مدخل إلى التفسير وعلوم القرآن

عبد الجواد خلف

المقدمة

المقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن والاه. وبعد: فإن أكثر ما قامت عليه الحضارات البشرية كلها مردّه إلى التعاليم الإلهية التى جاءت بها النبوات الكبرى منذ العصور الأولى للإنسان. وقد ختمت هذه النبوات، وتبلورت مفاهيمها، ووضحت صورتها تمام الوضوح ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلم بالإسلام. وقد كان لبعثته صلّى الله عليه وسلم فاتحة عهد جديد لظهور أمة جديدة ختمت بها الأمم، أرست قواعدها وأركانها الأساسية، وأقامت جذورها، على «الوحى الإلهى» الذى تبلور فى علوم القرآن، وعلوم السّنة. وهذا الكتاب محاولة «لترتيب المفاهيم الفكرية للإنسان» حول جذور الحضارة الإسلامية خاصة فيما يتعلق بالمنبع الأصلى لهذه الجذور، وهو «الوحى الإلهى»، الذى لم تكن الحضارة الإسلامية بدعا من الأمم فى الاعتماد عليه، وإنما تفردت عن سائر الأمم المعتمدة على هذا المنبع فى تنظيمه، وتنسيقه، وإعداده ليكون منهج حياة يستوعب سائر الأمم مكانا وزمانا. و «الوحى الإلهى» فى مفهوم الحضارة الإسلامية هو القرآن والسنة معا، لا ينفكان ولا ينفصلان عن «مفهوم الوحى». وإنما ينفكان وينفصلان فى ضوابط الحكم على جزئيات المسائل الفرعية بين ما هو قطعى فى دلالته على الحكم، أو ما هو ظنىّ فيها، وهذا ما توصف به السنة كما يوصف به القرآن، وذلك عند من يفهم أن منبع هذه الجذور واحد. أما من لا يستقيم له هذا الفهم فينكر السّنة أو شيئا منها، فليس له من فهم الحضارة الإسلامية نصيب كبير، وعلّته فى سقم فهمه، ولا يفتّ فى عضد جذر

من جذور هذه الحضارة قليلا أو كثيرا. وهذا الكتاب أيضا، وإن ألقى ضوءا سريعا على السنّة النبوية المشرفة، ومنزلتها، وعلومها الجليلة إلا أنه معنىّ بالدرجة الأولى فى الأخذ بيد القارئ إلى التعرف على علوم القرآن الكريم، وأولها «علم علوم القرآن» وهو علم التفسير. فلا غرابة إذا أن يكون عنوان هذا الكتاب: «مدخل إلى التفسير وعلوم القرآن» ليعرف القارئ الكريم أن أول ما نشأ من علوم القرآن فى أحضان النّبوّة، وتحت رعايتها هو «علم التفسير» الذى احتاج فيما بعد إلى ابتكار سائر علوم القرآن ليشدّ من أزره على خدمة القرآن، والكشف عن مراد الله تعالى، وبيان تشريعه، وأحكامه، وآدابه. وكذلك ليرتب كلّ منتم إلى حضارة الإسلام ذهنه وفكره، على أن القرآن والسنة بعلومهما، وفنونهما هما منابع تلك الحضارة، وأن البعد عن هذه المنابع بعد عن الأمة الإسلامية والانسلاخ عنها إلى حضارات أخرى ليست محل عنايتها. وقد جاء هذا المدخل فى قسمين رئيسين: تناولت فى القسم الأول: الكلام حول مجموعة من المباحث اهتمت بالحديث عن جذور الحضارة الإسلامية. وتناولت فى القسم الثانى: مجموعة من الأبواب المختارة فى علم التفسير، وبعض علوم القرآن المتعلقة به. وتركت تفصيل ذكر مباحث القسمين إلى الفهرس العام. والله أسأل أن ينفع به من صلحت نيته للاستفادة منه، وأن يأجرنا جميعا بصوالح نوايانا إنه نعم المجيب. د/ عبد الجواد خلف كراتشى فى: 1409 هـ- 1989 م القاهرة فى: 1410 هـ- 1996 م

القسم الأول جذور الحضارة الإسلامية

القسم الأول جذور الحضارة الإسلامية

المبحث الأول: تمهيد

القسم الأول جذور الحضارة الإسلامية المبحث الأول: تمهيد كل أمة من أمم الأرض تخضع فى «حضارتها» بمفهومها الشامل، من ثقافة، وتربية، وتعليم، وزراعة، وصناعة، وعادات، وتقاليد، وعمران، إلى «دينها» الذى تدين به. فأمة الهند مثلا تبنى كل حياتها على الديانة «الهندوكية» وتوابعها من البوذية، والجينية وتستمد كل ثقافاتها من هذه العقائد الدينية بما فيها أشكال الأبنية والعمارات، والزواج، والطلاق، وسائر شئون الحياة حتى التعامل مع جثث الموتى. وكذلك أمة اليهود والنصارى يستمدان حضارتهما من ديانتهما. والأمة التى لا تدين بدين، ولا تؤمن بإله، أمة- أيضا- تستمد حضارتها من الدين. ودين مثل هذه الأمة: «أنه لا دين لها». ومنذ أدرك الإنسان نفسه على سطح هذا الكوكب الذى نعيش فيه، وهو يبحث بفطرته وغريزته عن سرّ وجوده فى هذا الكون، بل وعن الكون المحيط به: من أوجده؟ وما غاية هذا الوجود؟. ولم يزل الإنسان فى هذا البحث منذ عهد سحيق يريد أن يحدد مركزه ومركز الكون المحيط به وهو يرى السماء والأرض، والسهول والجبال، ويرى الرعد القاصف والبرق الخاطف والعواصف الشديدة، ويرى الأعاصير التى تقتلع الأشجار، والأمطار الغزيرة التى تجعله يبحث عن مأوى يحميه منها. ثم يرى الليل، والنهار، والشمس، والقمر، وتأثير كل واحد منها على حياته، وحياة الكائنات الحية فيما حوله من حيوانات، وطيور.

ثم يتأمل الحياة فيمن يولد من حوله .. ويتفكر فى الموت فى من يذهب عنه ليدفن فى باطن الأرض .. ما السّر وراء كل ذلك؟! وها هي الآثار الأدبية للإنسان المصرى القديم تحدثنا عن هذه التأملات الفكرية المتقدمة فى تلك المنظومة الرائعة للوزير «حتب» الكاهن المصرى الفرعونى، والتى سجلها فى «كتاب الموتى» حيث يقول: «إن الموتى الذين ذهبوا لم يعد واحد منهم من «الأبديّة» ليحدثنا بما جرى لهم حتى يسعد قلوبنا .. فدع عقلك ينسى هذا، واتبع رغبات قلبك ما دمت حيّا، وتمتّع بأطايب الحياة قبل أن يأتى «يوم الآخرة» .. فالمرء لا يأخذ متاعه، والذاهب لا يعود». ولا أحسب أن ذلك الإنسان القديم .. قدم التاريخ .. وهو يقدم لنا هذا الفكر المتواضع كان يدرك- وهو يفعل هذا- أنه إنما ينمّى غريزة كامنة فى نفسه، ألا وهى غريزة التدين! فكما أن علماء الاجتماع توصلوا إلى أن الإنسان «مدنى بطبعه» فإن علماء الأديان يحق لهم أن يقولوا أيضا: «إن الإنسان متدين بطبعه» .. ! وغريزة التدين شأنها شأن سائر الغرائز التى أودعها الله فى الإنسان كغريزة الجوع، وغريزة العطش، وغريزة التّمدن، وغريزة حبّ التملك، وغيرها من الغرائز التى تطالب الإنسان أن يسعى إلى إشباعها، وسدّ مطالبها واحتياجاتها. فغريزة الجوع: تدفعه إلى العمل، والسعى فى الأرض للحصول على الرزق الذى يهيئ له الطعام ليسد به غائلة جوعه، ويشبع به هذه الغريزة. وغريزة العطش: تدفعه إلى البحث عن الماء، وتنمية موارده وتخزينه، واستعماله عند الضرورة والحاجة. وغريزة التّمدّن: جعلته يشعر بالحاجة إلى أخيه من بنى الإنسان، وأنه لا

يمكن أن يعيش بمفرده منعزلا عن الآخرين. وغريزة حب التملك: دفعته إلى اقتناء الحاجات الضرورية، وحفظها، والدفاع عنها ضد من يحاول أن ينتزعها من يده. وكذلك «التدين» غريزة دفعته إلى أن ينظر إلى نفسه، من أين أتى .. ؟ وإلى أين يذهب .. ؟ وأن ينظر إلى الكون من حوله .. ما مصيره؟ وما مصير العالم كله من بعده؟ وسرعان ما اكتشف بعقله المجرد .. أن هذا الوجود كله لا بد وأن يكون وراءه موجد، وأن هذا الكون كله لا بد له من صانع، وقد تبين له أن الصانع الموجد قوة جبارة تقهر ولا تقهر، تجير ولا يجار عليها. عرفها أيضا بعقله، وفطرته، وغريزته .. واستصرخها، وطلب نجدتها عند ما ألمّت به أمواج البحار توشك أن تغرقه، أو عند ما عصفت به الرياح توشك أن تهلكه .. فأغاثته ونجدته. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ (¬1). وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ (¬2). وانتشر الإنسان على الأرض ليكوّن الجماعات، وانتشرت الجماعات لتكوّن الشعوب، والقبائل، والأمم، وعرفت كل أمة بحضارتها، ولونها وجنسها، ودينها. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا. (¬3) ومع انتشار الأمم وتفرق القبائل، تفرّقت الأديان، وتشعبت الملل والنّحل ¬

_ (¬1) الزمر: 8. (¬2) الروم: 33. (¬3) الحجرات: 13.

واعتصمت كلّ أمة بإله تناجيه، وتلوذ به. عرف أن العرب قبل الإسلام كانوا يعبدون الأصنام .. فصنعوها من الحجر، والخشب ثم ما لبثوا أن صنعوها من العجوة، وكانوا يحملونها فى أسفارهم حتى إذا جاعوا جلسوا إلى شجرة فأكلوا منها ثم سجدوا لها شاكرين. وقد ذكروا أن أعرابيا مسافرا أكل من عجوة صنمه شيئا، ثم قام يقضى حاجته بعيدا، فجاء ثعلب من الثعالب يطوف حول متاع الأعرابى والصنم قائم عند المتاع، فأخذ الثعلب يشم رائحة الصنم يستسيغ أكله فلم يسغه، لأن الثعالب من فصيلة الكلاب .. تأكل ما يأكله الكلب، وتبول كما يبول الكلاب، فما كان من الثعلب- وقد استقذر- رائحة الصنم إلا أن رفع رجله وبال على رأسه والأعرابى يرقبه فى حذر ودهشة. فلما انتهى الثعلب من فعلته، وأفاق الأعرابى من دهشته، قام إلى متاعه فحمله، وإلى صنمه فداسه، ثم أنشد على فطرته السليمة هاتفا: أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟ ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب (¬1) ومثله ذلك الأعرابى على فطرته السليمة .. وغريزته البصيرة، وقد نظر فى ما حوله من صحراء مترامية الأطراف، ترتمى فى أحضان أرض بعيدة المدار .. تعلوها سماء تتعانق معهما عند مدّ البصر، ذات نجوم وأبراج، فما لبث يفكر فى عظمة هذا الخلق، ويردّه بفطرته إلى يد الخالق فيقول: «سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج. البعرة تدل على البعير، والقدم يدل على المسير. أفلا يدل هذا على الحكيم الخبير» ... ؟ ¬

_ (¬1) تاج العروس 2/ 90.

وأما أصحاب الفطر السقيمة، والعقول القاصرة، فلم يبلغوا هذا المبلغ فتخبطوا فى دياناتهم خبط عشواء متحلقين حول صنم لا ينفع ولا يضر، أو متجهين إلى كوكب مصيره الأفول، أو إلى نار يوقدها بنفسه لتنطفئ وتخلف رمادا لا طائل من ورائه لعابد ولا ناسك. أو حائرين حول فلسفات عقلية، أو مناظرات ومجادلات عقيمة لا تؤدى إلى نتيجة قاطعة. فكان من رحمة الله الخالق المدبر أن أرسل رسله مبشرين، هادين ومرشدين ولم يترك عباده لعقولهم وأهوائهم تلعب بهم: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (¬1). * فبعث فى كل أمة رسولا منهم ليعرفوه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ (¬2). * يتكلم بلسانهم، ويخاطبهم بلغتهم ليفهموا عنه، ويبين لهم، ليعوا ما يقول: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (¬3). * يعلمهم أنهم مخلوقون لله جل شأنه، خلقهم ليعرفوه فيعبدوه، وهم محتاجون له وهو غنى عنهم: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (¬4). ومنذ ذلك الوقت البعيد: تنزّل الوحى، على رسل مختارة بعناية الله لهداية الأمم والأقوام، والتقت السماء بالأرض، والملائكة بالأنبياء تحمل معها كتب ¬

_ (¬1) النساء: 15. (¬2) النحل: 36. (¬3) إبراهيم: 4. (¬4) الذاريات: 56 - 58

الله وصحفه، لتتلوها رسله على خلقه. فسارع إلى الإيمان بها من كتب له النجاة. وسارع إلى نكرانها من كتبت له الشقاوة والحرمان. وتنازعت أمم الأرض أديان مختلفة، وعقائد متباينة، نجملها فى اثنين لا ثالث لهما. أديان إلهية سماوية، وأديان فلسفية عقلية. والأديان الإلهية: أساسها الوحى، ووسائل بيانها وتبليغها الأنبياء والرسل. والأديان الوضعية: أساسها العقل البشرى، ووسائل تبليغها مفكروها وفلاسفتها. وجميع الأديان سواء كانت إلهية، أو عقلية متفقة كلها على التمييز بين الخير والشر فكلها يدرك أن الصدق، والوفاء، والأمانة، وإطعام الجائع، وإكساء العارى، وعلاج المرضى، ونصرة المظلوم، والنكاح الصحيح من مكارم الأخلاق ومحاسنها. وكلها يدرك أن الكذب والخيانة، والسرقة، والفظاظة والغلظة، والقتل، والزنا، وشرب الخمر من مساوئ الأخلاق التى لا يرضاها العاقل من الناس. والفارق بين الديانات الإلهية والعقلية: أن الديانات العقلية الفلسفية ترد الأعمال إلى ضرورة الاجتماع البشرى الذى يرى العقل المجرد ضرورة تنظيمه فى إقرار المعروف وإنكار المنكر فى صورة قوانين، ولوائح، ونظم، يجرّمها ويعاقب عليها سلطة زمنية مؤقتة سواء كان حاكما، أو إلها مزيفا لا يملك مع الله الخالق الحقيقى شيئا.

وأما الديانات الإلهية، فإنها ترد الأعمال كلها إلى الخالق الحقيقى للكون والإنسان، وترد التجريم، والعقاب، والجزاء إليه، وتعتبر أن هذه الحياة التى يحياها البشر حياة مؤقتة، معدة للأعمال، وما يسرى فيها من جزاء إنما هو جزاء مؤقت، وأن الجزاء الأوفى فى حياة أبدية دائمة، تقام بعد فناء هذا العالم الذى سيزول يوما ما. وهذا الفكر الذى جاءت به الديانات الإلهية تبلور بصفة نهائية فى مسمّى الإسلام، واكتملت كل أسسه وقواعده على يد النبىّ محمد صلّى الله عليه وسلم، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء. إذا: فما هو هذا «الإسلام»؟ والجواب: الإسلام هو دين الله عز وجل. قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ (¬1). وقال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (¬2). وقال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (¬3). وهو دعوة جميع الرسل، والأنبياء. أى أن جميع الرسل والأنبياء أمروا من الله تعالى بتبليغ «الإسلام» إلى أممهم من أولهم: «نوح» عليه السلام، إلى آخرهم: «محمد» صلّى الله عليه وسلّم، وعلى إخوانه من الأنبياء. قال عز وجل: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى، وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ ¬

_ (¬1) آل عمران: 19. (¬2) آل عمران: 85. (¬3) المائدة: 3.

(1) نوح: عليه السلام

عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (¬1) وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء إخوة لعلّات، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد» (¬2). وما أرسل الله رسولا من هؤلاء الرسل، ولا أتبعه بنبىّ من بعده إلا بلّغ قومه بالإسلام، وحثهم عليه فى نفسه، وأمرهم فى أنفسهم أن يسلموا، بل وربما كان من شدة خوف الأنبياء من الله تعالى، وخوفهم على أبنائهم وأممهم أنه كان إذا حضر الواحد منهم الموت جمع أبناءه حوله، وأخذ يطمئن منهم على تمسكهم من بعده بدعوة الإسلام. والمتتبع لدعوة الأنبياء جميعا من خلال نصوص القرآن الكريم يراهم حريصين جدّ الحرص الذى لا حرص بعده ولا قبله على تمسكهم بمسمى الإسلام وغايته، لا مسمى غيره، ولا غاية سواه، واحدا بعد واحد. وسنمضى مع مسيرتهم المباركة بحسب ترتيبهم الزمنى كما يأتى: (1) نوح: عليه السلام: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (¬3). (2) إبراهيم: عليه السلام: 1 - وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ ¬

_ (¬1) الشورى: 13. (¬2) صحيح البخارى 3/ 1270 الحديث رقم (3259) - كتاب الأنبياء. (¬3) يونس: 71.

(3) إبراهيم وإسماعيل: عليهما السلام

1 - وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (¬1). 2 - وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (¬2). (3) إبراهيم وإسماعيل: عليهما السلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (¬3). (4) يعقوب (إسرائيل) وبنوه: عليهم السلام: 1 - أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (¬4). 2 - قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (¬5). (5) يوسف: عليه السلام: يطلب يوسف من ربه- بعد أن منّ عليه بالنبوة والملك أن يحسن ختامه «بالإسلام». رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (¬6). ¬

_ (¬1) البقرة: 130 - 131 (¬2) البقرة: 132. (¬3) البقرة: 127 - 128 (¬4) البقرة: 133 (¬5) البقرة: 136 (¬6) يوسف: 101.

(6) سليمان: عليه السلام

(6) سليمان: عليه السلام: 1 - فى خطاب سليمان الذى أرسله إلى «بلقيس» ملكة اليمن يدعوها إلى «الإسلام». إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (¬1). 2 - طلب سليمان من معاونيه من الجنّ، ومن عنده علم من الكتاب إحضار عرش «بلقيس» من اليمن إليه فى الشام قبل أن تجئ إليه «مسلمة»: قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (¬2). 3 - إقرار بلقيس «بالإسلام» الذى يعتقده ويدين به سليمان عليه السلام: قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬3). (7) موسى: عليه السلام، والنبيون حملة التوراة: 1 - يقول موسى لقومه وهو يشد من أزرهم وعزمهم ويثبّتهم على الإيمان إن كانوا قد أسلموا حقيقة. وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (¬4) 2 - إقرار سحرة فرعون بالإيمان بالله، وصبرهم على تعذيب فرعون، ودعائهم إلى الله بالصبر والثبات، وعدم إماتتهم إلا على «الإسلام». وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (¬5). 3 - إقرار فرعون «بالإسلام» الذى عليه موسى، وبنو إسرائيل فى آخر لحظة من عمره: ¬

_ (¬1) النمل: 30، 31. (¬2) النمل: 38. (¬3) النمل: 44. (¬4) يونس: 84 (¬5) الأعراف: 126

(8) عيسى: عليه السلام، وأتباعه: الحواريون

وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (¬1). 4 - إثبات أن «التوراة» يحكم بها النبيون، والربانيون، والأحبار- الذين أسلموا على يد موسى عليه السلام- شعب اليهود. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ . (¬2) (8) عيسى: عليه السلام، وأتباعه: الحواريون: 1 - يقر أصحاب عيسى عليه السلام- وهم الحواريون الذين آمنوا به- أنهم على دين «الإسلام». وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (¬3) 2 - إثبات القرآن اعتراف أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- وغيرهم بالإيمان بالله تعالى، وبالقرآن الذى سينزل على نبىّ آخر الزمان محمد صلّى الله عليه وسلّم: ¬

_ (¬1) يونس: 90. (¬2) المائدة: 44. (¬3) المائدة: 111.

(9) محمد: صلى الله عليه وسلم، وختم الوحى والنبوات

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. (¬1) 3 - كما نجد أن الله تعالى ينفى تماما عن أبى الأنبياء وجدّهم إبراهيم عليه السلام أىّ مسمى آخر غير مسمى «الإسلام» وأىّ دين آخر غير دين «الإسلام». ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (¬2). (9) محمد: صلّى الله عليه وسلّم، وختم الوحى والنبوّات: ثم بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم برسالة الإسلام التى كلّف بها إخوانه من الرسل السابقين، وأمره ربّه بتبليغ الإسلام لقومه: 1 - قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ (¬3). 2 - قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (¬4). * ثم شاءت إرادة الله تعالى أن يجعل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم آخر الأنبياء والمرسلين وأن يختم به الوحى والنبوات إلى قيام الساعة. 1 - يقول الله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ (¬5). 2 - ويقول الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم: أ- «أنا محمد النبىّ الأمىّ، ولا نبىّ بعدى» (¬6). ¬

_ (¬1) لقصص: 52 - 157. (¬2) آل عمران: 67. (¬3) الأنعام: 14. (¬4) الأنعام: 71. (¬5) الأحزاب: 40. (¬6) صحيح البخارى- كتاب الأنبياء، مسند أحمد 2/ 172.

ب- «يا علىّ: أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبىّ بعدى» (¬1) ج- «يا محمد: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء» (¬2). * كما شاءت إرادته سبحانه أن يجعل رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم رسالة كافة للعالمين، عامة للناس أجمعين إلى قيام الساعة: 1 - وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (¬3). 2 - وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ (¬4). * وبهذا شبّه «الإسلام» كأنه قصر عظيم بدئ فى بنائه منذ عهد أول نبى، حتى كمل بناؤه، واستقر صرحه، وثبتت دعائمه، وحسنت صورته ببعث محمد صلى الله عليهم جميعا وسلّم. وهذا تماما ما صوره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: «مثلى فى النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون لو تم موضع هذه اللبنة؟ «فأنا فى النبيين موضع تلك اللبنة». (¬5) * وبعد تمام نعمة «الإسلام» واكتمال الدين: 1 - نفى الحرج عن كل أتباع الإسلام الذين ينتسبون إليه منذ عهد إبراهيم عليه السلام: ¬

_ (¬1) سنن الترمذى باب المناقب، مسند أحمد 1/ 177. (¬2) صحيح مسلّم 1/ 185 كتاب الإيمان. (¬3) الأنبياء: 107. (¬4) سبأ: 28. (¬5) مسند الإمام أحمد 5/ 137، وانظر الأحاديث التساعية ص 3.

نتيجة هذا المبحث: حقق هذا المبحث النتائج التالية

وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (¬1). 2 - ونهى عن التعرض بالأذى أو الاعتداء لأهل الكتاب من اليهود والنصارى المندرجين بالعهد فى أمة الإسلام والذين أعرضوا عن مسمى الإسلام إلى مسمى اليهودية، والنصرانية. والاكتفاء بدعوتهم «إلى العودة» إلى مسمى «الإسلام» بالحسنى والرفق فإن أجابوا فلأنفسهم، وإن أعرضوا فعليها، و «أما نحن». فله «مسلمون». أ- وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (¬2). ب- فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (¬3). * أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم «بالاعلان» لجميع البشر أن «الإسلام» هو الدين القيّم، وهو الصراط المستقيم: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (¬4) نتيجة هذا المبحث: حقق هذا المبحث النتائج التالية: 1 - «الدّين» غريزة من الغرائز التى فطرها الله وأودعها فى الإنسان عند خلقه كسائر الغرائز. 2 - غريزة «التّديّن» الكامنة فى فطرة الإنسان تحتاج إلى درجة من الإشباع ¬

_ (¬1) الحج: 78. (¬2) العنكبوت: 46. (¬3) آل عمران: 20. (¬4) الأنعام: 161.

المبحث الثانى: الوحى الإلهى

سدّا لحاجة هذه الغريزة عند الشعور بها، تماما كحاجته إلى الطعام لسد غائلة الجوع عند الشعور به غريزيا. 3 - إهمال معالجة إشباع غريزة التدين يؤدى إلى الانحراف عن الله تعالى، وعن دينه الصحيح. 4 - للإشباع السليم لغريزة التدين عند الإنسان أرسل الله الرسل والأنبياء للناس أيا كان زمانهم أو مكانهم لإرشادهم إلى أن الحقيقة الكبرى، والوحيدة، والباقية التى لا تفنى إنما هى: وجود الله عز وجل. 5 - أن جميع الرسل والأنبياء دعاة لدين واحد، له مسمى واحد: هو «الإسلام»، وأنّ له غاية واحدة هى: معرفة الله الذى لا شريك له، ولا خالق سواه. 6 - اكتملت رسالة الإسلام تماما، وأغلقت النبوات، وختمت الشرائع ببعث محمد صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الثانى: الوحى الإلهى مطلب فى: الله ... والفطرة ... والأنبياء ... والوحى ... (1) استدلّ إنسان ما قبل النّبوّات فى مواقع مختلفة من هذا الكوكب بفطرته، وغريزته إلى أن هناك قوة عظمى وخفية هى المؤثرة فى هذا العالم وجودا، ونظاما، ونشاطا. وكان هذا استجابة لمطلب غريزى يدفعه إلى سوق بعض التساؤلات عن خلقه وخالقه، والكون المحيط به، وأنظمته، والحياة، والموت، وما وراءهما. كما كانت استجابة لمطلب عقلى فطرى يدفعه إلى ضرورة الإجابة عن ما قد يتوفر له معرفته ردّا على هذه التّساؤلات الغريزية.

(2) ولما كان العقل البشرى الفطرى يختلف من إنسان لآخر فى حدّ القدرة والذكاء، كما يختلف فى حدّ الضعف والغباء، وأن الناس يتفاوتون فى المعرفة نتيجة تفاوتهم فى الاستنتاج والاستنباط من مقدمات الكون وأدلته، لذلك لم يترك الله عز وجل- وهو الحقيقة الكبرى والوحيدة- هذا المخلوق نهبا لعقله الفطرى الذى قد يصيب عند البعض، ويخطئ عند الغالبية العظمى، لذلك «ألهم» من بينهم عقلاء ... شرفاء ... أمناء ... أرسلهم إلى أممهم ليدلوهم على الطريق السوى ... ويهدوهم إلى السبيل القويم ... ويتلوا عليهم كتبا فيها تنظيم لسلوكياتهم، وترشيد لمفاهيمهم وأعمالهم، وتعريفهم بمنازلهم عند الخطأ أو حال الصواب. 1 - أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (¬1). 2 - وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (¬2). * إذا فالله تعالى هو حقيقة الوجود بلا مراء، ولا جدال، وكل ما عداه باطل .. زائف .. زائل. وهذا المعنى هتفت به فطرة الإنسان العربى قبل أن يبعث النبىّ محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل (¬3) * وقد دلّت الفطرة السليمة، والنظر السديد فى آيات الكون المنظور .. فى السماء .. فى الأرض .. فى الجبال .. فى البحار .. فى المطر .. فى الرعد .. فى كل شىء على إثبات حقيقة وجود الله تعالى .. وحقيقة أنه الخالق .. ¬

_ (¬1) المؤمنون: 115. (¬2) الإسراء: 15. (¬3) جامع البيان 13/ 148.

القادر .. القاهر فوق عباده: وفى كل شىء له آية ... تدل على أنه الواحد إلى حدّ أنه من البساطة بمكان إحباط حجة «الملحد» الذى ينكر وجود الله أصلا عند ما يبادرك بسؤاله التقليدى الساذج: ما الدليل على أنّ الله موجود؟ فيكون إحباط ما يظنّ ويدّعى أنه سؤال مفحم بمجرد عكس السؤال وردّه عليه كالآتى: وما الدليل على أن الله غير موجود؟ عندئذ ينكشف الستار عن سهولة الإجابة عن السؤال الأول حيث تتوفر هذه الإجابة فى ملايين الملايين من الأدلة القاطعة التى لا مجال لإنكارها. كما ينكشف الستار لا عن صعوبة الإجابة على السؤال الثانى فحسب .. بل عن استحالة وجود جواب صحيح قاطع يصلح أن يقيم لمعارض حجة. * ولما ثبت وجود الله تعالى بالنظر فى آيات الكون المنظور، والفطرة الغريزية، والدلائل العقلية، والمقدمات المنطقية السليمة المؤدية إلى نتائج صحيحة ثبتت له جل شأنه القدرة على كل شىء: 1 - فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬1). 2 - يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬2). 3 - يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬3). * وتبعا لهذا الإيمان اليقينى الراسخ، نؤمن بأن الله تعالى خلق ما يشاء من الخلق كالملائكة من حيث شاء، وكالجن من حيث شاء، وكالطير من حيث شاء، وكسائر الخلق من حيث شاء، فهو ربّ الخلائق، والعوالم، وله الحمد على كلّ ما خلق: ¬

_ (¬1) البقرة: 259. (¬2) النور: 45. (¬3) فاطر: 1.

1 - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬1). 2 - وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ (¬2). * وقدّر لكل مخلوق عمله، ووظيفته، وقدّر له مقدرته على أداء هذه الأعمال، فشأن الملائكة مثلا: القدرة على الهبوط إلى الأرض، والصعود إلى السماء، والتشكل بما يشاءون من الأشكال الحسنة، والأجنحة المتعددة التى تساعدهم على أداء وظائفهم. الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ (¬3). * فلا غرابة إذا أن تنزل الملائكة على أشخاص مميزين ليكونوا رسل الله إلى الناس فى أممهم .. ولا يستنكر العقل، ولا العاطفة، ولا الشعور، ولا الغريزة: تلك الظاهرة التى عرضناها فى صلة السماء بالأرض، ألا وهى ظاهرة: الوحى. فلا ينكر أهل «التوراة» أن «الوحى» نزل على موسى عليه السلام بها، و «بالألواح» التى كتب له فيها من كل شىء موعظة، وبكل شىء تفصيل. ولا ينكر أهل «الإنجيل» أن «الوحى» نزل على عيسى عليه السلام «بالإنجيل»، فيه هدى ونور، ليحكم به أهله بما أنزل الله فيه. فظاهرة «الوحى» عند أصحاب النبوات جميعا ظاهرة معروفة غير منكرة، فهى إذا ثابتة بالتواتر منذ عهد آدم، والكلام عنه من باب تعليم المتعلم ما ينبغى أن يعلم، وليس من باب إثبات شىء يحتاج إلى إثبات؛ وما كتبه بعض الباحثين عن «إمكانية وقوع الوحى» ومحاولة إثباته، لا يعدو أن يكون ترفقا ببعض من يركبهم الغرور الناتج عن خلل فطروا عليه فى تفكيرهم. ¬

_ (¬1) الفاتحة: 1. (¬2) الأنعام: 164. (¬3) فاطر: 1.

نتيجة هذا المبحث

نتيجة هذا المبحث: 1 - أن «لله» تعالى هو الخالق للوجود كله بلا مراء ولا جدال. 2 - ثبوت الوحى المنزل على الرّسل بالتواتر عن جميع الأديان السماوية. مطلب فى: التعريف بالوحى: قال الله عز وجل: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (¬1). قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ (¬2). قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ (¬3). فما هو الوحى إذا؟ ما معناه؟ وما أنواعه؟: (1) الوحى فى لغة العرب: مصدر مأخوذ من الفعل: وحى، و .. أوحى وهو لفظ من ألفاظ الاشتراك اللغوى التى تطلق على معان منها: الإلهام، والإشارة، والرسالة، والأمر، والإيماء ويجمعها كلها معنى واحد هو: «إعلام الغير فى خفاء» (¬4). وقد ورد لفظ «الوحى» فى القرآن الكريم بهذه المعانى اللغوية الشائعة على النحو التالى: 1 - على سبيل الإلهام الغريزى الذى يعطى للكائن البسيط كالحشرات، والحيوانات لكى تؤدى وظائفها المنوطة بها. ونجد هذا المعنى فى قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا (¬5). 2 - على سبيل الإلهام الفطرى للإنسان، حيث يتلقى الإنسان معلومة فطرية سريعة لم تكن فى سابق تفكيره. ¬

_ (¬1) النجم: 4. (¬2) فصلت: 6. (¬3) الأنبياء: 45. (¬4) تهذيب اللغة: 5/ 296. (¬5) النحل: 68، 69.

ونجد هذا المعنى متمثلا فى تصرف «أم موسى» الذى يحدثنا به القرآن الكريم: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (¬1). 3 - على سبيل الوسوسة، وهو ما يحدث من تفكير الشياطين الذى تحدث عنه القرآن الكريم بقوله: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ (¬2). فهذه المعانى الثلاثة للوحى تناولها القرآن الكريم من حيث الدلالة اللغوية العامة لمعنى كلمة «الوحى» وليس من حيث الدلالة الاصطلاحية الفنية، التى تدل على الوحى بالمعنى الشرعى. الوحى: شرعا: يجب أن يعرف أن أى معنى اصطلاحى، أو شرعى لا بد وأن يكون مأخوذا من المعنى اللغوى أو من أحد المعانى اللغوية إن كان للكلمة أكثر من معنى. ولا يكون المعنى الاصطلاحى أو الشرعى معتبرا إذا أهمل المعنى اللغوى للكلمة، ومن هنا فإن: الوحى هو: تكليم الله سبحانه وتعالى لمن اختاره من عباده بإحدى طرق الوحى. (¬3) أو هو: كلام الله المنزل على الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم. (¬4) وقد عرفه الإمام محمد عبده بقوله: «عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من الله تعالى بواسطة أو ¬

_ (¬1) القصص: 7. (¬2) الأنعام: 121. (¬3) مورد الظمآن إلى علوم القرآن: ص 10. (¬4) أنوار البيان فى علوم القرآن ص 34.

مطلب: فى صور الوحى

بغير واسطة» (¬1). ومن هذه التعاريف يفهم أن للوحى الشرعى قيودا، وضوابط يخصصه عن الإطلاق اللغوى العام، وأهم هذه الضوابط هى: أ- له مصدر أساسى، أوحد: وهو الله تعالى (الموحى). ب- له مستقبل مختار بعناية الله: لا يملك التنصل عن مهمة الاستقبال والتبليغ: وهو الرسول المختار (الموحى إليه). ج- له نصّ خاص يراد إبلاغه وبيانه للناس (موحى به). د- له كيفية خاصة تربط المصدر بالمستقبل وهذه الكيفية هى الواسطة بين المصدر، والمستقبل (وهى صور الوحى). مطلب: فى صور الوحى للوحى صور متعددة يأتى فيها وهى: (1) النّفث فى روع النبى، أو إلقاء الإلهام فى قلبه على صورة غير مشكوك فيها أنها من عند الله. وهذه الصورة تتم بطريقتين: الأولى: بالإلهام. ودليلها: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن روح القدس نفث فى روعى أن نفسا لن تموت حتى تستوفى رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب» (¬2). والثانية: بالرؤيا فى المنام. ودليلها: 1 - قوله تعالى فى شأن إبراهيم وولده إسماعيل: ¬

_ (¬1) الوحى المحمدى للشيخ محمد رشيد رضا: ص 44. (¬2) شرح السنة للبغوى 14/ 304 (4112).

(2) تكليم الله تعالى لنبيه من وراء حجاب.

يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى (¬1). 2 - ما أخرجه البخارى عن عائشة رضى الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحى: الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» (¬2). (2) تكليم الله تعالى لنبيّه من وراء حجاب. وصورتها: أن يسمع الموحى إليه الصوت، ولا يبصر المتكلم لتنزه البارى جل جلاله عنه. ودليل هذه الصورة: قوله تعالى فى شأن «موسى» عليه السلام: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى. إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً،. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (¬3). (3) ملك يخصص بالوحى: فيأتى إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم على واحد من الصور الآتية: الأولى: صوت كصوت الجرس، أو كدوى النحل، أو كخفق أجنحة الملك يتقدم بإلقاء القول الثقيل على قلبه، ويكون تقدمه من أجل أن يفرغ سمعه للوحى فلا يبقى فيه مكانا لغيره. ودليله: قول عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: «سألت النبى صلّى الله عليه وسلّم: هل تحس بالوحى؟، فقال: أسمع صلاصل، ثم ¬

_ (¬1) الصافات: 102. (¬2) صحيح البخارى بشرح السندى 1/ 6. (¬3) طه: 9 - 14.

حديث عمر رضى الله عنه؛ قال

أسكت، وعند ذلك: فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسى تقبض (¬1). وهذه أشد حالات الوحى قوة، كما ورد فى صحيح البخارى عن عائشة رضى الله عنها قالت: «سأل الحارث بن هشام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه علىّ فيفصم عنى، وقد وعيت عنه» (¬2). الثانية: يأتيه ملك الوحى على صورته الحقيقية التى خلقه الله تعالى عليها بأجنحته الوفيرة ودليله: 1 - حديث عائشة رضى الله عنها فى رؤيته صلّى الله عليه وسلّم لجبريل. قال صلّى الله عليه وسلّم: «رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض» (¬3). 2 - حديث زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، قال: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى، قال: رأى جبريل فى صورته له ستّمائة جناح» (¬4). الثالثة: يأتيه ملك الوحى على صورة «رجل» مجهول حسن الصورة لا يعرفه أحد ودليله: حديث عمر رضى الله عنه؛ قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثّياب. شديد سواد الشّعر. لا يرى عليه أثر السّفر. ولا يعرفه منّا أحد. حتّى ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد 2/ 222. (¬2) صحيح البخارى بحاشية السندى 1/ 6. (¬3) صحيح مسلّم 1/ 159 (287) (¬4) صحيح البخارى، تفسير سورة النجم 3/ 193.

وجميع صور الوحى مجملة كلها فى قوله تعالى

جلس إلى النّبىّ صلّى الله عليه وسلّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه. وقال: يا محمّد! أخبرنى عن الإسلام. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدا رسول الله. وتقيم الصّلاة. وتؤتى الزّكاة. وتصوم رمضان. وتحجّ البيت، إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت. قال فعجبنا له. يسأله ويصدّقه. قال: فأخبرنى عن الإيمان، قال «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر خيره وشرّه» قال: صدقت، قال: فأخبرنى عن الإحسان، قال «أن تعبد الله كأنّك تراه. فإن لم تكن تراه، فإنّه يراك». قال: فأخبرنى عن السّاعة. قال «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل» قال: فأخبرنى عن أمارتها. قال: «أن تلد الأمة ربّتها. وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاة، يتطاولون فى البنيان». قال: ثمّ انطلق فلبثت مليّا، ثم قال لى «يا عمر! أتدري من السّائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال «فإنّه جبريل. أتاكم يعلّمكم دينكم». الرابعة: يأتيه ملك الوحى، على صورة رجل معين من العرب كان حسن الصورة والهيئة اسمه «دحية الكلبى». أما الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيعرف أنه جبريل عليه السلام، ويذكر ذلك لأصحابه بعد أن ينصرف جبريل عليه السلام. (¬1). ودليله قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ. (¬2). وجميع صور الوحى مجملة كلها فى قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير البغوى 2/ 86 (¬2) الأنعام: 9. (¬3) الشورى: 51.

ويلاحظ من التدبر والنظر فى ظاهرة الوحى أنّ لها الخصائص التالية: الأولى: أنها قوة خارجية، ليست ذاتية فى نفس النبى الذى يوحى إليه. الثانية: أنها قوة خيّرة معصومة، مهمتها الإرشاد إلى الخير، ومعصومة من الخلل والزلل فى توجيه الأوامر والنواهى، والسلوكيات العامة والخاصة. الثالثة: أنها قوة عالمة، تمد النبىّ بعلم مكنون لم يكن له به معرفة سابقة. الرابعة: أنها حالة اختيارية. الخامسة: أنها أمر عارض غير عادى (¬1). ولما كنّا قد استخلصنا من تعريف الوحى بالمعنى الشرعى الخاص، والمقيد بالإطلاق اللغوى بمفهومه العام قيودا، وضوابط هى: (1) الموحى: وهو الله تعالى شأنه. (2) الموحى به: وهو الكلام المنزل. (3) المرسل بالوحى: وهو الملك. (4) المستقبل للوحى: وهو الرسول المختار. لذلك فإن كلمة «الوحى» قد تطلق على أغلب هذه الضوابط. فقد يسمى الملك المرسل، وحيا. وقد يسمى الكلام الموحى به- القرآن، والحديث النبوى، والحديث القدسى- وحيا. * ويلاحظ- كذلك- أن الوحى كان ينزل بأوامر الله تعالى، ونواهيه، كما ينزل بالأخبار وقصص الأولين، كما ينزل فاصلا لمنازعات وقتية، ومشاحنات عارضة. ¬

_ (¬1) مورد الظمآن فى علوم القرآن ص 17.

مطلب فى: أنواع الوحى وخصائصه

وهى فى كل هذه الأمور لا بدّ أن يوقف الوحى الرّسول الموحى إليه على القول الموحى به من حيث إثباته فى السطور وتدوينه وحفظه فى الصدور، أم لا. ويوقفه على ما ينبغى معرفته إن كان آية يجب إثباتها على أنها من كلام الله تعالى أم أنها خبر للفصل فى قضية أو منازعة. كما نلاحظ- أيضا- الفرق بين الوحى الّذي هو شخص الملك، والوحى الذى هو إلهام، والوحى الذى هو رؤيا فى المنام. فما كان متعلقا بكلام الله تعالى لفظا ومعنى، ونصّا فإن الوحى «الملك» ينزل به شخصيا، ويوقف عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أنه كلام الله تعالى نصا، كما يعلمه موقع الآية، أو الآيات من السورة الواحدة. وما ليس من كلام الله تعالى نصا، ولكنه من كلامه معنى، فإن الوحى فى هذه الصورة يمكن أن يكون بطريق الإلهام، أو الرؤيا، كما يمكن أن يكون بطريق الملك نفسه غير أن الملك يخبر الرسول على أنه ليس من كلام الله نصا. مطلب فى: أنواع الوحى وخصائصه: ولذلك يمكن لنا أن نقسم «الوحى» تقسيما «اجتهاديا» وذلك على ضوء الملاحظات المتكررة فى مبحث «الوحى» إلى حالتين اثنتين «نختصهما بالوحى المنزل على نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم» وهما: (1) وحى جلىّ: وهو القرآن الكريم، كلام الله عز وجل (لفظا ومعنى). ويقال فيه: وحى مسطور، أو وحى مسجل فى اللوح المحفوظ، خص «جبريل» من بين الملائكة (غالبا) بإنزاله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم مفرقا على مدار سنوات الدعوة التى بلغت ثلاثا وعشرين سنة. كما نزل بالكتب على سائر الأنبياء من قبله صلوات الله عليهم جميعا.

1 - الخصائص المشتركة بين الوحى الخفى والوحى الجلى

(2) وحى خفىّ: وهو السنة النبوية المشرفة، التى هى (كلام الله عز وجل معنى)، وأقوال النبى صلّى الله عليه وسلّم لفظا، وأفعاله عملا. وهو بمثابة البيان، والتفصيل للقرآن، قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1). ويدخل فى هذا النوع الحديث القدسى. ولما كانت صفة الوحى على هذا الاعتبار والتقسيم الاجتهادى فإننا نلاحظ خصائص عامة مشتركة بين الوحى بنوعيه خفيا أم جليا، كما نلاحظ خصائص منفردة لكل منهما. 1 - الخصائص المشتركة بين الوحى الخفى والوحى الجلى: * أن كليهما من الله عز وجل. * أن كليهما منزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة. * أن كليهما قابل للتشريع (أى الأمر، والنهى، والإباحة والتحريم). 2 - خصائص الوحى الجلى وصوره: * أن جميعه متواتر قطعى الثبوت، محصور ومحفوظ بين دفتى المصحف. * أن نزوله بواسطة «الروح الأمين جبريل» الملك المخصص برسائل رب العالمين إلى الرسل والأنبياء، فلا يثبت بالإلهام، ولا بالرؤيا فى المنام. قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (¬2). 3 - خصائص الوحى الخفى وصوره: * ليس كله متواترا، وليس كله قطعى الثبوت لكثرته، وتعدد روايته، ¬

_ (¬1) النحل: 44. (¬2) الشعراء: 193.

مطلب فى: كتابة الوحى، وتدوينه، وأشهر كتابه

واختلاف رواته، وليس كله محصورا فى مكان واحد من كتاب واحد. * يثبت الوحى الخفى بالإلهام، وبالرؤيا فى المنام، وبجبريل عليه السلام فهو أعم من الوحى. وهو بهذا الإثبات نوعان: توقيفى، وتوفيقى. * غير مقصود بذاته فى الصلاة فلا تجوز الصلاة به. * معناه من الله تعالى ولفظه من النبى ص. * غير معجز، ولا متحد به البلغاء، وإنما هو من جوامع الكلم. * يصح أداؤه بالمعنى لمن قدر على فهمه ونسى خاصة لفظه، أو شك فيما حفظه منه. * هو أعم من أن يكون إلهاما، أو رؤيا منامية، أو بواسطة جبريل عليه السلام. * الحديث القدسى يشتمل على الحكم، والمواعظ، وليس فيه تشريع، ولا أحكام. وعلى ألفاظه سمة خاصة تعطيه معنى القدس، أى: الطهر. مطلب فى: كتابة الوحى، وتدوينه، وأشهر كتابه الوحى الجلى: لما كان الوحى الجلى هو القرآن الكريم وهو كلام الله عز وجل المنزل على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، المتعبد بتلاوته فى الصلاة. لذلك حظى من الرعاية والعناية الغاية القصوى سواء، كان ذلك بالحفظ فى الصدور، أو بالكتابة فى السطور. فلم يلحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالرفيق الأعلى، إلا وقد جمع القرآن الكريم ودون فى الصحف، إلى جانب حفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له فى صدره حفظا تاما كاملا يراجعه جبريل ويسمعه منه فى شهر رمضان، كما حفظه عدد وفير من

الصحابة رضوان الله عليهم. وكان أشهر كتاب الوحى بين يدى النبى صلّى الله عليه وسلّم: * عثمان بن عفان (ت: 35 هـ) * على بن أبى طالب. (ت: 40 هـ) * أبى بن كعب. (ت: 20 هـ) * زيد بن ثابت. (ت: 45 هـ) * أبو بكر بن أبى قحافة. (ت: 13 هـ) * عمر بن الخطاب. (ت: 23 هـ) * عامر بن فهيرة. (ت: 3 هـ) * عبد الله بن الأرقم. (ت: 33 هـ تقريبا) * ثابت بن قيس بن شماس. (ت: 12 هـ) * خالد بن سعيد بن العاص. (ت: 12 هـ) * أبان بن سعيد بن العاص. (ت: 35 هـ) * حنظلة بن أبى عامر الأسدي. (ت: 10 هـ) * معاوية بن أبى سفيان. (ت: 60 هـ) * شرحبيل بن حسنة. (ت: 18 هـ) * عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول. (ت: 12 هـ) * الزبير بن العوام. (ت: 36 هـ) * معيقب بن أبى فاطمة الدوسى. (ت: 34 هـ تقريبا) * المغيرة بن شعبة. (ت: 50 هـ)

* خالد بن الوليد. (ت: 21 هـ) * العلاء بن الحضرمى. (ت: 21 هـ) * عمرو بن العاص. (ت: 43 هـ) * جهيم بن الصلت. (ت: .... هـ) * عبد الله بن رواحة. (ت: 8 هـ) * محمد بن مسلمة. (ت: 46 هـ) * عبد الله بن سعيد بن أبى سرح. (ت: 36 هـ) رضى الله عنهم أجمعين. وقد بلغ عدد كتاب الوحى نيفا وأربعين كاتبا، غير أن أكثرهم مداومة وملازمة لكتابة الوحى هو: زيد بن ثابت رضى الله عنه، أما أكثر الصحابة حفظا وجمعا للقرآن الكريم فهم: * عثمان بن عفان. (ت: 35 هـ) * على بن أبى طالب. (ت: 40 هـ) * أبى بن كعب. (ت: 20 هـ) * عبد الله بن مسعود. (ت: 32 هـ) * زيد بن ثابت. (ت: 45 هـ) * أبو الدرداء: عويمر بن صخر. (ت: 32 هـ) * أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر. (ت: 57 هـ) * عبد الله بن عباس. (ت: 68 هـ) * عبد الله بن السائب. (ت: 70 هـ)

نتيجة هذا المبحث

نتيجة هذا المبحث: (1) أن «الوحى» بنوعيه الجلىّ، والخفىّ، وصوره التى نزل بها مصدرها واحد. وعن الوحى جاء ما عرف علميا باسم «السنة»، وما عرف علميا باسم «القرآن». (2) أن الجيل الأول الذى شاهد الوحى وهو ينزل «بالعلم» هم الذين قاموا على تسجيله وضبطه، وحفظة، سواء فى الصدور، أو فى السطور تحت رعاية النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وتوجيهه، وإرشاده. المبحث الثالث: السنة النبوية المشرفة (الوحى الخفى) أما الوحى الخفى (أعنى السنة المشرفة) فقد تأخر تدوينها بصفة رسمية نظرا لوجود بعض الأحاديث الناهية عن كتابتها وتدوينها، مما جعل كثيرا من حفاظ السنة ونقلتها يحجمون عن كتابتها تورعا، وخوفا من وقوعهم فى ما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه. بقوله: «لا تكتبوا عنى شيئا، ومن كتب عنّى غير القرآن فليمحه». وقد اتخذ بعض المغرضين من تأخر تدوين السنة ذريعة للتشكيك فى صحتها جملة وتفصيلا، أو التشكيك فى معظمها. غير أن الباحث المنصف إذا أمعن النظر فى الحكمة من نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن التدوين لوجد أن الباعث على النهى أحفظ للسنة من الباعث على الإجازة بكتابتها. ولو كتبت السنة فى وقت متزامن مع القرآن لكان مجال الطعن فيها وفى القرآن معا أكثر من مجال الطعن فى تأخر تدوينها. وغالب ما يؤدى إليه نظرى أن النبى الأكرم صلوات الله وسلامه عليه كان أكثر تشوفا للمستقبل عند ما نهى عن التدوين المبكر للسنة مما أدى فيما بعد إلى ابتكار علوم الدفاع عنها، وإثراء الفكر الإسلامى بها، وتفتق الملكات العقلية

بمصنفاتها وبحوثها، فى الوقت الذى تجنب فيه كتاب الوحى مظنة الخلط بين تدوين القرآن الكريم وتدوين السنة المشرفة، فقد أمن اللبس والخلط بينهما تماما بسبب ظهور هذا النهى الرسمى المبكر. حتى إذا كان مطلع القرن الثانى الهجرى حفزت مجموعة من الأسباب والبواعث همّة عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين إلى إصدار أمره إلى ابن شهاب الزهرى بجمع السنة وتدوينها. وكان هذا أول أمر رسمى بتدوين وكتابة السنة. غير أن المنيّة لم تمهل هذا الخليفة العظيم حتى يرى ثمرة أمنيته وقد تحققت، بل لم يقدّر للسنة النبوية أن تجمع كلها من صدور الرجال فى كتاب واحد. ولكن لم ينته القرن الثالث الهجرى حتى دونت أهم كتب المسانيد والصحاح وهما مسند الإمام أحمد بن حنبل، وصحيح أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى، وحتى وقت جمع هذين السفرين الجليلين من صدور الرواة إلى سطور الصحف كانت السنة غالبا تحفظ فى الصدور، ويتلقاها الخلف عن السلف شفاها فى حرص شديد، ودقة تامة. وكان هذا هو الحال الغالب والأعم بالنسبة للسنة النبوية، وإن كان قد وجد بعض الصحف المكتوبة سواء فى عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم أم فى عهد الصحابة رضى الله عنهم، غير أن هذه الصحف لم تكن من الغلبة والكثرة بالقدر الذى يمكننا من إصدار حكم قاطع بأن السنة قد دونت وجمعت كلها كما دون القرآن وجمع. ولما كان حظ السنة فى القرون الثلاثة الأولى الغالب عليها «الرواية»، فقد حرص النقاد من حفاظ الحديث حرصا شديدا على تتبع رواة السنة ونقلتها، وتمييز مروياتهم من مرويات غيرهم من الضعفاء والمتهمين بقلة الأمانة فى نقل مأثور الكلام عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، لما فى «الرواية» شفاها من مظنة الخطأ وضعف

الحفظ، والتدليس، بل والوضع والكذب فى بعض الأحيان، خاصة وأنه لا يوجد كتاب ضابط، ولا سفر يدوّن على الراوى مقولته، ويسجل عليه روايته، فنشأت لذلك علوم الجرح والتعديل، وتاريخ الرواة لدفع الكذب والكذابين عن صاحب الوحى، سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه. فلا يوجد فى هذه الأعصر الثلاثة الأولى راو إلا وقد غربله النقاد غربلة تامة، وتتبعوه فى كل شأن من شئون حياته، ووضعوه تحت قيود فنية على غاية من الدقة فى التعديل إن كان عدلا، أو فى التجريح إن كان مجروحا. أما ما خلا القرون الثلاثة الأولى، فقد شمّر الحفاظ عن سواعد الجدّ لتدوين السنة المشرفة فى الكتب والأسفار التى ما لبثت أن أخذت من جهود الحفاظ أثمن وأغلى ما فى أعمارهم، واجتهدوا فى ترتيبها، وتبويبها، وتصنيفها حتى استقر غالب السنة فى أسفار عظيمة سمى كل سفر منها بحسب اجتهاد جامعه، وتبويبه، وترتيبه على النحو التالى: 1 - المسند: وهو كتاب يرتبه راوى أحاديثه على أسماء الصحابة بحيث يجمع أحاديث كل صحابى فى مكان واحد على حدة، وأول من رتب الأحاديث النبوية فى مسند هو الإمام أبو داود الطيالسى المتوفى سنة 204 هـ، وأجمع المسانيد تدوينا للسنة والحديث هو شيخ الإمام البخارى الإمام أحمد بن حنبل الشيبانى المتوفى سنة 241 هـ، إذ جمع فيه قريبا من أربعين ألف حديث. 2 - الصحيح: وهو الكتاب الذى يجمع الحديث طبقا لشروط دقيقة للصحة والاعتبار مشتملة على أبواب الفقه الأكبر (فقه العقائد)، وهى المعروفة اليوم بالصحاح الستة، وهى بحسب ترتيب أهميتها: صحيح البخارى، مسلّم، أبو داود، والترمذى، والنسائى، وابن ماجة. 3 - السنن: وهى الكتب التى رتبت الحديث طبقا لترتيب أبواب الفقه الكبير (فقه الشريعة)، فتبدأ بأحاديث الطهارة، إلى آخر أبواب هذا الفقه، ومنها

سنن البيهقى المتوفى سنة 458 هـ وسنن الدارقطنى المتوفى سنة 306 هـ. 4 - المصنف: وهو مثل السنن فى ترتيب الأحاديث، وأهمها: مصنف عبد الرزّاق الصنعانى المتوفى سنة 211 هـ ومصنف أبى بكر بن أبى شيبة المتوفى سنة 235 هـ. 5 - الموطأ: وهو مثل السنن، والمصنفات فى ترتيب الأحاديث، وأهمها: موطأ الإمام مالك المتوفى سنة 179 هـ وموطأ محمد بن الحسن الشيبانى المتوفى سنة 189 هـ. 6 - المعجم: وهو الكتاب الذى يرتب الأحاديث على أسماء الصحابة، أو الشيوخ، أو البلدان حسب ترتيب الحروف الهجائية لهذه الأسماء. فمثال المعجم على أسماء الصحابة: المعجم الكبير للطبرانى المتوفى سنة 360 هـ. ومثال المعجم على أسماء الشيوخ: المعجم الأوسط للطبرانى أيضا. ومثال المعجم على أسماء البلدان: معجم السفر لأبى طاهر السّلفى المتوفى سنة 576 هـ. 7 - الجامع: وهو كتاب الحديث المشتمل على الأبواب المختلفة من عقائد، وأحكام، ورقاق، وآداب وأكل وشرب وسفر ومقام، وما يتعلق بالتفسير والتاريخ والفتن والمثالب وغير ذلك، مثل جامع الترمذى المتوفى سنة 279 هـ. 8 - المستخرج: وهو الكتاب الذى يقوم راويه بتخريج أحاديث كتاب معين ولكن بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب فيجتمع معه فى شيخه أو من فوقه مثل: مستخرج أبى على الحسين بن على الخراسانى المتوفى سنة 312 هـ على صحيح الترمذى. 9 - الجزء: جمع الأحاديث المروية عن رجل واحد من الصحابة أو من بعدهم مثل: جزء الحسن بن سفيان النسائى المتوفى سنة 303 هـ ومستخرج

الإسماعيلي على البخارى. أو جمع الأحاديث فى موضوع واحد كجزء فى صلاة الضحى للسيوطى المتوفى سنة 911 هـ، أو جزء فى قيام الليل للمروزى المتوفى سنة 292 هـ. 10 - المستدرك: هو الكتاب الذى يستدرك فيه راويه ما فات راوى كتاب آخر من الأحاديث التى شرط على نفسه شروطا معينة لروايتها. مثل: المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابورى المتوفى سنة 405 هـ. 11 - الموضوع: هو كتاب جمع فيه صاحبه غالب ما رواه الوضاعون والكذابون، والغرض حصره فى مكان واحد ليعرف أنه كذب. مثل: الموضوعات لابن الجوزى المتوفى سنة 597 هـ واللآلى المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة للسيوطى المتوفى سنة 911 هـ. ومن هنا يعرف أنه بعد تدوين غالب السنة، واستقرار العلماء على تسجيلها فى الدفاتر والأسفار قلّت الحاجة إلى تجريح الرواة وتتبعهم كما كان الحال فى القرون الثلاثة الأولى، وصار جلّ اهتمام الرواة على نقل الأحاديث وروايتها من أسفارها المعتبرة، وليس من صدور الرواة، فاكتفى بتعديل الرواة على ستر الحال، وثناء العلماء على الراوى، وشهادتهم له بالتقوى والصلاح دون الحاجة إلى قوانين وقواعد الجرح والتعديل التى نشأت فى عصر الرواية. وبهذا نكون قد أجملنا القول فى معنى «الوحى» بنوعيه القرآن والحديث (ومنه الحديث القدسى)، إجمالا غير مخلّ بالمفهوم العلمى للوحى. على أن ما يجب أن أنبه عليه هو أن تقسيم الوحى إلى خفى وجلى، ليس من قبيل التقسيم الشرعى المنصوص عليه، وإنما هو تقسيم اجتهادى تصورى نابع من البحث والنظر والاستقراء، للتسهيل على الفهم العام. كما يجب التنبيه على أن «الوحى» بأنواعه كلها وحى واجب الاعتبار لا

يصح إنكار جزئية من جزئياته إذا صح ورودها طبقا للمواصفات العلمية الدقيقة التى حققها العلماء، ووضعوا ضوابطها. فالسنة الثابتة بالنقل المحرر الدقيق، كالقرآن سواء بسواء تستقل بالتشريع ويثبت بها الأحكام، ومنكرها منكر للوحى. قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (¬1). وقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (¬2). وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه» (¬3). وقالت الصحابة- وهم الذين عاينوا الوحى وشاهدوه-: «كان جبريل ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن». «وسأل رجل عبد الله بن الشّخير- رضى الله عنه- كالمعترض: «حدثنا بالقرآن. كل يوم تقول قال رسول الله .. قال رسول الله!! أما تقل يوما قال الله؟! فقال له عبد الله: أما وإنك لرجل أحمق، والله ما نبغى عن الله بديلا، ولكنّا نريد من هو أعلم منّا بالله (يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم). يا هذا أو تجد الظهر فى كتاب الله أربعا لا يجهر فيه بالقراءة؟» والواقع أن منكر السنة هو أصلا منكر للقرآن، لأن السنة والقرآن كليهما وحى مصدرهما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. فالذى أعلمنا بالقرآن هو النبى صلّى الله عليه وسلّم، ولولاه ما عرفنا القرآن فكيف ننكر قوله بالسنة؟. ولا ينسحب هذا الكلام على ما انفك عن ضوابط العلم من نقل الرواة المجرحين، فالمجرحون من الرواة جنّبت رواياتهم، وغربلت، ووضعت تحت مجهر البحث العلمى والنقد الفنى المنضبط، وقسمت الروايات كلها إلى: ¬

_ (¬1) الحشر: 7. (¬2) الأحزاب: 36. (¬3) النساء: 80.

نتيجة هذا المبحث

صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع. وجعل لكل قسم دواوين، وأسفار مستقلة منضبطة. كما عرف كل راو من نقلة الوحى معرفة تامة كاملة أحاطت بكل دقة باسمه، واسم أبيه. وأجداده، وكنيته، ولقبه، وسنة مولده ووفاته، وحياته، وشيوخه وتلاميذه، وكل ما ينفى الجهالة عنه فى دينه أو خلقه، ومحله من التعديل والجرح، والإتقان والضبط، بحيث لم يبق هناك إسناد ولا متن لم يخضع لمبضع العلم سندا أو متنا. حتى صار الإسناد وتوثيق الكلام ضابطا من ضوابط أمة الإسلام وخاصية، ومزية من المزايا لا تشاركها فيها أمة سواها. قال عبد الله بن المبارك رضى الله عنه: «الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء» (¬1). وروى عن محمد بن أسلّم الطوسى قوله: «قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل» (¬2). فما صحّ نقله أخذ بعين الاعتبار فى تشريع الحلال والحرام. نتيجة هذا المبحث: أن السنة النبوية المشرفة جزء من الوحى لا ينفصل عنه، أخذت حظّها من الحفظ مثلما أخذ القرآن سواء بسواء، وأخذت حظّها من الجمع والتدوين مثلما أخذ القرآن سواء بسواء غير أن جمعها وتدوينها تأخر لحين الانتهاء من استقرار القرآن الكريم بين دفتيه، حتى إذا ما أمن عليه عدم الاختلاط بغيره وأصبح متميزا جدّت الهمم لتدوين السنة مثلما جدّ لتدوين القرآن. ثم أخذ الوحى (قرآنا وسنة) مكانه فى إنشاء الحضارة الإسلامية، ثم رقيّها، ثم استقرارها. ¬

_ (¬1) علوم الحديث لابن الصلاح (ص 357)، والأحاديث التساعية (ص 48 من المقدمة). (¬2) الأحاديث التساعية ص 48 المقدمة.

المبحث الرابع: القرآن الكريم (الوحى الجلى)

المبحث الرابع: القرآن الكريم (الوحى الجلى) مطلب فى التعريف بالقرآن الكريم: (1) فى اللغة: أ- إما أن يكون مصدر على وزن: «فعلان»، ويكون فعله: «قرأ» بالهمزة ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ 17 (¬1) أى قراءته. «وقرأ» الشيء؛ أى: جمعه، وضمه بعضه إلى بعض، ويكون معنى: «القرآن: الجمع، والضم؛ سمى بذلك لأنه: يجمع الآيات فيضمها فى سورة، ويجمع السور فيضمها بعضها إلى بعض (¬2). وقيل: سمى بذلك لكونه جامعا لثمرة الكتب السماوية السابقة، أو لكونه جامعا لثمرة كل العلوم، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (¬3). ب- وإما أن يكون من: «قرن» تقول: قرن الشيء بالشيء: إذا ضمّه. ج- وإما أن يكون لفظ «قرآن». اسم علم مرتجل على كتاب الله غير مشتق من أى فعل (¬4). (2) فى الاصطلاح: حاول بعض الباحثين حصر القرآن الكريم في تعريف ذى قيود مميزة لخصائص القرآن فقال: هو كلام الله تعالى المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، المكتوب بين دفتى المصحف، المبدوء بسورة الحمد، المختوم بسورة الناس، المعجز بلفظه ومعناه، المتعبّد ¬

_ (¬1) القيامة: 17. (¬2) تاج العروس: 1/ 370. (¬3) النحل: 89. (¬4) مباحث فى علوم القرآن: للقطان (ص 16).

القيد الأول

بتلاوته، المنقول بالتواتر». ورغم أن القرآن الكريم لا يمكن حصره فى تعريف اصطلاحى لتعذر جمع قيوده الضابطة لمعناه، الحاصرة لأوصافه؛ غير أن هذا التعريف اشتمل على أشهر قيود المعرّف، وبيانها على النحو التالى (¬1): القيد الأول: إضافة الكلام إلى الله- عز وجل- فكانت العبارة «كلام الله» فخرج بهذا القيد: سائر كلام المخلوقين: كالملائكة والرسل والإنس والجن. القيد الثانى: «المنزل» خرج بهذا القيد: الكلام الإلهى الذى استأثر الله- تعالى به، ولم ينزله على أحد من خلقه. وهذا المنزل بالنسبة لغير المنزل قليل جدا؛ يشير إلى ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (¬2). القيد الثالث: «على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم» خرج بهذا القيد: الكلام الإلهى المنزل على الأنبياء والمرسلين قبله مثل: التوراة والزبور والإنجيل وصحف آدم وشعيب وإبراهيم وموسى يقول الحق- تبارك وتعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً 164 (¬3). ¬

_ (¬1) أنوار البيان فى علوم القرآن ص 7 - 11. (¬2) لقمان: 27. (¬3) النساء: 163، 164.

القيد الرابع

القيد الرابع: «المكتوب بين دفتى المصحف، وذلك أن النبى صلوات الله عليه وسلّم كان يدعو كتبة الوحى، ويأمرهم بكتابة الآيات والسور إثر تلقيها من جبريل- عليهما السلام- وقد أشار إلى ذلك قوله- سبحانه وتعالى-: وَالطُّورِ 1 وَكِتابٍ مَسْطُورٍ 2 فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ 3 (¬1). القيد الخامس: «أوله سورة الحمد وآخره سورة الناس» خرج بهذا القيد ما نسخت تلاوته، وما نسخت تلاوته وحكمه معا (¬2). القيد السادس: «المعجز بلفظه ومعانيه» فقد تحدى الله- سبحانه وتعالى- الإنس والجن، وطلب إليهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور أو بسورة واحدة فعجزوا قال تعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً 88 (¬3). وقال- عز وجل- أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 13 (¬4). هذا؛ من جهة اللفظ، أما من جهة المعانى: فقد ثبت إعجازه للخلق كافة: فمن نظر إلى آيات القرآن وجدها محدودة العدد إذا ما قورنت بالمعانى التي تندرج تحت الألفاظ ولا يزال عطاء القرآن ممتدا إلى يوم الجزاء. قال- جلت حكمته- وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ 89 (¬5). ¬

_ (¬1) الطور: 1 - 3. (¬2) أنظر مناهل العرفان 2/ 110، 111. (2) الإسراء: 88 .. (¬3) هود: 13. (¬4) البقرة: 23. (¬5) النحل: 89.

القيد السابع

وقد سجل لنا التاريخ بعضا ممن اختلت عقولهم وفسدت عقائدهم: حاولوا معارضة القرآن ففضح أمرهم وهموا بما لم ينالوا، إذ أن المطلع على كلامهم يجده هراء ولغوا لا يقوى على مواجهة الفصيح من كلام الخلق فضلا عن قدرته على مواجهة كلام الخلّاق، فكانت محاولاتهم بمثابة العدم المحض. (¬1) ولقد كان القرآن معجزا لأنه من لدن قوى قاهر أحاط بكل شىء علما، متصف بصفات الكمال ومتنزه عن صفات النقص فكان كلامه معجزا لذلك، وكلام المخلوقين صادر عن ضعيف ناقص لا يملك أسباب الكمال، لذا فقد جاء غير معجز ولا سالم من صفات النقص. ويخرج بهذا القيد- أيضا- الحديث القدسى، فهو منسوب إلى الله تعالى، لكنه لم يصل بألفاظه ومعانيه إلى حد الإعجاز. القيد السابع: «المتعبد بتلاوته» فقد تعبدنا الله- عز وجل- بتلاوته واعتبرها الشارع الحكيم عبادة فى حد ذاتها، فى الصلاة وفى خارجها. قال تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ (¬2) فقد أمر بالتلاوة فى الصلاة وجعلها ركنا من أركانها لا تصح الصلاة بدونها. وقال- تبارك وتعالى- آمرا بالتلاوة حاضا على التدبر والعمل بما فى القرآن من أوامر ونواه حيث قال: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (¬3)، وبهذا القيد خرج الحديث القدسى والحديث النبوى، والقرآن المنسوخ التلاوة لأن الله لم يأمرنا بتلاوتها فى الصلاة ولا فى خارجها ولم يتعبدنا بها كذلك. القيد الثامن: «المنقول بالتواتر» لم يحظ كتاب من الكتب السماوية بمثل ما حظى به ¬

_ (¬1) السيرة النبوية لابن هشام 4/ 577. (¬2) المزمل: 20. (¬3) القمر: 17.

مطلب فى بعض أسماء القرآن، وأوصافه

القرآن الحكيم من حيث قوة السند الناقل له حتى كان معصوما ومحفوظا من أيدى العابثين، والمقصود بالتواتر: هو أن ينقله جمع غفير لا يمكن تواطؤهم على الكذب- عن جمع مثلهم حتى يتصل السند بالمنزّل عليه صلّى الله عليه وسلّم. وهكذا قد نقل إلينا القرآن بسوره وآياته بهذا الطريق القطعى الثبوت، وقد هيأ الله له الأسباب حتى كان كذلك تحقيقا لوعده بحفظه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. (¬1) ويخرج بهذا القيد: ما نسخت تلاوته، والقراءات غير المتواترة سواء أكانت مشهورة أم غير ذلك مثل قراءة عبد الله بن مسعود (متتابعات) عقب قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وكقراءته- أيضا- رضى الله عنه (متتابعات) عقب قوله- عز وجل- وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فإن شيئا من ذلك لا يسمى قرآنا ولا يأخذ حكمه (¬2). فإن قال قائل: لم اهتم علماؤنا اهتماما بالغا بتدوين مثل هذه القراءات أو بما نسخت تلاوته على حين أنها لا يطلق عليها حكم القرآن ولا تسمى به؟ قيل: كان اهتمامهم بها (وبتدوينها) من أكبر الأدلة على مدى اهتمام المسلمين عامة والصحابة والأولين خاصة بتدوين كل ما يتعلق بكتاب ربهم سواء وصل سنده إلى حد التواتر أولا. كما أنه يحتاج إلى غير المتواتر عند اختلاف الأحكام الفقهية فى ترجيح أحدها على الآخر (¬3). مطلب فى بعض أسماء القرآن، وأوصافه: (أ) أسماؤه: للقرآن أسماء كثيرة أهمها: (1) القرآن: قال تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (¬4). (2) الكتاب: قال تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (¬5). ¬

_ (¬1) الحجر: 9. (¬2) مناهل العرفان 1/ 13، 14. (¬3) المرجع السابق 1/ 141. (¬4) الإسراء: 9. (¬5) البقرة: 2.

(ب) أوصافه

(3) الفرقان: قال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ (¬1). (4) الذكر: قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬2). (5) التنزيل: قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬3). (6) كلام الله: قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ (¬4). (ب) أوصافه: وصف الله تعالى القرآن الكريم بأوصاف كثيرة منها: 1 - أنه: «عربى، وبشير، ونذير» قال تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً (¬5). 2 - أنه: «هدى، وشفاء، ورحمة، وموعظة» قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (¬6). 3 - أنه: نور: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (¬7). 4 - أنه: بشرى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (¬8). 5 - أنه: عزيز وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (¬9). ¬

_ (¬1) الفرقان: 1. (¬2) الحجر: 9. (¬3) الشعراء: 192. (¬4) التوبة: 6. (¬5) فصلت: 3 - 4. (¬6) يونس: 57. (¬7) النساء: 184. (¬8) البقرة: 97. (¬9) فصلت: 41.

القسم الثانى علوم القرآن

القسم الثانى علوم القرآن

تمهيد

القسم الثانى علوم القرآن الكريم تمهيد: علوم القرآن بالمعنى الإضافى: هى كل ما يتعلق بعلوم الحضارة الإسلامية التى ذكرنا لك أن أساسها الوحى، سواء كانت هذه العلوم دينية، أم عربية. فعلوم القرآن إذا تشمل جميع علوم الحضارة الإسلامية من فقه، وتفسير، وحديث، وعقيدة، ونحو، وصرف، وبلاغة، وأدب. وغير ذلك. علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي: ويقصد بها مجموعة العلوم التى تتعلق مباحثها بالقرآن الكريم خاصة سواء ما يتعلق بنزوله، وترتيبه، وجمعه، وكتابته، وقراءته، وتفسيره، وإعجازه، وناسخه، ومنسوخه، ومكّيه ومدنيه، ودفع الشبه عنه، إلى آخره. موضوع علوم القرآن: هى مسائلها المتعلقة بالقرآن الكريم من أىّ ناحية من النواحى المذكورة فى التعريف، كل علم فيما يخص مسائله. (1) فعلم التفسير: موضوعه: القرآن الكريم من حيث شرح آياته، وبيان معناها. (2) وعلم الناسخ والمنسوخ: موضوعه: القرآن الكريم من حيث معرفة الآيات التى رفع حكمها بخطاب شرعى آخر متراخ عنه فى النزول. (3) وعلم القراءات: موضوعه: القرآن الكريم من ناحية لفظه وأدائه. وهكذا سائر علوم القرآن الباقية موضوعها كلها «القرآن الكريم» ولكن بالحيثيات المختلفة التى تتعلق بكل فنّ على حدة. علاقة علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي، بعلوم القرآن بالمعنى الإضافي: إذا كانت علوم القرآن بالمعنى الإضافى تشمل كافة العلوم المتعلقة بالحضارة

فائدة علوم القرآن الكريم

الإسلامية بالمعنى العام، وأن علوم القرآن بالمعنى الاصطلاحي تتعلق بالقرآن الكريم بالمعنى الخاص. فإن العلاقة بين المعنى الاصطلاحي، والمعنى الإضافى كعلاقة الفرع بالأصل، ونسبته إليها «كنسبة الفرع إلى أصوله، أو الدليل إلى مدلوله. كما عبّر الزرقانى فى «المناهل» (¬1). فائدة علوم القرآن الكريم: لما كانت الحضارة الإسلامية ككل مبنية أصلا على «الوحى». سواء أكان جليا وهو «القرآن». أم خفيا، وهو «السّنّة». فأن «المفسّر» للقرآن، والشارح للسنة يحتاج إلى أدوات يفسّر بها القرآن لتعينه على تقريب مراد الله تعالى من آياته إلى أذهان الناس. ولا وسيلة لهذا إلا بمعرفة العلوم التى تعينه على ذلك. ومثل علوم القرآن هنا كمثل علوم الحديث بالنسبة لمن أراد أن يدرس علم الحديث. وهو ما عبر عنه السيوطى فى مقدمة «الإتقان». حين قال: «ولقد كنت فى زمان الطلب أتعجب من المتقدمين إذ لم يدونوا كتابا فى أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث». ثم أخذ يستعرض ما وقع له من مشايخه فى علوم القرآن (¬2). وبهذا يعرف فى الجملة أن من أراد أن يقترب من مراد الله تعالى فى آيات القرآن فعليه أن يلم إلماما كافيا بعلوم القرآن فهى وسيلته التى تعينه على ذلك. أهمية علوم القرآن: (1) لا شك أن القرآن الكريم نفسه هو أساس مادة التشريع والأحكام، وبيان ¬

_ (¬1) مناهل العرفان لمحمد عبد العظيم الزرقانى 1/ 28. (¬2) مقدمة كتاب «الإتقان» للسيوطى 1/ 4.

تطور علوم القرآن

الحلال والحرام، ولا يعرف ذلك إلا من خلال معرفة علوم القرآن الكريم كمعرفة المكى والمدنى، وأول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل، ليتوصل بذلك إلى ما إذا كان الحكم منسوخا أو محكما، فهذه العلوم هى التى تمد المفسر ببيان التفسير، وتمد الفقيه بمعرفة الأحكام، وتمد الأصولى بالقواعد الكلية. (2) ولمواقع النظم القرآنى غرض لا يعرفه إلا من تمرس بعلم البلاغة، ولبيان إعجاز القرآن، وبلاغته يلجأ إلى دراسة علم إعجاز القرآن ودراسة أسلوبه. (3) وكذلك فإن معانى القرآن، وأسلوب القرآن، وضمائره، كلها تتضافر مع علم الناسخ والمنسوخ، والمكىّ والمدنى، المتقدم والمتأخر، وغيرها من علوم القرآن فى خدمة القضايا الكلية التى نزل القرآن أصلا لمعالجتها سواء فى النواحى الاجتماعية، أم السياسية، أم الاقتصادية، أم الحربية، أم الأخلاقية، أم غير ذلك. تطور علوم القرآن يرى كثير من الباحثين أن علوم القرآن لم تترعرع وتشب عن الطوق إلا على يد بدر الدين الزركشى فى نهاية القرن الثامن الهجرى. غير أنه يحسن بنا أن نلقى الضوء فى اختصار على تاريخ بدء هذا العلم ومراحل نموّه فى النقاط التالية: * نشأت علوم القرآن فى صدور الصحابة- رضوان الله عليهم- حيث كانوا أعلم الناس بالقرآن ومعرفة علومه دون أن تكون لهذه العلوم ثمة شىء من التدوين أو التسجيل، شأن كافة العلوم التى نبتت فى صدور الصحابة، وعرفوها وميزوا آيات الذكر الحكيم على ضوئها دون أن تسمّى هذه العلوم، فضلا عن أن يكون لها نصيب من التدوين، إذ كان النهى عن تدوين غير القرآن أمر صاحب الرسالة- صلوات الله وسلامه عليه- مخافة أن يلتبس غير القرآن به. وما أن كانت الخلافة الراشدة الثالثة حتى هبّ عثمان بن عفان- رضى الله عنه- بجمع القرآن على لغة واحدة هى لغة قريش، وعلى رسم واحد فى الكتابة

عرف حتى يومنا هذا باسم «الرسم العثمانى». وكان هذا العمل بعد أن بلغه أن المسلمين فى الأمصار من أهل القبائل المختلفة يكادون يتقاتلون لاختلاف القراءات والروايات. وما أن جمع المصحف على لغة واحدة، ورسم واحد، حتى نسخت منه عدة نسخ أرسلت إلى مختلف الأمصار الإسلامية، وأحرق ما عداها. وبهذا يكون خليفة المسلمين الثالث عثمان- رضى الله عنه- قد وضع أول لبنة فى «علم رسم القرآن». وهو أحد «علوم القرآن» وهو علم الرسم والضبط. ولما انتقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة فى عهد على- كرم الله وجهه- وانتشر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ظهرت مدارس التفسير فى الأمصار الإسلامية وعلى رأسها: (1) المدرسة المكية: وشيخها ابن عباس- رضى الله عنهما- وتلاميذها: مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغيرهم. (2) المدرسة المدنية: وشيخها أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- وتلاميذها: أبو العالية، ومحمد بن كعب القرظى، زيد بن أسلم العدوى، وغيرهم. (3) المدرسة العراقية: وشيخها عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- وتلاميذها: الحسن البصرى، علقمة النخعى، ومسروق بن الأجوع، وعامر الشعبى، وغيرهم. وقد قدّم لنا المعنيون برصد علوم القرآن مادة علمية وفيرة، سواء ما يتعلق منها بإنشاء علوم القرآن علما علما، أو ما يتعلق منها بحصر ما كتب حولها منذ نشأة هذه العلوم. وإذا كان القرآن الكريم هو أصل الأصول فى إنشاء الحضارة الإسلامية فلا غرابة أن تكون العلوم التى تأسست على هذا الأصل قد بلغت عشرات العلوم.

وإذا نحن تتبعنا ما رصده بدر الدين الزركشى، وجلال الدين السيوطى من علوم القرآن الكريم وحده لوجدنا أنها تعدّت السبعين علما. وهذا السيوطى على وجه التحديد يذكر لنا ثمانين علما من علوم القرآن الكريم. والناظر فيها إجمالا يجدها تندرج تحت ستّ مجموعات يمكن إجمالها على النحو التالى: المجموعة الأولى: علوم تتعلق بنزول القرآن الكريم، وتبلغ ستة عشر علما هى: 1 - علم معرفة: ما نزل بمكة، وما نزل بالمدينة. 2 - علم معرفة: ما نزل فى الحضر، وما نزل فى السفر. 3 - علم معرفة: ما نزل فى الليلى، وما نزل فى النهار. 4 - علم معرفة: ما نزل فى الصيف، وما نزل فى الشتاء. 5 - علم معرفة: ما نزل فى الفراش، وما نزل فى النوم. 6 - علم معرفة: ما نزل فى الأرض، وما نزل فى السماء. 7 - علم معرفة: أول ما نزل من القرآن. 8 - علم معرفة: أخر ما نزل من القرآن. 9 - علم معرفة: أسباب نزول آيات القرآن وسوره. 10 - علم معرفة: ما أنزل من القرآن على لسان بعض الصحابة. 11 - علم معرفة: ما تكرر نزوله من الآيات، أو السور. 12 - علم معرفة: ما تأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه. 13 - علم معرفة: ما نزل مفرقا، وما نزل جمعا. 14 - علم معرفة: ما نزل مشيّعا، وما نزل مفردا. 15 - علم معرفة: ما أنزل من القرآن على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه

أ - ما يتعلق بالقراءة

على أحد قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم. 16 - علم معرفة: كيفية إنزاله. المجموعة الثانية: علوم تتعلق بذات القرآن الكريم، وتصل إلى تسعة علوم وهى: 17 - علم معرفة: أسماء القرآن، وأسماء سوره. 18 - علم معرفة: عدّ سوره، وآياته، وكلماته، وحروفه. 19 - علم معرفة: فواصل الآى. 20 - علم معرفة: فواتح السّور. 21 - علم معرفة: خواتم السور. 22 - علم معرفة: مناسبة الآيات، والسور لما قبلها، وما بعدها. 23 - علم معرفة: فضائل القرآن. 24 - علم معرفة: أفضل القرآن، وفاضله. 25 - علم معرفة: خواص القرآن. المجموعة الثالثة: علوم إجرائية تتعلق بالقراءة، والكتابة، والآداب، وتبلغ عشرة علوم. أ- ما يتعلق بالقراءة: 26 - علم معرفة: أماكن الوقف، وأماكن الابتداء فى القراءة. 27 - علم معرفة: الإدغام، والإظهار، والإخفاء، والإقلاب. 28 - علم معرفة: ما ينبغى أن يمد، وما ينبغى أن يقصر. 29 - علم معرفة: الإمالة، والفتح. 30 - علم معرفة: تخفيف المهموز. 31 - علم معرفة: الموصول لفظا، المفصول معنى.

ب - ما يتعلق بالكتابة

ب- ما يتعلق بالكتابة: 32 - علم معرفة: رسم خط المصحف. 33 - علم معرفة: جمع القرآن، وترتيبه. 34 - علم معرفة: كيفية تحمله، وحفظه. 35 - علم معرفة: آداب تلاوته، وآداب تاليه. المجموعة الرابعة: علوم تتعلق بدرجة تحمّل القرآن عن السلف حفظا، ورواية. وتصل إلى ثمانية علوم هى: 36 - علم معرفة: حفّاظه، ورواته. 37 - علم معرفة: العالى والنازل من أسانيده. 38 - علم معرفة: المتواتر. 39 - علم معرفة: المشهور. 40 - علم معرفة: الآحاد. 41 - علم معرفة: الشاذ. 42 - علم معرفة: المدرج. 43 - علم معرفة: الموضوع. المجموعة الخامسة: هى العلوم المستنبطة من القرآن، وهى أنواع: أ- علوم اللغة، والنحو، والبلاغة. 44 - علم معرفة: مفردات القرآن. 45 - علم معرفة: غريب القرآن. 46 - علم معرفة: ما وقع فى القرآن بغير لغة أهل الحجاز. 47 - علم معرفة: ما وقع فى القرآن بغير لغة العرب.

48 - علم معرفة: إعراب القرآن. 49 - علم معرفة: المحكم والمتشابه. 50 - علم معرفة: العام والخاص. 51 - علم معرفة: المجمل والمبين. 52 - علم معرفة: مطلقه ومقيده. 53 - علم معرفة: مشكلة، وموهم الاختلاف، والتناقض. 54 - علم معرفة: مقدمه، ومؤخره. 55 - علم معرفة: منطوقه، ومفهومه. 56 - علم معرفة: الخطاب فى القرآن، ووجوهه. 57 - علم معرفة: حقيقة القرآن ومجازه. 58 - علم معرفة: تشبيهه، واستعارات. 59 - علم معرفة: كناياته، وتعريضاته. 60 - علم معرفة: الحصر، والاختصاص. 61 - علم معرفة: الإيجاز والإطناب. 62 - علم معرفة: الخبر والإنشاء. 63 - علم معرفة: بديع القرآن. 64 - علم معرفة: إعجاز القرآن. 65 - علم معرفة: الوجوه والنظائر. 66 - علم معرفة: المتشابه. 67 - علم معرفة: المبهم. 68 - علم معرفة: أسماء من نزل فيهم القرآن. 69 - علم معرفة: ما وقع فى القرآن من الأسماء، والكن، والألقاب.

ب - علوم أخرى أشار إليها القرآن الكريم تنبيها لا تفصيلا

70 - علم معرفة: أمثال القرآن. 71 - علم معرفة: أقسام القرآن. 72 - علم معرفة: جدل القرآن. 73 - علم معرفة: الناسخ والمنسوخ. ب- علوم أخرى أشار إليها القرآن الكريم تنبيها لا تفصيلا: 74 - كعلم الأجنة، والطب النفسى والعضوى، والعلوم الفلكية، والجغرافية، وعلوم الحرف، والصناعات، وغيرها. المجموعة السادسة: وهى علوم تتعلق بخدمة القرآن تفسيرا، واستنباطا، وبيانا وتأويلا. 75 - علم معرفة: تفسير القرآن. 76 - علم معرفة: الأدوات التى يحتاج إليها المفسر. 77 - علم معرفة: القواعد النحوية التى يحتاج إليها المفسر. 78 - علم معرفة: شروط المفسر وآدابه. 79 - علم معرفة: غرائب التفسير. 80 - علم معرفة: طبقات المفسرين. وللباحثين تقريع هذه العلوم واستنباط ما يشاءون منها من علوم القرآن الكريم، فهو معين لا ينضب، وقد قال من نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم: «هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرّد، ولا تنقضى عجائبه». (¬1) ¬

_ (¬1) سنن الترمذى 5/ 172 الحديث رقم 2906.

الباب الأول علم التفسير

الباب الأول علم التفسير

تمهيد، وتعريف

الباب الأول علم التفسير تمهيد، وتعريف: من المفيد جدا أن نقول: إن علم «التفسير» هو أصل علوم القرآن كلها؛ وهو أول ما نشأ من هذه العلوم، وكانت نشأته بذرة طيبة نبتت وترعرعت فى أحضان «الوحى». فالمفسر، والمبين الأول عن الله تعالى، هو رسول رب العالمين، ومن أنزل عليه القرآن الذى طولب بأن يكون هو المبين، والموضح، والمفسر له. قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1). وكان تفسير النبى صلّى الله عليه وسلّم فى الحدود المطلوبة التى احتاج الناس إليها فى زمنه، فلم يؤثر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه فسّر جميع القرآن آية آية. ذلك أن القرآن كان ينزل فيترجم إلى سلوك، وواقع عملى، وكان هذا السلوك الواقعى هو أعظم ما يفسر القرآن ويبينه، ويوضّحه، إلى جانب أن القرآن كان ينزل بلغة العرب، وما تعارفوا عليه من استعمالاتها البلاغية المختلفة، ولم يكونوا قد اختلطوا- بعد- بغيرهم من أصحاب اللغات الأخرى. وكان منهج النبى صلّى الله عليه وسلّم فى بيانه وتفسيره للقرآن يقوم على القرآن نفسه، فما هو مبهم فى موضع موضح فى موضع آخر كما فى قوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (¬2). عرّفوا فى سورة النساء بأنهم النبيون، والصديقون، والشهداء، والصالحون فى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (¬3). ¬

_ (¬1) النحل: 44. (¬2) فاتحة الكتاب: 7. (¬3) النساء: 69.

كما اعتمد تفسيره صلّى الله عليه وسلّم على ما كان «يوقفه الوحى» عليه من التفسير، كما فى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (¬1)؛ قال صلّى الله عليه وسلّم؛ الكوثر «نهر فى الجنة أعطانيه ربّى» (¬2). أو ما كان ينزل لسبب من الأسباب الكثيرة الواردة فى مظانها المختلفة من علم التفسير. ولم يكن ثمّة حاجة إلى تدوين التفسير فى عهده صلّى الله عليه وسلّم لبواعث هامة اقتضتها النبوة، وهى النّهى عن تدوين شىء «غير القرآن» آنذاك، وهو باعث لا يدركه إلا النبىّ بينما يلوكه بالنقد من يجهل مثل هذا الباعث الهام. ولكن المتفحص لهذا الباعث يرى أنه من قبيل الإرهاصات النبوية للمستقبل، فعدم تدوين شىء من تفسير النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أو شىء من أحاديثه فى غير مجال التفسير، أفسح المجالات الواسعة لظهور علوم الحضارة الإسلامية، وهى مئات العلوم. لأنه لمّا لم تدوّن علوم القرآن، ولا علوم الحديث؛ ظهر الافتيات على الأمة ورسولها بظهور الكذابين، والوضاعين، فقام الجهابذة من العلماء لوضع القوانين العلمية الضابطة لعلوم القرآن، ولعلوم الحديث، ولولا ذلك ما شحذت الهمم لمثل هذا القيام. وكان أول ما ظهر علم تفسير القرآن الذى صار بعد ذلك محتاجا إلى إظهار كافة علوم القرآن علما علما. فالمفسّر صار يحتاج فى تفسيره إلى معرفة، القراءات الواردة عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم لأن هذه القراءات بمثابة بيان للقرآن، وتفسير له. واحتاج فى تفسيره إلى معرفة علوم نزوله: كالمكى والمدنى، وما نزل أولا، وما نزل آخرا؛ وغير ذلك من علوم القرآن. وكان كلما تباعد الزمان عن وقت نزول الوحى قلّت الحاجة إلى ذلك فى زمن التنزيل لقربهم من التعامل الذاتى مع الوحى، وشارحه المكلف بالبيان وهو ¬

_ (¬1) سورة الكوثر (¬2) صحيح البخارى بحاشية السندى 3/ 221.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلا غرابة إذا أن يكون التفسير هو أمّ علوم القرآن كلها، وأنها إنما ابتكرت ونشأت لخدمة التفسير، فالتفسير إذا علم خادم لكتاب الله عز وجل، وعلوم القرآن كلها، أو جلّها- على أقل تقدير- خادمة لعلم التفسير. فأصبح من اللازم علينا أن نجعل منهجنا فى هذا المدخل وفقا لما عنونّا به هذه الدراسة وهى (مدخل إلى التفسير وعلوم القرآن) ليخبر عنوان هذه الدراسة عمّا يحتويه باطنها من القصد العلمى، ويلمس كبد الحقيقة منها. تعريف التفسير: يستعمل التفسير فى الكشف الحسى، كما يستعمل فى الكشف عن المعانى المعقولة، والاستعمال الثانى أكثر. التفسير: لغة مأخوذ من «الفسر» وهو: الإبانة وكشف المغطّى. والتأويل: ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر. وقال ثعلب: «التفسير والتأويل واحد» (¬1). واصطلاحا: عرفه الزركشى فى «البرهان» بأنه: 1 - علم يعرف به فهم كتاب الله تعالى المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه (¬2). 2 - أو هو: «علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية». 3 - أو هو: علم يبحث فى نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها. ويظهر من هذه التعاريف أن موضوع التفسير هو آيات القرآن الكريم من حيث بيان معانيها واستخراج أحكامها وحكمها. ¬

_ (¬1) القاموس المحيط (مادة: فسر). (¬2) البرهان فى علوم القرآن للزركشى 1/ 13.

مبحث فى: نشأة التفسير ومراحله

مبحث فى: نشأة التفسير ومراحله 1 - كان القرآن ينزل منجما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مدى ثلاثة وعشرين عاما فمنه ما كان ينزل على الحوادث والأسباب، فيكون هذا بيانه وتفسيره، ومنه ما كان ينزل ابتداء، وفيه من بواطن العلم ما لا يعرفه أحد إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيفسره ويوضحه للناس كما ورد فى تفسير الكوثر فى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قال: «الكوثر نهر فى الجنّة أعطانيه ربى». فكان النبى صلّى الله عليه وسلّم هو المصدر الأول للتفسير، والمرجع الأساسى المبين لمراد الله- تعالى- على وجه الحقيقة. 2 - وانتقل علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى معرفة كتاب الله وبيان معانى آياته إلى فئة معينة من أصحابه- رضى الله عنهم- وكانوا ستة عشر نفرا هم أعلم الأمة بالتفسير وهم: (أ) من الرجال: 1 - أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- 2 - عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- 3 - عثمان بن عفان- رضى الله عنه- 4 - على بن أبى طالب- رضى الله عنه- 5 - عبد الله بن عباس- رضى الله عنه- 6 - عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- 7 - أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- 8 - زيد بن ثابت- رضى الله عنه- 9 - أبو موسى الأشعرى- رضى الله عنه- 10 - عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه- 11 - أنس بن مالك- رضى الله عنه- 12 - أبو هريرة- رضى الله عنه- 13 - عبد الله بن عمر- رضى الله عنه- 14 - عبد الله بن عمرو- رضى الله عنه- 15 - جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- (ب) ومن النساء: 16 - عائشة- رضى الله عنها.

أما الستة نفر الأخيرة فلم يرو عنهم من التفسير سوى النذر اليسير وبقى علم التفسير منحصرا كله فى العشرة رجال الأول (¬1). غير أن المكثرين منهم فى رواية التفسير عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، بله الاجتهاد أيضا فى الحدود الشرعية انتهى إلى أربعة منهم سنذكرهم أيضا فى الترتيب التالى بحيث الأكثر فالأقل وهم: 1 - عبد الله بن عباس- رضى الله عنه- 2 - عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- 3 - عليّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه 4 - أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- وعلى علم هؤلاء الأربعة نما علم التفسير وترعرع. كما نشأت على أيديهم أهم مدارس التفسير فيما بعد، عند ما تفرق الصحابة فى الأمصار بسبب نقل الخلافة الإسلامية من المدينة إلى الكوفة فى زمن الخليفة الرابع علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه، وبسبب الفتوحات الإسلامية. (1) فنشأت المدرسة المكية فى التفسير على يد ابن عباس- رضى الله عنهما- (2) ونشأت المدرسة المدنية على يد أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- (3) ونشأت مدرسة العراق فى الكوفة على يد عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- وبهذا انتقل التفسير من المرحلة الأولى فى عصر الصحابة إلى المرحلة الثانية فى عهد التابعين، ثم انتقل من صدور التابعين إلى صدور أتباع التابعين. وكان التفسير خلال هذه العهود الثلاثة يحتفظ بطابع الرواية والمشافهة من الصدور إلى الصدور، لأنه كان جزءا لا يتجزأ من علم الحديث، حتى ما جرى عليه علم الحديث بعد ذلك من التدوين فى أواخر عهد الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 204.

مطلب فى: أقسام التفسير وأنواعه

مطلب فى: أقسام التفسير وأنواعه: يختلف الباحثون فى تقسيم التفسير باعتبار اصطلاحاتهم فى هذا التقسيم إذ يعتمد ذلك على قرائحهم، واجتهاداتهم فى التفريع وتنظيم العلوم على النحو التالى: (1) تقسيم عبد الرزاق بن همام الحميرى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: التفسير أربعة أقسام: 1 - قسم تعرفه العرب فى كلامها. 2 - وقسم لا يعذر أحد بجهالته من الحلال والحرام. 3 - وقسم يعلمه العلماء خاصة. 4 - وقسم لا يعلمه إلا الله وحده. قال الزركشى فى البرهان: وهذا تقسيم صحيح (¬1). (2) تقسيم عام يقول به بعض الباحثين فيقسمه إلى قسمين اثنين هما: أ- تفسير جاف لا يتجاوز حلّ الألفاظ، وإعراب الجمل، وبعض النكات البلاغية. ب- تفسير هادف غرضه تجلية هدايات القرآن وتعاليمه، وحكمة الله فيما شرع للناس. (3) تقسيم ثالثا مشهور علميا، وهو ثلاثة أقسام: أ- تفسير بالرواية، ويسمى أيضا: «التفسير بالمأثور». ب- تفسير بالدراية، ويسمى أيضا: «التفسير بالرأى» و «التفسير بالاجتهاد». ج- تفسير بالإشارة ويسمى أيضا: «التفسير الإشارى». ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 2/ 164.

مطلب فى: شروط المفسر، وآدابه

وهذا التقسيم الأخير هو ما يجرى عليه العمل فى الأوساط التعليمية، لأنه أقرب تفريعا إلى النواحى العلمية المتعلقة بالدراسات الجامعية والمدرسية. وسنتحدث عن كل نوع أو قسم، أو لون من هذه الألوان الثلاثة الأخيرة أيضا فى مباحث مستقلة إن شاء الله تعالى. مطلب فى: شروط المفسر، وآدابه أولا: شروط المفسر: ينبغى ألا يتصدى للتفسير من لم يحط بمجمل الشروط التى حددها العلماء لمن يتصدى للبيان عن مراد الله- تعالى- وأهمها: 1 - أن يكون المفسّر صحيح الاعتقاد بالله تعالى، فإن صحة العقيدة تقى المفسّر من تحريف النصوص، وخيانة الآيات، والوقاية من الزلل فيها. 2 - التخلى عن الأهواء المذهبية، والتحلى بالحق لوجه الحق دون لىّ أعناق الآيات لمذهب يروج له، أو عقيدة خاصة ينحرف بالقرآن إليها. 3 - ألا يخوض فى التفسير الاجتهادى حتى يتم له النظر والإثبات فى التفسير بالمأثور على النحو التالى: أ- أن يطلب التفسير من القرآن نفسه، فإن القرآن يشرح بعضه بعضا فى آيات مختلفة. ب- ثم إن لم يجد: طلب التفسير من السنّة فإن النبى صلّى الله عليه وسلّم هو المبين الحقيقى عن الله- تعالى- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1). ج- ثم إن لم يجد: طلب التفسير فى أقوال الصحابة، فهم أقرب الناس ¬

_ (¬1) النحل: 44.

ثانيا: آداب المفسر

جميعا إلى رؤية الوحى، ومعرفة الوقائع، وأقرب إلى التقوى وسمت النبى صلّى الله عليه وسلّم، واقرب الأجيال جميعا إلى الملكة اللغوية التى نزل بها القرآن الكريم. د- ثم إن لم يجد: اجتهد فى تفسير آيات الذكر الحكيم بما حصّل من الأدوات الضرورية واللازمة لكل مفسر وهى تحصيل العلوم المعينة على التفسير والبيان وأهمها: 1 - العلم باللغة العربية 2 - العلم بالنحو 3 - العلم بالاشتقاق 4 - علم الأبنية. 5 - علوم البلاغة الثلاثة: المعانى، والبيان، والبديع 6 - علم القراءات. 7 - علم الكلام. 8 - علم أصول الفقه. 9 - علم أصول الدين 10 - علم السيرة والقصص. 11 - علم الناسخ والمنسوخ. 12 - علم الحديث. 13 - علم الموهبة. ثانيا: آداب المفسّر: 1 - حسن النية، وسلامة القصد لله تعالى. 2 - حسن الخلق 3 - الورع والتقوى. 4 - تحرى الصدق والضبط فى النقل 5 - عزّة النفس. 6 - التواضع ولين الجانب. 7 - الجهر بالحق. 8 - التروى والأناة فى سر التفسير. 9 - حسن الإعداد وطريقة الأداء. 10 - تقديم من هو فى العلم أولى منه. والله أعلم

مبحث فى الأربعة المكثرون فى التفسير من الصحابة

مبحث فى الأربعة المكثرون فى التفسير من الصحابة رأينا أن التفسير، قام فى باكورته الطاهرة الأولى على جهود خمسة عشر صحابيا، شاركتهم أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها. فكان لجهود هؤلاء الستة عشر فضل السبق فى خدمة القرآن الكريم، وإرساء المادة العلمية القيمة لعلم التفسير الذى هو الغرض الأول من انزاله ليكون عقيدة، وتشريعا، وأخلاقا وارساء لدعائم الحضارة الإسلامية. غير آن ثمة أربعة منهم قامت على أكتافهم مهمة التفسير فى جيلهم، ثم تواصلت مهمتهم الطيبة المشكورة حتى امتدت فيما بعد إلى الأمصار الإسلامية، فيما سنعرفه عند الحديث عن مدارس التفسير فى عصر التابعين، وهؤلاء الأربعة هم: ابن عباس، وابن مسعود، وعلى وأبىّ رضى الله عنهم جميعا، وسنوجز الكلام عنهم فيما يأتى:- (1) عبد الله بن عباس- رضى الله عنه- التعريف به: * هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشى، الهاشمى ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. * ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، والنبى صلّى الله عليه وسلّم محصور بالشعب بمكة. * توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة وقيل: خمس عشرة سنة * لازم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لقرابته منه عليه الصلاة والسلام، ولأن خالته ميمونة أم المؤمنين زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم. * مات- رضى الله عنه- بالطائف ودفن بها سنة (69 هـ) وله من العمر سبعون سنة.

علم ابن عباس - رضى الله عنه -

علم ابن عباس- رضى الله عنه- حظى ابن عباس بموهبة علمية فذّة جعلته على درجة عالية من الاجتهاد، ومعرفة تامة بالفقه ومعانى كتاب الله العزيز مما جعل شخصية عظيمة مثل شخصية عمر بن الخطاب الخليفة الثانى- رضى الله عنه- يرفع منزلته عنده ويدنيه منه ويقربه من مجالس كبار الصحابة ومتقدميهم فى السن والمنزلة، حتى أن ابن عباس- رضى الله عنه- يقدم لنا بنفسه هذه الصورة فى بيانه التالى الذى نقله البخارى إلينا. «كان عمر يدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد فى نفسه، وقال: لم تدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم فدعاهم ذات يوم، فأدخلنى معهم، فما رأيت أنه دعانى يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون فى قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا: فقال لى: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الله فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وذلك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول» (¬1). لم يصل ابن عباس إلى هذه المنزلة إلا بشيئين هامين: الأول: دعاء النبى صلّى الله عليه وسلّم له: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل» (¬2). الثانى: دأبه على تحصيل العلم فقد مكث يعقل النبوة والوحى ثمانى سنوات على الأقل فى بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند خالته أم المؤمنين «ميمونة» فنهل من بيت النبوة فى تلك الفترة ما شاء الله له أن ينهل (¬3). وبعد أن لحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بربه انصرف ابن عباس إلى كبار الصحابة يستزيد ¬

_ (¬1) من صحيح البخارى بحاشية السندى 3/ 222، الإتقان للسيوطى 4/ 206. (¬2) صحيح البخارى بشرح فتح البارى 1/ 138. (¬3) التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبى 1/ 68.

* تقريظ عمر له رضى الله عنهما

من علمهم، ويتزود من معارفهم، منهم الخلفاء الأربعة، وزيد بن ثابت وأبىّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود وغيرهم، فأدرك ما فاته فى صغره منهم، ولحقت به دعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له: «اللهم فقهه فى الدين، وعلمه التأويل» «اللهم آته الحكمة» (¬1). * تقريظ عمر له رضى الله عنهما: 1 - «إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا، وأفقههم فى دين الله». 2 - ذاكم فتى الكهول: «إن له لسانا سئولا، وقلبا عقولا». 3 - يا ابن عباس: «إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل، فأنت لها ولأمثالها» (¬2). * شهادة عبد الله بن مسعود: 1 - «نعم ترجمان القرآن ابن عباس». * شهادة أقرانه: يقول فيه ابن عمر رضى الله عنهما: 1 - «ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد». * شهادة تلاميذه (¬3): 1 - روى الأعمش عن أبى وائل قال: «استخلف «علىّ» عبد الله بن عباس على الموسم فقرأ فى خطبته سورة البقرة- أو قال: سورة النور- ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم، والترك، والديلم لأسلموا. 2 - قيل لطاوس: «لزمت هذا الغلام- أى ابن عباس- وتركت أكابر الصحابة! فقال: «إنى رأيت سبعين رجلا من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا تدارءوا- أى ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 206. (¬2) التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبى 1/ 67. (¬3) المرجع السابق.

منزلة ابن عباس فى التفسير

اختلفوا- فى أمر صاروا إلى قول ابن عباس». 3 - وقال عطاء: «ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس: أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واحد». 4 - وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: «كان ابن عباس قد فات الناس بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب، وتأويل، وما رأيت أحدا كان أعلم بمن سبقه من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه، ولا بقضاء أبى بكر، وعمر، وعثمان منه، ولا أفقه فى رأى منه، ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه. ولقد كان يجلس يوما ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويوما التأويل، ويوما المغازى، ويوما الشعر، ويوما أيام العرب، ولا رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما». فلا غرابة بعد ذلك أن يكون علم ابن عباس- رضى الله عنه- فى مقام رفيع بين أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأن يلقبه محمد بن الحنفية ب «حبر الأمة»، بعد أن دفنه بيده فى الطائف قال «مات والله اليوم حبر هذه الأمة». ولعل أصدق عبارة تشرح منزلة ابن عباس- رضى الله عنه- فى وضوح لا لبس فيه ولا غموض تلك الجملة الفائقة العظيمة للإمام عليّ- كرم الله وجهه- يقرظ علم ابن عباس فى التفسير فيقول: «كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق». منزلة ابن عباس فى التفسير إنك لتستطيع أن تتبين منزلة ابن عباس فيما أثر عنه من روايات توضح مدى اجتهاده فى تقريب المعنى المراد من كلام الله تعالى بقلب مؤمن؛ وعقل واع رشيد، وذاكرة حافظة لشعر العرب ولغاتهم. * أخرج البخارى عن ابن عباس: قال: قال عمر يوما لأصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم: «فيمن ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ (¬1). قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ¬

_ (¬1) البقرة: 266.

ابن عباس: فى نفسى منها شىء، فقال: يا ابن أخى، قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل، فقال عمر: أى عمل؟ قال ابن عباس: لرجل يعمل بطاعة الله، ثم بعث له الشيطان فعمل بالمعاصى حتى أغرق أعماله. * وأخرج أبو نعيم فى «الحلية» (¬1): أن عمر بن الخطاب جلس فى رهط من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلم كل بما عنده، فقال عمر: مالك يا ابن عباس لا تتكلم! تكلم ولا تمنعك الحداثة، قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إن الله وتر يحب الوتر، فجعل أيام الدنيا تدور على السبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعا، وخلق تحتنا أرضين سبعا وأعطى المثانى سبعا، ونهى فى كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع. وقسم الميراث فى كتابه على سبع، ونقّع فى السجود من أجسامنا على سبع وطاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكعبة سبعا، وبين الصفا والمروة سبعا، ورمى الجمار بسبع، فأراها فى السبع الأواخر من شهر رمضان، فتعجب عمر، وقال: ما وافقنى فيها أحد إلا هذا الغلام الذى لم تستو شئون رأسه، ثم قال: يا هؤلاء من يؤدينى فى هذا كابن عباس» (¬2). * يقول سعيد بن جبير: سألنى يهودى بالكوفة وأنا أتجهز للحج: إنى أراك رجلا متتبع العلم، فأخبرنى أى الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب- يعنى ابن عباس- فسائله عن ذلك، فلما قدمت مكة، سألت ابن عباس عن ذلك، وأخبرته بقول اليهودى، فقال ابن عباس: قضى أكثرهما وأطيبهما: إن النبى إذا وعد لم يخلف. قال سعيد: فقدمت العراق، فلقيت اليهودى فأخبرته، فقال: «صدق والذى أنزل على موسى» (¬3). * وعند ما يسأل عن عدد أهل الكهف فيقول: (ما يعلمهم إلا قليل) وأنا من القليل الذين يعلمون عددهم، فيقولون: وكيف، فيقول: إن الله تعالى ذكر ثلاثة أقوال لأهل الكتاب فى عددهم فوصف القولين الأولين بأنهما رجم بالغيب (أى ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 206. (¬2) الإتقان للسيوطى 4/ 207. (¬3) المصدر السابق.

أسباب نبوغ ابن عباس رضى الله عنه

كذب) وسكت عن الثالث وهو أنهم سبعة والثامن كلبهم، فدل على صحته لأنه لو كان باطلا لرده كما ردهما. إذا فلقد عرف كبار الصحابة منزلة ابن عباس وقيمته فى التفسير لآيات الكتاب الحكيم وفى الفتيا رغم حداثة سنه بالنسبة لهم. وهذا وحده يبين لك أن ابن عباس- رضي الله عنه- هو أساس علم تفسير القرآن الكريم بلا مراء،- رضي الله عنه- وعن أبيه ونفعنا الله بعلمه. أسباب نبوغ ابن عباس رضى الله عنه: لعل من أهم الأسباب التى ساعدت على بروز العلم فى شخص ابن عباس رضى الله عنه واحتلاله لمنزلة العالم الذى تتجه إليه الأنظار، وترشحه العقول للفتيا، وبيان آيات الله العزيز ترجع فى مجملها إلى مجموعة من العوامل أهمها: أولا: بركة دعاء النبى صلى الله عليه وسلّم (¬1). وتفصيلها بعد الإجمال الذى ذكرناه على النحو التالى: * اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل. * اللهم علمه الحكمة. * اللهم آته الحكمة. * اللهم بارك فيه وانشر منه. * أخرج أبو نعيم فى «الحلية» عن ابن عباس قال: انتهيت إلى النبى صلى الله عليه وسلّم وعنده جبريل، فقال جبريل: إنه كائن حبر هذه الأمة فاستوصى به خيرا (¬2). * وأخرج عنه أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال لى: نعم ترجمان القرآن أنت. ثانيا: نشأته فى بيت النبوة منذ عهد التمييز ووعيه للشيء الكثير فى وقت مبكر من حياته عن حياة النبى صلى الله عليه وسلّم بين أهله، وشهوده كثيرا من أحوال الوحى وهو ينزل بالقرآن. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 205. (¬2) المصدر السابق.

أدوات التفسير عند ابن عباس ومصادره

ثالثا: حرصه الشديد على ملازمة كبار الصحابة للأخذ عنهم ما فاته خاصة الأنصار، يقول ابن عباس- رضي الله عنه-: «وجدت عامة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند الأنصار فإنى كنت لآتى الرجل فأجده نائما، لو شئت أن يوقظ لى لأوقظ، فأجلس على بابه تسفى على وجهى الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف» (¬1). رابعا: بلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه منه، وشجاعته فى بيان ما يعتقد أنه الحق، وما ذلك إلا عن علم أوتيه. خامسا: عنايته الفائقة، واهتمامه البالغ بلغة القرآن، يبحث عنها فى ألسنة العرب ولهجاتهم خاصة فى دواوين الشعر القديم، ويرى أن الشعر هو ديوان العرب وأصل لغتهم، فلا يمنعه مانع من أن يسافر فى سبيل كلمة من كتاب الله تعالى غاب فهم معناها عنه. يقول: «ما كنت أعرف معنى «يحور» فى قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (¬2) حتى كنت فى البادية فسمعت أعرابية تقول لابنتها وقد تركت غنمهما، لماذا تركت الغنم؟ حورى. أى ارجعى». أدوات التفسير عند ابن عباس ومصادره من هذا العرض السريع تعرف قيمة ابن عباس ومنزلته فى التفسير كما يمكن استخلاص أهم مصادر التفسير عند ابن عباس وأدواته فى النقاط التالية: 1 - رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المصدر الأول لدى ابن عباس بطبيعة الحال، بحكم التربية والملازمة له فى صغره. 2 - الصحابة- رضوان الله عليهم- خاصة كبارهم والسابقين منهم إلى الإسلام وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، وأبىّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومتقدمو الأنصار. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 205. (¬2) الانشقاق: 14.

3 - الملكة العلمية لدى ابن عباس، والحاسة التفسيرية، التى أدت به إلى النظر والتأمل ثم الاجتهاد وخوض غماره غير هيّاب. 4 - تحصنه بلغة العرب وحفظه لشعرهم ودواوينهم ساعده كل المساعدة وملّكه أهم أداة من أدوات التفسير لكتاب الله العزيز. حتى أن نافع بن الأزرق قال لنجدة بن عويمر- رضى الله عنهما- قم بنا إلى هذا الذى يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به فقاما إليه فقال: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربى مبين، فقال ابن عباس: سلانى عما بدا لكما: 1 - فقال نافع: أخبرنى عن قول الله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (¬1). قال ابن عباس: العزون: الحلق الرقاق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول عبيد بن الأبرص. فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا 2 - قال أخبرنى عن قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ (¬2) قال: الوسيلة: الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت قول عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلى وتخضبي وقد جمع السيوطى هذه الأسئلة فى حوالى مائة وتسعين سؤالا من طريق الطبرانى شيئا، ومن طريق أبى بكر بن الأنبارى وغيره شيئا آخر (¬3). ¬

_ (¬1) المعارج: 37. (¬2) المائدة: 35. (¬3) الاتقان للسيوطى 2/ 56 - 80.

طرق الرواية عن ابن عباس رضى الله عنه

طرق الرواية عن ابن عباس رضى الله عنه: يعتبر ما أثر عن ابن عباس- رضى الله عنه- فى التفسير، كما هائلا ليس له مثيل عند مفسرى الصحابة، إذ لا نكاد نجد آية من كتاب الله تعالى ليس لابن عباس فيها تفسير، مما جعل علماء الأثر يقفون موقف الارتياب من هذه المرويات ويتتبعون طرقها بالنقد، وقد لخص الدكتور محمد حسين الذهبى أهم هذه المرويات فيما يأتى باختصار: 1 - طريق: معاوية بن صالح، عن علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس وهذه أجود الطرق عنها. قال الإمام أحمد- يرحمه الله تعالى: «إن بمصر صحيفة فى التفسير رواها علىّ بن أبى طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» (¬1). 2 - طريق: قيس بن مسلم الكوفى، عن عطاء بن السائب، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريقة صحيحة على شرط الشيخين، ويخرج منها الفريابى كثيرا والحاكم فى مستدركه. 3 - طريق: ابن إسحاق- صاحب السير- عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة- أو سعيد بن جبير- عن ابن عباس. وهى طريقة جيدة وإسنادها حسن، خرج منها ابن جرير، وابن أبى حاتم والطبرانى فى المعجم الكبير. 4 - طريق: إسماعيل بن عبد الرحمن (السّدى الكبير) تارة عن أبى مالك، ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 77 - 81 (2).

وتارة عن أبى صالح عن ابن عباس. والسّدى: مختلف فيه، وفيه تشيع لم يخرج منه ابن أبى حاتم وخرج له ابن جرير. 5 - طريق عبد الملك بن جريج، عن ابن عباس. وهذه الطريقة فيها الصحيح والسقيم، وتحتاج إلى دراية وحنكة فى معرفة الجرح والتعديل لمن يأخذ منها (¬1). 6 - طريق: الضحاك بن مزاحم الهلالى، عن ابن عباس رضى الله عنه، وهى طريقة منقطعة لأن الضحاك روى عن ابن عباس ولم يلقه، وهى مرضية فى إجمالها، ومن أى طرقها. 7 - طريق: عطية العوفى، عن ابن عباس رضى الله عنه. وهى غير مرضية أيضا لضعف عطية، وإن خرج منها ابن جرير، وابن أبى حاتم كثيرا. 8 - طريق: مقاتل بن أبى سليمان الأزدى الخراسانى. وهو الذى قال فيه الشافعى: «الناس عيال على مقاتل فى التفسير». ومع ذلك ضعفه علماء الفن، وكذبه غير واحد، واشتهر عنه التجسيم والتشبيه. 9 - طريق: محمد بن السائب الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس- رضى الله عنه- وهذه أوهى طرق الرواية عن ابن عباس رضى الله عنه. وإن كان تفسير ابن السائب أطول وأشيع التفاسير، ويروى عنه محمد ابن ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 207.

المطاعن

مروان (السّدى الصغير)، فإذا انضم هذا إلى ابن السائب فإن هذه سلسلة الكذابين. المطاعن لم يسلم ابن عباس- رضى الله عنه- من نقد اجتهاده لا فى حياته، ولا بعد وفاته؛ أما فى حياته فقد كان عبد الله بن عمر يلوم جرأته فى التفسير، وأما بعد مماته فإن كثيرا من المحدثين سواء كانوا من الغربيين أو المستغربين، ما زلنا نجد لهم نقدا عليه. وهذا بطبيعة الحال قدر المجتهدين، ونصيب المجدين، وحظ النابهين أما نقد ابن عمر فقد كان نقدا شريفا عفيفا طابعه الورع وعدم التقول على الله والخوف على ابن عباس منه، فلما عرف ابن عمر أن ابن عباس لا يتجرأ على التفسير إلا عن علم صدع له بالحق. يروى أن رجلا جاء إلى ابن عمر وسأله عن قول الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما (¬1). فقال: «اذهب إلى ابن عباس، ثم تعال أخبرنى: فذهب، فسأله، قال ابن عباس- رضى الله عنه: «كانت السموات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات». فرجع الرجل إلى ابن عمر، فأخبره، فقال: «قد كنت أقول: ما يعجبنى جرأة ابن ¬

_ (¬1) الأنبياء: 30.

(2) عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه -

عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتى علما» (¬1). أما نقد غير ابن عمر، فلن نقف عنده طويلا، ونحيل الطالب إلى مظانه حتى لا يطول الكلام عن المنهج المحدد (¬2). (2) عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- التعريف به: * هو: عبد الله بن مسعود بن غافل: أبو عبد الرحمن المضرى، الشهير ب «ابن أم عبد» نسبة إلى أمه: أم عبد بنت عبد ود الهذلية. * كان- رضى الله عنه- قصيرا، نحيفا، خفيف اللحم، شديد الأدمة. * سادس من أسلم، وأول من جهر بالقرآن بمكة وأسمعه قريشا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. * كان فى خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى أكثر شئونه: فهو صاحب طهوره وسواكه، ونعله، يلبسه إياه إذا قام، ويخلعه ويحمله فى يده إذا جلس، ويمشى أمامه إذا سار، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلج عليه داره بغير حجاب، حتى ظن من رآه لأول مرة، أنه من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. * هاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سائر المشاهد بدرا، وأحدا، والخندق، وبيعة الرضوان، كما شهد اليرموك بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذى أجهز على أبى جهل يوم بدر. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 4/ 205 - 206. (¬2) راجع التفسير والمفسرون للذهبى، وراجع لغيره أيضا.

منزلته فى العلم

* شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنة، وشهد له بالفضل. أخرج أحمد فى مسنده عن علىّ- كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت مؤمرا أحدا دون مشورة المؤمنين لأمّرت ابن أم عبد». * ولى بيت مال الكوفة لعمر، وعثمان رضى الله عنهما. * مات بالمدينة ودفن فى البقيع سنة (32 هـ) وعمره بضع وستون سنة (¬1). منزلته فى العلم: * كان ابن مسعود- رضى الله عنه- من أحفظ الصحابة لكتاب الله تعالى. * وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يسمع القرآن منه. يقول ابن مسعود: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ علىّ سورة النساء» قال: قلت أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إنى أحب أن أسمعه من غيرى، فقرأت عليه، حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (¬2). فاضت عيناه صلّى الله عليه وسلّم. * كان ابن مسعود يعرف لنفسه حقها، ويعتز بعلمه حتى إنه كان يرى أنه أحق من زيد بن ثابت فى نسخ المصاحف فى عهد عثمان وأنه أولى بالقيام بهذا الشأن منه وله فى ذلك تلك الصيحة المجلجلة فى الناس: «يا معشر المسلمين .. أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل والله لقد أسلمت وإنه لفى صلب رجل كافر»؟! يريد زيد بن ثابت. * قيل لحذيفة أخبرنا برجل قريب السمت، والدّلّ، والهدى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ¬

_ (¬1) بتصرف عن: التفسير والمفسرون للدكتور/ محمد حسين الذهبى 1/ 83 - 88. (¬2) النساء: 41.

نأخذ عنه، فقال: «لا نعلم أحدا أقرب سمتا ولا هديا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ابن أم عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة» (¬1). * كتب أمير المؤمنين عمر كتابا إلى أهل الكوفة يقول لهم فيه: «إنى قد بعثت عمار بن ياسر أميرا، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا واسمعوا قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى». * وقال مسروق رضى الله عنه: «انتهى علم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ستة: عمر، وعلىّ، وعبد الله بن مسعود، وأبىّ بن كعب، وأبى الدرداء، وزيد بن ثابت، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى رجلين: علىّ، وعبد الله» (¬2). * لمّا دخل علىّ الكوفة حضر عنده ناس من أهلها، وذكروا بين يديه عبد الله بن مسعود وقالوا: «يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلا أحسن خلقا، ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من ابن مسعود»، قال علىّ: أنشدكم الله، أو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم أشهد أنى أقول مثل ما قالوا وأفضل» (¬3). * أقام ابن مسعود فى الكوفة ما يشاء الله له أن يقيم يعلّم أهلها الحديث، والتفسير، والفقه، وأسس فى الكوفة علم أهل الرأى حيث كان لا يتردد فى أن يبدى رأيه فى الوقائع النازلة عند ما لا يجد نصابين يديه، ولقد نشأت مدرسة الرأى على يديه وامتدت حتى ذاع صيتها فى متصف القرن الثانى الهجرى على ¬

_ (¬1) أسد الغابة لابن الأثير 3/ 258. (¬2) المصدر السابق. (¬3) المصدر السابق.

منزلة ابن مسعود فى التفسير

يد أبى حنيفة وأصحابه ويعد عبد الله بن مسعود أساس هذا المذهب. منزلة ابن مسعود فى التفسير: * تظهر منزلة ابن مسعود التفسيرية فى تقديمه لنفسه، وفى ثناء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مكانته ومنزلته فى العلم، وفى تقديم هذه الشهادات سواء كانت على لسان ابن مسعود نفسه باعتباره كلاما حقيقيا بعيدا عن الفخر والخيلاء، أو كانت على لسان بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أ- يقول ابن مسعود- رضى الله عنه- عن نفسه لما بلغه تحريق عثمان- رضى الله عنه- للمصاحف: «لقد علم أصحاب محمد أنى أعلمهم بكتاب الله- وما أنا بخيرهم- ولو أنى أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله منى تبلغه الإبل لأتيته». قال أبو وائل: «فقمت إلى الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحدا من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه». * ويقول ابن مسعود- رضى الله عنه: «أخذت من فىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبعين سورة». ويقول: «والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته» (¬1). هذه شهادة ابن مسعود على نفسه وهى شهادة ما قصد بها التباهى والتعالى، وإنما قصد بها البيان، والإيضاح أن ما عنده من علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحق وأسرع أن يحمل عنه، حتى لا يضيع بذهابه. ب- أما شهادة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتلاميذه فمنها: ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 4/ 204.

مرويات ابن مسعود ومبلغها من الصحة

* روى أبو نعيم فى «حلية العلماء» عن أبى البحترى قال: قالوا لعلىّ أخبرنا عن ابن مسعود، قال: «علم القرآن والسنّة ثمّ انتهى، وكفى بذلك علما» (¬1). * وقال عقبة بن عامر- رضى الله عنه: «ما أدرى أحدا أعلم منه بما نزل على محمد بن عبد الله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك، فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل». * وقال تلميذه مسروق: «كان عبد الله يقرأ علينا السورة ثم يحدثنا فيها، ويفسرها عامة النّهار». مرويات ابن مسعود ومبلغها من الصحة (¬2): إن الحكم على مرويات ابن مسعود بالصحة والسلامة، أو بالضعف والسقم ليس بالنظر إلى ابن مسعود نفسه، وإنما بالنظر إلى من روى عنه بطبيعة الحال. ولقد حصر الدكتور/ محمد حسين الذهبى مرويات ابن مسعود فى خمسة طرق سلم منها أربعة طرق كاملة، فكان حظه فى تلاميذه، ونقلة علمه أكثر من ابن عباس- رضى الله عنه- وقد سبق أن عرفنا أن مرويات ابن عباس لا يكاد يسلم منها أكثر من طريقين، والضعف فى أكثر مرويات ابن عباس فى التفسير كانت فى نقلة علمه كما عرفت. ونقدم بين يديك طرق الرواية عن ابن مسعود فيما يأتى: 1 - طريق الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود. ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 4/ 205. (¬2) عن التفسير والمفسرون للدكتور الذهبى 1/ 87 بتصرف.

2 - طريق مجاهد، عن أبى معمر، عن ابن مسعود. 3 - طريق الأعمش، عن أبى وائل، عن ابن مسعود. 4 - طريق السّدّى الكبير، عن مرة الهمدانى، عن ابن مسعود. 5 - طريق أبى روق عن الضحاك، عن ابن مسعود. أما الطرق الثلاثة الأولى فقد اعتمدها البخارى فى صحيحه. وأما طريق السّدّى الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن) فحديثه عند مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وقد جمع من الأئمة فيهم: شعبة، الثورى (¬1). وأما الطريق الخامس: عن الضحاك، عن ابن مسعود، فقد حكم عليه العلماء بالانقطاع لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود يرحمهما الله تعالى. وهكذا بعد أن قدمنا بين يديك ثانى أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن علموا الكتاب والحكمة، وعكفوا على تفسير آيات الله، وكانوا أقرب إلى تأدية مراد الله تعالى ممن جاء بعدهم، فنهلت الأجيال من فيض معينهم، وغزير ما أعطوا من فقه الوحى فبنوا هذا العلم- علم التفسير- وأقاموه على أعمدة صحيحة راسخة، أشهر بناتها ابن مسعود فحق لنا أن نحفر اسمه فى ذاكرتنا وذاكرة التاريخ لعلم التفسير، وأن نقول بحق ما قاله المغبطون لعلمه وقربه من المعصوم- صلوات الله وسلامه عليه: «كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل». ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 88 بتصرف.

(3) على بن أبى طالب"كرم الله وجهه"

(3) علىّ بن أبى طالب «كرّم الله وجهه» مكانته فى العلم بصفة عامة: لا يستطيع أحد أن ينكر على آخر الراشدين علىّ بن أبى طالب، ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصهره، وأول من أسلم من الأحداث، وشهد المشاهد كلها، ومن آخاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى الدنيا والآخرة. لا أحد ينكر سعة علمه، وقوة حجته، وسلامة استنباطه، ونضج عقله، ورجاحة قضائه. فكما كان ابن عباس- رضى الله عنه- مرجع الصحابة فى التفسير، كان علىّ- كرم الله وجهه- مرجعهم فى القضايا المعضلة. وكما كان تفسير ابن عباس بركة دعوة رسول رب العالمين، كان «قضاء علىّ» وهدى قلبه فيه دعوة رسول رب العالمين كذلك. قال النبى صلّى الله عليه وسلّم فيه: «اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه». «أنت أخى فى الدنيا والآخرة». «لأعطيّن الراية رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. ثم أعطاها عليا». ولّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضاء اليمن، فأوفى وأجاد، ورجع إليه الصحابة فى معضلات أمور القضاء حتى صار يضرب به المثل فيقال: «قضية ولا أبا حسن لها» (¬1). مكانته فى التفسير بصفة خاصة: قدمنا أن مفسرى الصحابة كانوا لا يزيدون على ستة عشر صحابيا من بينهم أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- وأن المشهورين منهم عشرة، والمكثرون من العشرة أربعة. ¬

_ (¬1) أسد الغابة لابن الأثير 4/ 28 بتصرف.

مرويات على - كرم الله وجهه - ومدى صحتها

فاعلم أن عليا- كرم الله وجهه- ثالث الأربعة فى ترتيب المكثرين. وقد جمع- كرم الله وجهه- إلى جانب مهارتى القضاء والفتيا العلم بالقرآن بشهادته عن نفسه، وشهادة علماء الصحابة- خاصة المفسرين منهم- عنه. أما شهادته عن نفسه فيقول: «سلونى، فو الله لا تسألوننى عن شىء إلا أخبرتكم، وسلونى عن كتاب الله فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار، أم فى سهل أم فى جبل». وأخرج أبو نعيم فى «الحلية» عنه: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وإن ربي وهب لى قلبا عقولا، ولسانا سئولا» (¬1). وأما شهادة علماء الصحابة له: قال فيه عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علىّ بن أبى طالب عنده منه الظاهر والباطن» (¬2). مرويات علىّ- كرم الله وجهه- ومدى صحتها: لو أننا نظرنا بمنظار غير منظار التثبت من العلم لوضعنا «عليا» - كرم الله وجهه- قبل ابن عباس فى كثرة ما روى عنهما من تفسير. فقد بلغ ما روى عن علىّ- كرم الله وجهه- حدا من الكثرة لا تليق بوضعه فى المرتبة الثالثة بين المكثرين، ولكن النظرة الموضوعية العلمية التى جعلت الباحثين يضعون الإمام عليا فى المرتبة الثالثة هى النظر فقط إلى ما صحّ من الروايات عنه، وإلا فإن المغالين الذين أسرفوا فى حبّهم له، هم السبب فى اختلاق أكثر الروايات التى نسبت إليه فى التفسير مما جعل القيمة العلمية لهذه الروايات لا ترتقى إلى مرتبة الوثوق بها. ولذلك يقول الدكتور محمد حسين الذهبى: «لم يعتمد أصحاب الصحيح فيما ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 89 - 91. (¬2) المصدر السابق.

وأهم هذه الطرق هى

يروونه عنه إلا على ما كان من طرق الإثبات من أهل بيته، أو من أصحاب ابن مسعود، كعبيدة السلمانى، وشريح وغيرهما. وأهم هذه الطرق هى: 1 - طريق: هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلمانى، عن علىّ- كرم الله وجهه- طريق صحيح يخرج منه البخارى وغيره. 2 - طريق: ابن أبى الحسين، عن أبى الطفيل، عن علىّ- كرم الله وجهه- وهذا الطريق غالب ما عند سفيان بن عيينة فى تفسيره، وهو صحيح أيضا. 3 - طريق الزهرى، عن على زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن جده علىّ. وهذه أصح الطرق، بل عدّها البعض أصح الأسانيد مطلقا. (4) أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- تعريفه: هو أبىّ بن كعب بن قيس الأنصارى، الخزرجى. كناه النبى صلّى الله عليه وسلّم ب «أبى المنذر» وكناه عمر- رضى الله عنه- ب «أبى الطفيل» أحد السابقين من بنى النجار إلى الإسلام، المسارعين لقبوله: قبله الله ورضى عنه، وتقبل منه. شهد بدرا، والعقبة. أول من كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدمة المدينة. مات فى خلافة عمر- رضى الله عنه- وعنه. قال فيه عمر: «أبىّ سيّد المسلمين». مكانته فى العلم بصفة عامة: كان- رضى الله عنه- أحد كتّاب الوحى، وأحد الحفاظ لكتاب الله العزيز،

مكانة أبى - رضى الله عنه - فى التفسير خاصة

وأحد المشهورين من القرّاء فى الإسلام. سماه الله لنبيّه وطلب من نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يقرأ عليه القرآن. فقد أخرج الترمذى عن أنس بن مالك- رضى الله عنه- قال: «إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لأبيّ بن كعب: «إن الله أمرنى أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. قال أبىّ: آلله سمانى لك؟ قال: نعم، فجعل أبىّ يبكى. فقيل له: وفرحت بذلك؟ قال: وما يمنعنى وهو القائل قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (¬1). ونقل ابن الأثير من رواية الشعبى عن مسروق قال: «كان أصحاب القضاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة: عمر، علىّ، عبد الله، أبىّ، زيد، وأبو موسى». مكانة أبىّ- رضى الله عنه- فى التفسير خاصة: سبق أن علمت فى ما قدمناه أن أبىّ بن كعب أنه رابع الأربعة المكثرين من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا غرابة فى ذلك، فهو كاتب الوحى بيده، وأكثر الصحابة علما بجودة قراءته، ومن الحفظة المعدودين. وهذه الأدوات الهامة جعلته أهلا للعلم بالتفسير وروايته. وأخذ التفسير على يديه جمهرة من الصحابة من أمثال ابن عباس، وابن عمر- رضى الله عنهما- كما أنه يعتبر مرجعا هاما للصحابة .. لذلك فإن ما يصل إلى يديك من تفسير أبىّ إذا صحت الرواية عنه له قيمة علمية على جانب عظيم من الأهمية. أشهر طرق الرواية عنه: 1 - طريق: أبى جعفر الرازى، عن الربيع بن أنس، عن أبى العالية، عن أبىّ- ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون لمحمد حسين الذهبى 1/ 91 بتصرف.

مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن الصحابة رضى الله عنهم

رضى الله عنه. وهذا طريق صحيح، أخرج ابن جرير، وابن أبى حاتم، والحاكم، والإمام أحمد عنه الكثير (¬1). 2 - طريق: وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبىّ بن كعب عن أبيه. وهذا الطريق على شرط الحسن، يخرج منه الإمام أحمد فى مسنده. وإن كان فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، صدوق تكلم فيه البعض. مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن الصحابة رضى الله عنهم لا شك أن الصحابة العشرة الذين اشتهروا بتفسير القرآن الكريم هم الذين أرسوا قواعد علم التفسير، وأقاموا دعائمه باعتبار أنهم المصدر الأول الذى شاهد الوحى، وعاصر التنزيل، هم بهذا أصل هذا العلم وحملته، وكلامهم فيه مرده إلى المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا الأساس فقد اهتم العلماء اهتماما كبيرا «بمأثورات» الصحابة المفسرين خاصة المكثرين منهم فى الرواية عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، أو باجتهادهم باعتبار أن من عنى منهم بتفسير القرآن الكريم هم من اهتموا بجمعه، وحفظه، ومعرفة أسباب نزوله، وناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه وأوجه قراءاته ممن تناولناهم بالدراسة السابقة وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلى بن أبى طالب، وأبىّ بن كعب- رضى الله عنهم جميعا. ونظرا إلى أن تفسير هؤلاء الأئمة الكبار منه ما يعود إلى أسباب النزول ومنه ما يعود إلى اجتهاد مفسرى الصحابة لذلك نرى أن العلماء انقسمت نظرتهم إلى قيمة التفسير المنقول عن الصحابة على ما يأتى: 1 - يرى الحاكم النيسابورى أن تفسير الصحابى الذى شاهد الوحى، وعاصر التنزيل له حكم الحديث المرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو بهذا ينقل عن البخارى ومسلم ما ذكراه. ¬

_ (¬1) أسد الغابة لابن الأثير 1/ 50.

يقول الحاكم: «ليعلم طالب الحديث أن تفسير الصحابى الذى شاهد الوحى والتنزيل- عند الشيخين- حديث مسند» (¬1). أما اعتبار الحاكم بأن تفسير الصحابى له حكم الحديث المرفوع فهو اعتبار «مطلق وعام». إذ لا يخلو تفسير الصحابى من الاجتهاد برأيه- وإن قل- فى زمانهم، لكنه كان موجودا وبارزا خاصة فى ما نقله الرواة من تفسير ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما. ولهذا نرى ابن الصلاح صاحب المقدمة المشهورة فى علم الحديث يقيد هذا العموم والإطلاق بما إذا كان المأثور عن الصحابة متعلقا بسبب نزول، أو برواية يسندها الصحابى إلى المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. يقول ابن الصلاح: «ما قيل من أن تفسير الصحابى حديث مسند، فإنما ذلك فى تفسير يتعلق بسبب نزول آية يخبر به الصحابى، أو نحو ذلك لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبى،، ولا مدخل للرأى فيه كقول جابر- رضى الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها فى قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله- عز وجلّ- نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (¬2) فأما سائر تفاسير الصحابة التى لا تشتمل على إضافة شىء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فمعدودة فى الموقوفات (¬3) ومن هنا نرى أن تفسير الصحابى نوعان: 1 - نوع موقوف على الصحابى، وهو ما يتعلق باجتهاده فى تفسير النص القرآنى. 2 - ونوع مرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يسنده الصحابى، أو له حكم المرفوع كذكر سبب النزول. ¬

_ (¬1) تدريب الراوى للسيوطى ص 64. (¬2) البقرة: 223. (¬3) تدريب الراوى ص 64.

أما النوع الأول: فقد اختلف العلماء فى حكم الأخذ به، والرجوع إليه وعدم العدول عنه إلى غيره إلى رأيين: أ- ذهب فريق إلى أن الموقوف على الصحابى لا يجب الأخذ به، ويمكن العدول عنه إلى رأى مجتهد آخر، لأن الصحابى فى قوله الخاص غير المسند إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجتهد كسائر المجتهدين فلنا أن نأخذ به، أو بقول مجتهد آخر غيره، لأن كليهما يخطئ ويصيب. ب- وذهب آخرون إلى أن «موقوف الصحابى» لا يعدل عنه إلى غيره، ويجب الأخذ به لظن سماعهم له من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولأنهم حتى وإن فسروا القرآن بآرائهم واجتهاداتهم الشخصية فآراؤهم أقرب إلى الصواب ممن بعدهم، فهم أدرى الناس وأعلم بكتاب الله- تعالى- باعتبارات كثيرة منها أنهم: أهل اللسان، وصحبتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتخلقهم بأخلاقه، ولما لهم من العلم الصحيح والفهم الدقيق لا سيما علماؤهم وقراؤهم، ومنها أنهم شاهدوا نزول القرآن ووعوا أسبابه فيم نزل، وفى أى شىء، ومتى. حتى قال السيوطى فى الإتقان: «اعلم أن القرآن قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد. والأول: إما أن يرد عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أو الصحابة، أو رءوس التابعين. فالأول: يبحث فيه عن صحة السند، والثانى: ينظر فى تفسير الصحابى، فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك فى اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه» (¬1). ولقد وضّح العلامة ابن كثير فى مقدمة «تفسير القرآن العظيم» هذا المعنى ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 2/ 183.

مطلب فى: خصائص تفسير الصحابة، ومميزاته

بجلاء ووضح وبين أهمية تفسير الصحابى، وقيمته العلمية فقال وهو يعدد أوليات هذه الأهمية: من حيث ترتيب مصادر هذه الأقوال: «إذا لم نجد التفسير فى القرآن ولا فى السنة رجعنا فى ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التى اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم». وأما النوع الثانى: فمجمع على وجوب الأخذ به وعدم العدول عنه إلى اجتهاد من بعده. مطلب فى: خصائص تفسير الصحابة، ومميزاته 1 - لم يكن التفسير فى هذا العهد تفسيرا مكتوبا، ولا مدونا، وإنما كان شأنه شأن علم الحديث. والسبب فى ذلك أن الأمة كلها فى هذه الفترة اعتمدت على نقل علمها رواية ومشافهة، لا تدوينا ولا كتابة لوجود النهى الصارم عن تدوين غير القرآن خوف إلباسه بما ليس منه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكتبوا عنى شيئا ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» اللهم إلا ما كان ينقله البعض من الحفاظ والمفسرين على هوامش مصاحفهم من أوجه القرآن ولغاته فظنها المتأخرون عنهم أنها من تفاسيرهم. 2 - لم يأخذ التفسير شكلا منتظما يتماشى مع ترتيب السور، أو حتى ترتيب آيات السورة الواحدة. 3 - لم يستقص أى مفسر من كبار مفسرى الصحابة ومكثريهم جميع آيات القرآن الكريم، وإنما فسروا فقط ما غمض فهمه على الناس، أو ما عرفوا له أسبابا

مبحث فى: التفسير فى عصر التابعين ومدارسه

للنزول، أو ما كان جوابا نزل به الوحى لسؤال سائل. 4 - اتفاق جيلهم على الفهم العام لمعظم آيات القرآن باعتبار معايشتهم لنزوله، وعدم اختلاف مفسريهم إلا فى النادر القليل. 5 - قلة الاستنباط الفقهى لقلة الحوادث والواقعات والمستجدات. 6 - الاقتصار على التفسير لغريب الألفاظ التى كانت تغيب على معرفة البعض منهم لكونه على لغات قبيلة دون أخرى مثلا. تلكم هى المرحلة الأساسية فى بيان مراد كلام الله- تعالى- وهى مرحلة كريمة لها طابع نورانى لم تشبها شوائب عقلية، ولا إحن مذهبية .. لك أن تسميها باسم المرحلة الأولى فى التفسير، ولك أن تسميها باسم الصحابة رضوان الله عليهم ... المهم عندنا أن مصدرها نبع صاف .. وموردها صاحب كريم. مبحث فى: التفسير فى عصر التابعين ومدارسه تمهيد: بدأت الفتوحات الإسلامية فى أواخر عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم، ثم بدأت تتسع شرقا، وشمالا، وغربا، حتى أتت على مملكة كسرى، والروم، ومصر، وما لبث الجهاد أن حمل الصحابة- رضوان الله عليهم- إلى كل هذه البلدان واستقر العديد منهم فيها، والتف الناس حولهم متشوقين إلى هؤلاء النفر الكرام البررة الذين رأوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وعاصروا الوحى، ونالوا شرف القتال فى الغزوات الكبرى. ومع ذلك فقد تفرغ منهم للعلم فى موطن الوحى عبد الله بن عباس فى مكة، وأبىّ بن كعب فى المدينة فلم يشأ كل منهما أن يغادر موطنه الذى ولد فيه فنشأت على أكتافهما مدارس التفسير فى الحرمين الشريفين. بينما استقر علىّ ومن قبله ابن مسعود فى العراق فقامت بهما مدارس التفسير فيه.

مطلب تمهيدى فى: مدارس التفسير فى عصر التابعين

مطلب تمهيدى فى: مدارس التفسير فى عصر التابعين وبذلك شاءت إرادة الله- سبحانه وتعالى- إلا أن تقوم على عاتق المشاهير الأربعة أهم مدارس التفسير، وأن يكون حظ التابعين من علمهم الحظ الموفور، وأن تمتد بهم فى أشخاص تلاميذهم السمة الأساسية لتفسير كتاب الله العزيز. ومما تجدر الإشارة إليه أن كلمة «مدرسة هنا» لا تعنى بناء خاصا لتلقى علم التفسير كما هو الحال فى زماننا، ولكنه تعبير تجاوزى عن بداية الاستقرار لتلقى العلم فى مكان ما .. ليكن المسجد، وليكن السؤال فى الطريق العام من التلميذ للأستاذ أيا ما كان فقد أصبح لابن عباس تلاميذه من التابعين فى مكة. وكذلك لأبيّ تلاميذه من التابعين فى المدينة، ولعلىّ وابن مسعود تلاميذهما فى العراق. ولنلق ضوءا بسيطا على كل مدرسة وأشهر تلاميذها باختصار شديد. 1. المدرسة المكية فى التفسير وأشهر تلاميذها: شيخها: عبد الله بن عباس- رضى الله عنه- وقد سبق لك أن عرفت قيمته ومنزلته العلمية، وأدواته ومصادره فى التفسير. تلاميذها: وقد أخذ عن ابن عباس علمه فى مكة ثلّة من التابعين أشهرهم: 1 - سعيد بن جبير بن هشام الأسدي: أبو محمد، حبشى الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال، أخذ عن ابن عباس- رضى الله عنهما- القراءة والتفسير، وهو ثقة حجة. 2 - مجاهد بن جبير: أبو الحجاج المخزومى، أوثق تلاميذ ابن عباس- رضى الله عنهما- من القراء المشهورين، توفى بمكة سنة 104 هـ وهو ساجد.

2. المدرسة المدنية فى التفسير، وأشهر تلاميذها

3 - عكرمة (مولى ابن عباس) أبو عبد الله البربرى المدنى، أصله من البرير بالمغرب. كان جريئا على العلم، ولذلك توقف بعض العلماء عن توثيقه، ومع ذلك فعكرمة- يرحمه الله- لم يثبت عليه شىء يلام عليه، وقد فند مطاعن الطاعنين عليه الشيخ محمد حسين الذهبى فلتراجعه هناك (¬1). وتوفى- رحمه الله- سنة 104 هـ. 4 - طاوس بن كيسان اليمانى الحميرى. أبو عبد الرحمن. كان على جانب عظيم من الورع والتقوى حتى صار شيخ اليمن، جالس أكثر من خمسين صحابيا، وكان خبيرا متقنا لمعانى كتاب الله تعالى، توفى سنة 106 هـ بمكة المكرمة أثناء حجه إليها من اليمن. 5 - عطاء بن أبى رباح المكىّ القرشى: أبو محمد، توفى سنة 114 هـ. كان من سادات التابعين فقها وعلما، وورعا، وفضلا زيّنه الله بالعلم ونوّره بالورع، وأفاض عليه من نوره مع أنه كان- يرحمه الله- أسود، أعور، أفطس، أشل، أعرج، ثم عمى بعد ذلك، فأنّا يدانيه منّا أحد؟ 2. المدرسة المدنية فى التفسير، وأشهر تلاميذها: شيخها: أبىّ بن كعب بن قيس الأنصارى من السابقين للإسلام من بنى النجار، ومن السابقين فى خدمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخدمة القرآن، كتابة، وحفظا، وعلما بقراءاته. تلاميذها: حمل علم أبىّ- رضى الله عنه- فى المدينة أناس كثيرون من التابعين كان من أشهرهم: ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 110.

3. المدرسة العراقية وأشهر تلاميذها

1 - أبو العالية: رفيع بن مهران الرياحى. أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبى صلّى الله عليه وسلّم بسنتين وهو من ثقات التابعين المشهورين فى التفسير، ونسخة كبيرة من تفسير أبىّ بن كعب- رضى الله عنه- يرويها أبو العالية، وأخرج منها الأئمة فى تفاسيرهم، مات- يرحمه الله تعالى- سنة 90 هـ. 2 - محمد بن كعب بن سليم القرظى، المدنى: أبو حمزة من حلفاء الأوس. روايته عن أبىّ بن كعب بالواسطة، لكنه اشتهر بالثقة، والعدالة، والورع وكان من أفاضل أهل المدينة علما بالقرآن، توفى سنة 118 هـ. 2 - زيد بن أسلم العدوى المدنى: أبو أسامة. اشتهر عنه التفسير بالرأى دون تحرج، ولكنه كان ثقة، لم ينسبه أحد إلى مذهب من المذاهب المبتدعة، وكان من أشهر من تلقى علم زيد بن أسلم: مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وابنه عبد الرحمن بن زيد، توفى- يرحمه الله تعالى- سنة 136 هـ تقريبا. 3. المدرسة العراقية وأشهر تلاميذها: شيخها: عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه. والواقع: أن عليا- كرم الله وجهه- وكذلك كثير من الصحابة يعدون من شيوخ هذه المدرسة حيث تلقى أهل العراق العلم عنهم جميعا. غير أن أحدا منهم لا ينازع عبد الله بن مسعود فى مشيخة هذه المدرسة لاعتبارات أهمها: 1 - شهرة ابن مسعود فى القراءات والتفسير. 2 - تعيينه رسميا من قبل الخليفة الثانى عمر- رضى الله عنه- ليكون معلم أهل الكوفة ووزير أميرها عمار بن ياسر مما جعل الكوفيين يجلسون إليه ويأخذون عنه أكثر من غيره من الصحابة- رضوان الله عليهم. حتى أن العلماء يقولون بأن ابن مسعود هو الذى أسس «الرأى» فى مسائل الخلاف وهو الذى وضع الأساس لهذه

الطريقة فى الاستدلال، والتى اشتهر بها أهل العراق فيما بعد. ومن المرجح أن تؤثر هذه الطريقة فى ظهور تفسير القرآن الكريم بالاجتهاد والرأى خاصة فى استنباط المسائل الشرعية للواقعات المستجدة فى عصورهم كنتيجة طبيعية من نتائج إعمال الرأى فى فهم النصوص الشرعية من القرآن والسنة. تلاميذها: تتلمذ على ابن مسعود- رضى الله عنه- عدد كبير من التابعين- من أهل العراق فحملوا عنه علما كثيرا، كان من أشهرهم: 1 - علقمة بن قيس بن عبد الله النخعى الكوفى. أشهر من روى عن ابن مسعود، وأعلمهم بعلمه على الإطلاق، كان ثقة، مأمونا، حتى قال فيه مرة الهمدانى: «كان علقمة من الربانيين». مات وعمره تسعون سنة فى «61 هـ». 2 - مسروق بن الأجدع بن مالك الهمدانى الكوفى: أبو عائشة. قيل: سمّى مسروق، لأنه سرق فى صغره ثم وجد. كان من أعلم تلاميذ ابن مسعود، وكان شريح القاضى يستشيره فى معضلات المسائل، امتاز بورعه، وعلمه، وعدالته، وكانت وفاته سنة «63 هـ». 3 - الأسود بن يزيد بن قيس النخعى: أبو عبد الرحمن، المتوفى سنة «74 هـ» بالكوفة. كان من كبار التابعين، وثقاتهم، على جانب عظيم من فهم كتاب الله وكان من صوّام الدهر معدود فى أصحاب ابن مسعود بالافتاء. 4 - مرّة بن شراحيل الهمدانى، الكوفى العابد، الملقب ب «مرة الخير». و «مرة الطيب» لكثرة صلاحه، وشدة روعه. سجد «مرة» حتى أكل التراب وجهه، وكان يصلى كل يوم ستمائة ركعة. توفى سنة «76 هـ» (¬1). ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب 10/ 88 - 89.

مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن التابعين

5 - عامر الشعبى: عامر بن شراحيل الشعبى، الحميرى، الكوفى، التابعى الجليل، قاضى الكوفة، سمع من ثمانية وأربعين صحابيا. يقول عنه ابن سيرين: «قدمت الكوفة وللشعبى حلقة، وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ كثير». كان فقيها، شاعرا، ثقة، وكان يقال عنه: «ابن عباس فى زمانه». 6 - الحسن البصرى: الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى، مولى الأنصار كان غزير العلم بكتاب الله، جامعا، عالما، فقيها، ثقة، مأمونا، قال فيه أبو جعفر الباقر: «ذلك الذى يشبه كلامه كلام الأنبياء (¬1). 7 - قتادة بن دعامة السدوسى: أبو الخطاب الأكمه، عربى الأصل، سكن البر. كان واسع الاطلاع فى الشعر العربى، بصيرا بأيام العرب، عليما بأنسابهم وكان ثقة، مأمونا، وكان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حفاظ زمانه. مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن التابعين اختلف علماء الأمة فى قبول «رأى» التابعى فى التفسير، ومدى الالتزام به، إذا كان هذا قولا مستقلا له موقوفا عليه غير مسند إلى صحابى، أو غير مرفوع إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. وهم فى ذلك على رأيين: الأول: أن قول التابعى ورأيه الشخصى فى التفسير، هو كقول آحاد الناس غير ملزم بقبوله وللأمة أن تأخذ به أو تأخذ برأى مجتهد سواه فى عصره أو بعد عصره وذلك للأسباب الآتية: 1 - أن التابعى (فى رأيه الشخصى) ليس له سماع من النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا من الصحابى حتى تلتزم الأمة رأيه. ¬

_ (¬1) تهذيب التهذيب 10/ 88 - 89.

2 - أن التابعى (فى رأيه الشخصى) شأنه شأن غيره من جيله ومن بعده لم يرث القرائن التى نزل عليها الوحى، فيجوز عليه الخطأ- كما يجوز على غيره- فى فهم المراد، وظن ما ليس بدليل دليلا. 3 - أن التابعى لم تنصّ على عدالته، كما نص عليها بالنسبة للصحابة. 4 - أن جميع مجتهدى الأمة (من التابعين وأتباعهم) نصّوا على ذلك، ولكل من الأئمة الأربعة مقالة مشهورة عنه تصلح كدليل لهذا الرأى. أ- يقول أبو حنيفة- يرحمه الله تعالى: «ما جاء عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا. وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال». ب- ويقول مالك- يرحمه الله تعالى: «كل منا يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر» مشيرا إلى قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم. ج- ويقول الشافعى- يرحمه الله تعالى: «إذا رأيت قولى يخالف قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاضرب بقولى عرض الحائط». د- ويقول أحمد بن حنبل- يرحمه الله تعالى: «إذا صح الحديث فهو مذهبى» فقد قال هؤلاء الأئمة كلمة الفصل فى هذه المسألة وهى أن قول التابعى «الخاص» غير واجب الأخذ به فى ما يفسره من آيات الله تعالى، وشأنه فى ذلك شأن غيره من المفسرين. الثانى: أن قول التابعى «الشخصى». غير المسند إلى صحابى، وغير المرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم قول يؤخذ بالقبول، ويعتد به. وحجتهم فى ذلك: أن التابعين تلقوا غالب

مطلب فى: خصائص ومميزات التفسير فى عصر التابعين

تفسيراتهم عن الصحابة (¬1) فمجاهد مثلا يقول: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها». وقتادة يقول: «ما فى القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا» (¬2). وهذا رأى أكثر المفسرين. تحقيق المسألة: لابن تيمية- يرحمه الله تعالى- كلمة جيدة فى هذه المسألة ننقلها عنه فى كتابه «مقدمة فى أصول التفسير» فيما يلى: «قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة فى التفسير؟، يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم- وهذا صحيح- أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب فى كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع فى ذلك إلى لغة القرآن، أو السنّة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة فى ذلك (¬3). وهذا أيضا ما استقر عليه بعض الباحثين المعاصرين كالدكتور/ محمد حسين الذهبى فى كتابه «التفسير والمفسرون» حيث يقول: «والذى تميل إليه النفس هو أن قول التابعى فى التفسير لا يجب الأخذ به إلا إذا كان مما لا مجال للرأى فيه فإنه يؤخذ به حينئذ عند عدم الريبة، فإن ارتبنا فيه، بأن كان يأخذ من أهل الكتاب، فلنا أن نترك قوله ولا نعتمد عليه. أما إذا أجمع التابعون على رأى فإنه يجب علينا أن نأخذ به ولا نتعداه إلى غيره (¬4). مطلب فى: خصائص ومميزات التفسير فى عصر التابعين يعتبر عصر التابعين- بالنسبة لعلم التفسير- مرحلة تالية لعصر الصحابة- رضوان الله عليهم- وامتدادا لخصائصه خاصة فى ناحيتين اثنتين: الأولى: أن خاصية التلقى والرواية، وعدم التدوين التى كانت الطابع المميز ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 129. (¬2) المرجع السابق. (¬3) مقدمة فى أصول التفسير لابن تيمية ص 28. (¬4) التفسير والمفسرون 1/ 130.

للتفسير فى عصر الصحابة ظلت كما هى فى عصر التابعين، بفارق بسيط وهو أن التلقى والرواية لم تكن مجموعة فى إقليم واحد كما كان الشأن فى المدينة المنورة فى التفاف الصحابة حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أصبح لكل إقليم تلاميذ يلتفون حول صحابى أو أصحاب نزحوا إلى هذا الإقليم والتف أهل الإقليم للأخذ عنه أو عنهم. الثانية: النقل عن بعض الروايات الإسرائيلية فى التفسير، انتقلت هذه الخاصية أيضا من جيل الصحابة إلى جيل التابعين، ولكن أيضا بفارق أكبر. ذلك أن النقل عن أهل الكتاب فى عصر الصحابة كان محصورا للغاية، خاصة عند أبىّ بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود- رضى الله عنهم- ولكن فيما لا يتعدى ما هو جاد فى ديننا من مسائل، أما عصر التابعين فقد كثرت الإسرائيليات بكثرة من أسلم منهم. هاتان الخاصتان انتقلتا إلى عصر التابعين بالنسبة لمسائل التفسير. أما الخصائص المميزة لهذه «المرحلة الثانية» (عصر التابعين) فأهمها ما يلى: 1 - بداية ظهور المذاهب والفرق، والكلام حول بعض الآيات التى حملها بعض المفسرين من التابعين آراءه الخاصة. وذلك كمسائل الكلام حول القضاء والقدر الذى نسب إلى كل من الحسن البصرى، وقتادة بن دعامة السدوسى- يرحمها الله تعالى. 2 - اتساع الخلاف بين التابعين فى مسائل التفسير بصورة واضحة ومتباعدة بينما لم يكن الخلاف بين الصحابة فى تفسير آيات كتاب الله تعالى شيئا ملموسا، أو محسوسا. ومع هذا فإن هذه المسألة- أعنى مسألة الخلاف بين التابعين- لم تأخذ الفجوة العميقة التى سنراها فيما بعد، وإنما يمكن أن يقال «إنه خلاف» أى بالنسبة لما سبقهم من عصر الصحابة.

وإلا فما كان خلافهم ذا شأن كبير كما صار الحال عليه فيمن بعدهم، كما لم يكن خلافهم فى التفسير «كتفسير» وإنما كان خلافهم على حسب اختلاف رؤاهم فى مستجدات الوقائع التى لم تسبق من قبل فى عصر الصحابة، مع اختلاف البيئات التى انتقلوا إليها ووجدوا أنفسهم بإزائها، مما لم يألفوه فى جزيرة العرب- من عادات وتقاليد وطبائع كان ينبغى عليهم مواجهتها لما طلبت آراؤهم فيها. فى حين أن اختلاف الصحابة لم يكن يتعدى ما عند واحد منهم من أسباب النزول، أو العلم بمفردات اللغة ما ليس عند الآخر، أو علم أحدهم بقراءة لا يعرفها غيره. كما لم يتعد خلافهم غير اختلاف العبادات حول مسمى متحد، أو أن يكون للفظ واحد عدة معان، فيحمله أحدهم على معنى، ويحمله الآخر على أحد المعانى الأخرى، أو أن يكون تعبيرهم عن المعانى بألفاظ متقاربة، وليست مترادفة- إلى غير ذلك من الأسباب التى تبدو اختلافا وهى ليست كذلك فى حقيقة الأمر .. غير أن الباحثين وضعوا لنا ما يشبه التقنين فى ما لو وقع خلاف صريح بين قولين من أقوال الصحابة يتعذر الجمع بينهما فى مسائل التفسير بإحدى الوسيلتين الآتيتين: الأولى: إن تعارضت الأدلة تماما بحيث لا يمكن الجمع بينها فإن موقفنا من هذا التعارض أن نؤمن بمراد الله- عز وجل- ولا نلجأ إلى الميل لأحد القولين المتعارضين. وتصبح المسألة بالنسبة لنا بمنزلة المجمل قبل أن يفصل، والمبهم قبل أن يبين، والعام قبل أن يخصص، والمتشابه قبل أن يفسر. الثانية: يقدم قول ابن عباس- إن كان له فيها قول- على آراء غيره (وهذا رأى الزركشى) لبشارة النبى صلّى الله عليه وسلّم له.

مبحث فى: التفسير بالمأثور

مبحث فى: التفسير بالمأثور التفسير بالمأثور هو التفسير المنقول عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو الصحابة، أو التابعين، فهو يشمل تفسير هذه الأجيال الثلاثة من حملة العلم ونقلته. فهو إذا جزء من علم رواية الحديث سواء كان مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، أو موقوفا على الصحابى، أو مقطوعا على التابعى. ويشترط فيه ما يشترط فى علم الحديث من ضوابط النقل وصحته. مراحل التفسير بالمأثور: يعتبر التفسير بالمأثور أهم أنواع التفاسير على الإطلاق إذا صحت روايته ونقله، وسلمت ضوابطه من عدالة الناقل، وصحة النقل متنا وسندا. ولا يعدل عن هذا التفسير إلى سواه مع وجوده، وسلامة نقله إلى غيره من أنواع التفسير الأخرى. هذا وقد مرّ التفسير بالمأثور بعدة مراحل: أ- المرحلة الأولى: هى مرحلة الرواية والتلقى مشافهة من صدور الشيوخ إلى عقول التلاميذ وهذه المرحلة هى المرحلة الطبيعية فى حياة الأمة الإسلامية الأولى، إذ كان علم التفسير ناشئا فى أحضان علم الحديث حيث لم يكن ثمة علم يومئذ غير علم الحديث. ومعلوم للباحثين أن الأمة الإسلامية ظلت مأمورة بعدم التدوين والكتابة إلا للقرآن الكريم وحده. فظل تدوين «ما عدا القرآن» محصورا فى نطاق ضيق جدا يقتصر على بعض الأفراد الذين كانوا يسجلون ما يتلقونه من صدور الرجال فى نطاقه المحدود هذا ومع التحرج والتأثم للنهى الوارد عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم حيث قال:

1 - «لا تكتبوا عنى شيئا ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه». 2 - وما نقل عن أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- وقد سأله سائل أن يكتب له شيئا من الحديث: «لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف، احفظوا كما كنا نحفظ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم». وقد كان هذا هو حال الأمة الإسلامية فى شأن «التدوين» وهو المنع بصورة «رسمية» من تدوين غير القرآن حيث كان التدوين مقصورا على القرآن الكريم وحده. واستمر الحال على ذلك حتى مع وجود بعض النصوص المجيزة للكتابة من مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: 1 - قيدوا العلم بالكتابة. 2 - قيد العلم الكتاب. 3 - اكتبوا فو الله ما صدر منى إلا حقا. إذا هذه النصوص أخذها بعض الصحابة والتابعين على محمل خاص ومحدود للغاية، وأن الإذن بها كان لضرورة خاصة كالمعاهدات، والكتب إلى الملوك، أو الإذن لكاتب معين معروف بالتنسيق وحسن الترتيب وجودة الخط كعبد الله بن عمرو بن العاص. واستمر الامتناع عن الكتابة طبع الورعين الوجلين من الوقوع فى محظور النهى عن الكتابة واكتفى حملة العلم بنقله مشافهة من الصدور إلى الصدور حتى زمن الخليفة الأموى الراشد عمر بن عبد العزيز- يرحمه الله تعالى- (99 هـ- 101 هـ). خشى عمر بن عبد العزيز- يرحمه الله- ضياع العلم بموت الصحابة وكبار

التابعين، كما بدأت بوادر الكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تظهر بعد ما انساح العرب فى بلاد الأعاجم نتيجة الفتوحات ودخول بعض رؤساء الأديان فى الإسلام دغلا وحقدا لا إيمانا وتصديقا وهؤلاء بدأت أحقادهم على الإسلام تفرخ بيضتها. فما كان من عمر بن عبد العزيز- يرحمه الله- إلا أن كلف ابن شهاب الزهرى بجمع الحديث وتدوينه وكان هذا أول أمر «رسمى» بتدوين العلم وكتابته. فانصاع ابن شهاب الزهرى لهذا الأمر مع تحرجه واعتذاره بقوله: «والله لولا أن عمر بن عبد العزيز أمرنا بالكتابة ما كتبت». وقد استمرت مرحلة الرواية هذه حتى طالت ثلاثة أجيال هى: 1 - جيل الصحابة. 2 - جيل التابعين. 3 - جيل تابعى التابعين. غير أن بداية «الإذن الرسمى» الذى أصدره عمر بن عبد العزيز كان فى بداية أواسط جيل التابعين حيث استمر الغالب فى نقل العلم على المشافهة- مع وجود الإذن بالكتابة- وقد كانت المشافهة هى السمة الغالبة فشملت جيل أواسط التابعين ثم صغار التابعين- ثم بداية تابعى التابعين فى أول العصر العباسى. وفى هذه المرحلة المباركة كانت مصادر التفسير هى: 1 - تفسير القرآن بالقرآن. 2 - الحديث النبوى الشريف. 3 - اجتهاد الصحابة: وكان هذا الاجتهاد مبنيا على: أ- اللغة. ب- قوة الاستنباط من النّص القرآنى والقدرة عليه بما كان يملكه علماء الصحابة فى التفسير من الملكة الشخصية، ورؤية التنزيل. 4 - كما كان هناك مصدر رابع لا يستهان به وإن لم يكن أساسيا إلا وهو:

الرجوع إلى «مسلمة أهل الكتاب» من اليهود والنصارى. ب- المرحلة الثانية: وهى مرحلة التدوين والكتابة: وهذه المرحلة بدأت منذ أن أصدر عمر بن عبد العزيز أوامره بالتدوين فى أول القرن الثانى الهجرى وظلت ممتدة إلى عصرنا الحاضر، فهى إذا مرحلة عظيمة وهامة إذ تميزت بظاهرتين هامتين: الأولى: استقرار التفسير بالمأثور فى بطون المدونات التفسيرية، مما حفظ لنا هذا التفسير بأسانيده، وطرقه، ومروياته، ورواته فى هذه المدونات العظيمة فبقيت إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. وأصبح فى متناول كل باحث أن يطلع على ما فسّره النبى صلّى الله عليه وسلّم من آى القرآن وما فسره الصحابة الذين كانوا على علم بالتفسير وأهمهم الأربعة المكثرون من التفسير وهم: ابن عباس، وابن مسعود، وعلى بن أبى طالب، وأبىّ بن كعب، وهم الذين قامت على أكتافهم فيما بعد مدارس التفسير المشهورة فى الأقاليم الإسلامية وهى: مكة، والمدينة، والعراق. الثانية: اكتشاف أى دخيل على هذا اللون من ألوان التفسير بمجرد قراءة «المروية التفسيرية» والنظر فى رجالها، ونصّها، وذلك بالرجوع إلى السجلات الضابطة لتواريخ الرجال ومعرفة أحوالهم من صحة الرواية جرحا أو تعديلا. وأهم المدونات التفسيرية التى سجلت لنا المرويات التفسيرية عن الأجيال الثلاثة المباركة هى: 1 - جامع البيان فى تفسير القرآن لابن جرير الطبرى. 2 - معالم التنزيل لأبى محمد بن الحسين البغوى. 3 - بحر العلوم لأبى الليث السمرقندى.

4 - تفسير القرآن العظيم لأبى الفداء الحافظ ابن كثير. 5 - الدر المنثور فى التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطى. وهناك مدونات أخرى غير هذه أيضا، كما أن منها ما جمع التفسير بالمأثور وحده فنقل التفسير بالرواية والأسانيد على ترتيب المصحف دون أن يدخل فيه شيئا من الاجتهاد أو اللغة، أو النحو أو الأحكام كتفسير السيوطى، ومنها ما كان جامعا للمأثور والاجتهاد المحمود معا كتفسير الطبرى، ومنها ما حذف أسانيد الرواية، وأوقفها فقط على من صدرت عنه مباشرة. غير أن ما ينبغى الإشارة إليه أن مرحلة التدوين للمأثور مرت «داخليا» هى الأخرى بأدوار أهمها ما يلى: 1 - دور التبعية لعلم الحديث: حيث بدأ التدوين لعلم الحديث إذ سبق أن قلنا بأنه حتى بداية العصر العباسى لم يكن ثمة علم يومئذ غير علم الحديث، حتى أن لفظ «العلم» فى هذه الفترة التاريخية لم يكن يعرف إلا أنه علم الحديث. فبدأ جمع الحديث من صدور الحفظة إلى سطور الكراريس. ولما انتهت مرحلة الجمع من الصدور إلى السطور وفيها أحاديث ذات موضوعات شتى فمنها أحاديث تتعلق بالأحكام من طهارة، وصلاة، وآذان، وحج، وزكاة، وصوم، وبيع، وسلم، وصرف، ومزارعة، ومصانعة، وزواج، وطلاق، وحرب، وسلم، وأسرى، وتقاض. ومنها ما يتعلق بالتفسير وبيان مراد الله- تعالى- من كلامه المنزل على رسوله الكريم كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ وغيرها. وهكذا جمعت الدواوين ما حفظته الصدور. فلما عرف الناس التدوين عرفوا التبويب والتهذيب. فبدءوا يضمون الأحاديث ذوات الموضوع الواحد تحت باب واحد، والأبواب المتشابهة فى علم واحد تحت كتاب واحد، فهذا كتاب فى الطهارة يحتوى على أبوابها، وهذا كتاب فى التفسير يحتوى على سور القرآن وما قيل فى كل سورة من مأثور القول. وفى هذه المرحلة

انجمع علم التفسير فى باب مستقل داخل كتب الحديث ومصنفاته وأشهر من أفرد أبواب التفسير فى كتب المرويات الحديثة هم بالترتيب الزمنى: 1 - يزيد بن هارون السلمى المتوفى سنة 117 هـ. 2 - شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ. 3 - وكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هـ. 4 - روح بن عبادة المتوفى سنة 205 هـ. 5 - عبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هـ. 6 - آدم بن إياس المتوفى سنة 220 هـ. 7 - عبد بن حميد المتوفى سنة 249 هـ. 2 - دور الاستقلال عن علم الحديث: وفى هذه المرحلة استقلت الأحاديث المنجمعة فى كتب الحديث تحت عنوان «باب فى التفسير» أو تحت عنوان «كتاب التفسير» وصارت فى كتب مستقلة، ومصنفات خاصة عرفت ب «التفسير المأثور». واستمر هذا الدور من الثلث الأخير للقرن الثالث الهجرى إلى العقد الأول من القرن الهجرى. وعزى جمع التفسير بالمأثور فى هذا الدور إلى ثلّة من العلماء كلهم من أهل الرواية الحديثية كما كان الحال فى الدور الأول دور التبعية لعلم الحديث. وأشهر من جمع تفاسير مستقلة فى مصنفات فى هذا الدور هم حسب الترتيب الزمنى لوفياتهم: 1 - ابن ماجة المتوفى سنة 273 هـ. 2 - ابن جرير الطبرى المتوفى سنة 310 هـ. 3 - أبو بكر النيسابورى المتوفى سنة 318 هـ. 4 - ابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ.

5 - ابن حبان المتوفى سنة 369 هـ. 6 - الحاكم النيسابورى المتوفى سنة 405 هـ. 7 - ابن مردويه المتوفى سنة 410 هـ. 3 - دور اختصار الإسناد، أو حذفه نهائيا: وفى هذا الدور خلا التفسير بالمأثور من ذكر السند، وبقيت المتون دون عزو لقائل، وأصبح الإسناد موقوفا على أعلى راو فى السند دون ذكر بقية الرواة. وهذا أدى إلى أول مدرج من مدارج الوضع فى التفسير، كما كان أول إلباس يدخله مصنفو هذه الكتب على قارئيها فى هذا الدور بحيث ظنّ ما ليس بصحيح صحيحا. بل أصبح الأمر أكثر خطورة إذ نقلت الإسرائيليات فى هذه الكتب خالية من نقلتها، فأخذت على أنها حقائق تفسيرية ثابتة ومقطوع بها. إلى جانب أن مصنفى هذا الدور لم يحرروا المسائل التى قطع بالتفسير فيها إذ المعلوم أن ما قطع بتفسيره عن الصدر الأول لا يحتاج بعد ذلك إلى من يفسره. ومع انتقال الأمة من تحويل العملية التعليمية من مرحلة التعليم بواسطة «التلقى» إلى مرحلة التعليم بواسطة «التدوين» فإن هذه الخطوة الأخيرة أحدثت خللا خطيرا. إذ ما كاد الناس يستغنون عن «التلقى» إلى «التدوين» حتى استغنوا أيضا عن «الإسناد» إلى تصنيف الكتب فى التفسير دون عزو لقائل. وهذا الخلل برمته فرّخ فى هذه المرحلة ثلاث ظواهر سلبية هى: 1 - ظهور الإسرائيليات بشكل كبير، وعدّها كأنها حقائق ثابتة. 2 - ظهور الوضع والكذب فى التفسير على غرار ما كان فى الحديث. 3 - ظهور التفسير بالرأى. ***

نموذج من مناهج المفسرين بالمأثور ابن جرير الطبرى وتفسيره"جامع البيان"

نموذج من مناهج المفسرين بالمأثور ابن جرير الطبرى وتفسيره «جامع البيان» نتناول الآن- بحمد الله وتوفيقه- بعض المختارات والنماذج من كتب ومصنفات التفسير بالمأثور، ومناهج أصحابها فيها، وطريقة تناولهم لتفسير آيات الذكر الحكيم. وسنعرض الآن لأولى هذه المختارات والنماذج فيما يلى: 1 - اسم المصنّف: جامع البيان فى تفسير القرآن. اسم المصنّف: أبو جعفر: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبرى المتوفى سنة 310 هـ. عدد أجزاء المصنّف: ثلاثون جزءا. إجمالى عدد صفحات المصنّف: 8000 ثمانية آلاف صفحة على وجه التقريب لا التحديد إذ يختلف كل جزء عن الآخر حسب الطباعة الحديثة. * الطبرى: حياته وتلقيه العلم: المحققون من أهل العلم سلّموا لابن جرير الطبرى بالاجتهاد المطلق، لما جمعه من أدوات الاجتهاد الكاملة، ومعرفته بشتى الفنون معرفة تامة. ** ولد محمد بن جرير الطبرى سنة 224 هـ فى آمل بطبرستان، وإليها نسب. ** رحل من بلده طلبا للعلم وهو فى الثانية عشرة من عمره، فنزل مصر، والشام، والعراق. شيوخه: وأخذ العلم عن كبار شيوخ عصرهم فى هذه البلاد منهم: محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب، وإسحاق بن إسرائيل، وأحمد بن منيع

البغوى، ومحمد بن حميد الرازى، وأبو همام الوليد بن شجاع، وأبو كريب محمد ابن العلاء، ويعقوب بن إبراهيم الدورقى، وأبو سعيد الأشج، ومحمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن على، وغيرهم من أقران عصرهم فى البلاد التى رحل إليهم فيها وهى: الشام، والعراق، ومصر. منزلة الطبرى فى العلم: تكلم الخطيب البغدادى عن الإمام محمد بن جرير الطبرى فى «تاريخ بغداد» بما يعين الطالب على فهم المنزلة العلمية التى وصل إليها ابن جرير فى عصره فقال: «كان أحد أئمة العلم، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله» وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره. وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعانى، فقيها فى أحكام القرآن، عالما بالسنة وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخائضين فى الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور فى تاريخ الأمم والملوك، وكتابه: فى التفسير لم يصنّف أحد مثله. وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه فى معناه إلا أنه لم يتمه. وله فى أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء. وتفرد بمسائل حفظت عنه. مكث أربعين سنة يكتب فى كل يوم منها أربعين ورقة. قال أحمد بن أبى الطاهر الإسفرايينى: «لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا». وقال عبيد الله بن محمد السمسار: «إن أبا جعفر الطبرى قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ (يعنى نسخه) قالوا: كم يكون قدره؟ فقال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره فى نحو ثلاثة آلاف ورقة.

ثم قال: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره فى التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال: إنا لله ماتت الهمم، فاختصره فى نحو ما اختصر التفسير» (¬1). * عدّه العلماء من الأئمة، وسلموا له بالاجتهاد المطلق حتى صار له مذهب فقهى عرف باسم «الجريرية» انتشر، وقلده فيه كثير من الناس ثم انقرض وكان أول أمره على مذهب الإمام الشافعى- يرحمه الله تعالى. وهذا ما ينقله لنا السبكى فى طبقات الشافعية على لسان ابن جرير الطبرى فيقول: «أظهرت فقه الشافعى، وأفتيت به فى بغداد عشر سنين، وتلقاه منى ابن بشار الأحوال أستاذ أبى العباس بن سريج» (¬2). وذكره السيوطى فى طبقات المفسرين فقال: «كان أولا شافعيا، ثم انفرد بمذهب مستقل، وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون، وله فى الأصول والفروع كتب كثيرة (¬3). درجته فى الرواية: اختلط على بعض علماء التاريخ كأحمد بن على السليمانى حال محمد بن جرير الطبرى فنسب إليه ما لم يكن من حاله، حيث ذكر عنه أنه كان يضع للروافض. وقد ردّ العلامة ابن حجر فى «لسان الميزان» هذا الزعم فقال: «ثقة، صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر .. وقد أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ فقال عنه: «كان يضع للروافض، وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندّعى عصمته من الخطأ، ولا يحل ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2/ 162 - 169 باختصار. (¬2) طبقات الشافعية للسبكى 2/ 135. (¬3) طبقات المفسرين للسيوطى ص 3.

لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم فى بعض ينبغى أن يتأنى فيه، ولا سيما فى مثل إمام كبير». ولعل السليمانى أراد- محمد بن جرير بن رستم الطبرى الرافضى. قال ابن حجر: «ولو حلفت أن السليمانى ما أراد إلا ابن رستم هذا لبررت. والسليمانى حافظ متيقن كان يدرى ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن فى مثل هذا الإمام بهذا الباطل» (¬1). أوصافه: كان- رحمه الله تعالى- أسمر إلى الأدمة، أعين، نحيف الجسم، وريد القامة، فصيح اللسان، ولم يؤذ به أحدا (¬2). تلاميذه: حدث عنه: أحمد بن كامل القاضى، ومحمد بن عبد الله الشافعى، ومخلد بن جعفر، وخلق كثير (¬3). تفسيره: يطلق بعض الباحثين على ابن جرير أنه: «أبو التاريخ» كما يطلقون عليه أنه «أبو التفسير» وهذا الإطلاق فى الأوصاف لم يأت من فراغ. ومعنى أنه أبو التاريخ: أنه أول مؤرخ فى الإسلام وضع تاريخا موثقا للبشرية منذ أول آدم عليه السلام واستوعب تاريخ الأرض استيعابا لم يسبقه فيه أحد فى الإسلام. ونفس هذا المعنى ينسحب عليه فى علم التفسير. فهو «أبو التفسير» وواضع أول كتاب «كامل». فى تفسير جميع آيات القرآن الكريم آية آية بكل مروياتها المأثورة بطرقه هو التى تلقاها عن المفسرين المحدثين. ¬

_ (¬1) لسان الميزان 1/ 100 - 102. (¬2) تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2/ 162 - 169. (¬3) المصدر السابق.

مطلب فى: منهج ابن جرير فى تفسيره

وقد أجمع الباحثون من الإسلاميين والمستشرقين على السواء على أن فى تفسير الطبرى غنية وكفاية عن سائر التفاسير: يقول ابن تيمية فى «الفتاوى»: «وأما التفاسير التى فى أيدى الناس فأصحها تفسير ابن جرير الطبرى، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن سليمان، والكلبى» (¬1). وينقل المستشرق الألمانى «جولد زيهر» عن مقال كتبه المستشرق «نولدكه». فى سنة 1860 م بعد أن قرأ شيئا عن كتاب جامع البيان للطبرى- ولم يكن كتاب الطبرى قد ظهر طبعه بعد- فقال: «لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تماما، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعا لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم» (¬2). هذا والحمد لله فقد ظهر الكتاب من عهد قريب، إذ وجدت نسخة خطية فى حوزة الأمير حمود بن عبد الرشيد أمير حائل بمنطقة نجد بالسعودية فطبع عليها الكتاب، وتداولته أيدى طلاب العلم (¬3). مطلب فى: منهج ابن جرير فى تفسيره: تنحصر جملة مناهجه التى سلكها فى كتابه «جامع البيان» فى عدة نقاط: أولها: التزامه التام بالنقل المأثور عن الأجيال الثلاثة الأولى مع ذكر سلسلة الرواية كاملة حتى تنتهى إلى قائلها الأصلى مرفوعة إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، أو موقوفة على الصحابة، أو مقطوعة على التابعى. ¬

_ (¬1) فتاوى ابن تيمية 2/ 192. (¬2) المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن ص 85. (¬3) التفسير والمفسرون للذهبى 1/ 204.

والطبرى ينقل سلسلة الرواية بطريقه هو. وهو وإن لم يفند هذه الرواية من حيث القوة والضعف، ولم يحكم عليها إلا أنه يكون- أى بمجرد ذكر سلسلة الرواية- يكون قد خرج من العهدة العلمية. علما بأن الطبرى التزم بعدم النقل عن المشهورين بالتلفيق والكذب كمقاتل بن سليمان، ومحمد بن السائب الكلبى كما سبق أن نقلناه عن ابن تيمية. ثانيها: يبدأ الآية التى يريد أن يفسرها بذكر معناها العام إجمالا بما يتفق له مع مأثور الرواية عنده فيقول: «القول فى تأويل قول الله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ يقول: فإذا أمنت حين تحصر؛ إذا أمنت من كسرك، من وجعك فعليك أن تأتى البيت فيكون لك متعة فلا تحل حتى تأتى البيت. وقال آخرون معنى ذلك: فإذا أمنتم من وجع خوفكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ (¬1). ثم يعدد الروايات فى ذكر من قال بهذا المعنى إن كان فيها أكثر من طريق، أو أكثر من قائل. ثالثها: لا يقف مكتوفا على مجرد الرواية، وإنما: 1 - يتعرض لنقدها إذا تبين له أن الرواية مخالفة لظاهر النّص القرآنى. فنراه يتعرض لمجاهد بن جبر عند ما قال فى قوله تعالى فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا. ¬

_ (¬1) جامع البيان 2/ 143.

يردّ ابن جرير قول مجاهد هذا فيقول: «وهذا القول الذى قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف» (¬1). والطبرى هنا يميل إلى الأخذ بالمذهب الظاهر من لفظ القرآن فحين أن الحق قد يكون مع مجاهد، فلا سبيل إلى القطع إذن بأن مراد الله تعالى فى هذا هو المسخ الحقيقى أو المسخ المجازى. 2 - أو يرجح بين قولين فيختار أحدهما دون الآخر كما فى قوله تعالى: تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ فيها قولان، ولكل قول منها روايات: الأول: أنا أول المؤمنين بك من قومى أن لا يراك فى الدنيا أحد إلا هلك. فيأتى الطبرى بأسانيده على ذكر من قال ذلك وهم: أبو العالية، والربيع، ومجاهد، وابن عباس. الثانى: أنا أول المؤمنين بك من بنى إسرائيل. فيذكر أن ذلك قول عكرمة، ومجاهد فى رواية أخرى عن ابن عباس. ثم يختار الطبرى القول الثانى ويعلل هذا الاختيار بقوله: «لأنه كان قبله فى بنى إسرائيل مؤمنون وأنبياء منهم من ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء فلذلك اخترنا القول الذى قلناه قبل» (¬2). رابعها: يحتكم الإمام الطبرى إلى اللغة، والمعروف من كلام العرب عند ما يجد أن الآراء تتعاوض مع المفهوم اللغوى، وهذا له من النماذج فى تفسير الطبرى الشيء الكثير. ويدخل فى هذا المنهج احتكام الطبرى إلى الشعر القديم، وهذا أيضا شواهده كثيرة يلمسها الطالب عند ما يضع الكتاب عمليا بين يديه، ويقلب فى صفحاته جزءا جزءا. ¬

_ (¬1) جامع البيان 1/ 252. (¬2) جامع البيان 9/ 55 - 56.

خامسها: يعنى عناية فائقة بذكر القراءات، ويثبت منها ما صحت روايته ويرد القراءات الواردة من غير أئمتها المشهود لهم بصحة الرواية. وابن جرير الطبرى فى هذا يصدر عن قدم راسخ فى علم القراءات، فإنه ألف فى هذا العلم كتابا ضخما فى ثمانية عشر مجلدا كما يذكر ذلك ياقوت الحموى فى ترجمة ابن جرير (¬1). سادسها: يكثر الطبرى من إيراد مسائل النحويين والصرفيين حسب مدارسهم المختلفة، ويبين وجوه الإعراب إذا كان لها فى الآية أكثر من وجه. سابعها: يتعرض كثيرا لذكر المرويات المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو ما يعرف باسم «الإسرائيليات». وابن جرير فى ذلك متأثر بمواقف المفسرين فى عصره فى النقل عن الروايات الإسرائيلية وربما كان لاشتغاله بالتواريخ القديمة أثرها عليه فى ذلك النقل أيضا. وتفسير الطبرى فى هذه الناحية من منهجه يحتاج إلى دقة القارئ فى تمحيص الرواية والوقوف على صحتها. ثامنها: وقوفه كثيرا عند الآيات التى تتناول الحلال والحرام، وتعنى بالمسائل الفقهية، فيذكر عندها آراء الفقهاء. وتظهر فى العرض لهذه المسائل ملكة الاجتهاد عنده، فيختار الرأى الراجح، أو يخلص هو إلى رأى بنفسه، ويسوق الأدلة العلمية عليه (¬2). هذا إلى جانب تعرضه لمسائل تخص علم الكلام والجدل، كما أنه يقف فى وجه من يتصدى لتفسير الآيات بالرأى المجرد، ويصفه بالخلوّ عن العلم (¬3). ¬

_ (¬1) معجم الأدباء لياقوت الحموى 18/ 45. (¬2) راجع فى ذلك ص 57 وما بعدها من الجزء الرابع عشر. (¬3) راجع ص 138 من الجزء الثانى عشر، وغيره كثير.

هذا وقد عكف الطبرى على تفسير كتابه «جامع البيان» زهاء سبع سنوات يمليه على أصحابه إملاء. وكانت أهم مروياته المأثورة فى هذا التفسير ما ذكره ياقوت فى معجم البلدان ونقلها الشيخ محمد حسين الذهبى فقال: «ذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقا. وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج، وتفسير مقاتل بن حبّان. سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه. ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به، فإنه لم يدخل فى كتابه شيئا عن كتاب محمد بن السائب الكلبى، ولا مقاتل بن سليمان، ولا محمد بن عمر الواقدى لأنهم عنده أظنّاء» (¬1). ... ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 218.

مبحث فى: التفسير فى بداية عصر التدوين

مبحث فى: التفسير فى بداية عصر التدوين من المعروف علميا أن عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين- يرحمه الله تعالى- هو أول من اتخذ خطوة عملية نحو نقل الأمة الإسلامية كلها من عصر تلقى العلم رواية ومشافهة إلى مرحلة تسجيل العلم واستعمال القراطيس، وتدوين العلوم. وأحسب أن ذلك القرار- فى ذلك الوقت- كان يعد انقلابا هائلا فى الحركة العلمية. ذلك أنه قد مرّ قرن كامل وحركة التعليم كلها قائمة على المشافهة وتلقى الرواية وذلك للمنع الصادر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونهيه عن كتابة شىء سوى القرآن الكريم. ولقد أشبع الباحثون هذه المسألة بحثا، وعزوها إلى أن التحذير الوارد فيها كان لخوف إلباس كتاب الله ما ليس منه، فلما أمن اللبس ظهر الأمر، والإذن بالكتابة فى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قيّدوا العلم بالكتاب». وقوله: «اكتبوا فو الله ما صدر منى إلا حقا». مما حدا ببعض الباحثين إلى محاولة التأكيد على أن الكتابة ظهرت فى عصر مبكر قبل عمر بن عبد العزيز (¬1). وأيا ما كانت الآراء فإن الكلّ مجمع على أن «عصر التدوين» لم يأخذ السمة البارزة له والتى تستحق تطابق هذه التسمية إلا فى أواخر عهد الدولة الأموية، وأول قيام دولة العباسيين أى قبيل منتصف القرن الثانى الهجرى. وفى هذا الوقت بدأت المرحلة الثالثة للتفسير بعد المرحلة الأولى فى عصر الصحابة، والمرحلة الثانية فى عصر التابعين وظهور مدارس التفسير فى مكة، والمدينة، والعراق، وبعض الباحثين ينظر إلى هذه المرحلة الثالثة نظرة ثنائية: ¬

_ (¬1) دلائل التوثيق البكر للسنة والحديث د/ امتياز أحمد ص 26.

مطلب فى التدوين

1 - فيعتبر جيل الصحابة وجيل التابعين خطوة أولى فى التفسير تعتمد على تلقى العلم رواية. 2 - ومرحلة ما بعد التابعين خطوة ثانية لتلقى العلم عن طريق التدوين والكتابة، وهذا التقسيم لا مشاحة فيه لأنه من قبيل اصطلاح العلماء (¬1). مطلب فى التدوين: أ- فى بداية مرحلة التدوين: لم يكن هناك ثمة علم غير علم «الحديث» وجلّ اهتمام المدونين كان مقتصرا على الحديث النبوى الشريف، مع تنوع أبواب الحديث فى كافة العلوم كالفقه، والتاريخ وغيرهما. ولا شك أن علم التفسير كان أحد الأبواب الهامة التى أفرد لها المحدثون مكانا رحبا فى كتبهم، فأفردوا تحت هذا الباب مرويات الصحابة والتابعين فى تفسير آيات القرآن الكريم سواء ما كان منها مرفوعا إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، أو موقوفا على الصحابة، أو مقطوعا على التابعين. وكان الطابع المميز لهذه الفترة فى بداية التدوين ما يلى: 1 - لم يفرد للتفسير تأليف خاص به منفصل عن علم الحديث ومستقل بنفسه. 2 - لم يعرف أن أحدا قام بتفسير كل آيات القرآن الكريم سورة وآية. وإن كان «ما جمع ودوّن هو ما روي من الآثار فى آيات وسور متفرقة». وأشهر من تصدّى لتدوين التفسير وأفرده كباب من أبواب الحديث منهم: 1 - يزيد بن هارون السلمى المتوفى سنة 117 هـ. ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 145.

2 - شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ. 3 - وكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هـ. 4 - روح بن عبادة المتوفى سنة 205 هـ. 5 - عبد الرزّاق بن همّام المتوفى سنة 211 هـ. 6 - آدم بن إياس المتوفى سنة 220 هـ. 7 - عبد بن حميد المتوفى سنة 249 هـ. ولعلك تلاحظ أن هذه الأسماء لأشخاص برزوا فى علم الحديث، فلم يكن شأنا مستغربا أن يكون التفسير عندهم من أبواب علم الحديث. ولم يكن مستغربا أيضا أن يكون ما جاء فى هذه الأبواب إنما هى مروياتهم هم بأنفسهم تلقوها عمن سبقهم. بفارق واحد فقط هو أنهم قيدوها ودوّنوها فى الكتب. ومن قبلهم، كانت من محفوظات الصدور لا من مكتوبات السطور. ب- المرحلة الثانية فى عصر التدوين: هى «مرحلة الاستقلال عن الحديث». فى أول القرن الرابع الهجرى أخذت تبرز شخصية «علم التفسير» كعلم مستقل بذاته له مصنفاته الكاملة فى تفسير آيات القرآن آية آية، وعزى ذلك إلى طائفة من العلماء نذكر أشهرهم فيما يلى حسب ترتيب وفياتهم. 1 - ابن ماجة صاحب السنن المتوفى سنة 273 هـ. 2 - ابن جرير الطبرى المتوفى سنة 310 هـ. 3 - أبو بكر بن المنذر النيسابورى المتوفى سنة 318 هـ. 4 - ابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ. 5 - أبو الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369 هـ. 6 - الحاكم النيسابورى المتوفى سنة 405 هـ.

7 - وأبو بكر بن مردويه المتوفى سنة 410 هـ. ويلاحظ على التفسير فى تلك الفترة الخصائص التالية: * الاستقلال التام فى مؤلفات خاصة. * لا يوجد فيها من آراء المفسر الشخصية شىء يذكر إلا ما عند ابن جرير الطبرى من توجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وإعراب بعض الآيات أحيانا، واستنباط بعض الأحكام أحيانا أخرى- وسنعرض لذلك إن شاء الله تعالى. * ما يوجد فى هذه التفاسير- رغم استقلالها بمصنفات- أنها مرويات صاحب الكتاب المفسر عمن سبقه من مفسرى أتباع التابعين، ثم التابعين، ثم الصحابة- رضى الله عن الجميع- بسلسلة روايته هو شخصيا عن هؤلاء. وبهذه الخاصية الأخيرة تكون الخصائص متصلة منذ عهد الصحابة إلى وقت المرحلة الثانية من عصر التدوين. وما ينبغى أن يعرفه طالب العلم أن هذا لم يكن أبدا أول ما دوّن من الكتب على سبيل الاستقلال على وجه الإطلاق، فلا يعدم أن يكون لأحد العلماء ممن سبقهم كتاب مجموع فى تفسير كل القرآن أو غالبه، وما ذكرناهم مقطوع بهم، وأما من قبلهم فاجتهادات باحثين، واستقراءات منقبين، ومن هؤلاء المجتهدين المنقبين من يقول بأن الفراء المتوفى سنة 207 هـ هو أول من دون تفسيرا جامعا لكل آيات القرآن مرتبا على وفق ترتيب المصحف، أو سعيد بن جبير المتوفى سنة 95 هـ، أو عبد العزيز بن جريج المتوفى سنة 150 هـ. والذى نعرفه الآن أن تفسير الفراء المعنون ب «معانى القرآن». مطبوع بين أيدينا فى ثلاثة أجزاء وهو وإن كان لكل سور القرآن إلا أنه يبقى خاصا بمعانى القرآن فقط دون استقصاء لأحكامه وسائر فنون التفسير الأخرى، فهو وإن استوعب السور إلا أنه لم يستوعب كل

آيات السور آية آية. فيبقى تقرير المسألة على ما ذكرناه من أن حصر الكتب المصنّفة فى التفسير بالمعنى العام فى هذه الكتب السبعة من سنة 273 هـ إلى 410 هـ. ح- المرحلة الثالثة: ويعرّفها الباحثون بأنها مرحلة اختصار الأسانيد، أو حذفها نهائيا من التفسير. واشتراك هذه المرحلة مع ما سبقها من مراحل إنما هو فى استمرار التفسير بالمأثور والجديد فى هذا «المأثور» أنه خلا من السند، وبقيت المتون دون إسناد، أو على أقل تقدير أوقف النقل على أعلى رجل فى الإسناد، واختصرت السلسلة كلها. وهذا أدى إلى أول مدرج من مدارج الوضع فى التفسير، كما كان أول إلباس يدخله مصنفو هذه الكتب على قارئيها فيظنون ما ليس بصحيح صحيحا. كما أصبح الأمر أكثر خطورة من ذلك إذ نقلت الإسرائيليات فى هذه الكتب على أنها حقائق ثابتة ومقطوع بها. إلى جانب أن مصنفيها لم يحرروا المسائل التى قطع بالتفسير فيها، ومعلوم أن المقطوع بتفسيره بالنّص لا يحتاج بعده إلى تفسير. فإذا عرفنا من تفسير النبى صلّى الله عليه وسلّم أن «الكوثر». فى قوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ نهر فى الجنة أعطاه الله لنبيه، والخطاب موجه إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فليس لأحد من المفسرين بعد ذلك أن يفسر الكوثر بغير ما فسره النبىّ صلّى الله عليه وسلّم. والذى حدث فى هذه المرحلة «الخطيرة» أنه مع انتقال الأمة من تحويل العملية التعليمية من مرحلة التعليم بواسطة «التلقى» .. إلى مرحلة التعليم بواسطة «التدوين» والكتابة، فإن هذه الخطوة الأخيرة أحدثت خللا بالغ الخطورة! إذ ما كاد الناس يستغنون عن «التلقى» إلى «التدوين» حتى استغنوا أيضا عن «الإسناد». إلى تصنيف الكتب فى التفسير دون عزو لقائل، كما كان الحال طوال عصور الصحابة،

مبحث فى: التفسير بالرأى

والتابعين وأتباع التابعين. هذا الخلل برمته فرّخ فى هذه المرحلة ثلاث ظواهر سلبية خطيرة هى: 1 - ظهور الإسرائيليات وتفشيها فى التفسير، واعتبارها حقائق مسلّمة. 2 - ظهور الوضع والكذب فى التفسير على غرار ما كان فى علم الحديث. 3 - ظهور عصر التفسير العقلى. مبحث فى: التفسير بالرأى التفسير بالرأى هو أحد قسمى التفسير الرئيسين وهما التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأى، ويقال له أيضا بالاجتهاد. والتفسير بالرأى (الاجتهاد) نوعان: الأول: التفسير بالرأى الجائز. الثانى: التفسير بالرأى الممنوع (المذموم). وقد ظهر التفسير بالمأثور فى أول الخلافة العباسية مع بداية ظهور العصر العباسى الأول عند ما كثرت الفرق والمذاهب، وبرزت على الساحة الحركات الفكرية والعقلية كالمعتزلة وغيرهم. ومما تجدر الإشارة إليه أن التفسير الاجتهادى ليس معناه طرح التفسير بالمأثور المنقول عن سلف الأمة، ولكن معناه الاجتهاد فى تفسير ما لم يثبت فيه منقول صحيح، ولا أثر مروى. وأيا ما كان فإن العلماء اختلفوا فى جواز التفسير الاجتهادى. فذهب قوم إلى منعه تماما، وقالوا لا يجوز لأحد بعد الأجيال الثلاثة الأولى أن يفسر القرآن مهما بلغت مرتبته من العلم، وأقاموا على ذلك أدلة كثيرة. وذهب آخرون إلى نقيض ما ذهب إليه الأولون فأجازوا لمن كان ذا علم وبصر، وتكاملت فيه أدوات علمية معينة أن يجتهد فى التفسير.

أدلة الفريقين

وهؤلاء نقضوا أدلة المانعين، وحددوا شروطا للمفسّر المجتهد إذا توفرت فى أحد جاز له أن يخوض فى بيان مراد الله- تعالى- من آياته. أدلة الفريقين أدلة المانعين للتفسير بالرأى: استدل المانعون للتفسير بالرأى بأدلة كثيرة نذكر أهمها فيما يلى، ونعقبها بنقض المجوزين للتفسير بالمأثور وهى: الدليل الأول: قالوا: إن التفسير بالرأى قول على الله بغير علم «صغرى»، والقول على الله بغير علم منهى عنه «كبرى». فالتفسير بالرأى منهى عنه «نتيجة». دليل الصغرى: أن المفسر بالرأى ليس على يقين بأنه أصاب ما أراد الله تعالى ولا يمكنه أن يقطع بما يقول، وغاية الأمر أنه يقول بالظن، والقول بالظن قول على الله بغير علم. ودليل الكبرى: أن الله تعالى جعل القول بغير علم من المحرمات الأربع المذكورة فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (¬1). وردّ المجوّزون للتفسير بالرأى هذا الدليل فقالوا: نمنع الصغرى: لأن الظن نوع من العلم إذ هو إدراك الطرف الراجح وعلى فرض التسليم بالصغرى فإنّا نمنع الكبرى لأن الظن منهى عنه إذا أمكن الوصول إلى العلم اليقينى. أما إذا لم يوجد العلم اليقينى فالظن كاف لاستناده إلى دليل شرعى مقطوع به، ¬

_ (¬1) الأعراف: 33.

وهو قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬1). وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر». وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقال له: «بم تحكم يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو». فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدر معاذ وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله» (¬2). الدليل الثانى: أن المبين عن الله تعالى والمفسر لآياته هو النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لقول الله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬3). فليس لغيره أن يفسر آيات الله تعالى. ورد المجوزون هذا الدليل فقالوا: نعم النبىّ صلّى الله عليه وسلّم مأمور بالبيان، وقد بيّن ما احتاج الناس إلى تفسيره فى عصره، وقبض ولم يرد عنه تفسير القرآن آية آية. وما لم يرد عنه فيه شىء من التفسير فللمجتهدين من أهل التفسير فيه فكر ونظر دعاهم الله تعالى إليه فى آيات كثيرة منها: لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (¬4). أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (¬5). وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (¬6). الدليل الثالث: ما ورد من السّنة المشرفة من تحريم القول فى القرآن بالرأى ومنه: ¬

_ (¬1) البقرة: 286. (¬2) التفسير والمفسرون 1/ 247 - 248. (¬3) النحل: 44. (¬4) الأعراف: 176، الحشر: 21. (¬5) محمد: 24. (¬6) النساء: 83.

أ- قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال فى القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» رواه الترمذى عن ابن عباس- رضى الله عنهما. ب- قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» رواه أبو داود عن جندب بن جنادة. وأجاب المجوزون عن هذين الحديثين بما يأتى: 1 - أن الحديثين محمولان على من قال فى القرآن برأيه فيما هو ممنوع من تفسيره أصلا كمتشابه القرآن، ومشكله مما لا يعلم إلا بالنقل الصحيح عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. 2 - أنهما محمولان فيمن قال فى القرآن برأيه وهو يعلم أن الحق بخلافه كأصحاب المذاهب الفاسدة. 3 - أنهما محمولان على قول من يفسر بغير مستند من نقل، أو لغة صريحة دالة على البيان. الدليل الرابع: ورد المنع عن الصحابة والتابعين أن يفسر أحد القرآن برأيه، بل كانوا يهابون تفسير القرآن ويعظمونه، ويتحرجون أن يقولوا فيه باجتهادهم. 1 - سئل أبو بكر- رضى الله عنه- فى تفسير حرف من القرآن فقال: «أى سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، وأين أذهب، وكيف أصنع إذا قلت فى حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى». 2 - وما ورد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن الحلال والحرام تكلم، وإذا سئل عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع شيئا».

3 - وهذا رجل يقابل مجاهد بن جبر فيقول لمجاهد: «أنت الذى تفسّر القرآن برأيك؟ فبكى مجاهد، ثم قال: إنى إذا لجرىء، لقد حملت التفسير عن بضعة عشر رجلا من أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنهم» (¬1). وأجاب المجوزون عن هذه الأقوال الواردة فى الدليل بما يأتى: أ- أن قول هؤلاء إنما كان منهم ورعا واحتياطيا، وتواضعا أولا، مخافة ألا يبلغوا ما يعتقدونه أنه مراد الله- تعالى- لأنهم كانوا يرون التفسير بمثابة الشهادة على الله- تعالى- أنه عنى هذا فأمسكوا وأحجموا خوف ألا يبلغوا هذه الغاية. ب- أن إحجامهم عن التفسير كان فيما لم يعرفوا وجه الصواب فيه. ج- أن امتناع أحدهم إنما كان لوجود من يعتقد أنه أفضل منه فى هذا الباب يكفيه مؤنة التفسير، وإلا فما كان ليتردد أبدا إذا سئل (¬2). ومع ردّ المجوزون على أدلة المانعين وإبطالها إلا أنهم مع ذلك أثبتوا صحة ما ذهبوا إليه من جواز التفسير بالرأى أى بالاجتهاد فى الآيات التى لم يرد فيها عن الأجيال الثلاثة نقلا صحيحا بأدلة كثيرة أهمها ما يلى: الأول: أن الله- تعالى- حث على تدبر القرآن، وعلى أن فى القرآن الكريم ما ينبغى للعلماء وأولى الألباب أن يتدبروه ويستنبطوه، ويصلوا إليه بعقولهم فى آيات كثيرة منها: أ- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (¬3). ب- وقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (¬4). ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 107. (¬2) مناهل العرفان فى علوم القرآن للزرقانى 1/ 56 - 57. (¬3) ص: 29. (¬4) محمد: 24.

ج- وقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (¬1). ولا يعقل أن يكون تفسير لم يستأثر الله- تعالى- بعلمه محظورا على الناظر المتدبر مع أنه طريق العلم وسبيل المعرفة. الثانى: ثبت عن الصحابة الكرام- خاصة الذين كانت لهم عناية بالتفسير منهم- أنهم قرءوا القرآن، واختلفوا فى تفسيره فيما لم يسمعوه من النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ولو لم يكن التفسير بالرأى جائزا لم اختلفوا وأبان كل منهم عن وجهة نظره واجتهاده فى الآيات. الثالث: لو كان التفسير بالرأى غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا ولتتوقف الأحكام، وهذا بيّن البطلان. الرابع: ثبت أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم دعا لابن عباس- رضى الله عنهما- قائلا فى دعائه: «اللهم فقهه فى الدين، وعلمه التأويل». ولو كان التفسير مقصورا على السماع والنقل لما كانت هناك فائدة لتخصيص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عباس بالدعاء. هذا ولو دققت النظر فى هذين القولين، وفى أدلتهما: لوجدت أن كلا منهما يحاول أن يتمسك برأيه ويطير به فرحا، ويتحفك بالأدلة كأنه أقنعك، وأبطل حجّة الخصم مع العلم بأن الخلاف لا يعدو أن يكون خلافا لفظيا لا حقيقيا. ومع ذلك فلا يجوز- عند من يقول بعلم التفسير- أن يقدم على كتاب الله ليفسره عن الله- تعالى- ما لم يستجمع شروط المفسر وأدواته وهى كما يلى: ¬

_ (¬1) النساء: 83.

أولا: شروط المفسر

أولا: شروط المفسر: ينبغى ألا يتصدى للتفسير من لم يحط بمجمل الشروط التى حددها العلماء لمن يتصدى للبيان عن مراد الله- تعالى- وأهمها: 1 - أن يكون المفسّر صحيح الاعتقاد بالله تعالى، فإن صحة العقيدة تقى المفسّر من تحريف النصوص، وخيانة الآيات، والوقاية من الزلل فيها. 2 - التخلى عن الأهواء المذهبية، والتحلى بالحق لوجه الحق دون لىّ أعناق الآيات لمذهب يروج له، أو عقيدة خاصة ينحرف بالقرآن إليها. 3 - ألا يخوض فى التفسير الاجتهادى حتى يتم له النظر والإثبات فى التفسير بالمأثور على النحو التالى: أ- أن يطلب التفسير من القرآن نفسه، فإن القرآن يشرح بعضه بعضا فى آيات مختلفة. ب- ثم إن لم يجد: طلب التفسير من السنّة فإن النبى صلّى الله عليه وسلّم هو المبين الحقيقى عن الله- تعالى- وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (¬1). ج- ثم إن لم يجد: طلب التفسير فى أقوال الصحابة، فهم أقرب الناس جميعا إلى رؤية الوحى، ومعرفة الوقائع، وأقرب إلى التقوى وسمت النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأقرب الأجيال جميعا إلى الملكة اللغوية التى نزل بها القرآن الكريم. د- ثم إن لم يجد: اجتهد فى تفسير آيات الذكر الحكيم بما حصّل من الأدوات الضرورية واللازمة لكل مفسر وهى تحصيل العلوم المعينة على التفسير والبيان وأهمها: ¬

_ (¬1) النحل: 44.

ثانيا: آداب المفسر

1 - العلم باللغة العربية. 2 - العلم بالنحو. 3 - العلم بالاشتقاق. 4 - علم الأبنية. 5 - علوم البلاغة الثلاثة: المعانى، والبيان، والبديع. 6 - علم القراءات. 7 - علم الكلام. 8 - علم أصول الفقه. 9 - علم أصول الدين. 10 - علم السيرة والقصص. 11 - علم الناسخ والمنسوخ. 12 - علم الحديث. 13 - علم الموهبة. ثانيا: آداب المفسّر: 1 - حسن النية، وسلامة القصد لله تعالى. 2 - حسن الخلق. 3 - الورع والتقوى. 4 - تحرى الصدق والضبط فى النقل. 5 - عزّة النفس. 6 - التواضع ولين الجانب. 7 - الجهر بالحق. 8 - التروى والأناة فى سرّد التفسير. 9 - حسن الإعداد وطريقة الأداء. 10 - تقديم من هو فى العلم أولى منه. والله أعلم***

نموذج من مناهج المفسرين بالرأى المحمود فخر الدين الرازى: وكتابه: مفاتيح الغيب

نموذج من مناهج المفسرين بالرأى المحمود فخر الدين الرازى: وكتابه: مفاتيح الغيب التعريف به: هو: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على. تنحدر أصوله إلى الأصل العربى فهو: بكرى من بنى تميم. مولده: ولد أبو عبد الله فخر الدين: فى مرو من كور طبرستان فى سنة 544 هـ. ونسب إليه واشتهر بهذه النسبة: فخر الدين الرازى وتوفى بها سنة 606 هـ. تلقيه العلم: أخذ أكثر علومه عن أبيه خطيب الرّى فى زمانه: ضياء الدين عمر، كما أخذ عن الكمال السمعانى، والمجد الجيلى، وكثير من علماء عصره. حتى أصبح فريد عصره، ومتكلم زمانه. كان إماما فى علم الكلام، والعلوم الطبيعية، كما كان إماما فى العلوم العقلية وعلوم اللغة، وشدّت الرحال إليه لتلقى العلم على يديه من مختلف الأقطار. وصار فلتة زمانه فى الوعظ باللسانين العربى، والفارسى القديم، وربما لحقه الوجد وهو يعظ فيكثر البكاء. مؤلفاته: خلّف الرازى مجموعة من المصنفات كتب لها القبول وتناولتها أيدى الطلاب بالبحث والدراسة إلى يومنا هذا فى مختلف الفنون وأهمها: 1 - البيان والبرهان فى الرد على أهل الزيغ والطغيان. 2 - المطالب العالية فى علم الكلام. 3 - المحصول فى أصول الفقه. 4 - الملخص فى الحكمة.

منهج الفخر الرازى فى تفسيره

5 - السر المكنون فى الطلسمات. 6 - شرح الإشارات لابن سينا. 7 - شرح الحكمة لابن سينا. 8 - شرح الوجيز فى الفقه للغزالى. 9 - شرح المفصل فى النحو للزمخشرى. ثم: مفاتيح الغيب فى التفسير ويسمى أيضا «التفسير الكبير». منهج الفخر الرازى فى تفسيره يقع «مفاتيح الغيب» فى ثمانية عشر مجلدا. وهناك خلاف على أن الفخر الرازى أتم تفسير القرآن كله أو أن الذى أكمله هو: نجم الدين القمولى المتوفى سنة 828 هـ، أو شهاب الدين الخويّيّ المتوفى سنة 639 هـ. وأيا ما كان فإن الفخر الرازى ترك لنا ذخيرة فى تفسير كتاب الله العزيز على منهج المفسرين بالرأى المحمود حظى بشهرة واسعة بين العلماء، لأن الكتاب يمتاز عن غيره بالأبحاث الكثيرة فى نواح شتى من العلوم حتى قال ابن خلكان فى وفيات الأعيان»: «جمع فيه كل غريب وغريبة». وأهم ما نلاحظه على الإمام فخر الدين الرازى فى منهجه التفسيرى ما يلى: 1 - المناسبات: يعتبر كتابه أهم تفسير لذكر مناسبات السّور بعضها لبعض، بل لذكر الآيات بعضها لبعض، وفى كثير من الأحيان يذكر مناسبة آخر الآية والسورة وختمها لأولها، وربما لا يكتفى بذكر مناسبة واحدة بل يعددها. وهو فى هذا أثبت بأن كلام الله- تعالى- على غاية من الترابط والدقة والإحكام وهو ما لا نجده فى تفسير آخر. 2 - الاهتمام بالعلوم الرياضية والكلامية: الفخر الرازى ينتهز فرصة تفسير الآيات التى يلمح فيها أية إشارة إلى العلوم الطبيعية والكونية كالفلك، والهيئة، والطب، فيتعرض لمباحثها، ويستطرد فيها بشكل ملفت.

3 - اهتمامه بالرد على المعتزلة والفرق الكلامية: والرازى كسنّى يعتقد ما يعتقده أهل السّنة لا يترك فرصة من آية قرآنية تتعرض لها المذاهب الكلامية خاصة المعتزلة حتى يفند أقوالهم فيها، ويرد عليها. أما ذكر أقوالهم فإنه يستطرد فيها استطرادا يأخذ بالألباب حتى أن صاحب المذهب نفسه لا يستطيع أن يقرره مثله. أما تفنيد أقوالهم والرد عليها فلا يكاد يصل إلى المرتبة السابقة من التقرير ولذلك ظن بعض العلماء فى الفخر الرازى أنه ربما يميل إلى هذه المذاهب لقصوره فى الرد بالنسبة لما برز فيه من التقرير. لكن الطوفى يرد على ذلك بقوله: «لعل سببه أنه كان يستفرغ قواه فى تقرير دليل الخصم، فإذا انتهى إلى تقرير دليل نفسه لا يبقى عنده شىء من القوى». 4 - إبرازه ووقوفه عند آيات الأحكام: وأيضا فالفخر الرازى كان شافعى المذهب متمكنا من الدراسات الفقهية، فكان إذا وقف عند آية من آيات الأحكام فنّدها تفنيدا جيدا وانتصر لمذهب الشافعى انتصارا ظاهرا. 5 - ترتيب المسائل: وأبرز ما فى منهج الرازى أيضا أنه كان يورد الآية الكريمة ثم يذكر عدد ما يمكن أن يكون فيها من مسائل فيقول هذه الآية فيها سبع مسائل: الأولى: كذا وكذا، والثانية: كذا وكذا. ولعل القرطبى تأثر بهذه الطريقة الجيدة فى الترتيب والتنسيق. 6 - ذكر اللغة والقراءات وأسباب النزول: ولا شك أن الرازى لم يفته فى منهجه الاعتماد على ما اعتمد عليه غالب المفسرين فى مناهجهم كالاهتمام بذكر أسباب النزول، والقراءات، واللغة، والاستدلال بالشعر على مفردات القرآن الكريم. ولك الآن أن تنظر فى «مفاتيح الغيب». لتكتشف بنفسك ما عرضناه عليك إجمالا من بعض مناهجه، ولتبحث أنت بنفسك أيضا عما عساه نكون قد غفلنا عنه.

نموذج من التفسير بالرأى المذموم الزمخشرى وكتابه"الكشاف"

نموذج من التفسير بالرأى المذموم الزمخشرى وكتابه «الكشاف» توطئة: ابتليت الأمة الإسلامية بالفرقة والاختلاف منذ استشهاد الخليفة الثالث عثمان بن عفان- رضى الله عنه- فألبسها الله شيعا، وجعلها فرقا، وأذاق هذه الفرق بعضها بأس بعض، فكانت كما أخبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «وستفترق هذه الأمة ثلاثا وسبعين فرقة كلها فى النار إلا ما كان عليه أنا وأصحابى». هذا: وقد تناولت كل فرقة من هذه الفرق كتاب الله- عز وجل- تفسره بما ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف، فظهرت كتب تفاسير الفرق العقائدية كأنها المرايا التى تنعكس عليها صور المفسرين لها على اختلاف مذاهبهم وتباين منازعهم، ولا غرو فكل إناء ينضح بما فيه (¬1). والذى اشتهر من هذه الفرق وعظم أمره خمس فرق وهم: 1 - أهل السنة. 2 - المعتزلة. 3 - المرجئة. 4 - الشيعة. 5 - الخوارج. وقد تناولنا نماذج من تفاسير أهل السنة سواء كان بالمأثور أو بالرأى الراجح فيما سبق أن قدمناه بين يديك وهى تفاسير ابن جرير الطبرى، والفخر الرازى والقرطبى. وهذه كلها من تفاسير أهل السنة وإن كانت فى ألوان مختلفة. أما الآن فنعرض لتفاسير «الفرق العقائدية» وقد اخترنا فرقة «المعتزلة»، واخترنا كتاب «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل» لجاد الله الزمخشرى. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 69.

أما المعتزلة: فكان أول ظهورهم ونشأتهم فى الدولة الأموية على يد «واصل بن عطاء» المتوفى سنة 131 هـ، وكان أول أمره تلميذا للحسن البصرى، وهو الذى سمّاه معتزليا عند ما بدأ يجيب عن الحسن البصرى فى مسائل يتكلم منها بالعقل المجرد الذى ترفضه الناس عن مرتكب الكبيرة أنه «فى منزلة بين المنزلتين». ومن هنا قال الحسن البصرى لواصل: «اعتزلنا واصل» فصارت علما على هذا المذهب، وبدءوا يتكلمون فى مسائل كثيرة كالقضاء والقدر وغيرهما ثم ما لبث أن استقر مذهبهم على أصول خمسة هى: 1 - التوحيد: وهو لبّ مذهبهم، تأثروا فيه بالإباضية، وهم أول من قالوا به، وبنوا عليه رأيهم القائل: باستحالة رؤية الله- سبحانه وتعالى- يوم القيامة، وأن الصفات ليست شيئا غير الذات. 2 - العدل: وهو قائم عندهم على أساس أن الله تعالى لم ينشأ جميع الكائنات ولا خلقها ولا هو قادر عليها، لأن أفعال العباد لم يخلقها الله تعالى. لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أراد الله به شرعا، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته. 3 - الوعد والوعيد: فمعناه أن الله يجازى من أحسن بالإحسان، ومن أساء بالسوء لا يغفر لمرتكب الكبيرة ما لم يتب ولا يقبل فى أهل الكبائر شفاعة ولا يخرج أحدا منهم من النار. 4 - المنزلة بين المنزلتين: وهو أن مرتكب الكبيرة لا هو مؤمن مطلقا ولا كافر مطلقا. 5 - وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فقد قالوا: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون بالقلب إن كفى، وباللسان إن لم يكف القلب، وباليد إن لم يغنيا، وبالسيف إن لم تكف اليد.

الزمخشرى وكتابه

ومعلوم أن مذهب أهل السنة والجماعة لا يتفق مع مذهب المعتزلة فى القول بهذه الأصول. والمعتزلة ينكرون الأحاديث الصحيحة إذا عارضت مذهبهم. يقولون بأن كل محاولاتهم فى التفسير مرادة لله تعالى. كما يعتمدون اعتمادا قويا على اللّغة فى إثبات ما يذهبون إليه من هذه الأصول. كما يتذرعون بالفروض المجازية إذا بدا لهم ظاهر القرآن غريبا. الزمخشرى وكتابه: كان الزمخشرى عالما عبقريا فذا فى علوم النحو، واللغة، والأدب، والتفسير، ويشهد لآرائه فى العربية علماء الأندلس. والزمخشرى معتزلى الاعتقاد، حنفى المذهب، ألف كتابه الكشاف فى التفسير ليدعم به حقيقته ومذهبه. واعتزاليات الزمخشرى فى تفسيره دليل على حذقه ومهارته. قيمة الكشاف العلمية: بصرف النظر عما فى الكشاف من الاعتزال، فإن هذا الكتاب يعد بحق قيمة علمية فريدة لم يسبق مؤلفه إليه لما أبان فيه عن وجوه الإعجاز فى غير ما آية من القرآن، ولما أظهر فيه من جمال النظم القرآنى وبلاغته، وليس مثل الزمخشرى من يستطيع أن يكشف لنا عن جمال القرآن وسحر لغته لما برع فيه من المعرفة بكثير من العلوم، لا سيما لغة العرب، وأشعارهم والإحاطة بعلوم البلاغة والبيان، والإعراب، والأدب ولقد أضفى هذا النبوغ العلمى والأدبى على تفسير الكشاف ثوبا جميلا لفت إليه أنظار العلماء (¬1). ومهما قيل فى وصف الكشاف وإطرائه من ناحية إثباته لإعجاز القرآن فإن ما فى الكتاب من اعتزال جعل كثيرا من أقلام العلماء تنال منه وتضعه فى هذا ¬

_ (¬1) التفسير والمفسرون 1/ 407.

الموضع الذى هو فيه وهو أنه منضو تحت مسمى «تفسير الفرق المبتدعة» أو التفسير بالرأى المذموم. ويمتاز كتاب الزمخشرى «الكشاف» بأمور منها: * خلوه من الحشو والتطويل. * سلامته من القصص والإسرائيليات. * عنايته بعلوم البلاغة. * اعتماده على لغة العرب. * بجعل مسائله على طريقة السؤال والجواب. ***

مبحث فى: التفسير الفقهى"الجامع لأحكام القرآن للقرطبى"

مبحث فى: التفسير الفقهى «الجامع لأحكام القرآن للقرطبى» توطئة: كما كان التفسير نطفة فى ظهر علم الحديث لم تشب عن الطوق إلا بعد معرفة الأمة للتدوين. ولقد سبق أن قلنا بأنه لما عرف الناس التدوين عرفوا التبويب فاستقل علم التفسير عن علم الحديث وبدا يستقل بنفسه فى كتب ودواوين كان من أهمها كتب التفسير بالمأثور المنقول عن الأجيال الثلاثة الأولى، فاستقر علم «التفسير العام» وكان تفسيرا «موسوعيا» يشمل جميع أنواع التفسير وألوانه التى يعرفها المعاصرون فى زماننا على سبيل الاستقلال: كتفسير المبهمات، وتفسير المتشابهات، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، أو ما أطلق عليها: «التفاسير المتخصصة». فإن هذه التفاسير المتخصصة كانت هى الأخرى «أجنة» فى ظهر علم «التفسير العام» فما لبث الباحثون أن نقبوا على هذه التفاسير فى فنونها المختلفة حتى أخرجوها عن التفسير العام وأفردوا لها مؤلفات على سبيل الاستقلال. من هذه الألوان المختلفة يبرز لنا: التفسير الفقهى. أو: تفسير آيات الأحكام. لمحة تاريخية سريعة: ولا شك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان معنيا بطبيعة الحال حين كانت تنزل آية من آيات الأحكام أن يبينها للناس ويشرح ما فيها من أحكام شرعية. ثم جاء جيل الصحابة- رضى الله عنهم- بعد ما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولحق بالرفيق الأعلى، فكانوا يقرءون القرآن، فما فهموه بسليقتهم بحسب معطيات لغتهم التى يملكونها وميراثهم من النبى صلّى الله عليه وسلّم كانوا يفسرونه ويشيعونه للناس. وربما استجدت وقائع وأحداث على الأمة الإسلامية فتكلموا فيها واستنبطوا لها من آيات القرآن الكريم أدلة يستندون إليها.

ومن هنا كان الخلاف طبيعيا حول تفسير الآية التى تحتمل ألفاظها هذا الخلاف. وإن بدت فى ذلك الوقت نادرة الحدوث من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تكن خلافا بالمعنى الفنى الذى يفسد للصحبة ودا، بل كثيرا ما كان أحدهما يتنازل للآخر عما فهمه ويرجع إلى قول صاحبه. حتى خلف من بعدهم أجيال برزت فيها حركة فقهية نشطة نتيجة سياحة المسلمين من السلف فى بلاد المسلمين ورؤيتهم لوقائع لم يعتادوها، فظهر الأئمة المجتهدون كأبى حنيفة، ومالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل- يرحم الله الجميع. وما لبث أن وضع كل إمام قواعد كلية يستند عليها فى صحة استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية فى الكتاب والسنة. وبدت تظهر الكتب التفسيرية لآيات الله- تعالى- طبقا للحلال والحرام، أو ما عرف بآيات الأحكام، فظهرت طبقا لظهور هذه المذاهب تاريخيا. ولعل أقدم كتاب فى تفسير آيات الأحكام هو: 1 - «الدراية وكنز العناية ومنتهى الغاية وبلوغ الكفاية فى تفسير خمسمائة آية» فى تفسير آيات الأحكام على مذهب الإباضية. والكتاب لأبى الحوارى: محمد بن الحوارى العمانى الإباضى، توفى أول القرن الرابع الهجرى. 2 - ثم فى فقه الحنفية: «أحكام القرآن» للجصاص. 3 - ثم فى فقه الشافعية: أ- كتاب: «أحكام القرآن للإمام الشافعى». ب- كتاب: «أحكام القرآن: للكيا الهراسى. 4 - وفى فقه المالكية: أ- كتاب أحكام القرآن لابن العربى.

القرطبى وكتابه الجامع لأحكام القرآن الكريم

ب- كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبى. 5 - ثم فى فقه الشيعة الإمامية: كتاب: العرفان فى فقه القرآن: لمقداد السيورى من الإمامية الاثنا عشرية. 6 - وفى فقه الزيدية: الثمرات اليانعة، والأحكام الواضحة القاطعة: ليوسف الثالثى الزيدى». القرطبى وكتابه الجامع لأحكام القرآن الكريم التعريف به: هو: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح. أيضا أصوله عربية كالفخر الرازى: فهو من خزرج الأنصار. ظهر جدوده فى الأندلس، وفى قرطبة على وجه التحديد فنسب إليها واشتهر بها فقيل: القرطبى. كان رحمه الله تعالى: من عباد الله الصالحين، والعلماء العاملين العارفين بالله تعالى، الزاهدين فى الدنيا، المشغولين بما يعنيهم من أمور الآخرة. وبلغ من زهده أن ترك التكلف، وصار يمشى بثوب، وعلى رأسه طاقية. وكانت أوقاته كلها بين العبادة، والتصنيف حتى أخرج للناس كتبا انتفعوا بها واستفادوا منها، وأهمها ما يلى: مصنفاته: 1 - كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعة. 2 - كتاب التذكار فى أفضل الأذكار. 3 - شرح أسماء الله الحسنى. 4 - شرح التقصى.

شيوخه

5 - كتاب التذكرة بأمور الآخرة. 6 - الجامع لأحكام القرآن. شيوخه: رحل القرطبى إلى مصر، واستقر بمدينة «منية ابن خصيب محافظة المنيا حاليا فى صعيد مصر، ومات بها سنة 671 هـ. سمع من الشيخ أبى العباس بن عمر القرطبى مؤلف: «المفهم فى شرح صحيح مسلم». منهج القرطبى فى تفسيره كتاب «الجامع لأحكام القرآن» كتاب جامع لأحكام القرآن الكريم حقيقة، حيث استوعب الكتاب جميع أنواع آيات الأحكام فى الحلال والحرام. ويقع الكتاب فى عشرين مجلدا شمل تفسير كل القرآن الكريم بصفة عامة ووقف على آيات الأحكام بصفة خاصة. يهتم الإمام القرطبى- رحمه الله تعالى- فى منهجه فى هذا الكتاب بما يلى: يعلق تعليقات وجيزة تتناول نكات من التفسير فى: 1 - اللغة. 2 - والإعراب. 3 - القراءات. يرد على أهل البدع والريب والزيغ والضلالات. ويستدل بأحاديث كثيرة تشهد لما يذكره من الأحكام، ونزول الآيات جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكل منها بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف. يقول الإمام القرطبى فى تحديد منهجه هذا: «وشرطى فى هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله». وكثيرا ما يجيء الحديث فى كتب الفقه والتفسير مبهما لا يعرف

من خرجه إلا من اضطلع على كتب الحديث فيبقى من لا خبرة له بذلك حائرا، لا يعرف الصحيح من السقيم. وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين إلا ما لا بدّ منه، وما لا غنى عنه للتبيين. واعتدت من ذلك تبيين آيات الأحكام بمسائل تفسر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها فضمنت كل آية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد مسائل أبين فيها ما تحتوى عليه من أسباب النزول، وتفسير الغريب، والحكم. فإن لم تتضمن حكما ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل». عدم التعصب: يمتاز القرطبى بميزة فريدة فهو رغم أنه «مالكى المذهب» إلا أننا لا نجد أى بادرة من بوادر العصبية المذهبية، بل كثيرا ما ينقل عن ابن العربى الذى يتناول المذاهب الأخرى خاصة الحنفية بلسانه، وربما عاب عليه القرطبى وانتقده فى ذلك. والقرطبى يحمله الإنصاف إلى حدّ الدفاع عمن يهاجمهم ابن العربى من المخالفين مع توجيه اللوم إليه أحيانا. وأيا ما كان فإن العلامة القرطبى كان مفسرا نزيها، عفّ اللسان، دفاعا عن أصحاب الآراء الأخرى بصرف النظر عن كونهم من المخالفين (¬1). ... ¬

_ (¬1) الديباج المذهب فى معرفة أعيان المذهب لابن فرحون: ص 317 وما بعدها، التفسير والمفسرون ج 2/ 437 وما بعدها، مباحث فى علوم القرآن لمناع القطان ص 380 وما بعدها.

الباب الثانى علم نزول القرآن الكريم

الباب الثانى علم نزول القرآن الكريم

مبحث فى: وقت نزول القرآن، ومدته، وكيفيته، وحكمة تنجيمه

الباب الثانى علم نزول القرآن الكريم مبحث فى: وقت نزول القرآن، ومدته، وكيفيته، وحكمة تنجيمه اختلف الباحثون فى علوم القرآن فى وقت نزول القرآن الكريم، وفى المدة التى نزل فيها. ويرجع سبب الخلاف فى وقت النزول إلى أن القرآن الكريم نفسه ذكر ثلاث آيات انتظمت وقت النزول وهى: 1 - قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ سورة الدخان- الآية 3. 2 - قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ سورة القدر- الآية الأولى. 3 - قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ سورة البقرة الآية 184. ففي أى وقت نزل: أفى الليلة المباركة؟ أو فى ليلة القدر؟ أو فى شهر رمضان؟ اتفق المفسرون على أن هذه الآيات يفسر بعضها بعضا، فقد نزل فى الليلة المباركة التى هى ليلة القدر التى هى فى شهر رمضان. ولكنهم اختلفوا بعد ذلك فى مدة النزول، وكيفيته على ثلاثة أقوال: (1) قال الجمهور: نزل القرآن الكريم جملة واحدة إلى بيت العزة فى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك منجّما على محمد صلّى الله عليه وسلّم على مدى ثلاث وعشرين سنة. 1 - واستدلوا لذلك بما رواه البخارى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه. أمر بالهجرة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة».

2 - وما رواه البيهقى والحاكم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أيضا قال: «أنزل القرآن فى ليلة القدر فى شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما. (2) القول الثانى: أن ابتداء نزول القرآن الكريم كان فى الليلة المباركة وهى ليلة القدر من شهر رمضان ثم تتابع نزوله بعد ذلك مفرقا على الوقائع والأحداث فى ثلاث وعشرين سنة أى أن القرآن نزل ابتداء منجما مفرقا فليس له إلا هذا النزول فقط. وهذا قول الشعبى- يرحمه الله تعالى: واستدل لقوله بقول الله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ (¬1). (3) القول الثالث: أن القرآن الكريم أنزل إلى السماء الدنيا فى ثلاث وعشرين ليلة قدر أو عشرين، أو خمس وعشرين، فى كل ليلة قدر منها ما يقدر الله انزاله طول السنة. ومعنى هذا الرأى أن القرآن الكريم كان ينزل إلى السماء الدنيا مفرقا على سنى الدعوة، ثم ينزل ما خصّ به السنة كلها منجما على وقائع هذه السنة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا مذهب بعض المفسرين منهم فخر الدين الرازى. كما اختلفوا فى عدد سنى الدعوة التى نزل فيها القرآن الكريم على ثلاثة أقوال أيضا: الأول: أنها ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة فى مكة، وعشر فى المدينة. الثانى: أنها خمس وعشرون سنة: خمس عشرة فى مكة، وعشر فى المدينة. ¬

_ (¬1) الفرقان: 32.

مبحث فى: كيفية إنزال القرآن الكريم

الثالث: أنها عشرون سنة: عشر فى مكة، وعشر فى المدينة. وهذا الرأى الأخير هو ما أخرجه ابن أبى حاتم، عن الضحاك عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «نزل القرآن جملة واحدة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السّفرة الكرام البررة الكاتبين فى السماء الدنيا، فنجّمته السّفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجّمه جبريل على النبى صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة». وقد حقق ابن حجر فى «فتح البارى». صحة رأى الجمهور القائل بأن القرآن نزل أولا جملة واحدة إلى السماء الأولى فى بيت العزة، ثم نزل بعد ذلك منجّما على الوقائع فى ثلاث وعشرين سنة. أولا: لصحة الأخبار الواردة فى ذلك، وضعف غيرها. ثانيا: تفخيم أمره وأمر منّ نزل عليه كما نقل ذلك السيوطى عن أبى شامة. ثالثا: بيان حظ هذه الأمة من أن الله تعالى أرسل إليهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة، وأنزل القرآن إلى بيت العزة ليدخل فى حدّ الدنيا، وجاء جبريل بالرسالة والوحى كأنه تعالى أراد أن يسلم هذه الرحمة من الله تعالى إلى هذه الدنيا، نقل ذلك السيوطى عن الحكيم الترمذى. مبحث فى: كيفية إنزال القرآن الكريم مجمل ما ذكره المحررون فى علوم القرآن كبدر الدين الزركشى، وجلال الدين السيوطى أن القرآن الكريم أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم بلسان عربى مبين لفظا ومعنى، منجّما مفرقا على حسب الحوادث والوقائع فيما يخص الحوادث والوقائع أو ابتداء فيما يتعلق بالأخبار والقصص وذلك لقطعية النصوص الواردة فى هذا سواء من الكتاب أم من السنّة الصحيحة.

فأما الكتاب فمنه

فأما الكتاب فمنه: 1 - قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (¬1). 2 - قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (¬2). وأما السنة فمنها: 1 - ما رواه البيهقى فى شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والانجيل لثلاث عشرة، خلت منه، والزبور لثمانى عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه». 2 - ما رواه البخارى عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شىء: «لا تشربوا الخمر» لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: «لا تزنوا» لقالوا: لا ندع الزنا أبدا». 3 - ما أخرجه ابن عساكر- عن أبى نضرة- قال: «كان أبو سعيد الخدرى- رضى الله عنه- يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشى، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات. 4 - ما أخرجه ابن أشتة فى كتاب «المصاحف». عن عكرمة فى قوله تعالى: بِمَواقِعِ النُّجُومِ: قال: «أنزل الله القرآن نجوما ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات». مبحث فى: حكمة تنجيم القرآن الكريم لإنزال القرآن الكريم منجما مفرقا على سنى الدعوة على مدى ثلاث وعشرين سنة حكما كثيرة، وأسبابا متعددة، وبواعث هامة أفاض فيها علماء الأمة الأول ¬

_ (¬1) الشعراء: 192 - 195. (¬2) البقرة: 97.

(1) تثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم.

المتكلمون فى القرآن وعلومه: كابن أبى حاتم، وابن أشتة، وأبى شامة، والسبكى، والزركشى، والسيوطى. ومن الباحثين المعاصرين: صبحى الصالح، ومناع القطان وكثيرون غيرهما أجملوا هذه الحكم- كما لك أنت- أن تستنبط غيرها وأهمها ما يلى: (1) تثبيت فؤاد النبى صلّى الله عليه وسلّم. وهو ما ذكره الله تعالى فى قوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. أى كذلك أنزلناه منجما وليس جملة واحدة بغرض تثبيت فؤادك. قال ابن شامة فى «الوجيز إلى علوم تتعلق بالقرآن العزيز»: أى: لنقوى به قلبك، فإن الوحى إذا كان يتجدد فى كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبادة، ولهذا كان أجود ما يكون فى رمضان لكثرة لقياه جبريل». (2) التحدى والإعجاز: ذلك أن لكل نبىّ معجزة، وكانت معجزات الأنبياء السابقين مسوقة بحسب مهارة أقوامهم فى فنّ يعجز عنه فيه سواهم، فتأتى المعجزة على يد نبيهم المرسل إليهم لتدحض مهارتهم، وتعجز فنهم. فأعطى موسى- عليه السلام- قوة فوق مهارة السحرة التى كانت مفخرة علماء فرعون وأعطى عيسى قوة فوق مهارة الطب التى كانت مفخرة بنى إسرائيل .... هكذا. فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم فى قوم جلّ فخرهم الفصاحة والبلاغة أعطى القرآن الكريم تحديا لبلاغتهم وإعجازا لهم أن يأتوا بمثله، أو بنصفه، أو بعشر سور منه، أو بآية واحدة.

والقصد من الإعجاز ليس فى مجرد الألفاظ ودقة ترتيبها، وبراعة نظمها، ولكن فيما وراء كل حرف من حروف القرآن من الدلالة على معان خفية لا يحيط بها إلا الخالق فيضع الحرف للدلالة على هذا المعنى الخفى الذى لا يعرفه المخلوق. يقول الله جل شأنه وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (¬1). ولا شك أن نزوله منجما مفرقا بضع آيات، أو حتى جزء آية على مدى هذا الزمن الذى امتد ثلاثا وعشرين سنة أبلغ فى التحدى، وأوقع لثبوت الإعجاز خاصة فيما كان مشركو مكة، ويهود المدينة يسوقونه للنبى صلّى الله عليه وسلّم من أسئلة التحدى بين الحين والآخر ظنا منهم توقيفه وقطعه عن الجواب، فيأتى التنجيم هنا فى مكانه المناسب فى وقته المناسب. يقول الله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (¬2). (3) التدرج فى التشريع: ذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بعث على رأس أمة استفحلت فيها عادات مرذولة متمكنة فى نفوسهم، ملوثة لعقولهم، راسخة فى وجدانهم، ممتزجة بدمائهم كالاعتقاد الجازم بألوهية الأوثان، وعقرهم للخمر بحيث صارت جل دمائهم التى تسيّر قلوبهم وعقولهم منها. فلا يعقل فى تدبير الحكماء أن تنزل هذه الأشياء وأمثالها دفعة واحدة. بل تحتاج إلى التدرج بالعلاج شيئا فشيئا. وهذا معنى كلام أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- الذى أوردناه سابقا: «إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب ¬

_ (¬1) البقرة: 23 - 24. (¬2) الفرقان: 33.

الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شىء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا» أخرجه البخارى. هذه الثلاثة أهم أسباب تنجيم القرآن الكريم، وللطالب أن يستنبط من ذلك الشيء الكثير مثل: تيسير الحفظ والفهم، والاستفادة منه فى أصول التربية وذكر تواريخ الأمم ومجاهدة الأنبياء، وقصصهم مع أقوامهم، ومناسبة كل منها لحوادث مشابهة لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وللدلالة على أن القرآن الكريم مع طول زمن تنزيله لا ينفك عن حقيقة جزئية، ولا يتفلت من حكمة، ولا يقع فيه خلط ولا اختلاف. 1 - وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (¬1). 2 - قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: 82. (¬2) الإسراء: 88.

الباب الثالث علم أسباب النزول

الباب الثالث علم أسباب النزول

مبحث فى: التعريف بعلم أسباب النزول وفوائد معرفته

الباب الثالث علم أسباب النزول نزل القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ أخبره الوحى أن «اقرأ» وكانت هذه أول الآيات حتى ختمت بقوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وما بين أول الآيات وآخرها نزولا توالى القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة يتنزل به الوحى وكان بشأن نزوله لا يخرج عن قسمين: الأول: قسم أنزله الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة، وإنما كما يقول الزرقانى فى «مناهل العرفان». إنما هو لمحض هداية الخلق إلى الحق (¬1). وهذا القسم هو غالب آيات القرآن الكريم. الثانى: قسم أنزله الله تعالى لسبب من الأسباب الخاصة كحادثة الإفك، وظهار أوس بن الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة ومجادلتها للنبى صلّى الله عليه وسلّم وكأخذ النبى صلّى الله عليه وسلّم للأسرى وعتاب الله تعالى له ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (¬2) وغيرها. وهذا القسم هو المعنى بهذه المحاضرة، وفيه كتب العلماء بحوثهم، وألفوا الكتب لبيان أسباب النزول، وحصر الآيات التى نزل القرآن بسببها، وبيان فائدته، وطريق معرفته، ومصادره، وصيغه الواردة به، والعمل به عند تعارض الروايات، وهذا ما سنلقى عليه ضوءا كافيا فيما يلى: مبحث فى: التعريف بعلم أسباب النزول وفوائد معرفته يمكن حصر ماهية هذا العلم بالقول أنه: «العلم الذى يختص بمعرفة ما لبعض آى القرآن الكريم من سبب نزلت بشأنه، أو سؤال وقعت الآية جوابا عنه فى زمن نزول الوحى». ¬

_ (¬1) مناهل العرفان للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى 1/ 106. (¬2) الأنفال: 67.

علم أسباب النزول يتصل اتصالا وثيقا بعلم التفسير حتى قال ابن تيمية فيما نقله السيوطى عنه فى «الإتقان»: معرفة سبب النزول تعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب» (¬1). كما نقل عن ابن دقيق العيد: «بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معانى القرآن» (¬2). فها هو ذا جلال الدين السيوطى يورد هذه المزاعم، ويرد عليها مبينا فوائد هذا العلم. ومن المستحسن أن ننقل فوائد علم أسباب النزول عن السيوطى باعتباره مصدرا أصليا قديما، يقول السيوطى (¬3). «زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ، وأخطأ فى ذلك بل له فوائد: 1 - منها: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. 2 - ومنها: تخصيص الحكم بسبب النزول عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. 3 - ومنها: أن اللفظ قد يكون عاما، ويقوم الدليل على تخصصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعى وإخراجها بالاجتهاد ممنوع، كما حكى الإجماع عليه، ولا عبرة بمن شذ فجوّز ذلك. 4 - ومنها: الوقوف على المعنى، وإزالة الإشكال، قال الواحدى: «لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها» (¬4). ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن 1/ 83. (¬2) المصدر السابق. (¬3) الإتقان 1/ 82 - 83 ببعض التصرف. (¬4) الإتقان للسيوطى 1/ 84.

مثاله: ما أشكل على مروان بن الحكم فى قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ فقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى، وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون، فبين له ابن عباس أن الآية إنما نزلت فى أهل الكتاب- خاصة- حين سألهم النبى صلّى الله عليه وسلّم عن شىء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، فأنزل الله فيهم وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية. 5 - ومنها: دفع توهم الحصر، قال الشافعى ما معناه فى قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية. إن الكفار لما أحلوا ما حرّم الله، وحرموا ما أحل الله، وكانوا على المضادة والمحادة، فجاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال لا حلال إلا ما حرمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه نازلا منزلة من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول: لا أكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادة لا النفى والإثبات على الحقيقة فكأنه تعالى قال: لا حرام إلا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل» (¬1). 6 - ومنها: معرفة اسم النازل فيه الآية، وتغيير المبهم فيها لأن بيان المبهم وزوال إبهامه مفيد لردة الفضل إلى أهله كما فى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ نزلت فى الصحابى الجليل صهيب ابن سنان الرومى. وللمتمعن أن يستنبط ما يشاء من الفوائد. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 1/ 84.

مبحث فى: طرق معرفة أسباب النزول، ومصادره، وصيغته

مبحث فى: طرق معرفة أسباب النزول، ومصادره، وصيغته إن مصادر علم أسباب النزول وطريق معرفته تتمثل فى: النقل الصحيح عن مشاهدى الوحى، ومعاينى التنزيل، وهذا النقل له مصدران: (أ) أن يكون الراوى صحابيا، فإذا كان كذلك كان سبب النزول مقبولا لأن رواية الصحابى المعاين للتنزيل له حكم المرفوع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم. (ب) إذا جاءت الرواية مرسلة عن الصحابى (أى سقط منها الصحابى) فلا تقبل هذه الرواية إلا إذا قويت واعتضدت برواية أخرى ولو مرسلة. وعلى هذا الأساس فلا مجال للأخذ بالاجتهاد والنظر فى هذا العلم وإنما مصدره الأساسى هو النقل المحرر عن الصحابة والتابعين. صيغ أسباب النزول للتعبير عن سبب النزول صيغتان: الأول: أن يقول الصحابى: 1 - سبب نزول هذه الآية كذا. 2 - حدث كذا- أو سئل عليه الصلاة والسلام عن كذا فنزلت آية كذا فهذه الصيغة بشقيها نص صريح واضح فى سبب النزول. الثانية: أن يقول الصحابى: «نزلت الآية فى كذا» فمعناه أن الآية هذه تتضمن هذا الحكم وليس هذا سبب نزولها. والمعول عليه فى هذه الصيغة هو القرائن الدالة على السبب. مبحث فى: تعارض الروايات فى سبب النزول يرجع تعارض الروايات فى سبب النزول إلى تعددها وهو نوعان: الأول: تعدد الروايات فى سبب نزول آية واحدة. الثانى: تعدد الآيات فى سبب نزول واحد.

أما الأول: وهو تعدد الروايات فى سبب نزول آية واحدة؛ وهذه لها ثلاث صور: (1) الصورة الأولى: أن تكون الروايات الواردة فى سبب نزول الآية الواحدة كلها بصيغ غير صريحة فى سبب النزول كأن يقول كل راو: «نزلت هذه الآية فى كذا» أو «أحسبها نزلت فى كذا». فهذه الصورة لا تعارض فيها، لأن المراد بها التفسير وليس ذكر سبب النزول. إلا فى حالة واحدة: وهى ما إذا قامت قرينة على أحد هذه الأسباب بأنه فى سبب النزول فحينئذ تتعين هذه الرواية من بين أخواتها لأن تتقدم على الأخريات. (2) الصورة الثانية: أن تكون الروايات المتعددة فى سبب نزول آية واحدة بعضها صريح الصيغة فى الدلالة على سبب النزول، وبعضها غير صريح، فحينئذ يتعين تقديم الرواية المصرحة بسبب النزول على غيرها. ومثال ذلك قول الله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (¬1). فقد تعددت الروايات فى سبب نزولها بعضها مصرح بسببه كحديث جابر- رضى الله عنه- قال: «كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من خلفها فى قبلها جاء الولد أحول، فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ (¬2). وبعضها غير مصرح به كما جاء عن نافع قال: «قرأت ذات يوم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فقال ابن عمر: أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت فى إتيان النساء فى أدبارهن». فهذه الصيغة من ابن عمر غير صريحة فى السببية، فتقدم رواية جابر لصراحتها بأسباب النزول. ¬

_ (¬1) البقرة: 223. (¬2) أسباب النزول للواحدى ص 62.

(3) الصورة الثالثة: أن تكون جميع الروايات الواردة فى سبب نزول الآية الواحدة كلها صريحة فى الدلالة على سبب نزول هذه الآية. وهذه الصورة يتفرع عنها عدة صور منها: 1 - أن تكون هذه الروايات المصرح بسبب نزولها أحدها صحيح دون الآخر وفى هذه الحالة يقدم الصحيح دونه. ويمثل السيوطى بحديث جندب البجلى يرويه البخارى عنه قال: أ- «اشتكى النبى صلّى الله عليه وسلّم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فأتته امرأة فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، لم يقربك ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (¬1). ب- وأخرجه الطبرانى بسنده: «أن جروا دخل بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم فدخل تحت السرير، فمات، فمكث النبى صلّى الله عليه وسلّم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحى، فقال: يا خولة، ما حدث فى بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ جبريل لا يأتينى فقلت فى نفسى: لو هيأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء النبى صلّى الله عليه وسلّم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله وَالضُّحى إلى قوله فَتَرْضى). * قال ابن حجر فى شرح البخارى: «قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفى إسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما فى الصحيحين (¬2). 2 - أن تتساوى الروايات فى الصحة، أ- وفى هذه الحالة يرجح أحد الروايات بكون راويها حاضر القصة مثلا. ومثاله: ما ذكره السيوطى أيضا عن ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: «كنت ¬

_ (¬1) سورة الضحى. (¬2) الإتقان للسيوطى 1/ 91 - 92.

أمشى مع النبى صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو يتوكأ على حسيب فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدثنا عن الروح، فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحى، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1). وأخرج الترمذى- وصححه ابن عباس- قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية- فهذا يقتضى أنها نزلت بمكة، والأول خلافه. وقد رجح بأن ما رواه البخارى أصح من غيره، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة (¬2): ب- وقد يحمل الترجيح على أن الآية قد نزلت عقب سببين أو أكثر على أزمان متقاربة. ومثاله: ما أخرجه البخارى عن عكرمة عن ابن عباس قال: «إن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبى صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: البينة أو حد فى ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البيّنة؟! فأنزل وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (¬3). وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدى فقال: اسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغاب السائل، فأخبر عاصم عويمرا، فقال: والله لآتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلأسألنه، فأتاه، فقال: إنه قد أنزل فيك وفى صاحبتك قرآنا ... ) الحديث (¬4). ¬

_ (¬1) الإسراء: 85. (¬2) الإتقان للسيوطى 1/ 94. (¬3) النور: 6. (¬4) الإتقان 1/ 94.

فهذا مما يجمع بينهما: بأن أول ما وقع له ذلك هلال بن أميّة، وصادف مجيء عويمر أيضا. فنزلت الآية بشأنهما. وإلى هذا مال الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك فى وقت واحد»، وقال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب (¬1). ج- فإن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن، فإن الترجيح يحمل على تعدد نزول الآية، وتكرره. ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: «لمّا حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أمية، فقال: أى عمّ قل: لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل، وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب! فلم يزالا يكلمانه حتى قال: هو على ملة عبد المطلب. فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنه» فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية (¬2). وأخرج الترمذى- وحسّنه- عن على- كرم الله وجهه-، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت. وأخرج الحاكم وغيره عن ابن مسعود، قال: خرج النبى صلّى الله عليه وسلّم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا، ثم بكى، فقال: إن القبر الذى جلست عنده قبر أمى، وإنى استأذنت ربى فى الدعاء لها فلم يأذن لى، فأنزل علىّ ما كان للنبى والذين أمنوا أن يستغفروا للمشركين. وفى هذه الأمثلة، وما هو على حالتها يجمع بين نصوصها بتعدد نزول الآية فيها (¬3). ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 95. (¬2) صحيح مسلم. (¬3) الإتقان فى علوم القرآن 1/ 96.

وأما الثانى: فهو تعدد نزول آيات فى سبب واحد. فقد ينزل فى الحادثة الواحدة آيات متعددة فى سور شتى. مثاله: موضوع النساء وذكر الرجال فى القرآن دون ذكرهن. هذا الموضوع المعين كان سببا فى نزول آيات عديدة منها: 1 - ما أخرجه ابن جرير وغيره عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: «يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء فى الهجرة بشيء، فأنزل الله فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (¬1). 2 - ما أخرجه ابن جرير أيضا عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: «قلت يا رسول الله: ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول (إن المسلمين والمسلمات) إلى آخر الآية. 3 - ما أخرجه الحاكم عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث؟ فأنزل الله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ (¬2). من مفردات هذا العلم الجليل معرفة بعض الجزئيات الآتية التى نذكرها إجمالا ونحيل تفصيلها إليك فى «البرهان للزركشى 1/ 22 - 35، الإتقان 1/ 82 - 99» وهى:- قد يتصل بأسباب النزول ومعرفته معرفة ما يسمى ب «تقدم نزول الآية على الحكم، وقد مثل لها البغوى بقوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ثم ظهر أثر الحلّ يوم فتح مكة حين قال صلّى الله عليه وسلّم: «أحلت لى ساعة من نهار». ¬

_ (¬1) آل عمران: 195. (¬2) النساء: 32، وانظر هذه الأمثلة وغيرها عند السيوطى فى الإتقان 1/ 97 - 98.

قد يتعدد نزول آيات مختلفات فى شأن صحابى واحد لتعدد الوقائع بشأنه: كسعد ابن أبى وقاص نزلت فيه أربع منها اثنتان متفرقتان فى البقرة، وواحدة فى لقمان، وواحدة فى الأنفال» (¬1). خصوص السبب وعموم الصيغة، أو يقال: عموم اللفظ وخصوص السبب. فقد يكون السبب خاصا وتنزل الصيغة عامة، لينبه على أن العبرة بعموم اللفظ. وقد قال الزمخشرى مثلا فى تفسير سورة الهمزة: «يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له، وأنكى فيه (¬2). ... ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن 1/ 33 - 34. (¬2) البرهان فى علوم القرآن 1/ 33 - 34.

الباب الرابع علم معرفة أول وآخر ما نزل

الباب الرابع علم معرفة أول وآخر ما نزل

سبب الخلاف

الباب الرابع علم معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل هذا علم جليل من علوم القرآن الكريم له أهميته الخاصة التى تتركز أساسا فيما يلى: 1 - معرفة تاريخ التشريع الإلهى الذى نزل به الوحى الكريم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. 2 - التدرج فى أحكام الله- تعالى- من خلال معرفة هذا العلم بقدر الطاقة ومناسبة كل حكم لما نزل فيه دون تعارض بين ما نزل أولا، وما نزل متأخرا عن الأول. وقد اهتم الباحثون المتقدمون بإبراز شخصية هذا العلم، وعدوّه علما من علوم القرآن. عدّه السيوطى (¬1) - فى الإتقان- النوع السابع من علوم القرآن، بينما عدّه الزركشى (¬2) النوع العاشر، وهذا بحسب اصطلاح كل منهما فى تقسيم العلوم، ولا مشاحة فى الاصطلاح كما قال العلماء. هذا وقد اختلف العلماء فى تحديد أول ما نزل من القرآن الكريم، كما اختلفوا فى تحديد آخر ما نزل منه. سبب الخلاف: ويرجع سبب هذا الخلاف إلى اختلاف النصوص الواردة فى بيان أول ما نزل وبيان آخر ما نزل. ذلك أن معرفة هذا الفن لا تتأتى إلا بالنّص. وقد اجتهد كثير من الباحثين المعاصرين اجتهادا مشكورا مأجورا إن شاء الله تعالى من أمثال: مناع القطان، وصبحى الصالح، وغيرهما فى توضيح غرض هذا العلم. ¬

_ (¬1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى: 1/ 68. (¬2) البرهان فى علوم القرآن للزركشى: 1/ 206.

عرض الروايات الدالة على أول ما نزل

ولكننا سنسلك هنا طريقا آخر للبحث حول هذا الموضوع. وإن كانت الطرق كلها تؤدى إلى الغاية المطلوبة التى هى «معرفة هذا الفن». حيث نسوق النصوص الواردة، والدالة على بيان أول النزول أو آخر النزول بحسب رواية أصحابها ممن شهدوا التنزيل، وعاصروا واقع الوحى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم نفند هذه الروايات لنخرج منها على أصح فهم إن شاء الله- تعالى- على النحو التالى: عرض الروايات الدالة على أول ما نزل القول الأول: 1 - أخرج الشيخان فى صحيحيهما عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان يأتى حراء فيتحنث فى الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة- رضى الله عنها- فتزوده لمثلها، حتى فاجأه الحق وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد. ثم أرسلنى، فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطنى الثالثة، حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ (ما لم يعلم)، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره». 2 - وأخرج الحاكم فى «المستدرك»، والبيهقى فى «دلائل النبوة». عن عائشة- رضى الله عنها قالت: «أول سورة نزلت من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وصححاه. 3 - وأخرج الطبرانى فى «المعجم الكبير». بسند على شرط الصحيح عن أبى رجاء العطاردى قال: «كان أبو موسى يقرئنا فيجلسنا حلقا، عليه ثوبان أبيضان، فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم.

القول الثانى

4 - وأخرج سعيد بن منصور فى «السنن». عن عبيد بن عمير، قال: جاء جبريل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: اقرأ، قال: وما اقرأ، فو الله ما أنا بقارئ، فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، فكان يقول: هو أول ما نزل». 5 - روى أبو عبيد فى «فضائل القرآن» عن مجاهد قال: إن أول ما نزل من القرآن «اقرأ باسم ربك» و «ن والقلم». 6 - وروى عن الزهرى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان بحراء إذ أتى ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى: (ما لم يعلم). فهذه ست روايات كلها صحيحة تدل على أن أول ما نزل هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. القول الثانى: 1 - روى الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمن، قال: سألت جابر بن عبد الله: أىّ القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر، قلت: أو اقرأ باسم ربك؟ قال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنى جاورت بحراء فلما قضيت جوارى نزلت فاستبطنت الوادى فنظرت أمامى وخلفى، وعن يمينى وشمالى، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو- يعنى جبريل- فأخذتنى رجفة، فأتيت خديجة، فأمرتهم فدثرونى، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ. وهذا الحديث صحيح الرواية، ودليل قوى لمن يقول أن أول ما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. القول الثالث: 1 - أخرج البيهقى فى «دلائل النبوة»، والواحدى بطرقهما عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لخديجة" «إنى إذا خلوت وحدى سمعت نداء، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا». فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فو الله إنك لتؤدى الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث.

تحقيق هذه الأقوال

فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له، وقالت: اذهب مع محمد إلى ورقة، فانطلقا فقص عليه، فقال: إذا خلوت وحدى سمعت نداء خلفى: يا محمد .. يا محمد .. ، فأنطلق هاربا فى الأفق»: فقال: لا تفعل إذا أتاك فأثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتنى فأخبرنى، فلما خلا ناداه: يا محمد: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى بلغ (ولا الضالين) وهذا حديث مرسل، ورجاله ثقات (¬1). القول الرابع: 1 - نقله السيوطى فى «الإتقان» حكاية النقيب فى مقدمة تفسيره، أن أول ما نزل (بسم الله الرحمن الرحيم). 2 - أخرج الواحدى بإسناده عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن (بسم الله الرحمن)، وأول سورة (اقرأ باسم ربك). «أول ما نزل جبريل على النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: يا محمد استعذ، ثم قل: (بسم الله الرحمن الرحيم). وهذه أيضا أدلة ثلاثة للقول الرابع على أن أول ما نزل من القرآن الكريم هو: (بسم الله الرحمن الرحيم). تحقيق هذه الأقوال: بعد استعراض نصوص الأقوال الأربعة نجد أن ظاهرها التعارض والتضارب فى إثبات أول ما نزل من القرآن الكريم. والحقيقة أنه ليس ثمة تعارض على الإطلاق بين هذه الأقوال جميعا، وتحقيق ذلك على ما يأتى: 1 - أن أول ما نزل على الإطلاق هو قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 711.

أولا: كثرة الروايات والطرق المروية عن أول ما نزل وأنه على التعيين (اقرأ باسم ربك) مع صحة هذه الروايات كلها. ثانيا: أن الاستعاذة والبسملة داخلتان فى هذه السورة، وفى كل سورة فى القرآن الكريم على ما حققه العلماء ما خلا سورة «براءة» فإنها خلت من البسملة. وبذلك يكون القول الرابع مندرج فى القول الأول تأصيلا. ثالثا: لا تعارض بين حديث عائشة- رضى الله عنها- وبين حديث جابر- رضى الله عنه- لأنه بالتأمل والنظر يجاب بما أجاب به السيوطى فى الإتقان عن إزالة هذا التعارض، وألخص هذه الأجوبة فيما يأتى: (1) أول ما نزل هو «اقرأ» والسؤال لجابر- رضى الله عنه- كان عن أول سورة نزلت كاملة. و (اقرأ) نزلت فقط إلى (علم الإنسان ما لم يعلم). (2) أن أول ما نزل من الوحى الكريم هو (اقرأ) ثم فتر الوحى بعد ذلك مدة على ما هو معلوم من كتب السيرة، فكان أول ما نزل بعد فتور الوحى هو (يا أيها المدثر قم فأنذر)، فالمراد هنا أولوية مخصوصة لا أولوية مطلقة. (3) أن جابرا- رضى الله عنه- أجاب عن سؤال السائل مجتهدا، وليس هو من الرواة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقدم عليه رواية عائشة- رضى الله عنها. (4) أن الأولوية لآية (يا أيها المدثر)، (أولوية خاصة بالأمر بالإنذار، أى أنها أول آية نزلت فى «الإنذار». (5) أنها أولوية بسبب متقدم وهو ما وقع من تدثر النبى بسبب الخوف والرعب مما رآه أول مرة من صورة الملك. وأن (اقرأ) نزلت بغير سبب متقدم. رابعا: أما عن القول «الثالث» بأن أول ما نزل هو (الحمد لله رب العالمين). فقد نقل عن أبى بكر القاضى، فى كتاب «الانتصار». أن الخبر منقطع (¬1). ¬

_ (¬1) مباحث فى علوم القرآن لمنّاع القطان ص 68.

مبحث فى: ما نزل من القرآن أولا فى موضوعات مختلفة

كما نقل عن السيوطى أن فيه إرسالا مع ثقات رجاله أو هو خبر عن نزولها بعد (اقرأ) والمدثر وبهذا يتبين من عرض هذه الروايات أنه لا تعارض بينها، وأنه ثبت أن أصحها هو رواية عائشة- رضى الله عنها- فى أن أول ما نزل هو (اقرأ باسم ربك). مبحث فى: ما نزل من القرآن أولا فى موضوعات مختلفة ذكر السيوطى فى «الإتقان». جملة من الآيات الكريمة نزلت أوائل ما نزلت ولكنه رتبها على موضوعات أفرد لكل موضوع أوائله، وننقله عنه بترتيب، مع التصرف فى النقل للعودة إلى مصادر أخرى على النحو التالى (¬1): موضوع القتال: 1 - روى الحاكم فى «المستدرك»، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: «أن أول أية نزلت فى القتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا (¬2). 2 - روى الحاكم فى «الإكليل». قال: «إن أول ما نزل فى القتال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ (¬3). موضوع القتل: 1 - أخرج ابن جرير عن الضحاك، أول ما نزل فى شأن القتل وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً (¬4). موضوع الخمر: 1 - روى الطيالسى عن ابن عمر، قال: نزل فى الخمر ثلاث آيات: فأول شىء: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (¬5) الآية، فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله دعنا ننتفع بها- كما قال الله- فسكت عنهم. ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 1/ 71. (¬2) الحج: 39. (¬3) التوبة: 111. (¬4) الإسراء: 331. (¬5) البقرة: 219.

موضوع الأطعمة

2 - ثم نزلت هذه الآية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى (¬1) فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم. 3 - ثم نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (¬2) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حرمت الخمر. موضوع الأطعمة: 1 - أول آية نزلت فى الأطعمة بمكة آية الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً (¬3). 2 - ثم آية النحل: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً (¬4) إلى أخرها. 3 - وبالمدينة، آية البقرة إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ (¬5) الآية. 4 - ثم آية المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية، قاله ابن الحصار (¬6). موضوع السجدات: 1 - روى البخارى عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: أول سورة أنزلت فيها سجدة «سورة النجم». موضوع أول ما أنزل من آيات سورة «براءة»: 1 - أخرج الفريابى عن مجاهد قال: أول ما أنزل الله تعالى من سورة براءة لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ (¬7). 2 - أخرج أيضا عن أبى الضحى قال: أول ما نزل من «براءة» انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا (¬8). 3 - أخرج ابن أشتة فى كتاب «المصاحف» عن أبى مالك، قال: كان أول براءة انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا. ¬

_ (¬1) النساء: 43. (¬2) المائدة: 90. (¬3) الأنعام: 145. (¬4) النحل: 114. (¬5) البقرة: 173. (¬6) الإتقان 1/ 75. (¬7) التوبة: 25. (¬8) التوبة: 41.

موضوع أول ما نزل من آيات سورة"آل عمران"

ثم أنزلت «براءة أول السورة، فألفت بها أربعين آية». 4 - وأخرج ابن أشتة فى «المصاحف». أيضا من طريق داود، عن عامر فى قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال: هى أول آية نزلت فى غزوة تبوك، فلما رجع من تبوك نزلت «براءة». إلا ثمان وثلاثين آية من أولها. موضوع أول ما نزل من آيات سورة «آل عمران»: 1 - أخرج ابن أشتة فى «المصاحف» عن سعيد بن جبير، قال: أول ما نزل من آل عمران: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (¬1). مبحث فى: آخر ما نزل من القرآن الكريم كما اختلف الرواة فى أول ما نزل اختلفوا كذلك فى آخر ما نزل. وهذه الاختلافات كلها سواء فى أول أو فى آخر ما نزل خلافات شكلية مردها إلى: (1) اختلاف الرواة بحسب اجتهاداتهم الشخصية. (2) يحتمل أن كل راو منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبى صلّى الله عليه وسلّم فى اليوم الذى مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو. (3) ويحتمل أيضا أن تنزل هذه الآية التى هى آخر أية تلاها الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل فى الترتيب (¬2). ولذلك نقل الزركشى فى «البرهان» عن القاضى أبى بكر فى الانتصار قال: «وهذه الأقوال ليس فى شىء منها ما رفع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، ويجوز أن يكون قاله ¬

_ (¬1) آل عمران: 138. (¬2) البرهان للزركشى 1/ 210.

قائله بضرب من الاجتهاد، وتغليب الظن، وليس العلم بذلك من فرائض الدين، حتى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط» (¬1). وقد نقل كل من الزركشى فى «البرهان» والسيوطى فى «الإتقان». بعض ما روى فى آخر ما نزل ننقله عنهما بعبارة «السيوطى» لأنه أكثر استقصاء: أخر آية فى سورة النساء يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. 1 - رواه الشيخان عن البراء بن عازب- رضى الله عنه. * آية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا (¬2). 1 - روى البخارى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنها آخر ما نزل. 2 - روى البيهقى عن عمر- رضى الله عنه- مثله. 3 - روى ابن مردوية عن أبى سعيد الخدرى، قال: خطبنا عمر، فقال: إن من آخر القرآن نزولا آية الربا (¬3). * آية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ (¬4) الآية. 1 - أخرج النسائى من طريق عكرمة عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: آخر شىء نزل من القرآن وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ. 2 - وأخرج ابن مردوية من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- بلفظ «آخر آية نزلت». 3 - وهى آية رواية ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، 4 - وقال الفريابى فى «تفسيره». من طريق ابن صالح عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: آخر آية نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية. وكان بين نزولها وبين موت النبى صلّى الله عليه وسلّم واحد وثمانون يوما. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 1/ 210. (¬2) البقرة: 278. (¬3) الإتقان للسيوطى 1/ 77. (¬4) البقرة: 281.

5 - وأخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير، قال: آخر ما نزل من القرآن كله وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية. وعاش النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية تسع ليال، ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. 6 - وأخرج ابن جرير مثله عن ابن جريج. 7 - وأخرج من طريق عطية عن أبى سعيد قال: كان آخر أية وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ. قال السيوطى معلقا على آية الربا، وآية الدين المتقدمتين: «ولا منافاة عندى بين هذه الروايات فى آية الربا وَاتَّقُوا يَوْماً وآية الدين، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها فى المصحف، ولأنها قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح، وقول «البراء» آخر ما نزل (يستفتونك) أى فى شأن الفرائض. * آية: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (¬1). 1 - روى الحاكم فى «المستدرك» عن أبىّ بن كعب، قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة. 2 - روى عبد الله بن أحمد فى «زوائد المسند» وابن مردوية عن أبىّ بن كعب أنهم جمعوا القرآن فى خلافة أبى بكر، وكان رجال يكتبون، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة «براءة» ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (¬2). ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم «أبىّ بن كعب» إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأنى بعدها آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وقال هذا آخر ما نزل من القرآن. ¬

_ (¬1) التوبة: 128، 129. (¬2) التوبة: 127.

قال: فحتم بما فتح به: بالله الذى لا إله إلا هو، وهو قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (¬1). 3 - وأخرج ابن مردوية عن أبىّ أيضا: آخر القرآن عهدا بالله هاتان الآيتان لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. 4 - أخرجه ابن الأنبارى بلفظ «أقرب القرآن بالسماء عهدا». 5 - وأخرج أبو الشيخ فى «تفسيره عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ. * آية: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ 1 - أخرج مسلم عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: آخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. * سورة المائدة: 1 - أخرج الترمذى، والحاكم عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: آخر سورة نزلت «المائدة» فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه. الحديث. * سورة «براءة» 1 - روى عثمان- رضى الله عنه- قال: براءة من آخر القرآن نزولا» (¬2). قال البيهقى: «يجمع بين هذه الاختلافات- إن صحت- بأن كل واحد أجاب بما عنده. * آية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ... (¬3). 1 - أخرج ابن جرير عن معاوية أنه تلا هذه الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. ¬

_ (¬1) الأنبياء: 25. (¬2) الإتقان 1/ 79. (¬3) الكهف: 110.

قال ابن كثير: هذا أثر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها، ولا تغير حكمها، بل هى محكمة. قلت: ومثله ما أخرجه البخارى وغيره عن ابن عباس- رضى الله عنهما. قال: آية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ (¬1) هى آخر ما نزل، وما نسخها شىء. * آية: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ (¬2). قالت أم سلمة- رضى الله عنها-: هى آخر آية نزلت .. إلى آخرها. قال السيوطى معلقا: قلت وذلك أنها قالت: يا رسول الله أرى الله تعالى يذكر الرجال، ولا يذكر النساء فنزلت. 1 - وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ (¬3). 2 - ونزلت: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ (¬4). 3 - ونزلت هذه الآية، فهى آخر الثلاثة نزولا، أو آخر ما نزل بعد ما كان ينزل فى الرجال خاصة (¬5). * آية فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ (¬6). 1 - قال أنس- رضى الله عنه- إنها آخر ما نزل. * آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (¬7). قال السيوطى فى «الإتقان». هذا من المشكل، لأن الله أنزلها بعرفة عام حجة الوداع، وظاهرها إكمال جميع الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدّى فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، مع أنه وارد فى آية الربا، والدين، والكلالة أنها نزلت بعد ذلك، وقد استشكل ذلك ابن جرير، وقال: الأولى ¬

_ (¬1) النساء: 93. (¬2) آل عمران: 195. (¬3) النساء: 32. (¬4) الأحزاب: 35. (¬5) الإتقان: 1/ 8. (¬6) التوبة: 5. (¬7) المائدة: 3.

أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجه المسلمون لا يخالطهم المشركون، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبى طلحة عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا، فلما نزلت براءة نفى المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي (¬1). ... ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 1/ 209، الإتقان للسيوطى 1/ 81، مباحث فى علوم القرآن لمنّاع القطان ص 69 - 71.

الباب الخامس علم معرفة المكى والمدنى

الباب الخامس علم معرفة المكى والمدنى

الباب الخامس علم معرفة المكى والمدنى لا شك أن الأمة الإسلامية معنية بأساس قيام حضارتها وهو «الوحى الإلهى». بصفة عامة سواء كان قرآنا أم سنة. ولما كان القرآن الكريم هو «الوحى الجلى». الذى لا مرية فيه ولا مراء، لذلك أخذ من جهود العلماء أقصى عناية فى الترتيب، والرسم، والقراءة، والتفسير حتى تعددت علومه، وكثرت فنونه، وكلها لكلام الله خادم. ومن جملة العلوم المهمة فى علوم القرآن الكريم علم معرفة «المكّى والمدنى» ولنشرع الآن فى إلقاء بعض الضوء على هذا العلم، لنتحدث فيه عن «ماهية هذا العلم، وفائدته، وطريق معرفته، وخصائص المكى والمدنى، وما قيل فى حصر ما هو مكى ومدنى، ونبذة عن كلام بعض المستشرقين. أولا: ماهية هذا العلم: بالاستقراء، وتتبع كتابات الباحثين قدامى أو محدثين يمكن تعريف هذا العلم بأحد طريقين: 1 - هو: العلم الذى يختص بآيات القرآن الكريم من حيث الترتيب الزمانى والمكانى، والشخصى، والموضوعى فى آن واحد. 2 - هو: علم يختص بالترتيب الزمانى، والمكانى، والشخصى، والموضوعى لآيات القرآن الكريم. وقد كتب الباحثون قديما وحديثا: أ- فمن أهم مصادره الأساسية قديما: (1) كتب السنّة المشرفة التى لأصحابها سلسلة رواية فيها. (2) كتب التفسير بالمأثور. ب- ومن أهم ما صنّف فى هذا العلم على سبيل الاستقلال، ومن صنّف فيه.

مبحث فى: فائدة معرفة المكى والمدنى

(3) مكّى، ثم العزّ الدرينى، وإن كنا لا نعرف عن مكان مصنفاتهما شيئا. (4) بدر الدين الزركشى: فى كتابه «البرهان فى علوم القرآن». (5) جلال الدين السيوطى فى كتابه «الإتقان فى علوم القرآن». ج- ومن الكتب الحديثة: (6) محمد عبد العظيم الزرقانى فى كتابه «مناهل العرفان فى علوم القرآن». (7) صبحى الصالح فى كتابه: «مباحث فى علوم القرآن». (8) منّاع القطان فى كتابه «مباحث فى علوم القرآن» وآخرون. مبحث فى: فائدة معرفة المكى والمدنى الأول: أنه من أشرف علوم القرآن، وعليه كان اهتمام الصحابة العلماء كعلىّ وابن مسعود، وابن عباس- رضى الله عنهم. أخرج البخارى عن ابن مسعود- رضى الله عنه- قال: «والله الذى لا إله غيره، ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت؟» الحديث، ومثله مروى أيضا عن [على] كرم الله وجهه. الثانى: أن معرفة المكى والمدنى رافد هام من روافد معرفة الناسخ والمنسوخ. يقول الزرقانى: «تمييز الناسخ من المنسوخ فيما إذا وردت آيتان أو آيات من القرآن الكريم فى موضوع واحد، وكان الحكم فى هاتين الآيتين أو الآيات مخالفا للحكم فى غيرها، ثم عرف أن بعضها مكى وبعضها مدنى، فإننا نحكم بأن المدنى منها ناسخ للمكى نظرا إلى تأخر المدنى عن المكى» (¬1). للباحثين العاملين فى المجالات الآتية: أ- المفسرون لكتاب الله تعالى: فمن لم يكن على دراية تامة بهذا العلم لا يليق له أن يتصدى للتفسير. ¬

_ (¬1) مناهل العرفان 1/ 195.

مبحث فى: طرق معرفة المكى والمدنى

ب- الفقهاء المجتهدون. ج- الأصوليون المستنبطون للقواعد العامة. الثالث: التعرف على طريقة عرض الدعوة الإسلامية على الناس فى مختلف مراحل نمو المجتمعات. ففي عرض الإسلام على مجتمع «ما» يبدأ الداعية فى التركيز على جانب العقيدة، وتصفية النفوس من الخضوع لغير الله تعالى .. وتكون مادته هى «المرحلة المكية بسورها وآياتها». ثم يبدأ فى المرحلة الثانية ببيان الأوامر، والنواهى، والحلال والحرام .. وتكون مادته هى المرحلة المدنية بسورها وآياتها. وللمستنبط أن يعمل فكره لاستخلاص فوائد أخرى كثيرة. مبحث فى: طرق معرفة المكى والمدنى اعلم أن طريق معرفة أىّ علم من علوم الإسلام إنما يعتمد على واحد من الاثنين الآتيين، أو هما معا: أ- إما على السماع: (أى الرواية والنقل) وهذا هو أصل علوم الحديث، وعلوم القرآن التى تفرعت عنهما سائر العلوم. ب- أو على القياس (أى الاستقراء العقلى) والنظر فى الأدلة، والاجتهاد فى استخراج كنوز المعرفة. وعلم المكى والمدنى واحد من العلوم التى تعتمد على هاتين الطريقتين. وقد ذكر العلماء فى معرفة المكى والمدنى أنه لم يرد فيه شىء عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم والأجدر لطالب العلم أن ننقل عن الزركشى ما نقله هو عن «أبى بكر الباقلانى» عبارته المشهورة فى ذلك من كتاب «الانتصار» فيقول: «إنما هذا- أى طريق معرفة المكى والمدنى- يرجع لحفظ الصحابة وتابعيهم، كما أنه لا بدّ فى العادة من معرفة معظمى العالم والخطيب- وأهل الحرص على

حفظ كلامه، ومعرفة كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما صنفه أولا وآخرا. وحال القرآن فى ذلك أمثل، والحرص عليه أشد غير أنه لم يكن من النبى صلّى الله عليه وسلّم فى ذلك قول ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا، وفصّله لهم. ولو كان كذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب فى بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ ليعرف الحكم الذى تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نصّ الرسول بعينه، وقوله هذا هو الأول المكى، وهذا هو الآخر المدنى. وكذا الصحابة والتابعون من بعدهم لمّا لم يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكى والمدنى مما لا يسوغ الجهل به لم تتوفر الدواعى على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته، وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف فى بعض القرآن هل هو مكى أو مدنى، وأن يعملوا فى القول بذلك ضربا من الرأى والاجتهاد. وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكى والمدنى، ولم يجب على منّ دخل فى الإسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية. فيجوز أن يقف فى ذلك، أو يغلب على ظنه أحد الأمرين. وإذا كان كذلك بطل ما توهموه من وجوب نقل هذا أو شهرته فى الناس ولزوم العلم به لهم، ووجود الارتفاع فيه» انتهى كلام الباقلانى (¬1). وإذا أنت- أيها القارئ- فهمت هذه العبارة خلصت إلى نتيجة وهى: لا يروعنك اختلاف الصحابة فى ترتيب السور كما حدث فى مواقف كلّ من أبىّ ابن كعب، وابن مسعود وغيرهما، إذ لم يكن خلافهما يؤدى إلى شىء من الانزعاج، ويبقى الأمر بعد ذلك على الاجتهاد والاستقراء العقلى، وهو ما جعل كثيرا من الباحثين يضعون القواعد والضوابط النظرية لتحديد المكى من المدنى، وسنذكرها فيما يلى: ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن للزركشى 1/ 191 - 192.

أولا: الفرق بين المكى والمدنى

أولا: الفرق بين المكى والمدنى يقول السيوطى فى «الإتقان»: «أعلم أن للناس فى المكى والمدنى اصطلاحات ثلاثة: أشهرها: أن المكى ما نزل قبل الهجرة، والمدنى ما نزل بعدها، سواء نزل بمكة أم بالمدينة عام الفتح، أم عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار. أخرج عثمان بن سعد الرازى بسنده إلى يحيى بن سلام، قال: ما نزل بمكة، وما نزل فى طريق المدينة قبل أن يبلغ النبى صلّى الله عليه وسلّم المدينة فهو من المكىّ. وما نزل على النبى صلّى الله عليه وسلّم فى أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدنى وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أن ما نزل فى سفر الهجرة «مكىّ» اصطلاحا. الثانى: أن المكىّ ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدنى ما نزل بالمدينة. وعلى هذا تثبت الواسطة، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكىّ ولا مدنى. وقد أخرج الطبرانى فى «الكبير». من طريق الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان عن ابن عامر عن أبى أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. «أنزل القرآن فى ثلاثة أمكنة: مكة والمدينة، والشام» قال الوليد: (يعنى: بيت المقدس، وقال الشيخ عماد الدين بن كثير: بل تفسيره: بتبوك أحسن). قلت (أى السيوطى): ويدخل فى مكة ضواحيها كالمنزل بمنى، وعرفات، والحديبية، وفى المدينة: ضواحيها؛ كالمنزل ببدر، وأحد وسلع. الثالث: أن المكى ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدنى ما وقع خطابا لأهل المدينة» (¬1). ولذلك يحلو لبعض المعاصرين من الباحثين أن يقول: إن العلماء فى التفريق بين المكىّ، والمدنى نظروا إما إلى المخاطبين، وبعضهم نظر إلى المكان وبعضهم نظر إلى الزمان. يعنون بذلك اختلاف مصطلحهم فى تحديد المكى من المدنى. ¬

_ (¬1) الإتقان 1/ 23.

ثانيا: ضوابط ومميزات المكى والمدنى

ولذلك لاحظوا بدقة بعض الضوابط والخصائص نذكرها فيما يأتى: ثانيا: ضوابط ومميزات المكىّ والمدنى استنبط العلماء ضوابط ومميزات اجتهادية لكل من المكىّ والمدنى على النحو التالى: أ- المكىّ: ضوابطه ومميزاته: * كل سورة مفتتحة بحروف التهجى (وتسمى حروف التحدى) فهى مكية. * كل سورة فيها لفظ (كلّا) فهى مكية، وهى مذكورة فى خمس عشرة سورة فى النصف الأخير من القرآن ثلاثا وثلاثين مرة. * كل سورة فيها قصة آدم وإبليس، فهى مكية. * كل سورة فيها قصص الأنبياء والقرون الماضية فهى مكية. * كل سورة فيها آية سجدة فهى مكية. * كل سورة فيها (يا أيها الناس) دون ذكر (يا أيها الذين آمنوا) فهى مكية هذا مع أن المكى لوحظ بتمعن النظر فيه أنه: 1 - أسلوبه: يعتمد على: إيجاز العبارة، وقصر الفاصلة، وجزالة اللفظ، وقوة الجرس الذى يدق القلوب. 2 - موضوعه: يعالج قضية الإيمان من وحدانية، وبعث، وحساب، وجنة ونار، وإثبات الرسالة، وسوق الأدلة والبراهين، وضرب المثل. فهذه المرحلة المكية- إذا- راعت ظروف: ضعف الإسلام، وقلة عدد المسلمين، فتوجهت إلى الصفح والمهادنة بغرض الوصول إلى تثبيت العقيدة، وقطع دابر الشرك فتركز اهتمام هذه المرحلة على إصلاح الجبهة الداخلية. تنبيه هام: ينبغى أن يعرف طالب العلم أن هذه الضوابط والمميزات ليست قطعية. وإنما

ب - موضوعه

هى مجرد اجتهادات نظرية، وكل واحد منها «منقوض» بمثال أو أكثر، مما يدل على أن الحكم فيها ليس على الجميع، وإنما على المجموع. وانظر إلى ما يلى: * ضابط حروف التهجى، وقع منه فى «المدنى» سورتى البقرة وآل عمران. * ضابط آدم وإبليس فى «البقرة» وهى مدنية لا مكية. * ضابط «يا أيها الناس» فى «النساء» وهى مدنية لا مكية وقس على ذلك. ب- المدنى: ضوابطه ومميزاته: * كل سورة ذكر فيها النفاق والمنافقين فهى مدنية، لأنه لم يكن بمكة نفاق أصلا، وإنما إيمان مطلق، أو كفر بواح. * كل سورة فيها حدّ، أو أمر بفريضة فهى مدنية. * كل سورة ذكر فيها «أمر بالجهاد والقتال» فهى مدنية. * كل سورة فيها جدال مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهى مدنية. * كل سورة فيها خطاب للمؤمنين غالبا. هذا أيضا مع أنّ المدنى لوحظ بإمعان النظر والتدبر فى قراءته أن له مميزات فى: أ- أسلوبه: يعتمد على طول العبارة، وسلاسة الجرس، ومخاطبة العقل، كما أنها ذات مقاطع طويلة. ب- موضوعه: 1 - دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالإسلام، وتبكيت إخفائهم ما أنزل الله فى كتبهم بشأن دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وشخصه. 2 - كشف حقائق النفاق والمنافقين، وتحليل ما فى داخل نفوسهم، والتحذير من خطرهم. 3 - فرض الأحكام الشرعية: وإعلان المبادئ التى يقوم عليها الدين الجديد من عبادات، ومعاملات، وأحوال شخصية، وعلاقات دولية سلّما أو حربا، أو عهودا ومواثيق.

مبحث فى: حصر المكى والمدنى وكلها (مائة وأربع عشرة سورة)

فهذه المرحلة المدنية- إذا- راعت ظروف الدعوة الإسلامية فى ناحيتين هامتين: الأولى: إعداد الجبهة الداخلية ليشتمل هذا الإعداد كافة الأنظمة التى تقوم عليها المجتمعات المنظّمة، من تشريعات قانونية، وأنظمة اجتماعية أسرية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو حربية. واقتلاع جذور النفاق، واستئصال شأفة المنافقين باعتبارهم فئة معوقة ومثبطة لهمة الدعوة. الثانية: الإعداد للعمل الخارجى: وغايته تحرير الإنسان فى كل مكان من ربقة الكفر والشرك إلى نور الإيمان بالله والعبودية له وحده، وشمل فى ذلك: أ- الدعوة بالرفق واللين بواسطة البعوث وإرسال الكتب. ب- تجهيز الجيوش وإعداد الجند، وترتيب الأجناد. وما سبق أن ذكرناه فى «تنبيه الطالب». حول خصائص ومميزات المكى نعود لنذكره به أيضا هنا. وهو أن هذه الضوابط والمميزات إنما هى أمور استقرائية تختلف فى كل مسألة، فالحكم فيها على «المجموع». لا على الجميع. مبحث فى: حصر المكى والمدنى وكلها (مائة وأربع عشرة سورة) أسهب كل من الزركشى والسيوطى فى حصر وتحديد المكى والمدنى وتوابعهما، وسأذكر لك ذلك إجمالا، وأحيلك على هذين الكتابين إن أحببت الإسهاب وزيادة المعلومة (¬1). ¬

_ (¬1) هذا الحصر مرتب حسب ترتيب سور مصحف عثمان، أما عند الزركشى والسيوطى فهى مرتبة طبقا لروايات الرواة حسب نزولها فلم نشأ أن نذكرها هنا بنفس نظامها لأنه خاص بعلم أول ما نزل وآخر ما نزل وعلى كلّ فراجعه عندهما: (البرهان- الجزء الأول من 192 - 205، الإتقان- الجزء الأول من 24 - 50)،

(1) السور المدنية: أصح ما قيل فيها أنها عشرون سورة: (1) البقرة. (2) آل عمران. (3) النساء. (4) المائدة. (5) الأنفال. (6) التوبة. (7) النور. (8) الأحزاب. (9) محمد. (10) الفتح. (11) الحجرات. (12) الحديد. (13) المجادلة. (14) الحشر. (15) الممتحنة. (16) الجمعة. (17) المنافقون. (18) الطلاق. (19) التحريم. (20) النصر. (2) السّور المختلف فيها: اثنتا عشرة سورة هى: (1) الفاتحة. (2) الرعد. (3) الرحمن. (4) الصف. (5) التغابن. (6) المطففين. (7) القدر. (8) البينة. (9) الزلزلة. (10) الإخلاص. (11) الفلق. (12) النّاس. (3) السّور المكية: ثنتان وثمانون سورة، وهى باقى سور القرآن الكريم على حسب ترتيب مصحف عثمان الذى بين أيدينا. (4) الآيات المكية فى السّور المدنية (¬1). 1 - الأنفال: 33 وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الآية. 2 - التوبة: 128 لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة. 3 - الرعد: 31 وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إلى هنا. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 1/ 202 - 203.

4 - الحج: أربع آيات 52 - 55 وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى إلى قوله تعالى أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. (5) الآيات المدنية فى السّور المكية: 1 - الأنعام: كلها مكية ما عدا ست آيات هى: * آية 91 وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إلى آخر الآية نزلت فى مالك بن الصيف (¬1). * آية 92 - 93 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ (¬2). نزلت فى مسيلمة الكذاب، وعبد الله بن أبى سرح أخى عثمان من الرضاعة، الأول فيه (أو قال أوحى إلىّ) والثانى فيه (سأنزل مثل ما أنزل الله). * الآيات من 151 - 153 قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلى آخر السورة. 2 - الأعراف: مكية إلا تسع آيات مدنية 163 - 171 وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إلى قوله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. 3 - إبراهيم: مكية غير آيتين نزلتا فى قتلى بدر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً. 28، 29. 4 - النحل: مكية ما عدا الآيات من 41 إلى آخر السورة فمدنية وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا 88 آية. 5 - الإسراء: مكية ما عدا الآية 73 وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعنى ثقيفا فقد نزلت فى وفدهم. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 1/ 199. (¬2) سورة الأنعام: 93.

6 - الكهف: مكية: غير الآية 28 فمدنية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ نزلت فى سلمان الفارسى. 7 - القصص: مكية غير الآية 52 الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتاب- يعنى الإنجيل- مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ- يعنى القرآن، نزلت فى أربعين رجلا من أهل الكتاب قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبى طالب فأسلموا. 8 - الزمر مكية، غير الآية 53 قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. 9 - سور الحواميم كلها مكية غير الآية 10 فى سورة الأحقاف، فمدنية قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ نزلت فى عبد الله بن سلام. 10 - الماعون: مكية إلا أربع آيات 4 - 7 فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ إلى آخر السورة فمدنى. (6) ما نزل بمكة وحكمه مدنى: 1 - منها: قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا (¬1) نزلت بعد الهجرة فى مكة يوم فتحها. 2 - ومنها فى المائدة: الآية 3 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ إلى قوله تعالى الْخاسِرِينَ فى الآية 5 نزلت يوم الجمعة، والناس وقوف بعرفات فبركت ناقة النبى صلّى الله عليه وسلّم من هيبة القرآن، وهى مدنية لنزولها بعد الهجرة. (7) ما نزل بالمدينة وحكمه مكىّ: 1 - الممتحنة كلها، وهى فى حاطب بن أبى بلتعة. 2 - النحل: الآيات 41 إلى آخر السورة وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ¬

_ (¬1) سورة الحجرات: 13.

كلها مدنية والخطاب لأهل مكة. 3 - سورة الرعد: مدنية، وخطابها موجه إلى أهل مكة. 4 - سورة التوبة من أولها إلى قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ الخطاب لمشركى مكة، وهى مدنية. (8) ما يشبه تنزيل المدنية فى السور المكية: 1 - النجم: الآية 32 الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ يعنى كل ذنب عاقرته، (الفواحش) يعنى كل ذنب فيه حد (إلّا اللّمم). وهو بين الحدين من الذنوب. ***

الباب السادس علم معرفة الناسخ والمنسوخ

الباب السادس علم معرفة الناسخ والمنسوخ

تمهيد: تعريف النسخ

الباب السادس علم الناسخ والمنسوخ علم الناسخ والمنسوخ هو أيضا من العلوم الجليلة التى وضعت لخدمة الفقه والأصول فيما يتعلق بترتيب الأحكام، ورفع تعارض أحكامها. وقد اهتم بالكلام فى هذا العلم والتصنيف فيه جماعة من السلف والخلف على السواء. وقد ذكر بدر الدين الزركشى فى «البرهان». أسماء طائفة من العلماء ممن أفرد هذا العلم بالتصنيف منهم. قتادة بن دعامة السدوسى، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستانى صاحب السنن، وأبو جعفر النحاس، وابن العربى، وابن الجوزى، وابن الأنبارى وغيره (¬1). تمهيد: تعريف النسخ: النسخ لغة: يطلق على معان منها: 1 - الإزالة: تقول: نسخت الشمس الظّل، أى أزالته. ومنه قوله تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ (¬2). 2 - التبديل: ومنه قوله تعالى وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ (¬3). 3 - التحويل: ومنه «تناسخ المواريث». يعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد. ¬

_ (¬1) البرهان فى علوم القرآن للزركشى 2/ 28. (¬2) الحج: 52. (¬3) النحل: 101.

4 - النقل: من موضع إلى موضع، ومنه «نسخت الكتاب» إذا نقلت ما فيه حاكيا لخطّه ولفظه. نقل الزركشى عن «مكّى». وهذا الوجه لا يصح أن يكون فى القرآن، وأنكر على «النحاس» إجازته ذلك محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتى بلفظ المنسوخ، وإنما يأتى بلفظ آخر. وانتصر الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدى لما قاله النحاس بشهادة الآية الكريمة إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (¬1). النسخ اصطلاحا: يعرف النسخ فى اصطلاح العلماء بأنه: «رفع حكم شرعى، بخطاب شرعى، متراخ فى النزول، وصالح للنسخ» ويستفاد من التعريف ما يأتى: 1 - أن يكون الحكم المنسوخ شرعيا، فإن لم يكن كذلك كعادات الجاهلية مثلا فلا نسخ. 2 - أن يكون الدليل على الناسخ خطابا شرعيا، فلا يكون قاعدة وضعية مثلا. 3 - أن يكون الدليل الناسخ متراخيا فى الزمن عن الخطاب المنسوخ. 4 - ألا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت معين، فإن كان كذلك لم يكن نسخا، بل تأجيلا لأجل كقوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 2/ 29 (والسعدى له كتاب مخطوط بدار الكتب المصرية سماه: الإيجاز فى معرفة ما فى القرآن من الناسخ والمنسوخ). (¬2) 109: البقرة.

مبحث فى: ما يقع فيه النسخ، وأهميته، وطرق معرفته

5 - أن يكون بين هذين الدليلين تعارض حقيقى لا سبيل إلى الجمع بينهما بأى وجه من الوجوه. مبحث فى: ما يقع فيه النسخ، وأهميته، وطرق معرفته حكى الزركشى قول الجمهور: على أنه لا يقع النسخ إلا فى: الأمر، والنهى (¬1). وزاد بعضهم: الأخبار، وأطلق ذلك فى كل الأخبار، وقيدها الآخرون بالتى يراد بها الأمر والنهى. فلا يقع فى الاعتقادات التى تتعلق بذات الله تعالى، وصفاته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، أو الآداب الخلقية، أو أصول العبادات والمعاملات (¬2). أهمية النسخ يقدم علم النسخ خدمات جليلة لكل من: المفسرين، والفقهاء والأصوليين حتى لا تختلط الأحكام يتبلبل الناس. ولقد عرف سلفنا الصالح- رضى الله عنهم- أهمية هذا العلم خاصة فى مسائل الفتيا والقضاء «فقد نقل عن علىّ- كرم الله وجهه- أنه مرّ على قاض فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت» (¬3). طرق معرفة النسخ (1) يعرف الناسخ والمنسوخ بالنقل الصريح عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، أو عن صحابى يقول آية كذا نسخت آية كذا. هكذا نقله السيوطى عن ابن الحصّار. (2) أو بإجماع الأمة. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 2/ 23. (¬2) مباحث فى علوم القرآن لمنّاع القطان ص 233. (¬3) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 3/ 59.

مبحث فى: أقسام النسخ

(3) أو بمعرفة المتقدم والمتأخر. قال السيوطى: ولا يعتمد فى النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح، ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر فى عهده صلّى الله عليه وسلّم. مبحث فى: أقسام النسخ نظر الباحثون فى علوم القرآن فوجدوا أن النسخ لا يخلو عن أربع حالات هى: الأول: نسخ القرآن بالقرآن: وهذا القسم متفق على جوازه ووقوعه عند من يقول بالنسخ ومثاله، قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ (¬1)، منسوخة بآية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬2). الثانى: نسخ القرآن بالسنة: وهى نوعان: (أ) نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وقد أجازه الجمهور على أنهما وحى صريح. (ب) نسخ القرآن بالسنة الآحادية، ومنعه الجمهور لأن القرآن متواتر، والآحاد ظنى فلا نسخ. الثالث: نسخ السنة بالقرآن: وأجازه الجمهور وقالوا: كالتوجه إلى بيت ¬

_ (¬1) 240: البقرة. (¬2) 234: البقرة.

مبحث فى: أوجه النسخ فى القرآن، والحكمة من وقوعه، والتعرف على بعض مصطلحاته

المقدس فقد كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنّة، ونسخ بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (¬1). الرابع: نسخ السنة بالسنة: وهو على أربعة أنواع: 1 - نسخ متواترة بمتواترة، وهذه جائزة. 2 - نسخ آحاد بآحاد، وهذه جائزة. 3 - نسخ آحاد بمتواترة، وهذه جائزة. 4 - نسخ متواترة بآحاد، وفيها الخلاف بين العلماء على نفس الخلاف الذى بينهم فى نسخ القرآن بالسنة الآحادية، والجمهور على عدم جوازهما. مبحث فى: أوجه النسخ فى القرآن، والحكمة من وقوعه، والتعرف على بعض مصطلحاته هو على ثلاثة أوجه ننقلها عن الزركشى فيما يأتى: الأول: ما نسخ تلاوته، وبقى حكمه، فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول. ومثاله: ما روى عن عائشة، وأبىّ بن كعب رضى الله عنهما: «كان مما يتلى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله». قال عمر رضى الله عنه: «لولا أن يقول الناس: زاد عمر فى كتاب الله، لكتبتها بيدىّ» رواه البخارى فى صحيحه معلقا (¬2). وقد يقال: ما الحكمة فى رفع التلاوة وبقاء الحكم؟ وهلّا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ ¬

_ (¬1) 144: البقرة. (¬2) البرهان للزركشى 2/ 35.

والجواب: إنما كان ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة فى المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير طلب أو إلحاح لطريق مقطوع به، فيسرعون إلى الاستجابة بأيسر شىء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحى (¬1). وبعض أهل العلم ينكر هذا النوع من النسخ، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد. وقد يقال: كيف يقع النسخ إلى غير بدل، والله تعالى يقول ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. وهذا وجه ليس له بدل من مثله؟ ويجاب عن ذلك: بأن كل ما ثبت الآن فى القرآن ولم ينسخ فهو بدل مما قد نسخت تلاوته، وكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن، فقد أبدله بما علمناه، وتواتر إلينا لفظه ومعناه (¬2). الثانى: نسخ الحكم وبقاء التلاوة: ومثاله: نسخ حكم آية العدة بالحول مع بقاء تلاوة الناسخ والمنسوخ وهذا النوع هو الذى ألفت فيه الكتب، وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة، وإن حقق العلماء أنها معدودة، بل ومحصورة فى زهاء عشرين آية. وقد يقال: ما الحكمة فى رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فإنه يتلى كذلك لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت تلاوته لذلك. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 2/ 35. (¬2) الإتقان للسيوطى 3/ 77.

مطلب فى: الحكمة من وقوع النسخ

وثانيهما: بقاء المنسوخ تذكيرا بالنعمة فى رفع المشقة (¬1). الثالث: نسخ التلاوة والحكم معا. ومثاله: ما رواه مسلم وغيره من أصحاب السنن عن عائشة رضى الله عنها. قالت: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات». فتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهن مما يقرأ من القرآن» (¬2). فإن قيل: ظاهر «وهن مما يقرأ من القرآن» بقاء التلاوة، وليس كذلك فإنه غير موجود فى مصحف عثمان. والجواب: أن التلاوة نسخت ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فتوفى وبعض الناس يقرؤها. وقد أنكر بعض العلماء هذا القسم لأن الأخبار فيه أيضا أخبار آحاد لا يحتج بها على النسخ. وأجيب عن ذلك: بأن ثبوت النسخ شىء، وثبوت نزول القرآن شىء آخر. فثبوت النسخ يكفى فيه الدليل الظنى بخبر الآحاد، أما ثبوت نزول القرآن فهو الذى يشترط فيه الدليل القطعى (¬3). مطلب فى: الحكمة من وقوع النسخ: ذكر الشيخ مناع القطان خلاصة الحكمة فى وقوع النسخ فى ما يأتى: ¬

_ (¬1) الإتقان 3/ 63. (¬2) الإتقان للسيوطى 3/ 62، مباحث فى علوم القرآن للقطان ص 238. (¬3) المصدرين السابقين.

مطلب فى: التفريق بين بعض المصطلحات

(1) مراعاة مصالح العباد. (2) تطور التشريع بتطور أحوال المكلفين. (3) ابتلاء المكلفين واختبار مدى قدراتهم على الامتثال من عدمه. (4) إرادة الخير للأمة والتيسير عليها لأن النسخ إن كان إلى أشق ففيه زيادة ثواب، وإن كان إلى أخف ففيه السهولة واليسر (¬1). مطلب فى: التفريق بين بعض المصطلحات: التبس على بعض علماء الأمة- أو غيرهم- بعض المصطلحات التى تشكك فى النسخ فأنكروا وقوعه إما جملة وتفصيلا، أو بالإيهام بهذه المصطلحات. ولعل أهم هذه المصطلحات التى التبست بالنسخ مصطلحان هما: (1) البداء. (2) التخصيص. وسنفرق بين كل مصطلح منهما وبين النسخ. (1) البداء والنّسخ: معنى البداء: للبداء معنيان: الأول: الظهور بعد الخفاء، ومنه قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ. الثانى: نشأة رأى جديد لم يكن موجودا من قبل، ومنه قوله تعالى فى شأن عزيز مصر مع يوسف عليه السلام ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ. ¬

_ (¬1) مباحث فى علوم القرآن لمناع القطان ص 240. (بتصرف).

(2) النسخ والتخصيص

والتداخل الذى التبس على بعض الناس هنا، أن النسخ لا يجوز لأنه يؤدى إلى البداء وهو أن يكون ثمة حكم ظهر لله تعالى بعد أن كان خافيا عليه، أو أنه أنشأ حكما جديدا كان يجهله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والنسخ ليس كما ظن هؤلاء- وإنما هذا زعم اليهود ابتداء- إنما النسخ والمنسوخ أصلا فى علم الله ابتداء ظاهرة لديه لم يخف عليه منهما شىء، غاية ما هناك بالنسبة للمكلفين أن الله أظهر ما علمه لعباده- وهو عليم به- لا ظهور ذلك له، لحكمة يعلمها وهو أن الحكم المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهى فى وقت معلوم، كما علم- جل شأنه- أن الناسخ يجئ فى هذا الوقت المعلوم منوطا بحكمة ومصلحة معينة أخرى لتدرج أحوال المكلفين من الضعف إلى القوة، ومن السقم إلى الصحة. (2) النسخ والتخصيص: معنى التخصيص: هو أن تقصر الحكم على بعض الأفراد دون الجميع، أو هو: قصر العام على بعض أفراده. والتداخل هنا أن الذين توهموا أن النسخ يؤدى إلى البداء- بزعمهم- اخترعوا القول بالتخصيص للتخلص بدلا من القول بالنسخ، أى أن ما وقع فى القرآن من الآيات الناسخة إنما هى مخصصة للعموم فى ما ظنّ أنه منسوخ. وهذا خلط تماما بين النسخ والتخصيص، والتخصيص أبدا لا يقوم مقام النسخ ولا يسد مسده لاعتبارات أهمها: أولا: أن النسخ يجئ لإبطال حجية المنسوخ إمّا لجميع أفراده فيكون مبطلا للعام، أو مبطلا لبعض أفراده حسب الحكم الذى جاء به الناسخ.

أما التخصص فلا يبطل حجية العام (أى المنسوخ) أبدا، بل تظل حجية العام قائمة والمخصّص إنما هو بعض الأفراد فقط. ثانيا: أن النسخ لا يقع إلا بالكتاب أو السنّة، والتخصيص يمكن أن يقع بالعقل والحسّ. ثالثا: أن النسخ لا يكون إلا فى الأوامر والنواهى، بينما التخصيص يكون فى الأخبار. رابعا: أن العام الذى يراد تخصيصه يشمل حكمه جميع الأفراد، وإخراج البعض منهم يكون على سبيل المجاز الذى لا بدّ له من قرينة لتخصيصه بينما النسخ على سبيل الحقيقة القاطعة. من أجل هذا التوهم والالتباس وقع خلاف العلماء فى موضوع النسخ على أربعة آراء: أصحاب الرأى الأول: ينكرون تماما النسخ فى الشرائع، ويعتبرون أنه «بداءة» أى ظهور مسألة عند الله كانت خافية عليه، وهو يؤدى إلى وقوع الجهالة على الله تعالى. وهذه المسألة رغم أنها لبعض علماء المسلمين لكنها فى الأصل فكرة يهودية شاعت بين علمائهم وأحبارهم بغرض إثبات عدم إمكانية نسخ «التوراة» بعد نزولها. مع أنهم يقرون بأن شريعة موسى ناسخة لما قبلها كتحريم كثير من الحيوان على بنى إسرائيل بعد حلّه، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ (¬1). ¬

_ (¬1) 93: آل عمران.

أصحاب الرأى الثانى: يثبتون النسخ على أنه وإن كان «بداء» فالبداء عندهم جائز على الله تعالى. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وهم الروافض، وقد استدلوا على ذلك بقوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ (¬1)، على أساس أن الآية تظهر لله المحو والإثبات، وهذا تحريف للمعنى الموجود فى الآية: إذ المعنى البين من الآية هو: ينسخ الله ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى فيه المصلحة فى إثباته: وهذا المعنى ثابت فى حالات كثيرة من القرآن كقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ (¬2). ومحو الكفر والمعاصى بالتوبة. أصحاب الرأى الثالث: يجيزون النسخ عقلا، ويمنعون وقوعه شرعا. وهذا رأى أبى مسلم الأصفهانى: محمد بن بحر المعتزلى المتوفى سنة 322 هـ، وهو أول من قال بفكرة التخصيص بدلا من النسخ، واحتج بقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (¬3). ووجه استدلاله بها أنه جعلها على معنى أن أحكامه لا تبطل أبدا، مع أن المفهوم من الآية أن القرآن لم يتقدمه ما يبطله من الكتب، ولن يجئ بعده ما يبطله. أصحاب الرأى الرابع: قالوا بجواز النسخ عقلا، ووقوعه شرعا. أما الشرع: أ- فقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (¬4). ب- ما ورد فى الصحيح عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن عمر- ¬

_ (¬1) 39: الرعد. (¬2) 114: هود. (¬3) 42: فصلت. (¬4) 106: البقرة.

مبحث فى: قضية النسخ بين الإغراق والغلو

رضى الله عنه قال: «أقرؤنا أبىّ، وأقضانا علىّ، وإنا لندع من قول أبىّ. وذاك أن أبيّا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قال الله عز وجل ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها. وأما العقل: فلأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض، فله أن يأمر بالشيء فى وقت، وينسخه بالنهى عنه فى وقت لمصلحة تقتضيها مشيئته تعالى. وهذا رأى جمهور علماء المسلمين، وهو المعتد به. مبحث فى: قضية النسخ بين الإغراق والغلو ويتبين من هذه الآراء الأربعة أن قضية النسخ أخذت هذه الأبعاد الأربعة فى الفكر الإسلامى، وبعضها دخيل عليه، وهى تتركز كلها ما بين مغال فى إنكار النسخ، وما بين مفرط فيه إلى حدّ الإغراق حتى عدوا جميع السور ناسخة ومنسوخة ما عدا ثلاثا وأربعين سورة فقط ليس فيها ناسخ ولا منسوخ (¬1). والتحقيق هو وقوع النسخ فى بعض الآيات فقط، فالنسخ موجود ولكنه محصور فى آيات معينة ننقلها عن السيوطى بإجمالها وهى: (1) من سورة البقرة: 1 - كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (¬2) منسوخة: قيل بآية الميراث، وقيل بحديث (لا وصية لوارث) (¬3)، وقيل: بالإجماع. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 2/ 33 - 34. (¬2) البقرة: 180. (¬3) النساء: 11.

(2) من سورة آل عمران

2 - وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ (¬1)، قيل: منسوخة بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (¬2)، وقيل: محكمة، و (لا) مقدرة: أى (لا يطيقونه). 3 - كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (¬3) منسوخة بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ (¬4) لأن مقتضاها الموافقة فيما كانوا عليه من تحريم الأكل والوطء بعد النوم. وقيل نسخ لما كان بالسّنة. 4 - يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ (¬5) منسوخة بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (¬6) أخرجه ابن جرير عن عطاء. 5 - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ (¬7) منسوخة بقوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً (¬8) والوصية فى الآية منسوخة بآية الميراث (¬9). 6 - إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (¬10) منسوخة بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (¬11). (2) من سورة آل عمران: 7 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ (¬12) قيل منسوخ بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (¬13)، وقيل: محكمة. ¬

_ (¬1) البقرة: 184. (¬2) البقرة: 185. (¬3) البقرة: 183. (¬4) البقرة: 187. (¬5): البقر: 217. (¬6) التوبة: 36، (¬7) البقرة: 240. (¬8) البقرة: 234. (¬9) النساء: 11. (¬10): البقرة: 284. (¬11) البقرة: 286. (¬12) آل عمران: 102. (¬13) التغابن: 6.

(3) ومن النساء

قال السيوطى: وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه (أى فى آل عمران) (3) ومن النساء: 8 - وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (¬1) منسوخة بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ (¬2). 9 - وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ (¬3)، قيل: منسوخة، وقيل: محكمة ولكن الناس تهاونوا فى العمل بها. 10 - وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً (¬4). منسوخة بقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ (¬5). (4) ومن المائدة: 11 - وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ (¬6) منسوخة بإباحة القتال فيه. 12 - فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (¬7)، منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (¬8). 13 - يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ (¬9)، منسوخة بقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ (¬10). ¬

_ (¬1) النساء: 33. (¬2) الأنفال: 75. (¬3) النساء: 8. (¬4) النساء: 15. (¬5) النور: 2. (¬6) المائدة: 2. (¬7) المائدة: 42. (¬8) المائدة: 49. (¬9) المائدة: 106. (¬10) الطلاق: 11.

(5) ومن الأنفال

(5) ومن الأنفال: 14 - إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ (¬1). منسوخة بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ (¬2). (6) ومن التوبة: 15 - انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا (¬3)، منسوخة بآيات العذر، وهى:- * لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ (¬4). * وقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى (¬5). * وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً (¬6). (7) ومن النور: 16 - الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً (¬7)، منسوخة بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ (¬8). 17 - لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (¬9). قيل: منسوخة: وقيل محكمة ولكن الناس تهاونوا فى العمل بها. (8) ومن الأحزاب: 18 - لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ (¬10)، منسوخة بقوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ (¬11). ¬

_ (¬1) الأنفال: 95. (¬2) الأنفال: 66. (¬3) التوبة: 41. (¬4) النور: 61. (¬5) التوبة: 91. (¬6) التوبة: 122. (¬7) النور: 3. (¬8) النور: 32:. (¬9) النور: 58. (¬10) الأحزاب: 57. (¬11) الأحزاب: 50.

(9) ومن المجادلة

(9) ومن المجادلة: 19 - إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ (¬1)، منسوخة بما بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ (¬2). (10) ومن الممتحنة: 20 - فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (¬3)، قيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: بآية الغنيمة، وقيل: محكمة. (11) ومن المزمل: 21 - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (¬4)، قيل: منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس. قال السيوطى: «فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة- على خلاف فى بعضها- لا يصح دعوى النسخ فى غيرها». والأصح فى آية: الاستئذان، والقسمة: الإحكام، فصارت تسعة عشر، ويضم إليها قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (¬5)، منسوخة بقوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. (¬6) على رأى ابن عباس رضى الله عنهما فتمت عشرون. ¬

_ (¬1) المجادلة: 11. (¬2) المجادلة: 13. (¬3) الممتحنة: 11. (¬4) المزمل: 2. (¬5) البقرة: 15. (¬6) البقرة: 149.

مبحث فى: النسخ إلى بدل وإلى غير بدل

وقد نظمتها فى أبيات فقلت: قد أكثر الناس فى المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر وهاك تحرير آى لا مزيد لها ... عشرين حررها الحذاق والكبر آى التوجه حيث المرء كان وأن ... يوصى لأهليه عند الموت محتضر وحرمت الأكل بعد النوم من رفث ... وفدية لمطيق الصوم مشتهر وحق تقواه فيما صح من أثر ... وفى الحرام قتال للأولى كفروا والاعتداد بحول مع وصيتها ... وأن يدان حديث النفس والفكر والحلف والحبس للزانى وترك أولى ... كفروا شهادتهم والصبر والنفر ومنع عقد لزان أو لزانية ... وما على المصطفى فى العقد محتظر ودفع مهر لمن جاءت وآية نج ... واه كذاك قيام الليل مستطر وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن حضروا مبحث فى: النسخ إلى بدل وإلى غير بدل وقد نظر العلماء فى هذه الآيات العشرين فوجدوها لا تخرج عن أن يكون النسخ فيها على وجهين: (2) أو نسخ بغير بدل. وهو ثلاثة أنواع: أ- نسخ ببدل مماثل ومثاله: نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة. ب- نسخ ببدل إلى أخف من المنسوخ، ومثاله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ وقد كان محرما عليهم ذلك إذا صلوا العشاء،

وناموا إلى اليوم التالى. ج- نسخ ببدل أثقل من المنسوخ، ومثاله: نسخ الحبس فى البيوت بالجلد ثمانين جلدة، أو الرجم حتى الموت فى حال الإحصان. (2) وأما النسخ بغير بدل: فمثاله: نسخ الصدقة بين يدى نجوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأنكر ذلك بعض المعتزلة، والظاهرية. كما نظر إلى هذه الآيات أيضا بتقسيم آخر فقالوا: * فرض نسخ فرضا، ولا يجوز العمل بالأول، ومثاله: نسخ الحبس للزوانى بالحد. * فرض نسخ فرضا، ويجوز العمل بالأول، ومثاله: آية المصابرة. * فرض نسخ ندبا، ثم صار فرضا: ومثاله: القتال كان ندبا ثم صار فرضا،* ندب نسخ فرضا، كقيام الليل، نسخ بالقراءة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ (¬1). ¬

_ (¬1) الإتقان للسيوطى 3/ 62.

الباب السابع علم معرفة القراءات والقراء

الباب السابع علم معرفة القراءات والقراء

مبحث فى: أنواع القراءات

الباب السابع فى معرفة علم القراءات والقراء (¬1) وهو: العلم الذى يعرف به أوجه القراءات المختلفة لبعض مفردات النّص القرآنى على حسب ما روى من الأحاديث والآثار. فهو أيضا من علوم التلقى والرواية، وليس من العلوم المبنية على النظر والاجتهاد. فائدته: الوقوف على أوجه القراءات المختلفة للقرآن لتكون دليلا على حسب المدلول عليه، أو مرجحا، كما نقل الزركشى فى البرهان عن الكواشى. مبحث فى: أنواع القراءات 1 - متواترة: وهى القراءات السبع. 2 - آحاد: وهى القراءات الثلاث المتممة للعشر، وقيل: العشر متواترة. 3 - شاذة: وهى ما بقى من القراءة. ومن العلماء من استخلص من هذه الأنواع أنواعا أخرى فجعل القراءات ستة هى: 1 - المتواتر: وهو ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه- وهذا هو الغالب فى القراءات. 2 - المشهور: وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة المتواتر، ووافق العربية والرسم، واشتهر عند القرّاء فلم يعدوه من الغلط، ولا من الشذوذ- وذكر العلماء فى هذا النوع أنه يقرأ به. ¬

_ (¬1) البرهان للزركشى 1/ 339 - 342، الإتقان للسيوطى 1/ 210 - 229، مباحث فى علوم القرآن ص 173 - 196.

3 - الآحاد: وهو ما صح سنده، وخالف الرسم، أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. وهذا لا يقرأ به، ومن أمثلته ما روى عن أبى بكرة: «أن النبى ص قرأ: «متكئين على رفارف خضر وعباقرى حسان» (¬1). وما روى عن ابن عباس أنه قرأ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (¬2). - بفتح الفاء. 4 - الشاذ: وهو ما لم يصح سنده. كقراءة «ملك يوم الدين» (¬3) بصيغة الماضى. ونصب «يوم». 5 - الموضوع: وهو ما لا أصل له. 6 - المدرج: وهو ما زيد فى القراءات على وجه التفسير- كقراءة ابن عباس: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فقوله: «فى مواسم الحج» تفسير مدرج فى الآية (¬4). القرّاء المعتمدون فى أخذ القراءة عنهم هم: 1 - أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة: وهو زيان بن العلاء بن عمار المازنى البصرى، وقيل اسمه يحيى، وقيل اسمه كنيته، وتوفى بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة (154 هـ). وراوياه: الدورى، والسوسى، فأما الدورى: فهو أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز الدورى النحوى، والدور: موضع ببغداد، توفى سنة ست وأربعين ومائتين وأما السوسى: فهو أبو شعيب صالح بن زياد بن عبد الله السوسى، توفى سنة إحدى وستين ومائتين (261 هـ). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (والآية من سورة الرحمن: 76) بلفظ: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. (¬2) أخرجه الحاكم (والآية من سورة التوبة: 128). (¬3) الفاتحة: 4. (¬4) أخرجه البخارى (والآية من سورة البقرة: 198) بدون عبارة: «فى مواسم الحج».

2 - ابن كثير: هو عبد الله بن كثير المكى، وهو من التابعين، وتوفى بمكة سنة عشرين ومائة (120 هـ) وراوياه: البزى، وقنبل، أما البزى: فهو أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبى بزة المؤذن المكى، ويكنى أبا الحسن، وتوفى بمكة سنة خمسين ومائتين (250 هـ). وأما قنبل: فهو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد المكى المخزومى، ويكنى أبا عمرو، ويلقب قنبلا، ويقال: هم أهل البيت بمكة، يعرفون بالقنابلة، وتوفى بمكة سنة إحدى وتسعين ومائتين (291 هـ). 3 - نافع المدنى: هو أبو رويم نافع بن عبد الرحمن بن أبى نعيم اللّيثى، أصله من أصفهان، وتوفى بالمدينة سنة تسع وستين ومائة (169 هـ). وراوياه: قالون، وورش، أما قالون: فهو عيسى بن منيا «بالمد والقصر» المدنى معلم العربية، ويكنى أبا موسى، وقالون لقب له أيضا، يروى أن نافعا لقّبه به لجودة قراءته، لأن «قالون» بلسان الروم «جيد». وتوفى بالمدينة سنة عشرين ومائتين (220 هـ). وأما ورش: فهو عثمان بن سعيد المصرى، ويكنى أبا سعيد، وورش لقب له، لقب به فيما يقال لشدة بياضه، وتوفى بمصر سنة سبع وتسعين ومائة (197 هـ). 4 - ابن عامر الشامى: هو عبد الله بن عامر اليحصبى قاضى دمشق فى خلافة الوليد بن عبد الملك، ويكنى أبا عمران، وهو من التابعين، وتوفى بدمشق سنة ثمان عشرة ومائة (118 هـ). وراوياه: هشام، وابن ذكوان، فأما هشام: فهو هشام بن عمار بن نصير القاضى الدمشقى، ويكنى أبا الوليد، وتوفى بها سنة خمس وأربعين ومائتين (245 هـ). وأما ابن ذكوان: فهو عبد الله بن أحمد بن بشير بن ذكوان القرشى الدمشقى، ويكنى أبا عمرو، ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة (173 هـ) وتوفى بدمشق سنة اثنتين وأربعين ومائتين (240 هـ).

5 - عاصم الكوفى: هو عاصم بن أبى النجود، ويقال له ابن بهدلة، أبو بكر، وهو من التابعين، وتوفى بالكوفة سنة ثمان وعشرين ومائة (128 هـ). وراوياه: شعبة، وحفص، فأما شعبة: فهو أبو بكر شعبة بن عباس بن سالم الكوفى. وتوفى بالكوفة سنة ثلاث وتسعين ومائة (193 هـ). وأما حفص: فهو حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز الكوفى، ويكنى أبا عمرو، وكان ثقة، قال ابن معين: هو أقرأ من أبى بكر، وتوفى سنة ثمانين ومائة (180 هـ). 6 - حمزة الكوفى: هو حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الفرضى التيمى، ويكنى أبا عمارة وتوفى بحلوان فى خلافة أبى جعفر المنصور سنة ست وخمسين ومائة (156 هـ). وراوياه: خلف، وخلاد، فأما خلف: فهو خلف بن هشام البزاز، ويكنى أبا محمد توفى ببغداد سنة تسع وعشرين ومائتين (229 هـ). وأما خلاد، فهو خلاد بن خالد، ويقال ابن خليد، الصيرفى الكوفى، ويكنى أبا عيسى، وتوفى بها سنة عشرين ومائتين (220 هـ). 7 - الكسائى الكوفى: هو علىّ بن حمزة إمام النحاة الكوفيين، ويكنى أبا الحسن، وقيل له «الكسائى» من أجل أنه أحرم فى كساء- توفى ب «رنبويه» قرية من قرى الرى حين توجه إلى خراسان مع الرشيد سنة تسع وثمانين ومائة (189 هـ). وراوياه: أبو الحارث، وحفص الدورى: فأما أبو الحارث فهو اللّيث بن خالد البغدادى، توفى سنة أربعين ومائتين (240 هـ). وأما حفص الدورى: فهو الراوى عن أبى عمرو، وقد سبق ذكره. أما الثلاثة تكملة العشرة فهم:

8 - أبو جعفر المدنى: هو يزيد بن القعقاع، وتوفى بالمدينة سنة ثمان وعشرين ومائة (128 هـ) - وقيل (132 هـ). وراوياه: ابن وردان، وابن جماز: فأما ابن وردان: فهو أبو الحارث عيسى ابن وردان المدنى، وتوفى بالمدينة فى حدود الستين ومائة (160 هـ). وأما ابن جماز: فهو أبو الربيع سليمان بن مسلم بن جماز المدنى، توفى بها بعد السبعين ومائة (170 هـ). 9 - يعقوب البصرى: هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمى، وتوفى بالبصرة سنة خمس ومائتين (205 هـ) - وقيل (185 هـ). وراوياه: رويس. وروح، فأما رويس: فهو أبو عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤى البصرى، ورويس لقب له، وتوفى بالبصرة سنة ثمان وثلاثين ومائتين (238 هـ). وأما روح: فهو أبو الحسن روح بن عبد المؤمن البصرى النحوى، وتوفى سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين (234 هـ) - أو (235 هـ). 10 - خلف: هو أبو محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار البغدادى، وتوفى سنة تسع وعشرين ومائتين (229 هـ) - وقيل: لم يوقف على تاريخ وفاته. وراوياه: إسحاق، وإدريس، أما إسحاق: فهو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عثمان الوراق المروزى ثم البغدادى، توفى سنة ست وثمانين ومائتين (286 هـ). وأما إدريس: فهو أبو الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادى الحداد، توفى يوم الأضحى سنة اثنتين وتسعين ومائتين (292 هـ). ويزيد بعضهم أربع قراءات على هاتيك العشر، وهن:

مطلب فى: حكم هذه القراءات وضوابطها

1 - قراءة الحسن البصرى، مولى الأنصار، أحد كبار التابعين المشهورين بالزهد، توفى سنة (110) هجرية. 2 - وقراءة محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن محيصن، توفى سنة 123 هجرية، وكان شيخا لأبى عمرو. 3 - وقراءة يحيى بن المبارك اليزيدى النحوى، من بغداد، أخذ عن أبى عمرو وحمزة، وكان شيخا للدورى والسوسى، توفى سنة 202 هجرية. 4 - وقراءة أبى الفرج محمد بن أحمد الشنبوذى، توفى سنة 388 هجرية. مطلب فى: حكم هذه القراءات وضوابطها: يعرف إجمالا أن القراءات أربع عشر قراءة، سبع متواترة، وثلاث أحادية، وأربعة شاذة. وهذا التقسيم هو ما عليه جمهور علماء الأمة. وما عدا المتواتر لا تجوز القراءة به فى الصلاة، ولا فى غيرها لأنها- والحالة هذه- ليست قرآنا، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة، كما نص عليه الإمام النووى فى «شرح المهذب» ونقله غير واحد من العلماء عنه. مبحث فى: أهم ضوابط القراءة الصحيحة تتلخص أهم ضوابط القراءة الصحيحة فيما يأتى: 1 - موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه: سواء أكان أفصح أم فصيحا، لأن القراءة سنّة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها بالإسناد لا بالرأى. 2 - وأن توافق القراءة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا: لأن الصحابة فى كتابة المصاحف العثمانية اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة، فكتبوا (الصّراط) مثلا فى قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ

الْمُسْتَقِيمَ. «بالصاد» المبدّلة بالسين- وعدلوا عن «السين» التى هى الأصل، لتكون قراءة (السين) «السراط» وإن خالفت الرسم من وجه، فقد أتت على الأصل اللّغوى المعروف، فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة لذلك. والمراد بالموافقة الاحتمالية ما يكون من نحو هذا، كقراءة: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فإن لفظة «مالك» كتبت فى جميع المصاحف بحذف الألف فتقرأ «ملك» وهى توافق الرسم تحقيقا، وتقرأ «مالك» وهى توافقه احتمالا، وهكذا. فى غير ذلك من الأمثلة. ومثال ما يوافق اختلاف القراءات الرسم تحقيقا: تَعْلَمُونَ بالتاء والياء ويَغْفِرْ لَكُمْ بالياء والنون، ونحو ذلك، مما يدل تجرده عن النقط والشكل فى حذفه وإثباته على فضل عظيم للصحابة رضى الله عنهم فى علم الهجاء خاصة، وفهم ثاقب فى تحقيق كل علم. ولا يشترط فى القراءة الصحيحة أن تكون موافقة لجميع المصاحف، ويكفى الموافقة لما ثبت فى بعضها، وذلك كقراءة ابن عامر: وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ (¬1) باثبات الباء فيهما، فإن ذلك ثابت فى المصحف الشامى. 3 - وأن تكون القراءة مع ذلك صحيحة الإسناد: لأن القراءة سنّة متّبعة يعتمد فيها على سلامة النقل وصحة الرواية، وكثيرا ما ينكر أهل العربية قراءة من القراءات لخروجها عن القياس، أو لضعفها فى اللّغة، ولا يحل أئمة القرّاء بإنكارهم شيئا. تلك هى ضوابط القراءة الصحيحة، فإن اجتمعت الأركان الثلاثة: 1 - موافقة العربية. 2 - ورسم المصحف ¬

_ (¬1) آل عمران: 184، بدون الباء في الكلمتين.

مطلب فى: أهم الكتب المؤلفة فى علم القراءات

3 - وصحة السند. فهى القراءة الصحيحة، ومتى اختل ركن منها أو أكثر أطلق عليها أنها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة. مطلب فى: أهم الكتب المؤلفة فى علم القراءات: 1 - كتاب الحجة لأبى على الفارس. 2 - كتاب الكشف عن وجوه القراءات وعللها لمكىّ. 3 - كتاب الهداية لأبى العباس أحمد بن عمار المهدوى (ت 430 هـ). 4 - كتاب النشر فى القراءات العشر لابن الجزرى. فوائد: (1) ينبغى على كل مسلم ومسلمة أن يكثر من قراءة القرآن فهو كلام الله رب العالمين، الخالق، العليم بالنفس، الرحيم بها عند الزلل والمحق، الآخذ بالنواحى إلى طريق الصواب، والمنجي لها من المهلكات. ففي قراءته شفاء النفس، وطمأنينة الفؤاد، وشرح الصدر، والعصمة من المعاصى. وهو فرض الصلاة، ومستحبات الذكر. (2) يحسن قراءة القرآن الكريم بالطريقة الصحيحة، والآداب السليمة التى أورثنا إياها رسول هذه الأمة ص، وعلمنا إياها الصّالحون الأوائل من مشاهير الحفاظ والقراء. وأهم هذه الآداب ما يلى: 1 - أن يكون على طهارة، فى نفسه، وثوبه، ومكانه. 2 - أن يقرأ فى سكينة وخشوع، ويتهيأ لله تعالى فى قلبه وجوارحه لأنه يسمعه. 3 - أن يتعوذ فى ابتداء القراءة. 4 - أن يقرأ مرتلا، ويجوّد كل حرف بحسب مخارجه اللغوية. 5 - أن يتفهم ويتدبر ما يقرأ، ويتأثر بمعانى القرآن إن كان وعيدا فيظهر عليه الخوف والحزن، وإن كان وعدا فيظهر عليه الفرح والسرور. وإن مرّ بآية فيها سجدة سجد لها، وإن مرّ بقصة فهم العبرة منها. 6 - الأفضل أن يجهر بالقراءة، وأن يقرأ فى المصحف. (3) لا بأس بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، وأخذ الأجرة عليه. وإن كان الأفضل تعليم القرآن وتحفيظه حسبة لله تعالى لمن أغناه الله تعالى عن الأجرة.

الخاتمة والنتائج

الخاتمة والنتائج

الخاتمة والنتائج جاء هذا المدخل لبيان جذور الحضارة الإسلامية المعتمدة على الوحى الإلهى سواء كان قرآنا أو سنة. وألقى ضوءا كافيا على أهمية هذه الجذور التى تحاول بعض الأقلام المجنّدة من قبل جهات كثيرة، لا تريد لهذه الحضارة أن تستمر فى أداء رسالتها الخالدة، لأنها فى نظر هذه الجهات خطر عليها، وعلى مسيرة حضارتها هى. والمأجور، والمؤجّر كلاهما فى فهم خاطئ، فحضارة الإسلام لم تأت لتهدم حضارات الأمم الأخرى، بل لتعاونها، وتشد من أزرها إن حاولت أن تستفيد منها، أو تستقل بنفسها وبشئون أبنائها، إن وجدت صدا لمثل هذا النوع من التعاون. فهى على كل حال حضارة شامخة بعلومها، وفنونها، وآدابها، وتهذيبها يحتاج إليها، ولا تحتاج إلى غيرها. فجاء هذا المدخل ليقول فى تواضع إلى كل من لا يفهم- أو لا يحاول أن يفهم- أن جذور الحضارة الإسلامية راسخة وقويّة وعميقة، ولا يهدم شيئا منها صرخة ناعق لأنها وبكل بساطة تعاليم سماوية محفوظة بالذّكر وعلوم الذّكر وقد قيّض الله لها من يقوم على خدمتها، وتنميتها، والحفاظ عليها. وقد كنت أرغب فى أن أترك الكتابة فى نتائج هذا المدخل إلى فطنة القارئ لولا أن العمل العلمى يحتم علىّ التذكير به، حتى وإن كانت قائمة بين يديه يراها رأى العين.

وأهم ما خرجت به دراسة هذا المدخل من النتائج ما يلى: (1) شدّ انتباه القارئ إلى حقيقة حاضرة فى الواقع، ولكنها غائبة عن الذهن وهى أن «الدين» غريزة فى النفس البشرية تحتاج إلى الاعتناء بها، وإشباعها بالطرق المشروعة من خلال تعاليم «كل أمة» لها «دين». وبغير هذا الطريق يكون الانحراف .. ثم التشدد .. ثم الصراع. (2) أن الحضارة الإسلامية هى «الوحى الإلهى» قرآنا وسنة معا، والسنّة هى بيان القرآن وتفسيره، ومن علومهما وفنونهما قامت حضارة الأمة الإسلامية. فنحن نقيم العلائق الاجتماعية من زواج، ونسب، وميراث، وطلاق، وعلائق أسرية، وتراحم، وتواد طبقا لتعاليم هذا الوحى. ونقيم العلاقات الاقتصادية من تعاملات فى البيوع، والشركات، والإجارات، والمزارعات طبقا لمفاهيم علوم هذه الحضارة. وقس على ذلك سائر العلاقات. والبحث عن طرق أخرى غير طرق هذه الحضارات يوجب التنازع والتصادم، ويحدث المفاسد الكبرى فى الأمة. ولا تستطيع أمة تدين بتعاليم دين معين، أن تطبق تعاليم دين آخر لا يدين به أفراد أمتها أيّا كان طبيعة هذا الدين الآخر، أو جبروته. (3) علم تفسير القرآن الكريم: علم على غاية من الأهمية، وترجع أهميته إلى بيان المراد عن الله عز وجل سواء أكان ذلك فى الفكر العقائدى، أم فى الأحكام والتشريعات، أم فى الأخلاق العامة، والتراحم والترابط بين الأسرة

الواحدة، وبين الأسر بعضها ببعض، وبين المجتمع ككل، وبين الأمة جميعها فى توادها وتعاطفها، وبينها وبين سائر الأمم الإنسانية فى تعاونها، وتعايشها، وعلاقاتها الأممية. ولخطر هذا العلم قام على خدمته مجموعة من العلوم بلغ مجموعها زهاء ثمانين علما أو يزيد، قيض الله لها من يرعاها، ويكشف عن فوائدها لخدمة كتاب الله العزيز، والمخاطبين به. وصدق الله- عز وجل- إذ يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1). د/ عبد الجواد خلف ¬

_ (¬1) الحجر: 9.

فهرس المصادر

فهرس المصادر * الإتقان فى علوم القرآن: للسيوطى، ط. مصطفى الحلبى 1951 م. * الأحاديث التساعية: لشيخ الإسلام بدر الدين بن جماعة المتوفى 733 هـ، ط. دار البيان- القاهرة. * أسباب النزول: للواحدى أبو الحسن على بن أحمد النيسابورى- المتوفى 468 هـ، ط. دار الكتب العلمية بيروت 1398 هـ/ 1978. * أسد الغابة فى معرفة الصحابة: لعز الدين بن الأثير أبى الحسن على بن محمد الجزرى، طبع مطبعة الشعب- القاهرة. * أنوار البيان فى علوم القرآن: لزكى محمد أبو سريع- الطبعة الأولى- 1412 هـ- 1992 - طبع دار الطباعة المحمدية. * البرهان فى علوم القرآن: للزركشى محمد بن عبد الله المتوفى 794 هـ. * تاج العروس: للسيد محمد مرتضى، ط. دار الجبل- الكويت 1385 هـ- 1965 م * تاريخ بغداد: للخطيب البغدادى، طبع دائرة المعارف العثمانية- حيدرآباد الدكن الهند 1384 هـ. * تدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى: لجلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى المتوفى 911 هـ، طبع دار الكتب الحديثة- القاهرة. * التفسير والمفسرون: لمحمد حسين الذهبى، ط. دار الكتب الحديثة- القاهرة. * تهذيب التهذيب: لأحمد بن حجر العسقلانى، ط. أولى- الهند. * تهذيب اللغة: لأبى منصور محمد بن أحمد الأزهرى، طبع المؤسسة المصرية العامة للتأليف- القاهرة.

* جامع البيان عن تأويل آى القرآن: لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى- الطبعة الثالثة- طبع مطبعة ومكتبة البابى الحلبى- القاهرة. * دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث: (امتياز أحمد) الطبعة الأولى- ط. دار الوفاء- المنصورة. * الديباج المذهب فى معرفة أعيان المذهب: لابن فرحون. * سنن الترمذى: لأبى عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذى، توفى 255 هـ، ط. دار الكتب العلمية. بيروت. * السيرة النبوية: لأبى محمد عبد الملك بن هشام- ط. دار الهداية. * شرح السنة: للحسين بن مسعود البغوى- المكتب الإسلامى بيروت 1983 م. * صحيح البخارى بشرح السندى: للإمام محمد بن إسماعيل البخارى- ط. عيسى الحلبى. * صحيح البخارى بشرح فتح البارى: للحافظ أبى الفضل شهاب الدين أحمد بن على بن محمد- ط. دار إحياء التراث العربى- بيروت. * صحيح مسلم: بشرح النووى للإمام مسلم بن الحجاج القشيرى- ط. دار الفكر. * طبقات الشافعية الكبرى للإمام السيوطى، ط. أولى. عيسى الحلبى. * طبقات المفسرين: لجلال الدين السيوطى. طبعة ليدن 1839 م. * علوم الحديث: لابن الصلاح أبو عمر بن الصلاح- طبع الهند 1357 هـ. * القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادى- الطبعة الثانية (1371 هـ- 1952 م) طبع- مطبعة الحلبى- القاهرة. * فتاوى ابن تيمية: لأحمد بن تيمية الحرانى- مكتبة كردستان العلمية 1329 هـ.

* لسان الميزان: لشهاب الدين أحمد بن على بن حجر العسقلانى- الطبعة الأولى- طبع. دائرة المعارف النظامية حيدرآباد الدكن الهند 1329 هـ. * مباحث فى علوم القرآن: لمناع القطان. * مبادئ التفسير: لمحمد الخضرى الدمياطى- طبع مطبعة النيل 1321 هـ. * مجمع البيان فى تفسير القرآن: للشيخ أبو الفضل بن حسين الطبرسى. منشورات دار مكتبة الحياة. بيروت. * المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن الكريم: لجولد زيهر. تعريب على حسن عبد القادر وآخرين. * المستدرك على الصحيحين: لأبى عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابورى- ط. دار الكتاب العربى بيروت. * مسند الإمام أحمد: طبع المطبعة الميمنية بمصر 1313 هـ. * مقدمة فى أصول التفسير: لابن تيمية- طبع مطبعة الترقى- بدمشق. * معرفة علوم الحديث: للحاكم النيسابورى- دار الكتب المصرية 1937 هـ. * مناهل العرفان فى علوم القرآن: للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى- طبع عيسى البابى الحلبى- القاهرة. * مورد الظمآن إلى علوم القرآن- طبع الهند. * هدى السارى مقدمة فتح البارى: لابن حجر العسقلانى- طبع إدارة الطباعة المنيرية 1347 هـ. ***

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة المقدمة 5 القسم الأول: جذور الحضارة الإسلامية 9 المبحث الأول: تمهيد 9 نتيجة هذا المبحث 22 المبحث الثانى: الوحى الإلهى 23 مطلب فى: الله ... والفطرة ... والأنبياء ... والوحى 23 نتيجة هذا المبحث 27 مطلب فى: التعريف بالوحى 27 مطلب فى: صور الوحى 29 مطلب فى: أنواع الوحى وخصائصه 34 مطلب فى: كتابة الوحى، وتدوينه، وأشهر كتابه 36 نتيجة هذا المبحث 39 المبحث الثالث: السنة النبوية المشرفة (الوحى الخفى) 39 نتيجة هذا المبحث 45 المبحث الرابع: القرآن الكريم (الوحى الجلى) 46 مطلب فى: التعريف بالقرآن الكريم 46 مطلب فى: بعض أسماء القرآن، وأوصافه 50 القسم الثانى: علوم القرآن الكريم 55 تمهيد 55 فائدة علوم القرآن، وأهميتها 56 تطور علوم القرآن 57

الموضوع الصفحة الباب الأول علم التفسير 67 تمهيد: منزلة علم التفسير، والحاجة إليه 67 مبحث فى: نشأة التفسير ومراحله 70 مطلب فى: أقسام التفسير وأنواعه 72 مطلب فى: شروط المفسر وآدابه 73 أولا: شروط المفسر 73 ثانيا: آداب المفسر 74 مبحث فى: الأربعة المكثرون فى التفسير من الصحابة 75 (1) عبد الله بن عباس 75 التعريف به- علم ابن عباس- تقريظ عمر له- منزلة ابن عباس فى التفسير- أسباب نبوغ ابن عباس- أدوات التفسير عند ابن عباس ومصادره- طرق الرواية عن ابن عباس- المطاعن. (2) عبد الله بن مسعود 86 التعريف به- منزلة ابن مسعود فى التفسير- مرويات ابن مسعود ومبلغها من الصحة. (3) على بن أبى طالب 92 مكانته فى العلم بصفة عامة- مكانته فى التفسير بصفة خاصة- مرويات على كرم الله وجهه ومدى صحتها- أهم الطرق. (4) أبىّ بن كعب 94 تعريفه- مكانته فى العلم بصفة عامة- مكانته فى التفسير خاصة- أشهر طرق الرواية عنه.

الموضوع الصفحة مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن الصحابة 96 مطلب فى: خصائص تفسير الصحابة ومميزاته 99 مبحث فى: التفسير فى عصر التابعين ومدارسه 100 مطلب تمهيدى فى: مدارس التفسير فى عصر التابعين: 101 1 - المدرسة المكية فى التفسير وأشهر تلاميذها 101 2 - المدرسة المدنية فى التفسير وأشهر تلاميذها 102 3 - المدرسة العراقية وأشهر تلاميذها 103 مطلب فى: قيمة التفسير المأثور عن التابعين 105 مطلب فى: خصائص ومميزات التفسير فى عصر التابعين 107 مبحث فى: التفسير بالمأثور 110 مراحل التفسير بالمأثور- المرحلة الأولى- المرحلة الثانية- دور التبعية لعلم الحديث- دور الاستقلال عن علم الحديث- دور اختصار الإسناد أو حذفه نهائيا. نموذج من: مناهج المفسرين بالمأثور (ابن جرير الطبرى وتفسيره «جامع البيان») 117 حياته- وتلقيه العلم- شيوخه- منزلة الطبرى فى العلم- درجته فى الرواية- أوصافه- تلاميذه. مطلب فى: منهج ابن جرير فى تفسيره 121 مبحث فى: التفسير فى بداية عصر التدوين 126 مطلب فى: التدوين 127 مبحث فى: التفسير بالرأى 131 التفسير بالرأى الجائز- التفسير بالرأى الممنوع (المذموم) - أدلة المانعين للتفسير بالرأى- رد المجوزين للتفسير بالرأى.

الموضوع الصفحة نموذج من: مناهج المفسرين بالرأى المحمود (فخر الدين الرازى وكتابه «مفاتيح الغيب») 139 التعريف به- تلقيه العلم- مؤلفاته- منهج الفخر الرازى فى تفسيره: «المناسبات- الاهتمام بالعلوم الرياضية والكلامية- اهتمامه بالرد على المعتزلة والفرق الكلامية- إبرازه ووقوفه عند آيات الأحكام- ترتيب المسائل- ذكر اللغة والقراءات وأسباب النزول». نموذج فى: التفسير بالرأى المذموم: (الزمخشرى وكتابه «الكشاف») 142 توطئة- الزمخشرى وكتابه- قيمة الكشاف العلمية. مبحث فى: التفسير الفقهى «الجامع لأحكام القرآن للقرطبى» 146 توطئة- لمحة تاريخية سريعة. القرطبى وكتابه: الجامع لأحكام القرآن الكريم 148 التعريف به- مصنفاته- شيوخه- منهج القرطبى فى تفسيره. الباب الثانى علم نزول القرآن الكريم 153 مبحث فى: وقت نزول القرآن الكريم، ومدته، وكيفيته، وحكمة تنجيمه 153 مبحث فى: كيفية إنزال القرآن الكريم 155 مبحث فى: حكمة تنجيم القرآن الكريم 156 الباب الثالث علم أسباب النزول 163 مبحث فى: التعريف بعلم أسباب النزول، وفوائد معرفته 163 مبحث فى: طرق معرفة أسباب النزول، ومصادره، وصيغه 166 مبحث فى: تعارض الروايات فى سبب النزول 166

الموضوع الصفحة الباب الرابع علم معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل 175 عرض الروايات الدالة على أول ما نزل 176 مبحث فى: ما نزل من القرآن أولا 180 مبحث فى: آخر ما نزل من القرآن الكريم 182 الباب الخامس علم معرفة المكى والمدنى 191 مبحث فى: فائدة معرفة المكى والمدنى 192 مبحث فى: طريقة معرفة المكى والمدنى 193 أولا: الفرق بين المكى والمدنى 195 ثانيا: ضوابط ومميزات المكى والمدنى 196 مبحث فى: حصر المكى والمدنى وكلها (مائة وأربع عشرة سورة) 198 الباب السادس علم الناسخ والمنسوخ 205 تمهيد: تعريف النسخ 205 مبحث: فيما يقع فيه النسخ، وأهميته، وطرق معرفته 207 أهمية النسخ 207 طرق النسخ 207 مبحث فى: أقسام النسخ 208 مبحث فى: أوجه النسخ فى القرآن الكريم، والحكمة من وقوعه، والتعرف على بعض المصطلحات 209 مطلب فى: الحكمة من وقوع النسخ 211

الموضوع الصفحة مطلب فى: التفريق بين بعض المصطلحات 212 مبحث فى: قضية النسخ بين الإغراق والغلو 216 مبحث فى: النسخ إلى بدل وإلى غير بدل 221 الباب السابع علم القراءات 225 مبحث فى: أنواع القراءات 225 مطلب فى: حكم هذه القراءات وضوابطها 230 مبحث فى: أهم ضوابط القراءة الصحيحة 230 مطلب فى: أهم الكتب المؤلفة فى علم القراءات 232 الخاتمة والنتائج 235 المصادر والمراجع 239 فهرس الموضوعات 243

§1/1