

ونزل القرآن كذلك على أساليب العرب في كلامها، ففيه الحقيقة وفيه المجاز، وفيه الصريح والكناية، وفيه المتشابه والمجمل ... إلخ، على نمط العرب في حقيقتهم ومجازهم وسائر ضروب كلامهم. قال ابن خلدون: «اعلم أن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه ... » (¬1). أولا- بين التفسير والتأويل: وقبل أن نوجز تاريخ التفسير بأقل قدر ممكن من «الكلمات» نوضح الفرق بين «التفسير» و «التأويل»: 1 - التفسير في اللغة: الاستبانة والكشف، وفسّر الشيء يفسّره وفسّره: أبانه، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) [سورة الفرقان، الآية 33] أي بيانا، ولم ترد لفظة «تفسير» في القرآن في غير هذا الموضع، وانظر الآيات السابقة. ولم يختلف المفسرون في أن المراد من «تفسير القرآن» - على تعدد تعريفاتهم للتفسير اصطلاحا (¬2) - بيان معانيه على أي وجه من وجوه البيان؛ قال ¬

_ (¬1) المقدمة ص 1130 بتحقيق الدكتور علي عبد الواحد وافي. وصفحة 403 طبعة دار الشعب بالقاهرة. (¬2) يعرف أكثرهم التفسير بأنه «علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية» يشيرون بذلك إلى إخراج الدراسات المتعلقة بالقرآن من جهة غير جهة دلالته السابقة ... من نطاق التفسير، كبعض علوم القرآن ... علم القراءة، مسألة الرسم العثماني ... إلخ- وقيد «الطاقة البشرية» لبيان أن عدم العلم بالمتشابه أو بفواتح السور- على ما ذهب إليه بعضهم- لا يقدح في التفسير. وفي الوقت الذي تعتبر فيه علوم القرآن- في الواقع- مدخلا إلى تفسير القرآن وطريقا إليه، إلا أن قسما كبيرا منها، حتى بعد أن اتخذ هذا المصطلح شكله النهائي فيما بعد، يدخل في نطاق التفسير. هذا الشطر الكبير جدير بأن يسمى: «علوم التفسير».

بعضهم: «والتفسير هو علم بمعاني القرآن، وناسخه ومنسوخه، ومجمله ومبينه، ومتشابهه ومحكمه». 2 - التأويل في اللغة: مصدر أوّل يؤوّل تأويلا، وهو من آل الشيء إلى كذا أي رجع إليه، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: «التأويل: التفسير والمرجع والمصير وقال أبو جعفر الطبري: «وأما معنى التأويل في كلام العرب فإنه التفسير والمرجع والمصير ... وقد قيل: إن قوله تعالى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا* أي جزاء، وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه» (¬1). فالتأويل في اللغة يراد به- إذن- «التفسير» كما يراد به «المرجع والمصير» لأن أحدهما مغاير للآخر- وإن كان اشتقاق الكلمة يرجح أن يراد من التفسير ما يحتاج منه إلى النظر والفكر ليصح معنى الرجوع؛ ولهذا ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم في مواطن دقيقة يحتاج فيها المعنى إلى مثل ذلك، كما في آية المتشابه- الآية 7 من سورة آل عمران (¬2) - وكما في الآيات 6، 21، 101 - وكقوله تعالى في سورة يوسف على لسان الملأ: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سورة يوسف، الآية 44]. وكقوله حاكيا عن يوسف- عليه السلام-: يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سورة يوسف، الآية 100]. وكقوله في سورة الكهف: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) [الآية 78] سواء في ذلك استعملت في تأويل الكلام والمعنى كما في آية المتشابه؛ أم في تأويل الرؤى والأحلام كما في قصة يوسف- عليه السلام-، أو تأويل الأعمال كما في قصة موسى- عليه السلام- مع الرجل الصالح. ¬

_ (¬1) انظر كتابنا: الحاكم الجشمي ص 223، طبع مؤسسة الرسالة. (¬2) راجع بحث المحكم والمتشابه من كتابنا: علوم القرآن. طبع المكتب الإسلامي.

هذا وقد جرى استعمال الطبري وأكثر المتقدمين «للتأويل» على أنه مرادف للتفسير، وقد جرت عادة الطبري في تفسيره باستعمال عبارة: (القول في تأويل قوله تعالى كذا ... ) وعبارة: (واختلف أهل التأويل في هذه الآية) وإنما يعني بذلك التفسير كما هو معلوم. أما التأويل في الاصطلاح فهو: «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب من التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقاربه ... أو غير ذلك من الأشياء التي تعورفت في أصناف الكلام المجازي» (¬1) ويقرب من هذا التعريف الذي ذكره ابن رشد ما عقّب به الغزالي على تعريفه هو للتأويل حين قال: «ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للّفظ عن الحقيقة إلى المجاز». وكأن الحاجة إلى التأويل تظهر بعد «تفسير» الألفاظ الواردة من النص لمعرفة ما يدل عليه ظاهره، فيحمل دليل ما- عقلي أو نقلي أو عرفي- على أن المراد بالكلام غير ظاهره» وأنه يجب حمله على المجاز فيؤول؛ أي فيحمل على المجاز دون الحقيقة. وبذلك يكون التأويل خطوة تالية لخطوة التفسير، كما عبر بعض الباحثين. أما الراغب الأصبهاني فقد جعل التفسير أعم من التأويل لأن أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني، قال في شرح قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [سورة الفجر، الآية 14] تفسيره: إنه من الرصد، يقال: رصدته: رقبته، والمرصاد مفعال منه. وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه، سبحانه وتعالى (¬2). ¬

_ (¬1) فصل المقال لابن رشد ص 14 وقارنه بتعريف الإمام الغزالي رحمه الله في المستصفى 1/ 157. (¬2) انظر مقدمة الراغب ص 403، المطبعة الجمالية بمصر.

ثانيا - مصادر التفسير ومراحله:

ثانيا- مصادر التفسير ومراحله: قلنا إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم. وينبغي على هذا أن يكون مأخذ تفسير القرآن من اللغة، أو بعبارة أخرى: أن تكون اللغة العربية طريق معرفة القرآن، قال تعالى: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) [سورة فصّلت، الآيات 1 - 3]. دلّت هذه الآيات على أن العالم باللغة محجوج بالقرآن، ويدل قوله: (لقوم يعلمون) على أن التفسير لمن عرف اللغة جائز. ومن هنا جاء قول ابن خلدون: «فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه وتراكيبه» علما بأن الصحابة كانوا متفاوتين في هذا العلم، وربما ندّ عن بعضهم مدلولات بعض الألفاظ، أو المراد من بعض العبارات. ولكن لا خلاف على كل حال على أن آيات القرآن الكريم واضحة المعنى، وبخاصّة تلك التي تتعلق بأصول الدين وأصول الأحكام، وهذا النوع من الآيات يستطيع فهمه جمهور الناس، ولا سيما من كانوا عربا بسليقتهم. وفيه إلى جانب ذلك آيات مبهمة أو متشابهة، يصعب فهمها على العامة، ولا يقف على معناها إلا الخاصة، وفي هذا أيضا يأتي القرآن على قواعد العرب وعادتهم في الكلام؛ قال ابن قتيبة: «إن القرآن الكريم نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار والإطالة والتوكيد، والحقيقة والمجاز، وإغماض بعض المعاني وإظهار بعضها ... إلخ». وقال أيضا: «ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا، حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة، وماتت الخواطر .. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة» (¬1). ¬

_ (¬1) تأويل مشكل القرآن ص 64، بتحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر رحمه الله تعالى.

وغني عن البيان أن الصحابة- الذين عاصروا التنزيل وشاهدوه- كانوا أقدر الناس على فهم القرآن على الرغم من قلة ما روي عنهم في التفسير، الذي اختلفوا فيه اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ، كما شرحه ابن تيمية في رسالته «مقدمة في أصول التفسير» (¬1). ويعود السبب في هذا الاختلاف إلى تفاوت حظهم من المعرفة بالأدب الجاهلي وغريبه، وإلى تفاوتهم في ملازمة النبيّ صلى الله عليه وسلم والوقوف على أسباب نزول الآيات. بالإضافة إلى اختلافهم في معرفة عادات العرب في أفعالهم وأقوالهم، ونحو ذلك من الأسباب. والمهم هنا أن المؤرخين للتفسير والمشتغلين بعلوم القرآن اصطلحوا على تسمية تفسير القرآن بالقرآن، والتفسير المرفوع إلى النبيّ، والمنقول عن الصحابة ب «التفسير المأثور» فقد قالوا في تعريفه «هو ما جاء في القرآن والسنّة وكلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه». أما تفسير القرآن بالقرآن فهو من أولى خطوات المنهج السليم في تفسير القرآن كما سنشير إلى ذلك في صفحة قادمة، وإن كانت تسميته تفسيرا «بالمأثور» فيها نظر. أما المرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم- الذي أنيطت به مهمة البيان عملا بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية 44]- فهو لبّ التفسير بالمأثور، وإن كان مقداره ليس كبيرا إلى جانب التفسير الاجتهادي. أما المنقول عن الصحابة فهو عندنا تفسير «بالمأثور» إن كان فيما لا مجال فيه للرأي- كسبب النزول ونحوه- وإلا فهو داخل في حدود «الاجتهاد» في تفسير القرآن، بحسب المعرفة باللغة وبشروط التفسير الأخرى؛ لأن المصدر ¬

_ (¬1) ارجع إلى هذه المقدمة، بتحقيقنا. وانظر فيها تفصيل القول فيما أجملنا خطوطه الرئيسة في هذا الفصل، حول أصول التفسير، وطبقات المفسرين، وحكم التفسير بالرأي ... وغير ذلك. وانظر تعليقاتنا هناك.

الثاني للتفسير عندهم بعد «المأثور»: الرأي أو الاجتهاد، وعليه أن يعرف مع ذلك الألفاظ العربية ومعانيها بالوقوف على ما ورد في مثله من الشعر الجاهلي ونحوه، ويقف على ما صح عنده من أسباب النزول، وقواعد الترجيح ... يقدم المفسر مستعينا بهذه الأدوات ويفسر القرآن بحسب ما أداه إليه اجتهاده. والواقع أن كثيرا من الصحابة كان يفسر الآيات من القرآن بهذا الطريق. ويبدو أن هذين الاصطلاحين (التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي) لم يدلّا على منهجين متميزين في التفسير إلا في آخر هذه الخطوات التي تلخص تاريخ التفسير وتدوينه على حد سواء، والتي نوجزها فيما يلي: 1 - اتخذ التفسير في مرحلته الأولى شكل الحديث، بل كان جزءا منه وبابا من أبوابه. ومن المعلوم أن الحديث كان هو المادة الواسعة التي شملت جميع المعارف الدينية تقريبا، لأنه كان يقوم على الرواية، التي هي الأصل في نقل جميع العلوم الدينية واللغوية والأدبية ... وفي هذه المرحلة أخذ المؤلفون في آخر العصر الأموي وأول العباسي يجمعون «الأحاديث» المتشابهة المتعلقة بموضوع واحد، كما فعل الإمام مالك في «الموطأ» ومحمد بن إسحاق في كتاب «السيرة النبوية». ويلاحظ في هذه المرحلة أن ما روي عن الصحابة في تفسير القرآن كان قليلا وأن أكثر الصحابة قولا في التفسير: ابن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وعلي بن أبي طالب. كما يلاحظ أن «طبقات المفسرين» بدأت تتضخم شيئا فشيئا، لأن «التابعين» «رووا» كل ما ذكره الصحابة- نقلا أو اجتهادا- ومنهم من «فسر» أيضا، ثم جاءت الطبقة التي تلتهم ففعلت مثل ذلك. وكان لبعض رجال هذه الطبقات اتصال ببعض رجال أهل الكتاب- اليهود- الذين دخلوا في الإسلام، وكان هذا مبدأ دخول «الإسرائيليات» في كتب التفسير، وإن كان عدم التزام المنهج العلمي والموقف الذي أمر النبيّ باتخاذه من رواياتهم- كما فصله

ابن تيمية بدقة في مقدمته في أصول التفسير- قد أدى في المراحل القادمة إلى نتائج سيئة!! حيث ألحقت تشويها ببعض كتب التراث، أو ببعض صفحاته على الأقل. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم. إمّا أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». قال ذلك في الوقت الذي سمح بالتحديث عن بني إسرائيل ... إشارة إلى أننا نملك أداة الحكم على مروياتهم وكتبهم ... من خلال المقياس الذي لا يلحقه خلل ولا نقص ولا تشويه، وهو القرآن الكريم ... ولكن ولع بعض المفسرين بالغرائب أو بتفصيلات وفرعيات لا طائل تحتها ... أوقعهم في كثير من المحاذير، حتى صعب على بعض الناس في بعض الصور- جهلا أو رغبة في الإساءة والتشويه- أن يفرقوا بين فهم المفسر للقرآن، وبين النص القرآني نفسه ... وأوضح ما كان ذلك في الإسرائيليات التي دارت حول الكون والطبيعة، وحول قصص الأنبياء وحياتهم (¬1) ... ¬

_ (¬1) قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص (فتح الباري 6/ 388) والإمام أحمد في المسند، والترمذي وقال: حسن صحيح. (المسند 9/ 250 والجامع 7/ 314) ط حمص) وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» بلغ مبلغ التواتر؛ راجع فتح الباري 1/ 161 - 165 والترمذي 7/ 307 ومجمع الزوائد 1/ 142 - 148. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «من المعلوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجيز التحديث بالكذب، فالمعنى: حدثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كذبه، وأما ما تجوزونه فلا حرج عليكم في التحديث به عنهم». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد! وقد قسمها إلى ثلاثة أقسام: «أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته ... وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني» مثل أسماء-

2 - وفي الخطوة- أو المرحلة- الثانية تم تجريد ما ورد في الحديث المرفوع والموقوف من «التفسير». وقد عني بذلك قوم من التابعين حيث تخصص- اولا- كل جماعة بجمع تفسير عالم مصرهم، ثم جاءت طبقة جمعت كل أقوال الصحابة والتابعين في الأمصار المختلفة، شأنهم في ذلك شأن المحدّثين، كسفيان بن عيينة (ت 198)، ووكيع بن الجراح (ت 196)، وإسحاق بن راهويه (ت 238)، الذين كانوا من أئمة الحديث، فكان جمعهم للتفسير جمعا لباب من أبوابه. 3 - ثم تم بعد هذا الجمع الخاص الشامل: اعتبار التفسير علما قائما بنفسه بعيدا عن الحديث، ووضع التفسير لكل آية من القرآن بحسب ترتيب المصحف، كما فعل بقيّ بن مخلد الأندلسي (ت 276) والإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 310). 4 - وهنا نصل إلى تميز المنهجين السابقين، حين وجد أن ما نقل عن النبيّ والصحابة في تفسير القرآن لم يكن يشمل جميع القرآن، وإنما كان تفسيرا لما غمض أو لما كان من «غريب» القرآن بالنسبة لهم أو لبعضهم. وكانت الحاجة إلى التفسير تزداد يوما بعد يوم، كلما بعد الناس عن عصر النبيّ والصحابة. وكلما اتسعت الفتوح وكثر اختلاط العرب بالعجم والموالي، فاجتهد المجتهدون وقامت حركة التفسير، ونشطت، واستوت على سوقها، وآتت ثمراتها ... حيث ولدت مدرستان كما حصل في الفقه والتشريع «مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، فتعمقت فكرة التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي». 5 - ولما دوّنت علوم اللغة والنحو والفقه، وأثيرت مسائل الفلسفة ¬

_ أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت ... وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة! ونوع الشجرة التي كلّم الله منها موسى ... «إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم» راجع مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، بتحقيقنا ص 99، طبع دار القرآن الكريم ببيروت 1972. وانظر فيها تعليقاتنا على هذا الموضوع.

والكلام وبحثت في العصر العباسي أثّرت في علم التفسير أثرا كبيرا، وبخاصة إذا ذكرنا أن القرآن الكريم هو عماد الأمة والمجتمع والدولة ... وأن عقيدة المسلمين كانت نابعة منه، وراجعة إليه، فإذا كانت حركة البدء والانطلاق والتكوين منه وفي رحابه، فإن أي أمر طارئ كذلك لا بد من أن يحكم هو فيه، لأن هذا الأمر الطارئ- كما حصل أيام الترجمة- لا يكون مقبولا، ولن تكتب له الحياة إلا بمقدار موافقته. فكتب النحاة في «إعراب القرآن» والفقهاء في «تفسير آيات الأحكام» ودخل المتكلمون- وعلى رأسهم المعتزلة- باب «التأويل» لطائفة معينة من الآيات، واصطدموا مع المحدّثين، وأسسوا ما دعي بالمنهج العقلي في تفسير القرآن، الذي يدخل إلى تفسير النص القرآني بمقدمات عقلية ومقررات فكرية مسبقة! كما حاول الصوفية أن يجدوا مواجيدهم ومذاويقهم في ظلال النصوص القرآنية بإشارات بعيدة أو قريبة فولد «التفسير الإشاري».- وقد تعرضنا لنقد هذه المناهج في مقدمتنا لرسالة ابن تيمية في اصول التفسير، وفي بعض كتبنا الأخرى- وبحسبنا هنا بمناسبة هذه الإشارة إلى التفسير الإشاري أن نفرّق فيه بين صنفين: صنف اخترعته الزنادقة ليعطلوا أحكام الشريعة، أو ليقلبوا حكمة القرآن إلى معان سخيفة- كما يقول محمد الخضر حسين- رحمه الله- وهذا باطل ببداهة العقول، وهذا الصنف يعرف عادة بالتفسير الباطني، أو تفسير أهل الباطن. وصنف ينسب إلى الصوفية، وهو الذي يدعى عادة بالتفسير الإشاري. والفرق بين هذا التفسير وتفسير الباطنية: «أن الباطنية يفسّرون الآيات بتلك المعاني المنبوذة على أنها هي المقصود من القرآن، أما أصحاب الإشارة فيسلّمون أن المراد من القرآن تلك المعاني التي يذكرها أهل العلم بالتفسير، غير أنهم يذكرون عند تفسير الآية معاني تخطر أذهانهم عند التلاوة وإن لم تدل عليها الآية بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي» (¬1). ¬

_ (¬1) من بلاغة القرآن للشيخ محمد الخضر حسين ص 24.

يقول الشيخ محمد الخضر حسين- رحمه الله-: «ومع هذا الفرق الواضح بين صنفي التفسير بالباطن، فإن الاقتصار في تفسير ألفاظ القرآن على ما يقتضيه استعمالها العربي، يكفي لتقويم العقول، وتزكية النفوس وإرشادها إلى وجوه الإصلاح الذي تدرك به السعادة في الآخرة والأولى» (¬1). ونضيف إلى ذلك أن السماح بالخروج عن الاستعمال العربي، وعن المواضعات اللغوية طريق محفوف بالمخاطر، كما رأينا ذلك في بعض التفاسير الصوفية المتداولة، والتي عرف أصحابها فيما نعلم بنزاهة القصد، وصحة العقيدة، ولا يزكّى على الله أحد، والله تعالى أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) من بلاغة القرآن ص 24. (¬2) انظر خلاصة لنقد تأويلات الباطنية في كتابنا «متشابه القرآن» دراسة موضوعية ص 168 - 176. طبع دار الفتح بدمشق 1389 هـ/ 1969 م.

الفصل الثاني معالم التفسير البياني

الفصل الثاني معالم التفسير البياني أما معالم «التفسير البياني» للقرآن، فقد وزعت بين كتب الإعجاز وكتب البلاغة، وفي كثير من الصفحات المتقاربة في كتب التفسير- على اختلاف ألوانها- وفي بعض الصفحات المتباعدة في كتب الأدب والثقافة العامة، وبخاصة كتب الأمالي. وقد اشتهرت بعض التفاسير بعنايتها بإظهار مواطن البلاغة والإعجاز في النص القرآني، مثل كتاب «الكشاف» للزمخشري. وفيه تحدث العلّامة عبد الرحمن بن خلدون- رحمه الله- عن هذا اللون من ألوان التفسير مع الصنف الثاني من صنفي التفسير: الأول: «النقلي المسند إلى الآثار المنقولة عن السلف» - على ما وجه إليه من نقد بسبب التساهل في قبول الأخبار والروايات (¬1) - «والصنف الآخر: هو ما يرجع إلى اللسان من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب»، ولم يفته ¬

_ (¬1) قال ابن خلدون: «وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ... فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص، وجاء أبو محمد ابن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها، وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها، ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى، وتبعه القرطبي في تلك الطريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق» مقدمة ابن خلدون، تحقيق الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي ص 1132. طبعة دار الفكر العربي بالقاهرة.

- رحمه الله- أن يلاحظ أن هذا الصنف من التفسير قلّ أن ينفرد عن الأول، ولكن «إنما جاء هذا بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة» قال: «نعم، قد يكون في بعض التفاسير غالبا. ومن أحسن ما اشتمل على هذا الفن من التفاسير كتاب (الكشاف) للزمخشري من أهل خوارزم العراق» (¬1). وهذا الغالب هو ما نودّ هنا أن نشير إلى منهجه الخاص، أو قواعده التي يسير عليها ... والتي يمكن من خلالها- مرة أخرى- التمييز بين أصناف، أو «ألوان» من هذا التفسير الأدبي نفسه. والأصل في منهج التفسير الأدبي أو البياني: أن يقدم الدارس على دراسة النص القرآني وتحليله على نحو ما يفعل في سائر النصوص الأدبية العالية من منظوم ومنثور- وإن كان لا سبيل إلى مقارنتها بالقرآن الكريم في إعجازه البياني كما رأيت- وليس في هذا ما يخرجنا من نطاق «التفسير» إلى نطاق «الأدب» من كل وجه، لأن التحليل الأدبي للقرآن لا يستغني عن بعض قواعد التفسير، حتى لا يخطئ الدارس في فهم المعنى المراد، ويضيع عليه، من ثم، فهم المفردات والتراكيب ونواحي البيان. ويمكن إجمال هذه القواعد بالأمور التالية: 1 - ضرورة الوقوف على سبب النزول، لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبّب؛ ولهذا فإن سبب النزول يعين على فهم أدق وأحكم للنص القرآني وربما حجز المفسّر عن الوقوع في الخطأ أو اللبس في فهم الآية أو الآيات في بعض الأحيان. ¬

_ (¬1) ويضيف ابن خلدون: «إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة ... فصار ذلك للمحققين من أهل السنّة انحراف عنه ... مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة. وإذا كان الناظر فيه واقفا مع ذلك على المذاهب السنيّة، محسنا للحجاج عنها، فلا جرم أنه مأمون من غوائله، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان» المقدمة ص 405، طبعة دار الشعب.

وغني عن البيان أن سبب النزول كان موضع عناية المشتغلين بالتفسير المأثور، بوصفه واقعة تاريخية أو أمرا وقع في عصر التنزيل، وأن سبيل معرفته- لذلك- تتوقف على الرواية والنقل الصحيح. بل كان كذلك موضع عناية المشتغلين بالتفسير بالرأي إلى حد كبير «لأنه طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز». كما قال أبو القاسم القشيري (¬1). والواقع أنه لا بد من العناية به والوقوف عنده في جميع الأحوال؛ وبخاصة إذا كان مرويا في كتب السنّة التي تلقّتها الأمة بالقبول. ولكن يجري عليه التأكيد هنا في التفسير البياني- ونحن أمام كلام معجز- لأن الوقوف عليه أولى من معرفة المناسبة التي قيلت فيها القصيدة من الشعر، أو النص النثري البليغ من كلام العرب، ومعلوم أن الجهل بهذه المناسبة يفوّت علينا الكثير من أغراض النص وآفاقه ومراميه. بل يمكن القول: إن سبب النزول يقوم مقام معرفة المناسبة وحال المتكلم والمخاطب- في دراسة النصوص الأدبية الأخرى- بل لعلّه يغني كذلك عن دراسة البيئة ونحو ذلك من العوامل المساعدة في شرح هذه النصوص وتحليلها. 2 - أن يهتدي الدارس بمألوف استعمال القرآن نفسه للألفاظ والأساليب، ولا يتم ذلك إلا بتعاهد نصوصه المكية والمدنية، والوقوف- مهما أمكن- على المعاني التي تدور عليها اللفظة الواحدة في استعمالاتها المختلفة، كما يتضح ذلك في ألفاظ «الهداية» و «الضلال» وبعض الألفاظ الأخرى على سبيل المثال (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان للزركشي 1/ 22 وانظر مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير، بتحقيق المؤلف ص 47. (¬2) راجع على سبيل المثال شروح القاضي عبد الجبار لهاتين اللفظتين في كتابه «متشابه القرآن» الذي نشرناه في القاهرة عام 1969، دار التراث.

ولو أن دارسا لنص قرآني دراسة أدبية حمل قوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) - في سورة الأعلى- على غير الهداية العامة التي تشمل جميع المخلوقات لذهب بمعنى الآية ونظم السورة جميعا! يقول الشيخ محمد عبده: «فعلى المحقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه، فربما استعمل بمعان مختلفة، ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية، فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه». 3 - ثم يقول الأستاذ الإمام- رحمه الله-: «إن القرآن يفسّر بعضه بعضا، وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ: - موافقته لما سبق من القول. - واتفاقه مع جملة المعنى. - وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته!» (¬1). ومعنى ذلك أنه لا بد للدارس هنا أن يراعي التناسب بين السابق واللاحق: بين فقرات الآية الواحدة، وبين الآيات بعضها وبعض، أي إن وجه هذا الارتباط بين الآية الواحدة، وبينها وبين سائر الآيات، يجب ألا يهمل على الإطلاق للمفسر بوجه عام، ولعل الخلافات الشديدة التي قامت بين المتكلمين وبين الفقهاء في فهم الآيات كان مصدرها- أو أحد مصادرها الأساسية- عدم مراعاة هذا الارتباط وهدم فكرة النظم- كما تدعى في بعض الأحيان- أو وحدة الموضوع! إن الواقف على الصورة الأدبية للقرآن، الملم بإعجازه وأسلوبه، لا يقبل أن ¬

_ (¬1) يمكن القول: إن الأستاذ الإمام رحمه الله يعد، بهذا المنهج الذي أشار إليه، وبما سماه «الأحسن ... » في النقطة السالفة، واضع اللبنات الأولى فيما أضحى يعرف اليوم بالتفسير الموضوعي.

يقدّر في أسلوب القرآن تلك التقادير البعيدة والمجازات المعقدة التي تجوز على شعر الشمّاخ والطّرمّاح، كما يقول أبو حيان في مقدمة تفسيره الواسع: «البحر المحيط» (¬1). ولهذا فهو أولى «المفسرين» بمراعاة ذلك التناسب، وهو في نفس الوقت أقدرهم على الكشف عنه من أقرب طريق ... ومن هنا صحّ لبعض الدارسين المحدثين ما نادى به من ضرورة تقدم «الدراسة الأدبية للقرآن» لأية دراسة أخرى لهذا الكتاب الكريم (¬2)،- سواء أخرجتنا هذه الدراسة من نطاق «التفسير» إلى نطاق الأدب من جميع الوجوه، أم من وجه دون وجه- تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن: «إن الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يتقدم كل دراسة أخرى فيه، لا لأنه كتاب العربية الأكبر فحسب، ولكن- كذلك- لأن الذين يعنون بدراسة نواح أخرى فيه، والتماس مقاصد بعينها فيه، لا يستطيعون أن يبلغوا من تلك المقاصد شيئا دون أن يفقهوا أسلوبه الفذ ويهتدوا إلى أسراره البيانية، كيلا يختلط عليهم الأمر أو يغيب عنهم شيء من مدلول اللفظ القرآني وإيحاء التعبير به. فسواء أكان الدارس يريد أن يستخرج من القرآن أحكامه الفقهية، أو يستبين موقفه من القضايا الاجتماعية أو اللغوية أو البلاغية، أم كان يريد أن يفسر آيات الذكر الحكيم تفسيرا عاما على النحو الذي ألفناه في كتب التفسير، فهو مطالب بأن يتهيأ أولا لما يريد، ويعدّ لمقصده عدته: من فهم مفردات القرآن وأساليبه، فهما يقوم على الدرس الأدبي المتذوق، المدرك لأقصى ما يستطيع من إيحاء التعبير» (¬3). ¬

_ (¬1) كلام الله تعالى أفصح كلام، فلا يجوز فيه ما يجوّزه النحاة في شعر امرئ القيس وغيره! انظر مقدمة البحر المحيط المذكور. وراجع البرهان 1/ 306. (¬2) الأستاذ الدكتورة عائشة عبد الرحمن في مقدمة كتابها- أو سلسلتها-: التفسير البياني للقرآن الكريم. طبع دار المعارف بالقاهرة. (¬3) التفسير البياني للقرآن الكريم للدكتورة عائشة عبد الرحمن 1/ 7.

4 - وأخيرا، فإن الوقوف على القيم والمبادئ التي نزل بها القرآن، ومعرفة طرف من قيمتها الحقيقية، تحتم على الدارس أن يكون ملما بالحالة التي كان عليها العرب في الجاهلية وفي عصر التنزيل- مع الإلمام بأحوال الجاهليات الأخرى كذلك- حتى يدرك معنى الجديد، الإنساني والعالمي، الذي جاء به القرآن، ومدى الأثر و «التأثير» الذي أحدثه في النفس العربية ... وفي العالم! وليقف على البعد الاجتماعي لهذا الكتاب الخالد! ... وقد روي عن عمر بن الخطاب في ذلك كله كلمة بعيدة الدلالة حين قال: «إن جهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة!» لأن من جهل تلك الأحوال يجهل معاني القرآن ويجهل أثره ... ويجهل جديده الذي جعله الله مغيرا لأحوال الناس ... هذا، وإن ميزة الوقوف على أحوال الجاهلية العربية أوضح بطبيعة الحال من أجل فهم اللغة العربية ومدلولاتها. ونؤكد أخيرا، أو مرة ثانية، على القول: إن سبيل التفسير- أيا كان لونه- لا يتم بدون معرفة رسالة القرآن الأساسية ووجهه الأول، وهو أنه «كتاب هداية وتشريع، ودستور جامع للحياة الإنسانية المثلى» على ما احتوى عليه من حقائق كثيرة وإشارات متنوعة عن النفس والطبيعة والسنن الكونية والحضارة والتاريخ والاجتماع؛ لأن هذه الحقائق وتلك الإشارات إنما جاءت في معرض الدلالة والعظة والتفكر والاعتبار، ويجب أن تفهم و «تفسر» في ظل الرسالة السابقة والوجه الأول، بحيث ننزّه النص القرآني عن «الفروض» العلمية، والآراء «النظرية»! ونخرجه عن أن يصبح كتابا في «تاريخ العلم» أو تاريخ الأحياء ... على نحو ما فعل بعض «المفسرين» في أسوأ حالات «الجزر النفسي» الذي عانت منه الأمة الإسلامية في وقت ليس ببعيد! (¬1). إن الإشارات العلمية التي وردت في القرآن الكريم- في أبواب العلم ¬

_ (¬1) انظر حيث شئت في تفسير طنطاوي جوهري: جواهر القرآن.

المختلفة- جاءت كإطار أو حوافز للعقل الإنساني، أو كتطبيق على المنهج العلمي الذي جاء به القرآن، ورسم خطواته. ولم يرد لهذه الإشارات، التي يتم فهمها أو الوقوف عليها خلال العصور، أو مع ارتقاء الإنسان في الكشف عملا بذلك المنهج، لم يرد لها أن تكون بديلا عن العقل أو التجربة الإنسانية! لأن هذا على الضدّ مما دلّ عليه القرآن، أو مما قصده وحثّ الإنسان عليه! ولهذا، فإن ما يزعمه البعض من أن القرآن الكريم انطوى على حقائق العلم وسنن الكون أو الطبيعة، أو ما يسمّى النظريات العلمية، جميعها ... لا يعدو أن يكون تبريرا لواقع الكسل والجمود، ونكوصا عن الامتثال لأوامر القرآن بالنظر والملاحظة والتجربة ... ولا يجوز الاحتجاج بقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: الآية 38] لأن هذه الآية الكريمة يجب أن تفسّر أو تفهم في ضوء قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: الآية 9]. وفي ضوء رسالة القرآن التي جاء بها أو نزل من أجلها ... وهي رسالة الهداية والتوحيد، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور؛ قال تعالى في مطلع سورة إبراهيم: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) [الآيتان 1 - 2]. وفي الفصل التالي مزيد من البيان.

الفصل الثالث التفسير"العلمي" لآيات الكون والطبيعة

الفصل الثالث التفسير «العلمي» لآيات الكون والطبيعة أولا- معنى التفسير العلمي وأسباب ظهوره: يعد التفسير العلمي أحد فروع أو ألوان التفسير المعاصر. ويراد به: الاستناد إلى حقائق العلم التجريبي- ونظرياته- في شرح آيات الطبيعة والإنسان- آدم وبنيه- والتي وردت في القرآن الكريم في سياقات شتى، ومواضع متعددة. لقد عني بعض المشتغلين بالتفسير، وبعض الباحثين والكتّاب المسلمين بهذا الضرب من ضروب التفسير، أو بهذا النوع من آيات الكتاب العزيز، في ضوء الأسباب التالية: 1 - الكشوف العلمية، التي امتاز بها العصر الحديث، والتي تناولت الطبيعة في مظاهرها وفروعها المتعددة: «النبات، الحيوان، الفلك، الجغرافية ... الفيزياء ... إلخ» وكذلك الإنسان في مراحل خلقه المختلفة وفي جوانبه المادية أو العضوية. فإذا علمنا أن القرآن الكريم أشار إلى بعض هذه الجوانب والمراحل، وأشار كذلك إلى الكثير من مظاهر الطبيعة تلك؛ أدركنا السبب في اتجاه بعض الباحثين والمفسّرين نحو هذه الكشوف يستعينون بها في التفسير، أو يحاولون فهم الآيات الكريمة في ضوئها أو انطلاقا منها. ساعدهم على ذلك- أو دفعهم إليه

فيما يبدو- ما وقفوا عليه من شروح المفسّرين القدامى لهذه الآيات! والتي عبّرت عن فهم غير سديد تارة، أو عن رأي لا يزيدنا علما بفهم الظاهرة تارة أخرى ... بل إن الأمر وصل في كثير من الأحيان إلى حد الاستعانة بالروايات الإسرائيلية، انطلاقا من أن هذه الاستعانة لا ضرر معها، لأنها لا تنطوي على تحريم حلال، أو تحليل حرام! مع ما تضمنته بعض هذه الروايات من تصورات خرافية، كما تبين لنا فيما بعد. ومن هنا، فإن هذه المشكلة، أعني مشكلة تفسير بعض الآيات القرآنية بمثل هذه التصورات، واجهت المسلمين في عصر لا حق، ولم يشعر بها من اعتمدها أو نقلها من المفسّرين السابقين، نظرا لأن الوقوف على التفسير الصحيح لتلك الإشارات القرآنية مشى في ركاب الكشوف العلمية التي جاء بها العصر الحديث. 2 - محاولة بعض المسلمين اللحاق بركب التقدم العلمي، والتأكيد على عدم معارضة القرآن والإسلام للعلم! وإذا كان مثل هذا التأكيد لا يحتاج إلى بيان، كما سنشرح في الفقرة التالية، فإن الإصرار على تفسير آيات الطبيعة في القرآن بحقائق العلم التجريبي ونظرياته، تحمل في طياتها نقدا للمفسّرين السابقين أو اعتذارا عنهم، من جهة. كما تحمل الدلالة على أن القرآن الكريم لا يعارض العلم، وأن المعارضة إنما تكمن في بعض شروح المفسّرين، من جهة أخرى. ولكن المشكلة في هذه المحاولة أنها وصلت في كثير من الأحيان إلى حد التبرير لقعود المسلمين وتخلّفهم في ميدان البحث والاكتشاف العلمي! أو أنها انطوت على معنى (التعويض) عن هذا القعود والتخلف، على أقل تقدير! وكأن لسان الحال يقول: وما علينا! وقد سبق القرآن هؤلاء العلماء بمئات السنين! والعجيب في هذه النقطة أن أشد الناس غلوا في الدعوة إلى تفسير القرآن بتلك النظريات أو إلى التفسير العلمي للقرآن كما قلنا؛ والذي كاد أن يقلب كتب التفسير إلى كتب في علم الأحياء أو الفلك أو الطب، لم يخطئ في نقد العلماء

الأقدمين لإسرافهم في علم الفقه والتوحيد، وتقصيرهم في علوم الكون والطبيعة- حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من أخطاء في تفسير آيات القرآن الكريم- ولكنه أخطأ أو أسرف في ظنه أن الطريق إلى هذه العلوم هو تفسير المفردات والجمل والتراكيب. أو نقل ما اكتشفه الأوروبيون في هذا الباب، وحشو كتب التفسير فيه، لأدنى مناسبة، أو لمجرد أن آية من آيات الكتاب العزيز جاء فيها ذكر السماء والأرض، أو أشارت إلى نبات أو حيوان! لقد أخلّ المفسّر المشهور الشيخ طنطاوي جوهري- رحمه الله- في كتابه الجواهر- وهو المقصود بهذا الإسراف في الاعتبار الأول- برتابة كتب التفسير التي عرفها عصره، أو انحدرت إليه، ... وهذا مما يحمد له، ولكنه أخطأ طريقه إلى التقدم العلمي، حين وقف عند حدود النقل، أو حين ظن أن هذا التقدم يتحقق بحشو كتب التفسير بهذه النقول، وبطريقة إجراء المطابقة بين كشوف القوم العلمية وآيات القرآن الكريم، وبغض النظر عن التعسف في إجراء هذه المطابقة في معظم الأحيان. لقد وصف الشيخ الطنطاوي جوهري كتابه بأنه يشتمل «على عجائب بدائع المكونات، وغرائب الآيات الباهرات»! وقال فيه أيضا: «بهذا الكتاب وأمثاله سيستيقظ المسلمون سريعا، وسيجيء جيل لم تشهد الأرض مثله ... أيها المسلمون هذا هو علم التوحيد في الحقل والجبل والزرع والشجر والثمر والشمس والقمر، لا في الكتب المصنّفة المشهورة، هي والله مبعدة عن حكمة الله، ومبعدة عن معرفة آياته» (¬1)!! لقد أبعد الشيخ- رحمه الله- النجعة، ولم يتحقق له ما أمّل أو أراد! 3 - ويقرب من هذا السبب، أو يكمله ويتممه، أن المسلمين وجدوا في هذا اللون المعاصر من ألوان التفسير تأكيدا لإعجاز القرآن، أو بابا جديدا من ¬

_ (¬1) تفسير الجواهر 1/ 66، طبع مصر 1352 هـ.

أبوابه، حتى دعوه بالإعجاز العلمي، بل يمكن القول: إن التفسير العلمي والإعجاز العلمي، صارا قرينين أو شيئا واحدا في عرف كثير من الدارسين والباحثين. والواقع أن المسلمين وجدوا في هذا اللون من ألوان التفسير، أو في هذا الوجه من وجوه الإعجاز- كما دعوه- ميدانا ملائما للدعوة إلى الإسلام، وإقامة الدليل على أن القرآن وحى يوحى، وأنه تنزيل من حكيم حميد، في الوقت الذي ضعفت سليقة العرب اللغوية، وأضحوا غير قادرين على «تذوق» الإعجاز البياني للقرآن الكريم ... وفي الوقت الذي عدّ فيه هذا «الإعجاز الجديد» قادرا على مخاطبة العرب وغير العرب، كما يقوى على إدراكه المسلمون وغير المسلمين، بل إن غير المسلمين من الأوروبيين المكتشفين للسنن، أو أصحاب التقدم العلمي المشار إليه، يأتون في مقدمة من يعقل عن القرآن هذا الإعجاز، أو بعبارة أدق: هذا السبق العلمي الباهر الذي جاء به القرآن الكريم قبل مئات السنين. ونحن هنا نؤرخ لظهور هذا اللون من ألوان التفسير، ونتحدث عن أسباب نشأته في هذا العصر، أو على هذا النحو. ولا ندقق في صحة هذا السبب الأخير، أو في صواب هذه التسمية: «الإعجاز العلمي» والذي يمكننا أن نقوله- باختصار شديد- إن الإعجاز الحقيقي في هذا الجانب، وأعني جانب الحقائق العلمية عن الكون والإنسان التي أشار إليها الكتاب العزيز، يمكن في طريقة القرآن في التعبير عن هذه الحقائق، لا فيما سمّيناه تفسيرا علميا قد نخطئ فيه أو نصيب! لقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقائق على نحو يفهم خلال العصور! بمعنى أن أسلوب القرآن ونظمه وبيانه- الذي جعلناه مناط الإعجاز فيما سبق- اتّسع للتعبير عن هذه الحقائق العلمية على نحو لا يعجز عن خطاب الإنسان في أي عصر، ولا يحمّله كذلك أكثر مما يطيق. كما قلنا في ختام الفصل السابق. هذا هو وجه الإعجاز عندنا في هذه المسألة.

ثانيا - بين التفسير العلمي والمنهج العلمي:

وغني عن البيان أنه ليس في مقدور أحد من الثقلين أن يكتب بهذه الطريقة، أو أن يجيء بمثل ما جاء به القرآن. وهذا هو السبب في أن القرآن الكريم فهم وفسّر خلال هذه العصور. أما انفراد العصر الحديث- عصر الكشوف العلمية- بهذا اللون من ألوان الفهم، أو ألوان الشرح والتفسير، فيعود إلى أن إدراك المدلول (العلمي) أو الحقيقي للإشارات القرآنية المتعلقة بالطبيعة والإنسان، يتوقف على التجربة والعمل الإنساني، التي هي من عمل العصور القادمة لعصر التنزيل- والقرآن كما نعلم لجميع العصور- أي يتوقف على تطبيق المنهج القرآني في التعامل مع هذه الإشارات والظواهر، أو على الامتثال للأمر القرآني بالنظر والملاحظة والتجربة، كما سنوضح ذلك في الفقرة التالية: ثانيا- بين التفسير العلمي والمنهج العلمي: ما نسمّيه اليوم تفسيرا علميا لا يعدو أن يكون نوعا من المطابقة بين الإشارات العلمية التي وردت في القرآن الكريم وكشوف الآخرين لبعض السنن والقوانين الكونية، أو لمدلول لتلك الإشارات فيما يذهب إليه الشراح والمفسّرون. وتشير هذه الحالة- البائسة- إلى مدى قصورنا نحن المسلمين وعدم امتثالنا للمنهج العلمي الذي تضمّنه القرآن الكريم نفسه ودعا إليه، بوصفه الطريق الصحيح للاكتشاف، وبوصف هذا التقدم والاكتشاف من عمل الإنسان في جميع العصور. وبوصف القرآن- قبل ذلك جميعه- كتاب هداية وتشريع، ودستورا جامعا للحياة الإنسانية المثلى إلى يوم الدين. وليس كتابا في الطب أو الفلك أو تاريخ الأحياء! ولا تمكن «علمية» القرآن و «عصريته» في عدد السنن والقوانين والحقائق العلمية التي أشار إليها أو «أسهم» فيها في «تاريخ تطور العلم» أو في تاريخ العلم، ولكن في «المنهج العلمي» الذي جاء به، والشروط النفسية والاجتماعية التي أشاعها، أي في المناخ العقلي والعلمي الذي أوجده .. والذي يسمح للإنسان أن يفكر ويلاحظ ويجرّب، دون أن يصدّه عن ذلك صادّ، أو يقف في وجهه معترض!

ولهذا، فإن علينا أن نلاحظ في خطوات هذا المنهج الذي جاء في القرآن الكريم، أنّ الإشارات لتلك السنن والحقائق العلمية جاءت في نهاية هذه الخطوات، كأمثلة، ونماذج تطبيقية، ولسوف تفضي إليها أو لما شاء الله تعالى منها- يوما بعد يوم- التجربة والعمل الإنساني، ولم يرد لها أن تكون بديلا عنه، أو أن تحل محله! ولهذا فإن بعض الصحابة الذين سألوا عن بعض هذه الظواهر؛ أجيبوا عن (وظيفتها) لا عن طبيعتها أو آليتها أو كيفية عملها! لأن الشريعة ربطت بهذه الوظيفة، أو أناطت بها بعض الأعمال والتكاليف الشرعية، في سياق كون القرآن كتاب هداية وتشريع كما قلنا قبل قليل، وتأكيدا على أن معرفة هذه الطبيعة أو اكتشافها إنما هو من عمل التجربة والعقل الإنساني في سائر العصور! جاء في كتب التفسير أن قوما من المسلمين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الهلال، و «ما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس» كما روي ذلك عن ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم، وعن أبي العالية قال: «بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟» فأنزل الله تعالى:* يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) (¬1) [سورة البقرة، الآية 189]. أما سبب محاق القمر وكماله ومخالفته لحال الشمس، فإن الوقوف عليه من عمل الإنسان في مختلف العصور! وربما كان هذا هو السبب- فيما نلاحظ- في هذا الاقتران في الآية الكريمة بين الإجابة عن «وظيفة» الأهلّة، لا عن قانونها وطبيعة عملها، والأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها لا من ظهورها، أي إنهم بسؤالهم ذلك لم يأتوا البيوت من أبوابها ... والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) راجع تفسير ابن عطية 2/ 134 وتفسير القرطبي 2/ 341 وتفسير ابن كثير 1/ 225. وانظر في ابن عطية تعليقا للمحقق يحتاج إلى مراجعة وتدقيق.

ثالثا - خطوات المنهج العلمي في القرآن:

ثالثا- خطوات المنهج العلمي في القرآن: أما خطوات هذا المنهج ومراحله، فقد رسمتها الآيات القرآنية على النحو التالي: 1 - أزاح القرآن الكريم عن كاهل العقل الإنساني كل ما يعوقه عن الملاحظة والتفكر، سواء أكان ذلك: (أ) من موروثات البيئة (أي الماضي). قال الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) [سورة يونس، الآية 101]. وقال تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) [سورة الزخرف، الآيات 20 - 23]. (ب) أو من ضغط المجتمع (أي الحاضر من حول الإنسان) قال تعالى: * قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سورة سبأ، الآية 46]. 2 - أوضح القرآن الكريم بجلاء، وفي آيات كثيرة، أن الكون خاضع لسنن كونية ثابتة. وأنه يتصف بالحركة، والانتظام، والكمية، والتقدير والتصنيف. فوق ما جاء فيه من وصف شامل للطبيعة لم يقتصر على السماء دون الأرض، ولا على الجماد دون النبات، ولا على الإنسان دون الحيوان ... إلخ. وقد جاء التعبير عن هذه السنن الكونية، وعن ثباتها وديمومتها، على النحو التالي، المثير للتأمل، والآخذ بيد العقل الإنساني نحو تفهم خطواتها ومراحل تكوينها وعملها! قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [سورة النور، الآية 43].

وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) [سورة الزمر، الآية 21]. وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) [سورة الحج، الآية 63]. وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) [سورة الحج، الآية 65]. وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) [سورة الفرقان، الآيتان 45 - 46]. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) [سورة يس، الآية 77]. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) [سورة الأنبياء، الآية 30]. والآيات في هذا الباب كثيرة كما هو معلوم، وقد نشير إلى بعضها في سياق بعض النقاط التالية، مكتفين هنا بالإشارة إلى آية أو آيتين للدلالة على الأوصاف السابقة التي وصف بها الكون في آيات الكتاب العزيز؛ مع الإشارة إلى أن الآية الواحدة في أغلب الأحيان، أو في أحيان كثيرة، فيها دلالة على أكثر من صفة من هذه الصفات؛ ففي الحركة؛ يقول تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [سورة الأنبياء، الآية 44].

وقال تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) [سورة الذاريات، الآية 47]. وقال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ [سورة إبراهيم، الآية 33]. وفي الانتظام؛ قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) [سورة يس، الآيات 37 - 40]. وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) [سورة المؤمنون، الآيتان 18 - 19]. وفي الكمية، قال تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) [سورة الحجر، الآيات 19 - 21]. وقال تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) [سورة الرعد، الآية 8]. وقال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) [سورة الإسراء، الآية 12]. وأخيرا جاء في التصنيف قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [سورة النور، الآية 45]. وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما

فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) [سورة الأنعام، الآية 38]. 3 - صور القرآن الكريم علاقة الإنسان بالطبيعة على أنها علاقة مخلوق بمخلوق وعلى أنها علاقة مخلوق سام بمخلوق مسخّر! فالشمس والقمر والنجوم، والفلك والأنهار والبحار ... وكل ما في السموات وما في الأرض مسخّر للإنسان، قال تعالى:* اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) [سورة الجاثية، الآيتان 12 - 13]. وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) [سورة إبراهيم، الآيتان 32 - 33]. إن هذه العلاقة، كما يصوّرها القرآن الكريم في وضوح أخّاذ، ليست قائمة على النديّة أو المغالبة! فضلا عن أن تكون قائمة على الرهبة والخشية ... أو العبادة! والعجيب أن الإنسان في سذاجته القديمة أو جاهليته الأولى اتخذ من مظاهر الطبيعة التي سخرت له وقصد بها نفعه ... معبودا من دون الله! حتى إذا وصل إلى مرحلة ما من مراحل اكتشاف سننها وقوانينها ... كاد أن يتجه إلى هذه السنن والقوانين ذاتها بالعبادة! حين توهم أن هذا الاكتشاف يغنيه عن تقدير خالق هذه السنن، وواضع هذه القوانين. إن قانون تشكل السحب، أو نزول المطر، أو خروج النبات، أو سير السفن، لا يمكن أن يكون هو الخالق، لأن هذا القانون ليس إلا حادثة مصنوعة، وارتباطا بين أمرين أو أمور متعددة- ارتباط نمو النبات بنزول المطر، ونزول المطر بتكاثف السحب، وتكاثف السحب بتبخر الماء ... إلخ- ويحتاج إلى «مقنّن» وخالق لهذا الارتباط المنظّم بين أجزاء الكون. وهو الأمر الذي كانت تشير إليه آيات التسخير هذه باستمرار .. ضبطا لنتائج

الاكتشاف .. وليس تهوينا من شأنه! أو إبطالا لقانون الأسباب، أو بعبارة أخرى: حفاظا على وضع الإنسان ومكانته في الكون: عبدا لله، وسيدا للطبيعة! لأن الإنسان قد تطغى عليه حماسته وتقديره لمكانته في حمّى الاختراع والاكتشافات ... فيضع نفسه في غير موضعها، أو يرفعها فوق مكانتها!! نعود إلى هذا الانتفاع غير المأجور، أي التسخير الذي يمكن عدّه الإطار لجميع السنن والأوصاف السابقة التي جاءت للكون في القرآن الكريم، لنقول: إنه لا يمكن بغير الوقوف على هذه السنن التي تحكم الظواهر حتى يتمكن الإنسان من تحقيق هذا الانتفاع، أو الارتقاء به إلى أقصى الدرجات؛ خصوصا إذا علم من خلال النقطة السابقة أنه لا يتعامل مع كون مشتت أو مضطرب، أو يخضع للتبدل والتحول بدون نظام يحكمه أو قانون يخضع له، فما عليه إلا أن يلاحظ ويفكر ... 4 - وغني عن البيان أن نشير بعد ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من أمر للإنسان بالنظر والتفكر والاعتبار والضرب في الأرض، والبحث في ميادين النفس والمجتمع، والتاريخ، والطبيعة. وما ورد فيه كذلك من مادة «العقل» و «النظر» ونحو ذلك، في عشرات المواضع، وفي شتى السياقات والمجالات كما قلت. قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [سورة العنكبوت، الآية 20]. وقال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [سورة ق، الآية 6]. وقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) [سورة الطارق، الآية 5]. وقال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [سورة الروم، الآية 8]. وقال تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ

لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) [سورة الجاثية، الآيات 3 - 5]. والآيات في هذا الباب لا تغطي مساحة واسعة في النص القرآني فحسب، بل إنها بحاجة إلى تصنيف دقيق، كلّ في بابه الواسع، وشعبته الخاصة، والسنة المقصودة في هذا السياق، ونحو ذلك. 5 - ورد في القرآن الكريم إشارات كثيرة حول بعض القضايا الكونية والسنن الطبيعية، وحول خلق الإنسان ... جاءت كإطار أو حوافز للعقل الإنساني، تضاف كتطبيق على هذا المنهج وتلك المقدمات، وعلى نحو يتم إدراكه والوقوف عليه خلال العصور؛ لأن هذه الإشارات لم يرد لها أن تكون بديلا عن العقل الإنساني أو التجربة الإنسانية كما أشرنا قبل قليل. ولكن إذا كان المنهج يمثل الطريق الذي يهدي الإنسان حتى لا يضل في تعامله مع الطبيعة كما ضلّت من قبل أمم وشعوب كثيرة، فإن هذه الإشارات- التطبيقية- تأتي في باب الشواهد على البعد الزماني للقرآن، وأنه لا يلحقه باطل في قادمات الأيام! ... بل تأتي في باب التأكيد المستمر على مصدر هذا الكتاب الخالد، وأنه تنزيل من حكيم حميد ... كلما ارتقت بالإنسان تجاربه وعلومه. أو كلما عاد إلى تلك الإشارات ففهم منها ما لم يكن قد عرفه أو وقف عليه من قبل! قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت، الآية 53]. وسواء أسمّينا ذلك إعجازا، أو جعلناه بابا من أبوابه، ولونا من ألوانه، أو نوعا من أنواعه .. أم لا. وفحوى ذلك أن «الامتثال» لهذا المنهج العلمي، أو لخطواته التي جاءت في القرآن الكريم هي التي تؤدي إلى معرفة القوانين والوقوف على السنن .. الأمر الذي يتمكن معه العالم فيما بعد- وإن شئت قلت: عالم الطبيعة ومفسّر القرآن- من إجراء المطابقة بين الاكتشاف ونصوص القرآن. أو يتمكن من إقامة الدليل

رابعا - شروط التفسير العلمي:

الحسّي والبرهان الماديّ على صحة (الفرضية) التي أوحت له بها بعض الآيات، فيترجح عنده آنذاك صحة فهمه للآيات التي أشارت إلى تلك الظاهرة، ويقدم لنا ما يطلق عليه: التفسير العلمي للقرآن الكريم، أو التفسير العلمي لآيات الكون والطبيعة في القرآن الكريم. رابعا- شروط التفسير العلمي: وحتى يأتي مثل هذا التفسير صحيحا أو مقبولا على أقل تقدير، لا بد فيه من مراعاة بعض الشروط والقواعد، ونوجز فيما يلي أبرز هذه الشروط: 1 - لا يفسّر القرآن إلا باليقينيات العلمية، أو بالحقائق الثابتة التي ارتقت من درجة الفروض أو النظريات العلمية إلى مقام اليقينيات أو «الفعل الواقع القائم» بحسب عبارة موريس بوكاي، والذي لا يمكن أن يتطرق إليه التغيير والتبديل! يسلم بوكاي بأن العلم متغيّر مع الزمن، وأن ما يمكن قبوله اليوم قد يرفض غدا، ولكنه يقول: يجب التفريق بين النظرية العلمية «وبين الفعل موضوع الملاحظة». فالنظرية العلمية يمكن أن يستغنى عنها بما هو أكمل منها وأصح لتفسير الظاهرة، ولكن الفعل موضوع الملاحظة يبقى قائما. وقد يمكن تعريف سماته بشكل أحسن، ولكنه يظل على ما كان عليه من قبل. يقول: فدوران الأرض حول الشمس، والقمر حول الأرض، يبقى فعلا واقعا قائما، ولن نرجع عنه أبدا، ولكن قد يمكن في المستقبل تحديد المدارات بشكل أحسن (¬1). وبناء على هذا التفريق بين الحقيقة العلمية الواقعة، أي الثابتة بالدليل الحسّي والبرهان المادي، والنظريات والفروض، تناول بوكاي القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى السابقة، بالدراسة والمقارنة بين مواقفها من تلك الحقائق الواقعة ¬

_ (¬1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة تأليف: موريس بوكاي ص 184 دار المعارف 1977.

فعلا ليلاحظ أو ليقرر أن المقابلة بين نص القرآن والمعطيات الحديثة للعلم، تجعلنا نبهر لتحديدات القرآن الدقيقة، التي لا يمكن أن تصدر عن إنسان عاش منذ أربعة عشر قرنا! ويقول: «وتناولت القرآن، منتبها بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات، وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن هذه الظاهرات نفسها، والتي لم يكن ممكنا لأي إنسان في عصر محمد صلى الله عليه وسلم أن يكوّن عنها أدنى فكرة! ... إن أول ما يثير الدهشة في روح من يواجه مثل هذا النص- القرآن- أول مرة، هو ثراء الموضوعات المعالجة، فهناك الخلق، وعلم الفلك، وعرض لبعض الموضوعات الخاصة بالأرض، وعالم الحيوان، وعالم النبات. وعلى حين نجد في التوراة أخطاء علمية ضخمة لا نكتشف في القرآن أي خطأ» (¬1). وعلى سبيل المثال التطبيقي لهذه النقطة، أو لهذا المنهج الذي أوضحه بوكاي، تحدث عن المعنى الفريد، الذي جاء به القرآن في الآيتين الكريمتين في قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [سورة لقمان، الآية 29]. وقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [سورة الزمر، الآية 5]. فقال: إن العلم الحديث يجعلنا ندرك بسهولة كيف يتداخل كل من النهار والليل في حركة الأرض حول محورها وحول الشمس الثابتة نسبيا. وربط بهذا تعدد المشارق والمغارب، قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [سورة المعارج، الآية 40]. وقال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) [سورة الرحمن، الآية 17]. ¬

_ (¬1) دراسة الكتب المقدسة، ص 145.

وغني عن البيان، بعد ذلك، أنه لا خلاف على جواز تفسير هذه الآيات بما يدل على أن كروية الأرض تمثل حقيقة علمية واقعة، وكذلك الآيات التي أشارت إلى دحو الأرض وطحوها، ونحو ذلك من الآيات الكريمة؛ قال تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) [سورة النازعات، الآيتان 30 - 31]. وقال تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) [سورة الشمس، الآيتان 5 - 6]. وقد لاحظنا- بهذه المناسبة- أن الإشارة إلى كروية الأرض جاء في سياق الحديث عن خلقها وبنائها، وأن الإشارة إلى بسطها جاء في سياق الحديث عن تسخيرها وانتفاع الإنسان بها، قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) [سورة نوح، الآيتان 19 - 20]. والآيات التي لاحظ بوكاي أنها تتطابق مع معطيات العلم الحديث كثيرة جدا، وربما كانت بعض ملاحظاته أو تفسيراته- على الرغم من وضوح المنهج- موضع نظر. ونكتفي بالإشارة إلى ملاحظته حول «الفلك» في القرآن! يقول بوكاي: إن القرآن لا يذكر المفهوم الفلكي القديم عن مركزية الأرض ودوران الشمس حولها. بل يذكر أن كلا من الشمس والقمر يجري في فلكه، وهو الأمر الذي قرره العلم الحديث. ويقول أيضا: إن القرآن الكريم قدم مفهوما جديدا لم يكن معروفا في عصره، وهو مفهوم الفلك الذي يدور فيه كل كوكب: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس، من الآية 40]. وقد علل بوكاي اختلاف المفسّرين المسلمين القدامى لكلمة «الفلك» بكونهم لم يدركوا حقيقة هذا المفهوم لأنه كان فوق طاقتهم! 2 - حقائق العلم هذه لا تفسّر بها المعجزات والأمور الخارقة للعادة التي نصّت عليها الآيات الكريمة، نظرا لافتراق «موضوع» هذه الآيات عن آيات الكون

والطبيعة وأطوار الخلق، وسائر الآيات التي يمكن الانتفاع بحقائق العلم وثوابته في تفسيرها وشرح معانيها. بل نقول أبعد من ذلك: إن الآيات القرآنية التي تحدثت عن المعجزات والخوارق لا يمكن إقحامها في باب العلم التجريبي أصلا، لأنها إنما ثبتت بمقدار مخالفة السنن والقوانين، فكيف يتأتى تفسيرها من خلال هذه السنن والقوانين. ولهذا، فإن من فعل ذلك من المعاصرين لم يصل إلى ما وصل إليه إلا عبر أسوأ وجه من وجوه التأويل من جهة، وإلا بعد الإخلال بنظم القرآن ومسلّمات الإيمان من جهة أخرى. كمن فسّر حمل مريم بعيسى- عليهما السلام- بكونها خنثى- أي من له مبيض في جهة، وخصية في الجهة الثانية!! (¬1) - ولا يدري القارئ مع هذا التفسير العجيب كيف تكون مريم وابنها آية للعالمين؟ وما معنى قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [سورة آل عمران، الآية 59] إلخ الآيات الدالة على المعجزة و «الاستثناء» في حمله وولادته. ومثل هذا، أو قريب منه من تحدث عن الكهرباء، وكيف يصعق التيار الكهربائي (¬2) الأحياء ... في سياق شرحه لقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) [سورة الأعراف، الآية 143]. وقال طنطاوي جوهري، وهو يتحدث عن معجزة موسى- عليه السلام- التي نصّت عليها الآية الكريمة:* وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة البقرة، الآية 60]. قال: «إن الله تعالى اختار الحجر ليضربه موسى بعصاه دون غيره ليلفت ¬

_ (¬1) الدكتور محمد توفيق صدقي: دروس في سنن الكائنات 1/ 51، ط 1، في مجلة المنار بمصر 1333 هـ. (¬2) علي فكري: القرآن ينبوع العلوم والفرقان 1/ 51، الجزء الثالث، ط 1 المطبعة السلفية.

العقول إلى بدائع خلقه ومعجزاته في الكون، فالحرارة تحوّل الماء بخارا، والبرد يجمّده وهو بين الصخور فيصدّعها!!» (¬1). وقد لا يكون في مثل هذا التفسير فساد بيّن، ولكنه يخلّ بمعجزة موسى- عليه السلام- بوجه من الوجوه. على الرغم من بواعث المؤلف الطبية (¬2)، في حمل المسلمين على الأخذ بأسباب العلم، وأن ذلك لا يعارض دينهم، أو لا يعارضه كتاب ربهم! قلت: وهذه على أية حال مرحلة تجاوزها الفكر الإسلامي الحديث، وإن كان الإخلال بالمعجزات الحسية، أو تمييع مفهومها، حصل على نطاق واسع في هذه المرحلة! حيث مزجت بالعلم، أو فهمت وفسّرت في ضوء معطياته .. حتى المعطيات التي لم تبلغ حد الثبات واليقين! فمعجزة سليمان- عليه السلام- بتسخير الريح، يعلق عليها علي فكري- رحمه الله- بقوله: «من تأمل في هذه الآيات: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ [سورة سبأ، الآية 12] يشعر بأن سليمان- عليه السلام- كان له سفر هوائي منظم!! ... ومن ذلك يتضح أن اختراع الطائرات في هذا العصر قد سبق إليه العصر السليماني، وهذا من معجزات القرآن» (¬3)!! ومن العجيب حقا هذا القلب للحقائق تحت عنوان التفسير العلمي، أو في سبيل حض المسلمين على الأخذ بأسباب التقدم العلمي. 3 - وتذكرنا هذه الأمثلة والشواهد بشرط ثالث، وهو أنه لا يجوز التفسير لأدنى مناسبة، أو لأن لفظا قرآنيا، أو مفردة وردت في القرآن .. صارت فيما بعد عنوانا على مخترع حديث، أو مسألة من مسائل العلم! ومن أصول التفسير ¬

_ (¬1) تفسير الجواهر 1/ 70. (¬2) نفس المصدر 1/ 9. (¬3) علي فكري، مصدر سابق.

المسلّمة عند علمائنا أنه لا يجوز- بوجه عام- تفسير القرآن باصطلاح حادث بعد نزوله؛ لأننا لو فعلنا ذلك لعدنا على معاني القرآن بالتحوير والتبديل، أو بالإبطال والإلغاء! فالملائكة المسوّمون الذين قاتلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر لا صلة لهم «بالجنود الذين يهبطون بواسطة الطائرات في الحروب الحالية»! والغوّاصات التي عمّ استعمالها في جميع البحار لم تكن مستعملة في عصر سليمان- عليه السلام- (¬1)، على خلاف من استنتج ذلك من قوله تعالى: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) [سورة ص، الآية 37]. وقوله تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) [سورة الأنبياء، الآية 82] ... إلخ. فلا تكفي كلمة «غوّاص» أو «يغوصون» في سياق الحديث عن الشياطين!! للزعم بأن الغواصات التي عرفتها الحروب الحديثة كانت معروفة في عصر سليمان- عليه السلام-! وكأن عالم الشياطين- بوصفه من عالم الغيب- لا معنى له أو لا وجود له في القرآن! وكأن عصر سليمان- على عكس ما يدل عليه التاريخ- عرف هذا التقدم العلمي والسبق في ميدان الاختراع! وأخيرا تحسن الإشارة إلى أن من أبرز الباحثين المعاصرين الذين يسارعون إلى أخذ الآية القرآنية شاهدا على صحة «نظرية» من النظريات العلمية، أو يحاولون تفسير الآية بنظرية من هذه النظريات: عبد الرزاق نوفل، الذي كتب كثيرا من الأعاجيب. ومصطفى محمود في كتابه السقيم: «القرآن محاولة لفهم عصري» والدكتور جمال الدين الفندي في كتابه «الله والكون» الذي رد فيه كثيرا من الأحاديث! ووقع في الكثير من المجاز وضروب التأويل. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) علي فكري، مصدر سابق.

الفصل الرابع تعريف بظلال القرآن

الفصل الرّابع تعريف بظلال القرآن لا نستغني في هذه العجالة عن التعريف بأشهر تفاسير العصر، وهو التفسير الذي اشتهر عند العامة بتفسير الظلال؛ أخذا من التسمية التي أطلقها المؤلف على كتابه الجامع وهي: «في ظلال القرآن» مشيرا بذلك- فيما يبدو- إلى أنه لا يريد أن يزعم لنفسه أنه يكتب تفسيرا للقرآن، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى .. وإن كان قد فعل ذلك- رحمه الله- على أدق ما يكون تعريف التفسير وأحكمه، على الرغم من المنحى الخاص، الذي نحاه في كتابه هذا، ولأسباب موضوعية بحتة؛ كما سنبين بعد قليل. والواقع أن بعض الناس ظنوا أن «الظلال» ليس بتفسير؛ بناء على ما ألفوه من كتب التفسير ودرجوا عليه .. وربما صرّح بعضهم بذلك وهو يرى الظلال لا يثير مسائل لغوية في باب الاشتقاق والإعراب .. ولا يجادل ويناقش في قضايا الفقه والأصول، أو العقيدة والخلاف .. ونحو ذلك من المسائل التي يقف عندها المفسرون في الأعم الأغلب. وإذا كانت كتب علوم القرآن، على كثرتها وتعدد مناهج مؤلفيها، قد أشارت إلى التفاسير القديمة وعرّفت بها- وقد أشرنا نحن إلى طرف من ذلك في تعليقاتنا

أولا - الصحابة وتفسير القرآن:

على مقدمة ابن تيمية في أصول التفسير- فإن الذي تحسن الإشارة إليه هنا هو التعريف بهذا التفسير المعاصر- الظلال- الذي يعتبر من أكثر كتب التفسير رواجا، وأقربها من نفوس الطلاب والدارسين، وبخاصة طلبة الجامعات على اختلاف اختصاصاتهم واهتماماتهم. وسوف نحاول من خلال ذلك وضع هذا التفسير في موضعه .. ولو اضطرنا ذلك إلى تلخيص ملاحظاتنا العامة على التفاسير القديمة مرة أخرى. أولا- الصحابة وتفسير القرآن: كان جيل الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- هو الجيل الذي ربّاه القرآن الكريم، وأخرجه للناس جيلا نموذجيا لم يسبق له وجود في تاريخ بني الإنسان. وكان هذا الجيل الكريم الأمثل هو الجيل الذي تمثل فيه الهدف العملي للقرآن، أو الهدف العملي الواقعي القريب في هذه الحياة الدنيا، وهو إنشاء الأمة الوسط، أو الأمة المثال والأنموذج، وتبديل واقع الناس من الضلال إلى الهدى، وإخراجهم من الظلمات إلى النور! ولقد تحقق ذلك في هذا الجيل القرآني الفريد، وهو جيل الصحابة الذي تربّى خطوة خطوة، ويوما بعد يوم، وقام بناؤه الشامخ لبنة لبنة؛ على نحو نزول القرآن الكريم سورة بعد سورة، ومجموعة من الآيات رواء مجموعة أخرى، على اختلاف الأوقات والأزمان، والدواعي والأسباب ... حتى تحقق ذلك الغرض العملي من كتاب الله الكريم. ويدل على ذلك- بإيجاز- قول أنس بن مالك- رضي الله عنه-: «كنا إذا نزلت علينا الآيات لم نتجاوزها حتى نعمل بما فيها، فتعلمنا العلم والعمل جميعا» .. هذا العمل أو هذا السلوك الحي، أو الاستلهام للروح القرآنية، والعمل بموجبها ومقتضاها هو ما انصرفت إليه همة الصحابة، وتجردوا له- رضي الله عنهم-.

ولهذا نجد أن الصحابة- وكثيرا من التابعين من بعدهم- لم يعنوا بتدوين التفاسير المطولة للقرآن الكريم، يثقلونها بتفصيل القول في علوم القرآن، أو علوم التفسير الواسعة، ومدلولات الآيات البعيدة، أو إشاراتها العميقة ... ولم يكن ذلك لنقص في علمهم بكتاب الله، كما ظن بعضهم، بل لمزيد من هذا العلم من حيث الفهم الصحيح والمتكامل لكتاب الله؛ نظرا لمعرفتهم باللغة، ومعاصرتهم للتنزيل، وفهمهم لجميع نصوصه في سياقها وسباقها الصحيح، ومناسبتها الواضحة- بناء على ذلك التدرج- ولاستلهامهم لتلك الروح القرآنية العالية، وعملهم بموجبها يوما بعد يوم .. يخلون أمامها الطريق وهي تهدم كل رواسب الجاهلية، وأفكارها، وتصوراتها، وقيمها، وموازينها ... حتى علا ذلك البنيان الشامخ الفريد. ولهذا فإن ما خلّفه لنا الصحابة والتابعون في تفسير القرآن الكريم لا يصوّر لنا الغرض الأساس الذي نزل القرآن من أجله، والذي وعاه الصحابة- رضوان الله عليهم- وطبقوه، وعاشوه واقعا وعملا. وإذا رجعنا إلى ما أثر من تفسيرهم للقرآن الكريم لوجدنا أنه نوع من التفسيرات اللغوية، أو شرح لبعض الجمل والتراكيب، بالإضافة إلى بيان المناسبات ونحوها مما يتصل بالأماكن والوقائع والأعلام وبعض الأحكام، والذي كانوا يجدون فيه ما يكفي لرفع قارئ القرآن إلى مستوى إدراكهم وتحسّسهم للغرض الأساسي من القرآن الكريم، بدليل أن ابن عباس- رضي الله عنهما- لم يؤثر عنه، وقد دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، لم يؤثر عنه في تفسير القرآن إلا نحو من مائة أثر أو مسألة كما قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه-. وهذا قدر قليل جدا من ترجمان القرآن إذا ما قسناه بالمطولات وكتب التفسير التي دونت فيما بعد. ولهذا: كان اختلاف الصحابة والسلف في التفسير اختلاف تنوع لا اختلاف

تضاد، كما لاحظ ابن تيمية- رحمه الله- (¬1) ولهذا أيضا كانت كتب تفسير القرآن في مرحلة نشأتها كتبا شارحة للغريب، لأن من الراجح أن سبيل التفسير في ذلك العصر القريب من عصر التنزيل كان يستوي بمثل هذا الشرح. ومن هنا كانت هذه الأسماء: «غريب القرآن» و «معاني القرآن» و «مجاز القرآن» أو استعملت في عرف المتقدّمين مترادفة أو كالمترادفة. أما فيما وراء ذلك، فالقرآن الكريم النابض بالحياة، المبدّل للنفوس والعقول، والذي أوجد ذلك الجيل، وأوجد هذه الأمة- وفي العصور الأولى على وجه الخصوص- هذا القرآن لا يمكن تحصيل معانيه من خلال تراث الصحابة- رضوان الله عليهم- في تفسير القرآن، وإنما ينبغي تحصيله- لمن قدر على ذلك- من خلال ذلك التمثل الكامل للقرآن، والذي تجلى في حياة الصحابة وسلوكهم وفهمهم عن الله سبحانه، ومن خلال روحهم العظيمة تلك التي سرت في العالم فأحيت موات النفوس، ونشرت دوارس العقول، ووصلت الخلق بالخالق بحبله المتين، ونوره المبين ... هذا القرآن الكريم. بل ينبغي تحصيل هذا التفسير، قبل ذلك، من خلال السيرة النبوية الشريفة وخلق النبيّ الكريم- صلوات الله عليه وسلامه- .. هذا الخلق الذي كان الصورة العملية الكاملة للقرآن الكريم، كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها-، وقد سئلت عن خلقه- عليه الصلاة والسلام- فأجابت بتلك الكلمة العبقرية الفذّة: «كان خلقه القرآن!» ولهذا صح لعلمائنا السابقين- رحمة الله عليهم أجمعين- ما قالوه في تعريف التفسير بالمأثور من أنه «ما أثر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة- والتابعين- تفسيرا للقرآن الكريم» ولكن ما أثر عنهم- كما رأيت- لا ينبغي أن يكون مقصورا على الأقوال، بل يجب أن يتعداه أو يسبقه، إلى السلوك والأعمال. ¬

_ (¬1) انظر مقدمته في أصول التفسير، نشر دار القرآن الكريم ص 38.

ثانيا - المفسرون والغرض الأساس للقرآن الكريم:

ولهذا لم يشتغل جميعهم بكتابة تفسير القرآن، ولعلّ من اشتغل به منهم كان يرى أن جلاء تلك المفردات أو الكلمات، وبيان تلك الشروح والمناسبات كاف لرفع قارئ القرآن إلى مستوى إدراكهم هم، وتحسسهم للغرض الأساس العملي لكتاب الله الكريم. على أننا حين نقرر هذا كقاعدة عامة نقيّم بها ما ورد عن الصحابة والتابعين في تفسير القرآن لا نعني فتحا لمجال الترخص بإهمال ما ورد عنهم، وإهمال آرائهم وأقوالهم- وهم أدرى الناس به لما شهدوه وعاصروه، ولما اختصوا به من المنازل والأحوال- وإنما نعني أن ما ورد عنهم من الأقوال لا يكفي وحده للوقوف على فهمهم العميق للقرآن، والذي لم يدوّنوه بأقلامهم- رضي الله عنهم-، أما الاستظهار بما ورد عنهم، والاستفادة من أقوالهم وتعليقاتهم فأمر لا يستغني عنه من أراد فهم القرآن وتفسيره من جديد! ثانيا- المفسّرون والغرض الأساس للقرآن الكريم: ومن المعلوم أن شيخ المفسرين والمؤرخين الإمام أبا جعفر محمد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 310 هـ) قد ضمّ كتابه في التفسير «والموسوم بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، والمشهور بتفسير الطبري» أو اشتمل على تفسير الصحابة والتابعين وغيرهم من عصور السلف الأولى، أو القرون المشهود لها بالخيرية والفضل. ولكن تفسير الطبري ينطوي كذلك على ما يسمى بالتفسير بالرأي؛ يظهر ذلك على أجلى ما يكون في اختيارات الطبري نفسه، وترجيحاته، وما يذهب إليه في تفسير الآية أو الآيات؛ لأن هذه الاختيارات والآراء تجاوزت الرواية المأثورة إلى ما هو أعم وأوسع؛ كل ذلك على ما تقتضيه اللغة والشريعة وأصول التفسير. ولهذا يعتبر تفسير الطبري أول خطوة هامة أو أبرز خط في السلّم البياني الذي يمكن رسمه لتاريخ التفسير، لا يضارعه في ذلك سوى تفسير بقيّ بن مخلد الأندلسي (المتوفى سنة 276) كما ذهب إلى ذلك ابن بشكوال، وقطع به ابن حزم

- رحمه الله- وسواء أكان هذا أم ذاك، فهما يمثلان هذه المرحلة على كل حال. ثم تلت بعد ذلك معالم بارزة وخطوط عريضة لعلها تتمثل في تفسير الزمخشري (المتوفى سنة 528) وابن عطية (ت 541) والرازي (ت 606) ثم في تفسير القرطبي (ت 671) وأخيرا في تفسير الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت 774) (¬1) الذي يمثل علامة بارزة في ذلك الخط البياني حتى العصر الحديث. ولسنا هنا في معرض تقييم هذه التفاسير، أو سواها، وبيان مزاياها وأهميتها، ولكننا في معرض بيان القيمة الأساسية أو العامة لهذه التفاسير، وما الدور الذي قامت به في رسم الصورة الصحيحة أو الكاملة للغرض الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله، والذي يتمثل- كما أشرنا- في إقامة الشخصية الإسلامية، وإنشاء جيل على قواعد هذه التربية الربانية تجعله صورة ناطقة عن الحق الذي نزل به القرآن، وبناء أمة لها خصائصها ومزاياها التي تجعل منها خير أمّة أخرجت للناس. ولكن علينا، قبل أن نبحث في تحقيق هذه التفاسير لذلك الغرض، أن نتذكر البيئة التي كان يعيش فيها هؤلاء المفسرون الأعلام، والجو الذي كانوا يتنسمونه وينطلقون منه؛ لأن الجزء الذي أغفلوه من ذلك الغرض كان متحققا من حولهم في مجتمع إسلامي، وشريعة حاكمة، وسلطان إن لم يأخذ نفسه بأحكام الإسلام؛ فإنه لا يستطيع الخروج عليها، فضلا عن استحالة إقدامه على محاربتها، أو تنشئة ¬

_ (¬1) مع ملاحظة تجاوزنا لمجموعة من التفاسير المخطوطة، أو من موسوعات التفسير التي حفل بها القرنان الرابع والخامس- والتي عرّفنا بها في كتابنا: الحكم الجشمي- والتي يأتي في طليعتها: تفسير الخازن لأبي الحسن الأشعري، وتأويلات أهل السنّة لأبي منصور الماتريدي. انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن، للمؤلف ص 51 - 57 مؤسسة الرسالة بيروت 1971 وانظر مقدمتنا لكتاب متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار طبع دار التراث بالقاهرة 1969.

الأطفال على خلافها .. ولهذا كان همّ المفسرين القدامى مصروفا إلى «تثقيف» المسلم، وتقديم القدر الذي يتمكن منه أحدهم، من العلوم والمعارف اللغوية والتاريخية، ونحوها لقارئ التفسير، وبخاصة الأحكام الشرعية التي يخاطب بها المكلف، ومن هنا طال وقوفهم وتشعب أمام آيات الأحكام أكثر من سواها، حتى صارت عماد بعض التفاسير كما هو معلوم. الشخصية المسلمة موجودة، والمجتمع الإسلامي قائم، والقرآن الكريم هو الذي أوجد من الأصل هذا المجتمع وتلك الشخصية .. ثم بقي- وسيبقى- زاد هذا المجتمع ومحوره ودليله. والمفسّرون خلال التاريخ الإسلامي كانوا يقدمون هذا الزاد، ويدورون حول هذا المحور؛ بحيث يمكن القول: إن من أراد أن يؤرخ للحياة العقلية أو الاجتماعية عند المسلمين فعليه أن يفعل ذلك من خلال تفاسيرهم للقرآن الكريم في الاعتبار الأول. والسؤال الآن: هل نجح المفسّرون خلال العصور في تقديم هذا الزاد الكافي أو اللازم للمجتمع الإسلامي، والشخصية الإسلامية؛ ترميما تارة، وإعادة صياغة مرة، وإحياء ونفخا للروح مرة أخرى!؟ في الإجابة عن هذا السؤال أمامنا هنا ملاحظتان نوردهما بعكس ترتيبهما الزماني: الملاحظة الأولى: أن المفسرين على وجه الإجمال بقوا على طريقتهم السابقة في التعامل مع النص القرآني، تثقيفا للمسلم، وإغناء له بأنواع العلوم والمعارف، حتى إن وقوفهم الطويل أمام آيات الأحكام الذي كان له ما يبرره لم يشفع، والمجتمع الإسلامي آخذ في التدهور، وصورة المسلم الفاعل المؤثر آخذة في التشتت والانفعال، لم يشفع بالاتجاه إلى السياق التربوي والأخلاقي والأساس العقائدي الذي وردت فيه تلك الآيات، والذي يشكل «الخلفية» أو القاعدة والمناخ الملائم لدى الفرد المسلم حتى يتقبل هذه الأحكام، أقول: لم يتجهوا إلى هذا السياق ليسلّطوا عليه الأضواء، وليكون موضع المدارسة والبحث والوقوف

الطويل .. بل بقي في الظل! فضلا عن بعض الأخطاء الأخرى التي لا مجال هنا للإفاضة في الحديث عنها في هذه العجالة السريعة. وهذه الملاحظة تبرز مدى المحاكاة والنقل الذي ساد المجتمعات الإسلامية في عصور الركود على وجه الخصوص .. حتى انتهى الأمر إلى مجموعة من الحفظيات يستعرض المفسر من خلالها عشرات الأقوال .. بعيدا عن الصورة القرآنية المحرّكة للنفوس والقلوب والعقول جميعا. حتى إذا صحا العالم الإسلامي على حقيقة أحواله بعيد مداهمة الحضارة الأوروبية الاستعمارية لدياره وعقيدته نهض ليدفع عنه تهمة الجهل بالعلوم الطبيعة والمعارف الإنسانية، وليعيد للشخصية الإسلامية من خلال القرآن الكريم توازنها وفاعليّتها ... إذا به، في أول عهد الصدام، لا يهتدي إلى رسالة القرآن الكبرى، وإلى الغرض الأساس أو الرئيس من نزول الكتاب الكريم، وأنه دستور شامل للحياة الإنسانية، وأنه كتاب هداية وتشريع هدفه إنشاء أمة لها خصائصها ومميزاتها كما قلنا، إذا به لا يهتدي إلى ذلك .. فيضيع البقية الباقية التي انحدرت إلى المفسّرين قبله، أو التي بقوا محافظين عليها، منطلقين في ظلّها، فكتب طنطاوي جوهري (المتوفى سنة 1358 هـ- 1940 م) كتابا في التفسير فيه كل شيء إلا التفسير! ولكن يمكن اعتبار هذا التفسير أول محاولة أخلّت برتابة كتب التفسير قبله، على فساد هذه المحاولة في المنهج وطريقة العرض .. ثم تبعتها في علامة بارزة أخرى- وفي ذلك الخط البياني- تأويلات الشيخ محمد عبده «وتفسير المنار» أو مدرسة المنار التي حاولت، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، في إعادة الوظيفية الاجتماعية للنبوّة الخاتمة في ذلك المناخ الأوروبي والمتغرّب الرافض والمناقض، وشديد الوطأة كما هو معلوم! وقبل أن ننتقل إلى المحاولة الناضجة الأخيرة أو الأكثر نضجا ووعيا، والمتمثلة في «ظلال القرآن»، والتي سنعرض لها بعد قليل.

الملاحظة الثانية: أن حركة التفسير منذ عصر التدوين، أو منذ أن تأصّل الخلاف بين المتكلّمين وأصحاب الفرق، كانت صورة عكست نقاط الخلاف، وكانت في بعض الأحيان استجابة لها، أو محاولة لتأكيدها والانتصار لها، كما يلاحظ ذلك في كتابي الأشعري والماتريدي، وفي كتاب الرازي الذي مثّل من وجه آخر اهتمامات العصر الطبعيّة والفلسفية على منهج لا يمكن وصفه بالأصالة والوحدة، وهذا فضلا عن تفاسير المعتزلة الكثيرة التي انطلقوا فيها من مجموعة من المسلّمات التي أسموها أصولا، وحاولوا حمل الآيات عليها بتأويل قريب مرة، وبعيد مرات أخرى! والواقع أن هذه الصورة تمكننا من تلخيص ملاحظتنا الثانية هذه بأن معظم المفسرين على اختلاف نزعاتهم الكلامية والمذهبية دخلوا إلى النص القرآني- بصورة عامة- بمقرر فكري أو موقف سابق؛ حتى صار ميزان المحكم والمتشابه- على سبيل المثال- متأرجحا بين الآيات الموافقة من حيث الظاهر للمذهب أو المخالفة له (¬1) ... ومن هنا مهّد المتكلمون جميعا الطريق أمام التأويل. ولكن علينا أن نذكر هنا، بكل تأكيد، أن هذا المقرر الفكري المسبق لم يكن شيئا آخر خارجا عن القرآن والحديث، من موروثات أو آثار مترجمة أو منقولة كما يزعم بعض المستشرقين، ولكنه موقف اجتهاديّ نابع من طبيعة اللغة العربية وطبيعة اختلاف الفكر والنظر العقلي، كما يذكر الإمام الغزالي- رحمه الله-. وإذا كان لنا هنا من ملاحظة نعلّل بها عدم اختلاف الصحابة والتابعين في التفسير كما فعل من جاء بعدهم، أو نعلّل بها لماذا كان اختلافهم اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ؛ فإننا نقول: إن مرد ذلك إلى مزيد معرفة وعلم عند الصحابة- رضوان الله عليهم- نظرا لمعاصرتهم للتنزيل، ومشاهدتهم لأحواله، وإدراكهم لطبيعة نصوص القرآن ¬

_ (¬1) راجع كتابنا: متشابه القرآن: دراسة موضوعية.

الكريم ومدلولاتها الدقيقة من خلال السياق والسباق، ومدى مساهمة هذه النصوص في رسم أجزاء الصورة للموضوع القرآني الواحد، الذي ربما توزعت صورته هذه على صفحات وأزمان متباعدة. ولم يكن هذا الفهم المتكامل الجوانب لكتاب الله العزيز، وبخاصة في مسائل الاعتقاد التي ثار حولها الخلاف، هو الأصل أو القاعدة في تفسير الخلف اللاحقين؛ حيث عمدت المدارس الكلامية إلى بعض أجزاء صورة الموضوع الواحد فجعلتها أصلا كاملا- أو مقررا فكريا مسبقا- مما اضطرها إلى إدخال سائر أجزاء صورة الموضوع الواحد في باب التأويل (¬1). ومعنى ذلك أن المقرر الفكري المسبق الذي لم يكن شيئا خارجا عن النص القرآني نفسه، لأن هذه هي حال جميع الفرق والمذاهب التوحيدية في الإسلام؛ لم يحصل- في الوقت ذاته- لأن الخلف كان عندهم في كتاب الله ما ليس عند السلف! أو لأنهم، بعيد انتهاء المد الروحي الأول، تفرّغوا لملاحظة التعارض في بعض النصوص القرآنية، كما زعم أحمد أمين وضرباؤه من النقلة والمترجمين، لأن «مصدر» التعارض هنا أو سببه- فيما نؤكده ونذهب إليه- ليس نصوص القرآن الكريم، ولكنه فهم المفسر أو عقله، أو تجزيئه للصورة القرآنية الواردة في ¬

_ (¬1) فسر بعضهم «الهداية» حيث وردت في القرآن بأنها خلق الإيمان في قلب المؤمن، مما اضطره إلى تفسير قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى بأن معناه هدينا المتقين منهم! كما فسر قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ بأنه لم يرد أن يظلمهم وإن كان أراد أن يظلم بعضهم بعضا؛ لأنه قرر ذلك بناء على المفهوم الإنساني للظلم! وليقرأ من شاء تمحّلات المعتزلة وتأويلاتهم لمثل قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو المتاهات التي يجدها القارئ عند القاضي عبد الجبار في تفسيره لقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... الآية. راجع: الإبانة عن أصول الديانة للأشعري ص 75 وص 89 ط جامعة الإمام بالرياض 1400 هـ. ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبار، بتحقيق المؤلف ص 262 وص 673 - 674 دار التراث بالقاهرة 1969.

ثالثا - الظلال وشروط التفسير المعاصر:

موضوع واحد، أو التي تواردت عليه، بغض النظر عن أسباب هذا التجزي. ثالثا- الظلال وشروط التفسير المعاصر: وإذا ربطنا أخيرا بين هاتين الملاحظتين وبين حديثنا السابق عن التفسير بالمأثور أدركنا الأهمية القصوى لكتابة تفسير للقرآن الكريم يمتاز بثلاثة أمور: الأمر الأول: انطلاقه- أو ملاحظته- للغرض الأساس الذي نزل القرآن الكريم من أجله، والمتمثل- كما قلنا- في إنشاء أمة لها خصائصها ومميزاتها، وتربية جيل على قواعد من التربية الربانية تجعله صورة ناطقة عن الحق الذي نزل به القرآن. كل ذلك بما يتناسب- في هذا العصر- مع انفراط عقد الأمة والدولة الإسلامية، ومع انتقاص الإسلام من أطرافه والعدوان على شريعته وأحكامه في ظل المناخ العلماني السائد الذي فصل في واقع حياة المجتمعات الإسلامية بين (الدين) ونظام الحياة. بل بما يذكّر بظروف نشأة الإسلام الأولى، والمسلمون قلة؛ وأعداء الإسلام يتربصون بهم وبدعوتهم الدوائر؛ وبحيث لا يكون الانطلاق من فكرة تقديم زاد ثقافي للمسلم، بل إعادة صياغته وفقا لمنهج كتاب الله تعالى. الأمر الثاني: تسجيله لمعاني القرآن التي فهمها الصحابة- رضوان الله عليهم-، واستلهموها وعاشوا تطبيقها العملي الذي لم يعرف تفريقا بين النظرية والتطبيق- كما قلنا (¬1) - والتي يمكن الاهتداء إليها- في المقام الأول- في ضوء اختلاف التنوع فيما أثر عنهم من كلام مكتوب. ثم في ضوء الاهتمامات العملية لحركة المجتمع في مواجهة أعدائه .. لتكون كلمة الله هي العليا، كما تتضح في موقف الصحابة- على سبيل المثال- يوم بني قريظة، حين عجل بعضهم صلاة العصر وأخّرها البعض الآخر! ¬

_ (¬1) راجع إضافاتنا السابقة في موضوع تنجيم القرآن.

الأمر الثالث: محاولته تجاوز عصر الخلاف، أو عصر المذهبيّة الفكرية في تفسير القرآن التي وقعت في خطأ المقرر الفكري المسبق كما أشرنا؛ وذلك خضوعا للمدلولات القرآنية المباشرة، أو بصورة مباشرة. على ما يحتاج إليه هذا الأمر من ثقافة واسعة، وحس مرهف، وتمكّن علمي، وتجربة عملية أو نهوض بأعباء الدعوة يؤهل صاحبه- في ظل أوهاق المناخ السابق- لمثل هذا الفهم المتكامل الذي يتخلّص من التجزي أو من أخذ الصورة القرآنية تفاريق! الأمر الذي يعيد للتنزيل العزيز، بملابساته التي أشرنا إليها في مبحث التنجيم، طبيعته في إقامة مجتمع المسلمين ودولة الإسلام، وفي تحدي الكفار والمنافقين وسائر المجتمعات المناقضة الأخرى، بعد هذا الاشتغال الطويل من قبل المفسّرين بالتحديات «الداخلية» التي قامت في المجتمعات الإسلامية عبر تاريخها الطويل. وعندنا أن «في ظلال القرآن» امتاز بهذه الأمور الثلاثة؛ فلم يكن بذلك من أهم المعالم الرئيسة في تاريخ التفسير، فحسب، بل كان كذلك تفسير العصر الذي لا يغني عنه تفسير آخر من تفاسير علمائنا الأوائل- رحمهم الله تعالى-، وجزاهم عن كتابه أحسن الجزاء: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى. ولكن قد يكون من المقدمات الضرورية لفهم الظلال والأخذ عنه- نظرا لضعف السليقة اللغوية في أبناء العصر- دراسة كتاب دقيق في غريب القرآن، كمختصر تفسير الطبري، أو مفردات القرآن للراغب الأصفهاني. أما الأمر الأول فإنه يشكل قاعدة هذا التفسير، ونسيجه المتفرد الخاص، كما هو واضح لأي قارئ شدا طرفا من العلم والمعرفة. وليس إدراك الأمر الثاني في تفسير الظلال بأبعد منالا من إدراك الأمر الأول؛ لأنهما ينبعان من مشكاة واحدة، فقد تمثلت في جيل الصحابة أمة القرآن بكل خصائصها ومميزاتها ... وهذه هي الأمة التي كانت تتراءى لسيد- رحمه الله- من خلال نصوص القرآن الكريم، وهو

(أ) من أخطاء التعامل مع الظلال:

يبنيها لبنة لبنة، وآية آية؛ في السلم والحرب، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي سائر الأوضاع والأحوال. إن معاني القرآن الكريم التي عاشت في نفوس الصحابة والجيل الأول- والتي لم يؤثر عنهم إلا دليلها اللغوي مدونا في كتب التفسير- تمثلها سيد- رحمه الله- وفهمها، والله أعلم، بحسه المرهف، وإيمانه العميق، وثقافته الواسعة، وتجربته الطويلة، وحركته الدائبة في حقل الدعوة والأمة، والمجتمع والناس ... أو على الأقل: استشعرها من خلال هذا كله، واستطاع أن ينقلها بلغته وعباراته على الورق والصحائف! الظلال- إذن- دليل عمليّ مكتوب، إن صح مثل هذا التعبير، إلى المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية، وليس دليلا ثقافيا لعلوم القرآن أو علوم التفسير، أو علوم الثقافة الإسلامية من فقه وأصول وتاريخ جدل أو خلاف! ومن ظن أن هذا هو تعريف «التفسير»، أو أن تقديم ذلك الدليل الثقافي يجب أن يكون مهمة جميع المفسرين في جميع العصور، فليعد على معلوماته بالمراجعة والتحليل، وليعد إلى الغرض الأساس أو الأول من نزول القرآن الكريم بالنظر والتأمل! وليس من حقنا أن نقول في نقد هذا الموقف أكثر من ذلك. (أ) من أخطاء التعامل مع الظلال: والذي نقدره- بهذه المناسبة- أن عدم إدراك هذا الأمر أو هذا الأصل من أصول ظلال القرآن هو الذي أوقع بعض القرّاء في بعض الأخطاء والتصورات المناقضة أو البعيدة عن الصواب؛ فعند ما كان يتحدث سيد- رحمه الله- عن «مواصفات» المجتمع الإسلامي وشروطه؛ عقيدة وتشريعا؛ إيمانا وعملا وسلوكا ... إلخ كان يرسم بذلك- ومن خلال نصوص القرآن الكريم وواقع الأمة الإسلامية وسلوك السلف الصالح- صورة المجتمع الذي يجب علينا العمل والتحرك لقيامه وتحقيقه .. ولم يكن يرسم في الفراغ، كما لم يكن يقدم معلومات أو قضايا نظرية أو فلسفية، بحيث يمكن التحاكم فيها إلى مصطلحات أو مسلّمات

نشأت في عصر من العصور الإسلامية من خلال حركة المجتمع الإسلامي- الذي كان قائما في ذلك الحين- وتفاعل هذا المجتمع مع القرآن والحديث؛ مما نطلق عليه الآن مصطلح «التراث». فإذا كنا هنا، أو في هذا التراث- على سبيل المثال- أمام مصطلحي دار الحرب ودار الإسلام، فليس معنى حديث سيد- رحمه الله- عن المجتمع الجاهلي أن نسارع إلى تخريجه على دار الحرب، وسحب أحكام هذه الدار- التي ذكرها الفقهاء- على هذا المجتمع بحجة أنه ليس دار إسلام فهو إذن دار حرب! ليس هذا ما عناه سيد- رحمه الله-، بل لعل هذا الفهم لكلامه من أسوأ ما يمكن تأويله به أو حمله عليه!. بل لعل هذا الخطأ في الفهم والتأويل- في هذا المثال ونحوه- جزء من خطأ أكبر في التعامل مع الظلال والأخذ عنه، وهو خطأ اعتماد مفهوم المخالفة لكلام المؤلف- رحمه الله تعالى-، والذي لو طرحه القراء والدارسون في فهم كلامه- رحمه الله- لانتهت أكثر المشاكل من أذهان أصحابها والله أعلم. على أن هذا المفهوم ذاته جزء من المشكلة الرئيسة التي ذكرناها قبل قليل، والتي تكمن في الفهم الجامد أو الراكد، والذي يتعامل مع الذهن والنظر على أرض النظريات الثابتة الملامح والسمات! في حين أن صاحب الظلال- عليه الرحمة والرضوان- كان يحاول تصوير حركة البناء في فهم حي متحرك، أو فيما أسماه- رحمه الله-: فقه الحركة، على النحو الذي صورته ودلت عليه الآية القرآنية الكريمة:* وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) [سورة التوبة، الآية 9]. فقد دلت الآية الكريمة على أن الخروج إلى الجهاد هو فقه في الدين،

ودلت كذلك على أن هذا الباب من أبواب الفقه لا يشترط في تحصيله المشاركة العملية فيه من قبل الجميع؛ إشارة إلى أن الأمر ليس كذلك في سائر أبواب الفقه في الدين: عقيدة وشريعة، والله أعلم: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً! ... وليس من شك- ولا ندخل هنا في الشرح والتفصيل كما قلنا- في أن الفرق كان بعيدا جدا بين طريقة تلقي الصحابة- رضوان الله عليهم- لمثل قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية 17] وتفسيرهم له، وتعاملهم معه- وهم يعلمون دورهم ودور النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإعداد والرمي- وبين طريقة المفسرين من أصحاب المذاهب الكلامية في تناول هذه الآية، أو تفسيرهم لقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [سورة الإنسان، الآية 30]. أو لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الرعد، الآية 11]. فنحن هنا- كما قلت- نواجه مشكلة الركود النظري الذي قد يكون مخلّا بالمدلول الدقيق لهذه النصوص، ونواجه تبعا لذلك مشكلة عدم وضع هذا المدلول في مكانه الحقيقي بين الآيات الأخرى التي تواردت على الموضوع ذاته، وعالجته من زواياه الأخرى المختلفة: العملية والنظرية، والتي رسمت صورته الواحدة في القرآن الكريم. وربما أمكننا القول باختصار: إن التلقّي للتنفيذ، أو الصعيد العملي التطبيقي، مراعى فيه البعد الزمني لنزول القرآن الكريم، هو السبب في عدم نشوء هاتين المشكلتين جميعا عند الصحابة والتابعين على وجه العموم. ولهذا، فإننا نقول الآن بتقديم أي تفسير لهذه الآيات القرآنية الكريمة، أو للقرآن الكريم على وجه العموم ينجح معه المفسّر في وضع هذه الآيات في موضعها الصحيح الذي ينفي وقوع الإشكال، ويغنينا- تبعا لذلك- عن اللجوء إلى التأويل، كما ينجح في رسم صورة الوحدة الموضوعية للمسألة الواحدة،

(ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي:

وللسورة القرآنية أيضا، أو ينجح- كما قلنا- في نفي وقوع التعارض في الآيات التي تواردت على موضع واحد .. نقول بتقديم هذا التفسير، لأننا نلمح فيه صورة من صور المقاربة، أو الاتفاق مع ما فهمه الصحابة من القرآن وعملوا عليه- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-. (ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي: وهنا يأتي دور الإشارة إلى النقطة الثالثة، أو الأمر الثالث من مزايا ظلال القرآن، وهو تجاوزه عصر الخلاف، أو عصر المذهبية الفكرية في تفسير القرآن الكريم؛ لأن خطأ المقرر الفكري المسبق إنما كان من قبل ذلك التجزي الذي أشرنا إليه، والذي رفضه صاحب الظلال- رحمه الله-، أو بعبارة أدق: لم يقع فيه، كما لم يقع فيه الجيل القرآني الأول كما قدمنا. وهذا مما دعانا إلى المقارنة أو الدعوى السابقة بأن سيدا- رحمه الله- استشعر معاني القرآن كما عاشت في نفوس ذلك الجيل الفريد، ونقلها أو عبر عنها بلغته العالية على الورق والصحائف، والله أعلم. وتحسن الإشارة هنا- بهذه المناسبة- إلى الخطأ الشنيع الذي يقع فيه بعض القراء والدارسين، وبخاصة ممن شدا شيئا من علمي التفسير والخلاف؛ حين يحاكمون الظلال إلى الصورة الكلامية التي انتهت إليهم، أو تلقوها ونشئوا عليها وآمنوا بها .. سواء في ذلك الصورة الأشعرية- وقد تكون أقرب المذاهب الكلامية من الصورة القرآنية الكاملة، من حيث النتائج لا من حيث المنهج- أو الاعتزالية، أو صورة المرجئة أو الخوارج أو الماتريدية ... بحيث إن لم يدخل سيد- رحمه الله- في باب التأويل لبعض النصوص أو إن خرج عن مدلول المذهب الأشعري في بعض المواقف؛ ظن القارئ أنه وافق الخوارج في تفسير بعض الآيات، والمعتزلة في تفسير بعض الآيات الأخرى .. كما صرح بذلك بعض من نظر في الظلال من العلماء والدارسين!! والذي نرجّحه أنهم إنما طلبوا تفسير هذه الآيات،

أو نظروا في بعض صفحات الكتاب، وحاكموا الأمر إلى ما استقر عندهم لا ما دلت عليه الآيات القرآنية بسياقها وسباقها، وموضعها من سائر أجزاء الصورة القرآنية؛ وبطريق الفهم المبتدأ أو الخضوع المباشر للآيات القرآنية بعيدا عن التعمل والتأويل!! ونحن نقول هنا بوضوح كامل: إن آراء رجال المذاهب الكلامية ليست أصلا تفسّر في ضوئه نصوص القرآن! وليست مقرراتهم الفكرية المسبقة مقدّمات ضرورية لفهم القرآن، علما بأن هذه المقررات ليست إلا فهما مجزّأ للنص القرآني! إن الأصل عندنا لا يصير فرعا، والفرع لا ينقلب أصلا!! إن سيدا- رحمه الله- لم يذهب مذهب الخوارج في مسألة، ولا رأي المعتزلة في مسألة أخرى، ولا رأي المرجئة في مسألة ثالثة- وهؤلاء جميعا وقعوا في خطأ التجزي، وخطأ التعصب للرأي المبني عليه، وليسوا على التحقيق كفارا ولا زنادقة كما نعتقد، وندين به أمام الله سبحانه وتعالى! - ولكنه كان يدخل إلى تفسير النص القرآني الكريم، بتلك الثقافة العالية، وذلك الإحساس المرهف، وتلك التجربة العملية الناضجة في حقل إقامة أمة القرآن، وإعادة صياغة المسلم وفقا لمنهج الله مرة أخرى، .. وكان يفسر النص القرآني الكريم ويستلهمه لينطق بما يدل عليه- لا بما يريد المفسّر أن ينطقه به هو بناء على مقدماته السابقة- فإن صادف أن هذا المدلول المباشر ذهب إلى مثله مرجئ أو معتزلي- مثلا- فهذا تفسير للقرآن، أو مدلول من مدلولاته، وليس اعتزالا أو إرجاء أو غير ذلك مما يظنه بعض القراء والدارسين!! ومن العجيب حقا أن يتجاوز مفسر مثل سيد- رحمه الله- مثل ذلك المدلول المباشر لآية قرآنية، ويسلك فيه سبيل التأويل؛ خشية أن يطابق هذا المدلول رأيا مغايرا لرأي الأشعري أو الماتريدي ... كأن القوم معصومون عن الخطأ في الفهم، أو كان رأيهم هو الأصل الذي يجب أن تؤول الآيات لتطابقه ولا تخالفه! إن هذا الموقف يمثل عندنا تعصبا مقيتا لا نتردد في تجاوزه ورفضه، وإن

من العجيب حقا أن يستنكر بعض الناس التعامل المباشر مع القرآن لمن يقدر على ذلك! .. فضلا عمن حلّ كثيرا من معضلات التاريخ، ونفى عن القرآن الكريم ظن التعارض الذي ألجأ السابقين إلى التأويل، وفي أدق قضايا العقيدة وغيرها كذلك. ولا نعني بذلك أن هذا التفسير خلو من الأخطاء أو أنه لا تفسير بعده! أما هذه- الثانية- فلأن هذا يتعارض مع كون القرآن الكريم كتاب جميع العصور، وأن أبناء كل جيل واجدون من المعاني والدلائل ما لم تكن الأجيال السابقة قد تنبّهت إليه أو وقفت عليه (¬1). وأما الخطأ في الشرح والتفسير، أو في الفهم والتعبير (¬2)؛ فذلك لا سبيل إلى إنكاره في هذا التفسير أو في غيره من التفاسير. وربما كان من المفارقات الجديرة بالتأمل- فيما نرجح- أن ما أخذه سيد نفسه على من دخل إلى تفسير القرآن ¬

_ (¬1) ولهذا قلنا في بعض بحوثنا اللاحقة إن «المعاصرة» بالنسبة للقرآن- على الرغم من نزوله في زمن أو تاريخ معين- تتمثل في لحظة تلقي الخطاب: يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا ... لأن هذا الخطاب قائم ومستمر. انظر: «التوجيه الإسلامي للعلوم والمعارف» للمؤلف ص 49 مؤسسة الرسالة 1412 هـ 1992 م بيروت. (¬2) يأتي فهم «عقيدة القرآن» بهذا العمق والتنزيه، والتعبير عنها على هذا النحو من السلاسة والوضوح، من أبرز ما وفّق إليه سيد قطب في تفسيره الكبير. ويتبين لنا ذلك من خلال أدنى مقارنة بين هذه العقيدة وعقائد المتكلمين، أو سائر ما يمكن تسميته: تاريخ الفكر العقائدي عند المسلمين. وقد تركت هذه العقيدة أثرها على سيد رحمه الله في السلوك والأعمال ومواقف الحياة! ومع ذلك، فإن عبارة هنا، وكلمة هناك .. حين تفرد من سائر كلامه في الشرح والتفسير، قد تكون موهمة بعض الشيء (انظر كلامه عن أحدية الوجود في تفسير سورة الإخلاص ص 4002) ولكن التدقيق في جملة كلامه في الموطن ذاته، ثم معارضته بسائر ما كتبه في تفسيره رحمه الله- إن كان ثم ضرورة لمثل هذه المعارضة! - تنفي أي لبس أو إيهام. ولكن قد لا تنفيه مع الجهالة وسوء الظن أو ضيق العطن!

(ج) الظلال والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية:

بمقرر فكري مسبق- في قضايا الفكر والاعتقاد، وربما في مسائل الفقه والتشريع في بعض الأحيان- وقع هو فيه في باب الحركة نحو إقامة مجتمع الإسلام ودولة الإسلام؛ حين اتسع في مفهوم الجاهلية، وحين شرح رأيه- في مواطن كثيرة- في كيفية مقاومتها وزحزحتها عن مواقع القيادة والتأثير. ويبدو أن منهجه الحركي في هذا كله، أو بوجه عام، والذي ترك ظلاله على فهمه للآيات، كان متأثرا بظروف المحنة التي تعرّض لها في طريق مجاهدته الطويلة والمريرة .. رحمه الله تعالى، وتقبّل منه، وأحسن جزاءه، وأعلى مقامه مع الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. (ج) الظلال والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية: ولعل هذه المناسبة من أصلح المناسبات للإشارة إلى أن سيدا- رحمه الله تعالى ورضي الله عنه-، لم ينجح في القضاء على ذلك التجزي والدخول إلى النص القرآني بمقرر فكري مسبق، ومن ثمّ تقديم صورة الموضوع الواحد متكاملة متوازنة متناسقة لا تعارض فيها ولا إشكال .. أقول: لم ينجح في هذا فحسب، بل لعله كذلك أول مفسّر في تاريخ القرآن الكريم أبرز الوحدة الموضوعية في السورة القرآنية المفردة طالت أم قصرت! أبرزه بشكل عملي مكتوب، أو طبقه أفضل تطبيق عرفته المكتبة القرآنية حتى الآن. والذين سبقوا سيدا من المفسّرين، منهم من لم يلاحظها ولم يسلّم بوجودها، ومنهم من ذهب إلى القول بها، ولكنه لم يبلغ في إخراجها أو تطبيقها حدّ التوفيق، أو درجة الإقناع! ثم جاء سيد ليؤكد على هذه الوحدة المحورية في السورة الواحدة، وليضع أيدينا بعد ذلك برفق وسهولة ولين على وجه الانتقال من موضوع إلى موضوع. ولعل سر نجاح سيد- رحمه الله- في ذلك يعود إلى ملاحظته أن بناء الإنسان في القرآن الكريم يقوم على قاعدة الفكر والاعتقاد، أو يعتمد على العقيدة وينطلق منها، وأن سلوكه وتصرفاته العملية هي الثمرة الطبيعية لإحكام هذا الجانب أو الأساس الفكري والعقدي. هذا

(د) طريقته في التأليف:

الربط الواضح بين الفكرة ومقتضياتها العملية، وبين العقيدة ولوازمها السلوكية هو ما لاحظه سيد- رحمه الله- في القرآن، وأكد عليه- من ثم- في التفسير ولذلك نجد- على سبيل المثال- أن وقوفه عند الآيات المكية كان أطول من وقوفه عند الآيات المدنية أو آيات الأحكام، وأنه قد كثرت عنده في آيات العقيدة: الإشراقات واللمحات، والنتائج والأحكام والتحليلات. كما نجده يعطي لكل سورة شخصيتها المتميزة، وملامحها الواضحة؛ في الوقت الذي شدّد فيه النكير على من ينتزع آية من القرآن الكريم ويسلخها عن السياق الذي ذكرت فيه، سواء أكانت من آيات العقائد أم من آيات الأحكام، وإن كانت الخطورة في آيات العقيدة أشد! لأن النصوص التشريعية قد لا يختلف معناها أو مدلولها من حيث هي قانون أو أحكام، وإن كان قطعها عن إطارها التربوي والأخلاقي مخلا أو غير محمود الأثر. أما نصوص العقائد فالاختلاف في معناها مع ذلك القطع والسلخ- وبخاصة وهي نصوص تفصيلية كثيرة، وليست كآيات الأحكام- أشد وأخطر! كمن احتج، مثلا، على مذهبه في مسألة «خلق الأفعال» - كما دعيت- بقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ! علما بأن الآية الكريمة جاءت على لسان سيدنا إبراهيم في الاحتجاج على قومه حين وجدهم يعبدون الأصنام التي نحتوها بأيديهم: قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) [سورة الصافات، الآيتان 95 - 96]؟! ولم تأت في سياق الحديث عن التكليف وأفعال العباد- بغض النظر عن مذاهب المتكلمين في هذه المسألة- وإلا لكانت الآية حجة لعباد الأصنام لا حجة عليهم!! (د) طريقته في التأليف: وأخيرا فإننا نحب أن نؤكّد ملاحظاتنا العامة هذه حول الظلال، وبخاصة رفض سيد- رحمه الله- الدخول إلى النص القرآني بمقرر فكري مسبق- أيا كان أثر هذا المقرّر ضعيفا أو معوّقا عن الفهم المباشر عن القرآن، ولو بأقل درجات

الخدش والتأثير-! نحب أن نؤكد ذلك بالإشارة إلى طريقته التي كان يفسّر بها القرآن الكريم، والتي كانت تقوم على مرحلتين: الأولى: قراءته للسورة القرآنية كاملة عدة مرات، وربما عاود قراءتها والنظر فيها يوما بعد يوم، حتى يهتدي- رحمه الله- إلى موضوعها الرئيس، ومحورها العام الذي تدور حوله آياتها، وسائر موضوعاتها الفرعية الأخرى .. حتى إذا اهتدى إلى ذلك، وفتح الله تعالى عليه به عكف على تفسيرها بأقل قدر ممكن من الجلسات، ولو أمكنه أن يفعل ذلك في مقام واحد لفعل .. ويتبع في تفسيره بطبيعة الحال ما تهديه إليه ثقافته وفهمه وشفافية روحه وحسه اللطيف المرهف ... إلى آخر العناصر الأخرى التي أشرنا إليها في موضع سابق من هذا الفصل، ونؤكد هنا على معرفة سيد قطب- رحمه الله- الواسعة باللغة والأدب، والبلاغة والنقد .. بل نبوغه وعبقريته في هذا الباب الأخير، وأعني باب النقد الذي احتل فيه سيد في هذا العصر مقعد الإمامة والتوجيه .. ذوقا وعلما وقدرة فائقة على تحليل النصوص! ولعل المولى سبحانه وتعالى قد ادخر ذلك كله لسيد حتى يكشف عن الكثير المخبوء من نظم السور وإعجاز القرآن. حتى إذا فرغ من تفسيرها جاءت المرحلة الثانية، وهي النظر في كتب التفسير؛ يستدرك بها سببا من أسباب النزول، أو يوضح من خلالها مسألة من مسائل الفقه، أو يستشهد منها بحديث أو رواية صحيحة وردت في تفسير بعض الآيات- وربما مال إلى ترجيح رواية على أخرى مساوية أو مقاربة لها في درجة الصحة من خلال آفاق النص ونظمه، أو لارتباطه الأوثق ببعض مواقف السيرة وحياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما لاحظنا. ولست هنا في معرض ذكر الأمثلة والشواهد. وتكفي هذه النقطة أو المرحلة الثانية للدلالة على حرص سيد- رحمه الله- على عدم التأثر المسبق بأي لون من ألوان التفسير والتأويل، من جهة، كما تكفي للدلالة على حرصه في الوقت ذاته على عدم الخروج عن الروايات الصحيحة في

(هـ) تفسير وتفسير!

التفسير بالمأثور .. وأذكر- والله أعلم- أن هذه الإضافات والتوضيحات قلّما بنى عليها تعديلا أو تغييرا واسعا لتفسير بعض الآيات على النحو الذي سبق له تدوينه وكتابته (¬1). (هـ) تفسير وتفسير! وبعد، فإن هذا الدليل العملي المكتوب، والذي جمع هذه المزايا التي تحدثنا عنها، قد بلغ ذروته في هذه وتلك يوم مهره سيد- رحمه الله- بدمه الزكيّ الطاهر، وليقرأ من شاء ما وقف عنده وأشار إليه في تفسيره لسورة البروج، وليلاحظ بعد ذلك تخطي هذا التفسير كل ما يعيق وصول معاني القرآن القريبة والفاعلة إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ على اختلاف مذاهبهم وآرائهم وانتماءاتهم التاريخية، حتى جاء تفسيره لكلام الله تعالى أشبه ما يكون بالجدول المنساب المترقرق الذي يأخذ طريقه إلى الحقول والمزارع وديعا ساكنا مطمئنا .. ليخرج نباتها الطيب بإذن ربها، ولتنبت أجيال القرآن نباتا حسنا تعيد سيرة أجيال القرآن الأولى إن شاء الله. ومن يدري؟ فلعل هذا القبول الذي كتبه المولى سبحانه لهذا التفسير يعود إلى هذا الذي ذكرنا، وإلى أن سيدا- رحمه الله- قد كتب تفسيره مرّتين: مرة بمداد العالم، وأخرى بدم الشهيد! حروف القرآن نور .. ودماء الشهداء نور .. و «ظلال القرآن» نور على نور. ¬

_ (¬1) راجع مجلة «حضارة الإسلام» الدمشقية العدد الأول ص 34 السنة العشرون شباط (فبراير) 1979.

الفصل الخامس من ألوان التفسير المعاصر

الفصل الخامس من ألوان التفسير المعاصر سورة «الفجر» بسم الله الرّحمن الرّحيم وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) «صدق الله العظيم». هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا [الجزء] الأخير في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر. ولكنها تتضمن ألوانا شتى

من الجولات والإيقاعات والظلال، ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدّد النغمات موحد الإيقاع! في بعض مشاهدها جمال هادئ رقيق ندي النسمات والإيقاعات، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد ... وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. وفي بعض مشاهدها شدّ وقصف، سواء مناظرها أو موسيقاها، كهذا المشهد العنيف المخيف: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى. يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ. وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض، وطمأنينة، تتناسق فيها المناظر والأنغام كهذا الختام: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي. وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين، وإيقاعها بين بين، بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية. وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ... ».

ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات. وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم: كَلَّا* بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا. ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم، فقد جاء بعده كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ... فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير! ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة. وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها. كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي بحسب تنوع المعاني والمشاهد، فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس! فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل فنعرضها فيما يلي بالتفصيل: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ. هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيفة. وَالْفَجْرِ ساعة تنفس الحياة في يسر وفرح، وابتسام وإيناس ودود نديّ، والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا، وكأن أنفاسه مناجاة، وكأن تفتّحه ابتهال. وَلَيالٍ عَشْرٍ أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى ... قيل هي العشر من ذي الحجة، وقيل: هي العشر من المحرّم، وقيل: هي العشر من رمضان. وإطلاقها هكذا أوقع وأندى. فهي ليال عشر يعلمها الله، ولها عنده شأن.

تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة. وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف! وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب، جو الفجر والليالي العشر ... «ومن الصلاة الشفع والوتر» - كما جاء في حديث أخرجه الترمذي- وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة، بروح الوجود الساجية! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة. وروح الفجر الوضيئة. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ... والليل هنا مخلوق حي، يسري في الكون، وكأنه ساهر يجول في الظلام! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة! يا لإناقة التعبير! ويا لأنس المشهد! ويا لجمال النغم! ويا للتناسق مع الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر! إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي أنسام من أنسام الفجر، وأنداء مشعّة بالعطر! أم إنه النجاء الأليف للقلب؟ والهمس اللطيف للروح؟ واللمس الموحي للضمير؟ إنه الجمال .. الجمال الحبيب الهامس اللطيف .. الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية اللطيفة. لأنه الجمال الإبداعي، المعبّر في الوقت ذاته عن حقيقة. ومن ثم يعقب عليه في النهاية: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؟ وهو سؤال للتقرير. إن في ذلك قسما لذي لبّ وعقل، إن في ذلك مقنعا لمن له إدراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام- مع إفادتها التقرير- أرق حاشية، فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق! أما المقسم عليه بذلك القسم، فقد طواه السياق ليفسره ما بعده، فهو موضوع الطغيان والفساد، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ؟ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي

الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ؟ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ. وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ابتداء، ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه، ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة. وإضافة الفعل إلى «ربك» فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة. وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة وعسف الجبارين من المشركين، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد. وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم. مصرع: «عاد إرم» وهي عاد الأولى. وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن. وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد. وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ في ذلك الأوان وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ .. وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام. وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ .. وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان. وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار. هؤلاء هم الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ .. وليس وراء الطغيان إلا الفساد، فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء، كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة، ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف المعمر الباني إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال.

إنه يجعل الطاغية أسير هواه، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت، ولا يقف عند حد ظاهر، فيفسد هو أول من يفسد، ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف، وكذلك قال فرعون أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى عند ما أفسده طغيانه، فتجاوز به مكان العبد المخلوق، وتطاول به إلى الادعاء المقبوح، وهو فساد أي فساد. ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء، مع السخط الدفين، والحقد الكظيم، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية. والنفس التي تستذل تأسن وتتعفّن، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة. وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك. وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع، وهو فساد أي فساد ... ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة، لأنها خطر على الطغاة والطغيان. فلا بد من تزييف للقيم، وتزوير في الموازين، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة، وتراها مقبولة مستساغة .. وهو فساد أي فساد! فلما أكثروا في الأرض الفساد، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ! ... فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم؛ فلما أن كثر الفساد وزاد صبّ عليهم سوط عذاب. وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب، حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد! ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان. ومن قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تفيض طمأنينة خاصة. فربك هناك راصد لا يفوته شيء، مراقب لا يندّ عنه شيء. فليطمئن بال المؤمن، فإن ربه هناك! .. بالمرصاد .. للطغيان والشر والفساد!

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ .. يرى ويحسب ويجازي، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء. فأما الإنسان فتخطئ موازينه، وتضل تقديراته، ولا يرى إلا الظواهر، ما لم يتصل بميزان الله. فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ: رَبِّي أَهانَنِ ... فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال، ومن بسط وقبض، ومن توسعة وتقدير ... يبتليه بالنعمة والإكرام، بالمال أو المقام. فلا يدرك أنه الابتلاء تمهيدا للجزاء، إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلا على استحقاقه عند الله للإكرام، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره، فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك، ويحسب الاختبار عقوبة، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه ... وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير. فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده، ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر، ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر، والجزاء على ما يظهر منه بعد. وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء. وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا، ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض. فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح. ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعوّل؛ إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي. والمعوّل عليه هو نتيجة الابتلاء! غير أن الإنسان- حين يخلو قلبه من الإيمان- لا يدرك حكمة المنع والعطاء، ولا حقيقة القيم في ميزان الله .. فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنا لك. وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء، فعمل له في البسط والقبض سواء. واطمأن إلى قدر الله به في الحالين، وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء!.

كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ... كلا ليس الأمر كما يقول الإنسان الخاوي من الإيمان. ليس بسط الرزق دليلا على الكرامة عند الله، وليس تضييق الرزق دليلا على المهانة والإهمال. إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء، ولا توفون بحق المال؛ فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد حاميه وكافله حين فقد أباه، ولا تتحاضون فيما بينكم على إطعام المسكين: الساكن الذى لا يتعرض للسؤال وهو محتاج، وقد اعتبر عدم التحاضّ والتواصي على إطعام المسكين قبيحا مستنكرا. كما يوحي بضرورة التكافل في الجماعة في التوجيه إلى الواجب وإلى الخير العام، وهذه سمة الإسلام. ... إنكم لا تدركون معنى الابتلاء. فلا تحاولون النجاح فيه، بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين، بل أنتم- على العكس- تأكلون الميراث أكلا شرها جشعا، وتحبون المال حبا كثيرا طاغيا، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام. وقد كان الإسلام يواجه في مكة حالة التكالب على جمع المال بكافة الطرق، تورث القلوب كزازة وقساوة. وكان ضعف اليتامى مغريا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث في صور شتى. وبخاصة ما يتعلق بالميراث، كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام، وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان! حتى الآن. وفي هذه الآيات، فوق الكشف عن واقع نفوسهم، تنديد بهذا الواقع، وردع عنه يتمثل في تكرار كلمة «كلا»، كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه. وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه.

وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا! .. وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته، بعد الابتلاء ونتيجته في إيقاع قوي شديد: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ. ودك الأرض: تحطيم معالمها وتسويتها، وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة. فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الأرض، ولكنا نحس وراءه التعبير بالجلال والهول! كذلك المجيء بجهنم: نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى. فأما عن حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم. إنما يرتسم من وراء هذه الآيات، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم، الشديدة الأسر، مشهد ترجف له القلوب، وتخشع له الأبصار. والأرض تدك دكا دكا! والجبار المتكبر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل، ويقف الملائكة صفا صفا. ثم يجاء بجهنم متأهبة هي الأخرى!! يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ .. الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء، الذي أكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جما، والذي لم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، والذي طغى وأفسد وتولى ... يومئذ يتذكر. يتذكر الحق ويتعظ بما يرى، ولكن قد فات الأوان وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى .. ولقد مضى عهد الذكرى، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحدا! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا!.

وحين تتجلى له هذه الحقيقة: يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي .. يا ليتني قدمت شيئا لحياتي هنا، فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة، وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها. يا ليتني .. أمنية فيها الحسرة الظاهرة، وهي أقصى ما يملكه الإنسان في الآخرة! ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ .. إنه الله القهار الجبار، الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد. والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد. وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله. ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم، أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم، وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثّلين في عاد وثمود وفرعون، وإكثارهم من الفساد في الأرض مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال. فها هو ذا ربك- أيها النبيّ وأيها المؤمن- يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم. ولكن شتان بين عذاب وعذاب، ووثاق ووثاق ... وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر، وجلّ ما يفعله صاحب الخلق والأمر. فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون، فسيعذبون ويوثقون عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون!! وفي وسط هذا الهول المروع، وهذا العذاب والوثاق، الذي يتجاوز كل تصور تنادى «النفس» المؤمنة من الملأ الأعلى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ... هكذا في عطف وقرب «يا أيتها» وفي روحانية وتكريم «يا أيتها النفس» ..

وفي ثناء وتطمين «يا أيتها النفس المطمئنة» وفي وسط الشد والوثاق، الانطلاق والرخاء: «ارجعي إلى ربك» ارجعي إلى مصدرك بعد غربة الأرض وفرقة المهد. ارجعي إلى ربك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة .. «راضية مرضية» بهذه النداوة التي تفيض على الجو كله بالتعاطف والرضى .. «فادخلي في عبادي» .. المقربين المختارين لينالوا هذه القربى «وادخلي جنتي» .. في كنفي ورحمتي ... إنها عطفة تنسم فيها أرواح الجنة .. منذ النداء الأول: «يا أيتها النفس المطمئنة» ... المطمئنة إلى ربها .. المطمئنة إلى طريقها .. المطمئنة إلى قدر الله بها .. المطمئنة في السراء والضراء، وفي البسط والقبض، وفي المنع والعطاء .. المطمئنة فلا ترتاب، والمطمئنة فلا تنحرف، والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق، والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول الرعيب! ثم تمضي الآيات تباعا تغمر الجو كله بالأمن والرضى والطمأنينة، والموسيقى الرخيّة النديّة حول المشهد ترف بالود والقربى والسكينة. ألا إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية، تطل من خلال هذه الآيات .. وتتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن 29/ 152 - 160.

سورة"العاديات"

سورة «العاديات» بسم الله الرّحمن الرّحيم وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) * أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11). أولا- المعنى الإجمالي للسورة: والخيل التي تعدو عدوا يسمع منها صوت أنفاسها فتوري النار بحوافرها، إذ تغير في الصباح فتثير الغبار فتتوسط جماعة العدو. إن الإنسان كفور بنعمة ربه وعالم بذلك من نفسه، وهو شديد الحب للمال، أفلا يعلم ويتصور كيف تكون حاله حين تثار القبور ويخرج من فيها، وتجمع حصائل الأعمال من الصدور، إن ربهم يومئذ عليهم بأعمالهم وسيحاسبهم عليها. ثانيا- أقسام السورة وموضوعها الرئيسي: يمكن أن نقسم السورة بحسب مضمونها إلى أقسام ثلاثة وخاتمة أو نتيجة: أما القسم الأول: فهو مشهد من مشاهد صراع الإنسان في هذه الحياة للتسلط وكسب المال، مشهد فرسان يغيرون على جماعة أخرى ليأخذوا مالها ويتسلطوا عليها. ولئن جاء هذا الصراع هنا في صورة غزوة من الغزوات التي عرفها العرب

وألفوا أمثالها، فإن هذه الصورة ترمز إلى جميع أنواع العدوان في ميادين الصراع بين البشر الذي يكون الاعتداء طريقه، والتسلط والسلب غايته! وأما القسم الثاني: فهو تحليل سريع موجز لنفسية الإنسان: إنه شديد الحب للمال، كفور بنعمة الله، وهو يعرف ذلك من نفسه. وإن حبه هذا الشديد للمال، مع الغفلة عن تذكر المنعم وشكره، هو الذي يدفعه إلى الاعتداء على الآخرين، ولو كان ذاكرا لنعمة الله لصدّه ذلك عن الاعتداء على عباده! والقسم الثالث: إهابة وتنبيه وتذكرة بالمصير بعد الفناء؛ إذ يبعث البشر من قبورهم وتجمع حصائل الأعمال من الصدور التي هي كناية عن النيّات والدوافع التي بها تقاس الأعمال إن كانت خيرا أو شرا. وتختتم الأقسام الثلاثة بهذه الآية التي هي آخر المراحل: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ. فمن صراع في هذه الحياة التي يعيش فيها الإنسان مدفوعا بدافع من حب المال وفي غفلة عن تذكر الخالق المنعم، إلى موت يعقبه بعث وحساب على الأعمال والنيّات حيث يكون المحاسب هو الله الخبير بأحوال العالم، وبأعمالهم، المطلع على نيّاتهم. إن هذا النص كما ترى غني بمشاهده وأفكاره بالنسبة إلى قصره وإيجازه، ولكن الفكرة الأساسية التي يبدو أنها هي المقصودة من السورة هي الفكرة المتجلية في الآية الأخيرة والتي نستطيع أن نلخصها في قولنا، إنها (مسئولية الإنسان العظمى أمام الخالق بعد هذه الحياة) وكل ما تقدمها من مشاهد وأفكار كان وسيلة للوصول إليها وتثبيتها في الفكر والقلب ... وإن فكرة مسئولية الإنسان العظمى هذه من الأفكار، بل العقائد الأساسية التي تضمنها القرآن، وكررها في أشكال وصور متنوعة كثيرة، وجعلها ركيزة أساسية في نظامه الأخلاقي والتشريعي، وجزءا من فلسفة الحياة التي جاء بها.

ثالثا - خصائص النص الفكرية:

ثالثا- خصائص النص الفكرية: 1 - تبدو في النص وحدة موضوعية واضحة تدور حول فكرة المسئولية. 2 - ولذلك كان بين أجزاء النص ارتباط وتسلسل، فمن مشهد الغزو، إلى تحليل العوامل النفسية الدافعة، إلى النهاية والمصير، فالحساب والمسئولية. 3 - ويعتمد النص على العنصر النفسي سواء في تحليل نفسية الإنسان أو في تسجيل الأعمال وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ واعتبار النيات في تحديد المسئولية. رابعا- فن العرض أو الطريقة الأدبية: إذا كانت الفكرة الأساسية هي أن الإنسان مسئول بعد هذه الحياة عن أعماله ودوافعه، فكيف عرضت هذه الفكرة، وهل كان في طريقة عرضها فنّ خاص؟ 1 - لقد وضعنا النص رأسا أمام مشهد واقعي حيّ من مشاهد الحياة ينبض بالحركة والحياة، إذ تعدو أمام بصرنا كوكبة من الفرسان، نحس بحرارة أنفاس خيلها، ونسمع حفيفها، ونبصر الشرر المتطاير من حوافرها، وما تثيره من الغبار حولها، حتى تصل في وقت الصبح إلى الجماعة التي تريد مباغتتها!! لقد اعتمد النص في هذا القسم الأول على الوصف الذي يكاد يكون على إيجازه قصة أو مشهدا من قصة، وقد تضمن هذا الوصف عناصره الأساسية من تصوير الحركة (العاديات، المغيرات، أثرن، وسطن) إلى تصوير الأشكال والألوان (الموريات قدحا، النقع، توسط الجمع) إلى سماع الأصوات (ضبحا) هذا مع انتقاء النقط البارزة والخطوط المشخصة للمشهد (العدو، الشرر، الغبار) وتحديد الزمان (الصبح). لقد كان افتتاح السورة بهذا المشهد مفاجأة مثيرة للخيال، ولا سيما بالنسبة للعرب الذين تثيرهم صورة الغزو، بل خبره وحكايته، وكان عرض هذا المشهد

نقطة انطلاق للتأمل والتفكير، وكان في الوقت نفسه صورة رمزية تدل على اعتداء الإنسان، أورد مورد القسم، وكثيرا ما يأتي القسم في القرآن للإيقاظ والتنبيه وإثارة النفس وإعدادها لما يأتي من المعاني. 2 - أما طريقة القسم الثاني من النص فقد كانت التحليل النفسي، فقد انتقلنا من مشهد واقعي من مشاهد الحياة إلى التأمل في نفسية الإنسان، ومن الصور الحية النابضة المجردة النفسية، وكان عرض الأفكار في هذا القسم عرضا مباشرا مجردا خاليا من التصوير أو الوصف المادي. 3 - وقد عاد النص في القسم الثالث إلى طريقة الوصف والتصوير، فإذا بنا ننتقل من ذلك التأمل النفسي، ومن مشاهد الحياة اليومية إلى نهاية الحياة وإلى ما بعد الموت في صورة حسية قوية تبعث الروع؛ في أشد إيجاز وأقوى تعبير أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ تقترن بها صورة رمزية ترمز إلى جمع الأعمال وتشير إلى اعتبار النية فيها وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. فكأن هذا القسم في طريقته حاكى القسم الأول في آيته الأولى، والثاني في آيته الثانية، فجمع بين التصوير الحسي الرائع والتحليل النفسي العميق في آيتين تصفان حادثة واحدة. 4 - أما الخاتمة فقد جاءت على طريقة الأحكام المجردة بعد أن هيئت النفس بتلك الصورة الحسية المثيرة للخيال، والصورة النفسية الباعثة على التأمل لتلقي هذا الحكم خالصا مجردا. وهكذا جمعت هذه السورة بين طريقة التصوير والوصف، وطريقة التحليل والعرض المباشر للأفكار، مع إيجاز وسرعة انتقال، هذا عدا ما في القسم الأول من فن عجيب في قطع سلسلة المشهد ليتمّها القارئ بخياله، إذ تقف قصة الغارة عند التقاء الجمعين. ولك أن تتصور أيها القارئ ما تتصور من جرائم النهب والسلب والقتل والاعتداء، تلك الأعمال التي تستدعي الحكم الوارد في القسم الثاني على الإنسان الكفور الجاحد!

خامسا - صياغة الآيات، أو التراكيب والجمل:

خامسا- صياغة الآيات، أو التراكيب والجمل (¬1): ولو ألقينا نظرة على الآيات وترتيبها وتركيبها لوجدناها متناسبة مع الأفكار وخصائصها، ولوجدنا تنوعها مقابلا لتنوع الأفكار. إننا نجد في تركيب جمل الآيات الأقسام التالية التي تقابل الأقسام الفكرية السابقة. 1 - آيات قصيرة تتألف كل واحدة منها من كلمتين أولاهما اسم فاعل بمعنى الفعل، أو فعل وَالْعادِياتِ ضَبْحاً* فَأَثَرْنَ* فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً وكلها أفعال تدل على حركات أو أعمال حسية، وثانيتهما أحد المفاعيل، وتخلو هذه الجمل أو الآيات من الزوائد، وتتوالى سراعا كما تتوالى الخيل في عدوها، وهي كلها جمل فعلية أو بحكم الفعلية تصور الحركات والحوادث. 2 - أما آيات القسم الثاني فهي تتألف من جمل اسمية تستعمل عادة للتعبير عن الحقائق العامة مصدرة كلها ب «إنّ» المستعملة لتأكيد هذه الأحكام مع اللام المقرونة بالخبر. 3 - وتعود الآيات في القسم الثالث إلى الجمل الفعلية لتصوير مشهد خاطف ليوم القيامة، ولكنها تأتي هنا مصدّرة بالاستفهام الاستنكاري المثير أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. ويلفت النظر في هاتين الآيتين استعمال الأفعال المبنية للمجهول، واستعمال «ما» الموصولة المشعرة بعدم التحديد، وفي ذلك فسح المجال للخيال ليتصور ما شاء أن يتصور. 4 - وتعود الخاتمة مرة أخرى، وهي حقيقة كبرى تمثل الفكرة الأساسية في النص، إلى الجملة الاسمية المؤكدة بإنّ واللام على طريقة القسم الثاني. ¬

_ (¬1) تفسير الجواهر 1/ 70. أو التناسب بين الشكل والمضمون.

سادسا - الموسيقى في السورة:

لقد كانت الآيات إجمالا قصيرة في جميع أجزاء السورة، متناسبة في قصرها مع سرعة الانتقال في تصوير الحركات، أو مع إيجاز الأفكار في التحليل النفسي، ومقتصرة على العناصر الأساسية للجملة، خالية من الزوائد خلوّ الأفكار والمشاهد من التفصيلات، متناسبة في تنوعها وانتقالاتها مع تنوع الموضوع، من فعلية غير مؤكدة، إلى اسمية مؤكدة، إلى استفهامية. سادسا- الموسيقى في السورة: يشعر المرتل لهذه الآيات أن لها طابعا موسيقيا واضحا، وإذا قرأها قراءة فنية- وذلك هو الترتيل- لاحظ انقسامها إلى عدة نغمات متناسبة مع أقسام النص من الوجهة الفكرية والنحوية. فالقسم الأول يتألف من خمس فقرات موسيقية ذات نغمة واحدة تقلّ فيها المدود، وكلّ فقرة منها تتألف من كلمتين: أولاهما تحتوي على بعض المدود الطويلة. وثانيتهما وهي فاصلة الآية؛ كلمة ثلاثية لا مدّ إلا في آخرها (ضبحا، قدحا، صبحا، نقعا، جمعا) وهذه الفقرات تمثل بقلة مدودها وتوالي حروفها المتحركة حركة الخيل في عدوها ووقع حوافرها ثم ارتفاعها. أما القسم الثاني من السورة فهو أطول نفسا وأكثر مدودا، وكأنه يشير بمدوده الطويلة إلى التأمل الطويل والهدوء النفسي. وتختلف كلمة الفاصلة في هذا القسم اختلافا كبيرا في جرسها الموسيقى عن فاصلة القسم الأول (كنود، شهيد، شديد). والقسم الثالث يجمع بين المدود الطويلة في بعض أجزائه أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ... وتوالي الحركات في كلمات أخر (بعثر)، كما أن فاصلته تختلف عن القسمين السابقين في نبرتها وقوة جرسها (قبور، صدور). ويعود القسم الأخير في نغمة هادئة ناشئة عن المدود والميم الساكنة والتنوين إلى فاصلة تأخذ الياء من القسم الثاني والراء من الثالث.

والخلاصة:

ويلاحظ أن لبعض ألفاظ السورة جرسا موسيقيا واضحا مناسبا لمعناها مثل (قدحا ونقعا) المناسبة لوقع حوافر الخيل و (بعثر) المناسبة لانتشار أجساد الموتى بعد خروجها من الأرض، ومثل (حصّل) الدالة بصادها المشددة على شدة التقصّي والجمع! فموسيقى النص في جملتها وتفصيلها، أي في نغمة الجمل وجرس الألفاظ وفواصل الآيات، مناسبة للمشهد والأفكار ومقابلة لها، وتتنوع بتنوعها وتنسجم بانسجامها. .. والخلاصة: إنّ هذه السورة تضمنت موضوعا أساسيا هو مسئولية الإنسان العظمى، وأفكارا أخرى أحاطت به؛ من وجود الله، وحدوث البعث، ونفسية الإنسان، وصراعه في هذه الحياة. وكلها أفكار أساسية في الحياة، تسمو بالقارئ إلى مستوى عال من التفكير والشعور. وكان عرضها عرضا منطقيا جميلا قويّا، قوامه مشاهد من الحياة الواقعية المحسوسة، والحياة الأخرى المغيبة، والإنسان في صورته النفسية معروض بينهما، وكان هذا العرض المستند إلى التصوير الحسي والتحليل النفسي قويا سريعا موجزا، اشترك فيه الفكر والخيال والحس، وتعاونت الألفاظ والتراكيب، فجاء نثرا فنيا كاملا، ليعبر عن أخطر مسألة في حياة الإنسان وهي «مسألة المصير والمسئولية» (¬1). ¬

_ (¬1) دراسة أدبية لنصوص من القرآن لأستاذنا محمد المبارك- رحمه الله تعالى- ص 10 - 20 «باختصار قليل».

الفهرس

الفهرس الموضوع الصفحة المقدمة 5 الباب الأول القرآن الكريم واللغة العربية الفصل الأول- لغة القرآن الكريم 9 أولا- اللسان العربي 11 ثانيا- العرب والقرآن 16 خلاصة وتعقيب 23 الفصل الثاني- أثر القرآن الكريم في اللغة العربية 25 أولا- أثره من الوجهة التاريخية 25 (أ) القوة الدافعة 25 - حول تخلّف حركة التعريب عن انتشار الإسلام 27 (ب) القوة الواقية 30 ثانيا- الأثر الموضوعي للقرآن في اللغة العربية 33 1 - توحّد لهجات العرب 33 2 - تأثير القرآن في ألفاظ العربية ومعانيها 35

الموضوع الصفحة الفصل الثالث- أثر القرآن الكريم في الحضارة والثقافة الإسلامية 39 الباب الثاني قطعية النص القرآني وتاريخ توثيقه الفصل الأول- القرآن الكريم والكتب السماوية السابقة 43 أولا- تعريف القرآن والفرق بينه وبين الحديث 45 ثانيا- مقارنة سريعة مع الكتب السماوية 50 ثالثا- النتائج والملاحظات 58 رابعا- أسماء أخرى للقرآن، ولون آخر من ألوان الحفظ 60 الفصل الثاني- الوحي أو مصدر القرآن الكريم 63 أولا- ظاهرة الوحي 64 (أ) مقدمة عن عالم الغيب 64 (ب) معنى الوحي وصوره 66 ثانيا- مع المتخرّصين في تفسير ظاهرة الوحي 69 ثالثا- صدق ظاهرة الوحي 72 الجانب الأول- رحابة الموضوعات القرآنية 72 الجانب الثاني- أحول النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الظاهرة 75 الفصل الثالث- نزول القرآن والحكمة من تنجيمه 83 أولا- الوحي والتنزيل 83 ثانيا- مدة نزول القرآن وأول ما نزل منه وآخر ما نزل 86 ثالثا- الحكمة من تنجيم القرآن 89 رابعا- إضافة وتعليق 96 الفصل الرابع- جمع القرآن وتدوينه 105 أولا- حفظ القرآن وكتابته في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم 107

الموضوع الصفحة (أ) الحفظ والجمع في الصدور 108 (ب) الكتابة والتدوين 110 ثانيا- جمع القرآن على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 111 ثالثا- نسخ المصاحف على عهد عثمان رضي الله عنه 116 رابعا- قاعدة عثمان في الجمع ومزايا المصاحف العثمانية 116 خامسا- حرق الصحف والمصاحف الأخرى (شبهات وردّ) 124 سادسا- رسم المصحف أو الرسم العثماني 130 الفصل الخامس- الآيات والسور وترتيبهما 133 أولا- تعريف الآية والسورة 133 ثانيا- عدد السور وأسماؤها واختلاف مقاديرها 134 ثالثا- ترتيب الآيات والسور 136 (أ) ترتيب الآيات 136 (ب) ترتيب السور 137 رابعا- حكم مخالفة ترتيب المصحف 140 الباب الثالث إعجاز القرآن الفصل الأول- الإعجاز: وقوعه ومعناه 145 أولا- مدخل وتمهيد 145 ثانيا- الإعجاز حقيقة تاريخية 148 ثالثا- معنى الإعجاز، أو الإعجاز الذي وقع به التحدي 153 الفصل الثاني- آراء ونظريات حول الإعجاز 157 أولا- فكرة الصرفة 158 ثانيا- النظم القرآني 160

الموضوع الصفحة (أ) الإمام عبد القاهر الجرجاني وفكرة النظم القرآني 161 (ب) تعريف النظم القرآني 164 ثالثا- التصوير الفني 169 1 - التخييل الحسّي والتجسيم 172 2 - التناسق الفني 174 رابعا- النظم الموسيقى 180 خامسا- تعقيب عام: البيان .. والقرآن 185 الفصل الثالث- الفاصلة القرآنية 189 أولا- تعريف الفاصلة 190 ثانيا- دورها وموقعها 192 (أ) اختلاف الفواصل في آيات متماثلة 200 (ب) التصدير والتوشيح 201 ثالثا- لمحة عن أنواع الفاصلة 202 رابعا- بين الفاصلة والسجع والشعر 204 الباب الرابع لمحة عن نشأة التفسير وتطوّره الفصل الأول- حول نشأة التفسير 211 أولا- بين التفسير والتأويل 212 ثانيا- مصادر التفسير ومراحله 215 الفصل الثاني- معالم التفسير البياني 223 الفصل الثالث- التفسير العلمي لآيات الكون والطبيعة 231 أولا- معنى التفسير العلمي وأسباب ظهوره 231 ثانيا- بين التفسير العلمي والمنهج العلمي 235

الموضوع الصفحة ثالثا- خطوات المنهج العلمي في القرآن 237 رابعا- شروط التفسير العلمي 243 الفصل الرابع- تعريف بظلال القرآن 249 أولا- الصحابة وتفسير القرآن 250 ثانيا- المفسرون والغرض الأساس للقرآن الكريم 253 ثالثا- الظلال وشروط التفسير المعاصر 259 (أ) من أخطاء التعامل مع الظلال 261 (ب) الظلال يتجاوز عصر الخلاف الجدلي أو الكلامي 264 (ج) الظلال والوحدة الموضوعية للسورة القرآنية 267 (د) طريقته في التأليف 268 (هـ) تفسير وتفسير 270 الفصل الخامس- من ألوان التفسير المعاصر 271 - تفسير سورة الفجر 271 - تفسير سورة العاديات 283 أولا- المعنى الإجمالي للسورة 283 ثانيا- أقسام السورة وموضوعها الرئيسي 283 ثالثا- خصائص النص الفكرية 285 رابعا- فن العرض أو الطريقة الأدبية 285 خامسا- صياغة الآيات، أو التراكيب والجمل 287 سادسا- الموسيقى في السورة 288 الخلاصة 289 الفهرس 291

§1/1